الكتاب: التفسير القرآني للقرآن المؤلف: عبد الكريم يونس الخطيب (المتوفى: بعد 1390هـ) الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير] ---------- التفسير القرآني للقرآن عبد الكريم يونس الخطيب الكتاب: التفسير القرآني للقرآن المؤلف: عبد الكريم يونس الخطيب (المتوفى: بعد 1390هـ) الناشر: دار الفكر العربي - القاهرة   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير] [الجزء الاول] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تقديم الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ بسم الله نستفتح خزائن علمه، ونطرق أبواب حكمته، وبحمد الله نستقبل مواطر فضله، ونرجو المزيد من غيوث رحمته.. وبالصلاة والسلام على رسول الله نتزود بخير زاد، فى صحبتنا لكتاب الله، الذي نزل به الروح الأمين على قلبه، هدى ورحمة للعالمين! فسبحانك اللهمّ وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدّك، والصلاة والسلام على النبي الأمى، الذي بعثته فى الأميين رسولا يتلو عليهم آياتك ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، فحمل الأمانة، وأدى الرسالة، وجاهد فى الله حقّ جهاده، حتى أجلى غواشى الشرك من القلوب، وقشع ضلالات الجهل عن العقول، وغزا بالقرآن أمة ركبها الضلال، واستبد بها العمى، فصابها بصوب حكمته، وأدبها بأدب نبوته، وصاغها صياغة جديدة، فإذا هى أمة غير الأمة، وناس غير الناس، حتى لقد استأهلت أن تلبس هذا الوصف الكريم الذي وصفها الله به فى كتابه الكريم إذ قال سبحانه: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» ! فالأمة الإسلامية هى أمة القرآن، إليه يردّ أصلها، وبه يعرف نسبها، ومنه نسجت وتنسج ما لبست وتلبس من حلل العزة والكرامة والسيادة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 ولن يمسك عليها وجودها فى هذا المقام الكريم إلا رعايتها للقرآن، وتمسكها به، واجتماعها عليه،. ويوم تفتر عزيمتها عن المضي معه، أو تسترخى يدها عن الشدّ عليه والتعلق به، يوم يكون- ولا كان- ردّتها إلى الجاهلية، وركسها فى الضلال، ورعيها فى الهمل مع السائمة والهائمة، من حواشى الأمم، ونفايات الشعوب! وتاريخ المسلمين مع القرآن الكريم يشهد لذلك شهادة قائمة على هذا الحساب، مقدرة بهذا التقدير، جارية معه.. طردا وعكسا!! فإنه على قدر ما كان يقترب المسلمون من كتابهم الكريم، وبقدر ما كانوا يرعون حقّه، ويؤدون أمانته- كان نصيبهم من الخير، وكان حظهم من السلامة فى أنفسهم، وأموالهم، وأوطانهم! والعكس صحيح.. فإنه على قدر ما كان يبعد المسلمون عن كتابهم، وبقدر ما يفرّطون فى حقه، ويستخفوّن بشأنه- بقدر ما كان بعدهم عن الخير، وكان دنوّهم من الخطر، وتعرّضهم لآفات التفكك والانحلال! وليس هذا شأن المسلمين وحدهم.. بل هو شأن كل من يدعى إلى الخير فيلقاه معرضا، أو يصحبه على دخل وجفاء! وفى واقع الحياة، وعلى مسرح أحداثها كثير من المثلات والعبر! بنو إسرائيل مثلا.. أطعمهم الله خير طعام، تشتهيه النفس، وتطيب معه الحياة، فأنزل عليهم المنّ والسّلوى.. مائدة من السماء.. يجدونها حيث يشاءون، حاضرة عتيدة بين أيديهم، لا يتكلفون لها جهدا، ولا يبذلون من أجلها دانقا أو درهما!! ومع هذا، فقد عافت نفوسهم هذا الطعام السماوي.. الطيب الكريم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 المحفوف بالرحمات والبركات، وأبت عليهم نفوسهم اللئيمة الخبيئة إلا أن تضع فمها فى التراب، وأن ترعى مع الأنعام، وتأكل مما يأكل الحيوان..! وقد كشف القرآن عن هذا الموقف اللئيم، الذي وقفوه إزاء هذه النعمة الكريمة، فقال تعالى: «وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ. وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ... » (61: البقرة) . فهذه مائدة كانت ممدودة لهم من السماء، وكان جديرا بالقوم أن يعيشوا فيها، وأن يهنئوا بها.. ولو أنهم فعلوا ما زايلهم هذا الخير أبدا، ولعاشت فيه أجيالهم جيلا بعد جيل، يطعمون من هذا الطعام الطيب الكريم، الذي تصفو عليه النفوس، وتنتعش الأرواح، كما تصح عليه الأبدان!! ومن يدرى؟ فلعله لو ذهب بنو إسرائيل بهذه التجربة إلى غايتها، لتغير وجه الحياة الإنسانية بهم، ولظهرت فى الحياة سلالات بشرية لا تحمل معدة الحيوان، ولا بهيمية البهائم.. ولكن الله بالغ أمره! «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً» (3: الطلاق) . فبدّل الله نعمة القوم نقمة، وضربهم بالذّلة والمسكنة، فما استقام لهم بعدها وجه فى الحياة، ولا كان لهم فيها من زاد إلا السحت الخبيث من الطعام، يختلسونه اختلاسا، مما يأكل الناس والأنعام! «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ. وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ» (175- 176: الأعراف) . ونحن- المسلمين- ماذا كان منا اليوم فى شأن هذا الكتاب الكريم الذي بين أيدينا؟ لقد أنزله الله علينا مائدة من السماء، حافلة بالطيبات من الرزق، محملة بالكريم الغدق من النعم! فذالكم هو «القرآن الكريم» الذي وصفه الله سبحانه وتعالى بقوله: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» (82: الإسراء) .. والذي يقول فيه النبىّ صلوات الله وسلامه عليه: «القرآن مأدبة الله، فتعلموا من مأدبته» . ففى مأدبة الله هذه.. الشفاء والرحمة.. وإن المائدة التي أعدّها الله للمسلمين، ووضعها بين أيديهم ليست على شاكلة تلك المائدة التي أنزلها على بنى إسرائيل طعاما يغذّى الأجسام، ويشبع البطون. إن المائدة الممدودة للمسلمين، مائدة يتغذى منها العقل والروح، فتتخلق منها ملكات علوية، ووجدانات ربانية. بها يسمو الإنسان ويعلو، وبها ينتصر على هذا الضعف الإنسانى، وينتصر على تلك النزعات الحيوانية، المندسّة فى كيانه. ولهذا يقول الرسول الكريم عن تلك المأدبة: «فتعلموا من مأدبته» ولم يقل: «فكلوا من مأدبته» .. ذلك أن القرآن مأدبة علم وحكمة وخلق، وليس مأدبة معدة، ولا طعام بطون!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وانظر كيف رفع الله قدر هذه الأمة، وأعلى شأنها، وكيف جعل غذاءها السماوىّ الذي أنزله عليها غذاء يتصل بالروح، ولم يجعله فيما يقدم إلى البطن والمعدة، وفى ذلك ما فيه من كرامة وتكريم لهذه الأمة، التي تتلو القرآن وتدين بالإسلام، وتتعبد بقول الحق جل وعلا فى شأنها: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» (111: آل عمران) . فمن شأن القرآن أن يقيم المتصلين به على طريق الحق، فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله! إن الذي يستقيم على دعوة القرآن، لهو إنسان سليم فى كيانه، معافى فى نفسه، ثم هو مع ذلك قادر على أن يحمل الهدى إلى غيره، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويكون خليفة الله فى الأرض، وخليفة الرسول فى الدعوة إلى الله، وهداية الناس إليه. ولكن صحبة المسلمين للقرآن لم تكن قائمة على العدل والإحسان فى جميع الأحوال.. فكثيرا ما أساء المسلمون تلك الصحبة، وأوسعوها جفاء وعقوقا، حيث يعيش القرآن فيهم غريبا.. لا يقفون عنده، ولا يلتفتون إليه، ولا يتدبرون آياته، ولا يتلقون بعض ما فيه من خير وهدى! والجفوة التي بين المسلمين وبين القرآن الكريم جفوة غليظة مستحكمة، قد تداعت عليها دواع كثيرة، أحكمت بنيانها، وثبتت دعائمها، فلم يعد بين المسلمين وبين القرآن طريق يصلهم به إلا تلك الطرق الدارسة الطامسة، التي تتصاعد منها أتربة وأدخنة، تعمّى على الناظر منهم فى كتاب الله، وجوه الحق والخير التي فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وإن كل حظ المسلمين اليوم من القرآن هو حظهم من مخلّفات الآباء والأجداد، مما تضمه المتاحف ودور الآثار، يزورونها لماما، ويطرقونها حينا بعد حين.. قد تثير فيهم تلك الزّورة نشوة عارضة، أو تبعث فيهم عزّة كاذبة، ينفضونها عن نفوسهم قبل أن يجاوزوا المزارة، كما ينفضون ما قد يكون علق على ثيابهم من التراب، وهم يجوسون خلال الديار! فنحن نلمّ بالقرآن إلماما، ونلقاه حينا بعد حين، وقد نذكر به فى تلك اللقاءات، وهذه الإلمامات، ما نذكر من مواعظ وعظات، ثم لا نلبث حتى ننخلع عن هذه المشاعر قبل أن نضع المصحف من أيدينا، لنلقى الحياة ونختلط بها، كما نحن، على الوجه الذي كنا نصحبها به، ونعيش معها عليه! فما يحدّث به القرآن شىء، وحياتنا التي نحياها ونتقلب فيها شىء آخر، بعيد كل البعد عن القرآن، وما يحدثنا به القرآن! إن المسلم- منا- يعيش فى هذه الحياة بشخصية «مزدوجة» ويلقاها بنفس منقسمة على نفسها، ولهذا كان مسيره فيها مضطربا مختلجا، تتماوج أبعاضه بين مشرق ومغرب، وشمال وجنوب، فهو يتحرك فى مكانه، حركة متماوجة مضطربة، فلا يتقدم خطوة إلى الأمام، على كثرة هذا الضرب المضطرب فى الأرض! والسبب فى هذا يرجع- فى تقديرنا- إلى «تميّع» العقيدة الدينية فى نفس المسلم، وإلى اختلاط كثير من مسائلها فى تفكيره، وعدم وضوح المعالم والحدود لكثير من أمور الدين عنده! وذلك- فى تقديرنا أيضا- يرجع إلى أمور كثيرة.. منها: أولا: هذه الخلافات السياسية والمذهبية التي وقعت بين المسلمين منذ أعقاب الخلافة الراشدة، فانعكست آثار هذه الخلافات السياسية والمذهبية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 على المسائل الدينية، فجاءت تلك المسائل على وجوه كثيرة متناقضة متضاربة، يلطم بعضها وجه بعض، بحجج تسندها آية من كتاب الله، متأولة على غير وجهها، أو حديث ضعيف، أو أثر مكذوب.. فتجد كل هذه الأقوال منطقا يقيمها، أو ذكاء يدارى عوارها، بما دخل المسلمين من مذاهب الجدل والسفسطة، منذ قيام الدولة العباسية، واتصال العرب والمسلمين بالثقافات والديانات الأخرى، التي كانت تصبّ روافدها المتدفقة فى كيان الأمة العربية، وفى محيط العقل الإسلامى. وكان من هذا أن تشعبت مسائل الدين بين الطوائف المختلفة، اختلافا دينيا سياسيا، والتي انقسمت كل طائفة منها على نفسها، فكانت فرقا تبلغ المئات عدا.. وقد ذهبت كل فرقة فى الدين مذهبا، وأقامت لمذهبها حجته من كتاب الله، وسنة رسول الله.. وهذا هو أفدح ما فى الأمر، وأشنع ما فى هذا الخلاف! فالمسألة الواحدة من مسائل الدين، تأخذ دورة طويلة لا تكاد تنتهى أبدا، فلا يكاد المسلم يمسك منها بطرف حتى تجره جرا إلى مسائل كثيرة، تتولد منها وتتفرع، وتبيض وتفرخ، وإذا هو أمام عشرات من الصور «المهزوزة» للأمر الواحد، والمسألة الواحدة.. تتراقص فى محيط تفكيره، كما يتراقص الشبح فى ضوء مصباح، عبثت بذبالته الريح.. فى يوم عاصف! وهذا ما نجده فى كل أمر من أمر ديننا نرجع فيه إلى الفقه الإسلامى، الذي صادف تدوينه، تلك الفترة التي تمزقت فيها الوحدة الإسلامية، وتمزق معها العقل الإسلامى! وثانيا: التعويل على هذا الفقه تعويلا كاملا، وربط المسلمين به ربطا محكما، حتى لقد أصبح عند كثير من علماء المسلمين، وفقهائهم- على امتداد العصور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 التي تلت هذا العصر- أصبح دستور الشريعة الإسلامية، وترجمان كتابها الكريم.. وكان من هذا أن أصبح تعلّق أكثر العلماء والفقهاء بهذا الفقه أكثر من تعلقهم بكتاب الله نفسه.. فهم يرجعون فى كل أمر يعرض لهم إلى مقولات المذهب أو المذاهب الفقهية، فى هذا الأمر أو ذاك، وفى كل داعية من دواعى الحياة، يراد للدين أن يزنها بميزانه، ويقيسها بأحكامه! وطبيعى أنه إذا جاء رأى دينى من محصّل هذا النظر القائم على مقولات المذاهب الفقهية المتضاربة المتخالفة- جاء مذعورا قلقا، يموج فى أخلاط من الآراء المتناقضة، والأقوال المتخالفة، لا يكاد المرء يعرف منها وجها من ظهر. من أجل هذا «تميّعت» مسائل الدين، وغامت فى أنظار المسلمين، فهم إنما يطوفون بها فى إجلال وتقديس، أشبه بإجلال المجهول وتقديسه، لا يقوم فى النفس مقاما ثابتا مطمئنا أبدا، بل سرعان ما يذهب ذلك الشبح الباهت إذا طلع عليه بصيص من نور، أو لمعة من سراب! والقرآن- من غير شك أو جدال- هو مصدر الشريعة الإسلامية، وهو دستورها القائم أبد الدهر.. وقد استغنى به المسلمون فى الصدر الأول للإسلام، فأغناهم عن كل شىء.. لا يمدون أبصارهم إلى غيره، ولا يأخذون لدينهم ودنياهم إلا بما توحى به إليهم كلماته، وتومىء به إليهم آياته! وطبيعى أن هذا الذي نقوله عن كتاب الله، نقوله كذلك فيما ثبت من سنة رسول الله، القولية والفعلية، إذ كانت السنة المطهرة تطبيقا شارحا لكتاب الله، وفى هذا يقول الله تعالى: «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» (7: الحشر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 ولا يستقيم هذا القول، الذي نقوله فى القرآن- بأنه مصدر التشريع الإسلامى- إلّا بفهم سليم صحيح لكتاب الله، ولا يكون هذا الفهم السليم الصحيح إلا عن طول تأمل وتدبر لكتاب الله، وتذوق لأساليب بيانه، ووقوف على بعض أسراره. وبهذا الفهم لكتاب الله، يتحقق لنا أمران: أولهما: اتصالنا بكتاب الله اتصالا وثيقا، قائما على معرفة به، وتذوق لجنى طعومه الطيبة، وهذا مما يجعل لتلاوتنا للقرآن، أو استماعنا لتلاوته أثرا فى نفوسنا، ووقعا على قلوبنا، وتجاوبا مع آدابه، واستجابة لنداءته.. فيما يدعو إليه، من أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر! وثانيهما: تصور مسائل الدين تصورا واضحا محددا، بلا ذيول، ولا معلقات.. وبهذا يعرف المسلم الحكم قاطعا، فيما أحل الله، وفيما حرم، فيكون على بينة من أمره، فيما يأخذ أو يدع من أمر دينه! ومن أجل هذا كانت صحبتنا هذه لكتاب الله، على هذا الوجه، الذي لا ننظر فيه إلى غير كتاب الله، وإلى تدبر آياته، بعيدا عن طنين المقولات الكثيرة التي جاءت إلى القرآن من كل صوب، وكادت تخفت صوته، وتغيم على الأضواء السماوية المنبعثة منه! إننا فى صحبتنا هذه للقرآن، لا نقيم نظرنا على غير كلماته وآياته، ولا نخط على هذه الصفحات غير ما يسمح لنا به النظر فى كلماته وآياته. إننا لا نفسر القرآن بالمعنى المعروف للتفسير، فى هذه الصحبة التي نصحب فيها كتاب الله.. وإنما نحن نرتل آيات الله ترتيلا.. آية آية، أو آيات آيات.. ثم نقف لحظات نلتقط فيها أنفاسنا المبهورة، لما تطالعنا به الآية أو الآيات، من عجب ودهش وروعة، ثم نمسك القلم، لنمسك به على الورق بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 ما وقع فى مشاعرنا من صور العجب والدهش والروعة.. وإنها لصور باهتة بالنسبة للواقع الذي حملته تلك المشاعر.. فما أبعد الفرق بين الشعور المشتمل علينا ونحن بين يدى كلمات الله، وبين الكلمة التي تنقل هذا الشعور!! ولكنها- على أي حال- معلم من معالم الطريق إلى كتاب الله، يمكن أن يجد فيه السالك نورا، ويزداد به المهتدى هدى.. «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ» «وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .. وسلام على المرسلين، والحمد لله ربّ العالمين. المؤلف القاهرة فى الثاني والعشرين من ذى القعدة 1386 هـ فى الثالث من مارس 1967 م الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 دراسات حول القرآن أولا: المكىّ والمدنيّ المكىّ من القرآن ما نزل بمكة، والمدنىّ ما نزل بالمدينة. وعدد سور القرآن مائة وأربع عشرة سورة باتفاق. السّور المكية. 1) اقرأ باسم ربك 2) ن 3) المزمل 4) المدثر 5) المسد 6) التكوير 7) الأعلى 8) الليل 9) الفجر 10) الضحى 11) الشرح 12) العصر 13) العاديات 14) الكوثر 15) التكاثر 16) الماعون 17) الكافرون 18) الفيل 19) الفلق 20) الناس 21) الإخلاص 22) النجم 23) عبس 24) القدر 25) الشمس 26) البروج 27) التين 28) قريش 29) القارعة 30) القيامة 31) الهمزة 32) المرسلات 33) ق 34) البلد 35) الطارق 36) القمر 37) ص 38) الأعراف 39) الجن 40) يس 41) الفرقان 42) المعارج 43) مريم 44) طه 45) الواقعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 46) الشعراء 47) النمل 48) القصص 49) الإسراء 50) يونس 51) هود 52) يوسف 53) الحجر 54) الأنعام 55) الصافات 56) لقمان 57) سبأ 58) الزمر 59) المؤمن 60) حم (السجدة) 61) حم عسق 62) الزخرف 63) الدخان 64) الجاثية 65) الأحقاف 66) الذاريات 67) الغاشية 68) الكهف 69) النحل 70) نوح 71) إبراهيم 72) الأنبياء 73) المؤمنون 74) آلم: السجدة 75) الطور 76) الملك 77) الحاقة 78) المعارج 79) النبأ 80) النازعات 81) الانفطار 82) الانشقاق 83) الروم 84) العنكبوت 85) المطففون السور المدنية: 86) البقرة (أول ما نزل بالمدينة) 87) الأنفال 88) آل عمران 89) الأحزاب 90) الممتحنة 91) النساء 92) الزلزلة 93) الحديد 94) محمد صلى الله عليه وسلم 95) الرعد 96) الرحمن 97) الإنسان 98) الطلاق 99) البينة 100) الحشر 101) النصر 102) النور 103) الحج 104) المنافقون 105) المجادلة 106) الحجرات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 107) التحريم 108) الجمعة 109) التغابن 110) الصف 111) الفتح 112) التوبة 113) المائدة 114) فاتحة الكتاب.. اختلف فى نزولها بمكة أو بالمدينة. وقيل إنها نزلت مرتين- مرة بمكة ومرة بالمدينة. ثانيا: عدد آياته، وكلماته، وحروفه وكان من اهتمام المسلمين بالقرآن، وحرصهم عليه أن أحصوه آية آية، وكلمة كلمة، وحرفا حرفا.. ونسجل هنا هذا الجهد المشكور لعلماء القرآن رضى الله عنهم. عدد آيات القرآن: اختلف الدارسون للقرآن فى إحصاء آياته.. فقال بعضهم: هى ستة آلاف آية. وقال آخرون: ستة آلاف آية ومئتان وأربع آيات. وقيل: سنة آلاف ومئتان وأربع عشرة آية. وقيل: ستة آلاف ومئتان وتسع عشرة آية. وقيل ستة آلاف ومئتان وخمس وعشرون أو ست وعشرون أو ست وثلاثون.. عدد كلماته: أجمع العلماء على أن عدد كلمات القرآن سبع وسبعون ألفا وأربع مئة وسبع وثلاثون كلمة. عدد حروفه: وأما عدد حروفه فهى ثلاثمئة وواحد وعشرون ألف حرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وقيل إن الحجاج بن يوسف جمع القراء والحفاظ والكتّاب، فقال لهم: أخبرونى عن القرآن كله، كم من حرف هو؟ فأجمعوا على أنه ثلاثمئة وأربعون ألفا وسبع مئة وأربعون حرفا. قال: فأخبرونى عن نصفه.. قالوا: عند الفاء من قوله تعالى فى سورة الكهف: «وَلْيَتَلَطَّفْ» (19: الكهف) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 1- فاتحة الكتاب نزولها: مكية، وقيل إنها نزلت بمكة، ثم نزلت مرة أخرى بالمدينة. ولا وجه لهذا القول. عدد آياتها: سبع. عدد كلماتها: خمس وعشرون كلمة. عدد حروفها: مائة وثلاث وعشرون حرفا. من أسمائها: سميت بأسماء كثيرة، جاوزت المائة، وذلك حسب ما يقع فى الخاطر منها. ومن أسمائها: الفاتحة، وفاتحة الكتاب، والحمد، وسورة الحمد، والشافية، والشفاء، وأم القرآن، وأم الكتاب: والسبع المثاني (لأنها تثنى- أي تكرر- فى كل صلاة) . آية: (1) [سورة الفاتحة (1) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) التفسير: باسم الألوهية يقوم الوجود، وإليه يركن كل موجود.. فكل عوالم الكون مألوهة لله، خاضعة لمشيئته، محفوفة برحمته. ووصف الألوهية بهاتين الصفتين: «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» يدل على أن هذا الوجود إنما هو فيض من رحمانية الله ورحمته. إذ الوجود- على أية صورة من صوره- نعمة وخير، إذا هو قيس بالعدم، الذي هو فناء مطلق، وتيه وضياع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 آية: (2) [سورة الفاتحة (1) : آية 2] الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) التفسير: بهذا الحمد لله تنطق المخلوقات كلها، فهو سبحانه الذي أوجدها من العدم وأعطاها خلقها بين المخلوقات، وقام عليها مدبرا، وحافظا، «الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» (50: طه) ، فحق عليها أن تحمده، وتشكر له، وقد لزمها هذا الحق الذي لا انفكاك لها منه، إن لم تؤده اختيارا أدته اضطرارا، وإن لم يفصح عنه ظاهرها نمّ عليه باطنها: «تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» (44: الإسراء) آية: (3) [سورة الفاتحة (1) : آية 3] الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) التفسير: استفاضة رحمانية الله، وشمول رحمته، يجدها كل موجود فى نفسه، وفيما حوله، ولهذا كان حمد الله واقعا بين هاتين الصفتين، كأنه تعقيب عليهما أولا، وكأنهما تعليل له ثانيا. آية: (4) [سورة الفاتحة (1) : آية 4] مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) التفسير: يوم الدين: هو يوم الدينونة، أي الحساب والجزاء، وهو يوم القيامة: «وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ. ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ» (17- 18- 19: الانفطار) . ومجىء «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» معطوفا عطف بيان على «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» للإشعار بأن هذه الملكية ملكية رحمانية ورحمة، تضع موازين القسط للفصل بين الناس، حيث يثاب المحسنون، ويعاقب المسيئون، وهو عقاب فيه رحمة لهم، حيث يطهرهم من أدران الآثام التي علقت بهم، ليكونوا أهلا لمساكنة الملأ الأعلى. آية: (5) [سورة الفاتحة (1) : آية 5] إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) التفسير: من مقتضى حمد لله الذي استوجبه على عباده بربوبيته، ورحمته، أن يفرد بالعبودية، وأن يختص بالعبادة، فلا متوجّه إلا إليه، ولا لجوء إلا له، ولا معول إلا عليه. «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ، فَادْعُوهُمْ، فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (194: الأعراف) . آية: (6) [سورة الفاتحة (1) : آية 6] اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) . التفسير: الصّراط المستقيم: هو الطريق القائم على الحق والعدل، الموصّل إلى الخير والفلاح، لا يضل سالكه، ولا تتعثر له قدم فيه. آية: (7) [سورة الفاتحة (1) : آية 7] صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 التفسير: هذا بيان للصراط المستقيم ولأهله، الذين أنعم الله عليهم، فهداهم إليه، وأقامهم عليه، ثم بيان آخر للصراط المستقيم، وهو صراط لا يسلكه للمغضوب عليهم، الذين مكروا بآيات الله، وكفروا بنعمه، فضربهم بغضبه، وصبّ عليهم لعنته، وهو صراط لا يستقيم عليه من اتبع هواه، وعمى عن الحق الذي بين يديه! والمغضوب عليهم هم اليهود، وقد صرّح القرآن فى غير موضع وفى أكثر من آية، بأنهم مغضوب عليهم من الله، فقال تعالى: «قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ» (60: المائدة) وليس وصف اليهود بالمغضوب عليهم مانعا من إطلاق الوصف على كل من غضب الله عليه، فحاد عن الطريق المستقيم، وكذلك الشأن فى «الضالين» باعتباره وصفا لكل من ضل طريق الحق والهدى. وفى دعاء المؤمنين بأن يهديهم الله الصراط المستقيم، ويجنبهم صراط المغضوب عليهم، والضالين عن الطريق القويم- فى هذا الدعاء غاية فى تحرّى الطريق إلى الله، والتماسه مستقيما خالص الاستقامة، بعيدا عن مزالق المفتونين فى دينهم، والمنحرفين عن سواء السبيل. و «آمين» دعاء تختم به السورة، وهو اسم فعل أمر، بمعنى استجب يا الله ما دعوناك به. وهذا اللفظ ليس من القرآن.. وهذا، وتلك السورة الكريمة، فوق أنها قرآن كريم، هى مفتتح هذا القرآن، وهى أم الكتاب الكريم، لاشتمالها على أصول الشريعة الإسلامية، من توحيد، وعبادات، وآداب، ومعاملات.. ولهذا كانت ملاك الصلاة، التي هى بدورها ملاك الإسلام كله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 إذ لا صلاة لمن لا يصلى بها، ومن أجل هذا سميت آياتها السبع، السبع المثاني، إذ يثنّى بها فى كل صلاة، أي تقرأ مثنى فى الصلاة ذات الركعتين، ومثنى مثنى فى الصلاة ذات الأربع ركعات! واستمع إلى هذا الدعاء أو الصّلاة. «أبانا الذي فى السماوات.. ليتقدّس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما فى السّماء كذلك على الأرض.. خبزنا كفافنا أعطنا اليوم، واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا.. ولا تدخلنا فى تجربة.. لكن نجّنا من الشّرّير.. لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد.. آمين» أتدرى ما هذا الكلام؟ إنّه الصّلاة التي كان يصلّى بها السيّد المسيح، والتي علّم أتباعه أن يصلوا بها.. إذ يقول لهم: «وحينما تصلّون لا تكرروا الكلام باطلا كالأمم، فإنهم يظنون أنهم بكثرة كلامهم يستجاب لهم.. فلا تتشبهوا بهم.. لأن أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه.. فصلّوا أنتم هكذا» «1» . ثم يذكر لهم هذه الصلاة على النحو السابق.. وأنت ترى ما بين هذه الصلاة التي كان يصلى بها السيد المسيح، ويعلمها أتباعه، وبين فاتحة الكتاب التي هى قرآن المسلمين فى صلاتهم- أنت ترى ما بين هذه وتلك من تشابه كبير فى الروح التي تستولى على الإنسان وهو   (1) إنجيل متى: الإصحاح السادس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 يتلوها، خاشعا متعبدا.. أليس ذلك دليلا على أنهما من معدن واحد، وأن متنزلهما السماء، وحيا من رب العالمين؟ ثم أليس ذلك دليلا على ما بين الديانات السماوية من صلات وثيقة قائمة على الحق العدل؟ بلى! وإنه لو سلمت الكتب السماوية السابقة من التحريف، لالتقت مع القرآن فى كل ما جاء به، ولكن التحريف والتعديل باعد بين تلك الكتب وبين القرآن فى أصول الدعوة وفروعها على السواء.! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 2- سورة البقرة نزولها: نزلت بالمدينة، وهى أول سورة نزلت بعد هجرة النبىّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. عدد آياتها: مائتان وست وثمانون آية. عدد كلماتها: ستة آلاف ومائة وإحدى وعشرون كلمة. عدد حروفها: خمسة وعشرون ألفا وخمسمائة حرف. آية: (1) [سورة البقرة (2) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) التفسير: فى القرآن الكريم تسع وعشرون سورة، بدأت بحرف أو أكثر من حروف الهجاء، وكل حرف ينطق به نطقا مستقلا مرتلا، هكذا: ألف.. لام.. ميم.. أو: طا، ها، أو: ياسين. وعلى هذا النحو تنطق جميع الحروف التي جاءت مفتتحا لسور القرآن. وقد شغلت هذه الحروف علماء التفسير، فأطالوا النظر فيها، وأكثروا القول فى تأويلها وتفسيرها، حتى لقد تجاوزت وجوه الرأى فيها أربعين وجها! والمفهوم الذي نستريح إليه لهذه الأحرف، أنها مجرد حروف هجاء، مما بنيت منه كلمات القرآن الكريم، وآياته، وسوره، وأنها حين يبدأ بها فى التلاوة هكذا.. حرفا حرفا، آخذا كل حرف نغما مستقلا على لسان القارئ- ترسم لمرتل القرآن أسلوبا خاصّا فى التلاوة، فيقرأ الكلمات قراءة مستأنية، يأخذ فيها كل حرف مكانه على لسان القارئ، كما أخذت حروف هذه المفتتحات وضعها المستقل على لسانه! فى أناة وتقطيع.. حرفا حرفا! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وبهذا يتحقق الأداء السليم لتلاوة القرآن، كما يقول الله تعالى: «وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا» (4: المزمل) . إن العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، هم قوم أميون، تلقّوا لغتهم سماعا، وحفظوا كلماتها وأساليبها، أصواتا تحمل من المعاني ما تحمل أنغام الموسيقى إلى أربابها! فالعربى كان يعرف الكلمة جملة، كما كان يعرف مدلولها الذي تدل عليه جملة أيضا، بل إنه يعرف مدلول الكلمة أكثر مما يعرف الكلمة ذاتها، فإذا نطق بكلمة «سيف» أو «درع» أو «جمل» أو «ليلى» أو نحو هذا، ارتسم فى الحال لعينيه مدلول الاسم الذي نطق به، دون أن يلتفت كثيرا إلى الصوت الذي انطلق من فمه! وإذ كان حساب الكلمات عند العرب الجاهليين على هذا النحو، الذي تبدو فيه الكلمات وكأنها مجرد أصوات! وإذ كان ذلك كذلك، وإذ كان القرآن الكريم كلاما معجزا، فإن وجه الإعجاز لا ينكشف فى كلماته وآياته إلا إذا تحقق للكلمة وجود ذاتى، وعرف لها ناطقها وسامعها أنها كائن له مشخصاته، التي تحقّق له وجودا مستقلا عن غيره، مباينا له، كما يستقل الإنسان عن الإنسان بذاته ومشخصاته. وعلى هذا التقدير، تحدث القرآن الكريم إلى هؤلاء الأميّين بما يكشف لهم عن شخصية الكلمة، وأنها بناء يقوم على أسس، ويبنى على أصول، وأن لبنات هذا البناء هى حروف: ألف، لام، ميم، نون، قاف.. وهكذا. وبهذا النظر إلى الكلمات، ينطق العربىّ بكلمات القرآن الكريم متأنيا، متأملا، حتى لكأن الحرف كلمة! وبهذا يتصل قارئ القرآن بكلمات القرآن اتصالا وثيقا، يخلص إليه منه كثير من أضوائه ونفحاته، وذلك هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 بعض الحكمة من ترتيل القرآن، وقراءته على هذا الوجه الذي ينفرد به عن قراءة أي كلام، حيث يقول الله تعالى: «وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا» (4: المزمل) ويقول سبحانه: «وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا» ! (106: الإسراء) وقد امتثل النبي الكريم- صلوات الله وسلامه عليه- أمر ربّه، فكانت قراءته ترتيلا منغما، يأخذ فيه كل حرف مكانه فى الكلمة، وتأخذ كل كلمة مكانها فى الآية، دون أن يختفى حرف، أو تضيع كلمة. روى البخاري عن أنس، أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «كانت مدّا» ثم قرأ- أي أنس- «بسم الله الرحمن الرحيم» يمدّ الله، ويمدّ الرحمن، ويمد الرحيم» أي أنه يمثّل بهذا الأسلوب القراءة التي كان يقرأ بها النبي الكريم. وعلى هذا، فإن مجىء هذه الأحرف المقطعة فى بعض سور القرآن، وفى مفتتح السور التي جاءت فيها- إن هذا أشبه «بالوحدة» التي يقوم عليها اللحن الموسيقى، والتي يسرى صداها فى اللحن كله، من أوله إلى آخره، وإن تعددت أنغامه، وخفتت أو علت أصداؤه.! فليس من الضروري إذن أن يجتهد فى البحث عن معنى لهذه الأحرف المقطعة، ولنا أن نحسبها مطلعا موسقيا، تقوم عليه وحدة النغم فى ترتيل آيات السور التي بدئت بحرف أو حرفين أو أكثر. آية (2) [سورة البقرة (2) : آية 2] ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) التفسير: «الكتاب» هو القرآن، وتسمية القرآن كتابا إشارة إلى أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 من شأن هذا الكلام أن يكتب ويوثّق، حتى يحفظ من التبديل والتحريف، وهذا ما فعله الرسول الكريم، فى كل ما تلقاه وحيا من القرآن، إذ كان صلوات الله وسلامه عليه لا يكاد يفرغ من تلقّى ما أوحى إليه من ربّه، حتى يمليه على جماعة عرفوا بأنهم كتاب الوحى. وأول ما أوحى إلى الرسول من كلمات الله قوله تعالى: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» «1» . وانظر إلى تلك المفارقات العجيبة البعيدة بين إنسان أمّى، لا يقرأ ولا يكتب، يصطفيه الله للنبوة، ويختاره لرسالة دستورها القرآن الكريم، الذي يتلقاه وحيا من السماء على مدى نيف وعشرين سنة.. ثم تكون «اقْرَأْ» أول كلمة تفتتح بها هذه الرسالة.. ثم تتبع بكلمتي «عَلَّمَ بِالْقَلَمِ» . وفى هذا ما يؤذن النبىّ بمحتوى جديد من محتويات رسالته، وهو الدعوة إلى القلم والقراءة والكتابة، فذلك من النعم التي أنعم الله بها على عباده، إذ سرعان ما أقبل العرب الأميون على القراءة والكتابة، على أنها دعوة من دعوة الدين، ولفتة من لفتات الشريعة، فتعلّموا وعلموا ما لم يكونوا يعلمون. (الآيات: (3- 4- 5) [سورة البقرة (2) : الآيات 3 الى 5] الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)   (1) الآيات الأولى من سورة العلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 التفسير: تلك هى صفات المتقين. يؤمنون بالغيب.. والغيب ما خرج عن متناول الحواس، وإدراك العقل. والإيمان بما يجىء من عالم الغيب، لا معتبر له إلا إذا كان مستنده إلى جهة لا يتطرق الكذب إليها، وإلا كان التصديق بما يخبر به العرافون والكهنة وغيرهم ممن يدّعون علم الغيب. إيمانا، وهو ليس من الإيمان فى شىء، وإنما المراد بالإيمان هنا ما يخبر به رسل الله وأنبياؤه أقوامهم، من أمر البعث، والحساب، والجنة، والنار، ونحو هذا، مما هو من أنباء الغيب، التي لا تقع لعلم الناس، ولا تستجيب لمدركاتهم. فأول صفة من صفات المتقين، هى الإيمان بتلك الغيبيات، على الصورة التي يخبر بها الرسل، حيث تلقّوا الأخبار عن تلك الغيبيات، وحيا من الله، وهم الأمناء على ما أوحى إليهم من ربّهم. فلا إيمان لمن لا يؤمن بالله، ولا إيمان بالله لمن لا يؤمن برسل الله، ولا إيمان برسل الله لمن لا يؤمن بما يحمل رسل الله من رسالات، وما يبلغون من أوامر ونواه، وما يلقون من أخبار. وملاك التقوى هو الإيمان، فلا تقوى لمن لا إيمان له، فإذا جاء الإيمان على تلك الصورة، كان داعية لأن يقيم الإنسان على طريق التقوى، وأن يؤهّله لتلك الصفات التي وصف الله سبحانه بها المتقين: الذين يقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله، ويؤمنون بما نزل على محمد، إيمانا مفصلا، وبما أنزل على الرسل من قبله، إيمانا مجملا، ثم ينتهى بهم ذلك الإيمان إلى الإيمان باليوم الآخر، وما فيه من حساب، وثواب، وعقاب وجنة ونار.. وعندئذ يصبح المؤمن المستكمل لتلك الصفات مؤهلا لأن يحسب من المتقين، ويدخل فى عدادهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 الآيتان (6- 7) [سورة البقرة (2) : الآيات 6 الى 7] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7) التفسير: الناس ثلاثة: مؤمنون، وقد بدأت السورة بذكرهم. وكافرون، وهم المذكورون فى هاتين الآيتين. ومنافقون مذبذبون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، سيجيئ ذكرهم بعد هذا. ويلاحظ أن القرآن ذكر هنا كلمة «المتقين» فى مقابل الكافرين، ولم يقل «المؤمنين» ، وذلك أن من شأن الإيمان الصحيح أن يبلغ بصاحبه منازل المتقين. والذين كفروا المذكورون فى هذه الآية، ليسوا مطلق الكافرين، بل هم كفار مكة، الذين حادّوا الله ورسوله، وأشربوا فى قلوبهم الكفر، وعلم الله أنهم لن يستجيبوا للرسول، كأبى جهل، وعتبة بن ربيعة وغيرهما ممن مات على الكفر فى غزوة بدر وأحد، من قتلى قريش.. فهؤلاء قد حكم الله عليهم هذا الحكم: «سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ.. لا يُؤْمِنُونَ..» وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى سورة يس: «يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ. لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» فهؤلاء الذين حق عليهم القول بألا يؤمنوا هم الذين تعنيهم هذه الآية: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» . وإلا فلو كان المراد بالذين كفروا فى هذه الآية مطلق الكافرين، لما كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 لدعوة الرسل حكمة، ولما كان لعرض رسالاتهم على الناس معنى، لأنهم إنما يبعثون إلى قوم كافرين، فيستجيب لهم من يستجيب، ويقيم على كفره من حقّ عليه القول منهم.. أما تيئيس الكافرين مطلقا، والحكم عليهم بألا يؤمنوا أبدا، فذلك بعيد عن حكمة الله فى ابتلاء الناس واختبارهم، وإقامة الحجة عليهم، بإرسال الرسل إليهم.. «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» (42: الأنفال) . وقوله تعالى: «خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ، وَعَلى سَمْعِهِمْ، وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» هو كشف لما اشتمل عليه كيان هؤلاء الكافرين الذين لا يتحولون عن كفرهم أبدا، بما قام فى كيانهم من حواجز تعزلهم عن التجاوب مع دعوة الإيمان، ولا تسمح لشعاعة من شعاعات الحق أن تخترق تلك الحواجز، فقد «خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ» .. والختم على الشيء وضع خاتم عليه، أشبه بالقفل المحكم، بحيث لا ينفذ إليه شىء.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى آية أخرى: «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها» . (24: محمد) «وَعَلى سَمْعِهِمْ» أي وختم على سمعهم، فالواو هنا للعطف على قوله تعالى: «خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ» والختم على السمع: الضرب عليه بحجاب، فلا تنفذ منه دعوة الحق إلى موطن الإدراك من العقل، فهم أشبه بالنائم المستغرق فى نومه، حواسه كلها سليمة، ولكنها معطلة لا تعمل فى تلك الحال.. كما يقول سبحانه وتعالى فى أصحاب الكهف: «فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً» . (11: الكهف) . «وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ» .. أي أن أبصارهم لا ترى الأشياء رؤية واضحة، بل تبدو المرئيات لها مهزوزة غائمة، تضطرب فى مجال الرؤية، فلا يعرف الرائي حقيقة ما رأى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وهذه الصورة الحسية التي صورت بها حال أولئك الكافرين، إنما هى تجسيم لطبائعهم النكدة، وعقولهم المظلمة! وإلا فإن آذانهم مرهفة، وأبصارهم حديدة، ولكنهم لا يحصّلون بها خيرا، ولا يهتدون بها إلى سبيل الرشاد والهدى. ويثار هنا قول، هو: ما لهؤلاء الكافرين إذ لم يهتدوا إلى الإيمان وقد عطل الله مداخل الإيمان إلى كيانهم؟. وهذه مسألة كثر فيها الرأى، واختلف عليها العلماء، حتى صار المسلمون فيها فرقا، من سنية، ومعتزلة، وشيعة، وخوارج. والرأى فى هذا أن يفوض الأمر كله لله.. فالخلق خلقه، والناس عبيده، يقضى فيهم بحكمه كيف اقتضت إرادته.. كما فى قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (2: التغابن) وكما يروى فى الحديث الشريف: «عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- سئل عن معنى قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ» (172: الأعراف) فقال عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، سئل عنها فقال: «إن الله عز وجل لمّا خلق آدم مسح على ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته، فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح على ظهره بشماله، فاستخرج منه ذريته، فقال: هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، فقام رجل فقال: يا رسول الله: ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل أهل الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت وهو على عمل أهل النار فيدخله به النار» .. هكذا قضى الله فى عباده، فريق فى الجنة، وفريق فى السعير.. ومن حكمة الله ولطفه بعباده أنه لم ينكشف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 الأمر لأىّ من الفريقين، فلا أحد من أصحاب الجنة يعلم أنه من أصحاب الجنة، ولا أحد من أهل النار يعرف أنه من أهل النار، بل الجميع مدعوّون من عند الله إلى أن يعملوا على مرضاته، ليفوزوا بالجنة.. وهنا يبدو مجال العمل للجنة فسيحا يسع الناس جميعا، فيسعى كلّ سعيه، فمن كان من أهل الجنة عمل عمل أهل الجنة حتى يبلغها، ومن كان من أهل النار عمل عمل أهل النار حتى يدخلها «وكلّ ميسّر لما خلق له» .!! الآيات: (8- 9- 10) [سورة البقرة (2) : الآيات 8 الى 10] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) التفسير: هؤلاء هم الصنف الثالث من الناس، وهم المنافقون، الذين ليسوا بالمؤمنين ولا بالكافرين. والنفاق شر من الكفر الصّراح، لأن الكافر على بينة من أمره مع نفسه، وعلى حال يعرف الناس منها وجهه.. وليس الكافر بالميئوس منه أن يتحول فى أية لحظة من الكفر إلى الإيمان.. أما المنافق فأمره مختلط، وشأنه مضطرب، يدور حول نفسه التي تحمل الكفر والإيمان معا، فلا هو فى الكافرين، ولا فى المؤمنين.. ولهذا توعد الله سبحانه المنافقين بما لم يتوعد به الكافرين، من عذاب ونكال، حيث يقول سبحانه: «إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً» (145: النساء) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وقد توعد الله سبحانه المنافقين هنا بالعذاب الأليم، فقال: «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ» على حين توعد الكافرين فى الآية قبلها بالعذاب العظيم، فقال سبحانه: «وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» والأليم أشد هولا ونكالا من العظيم، فقد يكون العظيم عظيما فى شخصه وهيئته، وليس عظيما فى أفاعيله وسطوته.. أما الأليم فهو البالغ الغابة فى الإيلام، ولو ضؤل شخصه! «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» . آفة الكافرين فى كفرهم موزعة بين أجهزة ثلاثة فى كيانهم، هى القلب، والسمع، والبصر.. فقلوبهم مغلقة عن الخير، وأسماعهم نابية عن الحق، وأبصارهم كليلة عن الهدى.. أما المنافقون فإن آفة نفاقهم فى القلوب وحدها، حيث قد سمعوا الحق ووعوه، وأبصروا الهدى واستيقنوه، ولكن حين ينفذ هذا كله إلى موطن الإيمان من قلوبهم، يصادف قلوبا مريضة، لا تقبل الحق والخير، وإن قبلتهما فإنها سرعان ما تلفظهما، كما يلفظ المحموم طيب الطعام. «فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً» يمكن أن تكون الفاء هنا للسببية، ويكون المعنى أن ما أرسل الله من هدى على يد النبىّ قد استقبلوه بتلك القلوب المريضة فهيج علّتها، وأيقظ نائم دائها. كما يمكن أن تكون «الفاء» للتفريغ، وتكون الجملة بعدها دعائية، والمعنى أن هؤلاء المنافقين- بما استبطنوا من نفاق لا يرجى شفاؤه- استحقوا أن يدعى عليهم بما يزيد مرض قلوبهم مرضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 آية: (11) [سورة البقرة (2) : آية 11] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) التفسير: هكذا ينافق المنافق حتى مع نفسه، فيرى أنه على طريق الحق، على حين أنه غارق فى الضلال.. والله سبحانه وتعالى يقول: «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً» . (8: فاطر) فلقد غلبت عليهم شقوتهم، ونظروا إلى أنفسهم فى مرايا النفاق، فرأوا أنهم أحسن الناس حالا، وأكملهم كمالا!! (آية 12) [سورة البقرة (2) : آية 12] أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) . التفسير: إنهم هم المنافقون! لقد فضح الله باطنهم الخبيث، وما انطوى عليه من سوء، فدمغهم بهذا الحكم القاطع المؤكد أوثق التوكيد «بجملة أدوات» : ألا (الاستفتاحية) وإنّ (المؤكدة) وهم (ضمير الفصل) وال (المعرّفة للخبر بما يدل على قصر الفساد عليهم وحدهم) . آية (13) [سورة البقرة (2) : آية 13] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 التفسير: فى إسناد مقول القول «آمنوا» إلى المبنى للمجهول، ما يشعر بأن ضلالهم- قد أصبح من الانكشاف والوضوح بحيث أنطق كل موجود فى محيطهم، بدعوتهم إلى الاستقامة، والانتظام فى موكب «الناس» ، الذين صانوا إنسانيتهم عن هذا الانحراف السفيه، الذي يعيش فيه المنافقون. ولهذا جاء قول الله تعالى: «كَما آمَنَ النَّاسُ» ولم يجىء: «كما آمن المؤمنون» وفيه ما يدل على أن الإيمان أقرب شىء إلى الفطرة التي فطر الناس عليها، وأن من شأن الناس أن يستجيبوا لدعوة الإيمان، وأن من استجاب للرسول- صلوات الله وسلامه عليه- هم الناس، ولا اعتبار لغيرهم. وجاءت فاصلة الآية هنا: «لا يعلمون» على حين أنها جاءت فى الآية السابقة عليها: «لا يشعرون» وذلك لاختلاف المقام هنا وهناك. «هُمُ الْمُفْسِدُونَ.. وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ» «هُمُ السُّفَهاءُ.. وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ» الإفساد فى الأرض- مع أنه مما يجابه الحواس، ويقع فى محيط إحساسها- لا يشعر به أولئك المنافقون، لكثرة ما ألحقوا على هذه الحواس من خداع وتضليل، ولكثرة ما تعالوا معها بالتعمية والتمويه: «أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ» . والسّفه- مع أنه انحراف حاد عن طريق الحق والخير- لا يقع فى علم هؤلاء السفهاء، ولا يرون فيه ما يرى الراشدون من الناس من حماقة ومنقصة!: «أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 الآيات (14- 15- 16) [سورة البقرة (2) : الآيات 14 الى 16] وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) . التفسير: هذه حال المنافقين دائما.. يلقون الناس بوجهين، وجه يظهر الحب والمودة، ووجه يضمر السوء والشر.. إنهم مع أهوائهم الضالة، ونفوسهم المريضة، فحيث كان لهذه الأهواء منتجع، وكان لتلك النفوس مستراح- فهم هناك.. يتقلبون مع كل ريح، ويطعمون من كل مائدة! و «شياطينهم» هم رءوس النفاق فيهم، وأصحاب الأمر والتدبير عندهم. وفى قوله تعالى: «وَما كانُوا مُهْتَدِينَ» بعد قوله سبحانه «فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ» توكيد لخسرانهم وضلالهم، إذ قد لا يربح التاجر فى تجارته، ولكن ذلك لا ينقص من ميزانه الخلقي مثقال ذرة، إذ قد يكون عدم ربحه، أو خسارته، لأسباب لا يدله فيها. ولكن هؤلاء الذين اشتروا الضلالة بالهدى إنما هم مغبونون فى تلك الصفقة التي عقدوها، ولو جرّت عليهم كثيرا من حطام الدنيا، لأنهم خسروا أنفسهم، وذلك هو الخسران المبين، فهو خسران محقق، وغبن فاحش، يملأ النفس حسرة وندما. عند من وعى وعقل! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الآيتان: (17- 18) [سورة البقرة (2) : الآيات 17 الى 18] مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) . التفسير: أكثر المفسرين على أن الكاف فى «كمثلهم» زائدة، باعتبار أن كلمة «مثل» أداة للتشبيه، والكاف أداة للتشبيه، ولا تجتمع الأداتان على مشبّه به واحد، وعلى هذا تكون الصورة هكذا: «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً» أو «مثلهم كالذى استوقد نارا» . وبلاغة القرآن أعظم وأسمى من أن تخضع لمقاييس النحو وتخريج النحاة! فليس فى كلمات الله ما يحتاج إلى علل النحاة، وو مما حكاتهم، ليستقيم على علمهم، ولينضبط مع قواعدهم- وحسب القرآن أن يقول قولا، أو ينهج أسلوبا، فيكون قوله الحق، وأسلوبه الفصل، ولا عليه أن تضطرب قواعد النحو، وتتبلبل عقول النحاة! والأمر هنا- فيما يتعلق بالكاف فى «كمثل» - يجرى على أسلوب القرآن كله، فى إعجازه، واستيلائه على أعنّة البلاغة وأزمّتها. فقوله تعالى: «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً» هو تشبيه حال بحال، وشأن بشأن.. بمعنى أن شأن هؤلاء المنافقين وحالهم، كشأن أو حال من استوقد نارا. فهؤلاء المنافقون مثل، وذاك الذي استوقد نارا مثل.. وبين المثلين تشابه وتطابق، فصح أن يكون كل منهما طرفا فى تشبيه واحد، وكاف التشبيه أداته.. فكأنه قيل: هذا المثل كهذا المثل! وننظر فيما بين المثلين من وجه شبه، فنرى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 فى المشبه، وهم المنافقون.. كانوا فى زمرة الكافرين، ثم إنهم أعلنوا إيمانهم، واتخذوا هذا الإيمان جنّة يتقون بها يد المؤمنين، إذا هى علت على الكافرين، وأنزلتهم على حكمهم، وذريعة يتوصلون بها إلى ما قد يفىء الله على المؤمنين من خير! .. فكان أن فضح الله نفاقهم، وجاءت آياته تنزع عنهم هذا الثوب الذي ستروا به هذا النفاق، فأصبحوا عراة لا يستطيعون أن يظهروا فى الناس، إلا كما تظهر الحيات برءوسها من وراء أجحارها! وفى المشبه به، وهو هذا الذي استوقد نارا.. هذا الإنسان، كان فى ظلمة الليل، وفى لفح زمهريره القارس، فاستوقد نارا، كى يجد فيها الدفء والنور! ثم جاء هؤلاء المنافقون فيمن جاء إلى هذا الضوء، ليجدوا عنده الأمن، والدفء.. ولكنّ هؤلاء المنافقين، وإن اختلطوا بالمجتمعين على هذا الضوء، وحسبوا- فى ظاهر الأمر- على ما عليه القوم، فإن الله سبحانه حجز عنهم النور، وأخذ على أبصارهم، فلم يروا ما حولهم، ولم يعرفوا وجه الطريق الذي يسلكون، فركبتهم الحيرة، وقيدهم العمى والضلال..! ونقرأ الآية الكريمة: «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً، فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ» ، فنجد لمحة من لمحات الإعجاز القرآنى، فى هذا التخالف بين أجزاء الصورة فى المشبه به، حيث كان الظاهر أن يقال: «ذهب الله بنوره وترك فى ظلمات لا يبصر» . ولكن هذا يفسد المعنى، حيث يقضى بهذا الحكم على موقد النار، فيذهب بنوره الذي رفعه لهداية الناس، وحيث يقع هذا الحكم على غير المنافقين، من طالبى الهدى عنده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 والصورة التي رسمتها الآية الكريمة- على ما جاءت عليه- تأخذ المنافقين وحدهم بجرمهم، فتحرمهم الإفادة من هذا النور الذي يملأ الوجود من حولهم.. ثم لا تحرم المهتدين ما أفادوا من هدى. ولقد جاء القرآن بمثل آخر لهؤلاء المنافقين فى الآيتين التاليتين: الآيتان (19- 20) [سورة البقرة (2) : الآيات 19 الى 20] أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) التفسير: الصيّب هو المطر. وقد شبّه به هدى السماء، الذي تلقاه الرسول من ربّه، ليحيى به موات القلوب، كما يحيى المطر جديب الأرض. وفى القرآن وعد ووعيد، وتكاليف وأعباء، كالعبادات، والجهاد فى سبيل الله، ومجاهدة النفس فى اجتناب المحرمات.. ثم هو مع هذا رحمة وشفاء! وفى الغيث الذي ينزل من السماء ظلمات من السحب المتراكمة، ورعد وبرق.. ثم هو مع هذا نعمة وحياة! كذلك كانت آيات القرآن حين تتنزل، تنخلع لها قلوب المنافقين، وتنفطر منها أفئدتهم، لما يتوقعون فيها من صواعق تدمدم عليهم، وتفضح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 مكنون صدورهم، بما يبيتون ما لا يرضى من القول، وما لا يحمد من العمل.. فإذا تلقى الرسول وحيا من ربّه، وأعلنه فى أصحابه، اصطكت به أسماع المنافقين، ووجفت قلوبهم هلعا وفزعا! هذا هو حظهم من كتاب الله، وذلك مبلغ ما ينالهم من هذا الخير العظيم.. اضطراب، وذعر، وهمّ مقيم.. حذر الخزي والفضيحة! وذلك شأنهم تماما مع الغيث.. الناس، والحيوان، والنبات، وحتى الجماد.. يحيون بهذا الغيث، ويترقبون فى شوق ولهف مواقيت نزوله، دون أن يتأدّى إليهم خوف أو قلق، مما يصحبه من ظلام ورعود! لأنهم يعلمون ما وراء هذه الرعود والبروق من رى وحياة!! أما المنافقون، فشأنهم مع هذا الغيث كشأنهم مع كل خير.. يلتوون به، ويستقبلونه بنفوسهم المريضة، فلا يصيبهم منه إلا الشرّ، الذي يكمن فى كل خير تستقبله النفوس المريضة، وفى كل نعمة تقع فى يد السفهاء من الناس!. الرعود والصواعق، هى التي يستقبلها أولئك المنافقون من كل ما تحمل هذه الظاهرة الطبيعية، من خير ورحمة!. وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ» إشارة إلى دورة من دورات المنافقين، حيث انتهى بهم ترددهم بين الإيمان والكفر، إلى الكفر الغليظ.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، ثُمَّ كَفَرُوا، ثُمَّ آمَنُوا، ثُمَّ كَفَرُوا، ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً، لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا» (137: النساء) . فالمنافقون هم كفار، وأكثر من كفار.. كفار ومنافقون معا!. وفريق آخر من المنافقين ما يزال أمرهم مرددا بين النفاق والكفر- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 هؤلاء وإن ذهب الله بالنور الذي دخل عليهم من القرآن، حين خادعوا الله ورسوله- فإنهم لا يزالون على صلة بالإسلام والمسلمين، لم يتحولوا إلى الكفر تحولا صريحا، ولهذا فإن لمعات من ضوء الإسلام تطلع عليهم بين الحين والحين فتمسك بهم على طريق الإسلام وفى جماعة المسلمين، ثم تهجم عليهم ضلالاتهم، فتعمّى عليهم السبل، وتتقطع بينهم وبين الإسلام المسالك، فإذاهم فى حيرة واضطراب.. وهكذا تترد أحوالهم بين الإيمان والكفر، إلى أن يموتوا على هذا النفاق.. «يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ، وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا» . الآيتان: (21- 22) [سورة البقرة (2) : الآيات 21 الى 22] يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) التفسير: دعوة عامة شاملة إلى الناس، من ربّ الناس، بعد أن عرضهم هذا العرض الكاشف، من مؤمنين، وكافرين، منافقين.. فالطريق إلى الله مفتوح للناس جميعا، يسع برّهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، وبين يدي كل إنسان شواهد قائمة، وأعلام منصوبة على الطريق، تدعوه إلى الله، وإلى الإقرار بوحدانيته، إذا هو نظر فى هذا الوجود، نظرة بعيدة عن الهوى، خالصة من الضلال والزيغ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 آية (23) [سورة البقرة (2) : آية 23] وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) التفسير: وهذا الكتاب الذي نزل على محمد، هو آية من آيات الله، وعلم من أعلامه الدالة عليه، وعلى قدرته ووحدانيته.. فمن قصرت بصيرته عن تناول الآيات الكونية، وعن فهم ما تحدّث به عن الله، وعن قدرته ووحدانيته، فهذا هو كتاب الله، ترجمان هذه الآيات، بلسان عربى مبين، يفهم عنه كل عربى ما يقول.. فليستمع إليه، وليأخذ بما يقول، وليؤمن به.. لأنه لا يقول إلا صدقا، ولا ينطق إلا حقّا وعدلا، إذ هو كلام ربّ العالمين.. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وليس الكشف عن صدق هذا الكتاب، وعن علوّ متنزله، بالأمر الذي يعجز عنه العربي، إذ هو ناطق بلسانه متحدث باللغة التي يعرف دقائق أسرارها، وروائع أساليبها.. وما عليه إلا أن يستمع إلى آيات من هذا الكتاب، ثم إلى ما يتخير من فنون الكلام عند قومه: من شعر، وخطابة، وأمثال، وسجع كهان.. ثم يزن كلا القولين، بأى ميزان من موازين القول عنده.. وفى غير عناء سيبدو له أنه يقابل الدر بالحصى، ويفاضل بين الجواهر والأصداف، وأن كلام الله هو كلام الله، وأن كلام الناس هو كلام الناس! فإن شكّ شاك فى هذا فليضع الأمر موضع الامتحان العملي.. فهذه كلمات الله، فى جلالها، وسموها، تقف فى الميدان، متحدية أرباب الفصاحة والبيان، بكل صور التحدي: أن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن، وأن يجمعوا إليهم كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 ما استطاعوا جمعه من قوى مادية ومعنوية، بشرية أو غير بشرية.. وهيهات أن يبلغوا من ذلك إلا العجز، والاستخزاء. آية: (24) [سورة البقرة (2) : آية 24] فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24) التفسير: فإذا كشفت هذه التجربة عن العجز الفاضح، وظهر منها أن هذا الكلام هو كلام الله، وأن هذا الرسول هو رسول الله، لم يكن بد من تصديقه، وتصديق ما جاء به، من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والامتثال لما يأمر به، وينهى عنه، وإلا فهو العناد الآثم، والكبر الوقاح، المفضى بصاحبه إلى هذا المصير المشئوم: «النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ» . آية: (25) [سورة البقرة (2) : آية 25] وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25) التفسير: وهذه الصورة الكريمة التي تعرضها الآية للمؤمنين، وما يلقون من كرامة ونعيم، فى مواجهه الصورة الكئيبة التي تعرض فيها الآيات السابقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 جهنم وما يلقى الكافرون من أهوالها- هى دعوة أخرى إلى الإيمان بالله، وإغراء بهذا النعيم، وتحذير من جهنم، وما يلقى أهلها من عذاب ونكال. وفى قوله تعالى: «كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً» تبيان لطيب ثمر الجنة، وأنه على درجة واحدة من طيب الطعم وحسن المنظر، وأنه فى اختلاف أصنافه وألوانه، هو واحد فيما يجد الطاعم له من لذة ومتعة ونعيم! وهذا شأن آيات الله فى كمالها، وجلالها، وتشابهها فى الكمال والجلال وبهذا وصف الله- سبحانه- القرآن الكريم بقوله: «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً» . ولعل سائلا يسأل: ألا تملّ النفس هذا المستوي الواحد من الطعوم التي تكاد تكون لونا واحدا من ألوان الطعام؟ أفلا كان من تمام النعيم أن تتجدد طعومه، وتختلف مذاقاته، فيكون نعيما فوق نعيم، تتضاعف به اللذة، وتتجدد فيه الرغبة؟ ونقول: إن نعيم الجنة لا يقاس بنعيم الدنيا، وأحوال أهل الجنة لا تقابل بأحوال أهل الدنيا، فهم إنما ينعمون نعيما كاملا لا نقص فيه، ولا يقبل مزيدا عليه.. نعيما متصلا لا ينقطع أبدا.. فكل ما ينالون من ثمار الجنة يحقق لهم هذا النعيم الذي ليس فوقه نعيم، دون سأم أو ملل، لأن النفس إنما تسأم الشيء الذي يلحّ عليها، بعد أن تتشبع به، وتستوفى حظها منه، فتزهد فيه، لأنه إن أرضاها فى حال، فلن يرضيها فى جميع الأحوال.. وليس كذلك نعيم الجنة، الذي يرضى أهله إرضاء كاملا متصلا. هذا، مع أن نجعل فى تقديرنا، تلك الفروق الشاسعة بين أحوال الآخرة وأحوال الدنيا، وبين إنسان الجنة الخالد، وإنسان الدنيا الزائل. هذا، وللآية الكريمة وجه آخر يمكن أن تفهم عليه، وهو أن ما يتلقاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 أهل الجنة من ثمارها ليس هو كل طعام أهل الجنة، فهنالك ألوان من النعيم لا عدد لها ولا حصر، والثمار لون واحد من ألوان النعيم، وهى وإن جاءت إليهم متشابهة فى صورها، حتى ليحسب اللاحق منها أنه من صنف السابق- فإنها عند الطعم والمذاق تكشف عن أنها من جنس غير جنس ما سبقها، وفى هذا ما فيه من لذة المفاجأة، وإثارة الواقع غير المتوقع! الآيات: (26- 27- 28) [سورة البقرة (2) : الآيات 26 الى 27] إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27) التفسير: الكائنات كلها- صغيرها وكبيرها- صنعة الله، خلقها بحكمته، وأبدعها بقدرته.. فهى فى معرض ملكه سواء فى الإعلان عن تلك الحكمة وهذه القدرة، ففى كل ذرة من ذرات هذا الكون العظيم آية تحدّث عن جلال الله وعظمته! فلله- سبحانه- أن يضرب المثل بأيّ من مخلوقاته، وأن يقيم منه شاهدا لما يريد.. فأما الذين آمنوا، فيجدون فى هذا المثل هدى إلى هدى، ونورا إلى نور، وأما الذين كفروا فلا تزيدهم الأمثال الكاشفة إلا ضلالا إلى ضلال، وإلا عمى إلى عمى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وفى قوله تعالى: «وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ» نظرتان: النظرة الأولى: إلى العدول عن الكافرين، والتعبير عنهم بالفاسقين، إذ سياق الكلام يقضى بأن يكون الإضلال للكافرين الذين وقفوا من المثل هذا الموقف اللئيم، فقالوا فى استهزاء واستنكار: «ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا؟» فكان المتوقع أن يكون الجواب هكذا: «يضلّ به كثيرا، ويهدى به كثيرا وما يضلّ به إلّا الكافرين» .. ولكن لكلام الله حساب غير هذا الحساب، وتقدير فوق هذا التقدير، فجاءت فاصلة الآية هكذا: «وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ» . والفسق معناه فى اللغة: الخروج، يقال: فسق، وفسق أي خرج عن طريق الهدى والصلاح، وانفسق الرّطب عن قشره: أي خرج. والكافر فاسق، لأنه خرج عن طريق الهدى والإيمان، وركب طريق الضّلال والكفر، خرج عن فطرته التي فطره الله عليها، ونقض الميثاق الذي واثقه الله عليه، فى قوله سبحانه: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا» (172 الأعراف) والنظر الثانية: إلى قوله تعالى: «يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً.. الآية» فهى جواب عن سؤال أولئك الذين فى قلوبهم مرض، الذين استخفّوا بالأمثال التي يضربها الله، ويتخذ مادتها من مخلوقات ضئيلة من خلقه.. فيقولون فى عجب واستنكار: ماذا أراد الله بهذا مثلا؟ فكان جواب الحق جلّ وعلا: «يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً، وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً، وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ» ! والنظرة هنا إلى نسبة الإضلال إلى الله سبحانه وتعالى، بضرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 مثل هذا المثل.. فكيف يفتح الله لعباده بابا إلى الضلال، ويسوقهم إليه. ثم يحاسبهم عن هذا الضلال، ويأخذهم بالعذاب الأليم؟. والجواب على هذا، قد كثر حوله الخلاف، وتعددت فيه المذاهب.. هل الإنسان حرّ مختار فيما يأتى من خير وشر، فيكون حسابه جزاءا وفاقا لما عمل بحريته واختياره، أم هو مجبر مضطر، مسوق إلى قدره المقدور، فيكون عمله غير محسوب عليه، ويكون حسابه على ما عمل، ظلم له، وعدوان عليه؟ أم أن الإنسان مزيج من الجبر والاختيار، له إرادة، وله قدرة على فعل ما يريد، ولكنّ إرادته وقدرته مرتبطتان بإرادة فوق إرادته وبقدرة فوق قدرته؟ فهو يريد، ولكن وفق ما تريد تلك الإرادة العليا، ويفعل، ولكن داخل فعل تلك القدرة المهيمنة على قدرته.. فالإنسان فى هذا التصور أشبه بترس فى آلة (مكانيكية) .. يتحرك بحركة تلك الآلة، ويسكن بسكونها. فهو متحرك، وغير متحرك معا!. والرأى- عندنا- أن الإنسان صنعة الله، ولله سبحانه أن يضعه حيث يشاء، ليأخذ مكانه واتجاهه فى هذا الوجود. ومع هذا فإن الإنسان- بما أودع الله فيه من عقل- مطالب بأن يستعمل هذا العقل وما فيه من قوى، فى وزن الأمور وتقديرها.. فيتقدم أو يتأخر، ويقدم أو يحجم ويؤمن أو يكفر، ويهتدى أو يضل.. وهو فى كل هذا سائر فى الطريق المرسوم له، والذي هو مستور فى الغيب عنه، إلى أن يستوى عليه، وذلك هو قدره المقدور، يرى وكأنه من صنعة يده، وهو فى الحقيقة صنعة يد فوق يده.. يد القدرة القادرة الباهرة: «بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً» (31: الرعد) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 «كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ» (31: المدثر) .. «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (2: التغابن) «1» . آية (29) [سورة البقرة (2) : آية 28] كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) . التفسير: وهذه مواجهة فاضحة مخزية، لأولئك الذين لجّ بهم العناد والضلال، فاستحبّوا العمى على الهدى، وجعلوا لله أندادا، يعبدونهم من دونه.. وهذا أمر لا يقيم عليه إلا سفيه، ولا يرضى به إلا سقيم القلب، أعمى البصر والبصيرة. فالله وحده هو الذي خلق الإنسان من الموات، ثم سوّاه بشرا سويا، ثم يردّه إلى الموات، ثم يعيده مرة أخرى إلى الحياة.. للحساب والجزاء.. فكيف يكون لإنسان أن يتنكر لخالقه، ويعدل وجهه عنه إلى عبادة المخلوقين.. من جماد وغير جماد؟ ذلك ضلال بعيد، وخسران مبين! آية (30) [سورة البقرة (2) : آية 29] هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) .   (1) انظر فى هذا كتابنا «القضاء والقدر» ففيه دراسة مستفيضة لهذه القضية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 التفسير: ومن ألطاف الخالق العظيم ورحمته بالناس، أن أقام الإنسان على هذه الأرض، ومكّن له من أسباب الحياة فيها، والسيادة، عليها فجعل يده مبسوطة على كل شىء شىء فيها، بما وهبه الله من قوة عاقلة، انفرد بها من بين ما على الأرض من مخلوقات.. وذلك من شأنه ألّا يجعل سبيلا لعاقل أن يعطى ولاءه لغير الله رب العالمين. وقد يفهم من قوله تعالى: «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ» بعد قوله سبحانه: «هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً» - قد يفهم من هذا أن خلق السموات، جاء تاليا لخلق الأرض. ولكن، مع قليل من النظر، يتضح أن ذلك كان بعد خلق السموات والأرض.. فالأرض كانت مخلوقة، ثم خلق الله بعد ذلك، ما فيها من مخلوقات.. وكذلك السماء، كانت قائمة، فجعلها الله سبحانه سبع سموات. وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة، فى قوله تعالى: «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ» (11: فصلت) . وهذا لا يصادم ما يقول به العلم الحديث، من أن الأرض وليدة انفجار فى الشمس، تسبب عنه انفصال أجرام منها، وكانت الأرض واحدة من تلك الأجرام! فعوالم السماء مخلوقة قبل الأرض، والأرض مولود من مواليدها! وأمر آخر نحب أن نشير إليه هنا، وهو أن ما جاء فى القرآن الكريم عن خلق السموات والأرض وما بينهما فى ستة أيام، لا مدخل له فى تكييف قدرة الله سبحانه وتعالى، وأن ذلك الخلق قد احتاج إلى عمل هذه القدرة ستة أيام، فذلك تحديد لقدرة الله، التي لا يحدّها شىء، ولا يعلق بها قيد من قيود الزمان والمكان «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (82: يس) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وأما الأيام الستة التي ذكرها القرآن الكريم فى أكثر من موضع زمنا لخلق السموات والأرض، فهى الوعاء الزمنى الذي استكملت فيه السموات والأرض تمام خلقهما، شأنهما فى ذلك شأن كل مخلوق.. من حيوان أو نبات أو جماد.. الإنسان «حَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً» وبعض الحيوانات يتخلق فى ساعة أو ما دون الساعة، وبعضها يتخلق فى عام أو أكثر من عام، والحبة تكون نبتة فى كذا، وشجرة فى كذا من الزمن، وهكذا.. فقوله تعالى: «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» يشير إلى أن الوعاء الزمنى الذي تم فيه خلق السموات والأرض هو ستة أيام، فقد تخلّفا فى هذه الأيام الستة كما تتخلق الكائنات، وتستكمل وجودها، فى زمن مقدور لها، تعيش فيه، متنقلة من طور إلى طور، ومن حال إلى حال، حتى تأخذ الوضع الذي تبلغ به تمامها. آية (30) [سورة البقرة (2) : آية 30] وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) التفسير: حين أصبحت الأرض صالحة لاستقبال الكائن البشرى، أعلن الله تعالى فى الملأ الأعلى هذا الخبر، وآذن الملائكة بأن كائنا بشريا سوف يظهر فى الكوكب الأرضى، وسيتولى قيادة هذا الكوكب، ويكون خليفة الله فيه! والآية صريحة فى أن هذا الكائن البشرى أرضىّ المولد، والنشأة، والموطن، وأنه من طينة الأرض نشأ، وفى الأرض يتقلب، وفى شئونها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 يتصرف.. «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» .. هكذا من أول الأمر.. فلم يكن آدم ابن السماء فلما عصى ربه طرد منها ليكون خليفة الله على الأرض ولو كان ذلك كذلك لما كان للملائكة أن ينفسوا على آدم هذه الخلافة، التي تبدو فى هذا التصور عقوبة وتجريما، أكثر منها حباء وتكريما. ولكن آدم- وهو ابن الماء والطين- لا يتوقع منه إلا أن ينضح بما فى الماء والطين، وبما يتخلّق من الماء والطين، من طبائع بهيمية، تغرى بالعدوان والفساد.. وهذا ما جعل الملائكة يقولون هذا القول بين يدى الله، فى آدم وما يتوقع منه، فما هو إلا إنسان فى مسلاخ حيوان ذى مخالب وأنياب! وذلك قبل أن يكشف الله لهم عن ملكات أخرى لهذا الكائن الترابي، لا يملكها الملائكة، فى عالمهم العلوي، عالم النور والصفاء! وتلك آيات بينات، تشهد لقدرة الخالق العظيم. الآيات (31- 33) [سورة البقرة (2) : الآيات 31 الى 33] وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) التفسير: وهذا الامتحان الذي يعقد فى الملأ الأعلى، يكشف عن الاستعداد الفطري لتفوق آدم على الملائكة فى العلم الذاتي، الذي يكتسبه بالنظر والملاحظة والتجربة، وبالمعاناة والمجاهدة، الأمر الذي ليس من طبيعة الملائكة أن تعالجه وتعانيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ففى آدم- بما أودع الله فيه من قوى- قدرة على الترقي والاستزادة من المعارف، بتوجيه ملكاته إلى النظر فى هذا الوجود، وملاحظة الأسباب والمسببات، وربط العلل بالمعلولات، وبهذا يتنقل الإنسان من طور الطفولة إلى الصّبا والشباب والاكتهال والشيخوخة، وفى كل طور يحمل معارف جديدة إلى الطور الذي يليه، تعينه على اكتساب معارف أخرى، ينتقل بها إلى طور آخر، وهكذا.. ثم هذا التطور الخلّاق الذي يقع فى حياة الإنسان الواحد، يقع فى الجنس البشرى كله، حيث يتلقى كل جيل من الجيل الذي قبله جميع معارفه، وتجاربه، ويضيف إليها معارف جديدة وتجارب جديدة، يتركها ميراثا للجيل الذي بعده.. وهكذا. أما الملائكة.. فهم على حال واحدة، لا يطرأ عليها تحول ولا تبدل.. فليس لهم طفولة وصبا وشباب وشيخوخة، كما أنه ليس لهم مع الزمن زيادة فى علم أو معرفة عن طريق الكسب الذاتي، وإنما يجىء علمهم ومعرفتهم بما يتلقونه من الله تلقيا مباشرا: «لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا» .. وبهذا اختلف الناس، فكان كلّ إنسان عالما وحده، له وجوده الذاتي، وله تفكيره، وإرادته، ومنزعه.. فكان فيهم المؤمن والكافر، والمهتدى والضال، والعالم والجاهل.. أما الملائكة فهم نمط واحد، من الصفاء، والبهاء، والطاعة المطلقة، المستسلمة، التي لا تنزع عن إرادة، ولا ترجع إلى نظر وتقدير. «لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ، وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» !. وعلى هذا، فالملائكة- وإن شرفوا قدرا، وعلوا منزلة- ليسوا أهلا للخلافة على هذا الكوكب الأرضى.. لأن منصب الخليفة يقتضى استقلالا فى تصريف الشئون فيما هو خليفة فيه، ومتسلط عليه، كما يقتضى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 تفكيرا وتقديرا للأمور، ثم إرادة تمضى ما انعقد عليه الرأى. شأنه فى هذا شأن الوكيل، الذي يتولّى عن الأصيل التصرف فيما وكّل فيه، دون الرجوع إلى موكّله. والإنسان، بما له من عقل، وإرادة، هو المستأهل لهذه الخلافة على الأرض، يتولاها عن الله، ويتولّى ضبط أمورها وسياسة شئونها. «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» . اختلف فى هذه الأسماء التي علمها الله سبحانه آدم- أعنى الإنسان- والرأى فى هذا، أن الله سبحانه أودع فى الإنسان القدرة على البحث والنظر فى الكشف عن خصائص الأشياء، وعللها، وأسبابها، والوقوف على أسرارها المودعة فيها، وحلّها وتركيبها.. وبهذه القدرة عرف حقائق كثير من الأشياء، وهو جادّ أبدا فى الكشف عن المزيد منها، يوما بعد يوم، وجيلا بعد جيل، وعصرا إثر عصر! وكلما عرف حقيقة وضع لها اسما تعرف به. فالمراد بالأسماء هنا هو مسميات تلك الأسماء، والمراد بالمسميات، خصائص هذه المسميات، وحقائقها. والأسماء كلها، لا يراد بها أسماء جميع الموجودات فى هذا الوجود، إذ أن آدم لا يمكن أن يحيط علمه بكل موجود، ظاهر أو خفى، قريب أو بعيد.. وإنما المراد- والله أعلم- المسميات التي تكشفت حقائقها لآدم وذريته، واهتدوا إلى التعرف عليها، وتحديد موقفهم منها، إيجابا أو سلبا.. ففى دائرة هذه المعرفة كان امتحان الملائكة، وكان عجزهم، وكان إعلام آدم إياهم بما عجزوا عن معرفته! فكان ذلك أبلغ ردّ على اعتراض الملائكة، وجلاء الموقف الذي وقفوه من آدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 فالمراد بآدم هنا هو الإنسانية كلها، وكان امتحان الملائكة فيما عرف أبناء آدم من أسرار هذا الوجود. «ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» . أي عرض الله مسميات هذه الأسماء، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ» . فالمعروض لنظر الملائكة ذوات مشخصة، يراد من الملائكة أن يضعوا لها أسماء، تدلّ عليها، وتكشف عن حقيقة كل واحد منها. والأشياء المعروضة هنا عاقلة، أو فى حكم العاقلة، لأنها من صنعة العقلاء حيث خوطبت خطاب العقلاء، وحيث أشار إليها سبحانه وتعالى بقوله: «عرضهم» .. «هؤلاء» . ذلك هو الوجه الأقرب لملفوظ الآية، وليكن فى تقديرنا أن الزمن الذي احتوى هذا الحدث ليس ابن لحظة أو ساعة، فقد يمتد إلى مئات السنين وآلافها.. فإذا آذن الله الملائكة بأنه جاعل فى الأرض خليفة، فقد تمضى مئات السنين وآلافها قبل أن يظهر هذا الخليفة.. ثم إذا ظهر فقد تمضى مئات السنين وآلافها قبل أن يتحدث الملائكة إلى الله بهذا الحديث عن آدم: «أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ» وذلك بعد أن عاش الإنسان على هذه الأرض، وأحدث ما أحدث فيها من خير وشر! وآدم الذي واجه الملائكة، قد لا يكون أول السلالة الإنسانية، بل لعله فى حلقة متأخرة شيئا ما عن الحلقة الأولى لهذه السلالة. إن لآدم- فى نظرنا- مفهوما غير هذا المفهوم الذي تحدث عنه روايات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 المفسرين التي تعتمد فى هذا على الإسرائيليات، وعلى ما بقي من أساطير الأقدمين من قصة «الخلق» ومكان آدم فيها. وسنعرض لهذا بعد قليل. آية (34) [سورة البقرة (2) : آية 34] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34) التفسير: أما وقد نجح آدم فى هذا الامتحان، وأظهر من العلم ما قصر علم الملائكة عنه، فقد استحق أن يكرم، وأن يكون هذا التكريم من الملائكة أنفسهم، لأنهم هم الذين أنكروا عليه تلك «الخلافة» التي جعلها الله له، ليكون ذلك بمثابة ردّ اعتبار لآدم عند من نقصوه، وثمنا يقتضيه منهم لقاء انتقاصهم له!! وقد تلقى الملائكة أمر الله بالقبول والرضا، فسجدوا لآدم سجود تعظيم وتكريم، لا سجود عبادة وتأليه، فلا عبادة إلا لله، ولا مألوه غير الله! [الجن.. إبليس.. الشيطان] سجد الملائكة كلهم أجمعون.. إلا إبليس! ومن إبليس هذا؟ ورد فى القرآن الكريم وفى أكثر من موضع ذكر إبليس، والشيطان، والجن، على أنها قوى خفية، تتحرك فى المجال الإنسانى، وتراه دون أن يراها. وإبليس والشيطان، يذكران دائما فى معرض التحذير منهما، والتخويف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 من إغرائهما وإغوائهما، إذ كان من شأنهما العداوة للإنسان، والنقمة عليه. ويذكر «إبليس» وحده فى مقام دعوة الملائكة للسجود لآدم وامتناعه هو عن السجود، استكبارا لذاته، وعلوا على آدم الذي خلق من طين، على حين أنه خلق من نار. وفى هذا يقول الله تعالى فى الآية السابقة: «وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ، أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ» . ويقول سبحانه فى سورة الأعراف: «ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ» (11: الأعراف) . ويقول سبحانه فى سورة الإسراء: «وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً» . (61: الإسراء) ويقول جل شأنه فى سورة الكهف: «وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ» (50: الكهف) . ويقول فى سورة طه: «وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى» (116: طه) وفى سورة ص: «فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ» (73- 74 ص) ويلاحظ أنه لم يذكر فى هذا الموقف «الشيطان» أو «الجن» .. وهذا ما يشعر بأن «إبليس» على صفة خاصة، غير صفة الشيطان، والجن، وإلا لما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 التزم القرآن ذكر إبليس فى هذه الصور المتعددة لموقف واحد، الأمر الذي لا يلتزمه القرآن إلا حيث لم يكن من التزامه بد. وننظر من جهة أخرى فنجد القرآن الكريم يتحدث عن «إبليس» بأنه كان من الجنّ ففسق عن أمر ربه.. كما جاء ذلك فى الآية الواردة فى سورة الكهف.. فإبليس- على هذا- من عالم الجن، وأنه وحده الذي خرج عن أمر ربه، وأعلن هذا العصيان الوقاح!. ويتحدث القرآن فى ثمانية وستين موضعا عن الشيطان، بلفظ المفرد «الشيطان» وفى أحد عشر موضعا بلفظ الجمع: «الشياطين» . وفى جميع هذه المواضع يجىء الحديث عن الشيطان أو الشياطين فى مقام التحذير من الضلال والغواية للإنسان من كيد الشيطان.. «إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً» (53: الإسراء) . «إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا» (6: فاطر) وهذه العداوة التي بين الشيطان وآدم، وذرية آدم، هى امتداد لتلك العداوة التي حملها إبليس لآدم، حين امتنع عن السجود له مع الملائكة، كما أمره الله، وكان ذلك سببا فى أن لعنه الله وطرده من الجنة. وفى هذا يقول الله تعالى: «يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ» (27: الأعراف) ، ويقول سبحانه عن الشيطان وهو يوسوس لآدم ويغريه بالخروج عن أمر ربه: «فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى» . (120: طه) ويقول سبحانه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 «فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ» . (20، 21: الأعراف) وهنا يبدو الشيطان وإبليس وكأنهما اسمان لذات واحدة، فما عرف إبليس إلا بهذا الوجه المنكر الملعون، وما عرض الشيطان إلا فى هذه الصورة الكريهة المخيفة.. ومن جهة أخرى فقد كان إبليس من عالم الجن، ففسق عن أمر ربه.. «فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ» (5: الكهف) ومن جهة ثالثة تحدّث آيات القرآن عن إبليس وكأنه من عالم الملائكة، حيث توجّه الأمر للملائكة بالسجود، فامتثلوا جميعا أمر ربّهم إلا إبليس.. فهو استثناء متصل.. «فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ، أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ» (31: الحجر) «وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ» (5: الكهف) وعلى هذا نستطيع أن نقول: أولا: إن إبليس كان من الملائكة.. ثانيا: أنه كان فى درجة دنيا، فى هذا العالم الروحي، هى درجة الجنّ الذين وإن أشبهوا عالم الملائكة فى أنهم خلقوا من شعلة مقدسة، إلا أن الملائكة كانوا من نور هذه الشعلة، على حين كان الجن من نارها، كما يقول تعالى: «وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ» . ولهذا كان الملائكة صفاء خالصا، بينما كان الجن صفاء مشوبا بكدر.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 نارا مختلطة بدخان!، ولهذا أيضا كان الجن فيهم الخير والشر، وكان منهم الأخيار والأشرار، كما يقول الله تعالى على لسانهم: «وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ «1» فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً» (14، 15 الجن) . ثالثا: لم يظل «إبليس» فى جماعة الجنّ، بل أخرجه الله من بينهم، حين أبى أن يسجد لآدم مع الساجدين، فلعنه الله، وطرده، وجعل له اسم «إبليس» سمة يعرف بها، فى هذا الموقف الذي حلّت عليه فيه اللعنة والإبلاس. رابعا: بدأ إبليس منذ اللعنة التي حلّت به يتحول خلقا آخر، فإذا هو «شيطان» مريد، وشيطان رجيم، وإذا هو قوة شر منطلقة، يتطاير منها شرر، يصيب من يتعامل معه، ويتبع خطاه، وتلك الشرارات المنطلقة منه هى ذريته التي يتحدث عنها القرآن فى قوله تعالى: «أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي، وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ؟» .. وهى شياطين أخرى، تنطلق منها شرارات شيطانية.. وهكذا. فإبليس كان من عالم الجنّ، ثم نزل إلى «إبليس» ثم تحول من إبليس إلى شيطان..! الآيات: (35- 39) [سورة البقرة (2) : الآيات 35 الى 39] وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39)   (1) القاسطون: أي الظالمون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 [آدم وجنته] أشرنا فيما سبق، إلى أن آدم أرضى المولد، والنشأة، والموطن، وأنه من طينة الأرض نشأ، وفى الأرض يتقلب، وفى شئونها يتصرف، وفى هذا يقول الله تعالى: «مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى» (55: طه) ونريد هنا أن نقف قليلا مع قصة الخلق- خلق آدم- كما تحدث عنها القرآن، لا على ما جاءت به التفاسير من إسرائيليات وأساطير عن خلق آدم، فألقت بذلك ظلالا على آيات الله، وأخرجت منها مفهوما لخلق آدم، يبعد كثيرا عمّا صرح به منطوق الآيات ومفهومها، ويصادم أيضا بعض حقائق العلم الحديث فيما كشف عنه علم الحياة وأصل الأنواع، بل ويصادر العقل الإسلامى الذي يفهم القرآن على ضوء هذه التفاسير، فلا يجد له سبيلا إلى النظر والبحث عن أصل الإنسان، ومكانه فى سلسلة التطور. والحق أن القرآن الكريم يعرض قصة خلق آدم عرضا محكما، يقف أمامه العلم- فى جميع مستوياته- خاشعا مستسلما، ويستقبله العقل- فى مختلف أطواره- راضيا مسلّما، لا يستطيع أن يجد فيه ثغرة للطعن، أو النقض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 ومع أن القرآن ليس كتاب علم، وليس من همّه أن يقرر حقائق علمية، فإنه فى قضية خلق آدم، قد أمسك بها من أطرافها، وجاء بها على الوضع الذي يلتقى مع الحقائق العلمية فى أصدق وجوهها وأضوئها. فمن شاء أن يلقى القرآن هنا بكل ما تكشف من العلم، وما ثبت من حقائقه فى قضية الخلق، فليأت بما معه، وليدل بحجته بين يدى كتاب الله، كمن يحمل الماء إلى البحر، أو يرسل الضوء إلى الشمس. استمع إلى ما يحدث به القرآن عن خلق الإنسان: 1- يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ» (105: الحج) . 2- «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ» . (26: الحجر) 3- «خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ» (14: الرحمن) 4- «إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ» (71: ص) 5- «إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ» (11: الصافات) 6- «الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ» (7: السجدة) 7- «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ» (12: المؤمنون) 8- «ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً» (13- 14 نوح) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 9- «وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً» (17: نوح) فالطين كما تصرح به الآيات هنا، هو الأصل الذي خلق منه الإنسان، وأن هذا الطين قد تقلب فى أطوار عديدة، حتى ظهر منه هذا الإنسان.. فهناك: التراب، وهناك الطين، والطين اللازب، ثم الصلصال، ثم الحمأ المسنون.. فالتراب هو المادة الأولى فى خلق الإنسان، ثم يلبس التراب طورا آخر، هو الطين، ويتتقل الطين إلى طور جديد هو الصلصال، ثم الصلصال إلى حمأ مسنون.. وهكذا يتنقل التراب فى أطوار حتى يكون إنسانا. والحمأ المسنون، هو الطين بعد أن يتخمر ويتعفّن، وبين طور الطين والحمأ المسنون طور آخر هو الصلصال، الذي يتحول فيه الطين إلى مادة من الزبد تشبه الفخّار. وبلغة العلم: يكون التراب فالطين، فالصلصال، فالحمأ المسنون، أربعة أطوار تتنقل فيها بذرة الحياة، وإن هذا التخمر والتعفّن الذي أصاب الطين فجعله (الحمأ المسنون) لهو بشائر الحياة، إذ هو «البكتريا» التي تولدت منها خمائر الحياة، وظهرت منها جرثومتها الأولى. «ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً» . (13- 14 نوح) ومقررات العلم الحديث تقول: إن الحياة ظهرت على هذه الأرض أول ما ظهرت، على شواطىء البحار، حين يتكون الطين، فالزبد، فالحمأ المسنون، فالطحالب، فالنبات، فالحيوان، فالإنسان.. هكذا يقرر العلم الحديث فى نشوء الحياة وتطورها، وهو- أي العلم- يرى أن هذه الأطوار قد سارت عبر ملايين السنين حتى أثمرت شجرتها الأولى أكمل وأكرم ثمرة.. هى الإنسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 والقرآن الكريم، وإن لم يتعرض لهذه الشجرة التي كانت منها أصول الحياة وفروعها، والتي كان الإنسان- فيما نرى- فروعا من فروعها وثمرة من ثمارها- لم يجىء بما ينفى هذه الصلة، وتلك القرابة، التي بين الإنسان وبين عوالم الأحياء.. بل إنه- على عكس هذا- قد أشار فى أكثر من موضع إلى ما يمكن أن يستقيم منه فهم واضح لتلك الصلة الوثيقة، بين الإنسان وعالم الحياة كله. ففى قوله تعالى «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ» (45: النور) وقوله سبحانه: «وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» (30: الأنبياء) دلالة قوية على أن الأحياء كلها- ومنها الإنسان- مخلّقة من مادة واحدة.. هى الماء.. والماء هو المادة التي يتكون منها الطين، إذ لا وجود للطين إلا مع الماء، وبالماء. وقد نجد عند بعض المفسرين لمحات ذكية، تشير إلى شىء من هذا الذي أصبح من مقررات العلم الحديث. «فالبيضاوى» يقول فى تفسيره لقوله تعالى: «مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ» : أي من طين تغير واسودّ من طول مجاورة الماء. «1» فالقول بانتماء الإنسان فى أصل نشأته إلى شجرة الحياة العامة النابتة فى الأرض، من الأرض، لا يعارض نصا من نصوص القرآن، بل إنه ليلتقى معها فى يسر ووضوح.. فإذا كان الإنسان- آدم- خلق من طين، فالأحياء كلها- نباتا وحيوانا- مخلوقة من طين! فالإنسان إذن هو ابن هذه الأرض: «مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى» (55: طه)   (1) تفسير البيضاوي «سورة الحجر» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وأكثر من هذا، يحدّث القرآن فى صراحة، أن الإنسان- أي أصله- نبتة من نبات الأرض: «وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً» (17: نوح) ولو كان الإنسان من طينة غير طينة هذه الأرض، لما كان له سبيل إلى الحياة على هذه الأرض والقرار فيها، والانتفاع بموجوداتها، من جماد، ونبات، وحيوان! وليس ذلك بالذي يزرى بالإنسان، أو يحط من قدره، فمن هذا الطين تتخلق أكرم الجواهر، وأنفس المعادن.. من لؤلؤ ومرجان، وذهب، وفضة، وغيرها.. والإنسان هو الذي يضع نفسه حيث يشاء.. إن شاء كان جوهرا كريما، وإن أراد كان طينا لازبا أو حمأ مسنونا أو حجرا صلدا، والله سبحانه وتعالى يقول: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ..» وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «الناس معادن، خيارهم فى الجاهلية، حيارهم فى الإسلام» .. ففى هذه الكلمة النبوية الجامعة، ما يشير إلى مدلول الآيات القرآنية، التي تتحدث عن خلق آدم، والمادة التي خلق منها، على الوجه الذي قهمناها عليه! يقول الفيلسوف المسلم محمد إقبال فى معرض حديثه عن قصة آدم، كما جاءت فى القرآن الكريم، وفى التوراة.. يقول: «وهكذا نرى أن قصة هبوط آدم كما جاءت فى القرآن لاصلة بها بظهور الإنسان الأول على هذا الكوكب، وإنما أريد بها- بالأخرى- بيان ارتقاء الإنسان، من بدائية الشهوة الغريزية، إلى الشعور بأن له نفسا حرة قادرة على الشك والعصيان» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 «وليس يعنى الهبوط «1» ، أىّ فساد أخلاقى، بل هو انتقال الإنسان من الشعور البسيط إلى ظهور أول بارقة من بوارق الشعور بالنفس، هو نوع من اليقظة فى حلم الطبيعة، أحدثتها خفقة من الشعور بأن للإنسان صلة علّيّة شخصية بوجوده» «2» . وهذا الفهم الذي فهمه «إقبال» لآيات القرآن الكريم فى خلق آدم، هو- كما ترى- أقرب فهم إلى منطوق كلمات القرآن، ودلالتها اللغوية، كما أن هذا الفهم الذي يقف بآيات القرآن عند هذه الحدود، يحمى ينابيع القرآن الصافية، من هذا الغثاء الذي يلقى به فى ساحتها، من تلقيات الأوهام والخرافات التي تتناقلها أجيال الناس، وتلونها بألوان وأصباغ، تكاد تغطى سماء آيات الكتاب الكريم، وتحجب أضواءها. ثم إنه بمثل هذا الفهم الملتزم لحدود المعنى اللغوي لآيات الكتاب الكريم يظل الطريق مفتوحا بين آيات الكتاب وأنظار الناظرين فيها، كلما جدّ للناس فهم فى الحياة، وكلما انكشف لهم سر من أسرارها.. حيث يمكن عرض كل جديد، على القرآن، فى حدود منطوق كلماته ومفهومها، فيقبل من هذا الجديد ما يقبل، ويرفض ما يرفض، دون أن يكون عليه من ذلك شىء.. بل يظل فى عليائه، مشرفا مشرقا، تأخذ العيون من ضوئه، على قدر استعدادها وقوتها. فمثلا نظرية «دارون» فى أصل الأنواع، وفى النشوء والارتقاء. هذه النظرية، كانت ولا تزال عند كثير ممن أخذوا فهم الآيات القرآنية فى خلق آدم، عن هذه النقول الخرافية، وهذه المقولات الأسطورية التي جمعها   (1) يعنى الهبوط المشار إليه فى قوله تعالى «اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً» . (2) تجديد التفكير الديني فى الإسلام لإقبال، ص 99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 المفسرون والقصّاص، من كل ساقطة ولاقطة- كانت ولا تزال هذه النظرية عند كثير من هؤلاء، من الكفريات، والإلحاديات، التي إن جرت على لسان، كان مجرد جريانها عليه كفرا وإلحادا!! ولهم عذرهم فى هذا!! فالذين قرءوا فى كتب التفاسير والقصص، أن آدم خلق فى الملأ الأعلى، وأن طينته غرست فى جنة عدن، أو جنة الخلد، أو غيرهما من الجنان- على اختلاف روايات المفسرين فى هذا- هؤلاء الذين قرءوا هذه المقولات فى نشأة آدم، يرون أن كل قول يخالف هذا، هو خروج على الدّين، بل خروج من الدين! فى حين أن هذا الأمر كلّه ليس فيه شىء من الدين، ولهذا أباح المفسرون أن يترخصوا فى الحديث عنه، وألا يلتزموا فيه حدّا، فكان لكل منهم مقولاته، التي قرأها أو سمعها، أو توهمها، لأن هذا الأمر ليس من باب التشريع والأحكام، فتتحرّى له الصحة والضبط. على أن مقولات «دارون» التي أنكرها علماء الدين، وهاجوا وماجوا من أجلها، إنما تقوم على علم وتجربة، وقد يكون فيها قليل أو كثير من الخطأ فى الاستنتاج، ولكن الذي ينبغى أن يكون عليه موقف العقل إزاءها، هو الاحترام لها، والتقدير للجهد الذي بذل فيها، وما دامت ترجع إلى التجربة، وتحتكم إلى العقل، فإن كل عقل مدعوّ إلى الوقوف عندها، والنظر فيها، وأخذ ما يطمئن إليه منها.. أما صدّ العقل عنها، وفراره من بين يديها، فذلك إزراء بالعقل، وامتهان له، وتعطيل للوظيفة التي خلق لها، وخروج على دعوة القرآن التي دعاه إليها. ثم إن «داروين» الذي أثار هذا الإعصار العاصف، فى عقول رجال الدين- من كل دين- لم يكن منكرا لله، ولا كافرا به، بل إنه- فيما يروى عنه- كان من أشد الناس إيمانا بالله، وشهودا له فى آياته، التي رآها رأى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 العين، فيما أبدع الخالق وصوّر، من مخلوقات متطورة، تتحرك فى مسار الحياة، من الطين، إلى أن تكون إنسانا عاقلا، حكيما عالما، نبيّا.. يطاول السماء فيتناول بيديه كتاب الله، ويسمع بأذنيه كلمات الله! يقول «داروين» فى حديثه عن أصل مذهبه: «إن المشابهة، وأسبابا أخرى، تدعونا ضرورة إلى الاعتقاد بأن الأحياء أصلها واحد، وألّا فاصل جوهريا بين العالمين: عالم النبات، وعالم الحيوان.. ثم يقول: «إنى أرى، فيما يظهر لى، أن الأحياء عاشت على هذه الأرض من صورة واحدة أولية، نفخ الخالق فيها نسمة الحياة» «1» ! وإذا كان لأحد أن يقف من «دارون» موقف الهلع والخوف، على معتقده الديني، فليس هو المسلم، الذي يعترف دينه بالعقل، وبحقه فى البحث والنظر، وفى احترام مؤدّى هذا البحث والنظر، الذي لا يقوم على هوى، ولا يستند إلى سلطان غير سلطان الحجة والبرهان! ثم إنه إذا كان لأى دين أن يجافى مقولات «داروين» أو أن يضيق بها فليس هو الدين الإسلامى، الذي تكاد تنطق آياته بما أعيا «داروين» والعلم الحديث، الوقوف عليه، من أسرار الخلق وعظمته! ومع ما نعرف من أن القرآن الكريم ليس كتاب علم، وأن الرسالة الإسلامية لم تجىء لتقرير حقائق علمية «2» - فإن فى عرضه لمشاهد الكون وفى كشفه عن مظاهر الوجود، لمحات مضيئة، وإشارات مشرقة، يجد فيها العلم الحديث مستندا لمقولاته، ومجازا لمقرراته.   (1) مذهب النشوء والارتقاء- الكتاب الأول، الجزء الأول، للمرحوم إسماعيل مظهر ص 47. (2) انظر فى هذا كتابنا- إعجاز القرآن- الجزء الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وسنرى فى قصة آدم، التي نحن بصددها، أنها تسبق ما يقرره «داروين» فى نظرياته، عن التطور وأصل الأنواع! ونعود إلى تلك القصة، فنقول: ربما رأى بعض علمائنا أن فى قوله تعالى: «إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ، فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ» ، وفيما جاء من الآيات التي تحدّث عن دعوة الله سبحانه وتعالى الملائكة أن يسجدوا لآدم، عند ما ينفخ فيه الحق جل وعلا من روحه- قد يرى بعض علمائنا أن فى هذا ما يدل على أن آدم قد انفرد بخلق خاص، دون سائر المخلوقات الأرضية، وأنه لهذا استحق التكريم والاحتفاء! ونقول: إن ما ورد فى الآية السابقة وأمثالها، إن دلّ على خصّيصة لآدم، فإنه لا ينفى أن يكون ذلك قد كان حين وصل تطور الحياة بالأحياء إلى هذه المرحلة، التي بلغ فيها التطور غايته، بظهور هذه السلالة الناضجة من ثمرات الحياة، وبزوغ أول مواليد النوع الإنسانى.. ويكون معنى قوله تعالى: «إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ، فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ» أنه إذا بلغ الكتاب أجله بهذا الطين، الذي سرت فيه الحياة، وتوالدت منه الأحياء، إلى أن آذنت فى تطورها بظهور النوع البشرى الذي تهيأ لقبول النفخة الإلهية فيه- «فقعوا له ساجدين» إذا هو تلقى النفخة من روح الحق جلّ وعلا، وتكون تلك النفخة هى منحة السماء للأرض، فى يوم ميلادها لمولودها الذي يدبّر أمرها، ويكون خليفة الله عليها. ولعل فى قوله تعالى: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ» لعل فى هذا ما يشعر بالمعنى الذي ذهبنا إليه، وهو أن آدم لم يجىء من الطين مباشرة، وإنما كان ذلك بعد سلسلة طويلة من التطورات، وبعد عمليات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 معقدة من التصفية والانتخاب، استمرت ملايين السنين، حتى انتهت بظهور الإنسان على تلك الصورة التي علا بها جميع أبناء سلالاته، وكان أهلا لتلقى النفخة الإلهية يوم مولده، وكأنها التاج الذي توّج به ملكا على العالم الأرضى كله. وهذا ما تشير إليه أيضا الآية الكريمة: «ما لكم لا ترجون لله وقارا، وقد خلقكم أطوارا» . ثم إن النظر العابر فى عالم الأحياء يعطى دلالة قاطعة على أن الإنسان هو من طينة الأسرة الحيوانية.. فهذا التشابه الكبير فى تركيب الأعضاء، والحواس، وعملية الهضم، والتنفس، ومجرى الدم فى العروق، ثم فى عملية التناسل فى مراحلها المختلفة.. كل هذا التشابه يقطع بأن الإنسان حيوان قبل أن يكون إنسانا! وإنك لتجد الإنسان كله فى أدنى المخلوقات، وفى أرقاها.. من الدودة والحشرة، إلى القرد والغوريلا. وعلى هذا، فإننا لا نستطيع أن نقبل أقوال المفسرين فى خلق آدم، على تلك الصورة التي يرسمونها للأسلوب الذي ولد به.. فمثلا، «القرطبي» يقول فى تفسيره عن خلق آدم: «فخلقه الله بيده، فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة «1» ، فمرت به الملائكة، ففزعوا منه لمّا رأوه، وكان أشدهم فزعا إبليس، فكان يمر به، فيضربه، فيصوّت الجسد، كما يصوّت الفخار تكون له صلصلة، ويقول إبليس: «لأمر ما خلقت!!» «2» .   (1) تبعا للمقولات الإسرائيلية التي تقول إن الله خلق الأحياء فى يوم الجمعة.. وقد اقتطع القرطبي من هذا اليوم أربعين سنة لخلق آدم، على اعتبار أن اليوم عند الله كألف سنة من أيامنا. (2) تفسير القرطبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وهذا القول وأمثاله إن هو إلا من موارد قصص الأولين وأساطيرهم، وليس فى آيات القرآن الكريم دلالة عليه، من قريب أو بعيد. وننتهى من هذا إلى قول واحد فى هذه القضية، وهو الاحتفاظ بها فى الإطار القرآنى، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فآدم مخلوق من «تراب» أو من «طين» أو «حمأ مسنون» أو من «طين لازب» أو من «سلالة من طين» أو من «صلصال كالفخار» أو نبت من الأرض نباتا.. فهذا هو الذي يقوله القرآن فى خلق آدم! ثم ليقل العلم ما يشاء من مقولات، فإن مصير العلم وما يقع له من حقائق ثابتة فى هذا الشأن لا بد أن ينتهى إلى تلك الصورة التي رسمتها الآيات القرآنية الكريمة، لهذه القضية! الشجرة التي أكل منها آدم نهى الله سبحانه وتعالى آدم عن أن يقرب شجرة من أشجار تلك الجنة التي أسكنه فيها، وأباح له الأكل رغدا من ثمارها. وهذه الشجرة لم يعرض القرآن لبيان نوعها، ولهذا فهى- في محيط القرآن- غير معروفة النوع ولا الصفة، وإن كانت معروفة لآدم، حيث أشار إليها الحق سبحانه وتعالى، إشارة كاشفة، حين نهاه وزوجه عنها، بقوله سبحانه: «وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ» . وقد وصف إبليس هذه الشجرة لآدم وحواء، وصفا كاشفا لها، وللمعطيات التي ضمّت عليها، وفى هذا يقول الله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 «فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ، قالَ يا آدَمُ: هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى» (120: طه ويقول سبحانه: «فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ، لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ» (20: الأعراف) وهذه الأوصاف التي خلعها إبليس على تلك الشجرة لا تلتقى مع الواقع، ولا تحدّث عن الحق، وإنما هى من تلفيقات إبليس وأكاذيبه، ليخدع بها ويغرى. ومع ذلك فإن المفسّرين والقصاص، قد ذهبوا فى الحديث عن الشجرة ونوعها كل مذهب، مستندين فى هذا إلى بعض الروايات المعزوّة إلى بعض الصحابة والتابعين، لتكتسب شيئا من الاحترام والقبول، وهى فى حقيقتها إسرائيليات، وأساطير، وخرافات. فالشجرة، هى «السنبلة» فيما يروى عن ابن عباس. وهى «الكرمة» فيما يروى عن ابن مسعود، والسّدّىّ. وهى «التينة» عن ابن جريج. وهى شجرة «الكافور» .. عن علىّ بن أبى طالب. وهى شجرة «العلم» -[علم الخير والشر.] . عن الكلبي. وهى شجرة «الخلد» التي كانت تأكل منها الملائكة.. عن ابن جدعان» «1» . وبعيد أن يكون لهذه المقولات مستند صحيح من كتاب أو سنة، وإلا لما كان بينها هذا الاختلاف البعيد، فى حقيقة واحدة!   (1) انظر مجمع البيان فى علوم القرآن للطبرسى- الجزء الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 والقرآن الكريم، إذ وقف بالشجرة دون أن يحدّد نوعها، فإنما ذلك لأنها معروفة معهودة لآدم ولزوجه- كما قلنا- ثم إن عدم تحديد نوعها فى الحديث عنها إلينا، لا يمنع أن يكون للشجرة مفهوم خاص عندنا، وإن لم يدخل فيه نوعها.. أيّا كان! فلنحاول فهم الشجرة على أنها مجرد شجرة، ليس لها صفة خاصة تمتاز بها، عن الأشجار التي معها، إلا فى تحديد ذاتها بالإشارة إليها! فلتكن هذه الشجرة ما تكون.. شجرة كرم، أو تين، أو كافور، بين العديد من مثيلاتها، إلّا أن النهى والتحريم وقع عليها، دون غيرها. وهذا التحريم لشجرة بعينها، إنما هو امتحان لآدم وابتلاء لعزيمته، أمام الإغراء، وحبّ الاستطلاع، الذي هو غريزة قوية عاملة فيه.. وهذا ما أحبّ أن أفهم عليه قوله تعالى: «وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» (115: طه) وننظر، فنجد غريزة حب الاستطلاع أقوى غريزة متمكنة فى طفولة الإنسانية بنوع خاص، كما هى متحكمة فى طفولة الأطفال! وطفولة الإنسانية كلها مندسة فى كيان «آدم» .. أول تباشير النوع البشرى فى هذا الوجود! ولهذا، فإن هذا النهى الذي تلقاه آدم من ربّه، عن الاقتراب من تلك الشجرة خاصة دون مثيلاتها، قد وقع من نفس آدم موقعين: 1- موقع الخوف من الجهة التي ألقت إليه بهذا النهى، والحذر من أن يخالف ما نهى عنه. 2- الرغبة الصارخة فى مداناة هذه الشجرة، والتعرف عليها، وعلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 ما يكمن فيها، استجابة لغريزة حبّ الاستطلاع التي ألهبها هذا النهى، وأيقظها فى كيانه. ثم إلى جانب هذه الرغبة الصارخة إلى مقاربة الشجرة، كانت وسوسة إبليس لآدم، وإغراؤه له، الأمر الذي عجّل بخطوات آدم إلى الشجرة، وسيره حثيثا إليها.. ولو لم يقم إبليس من وراء آدم، يغريه بالشجرة، ويدفعه إليها، لسار إليها وحده، ولبلغها، ولأكل منها! ولكن لا يكون هذا إلا بعد زمن متراخ عن هذا الوقت الذي اقترب فيه بالفعل من الشجرة، وأكل منها!! هكذا الإنسان، وهكذا الناس، يتحدّون كل سلطان يقيد نوازعهم، ويتسلط على إرادتهم، ولو كان ذلك لخيرهم وإسعادهم. ولهذا فإنى أحب أن أذكر هنا قوله تعالى: «خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ» (37: الأنبياء) وقوله جل شأنه: «وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً» (28: النساء) كما أحب أن أفهم هاتين الآيتين الكريمتين على أنهما تكملان الصورة التي خلق عليها آدم، وأن إغراء إبليس له قد عجل بظهور الإنسان فى آدم، وفى إنضاج ثمرته قبل أوانها!! فمنذ انتهى آدم إلى الشجرة، وذاق من ثمرها، بعد هذا الصراع العنيف بينه وبين نفسه- أدرك أنه جنى جناية غليظة، كما أدرك أنه سيلقى جزاء ما اقترف.. وهنا يتنبه إلى وجوده، فيرى أنه مخلوق ذو إرادة، يستطيع بها أن يزن أموره، وأن يتقدم أو يتأخر، بوحي من ذاته، وأنه لم يعد شيئا من أشياء الوجود التي لا تشارك فى نسج حياتها، وفى صنع قدرها، وهنا يتنبه إلى أنه عار مكشوف العورة كالحيوانات السائمة، الأمر الذي لم يكن يراه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 قبل، أو ينكره، ثم لم يكن فى مقدور عقله وحيلته- بعد أن عرف أنه عريان- أن يسعفاه بأكثر من ورق الشجر، ليستر به سوأته.. تماما كما يفعل الآدميون من سكان الأدغال، حين ينتقلون من طور العرى الخالص إلى طور التستر بأوراق الشجر.. إنهم هم «آدم» وإن تأخر بهم الزمن آلاف السنين أو ملايينها!! يقول الفيلسوف المسلم «محمد إقبال» : «فالمعصية الأولى للإنسان، كانت أول فعل له، تتمثل فيه حرية الاختيار، ولهذا تاب الله على آدم، كما جاء فى القرآن، وغفر له. «وعمل الخير لا يمكن أن يكون قسرا، بل هو خضوع عن طواعية للمثل الأخلاقى الأعلى، خضوعا ينشأ عن تعاون النظرات الحرة المختارة، عن رغبة ورضى! «والكائن الذي قدّرت عليه حركاته كلها، كما قدّرت حركات الآلة، لا يقدر على فعل الخير! ثم يمضى قائلا: «وعلى هذا، فإن الحرية شرط فى عمل الخير. «ولكن السّماح بظهور ذات متناهية لها القدرة على أن تختار ما تفعل، بعد تقدير القيم النسبية للأفعال الممكنة لها- هو فى الحق مغامرة كبرى، لأن حرية اختيار الخير، تتضمن كذلك اختيار عكسه! ثم ينهى إقبال هذا الموقف بقوله: «ربما كانت مغامرة كهذه هى وحدها التي تيسر الابتلاء والتنمية للقوى الممكنة لوجود خلق: «على أحسن تقويم» ثم رددناه: «أَسْفَلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 سافِلِينَ» «1» وكما يقول القرآن: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً» . وهذا كلام واضح مشرق، لا يحتاج إلى تعليق، أو توضيح. الجنة التي أهبط منها آدم يكاد يجمع المفسرون على أن الجنة التي كان فيها آدم، قبل المعصية، هى جنة واقعة وراء الحس، أي أنها من تلك الجنات السماوية، التي وعد المتقون بها فى الآخرة. وقد أعان على هذا الفهم للجنة، أمور.. منها: 1- ما وقع فى التفكير الإسلامى من اختصاص آدم بهذا الخلق الذي انفرد به عن سائر المخلوقات.. مادة، وصفة!! 2- ما ورد فى القرآن الكريم من وصف تلك الجنة، وما كان يلقاه فيها من راحة ونعيم: «إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى، وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى» (117- 118 طه) . 3- كثرة ذكر الجنة فى القرآن الكريم، مرادا بها الجنة السماوية. ومع هذا، فإن هذه الأمور لا تعطى حكما قاطعا بأن جنة آدم كانت جنة سماوية، ولا تدفع القول بأنها كانت جنة أرضية، من تلك الحدائق والغابات المبثوثة فى بقاع شتى من الأرض، التي تخرج بطبيعتها من غير صنعة إنسان. أما تلك العناصر التي مهدت للقول بأنها جنة سماوية، فيمكن فهمها فهما آخر. «2»   (1) إشارة إلى قوله تعالى فى سورة التين: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ..» (2) تجديد التفكير الديني فى الإسلام، لإقبال.. ص 96. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 فأولا: ما يقال من اختصاص آدم بخلق تفرّد به من بين المخلوقات- هذا القول لم تشهد له آيات القرآن الكريم، وقد تحدثنا عن ذلك فيما مضى، وانتهينا إلى القول بأن آدم مخلوق أرضى، نبت فى الأرض، كما نبتت سائر المخلوقات التي دبّت عليها. ثانيا: الوصف الذي وصفت به جنة آدم بأن ساكنها لا يجوع فيها ولا يعرى، ولا يظمأ ولا يضحى- هذا الوصف يمكن أن يتحقق فى كثير من جنات الأرض، حيث يجد من يعيش فيها ما يكفى مطالب الحياة وضروراتها، خاصة وأن آدم- فى هذا الطور من حياته- لم يكن قد عرف نفسه، ولم يكن قد تعرف على ما فيه من إرادة، وأنه لم يكتمل فيه الإنسان الذي ظهر بعد أن أكل من الشجرة- فمطالبه، والحال كذلك، لا تعدو مطالب الرجل البدائى من سكان الأدغال.. وكل هذا حاضر عتيد بين يديه، لا يتكلف له جهدا. وثالثا: إذا كانت الجنة السماوية قد ذكرت كثيرا فى القرآن الكريم، فى معرض الجزاء الأخروى للمتقين، فإن الجنة الأرضية قد ذكرت أيضا بهذا الاسم.. «جنّة» فقال تعالى: «أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ» . (166: البقرة) .. وقال سبحانه وتعالى: «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً» (32، 33: الكهف) .. إلى آيات كثيرة، ورد فيها ذكر الجنة على هذا المعنى. والقرائن التي قدمناها فى هذا البحث تميل بجنة آدم إلى الجانب الأرضى وتقيمها على أي مكان من الأرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وقد سبق بعض قدماء المفسرين إلى القول بهذا الرأى، الذي ربما أنكره، وفزع منه كثير من علماء القرن العشرين! فهذا أبو مسلم الأصفهانى، صاحب التفسير، الذي كان عمدة كثير من علماء المسلمين وفقهائهم- يقول عن جنة آدم: «هى جنة من جنات الدنيا فى الأرض..» ثم هو يجيب على الإشكال الذي يعترض به المعترضون فى قوله تعالى لآدم وإبليس: «اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً» من أن هذا الهبوط يعنى نزولا من السماء إلى الأرض- يجيب على هذا الإشكال بقوله: «إن قوله تعالى: «اهْبِطُوا مِنْها» لا يقتضى كونها السماء، لأنه مثل قوله تعالى: «اهْبِطُوا مِصْراً» «1» . ويقول محمد إقبال عن تلك الجنة أيضا: «ليس هناك من سبب لافتراض أن كلمة جنة أي (حديقة) استعملت فى هذا السياق- سياق قصة آدم- للدلالة على جنة وراء الحسّ، يفترض أن الإنسان هبط منها إلى هذه الأرض. ثم يقول: «وطبقا للقرآن- وليس الإنسان غريبا عن هذه الأرض، إذ يقول الله تعالى: «وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً» - فالجنة التي ورد ذكرها فى القصة لا يمكن أن يقصد بها الجنة التي جعلها الله مقاما خالدا للمتقين. ثم يقول: «وعلى هذا، فأنا أميل إلى اعتبار الجنة التي جاء ذكرها فى القرآن تصويرا لحالة بدائية، يكاد يكون الإنسان فيها مقطوع الصلة بالبيئة التي يعيش   (1) من تفسير أبى مسلم، نقلا عن مجمع البيان فى علوم القرآن للطبرسى: جزء- 1 ص 167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 فيها، ومن ثمّ فإنه لا يحسّ بلذعة المطالب البشرية، التي تحدد نشأتها- دون سواها من العوامل- بداية الثقافة الإنسانية» «1» . الآيات (40- 43) [سورة البقرة (2) : الآيات 40 الى 43] يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) التفسير: بعد أن دعا الله عباده جميعا إلى الإيمان به، وأنكر على الكافرين كفرهم مع قيام الآيات الشاهدة على قدرة الله، وعلى سوابغ نعمه على الناس، وعلى خلقهم من تراب، وإخراجهم على تلك الصورة الكريمة من بين المخلوقات- بعد هذا خصّ بنى إسرائيل بالذكر مرة أخرى، لأنهم أهل كتاب، ولأنهم شهود بأن ما نزل على محمد هو من عند الله، وأن محمدا هو النبىّ العربي المنتظر، كما يعرفون ذلك من التوراة، عن يقين. ولكن اليهود مكروا بآيات الله، وكتموا الحق الذي يعلمونه، كما أخبر الله سبحانه وتعالى عنهم بقوله: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (146: البقرة)   (1) تجديد التفكير الديني فى الإسلام.. لمحمد إقبال ص 98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 والنعمة التي أنعم الله بها على بنى إسرائيل، هى بعث الرسل إليهم، يحملون الهدى والنور، ولكن القوم فى عمى وضلال، وفى شغل بالدنيا لإشباع أطماع قاتلة مسلطة عليهم، فكتموا ما أنزل الله، لقاء عرض زائل منّتهم به أنفسهم، من وراء تلك الشهادات المزوّرة التي يدفعون بها إلى كفار قريش، فيما يسألونهم عنه من أمر «محمد» باعتبار أنهم أهل كتاب، وأهل علم، كما قال الله تعالى عنهم «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا، أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً» (51- 52 النساء) . والعهد الذي دعا الله بنى إسرائيل إلى الوفاء به، هو ما أخذه الله على أهل الكتاب، وأهل العلم منهم خاصة- وهو أن يؤدوا هذه الأمانة- أمانة العلم- التي حملوها إلى الناس، وألا يكتموا منها شيئا، أو يحرفوها على غير الوجه الذي جاءت عليه.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا، فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ» (187: آل عمران) وكما يشير إليه أيضا قوله سبحانه: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ» (81: آل عمران) والمراد بالنبيين هنا النبيون وأتباعهم، فقد أخذ الله هذا الميثاق على النبيين ثم أخذه النبيّون على أتباعهم، وبذلك يتناصر المؤمنون، ويجتمعون على كلمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 الحق، وتحت راية الحق، وإن تباعدت أوطانهم، واختلفت أجناسهم. الآية: (44) [سورة البقرة (2) : آية 44] أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) التفسير: والخطاب هنا خاص لبنى إسرائيل، ولا تمنع خصوصيته من عموميته، وبهذا يكون الخطاب لكل من يحسن القول، ولا يحسن العمل، ويندب الناس إلى الخير، ويأمرهم به، ولا ينظر إلى نفسه، ولا يحملها على أخذ حظها من هذا الخير الذي يدعو إليه.. وفى ذلك ظلم للنفس، وخسران مبين. وقد ذمّ الله سبحانه من يسلك هذا المسلك المتناقض، من الناس، فقال تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ» والقول المراد هنا هو ما كان على طريق الحق والخير، أما ما كان على غير هذا الطريق فالنكول عنه هو الخير والبر. الآيتان: (45- 46) [سورة البقرة (2) : الآيات 45 الى 46] وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) التفسير: وهذه دعوة إلى المؤمنين، الذين استجابوا الله والرسول، من أهل الكتاب وغيرهم- أن يستعينوا على التزام الصراط المستقيم بالصبر والصلاة، إذ أن هذين الأمرين- الصبر والصلاة- يمدّان المؤمن بالقوة التي تعينه على احتمال تكاليف العبادة، ومشقة الجهاد ومدافعة شهوات النفس وأهوائها. وقدّم الصبر على الصلاة، لأنه مطلوبها الذي يعين عليها، وعلى أدائها فى أوقاتها.. وفى هذا يقول الله تعالى مخاطبا النبي الكريم: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها» (32: طه) وخصّت الصلاة وحدها هنا بالذكر، من بين العبادات، لأنها رأس العبادات جميعها، وملاك الطاعات كلها، فمن أداها كاملة، فى جلالها وخشوعها، سلكت به مسالك الخير والهدى، وحادت به عن طرق الضلال والآثام، إذ يقول الحق سبحانه: «وَأَقِمِ الصَّلاةَ، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» (44: العنكبوت) وقوله تعالى: «وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ» الضمير هنا يعود على الصلاة، وإنها لكبيرة- أي ثقيلة- إلا على ذوى القلوب المتفتحة للخير، المتقبلة له، أما ذوو القلوب القاسية المتحجرة، التي لا تنضح بخير، فأمرها ثقيل عليهم، لا يأتونها- إن أتوها- إلا فى تكاسل، وفتور، أو فى تكرّه وتبرّم! والذي يفيض على القلب الخشية والخشوع، هو الإيمان بالله، وبلقاء الله يوم الجزاء فى الآخرة، فذلك هو الذي يثبّت خطو المؤمن على طريق الإيمان، ويعينه على أداء الطاعات والعبادات! وفى قوله تعالى: «يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ» - فى هذا التعبير بالظن هنا، إشارة دقيقة إلى أن الإيمان بالبعث وبلقاء الله إنما هو إيمان بالغيب، لا يستند إلى مدرك حسّىّ، ومن ثمّ كان الإيمان به واقعا فى دائرة الظن المستيقن، أو اليقين المحفوف بالظن- ذلك هو أول درجات الإيمان- فإذا ما درج المؤمن فى طريق الإيمان، مستعينا بالصبر والصلاة اطمأن قلبه، وجلت عنه وساوس الظنون، كما يقول سبحانه: «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (28: الرعد) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 والعطف بالواو بين الإيمان بالله واطمئنان القلوب، يبدو هنا وكأنه عطف بثمّ، كما يبدو ذلك من نظم الآية، ومن النّبرة الموسيقية لواو العطف بعد الواو فى الفعل «آمنوا» .. حيث يقوم فاصل زمنى بين النطق بواو العطف، والتاء فى الفعل «تطمئن» .. هكذا: «آمَنُوا وَ.. تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ» . الآيتان: (47- 48) [سورة البقرة (2) : الآيات 47 الى 48] يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) التفسير: هذه النداءات المكررة من ربّ العزة إلى هذا القطيع الشارد، من بنى إسرائيل- إنما تشير إلى ما فى نفوس هؤلاء القوم من كنود، وما فى طباعهم من جفاء وجماح، وما ضمّ عليه كيانهم من جحود للإحسان، وكفران بالنعم وليست هذه النداءات المتكررة إلا لإقامة الحجة عليهم، ومظاهرة النذر لهم، حتى إذا أخذوا بعنادهم وجماحهم كان أخذهم شديدا أليما.. ومن أجل هذا أخذهم الله بالبأساء والضراء، وأوقع عليهم اللعنة، وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، فقال تعالى فى بنى إسرائيل: «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ» (13: المائدة) ويقول سبحانه: «ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ، وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ» (112: آل عمران) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وأما قوله تعالى: «وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ» فالمراد بالعالمين هم أهل زمانهم المعروفون لهم من الأمم المجاورة، إذ كانوا هم أهل كتاب، وفيهم الرسل والأنبياء، على حين كان جيرانهم وثنيين، على كفر وشرك وضلال. وممّا يشهد لهذا أن موسى عليه السلام وهو رأس بنى إسرائيل فى الكرامة والفضل عند الله- كان بمنزلة تلميذ، يتلقى العلم والمعرفة على يد عبد من عباد الله، كما فى قوله تعالى: «فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً» . (65- 66: الكهف) ويشهد لهذا أيضا شهادة قاطعة، قوله تعالى عن أمة الإسلام: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» (110: آل عمران) .. فهذا حكم قاطع بالخيرية المطلقة لهذه الأمة- فى مقام الهداية، وصدق الإيمان بالله- على سائر الأديان، وجميع الملل! الآيات: (49- 61) [سورة البقرة (2) : الآيات 49 الى 61] وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 فى هذه الآيات الكريمات تفصيل لتلك النعم، التي أنعم الله بها على بنى إسرائيل، والتي جاء إجمالها فى قوله تعالى: «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ، وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ» . ومع تتابع هذه النعم السابغة، وتوالى هذه الآلاء الكريمة، فإن القوم لم يلقوا هذا الإحسان إلا بالكفران، واللجاج فى العناد، والمحادّة لله ورسوله. ينجيهم الله من فرعون، وما رهقهم به من محن، وما رماهم به من بلاء، حيث كان يذبّح أبناءهم، ويستحيى نساءهم بما يدخل عليهم من جنده من استخفاف بحرماتهن، وهتك لأستارهن، مما يجرح حياء المرأة، ويغرق وجه الحرة بماء الخجل! ويكرم الله نبيهم موسى، فينزله فى رحاب ضيافته أربعين ليلة، يناجيه فيها، ويوحى إليه بآياته وكلماته ... «وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» والكتاب هو التوراة، والفرقان من عطف الصفات، فهو كتاب وهو فرقان، يفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، وما لله وما لخلق الله! ولكن تأبى طباعهم النكدة أن تعلو إلى مشارف هذا النور، بل هى رابضة على التراب، ترعى مع البهائم، وتهيم فى أودية الضلال.. فيتخذون من العجل إلها معبودا من دون الله! ويتلقّى هؤلاء المناكيد العقاب الطبيعي من الله، فيأمرهم أن يقتلوا أنفسهم، فتلك نفوس لا حرمة لها، بعد أن نزلت إلى هذا المستوي الحيواني، بل ونزلت عن هذا المستوي، فوضعت جباهها تحت أقدام الحيوان، تعفّر جبينها بالتراب عابدة ساجدة له. ويتسلط القوم بعضهم على بعض، ويضرب بعضهم رءوس بعض، كما تتناطح الوعول، أو كما تتناهش العقارب والحيات! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 ولا تنفع فى القوم هذه المثلات، ولا تقوم لهم منها شواهد العبر والعظات، وإذا الذين رحمهم الله منهم من هذه المحنة ونجاه من القتل لا يزالون فى ريبة من ربّهم، وفى شك من معبودهم، فيجيئون إلى موسى بهذا الطلب العجيب: «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» وهم بهذا يكشفون عن بلادة حسّهم، وطفولة مداركهم، بحيث لا يتعاملون مع الحياة إلا بما يلامس حواسّهم، ويجبه أبصارهم، أمّا ما يستشفه الوجدان، ويتمثله الحدس والخيال فليس لهم حظ منه، ولا تجاوب معه.. إنهم لم يستطيعوا أن يروا الله فى آياته التي تبدو فى ظاهر الموجودات وباطنها، أو أن يشهدوه فيما يجريه الله تعالى على يد موسى عليه السلام، من معجزات ناطقة بقدرة الله، وبسلطانه المتمكن فى كل ذرة من ذرات الوجود، حتى لقد آمن سحرة فرعون بين يدى موسى من غير دعوة إلى الإيمان، وهم منه فى وجه خصومة بادية وعداوة متحدية، بل لقد اضطر فرعون إزاء سطوة المعجزة أن يقول: «آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل» .. ولكن القوم رجال فى مساليخ أطفال، لا يكادون يخطون على طريق الهدى خطوة أو بضع خطوات حتى يتعثروا ويسقطوا فى التراب والوحل! وكان من إعناتهم لنبيهم موسى، وإلحاحهم عليه، فى ثرثرة كثرثرة الصبيان، ولهفة كلهفة الأطفال- أن طلب موسى من ربّه أن يراه حتى يراه معه هؤلاء الأغبياء، كما جاء فى قوله تعالى على لسان موسى: «وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ، قالَ لَنْ تَرانِي، وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي، فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا، وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً» (143: الأعراف) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وكذلك صعق القوم الّذين كانوا معه، وكانت عدتهم سبعين، وقع عليهم الاختيار، ليكونوا شهودا عند القوم بأنهم رأوا الله جهرة! وفى هذا يقول الله تعالى: «وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا، فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ» (155: الأعراف) وقد كاد يكون إجماع المفسرين على أن البعث فى قوله تعالى: «ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» - هو إحياؤهم بعد أن أخذتهم الصاعقة، وأن كلمتى البعث والموت هنا مجازيتان فى مقابل اليقظة والنوم، كما فى قوله تعالى «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» (42: الزمر) والأولى- عندى- أن يحمل المعنى على ظاهر اللفظ، فيكون الموت موتا حقيقيا، والبعث بعثا حقيقيا أيضا، أي بعث الآخرة! ويشهد لهذا الوجه، العطف بثم، فى هذه الآية «ثم بعثناكم من بعد موتكم» كما يقوّيه أيضا ما جاء لسان موسى فى قوله تعالى مخاطبا ربّه: «لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ» ! فلو أنهم عادوا إلى الحياة مرة أخرى، لما كان لموسى أن يسأل ربه ما سأل. وأحسب أن الذي حمل المفسّرين على القول بإحياء القوم بعد أن أخذتهم الرجفة، حتى أعيدوا إلى الحياة الدنيا مرة أخرى- هو قوله تعالى فى خاتمة الآية: «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» كأنّ استحقاق الشكر لا يكون إلا عن البعث الدنيوي، وكأن البعث الأخروى ليس بالنعمة المستأهلة للحمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 والشكر، وهذا غير صحيح، فالحياة على أية حال من الأحوال خير من العدم والله سبحانه وتعالى يقول: «يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ» (52: الإسراء) والمراد بالدعوة هنا الدعوة إلى الحشر، التي يستجيب لها الأموات جميعا بالحمد لله رب العالمين. ثم إن مجىء الآيات بعد هذا خطابا عاما لبنى إسرائيل، معدّدة النعم التي أنعم الله بها عليهم، مذكرة بالبعث بين عرض هذا النعم- فيه إيقاظ للشعور بيوم الجزاء، والعمل له، وتغليظ للمنكرات التي يقترفها القوم، فى مواجهة هذه النعم الجليلة المتتابعة عليهم. وفى قوله تعالى: «وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ، وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى، كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ، وَما ظَلَمُونا، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» .. عرض لبعض هذه النعم.. ففى التّيه الذي رماهم الله به فى الصحراء، وكتبه عليهم أربعين سنة، لم تتخلّ عنهم رحمة الله، فساق إليهم الغمام ليظلّهم من وقدة الشمس، ولفح الهجير، وأرسل عليهم المنّ والسلوى، طعاما لا يتكلفون له عملا، فالمنّ مادة عسلية تفرزها بعض الأشجار، والسلوى طيور طيبة الطعام هى السّمانى. ولكن هذه الألطاف الرحمانية، وهذا الطعام الطيب المسوق بقدرة الله، المحفوف برحمته لم تستسغه هذه النفوس الحيوانية، فعافته وتنكرت له، وطلبت ما يملأ معدة الحيوان.. من بقل وقثاء، وحنطة وعدس وبصل!، فكان أن أجابهم الله إلى ما طلبوا، وساقهم سوق الحيوان إلى المرعى الذي يجدون فيه الطعام الذي اشتهوا!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 «وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ، فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً، وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً، وَقُولُوا حِطَّةٌ، نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ» . والقرية التي دعوا إلى دخولها، ليأكلوا منها حيث شاءت لهم أنفسهم، هى قرية لم يذكر القرآن اسمها، وإنما أشار إليها بقوله: «هذِهِ الْقَرْيَةَ» فهى معروفة للقوم، ولعلها بيت المقدس، كما يرى ذلك أكثر المفسرين، ولعل مما يقوّى هذا الرأى أنهم أمروا بدخولها على صفة خاصة، وبمراسيم محددة تؤدّى لها.. «ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً، وَقُولُوا حِطَّةٌ» .. هكذا ينبغى أن يكون دخولهم هذه القرية.. أن يدخلوا الباب ساجدين، وأن يقولوا عند دخولهم: حطة لذنوبنا، أي مغفرة لها.. ومما يقوى الرأى بأن القرية المشار إليها هنا هى بيت المقدس، أن بابها المأمور بدخوله فى هذه الآية قد ورد فى قوله تعالى: «قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ، فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ» (23: المائدة) . وفى قوله تعالى: «فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ، فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» . ما يكشف عما فى طبيعة القوم من عناد، وإنه عناد الأطفال.. يأبون إلا ركوب رءوسهم، والاتجاه إلى غير ما يوجّهون إليه، ولو كان فى ذلك تلفهم وهلاكهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 فهذه كلمات علوية سماوية من ربّ العزة، جاءتهم على لسان نبى كريم: «وَقُولُوا حِطَّةٌ» . ومع هذا فقد سوّلت لهم أنفسهم الخبيثة أن يغيّروا ويبدلوا من صور هذه الكلمات، لا لشىء إلا لإرضاء نزعة العناد الصبيانى فيهم، وإشباع غريزة التخريب الطّفلى عندهم.. «فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ» إنهم لم يستطيعوا أن يحملوا أمانة الكلمة، فكيف بأمانة العمل؟ ولهذا كانت الصفة الغالبة عليهم: نقض المواثيق، والتحلل من العهود والعقود.. وكان ذلك هو الوصف الملازم لهم فى القرآن الكريم: «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ» (12 المائدة) «يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ، وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ» : (27: البقرة) . وقوله تعالى: «وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ، كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» . تلك آية من آيات الله البينة، ونعمة من نعمه الجليلة، على هؤلاء القوم الشاردين عن موارد الحق والهدى.. تتحرق أكبادهم عطشا فى هجير الصحراء، فتطلع عليهم رحمة الله، فيما يتلقى موسى من أمر ربه: «اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ» فيتدفق الماء عذبا زلالا، من اثنتي عشرة عينا، بعدد قبائلهم. وانظر كيف أبت عليهم نفوسهم المتبلدة الضيقة أن تتآلف جماعاتهم فى وجه تلك المحن التي يلاقونها فى هذا التّيه، فتعيش كل جماعة منهم فى محيطها.. اثنتي عشرة جماعة!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 هكذا قطّعوا أمما وهم فى هذا التيه، وهكذا هم يقطّعون أمما فى الأرض، ويتيهون فى الأمم والشعوب إلى يوم الدين. وفى قوله تعالى: «فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً» إشارة إلى تدفق الماء بقوة وغزارة أكثر مما فى قوله تعالى فى سورة الأعراف «فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً» .. فالانبجاس دون الانفجار، قوة وأثرا. وهذا الاختلاف فى التعبير إنما هو لاختلاف الحال، فحين ضرب موسى الحجر كان الانبجاس أولا، ثم تلاه الانفجار.. فكل من الانبجاس والانفجار وصف لحال من أحوال ضربة العصا، وأثر من آثارها.. وذلك وجه مشرق من وجوه الإعجاز، فى التكرار الوارد على الأحداث، فى القصص القرآنى، كما سنعرض له، بعد، إن شاء الله. وفى قوله تعالى: «وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ» . حكم قاطع على هذه الجماعة الشاردة المعربدة، بأن تشتمل عليها الذلة والمسكنة باطنا وظاهرا، أي فى كيانها الذاتي، وفى واقع الحياة المسلطة عليها، فقد كان العقاب الطبيعي لهذا الغرور المستولى عليهم أن يقتل الله فيهم معانى الإنسانية الكريمة، وأن يميت فى نفوسهم كل معالم القوة والرجولة، ثم يسلّط عليهم- مع هذا- من خارج أنفسهم قوى تسيمهم الخسف والهوان، كما يقول تعالى: «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ» (167: الأعراف) .. وهذا هو معنى ضرب الذلة والمسكنة عليهم، فالضرب بالشيء على الشيء، هو إحاطته به واشتماله عليه، كما تضرب الخيمة على من تحتها! وفى قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ» بيان لجرائمهم التي استحقوا عليها هذا العقاب الأليم.. فقد كفروا بآيات الله، وجحدوا النعم التي غمرهم الله بها، وغيّروا وبدّلوا فى كلمات الله، حسب ما أملت عليهم أهواؤهم، وسوّلت لهم أنفسهم، ثم تمادوا فى كفرهم وضلالهم فمدوا أيديهم بالأذى إلى رسل الله، الذين حملوا إليهم ما حملوا من نعم الله، وبلغ بهم الأمر فى هذا إلى أن استباحوا دم بعض هؤلاء الأنبياء!. وفى قوله تعالى: «وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ» ما يكشف عن طبعهم اللئيم، الذي يرى الحق رأى العين، فيكتمه وينكره، ويقيم الباطل مقامه.. فهم إذ يقتلون من قتلوا من الأنبياء، يعلمون عن يقين أنّ هؤلاء الذين مدّوا إليهم أيديهم بالقتل، هم أنبياء الله، ولكن جاءوهم بما لا تشتهى أنفسهم، وعلى غير ما كانت تراودهم به أحلامهم.. فالمسيح- مثلا- الذي وقفوا منه هذا الموقف اللئيم، والذي دبروا له القتل صلبا، إنّما أنكروه وأنكروا آياته المشرقة إشراق الشمس فى يوم صحو، لأنه جاءهم بغير ما كانوا يحلمون به، من مسيح بعيد إليهم ملك سليمان، ودولته، ويمكّن لهم فى الأرض على رقاب النّاس، إذ جاءهم بالدعوة إلى التخلص من هذا الداء المتمكن فيهم، وهو حبّ الحياة، والاستكثار من متاعها.. فرفضوه، ثم أنكروه، ثم مكروا به ليصلبوه، ولم تسترح أنفسهم إلا بعد أن أيقنوا أنهم صلبوه.. وفى هذا يقول الله تعالى: «أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ، فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ» (87: البقرة) . والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ» أي إلا بما يوجب قتلها، كأن تقتل نفسا عمدا، أو تحادّ الله ورسوله والمؤمنين.. ورسل الله لا يكون ذلك منهم أبدا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وأنهم إذا أنكر عليهم أحد أنّهم أنبياء، فذلك أمره إليه، ووزره واقع عليه، ولكن إذا ذهب به هذا الإنكار إلى حدّ الاعتداء على النبىّ وقتله، فإنه حينئذ يكون معتديا، إذ قتل نفسا بغير الحق، لأنها لم ترتكب ما يوجب القتل!. آية (62) [سورة البقرة (2) : آية 62] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) التفسير: فى تعداد هذه النعم التي تفضل الله بها على بنى إسرائيل ما يوحى بأن فضل الله مقصور على جماعة بعينها من خلقه، بل ربما أثار ذلك فى بنى إسرائيل شعورا بالتعالي على الناس، كما سوّلت لهم بذلك أنفسهم، وانطبع به سلوكهم فى الحياة!. وتلك ضلالة وافتراء عظيم على الله، فالخلق جميعا خلق الله، والناس كلهم عباده، خلقهم جميعا من نفس واحدة، فكيف يكون بينهم تفاضل عنده، بغير ما يستوجب الفضل، ولا فضل إلا بالعمل الذي تختلف به موازين الناس. وتتباين به منازلهم عند الله؟ فالذين آمنوا، أي الذين سبقوا بالإيمان ليس لهم أن يستأثروا برحمة الله، وأن يحجبوها عن عباده الذين لم يؤمنوا بعد- بل رحمة الله واسعة، وسعت كل شىء، وباب القبول للدخول فى رحابه مفتوح لكل قاصد!. فأى إنسان- على أية ملّة، وعلى أي دين- هو مدعوّ إلى رحاب الله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 فإن استجاب، وآمن بالله واليوم الآخر، وعمل صالحا، فله أجره عند الله، يوفّاه كاملا، كما يوفّاه المؤمنون جميعا، من كل أمة، ومن كل جنس! وهؤلاء المؤمنون جميعا- سابقهم ولاحقهم- لا خوف عليهم مما ينتظرهم من جزاء فى الآخرة، ولا حزن لما فاتهم من طاعات حين لم يسبقوا إلى الإيمان، فالإيمان يجبّ ما قبله!. وفى هذا ما فيه من رحمة واسعة من الله على عباده، واستنقاذ لمن قصّروا وفرطوا، ثم أرادوا أن يلحقوا أو يسبقوا. (الآيات 63- 66) [سورة البقرة (2) : الآيات 63 الى 66] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) التفسير: نعم ما أعظمها، وما أولاها بالتلقى بالشكر والولاء للمنعم.. ولكن أنّى للعمى أن يبصروا، وللصمّ أن يسمعوا؟. طلبوا إلى موسى آية يرون الله فيها، فجاءتهم الآية منذرة مفزعة.. رأوا الجبل الذي بين أيديهم يتحول إلى سقف مرفوع فوق رءوسهم، لا يمسكه شىء وظنوا أنه واقع عليهم، ففزعوا إلى موسى يطلبون الخلاص والرجوع إلى الله، وفى هذا يقول الله تعالى: «وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ» (17: الأعراف) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وفى قوله تعالى بعد ذلك: «خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» دعوة مجدّدة، بعد هذه الآية المجدّدة، إلى أن يقبلوا على الله، وأن يشدّوا قلوبهم إلى الكتاب الذي أنزل إليهم، وأن يذكروا ما فيه، فلعلّ ذلك يحيد بهم عن طريق الضلال الهائمين فيه، ويقيمهم على طريق الهدى الذي طالت غربتهم عنه. و «لعل» هنا الدالة على الترجّى، إنما يتوجه بها إلى المخاطبين، وإلى ما عندهم من استعداد لهذا الخطاب، فهم على رجاء من القبول، أو التوقف، أو النكوص على الأعقاب.. وهكذا كل صيغة رجاء واردة فى القرآن الكريم، إنما هى للمخاطبين ولموقفهم من فحوى ما خوطبوا به وليس لهذا الترجّى متوجّه إلى الله، الذي يرجى ولا يرجو. والقوم هنا لم يستجيبوا لتلك الدعوة، بل تولّوا ونكصوا على أعقابهم، ولكن الله أمهلهم، ولم يعجّل لهم العقاب، كما وقع لأسلاف لهم من قبل.. خالفوا أمر الله واعتدوا فى السّبت، فمسخهم الله قردة، وأنزلهم من مرتبة الإنسان إلى مرتبة الحيوان، فما أبشع تلك صورة وأخسّها، يعيشون فى صور القرود بمشاعر الإنسان، وإدراك الإنسان، وذلك هو العذاب، ولعذاب الآخرة أخزى وأوجع!. ولنا أن نذكر هنا، أن تحوّل هؤلاء الممسوخين من الإنسان إلى القرد يمكن أن يستأنس به فى بحثنا الذي عرضناه من قبل، فى خلق الإنسان وفى تطوره فى الخلق، وأن الإنسان كما انتقل صاعدا من قرد إلى إنسان، كذلك ردّ نازلا من إنسان إلى قرد!. ولعلّ فى قوله تعالى: «خاسِئِينَ» ما يقوّى هذا الرأى الذي ذهبنا إليه.. إذ يقال فى اللغة: خسأ الكلب يخسأه خسأ: طرده، وخسأ البصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 يخسأ خسوءا: كلّ وأعيا، وخسئ الكلب يخسأ وانخسأ: انزجر وبعد، والخاسئ من الخنازير والكلاب: المبعد المطرود. ومعنى «خاسئين» مبعدين، مطرودين من عالم الإنسان، مردودين إلى عالم الحيوان، وإلى فصيلة القردة منه، التي هى أعلى مراتب الحيوان وأول مراتب الإنسان الحيوان!. الآيات (67- 74) [سورة البقرة (2) : الآيات 67 الى 74] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 التفسير: وهذا موقف آخر من مواقف العنت والعناد، من هؤلاء القوم مع الله، ومع آيات الله، حيث لا تزيدهم الآيات إلا كفرا، ولا يزيدهم النور إلا عمى. لقد قتل فى القوم قتيل فادّارءوا فيه: أي اختلفوا فى التعرف على قاتله، إذ رمى بعضهم بعضا به، ودفع بعضهم بعضا إلى موقف الاتهام فيه. ولجأ القوم إلى موسى يسألونه آية تنطق القتيل باسم قاتله، وهم يريدون بهذا أولا وقبل كل شىء، امتحانا لموسى، واستيقانا من دعواه أنه رسول الله، وكليم الله!. وتجىء آية الله من وراء ما يقدّر القوم، فتدور لها رءوسهم، وتضطرب لها عقولهم. يقول لهم موسى ما أمره الله به: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً» ! ويذهل القوم ويدهشون! ما للقتيل والتعرف على قاتله وهذه البقرة التي يؤمرون بذبحها؟ المسافة كما تبدو فى ظاهر الأمر.. بعيدة جدا، بين السؤال وجوابه، وبين المطلوب والأسباب الموصلة إليه! ثم إنهم طلبوا آية، فهل فى أن تذبح بقرة من البقر آية؟. ويرى القوم كأن موسى يعبث بهم، فيقولون له: «أَتَتَّخِذُنا هُزُواً» ؟ فيجيبهم: «أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ» - إن العبث لا يكون إلا عن جهل، ولا يقع إلا من جهّال، وهو نبى معصوم، توجهه السماء، فلا يضل ولا يهزل!! ولا يجد القوم فى هذا مقنعا، ويذهب بهم جهلهم وحمقهم إلى أن البقرة المطلوبة ليست مجرد بقرة، وإنما هى على أوصاف نادرة لا تتحقق إلا فيها، حتى يمكن أن تتخلّق منها الآية التي طلبوها.. هكذا فكروا وقدّروا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 «قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ؟» لقد جمعوا بين الجهل والسفاهة، فأبوا أن يقولوا «ادع لنا ربنا» وقالوا: «ادْعُ لَنا رَبَّكَ» وكأنه ربّ موسى وليس ربا لهم! ومع هذا فقد أجابهم الله إلى ما طلبوا: «قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ، عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ» أي هى من أواسط البقر فى سنها، ليست كبيرة ولا صغيرة.. والفارض هى التي ولدت مرات كثيرة، والبكر، التي لم تلد بعد.. فهى وسط بين هذين الطرفين. وفى قوله تعالى: «فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ» تنبيه لهم.. إن كانوا يعقلون.. أن ينتهوا عند هذا، وألا يطلبوا وراء هذه الصفات صفات أخرى.. ولكن يأبى القوم إلا أن يلبسوا بقرتهم أثوابا لا ترى على كثير من البقر.. فعادوا إلى موسى يسألونه: «ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها» وفى كل مرة يقولون «ربّك» ولا يقولون «ربّنا» ويجيبهم الرحمن الرحيم إلى ما طلبوا: «إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ» ولم يدعهم فى هذه المرة إلى أن يفعلوا ما يؤمرون، بل تركهم وما تختار لهم أنفسهم من ركوب هذا المركب الخشن، حتى تحفى أقدامهم وتنهدّ قواهم! ويعودون إلى موسى مرة أخرى: «ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ، إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا» !! والبقر هو البقر.. يشبه بعضه بعضا، ولكنهم يريدونها بقرة لا شبيه لها.. بقرة خلقها الخالق لهذا المطلب، ولم يخلق مثلها..! ويجيئهم أمر الله: «إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ، وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ، مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها» أي إنها بقرة لم يذللها العمل، بل هى بقرة بريّة مرسلة، لم تستخدم فى حرث الأرض، ولا فى سقى ما يحرث من الأرض، ثم هى بريئة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 من كل عيب يدخل عليها فى أعضائها، أو فى لونها: «مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها» . وهنا يجد القوم أن بقرتهم قد لبست أوصافا لا تكاد تقع إلا فى القليل النادر، فيجدّون فى البحث عنها، وهم سعداء بهذا الجري اللاهث وراءها.. ويلقون إلى موسى بتلك الفرحة التي ملأت صدورهم، قبل أن يعثروا عليها «الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ» !! الآن فقط! كأنه إنما كان فى كل ما جاءهم به من قبل عن هذه البقرة وغيرها، ليس مما هو حق، بل باطل وعبث! «فذبحوها، وما كادوا يفعلون» أي أنهم لم يكادوا يجدون بقرة على تلك الصفة، أو أنهم حين وجدوها صغرت فى أعينهم، فكادوا ينصرفون عنها، ويطلبون أوصافا أخرى لبقرة غيرها! فانظر كيف يستبدّ بهم اللجاج والعناد، وكيف يوردهم لجاجهم وعنادهم موارد التّيه والضلال، ولو أنهم امتثلوا ما أمروا به من أول الأمر، وعمدوا إلى أية بقرة من البقر لكانوا قد أدوا ما أمروا به، وكفوا أنفسهم مئونة هذا العناء. وإذ يذبحون البقرة يفتحون أعينهم وأفواههم إلى موسى قائلين له: ماذا بعد ذلك؟ ويجيئهم الجواب: «فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى، وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» . ويضرب الميت ببعض لحم البقرة، فتعود إليه الحياة، وينطق باسم قاتله، ثم يعود إلى عالم الموتى، إلى يوم يبعثون! بقدرة الله قام هذا الميت، وليس للبقرة ولا لذبحها وضربه ببعض لحمها علاقة بهذه الحياة التي عادت إليه، فقدرة الله فوق الأسباب جميعها، ولكن مطلوب من الناس أن يعملوا، وأن يتحركوا إلى الغايات التي ينشدونها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وأن يعلموا أن الأسباب الظاهرة التي يتخذونها طريقا إلى المسببات، ليست هى العاملة فى النتائج التي يحصلون عليها، فقد يقدّر المرء أسبابا يراها منتجة لثمرة بعينها، فيقع الأمر على خلاف ما قدر.. فالتلازم بين الأسباب والمسببات مرهون بإرادة الله، وبقدرة الله. والملاحظ فى هذه القصة- قصة البقرة- أن النظم القرآنى لها، قد قلب أحداثها، فقدّم ما حقه التأخير، وأخر ما من شأنه أن يقدم.. إذ أمر القوم بذبح البقرة بعد أن وقع حادث القتل، وبعد أن تراموا بالتهم فيه، ولكن- وكما يبدو من سياق النظم- أمروا بذبح البقرة أمرا يبدو كأنه لا لغاية يقصد لها، ثم أخذوا فى اللجاج والتخبط إلى أن عثروا على البقرة التي استكثروا من أوصافها، وذبحوها.. وهنا، ولأول مرة- تتضح الصلة بين ذبح البقرة وهذا القتيل الذي يؤمرون بضربه ببعضها! وهذا لون من ألوان النكال بالقوم، عقابا لعنادهم وكفرهم بآيات الله، إذ يرمون بهذا التيه، حتى وهم فى آية من آيات الله، لأنهم سيمكرون بها كما مكروا بغيرها مما سبقها، أو مما سيلحق بها، وهذا ما أخبر الله سبحانه وتعالى عنه، بعد تلك القصة مباشرة: «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً» إنها قلوب لا تلتقى مع الخير أبدا، ولا تنتفع به إذا هو طاف بها وطرق بابها!! الآيات: (75- 77) [سورة البقرة (2) : الآيات 75 الى 77] أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 التفسير: فيما عرض الله سبحانه وتعالى من النعم التي أنعم بها على بنى إسرائيل، ما قد يدخل منه على الشعور بأن القوم أهل لهذه النعم، وأن الله قد اصطفاهم دون عباده، إذ ساق إليهم تلك النعم وغمرهم بها، ولكن الأمر على خلاف هذا، فإنه ما ذكر القرآن نعمة أنعمها الله على بنى إسرائيل إلّا جاء بعدها التنديد بهم والوعيد لهم، واللعنة عليهم، بسبب مكرهم بآيات الله، وكفرهم بنعمه، وما زالت نعم الله تتوالى عليهم، وما زالت نقمه تنصبّ عليهم، حتى خرجوا من عالم الإنسان إلى عالم القردة والخنازير.. وهكذا، على قدر النعم يكون الابتلاء، فمن حفظها حفظه الله، ومن ضيعها ضيعه الله!! وفى أعقاب قصة البقرة ذكر الله ما فى قلوبهم من قسوة دونها قسوة الحجارة وبلادتها، وإنها لقسوة وبلادة أصبحت جبلّة وطبيعة فيهم، بحيث تنقلت فى أجيالهم إلى أن التقت بعض ذراريهم بالدعوة الإسلامية، وبصاحب الدعوة، النبىّ الأمىّ، الذي يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل.. وإذا هؤلاء الأبناء ليسوا خيرا من آبائهم، وإنه لا مطمع فى استجابتهم للدعوة الإسلامية، ولا رجاء فى انتفاعهم بها.. إنهم يمكرون بآيات الله كما مكر آباؤهم بها.. يسمعون كلام الله، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه، أي إنهم يحرفون عن عمد ويضلون على علم، وتلك هى قاصمة الظهر، فلو أنهم حرّفوا عن سهو أو أخطأوا عن جهل، لكان لهم وجه من العذر، ولكنهم عن عمد حرفوا، وعلى علم ضلّوا وأضلوا.. ثم إن لهم مكرا آخر مع الدعوة الإسلامية، عدا التحريف فيها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 والتشويش عليها.. إنهم يلقون المؤمنين بوجه المنافقين، يقولون لهم آمنا بما تؤمنون به، وذلك منهم على سبيل الاستهزاء المتستر وراء نفاقهم المفضوح، ثم إن لهم مكرا غير هذا المكر أيضا، حين يخيل إليهم جهلهم أن دعوة الإسلام قائمة على خواء، وأنها تتلمس من خارج محيطها القوى التي تسندها وتشدّها، ولهذا فهم يتناجون ويتناصحون: ألا يتحدثوا إلى المسلمين بما عندهم من علم التوراة وأخبارها، حتى لا يتخذ المسلمون من ذلك حججا يقيمونها فى وجه اليهود! وكذبوا وضلوا، فما قامت الدعوة الإسلامية إلا على الحق، فمن الحق منزلها، وبالحق نزلت، رحمة وهدى للناس! الآيتان (79- 80) [سورة البقرة (2) : الآيات 78 الى 79] وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) التفسير: والقوم فريقان: عامة، وخاصة، أو أميون، وعلماء.. والأميون- شأنهم فى كل أمة- مقودون لمقولات العلماء وأصحاب الفتيا فيهم، فإن ضلّ العلماء أو انحرف المفتون، عظم البلاء، وعمّ الخطب، فشمل الأمة كلها، ولهذا أخذ الله الميثاق على العلماء أن يؤدّوا أمانة ما حملوا من علم، فيفتحوا للناس طرق الهداية، ويكشفوا لهم سبل الرشاد: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ (87 آل عمران) وعلماء بنى إسرائيل هم دعاة غواية وضلال فيهم، لا يؤدّون أمانة العلماء بينهم، بل يجيئون إليهم بالحق متلبّسا بالباطل، وبالهدى مختلطا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 بالضلال. «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ» .. «فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ» الآيات (80- 82) [سورة البقرة (2) : الآيات 80 الى 82] وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82) التفسير: ولا يقف سفه اليهود عند حدّ، فهم يفترون على الله الكذب، إذ يتخذون لأنفسهم مكانا عنده، تمليه عليهم أهواؤهم، حتى لكأنهم بحيث لهم سلطان على الله، ومشيئة فوق مشيئته. قالوا: نحن أبناء الله وأحبّاؤه. فكان قول الحق لهم: «فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ؟ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ» (18: المائدة) «وَقالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً» فكان إنكار الحق عليهم بقوله: «أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ.. أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟» وهذا القول من اليهود ليس بلسان المذنبين منهم، ليهوّنوا على أنفسهم اقتراف المنكر، واستساغة تعاطيه وإدمانه، وإنما هو على لسان الشريعة التي افتروها على الله، وخصّوا بها أنفسهم.. إن أشرارهم وعصاتهم لن يعاقبوا كما يعاقب سائر الناس، وإنما- إذ كانوا يهودا- لهم حكم خاص، فلا تنالهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 النار إلا مسّا، ولأيام معدودة.. هذا هو حكم العصاة والمجرمين والملحدين منهم، الذين غرقوا إلى أذقانهم فى الإثم والضلال!! وبهذا التفكير الآثم، الذي أدخلوه مدخل الشريعة. استطاعوا أن يترضّوا أهواءهم، وأن يشبعوا أطماعهم، وأن يركبوا كل منكر، ويأتوا كل قبيح، فى جانب الله، وفى حق الناس! وكلّا، فإن المحسنين منهم- وقليل ما هم- يلقون جزاء الإحسان بالإحسان، وإن المسيئين منهم- وما أكثرهم- فالنار مثوى لهم: «مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» . هذا هو حكم الله، يقضى به بين عباده: يهودا كانوا أو غير يهود، والخطيئة التي تحيط بالإنسان وتحبط عمله هى الكفر بالله، نعوذ بالله منه، ولكن اليهود لا يرون فى اليهودىّ إذا كفر بالله أن يلقى مصير الكافرين.. لا لشىء إلّا لأنه يهودى! وهذا هو الذي جعل اليهود يعزلون أنفسهم عن الناس، ويحجزون أنفسهم عن الاختلاط بهم، حتى يحتفظوا بهذا الامتياز المفترى، الذي يرجع أولا وآخرا إلى النسب، لا إلى الإيمان والتقوى! «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» (41: المائدة) آية: (83) [سورة البقرة (2) : آية 83] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 التفسير: هذا هو ميثاق الله الذي أخذه على عباده، كما حملته شرائعه، وبلغه رسله، وهو الميثاق الذي أخذه الله على بنى إسرائيل. ولكن للقوم دون عباد الله جميعا موقف لئيم ماكر، يكشفه قوله تعالى: «ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ» . فهم جميعا يلقون آيات الله معرضين عنها، يلقونها غير آبهين لها، ولا ملتفين بوجودهم كله إليها.. ثم إذا هم بعد ذلك فريقان: الفريق الأكثر الذي يكاد ينتظم الجماعة كلها، لا يحتمل حتى هذا الموقف المنحرف مع آيات الله، بل يولّى عنها، معطيا ظهره إياها.. وفئة قليلة هى التي تستطيع أن تمسك نفسها على هذا الموقف المنحرف! إن أحسن اليهود حالا، وأقربهم إلى الله، لا يسكن الإيمان قلوبهم، ولا تجد الخشية مكان الطمأنينة فى كيانهم، إنهم على طريق معوج منحرف، لا يستقيم بهم أبدا. ومن إعجاز القرآن هنا أنه وصف اليهود الوصف الكاشف الملازم لهم، فما وصفوا فى القرآن بوصف ينقض هذا الوصف فى أي حال، وفى أي موقف.. علماؤهم يبدّلون ويحرفون ويشترون بآيات الله ثمنا قليلا، وجميعهم- عامة وعلماء- يحملون قلوبا قاسية، هى كالحجارة أو أشد قسوة.. فسبحان من هذا كلامه.. «وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» . الآيات: (84- 86) [سورة البقرة (2) : الآيات 84 الى 86] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 التفسير: وهذا ميثاق آخر أخذه الله على بنى إسرائيل: أن يحترموا حرمات الدماء والأموال، فلا يسفك بعضهم دم بعض، ولا يعتدى بعضهم على ما بيد بعض من أموال وديار.. وإذ كان هذا الميثاق عاملا ماديا يحرس أمنهم وسلامتهم، فقد أقروا به، وشهدوا آثاره حين استجابوا له، وعملوا به، فهو قانون يعطى ثماره عاجلة غير موجّلة. وانظر كيف جاءت فاصلة الآية هنا: «ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ» حيث يقتضى الأمر تسليما ورضى به من كل إنسان، إذ فيه أمنه وسلامته.. على حين جاءت الفاصلة فى الآية التي قبلها، وهى التي تحمل الميثاق بالإيمان بالله واليوم الآخر، والإحسان إلى الوالدين وذوى القربى والمساكين وابن السبيل، والإحسان إلى الناس بالقول مع الإحسان إليهم بالعمل، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة- جاءت الفاصلة هناك هكذا: «ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ» حيث لا تلقى هذه الدعوة استجابة ورضى إلا من قلوب متفتحة للحق، ونفوس متقبلة للخير. وحظ القوم- أعنى اليهود- من هذا وذاك قليل، فلا يهشّون لمثل هذه الدعوة، التي لا تضع بين أيديهم كسبا عاجلا، وثمرا ناضجا!! ومع أن القوم أقروا بهذا الميثاق الذي يضمن لهم صيانة دمائهم وأموالهم، وشهدوا آثاره الطيبة العاجلة فيهم- مع هذا، فإنّهم سرعان ما تغلب عليهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 شقوتهم، وتقهرهم نزواتهم الشريرة الكامنة فيهم، فينقضون هذا الميثاق: «ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ، وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ، تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ» . ومن عجب هؤلاء القوم أنهم إذ يخرجون فريقا منهم من ديارهم ظلما وعدوانا، فإنهم إذا وقع إخوانهم هؤلاء ليد أعدائهم وعرض عليهم فداؤهم من الأسر، قبلوا ذلك، وبذلوا لهم من أموالهم.. فكيف يلتقى هذا العمل الطيب، مع العمل الرديء الذي سبقه؟ كيف يضربون إخوانهم بأيديهم ويخرجونهم من ديارهم وأموالهم، ثم يعودون فيحررونهم من الرق، إذا أسروا؟ والأمر وإن بدأ متناقضا، إلا أنه مستقيم مع طبيعة هؤلاء القوم، التي تتحكم فيها الأنانية وحب الذات.. فالأخوّة عندهم ليست أخوة على إطلاقها، فى السرّاء والضراء، وإنما هى أخوّة ما جلبت نفعا ذاتيا، وحققت مصلحة خاصة، أما إذا لم يكن ذلك من معطياتها فهى أخوّة ذئاب، إذا جرح ذئب فيها لم يحملوه، بل أكلوه! هذا شأنهم مع وصايا الرسل والأنبياء، ومع كل ما يحمل إليهم من أمر أو نهى.. يتخيرون ما يرضيهم، ويعرضون عما لا يقع منهم موقع الرضا والقبول، على المستوي المادي، وفى حدود الدائرة الذاتية، التي يعيش كل منهم فيها بنفسه ولنفسه! ولهذا أنكر الله عليهم هذا الموقف اللئيم، وتوعدهم عليه بقوله: «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ، وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ؟ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.» والخزي الذي ينالهم فى هذه الدنيا. هو من تبدل مواقفهم فى الأمر الواحد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 حسب ما تمليه أحوالهم، وتقتضيه ظروفهم.. يأخذ أحدهم بالأمر اليوم، ثم إذا هو يردّه غدا، ثم يعود إليه، ثم يرده، وهكذا.. وليس من ضابط لهذا إلا المصلحة الخاصّة، والهوى الذاتي.. وهذا من شأنه أن يخزى الإنسان أمام نفسه، إن كان على شىء من الإحساس والشعور، وإلا فهو الخزي الذي ترميه به العيون الراصدة، لتقلّبه مع كل ريح.. وهذا هو أصل النفاق، ذلك الداء المتمكن فى اليهود، إنهم يتحركون دائما مع الريح المواتية لأهوائهم، المشبعة لنهمهم، دون التزام بمبدأ أو خلق، ودون رعاية لشريعة أو دين! (الآيات: 87- 90) [سورة البقرة (2) : الآيات 87 الى 90] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) التفسير: قصة بنى إسرائيل مع رسل الله، تكشف عن العناد الصبيانى الذي تنطوى عليه طبيعة القوم، فهم مع كل رسول مكرة معاندون، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 لا يجمعهم إليه رحم، ولا يمسك بهم معه إيمان.. فما لقى منهم أنبياؤهم إلا البهت والتكذيب، أو التطاول بالأذى والقتل.. ومن أساليبهم الخبيثة فى قطع الوسائل بينهم وبين حملة الهدى إليهم من أنبيائهم، أنهم إذا أعيتهم الحيل فيهم، وفضحتهم الحجج معهم، وضاقت عليهم سبل الإفلات من الآيات المشرقة التي تطلع عليهم من كل أفق- لا يتحرجون من أن يلصقوا بأنفسهم التّهم ويقولون فيما يقولون: «قُلُوبُنا غُلْفٌ» !!. هكذا هم حقّا، ولكن القوم يقولونها بألسنتهم لا عن اعتراف بالحق، ولا عن شجاعة فى كشف عيوب النفس بغية إصلاحها، ولكن يقولون ذلك تخابثا واحتيالا، ليتخلصوا من يد الحق المستولية عليهم، ولهذا كان ردّ الله زاجرا قاتلا: «بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ» أي أنهم واقعون تحت لعنة الله، فإذا آمن أحدهم فلا يخالط الإيمان كيانه، وإنما يلمّ به إلماما، وقد أشرنا إلى هذا فى تفسير قوله تعالى: «ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ» !. إن الحق عند القوم ليس حقّا لأنه حق فى ذاته، وإنما يكون حقّا يأخذون به، ويلتزمونه، إذا هو حقق لهم نفعا عاجلا، وكسبا ذاتيا، وإلا فهو باطل الأباطيل، يسلقونه بألسنتهم، ويرمونه بأيديهم.. هكذا هم فى قديمهم، وكذلك هم فى حديثهم!. كان علمهم من التوراة يحدثهم بأن نبيا سيظهر فى العرب، وأن الله قد أخذ على الأنبياء، وعلى أتباع الأنبياء، الميثاق أن يكونوا مع هذا النبىّ إذا ظهر، وجاءهم بكتاب مصدق لما معهم.. وقد تحدّث اليهود إلى العرب بهذا، وبأنهم سينتصرون لهذا النبىّ ويكونون معه وبه قوة على العرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 المشركين.. فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وبدأ دعوته بعشيرته الأقربين امتثالا لقوله تعالى «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» (214: الشعراء) وحين سبق إلى الإيمان به نفر من قومه، تردد اليهود وتوقفوا، ثم لما أن سبقهم الأنصار من الأوس والخزرج إلى الإيمان، تنمّروا وتنكروا، وأخذوا يمكرون بالدعوة الإسلامية، ويظاهرون مشركى قريش عليها، إذ أن سبق من سبق من المهاجرين والأنصار قد فوّت عليهم الاستيلاء على الدّعوة وحجزها فى محيطهم وحدهم دون الناس، لأنهم يريدون أن يستولوا على كل شىء، ويستأثروا بكل شىء، فإن كان أمر لأحد معهم فيه نصيب أعلنوا الحرب عليه، وحاولوا إفساده بكل سبيل، حتى لا ينتفع به!. ولهذا تشوه دعوة الإسلام فى أعينهم ويتحول الحق الذي عرفوه إلى باطل، يأتمرون به ويحاربونه، سرا وجهرا. وقد سجّل الله سبحانه وتعالى عليهم هذا الموقف اللئيم فى قوله سبحانه: «وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ، وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ. بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ» .. إن الحسد ليأكل صدورهم، وإن الشّره ليعمى أبصارهم، حتى إنهم ليهلكون أنفسهم، ويحرمونها موارد الخير، لأن غيرهم قد سبقهم إلى هذا الخير ونال منه. وهو خير لا ينفد أبدا، يسع الناس جميعا، ومع هذا فهم يريدونه خالصا لهم من دون الناس، لا ينال أحد شيئا منه.. وقد غضب الله عليهم غضبا بعد غضب، غضب عليهم أولا، لأنهم عرفوا الحق ولم ينصروه، بل خذلوه ومكروا به وحاربوه.. وغضب عليهم ثانيا، لأنهم نقضوا الميثاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 الذي أخذه الله عليهم فى الكتاب الذي بين أيديهم، ثم حرّفوا فى كتابهم هذا وبدلوا، واستباحوا حرمته، وهذا كفر بكتابهم بعد كفرهم بمحمد وبما نزل عليه. وهذا ما جعلهم بمعرض من غضب الله، حالا بعد حال، ومرة بعد مرة!. الآيات: (91- 93) [سورة البقرة (2) : الآيات 91 الى 93] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) التفسير: كل حجّة كانت تقطع على القوم سبيل الإفلات منها، كانوا يلقونها بوجه وقاح، لاحياء فيه.. فمع علمهم بأن دين الله واحد، ورسالات رسله تصدر جميعها عن هذا الدين، فإنهم إذا دعوا إلى الإيمان بما أنزل الله على رسله لوّوا رءوسهم، وقالوا: «نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا» !! كأنما يحسبون أن ما أنزل عليهم هو شرع شرعه الله لهم، وخصهم به من دون الناس، وجعل لهم به سلطانا على العباد.. وكذبوا وضلوا! فالكتاب الذي نزل على محمد يحوى مضامين ما أنزل على موسى وعيسى وما أنزل على النبيين جميعا، ولهذا أمر أتباع محمد أن يؤمنوا بما أنزل على أنبياء الله، كما يقول القرآن الكريم، متوجها بهذا الأمر إليهم: «قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» : (123: البقرة) ومع هذا فهل آمن بنو إسرائيل بما أنزل عليهم حقّا؟ إذن فلم قتلوا أنبياءهم؟ ولم حادّوا الله ورسله مع الآيات البينات التي جاءتهم على يد الأنبياء؟ ولم عبدوا العجل بعد أن أراهم موسى من آيات ربّه ما تلين له الصمّ الجلاد! أفهذا هو الإيمان، وما يأمر به الإيمان؟. وفى قوله تعالى: «قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا» وفى الجمع بين السمع والعصيان ما يشير إلى تلك الطبيعة اللئيمة المستقرة فى كيان القوم، وهى أنهم لا يتقبلون الخير ولا يستقيمون عليه، وأنه إذا نفذت إلى آذانهم دعوة الخير استقبلها من قلوبهم عواء مخيف، يردّها عن أفقه، ويصدها عن مورده: «سمعنا وعصينا» ! سمعنا بآذاننا وعصينا بقلوبنا!. وفى قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» وتكرار هذا القول مرتين فى موقف واحد- فى هذا ما يكشف عن حقيقة هذا الإيمان الذي يدّعونه.. فهو إيمان على دخل، تختلط به خمائر الشك، والنفاق.. وهذا إيمان لا يقبله الله، ولا يدخل أهله فى زمرة المؤمنين به!. الآيات (94- 96) [سورة البقرة (2) : الآيات 94 الى 96] قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 التفسير: إن الدعوى التي يدعيها بنو إسرائيل، ليتخذوا منها مقنعا لهم وللناس، من أنّهم أبناء الله، وأنهم موضع رعايته واختصاصه إياهم بالرحمة والرضوان- هذه الدعوى مفتراة على الله، أوردوا بها أنفسهم موارد الضلال والهلكة.. وليس أدل على بطلان هذه الدعوى وفساد هذا المتعلّق الذي يتعلقون به، من أنهم لو كانوا يؤمنون حقّا بصدق هذه الدعوى لكان تعلقهم بالدار الآخرة أكثر من تعلقهم بالحياة الدنيا، ففى الآخرة نعيم لا ينفد أبدا، وسعادة شاملة لا تدخل عليها شائبة من شقاء أو نصب.. ولكن القوم يتعلقون بالحياة الدنيا أشد التعلق، وينفرون من كل أمر يقطعهم عن هذه الحياة ويصلهم بالآخرة، أشدّ النفور.. «وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا» .. فهم أحرص الناس جميعا بلا استثناء على الحياة، حتى إنّ المشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة، ولا يرجون حياة بعد هذه الحياة ليس فيهم هذا الحرص على التمسك بالحياة التي يحرص اليهود عليها هذا الحرص العجيب.. «يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ» ليستوفى حطّه من الجمع والاقتناء.. «وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ» فليس له من هذا المصير مهرب، وإن امتد عمره إلى آلاف السنين!. الآيات (97- 99) [سورة البقرة (2) : الآيات 97 الى 99] قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 التفسير: الحسد الذي أدّى ببني إسرائيل إلى الكفر، وأوردهم موارد الهلاك- هذا الحسد قد جعلهم يحادّون الله علنا، ويجهرون بالتطاول على ملائكته، الذين يصدعون بأمره، ويحملون رحمته إلى عباده.. فهم يعلمون أن جبريل- عليه السلام- هو حامل كلمات الله إلى الرسول الكريم، وهم- مع علمهم هذا- يضمرون البغضة والعداوة لهذا الملك الكريم، لأنه حمل رحمة الله إلى عبد من عباد الله، وهم يرون أنهم أحق بهذه الرحمة وأهلها، وأن الله هو إلههم وحدهم، ورحمته مقصورة عليهم!! فكيف يحمل جبريل رحمة السماء إلى أرض غير أرضهم، وإلى جنس غير جنسهم؟ وانظر إلى قوله تعالى: «مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ» حيث الشرط الذي يفيد العموم، وهو يراد به بنو إسرائيل خاصة.. وفى هذا ما ينادى بأن هؤلاء القوم لا يحتاجون فى هذا المقام إلى وصف أو تخصيص، فإذا ذكرت فعلة شنعاء دون متعلّق لها، فإنها لا تعلق إلا بهم، ولا تأخذ إلا بمخانقهم، من دون الناس جميعا، وإذا أطلقت صفة ذميمة على عمومها، فإنها تحوّم وتحوّم، ثم لا تسقط إلا على رءوسهم هم أولا. وفى قوله تعالى: «فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ» توكيد لتمكن القرآن الكريم من كيان الرسول، وأنه تلقاه سماعا من الوحى، فإن هذا السماع ينفذ إلى القلب، ويستقر فيه، وحتى لكأن القلب هو الأذن التي تلقّت كلمات الله! أو لكأن الأذن هى قلب، فى الحفظ والوعى لما تسمع! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 هذا، وقد تعلق بعض المفسرين بظاهر اللفظ فى قوله تعالى: «نَزَّلَهُ» ففهم أن الوحى لم يكن من لفظ مسموع يلقيه جبريل إلى النبىّ الكريم، وإنما كان إلهاما يجده الرسول فى قلبه، فيتحدث به لسانه، واستند أصحاب هذا الرأى إلى قوله تعالى للنبى الكريم، فى آية أخرى: «لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ» فقالوا: إن النبىّ كان حين يلقى إليه الوحى على هيئة خواطر فى قلبه، يبادر فيشكلّها كلمات يجريها على لسانه فى عجلة، مخافة أن تفلت منه، أو تتغير هيئتها! وهذا الرأى قد فتح للمستشرقين وغيرهم بابا للقول، بأن القرآن فى هيئته اللفظية، ليس كلام الله، وإنما هو من صياغة «محمد» ، حيث كان يصوغ الخواطر التي يتلقاها من الوحى، فى الصورة اللفظية المناسبة. ولهذا- كما يقولون- جاء القرآن أنماطا مختلفة من الأساليب، بعضها ممتد النفس، هادىء، ليّن، وبعضها متقطع الأنفاس، صارخ عنيف.. وذلك حسب حال النبىّ، وما تثيره الخواطر المتنزلة عليه.. وعلى عكس هذا لو كان القرآن لفظا ومعنى من عند الله، فإنه يكون نمطا واحدا، لا يتأثر بالعوامل النفسية الإنسانية، التي يكون عليها النبىّ حين يتصل بالوحى.. وهذا جهل أو تجاهل، بالحق الواضح، إذ أن كلام الله الذي يخاطب به عباده، إنما يبلغ آثاره فيهم، إذا جاء على أنماط كلامهم، وجرى على أساليب بيانهم، فلان فى مواضع اللّين، واشتدّ فى أحوال الشدة، وهذا ما عبر عنه علماء البلاغة فى وصفهم للكلام البليغ، بأنه: المطابق لمقتضى الحال. وهذا القول إنما يقوله من المستشرقين من يسلّمون لمحمد بالنبوة والرسالة. أما من لا يؤمنون بالوحى، ولا يعتقدون فى الرسالات السماوية فيقولون: إن القرآن- لفظا ومعنى- هو من عمل محمد! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وفى قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ» توكيد لما نزل على النبىّ من قرآن، وآيات بينات، منزلة من الله.. وفى قوله سبحانه: «وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ» تهديد لليهود، ووعيد لهم، على كفرهم وفسقهم.. فهم الكافرون الفاسقون.. كفروا بمحمد، وفسقوا عن دينهم الذي كانوا عليه، أي خرجوا عن دينهم، حين أنكروا ما فيه من أمر محمد ورسالته. الآيات: (100- 103) [سورة البقرة (2) : الآيات 100 الى 103] أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) التفسير: نبذ العهود ونقض المواثيق، هو الطبيعة الغالبة على بنى إسرائيل، لا فرق فى موقفهم هذا مع الناس، أو مع الله! ذلك لأنهم لا يؤمنون بالمبادىء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 والقيم، ولا يتقيدون بقيد الفضيلة والشرف، لما يغلب عليهم من أثرة قاتلة، وأنانية متحكمة، يستبيحون بها كل شىء، وينزلون بها عن كل شىء، من خلق أو دين. وفى قوله تعالى: «نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ..» حيث عدل عن التعميم إلى التخصيص، فى قوله «الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» بدلا من «منهم» - فى هذا ما يشير بأن علماء القوم وأهل الذكر فيهم، هم الذين يتولّون هذا الإثم العظيم، وينبذون كتاب الله وراء ظهورهم، بالخلاف عليه، والتحريف فيه، عن علم، و «كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ! ولو أن هؤلاء العلماء من بنى إسرائيل قد انتهت جريمتهم عند هذا المكر بكتاب الله والخلاف عليه، مع ما فى هذا العمل الآثم من شناعة وفظاعة لكانت مصيبتهم مصيبة واحدة، وإن غلظت وعظمت، ولكنهم إذ وقفوا من كتاب الله الذي بين أيديهم هذا الموقف، راحوا يتعاملون مع الأباطيل والتّرهات، مما كانت تلقيه الشياطين على ملك سليمان، وهى خاضعة لسلطانه، من صور الأعمال الخارجة عن قوة البشر.. فلقد تعلق القوم بها، وتمسّحوا بما يرجف به المرجفون عنها، من شعوذات، ابتغاء الوصول إلى شىء من تلك القوى التي تملكها الشياطين، ليتسلطوا بها على العباد، وليجنوا من ورائها الربح المادىّ الذي يحلمون به! ولهذا كثر فى بنى إسرائيل الأنبياء الكذبة، الذين طلعوا فيهم من كل ناحية، والذين حدّثت التوراة عنهم، وحذّرت منهم، ولكن القوم اتبعوا هؤلاء المتنبئين الأدعياء، وكفروا بأنبياء الله وبهتوهم. وفى قوله تعالى: «وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا» احتراز عن فهم خاطئ لاستخدام الشياطين، التي لا يحمد لها قول أو عمل، وذلك أن سليمان كان يضبط أعمالها على الوجه المحمود، الذي لا يخرج بها عن طريق الحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 والخير!! أما هؤلاء القوم فإنما يبتغون من وراء تسخيرها التسلط على الناس، ووضع مقدّراتهم تحت أيديهم، حيث يتعلمون منهم أبوابا من الحيل، وأشتاتا من المكايد. والقوم إنما يلتمسون الباطل من كل وجه، ويصيدون الضلال من كل أفق، فهناك غير ما ألقت به الشياطين على ملك سليمان، وما تركته من آثار أفعالها- هناك كان لملكيين أو ملكيين- بكسر اللام- اسمهما هاروت وماروت، حديث إلى الناس فى بابل، وفى هذا الحديث ضروب من السحر والحيل، كانا يكشفان أمرها للناس، على سبيل الابتلاء والاختبار، حيث يقولان لكل من يستمع إليهما: «إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ» ! ولله سبحانه وتعالى أن يبتلى عباده بما يشاء من الشر والخير، كما يقول سبحانه. «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً» : (35: الأنبياء) ، ولقد ابتلى الله سليمان عليه السلام بتلك القوى القاهرة التي وضعها بين يديه، لينظر كيف يكون أمره معها، وفى هذا يقول الله سبحانه على لسان سليمان: «هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ» (40: النمل) فهذا الذي كان من فعل الملكين- بفتح اللام أو بكسرها- إنما هو من قبيل الابتلاء. وقد عمد القوم إلى تلك الآثار التي خلّفها الملكين من ضروب السحر والحيل فجعلوها أسلحة فتك ودمار، وأدوات تهديد وتبديد للناس، لم يتعلموا منها إلّا ما هو بلاء ونقمة، كما يقول تعالى: «فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ» أي ما يشيع الفرقة والتفكك فى المجتمع، وما يفصم أواصر المودة والأخوة بين الناس! حتى بين ألصق الناس بعضهم ببعض.. المرء وزوجه! وهذا الذي يتلقاه هؤلاء العلماء من بنى إسرائيل، من قوى السحر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 ليس بالذي يؤثّر أثره تلقائيا، وإنما شأنه شأن كل قوة فى الوجود.. هو خاضع لأمر الله، ماض بحكمه وتقديره: «وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» فماهم إلا أدوات كأدوات السحر التي فى أيديهم، وما تلك الأدوات وأفعالها إلا محنة وبلاء عليهم، حيث تعلق آثامها بهم، وينسب شرها إليهم، وفى هذا يقول سبحانه: «وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ» فذلك هو محصّل القوم من هذا العلم الذي تعلموه: الشرّ المحض الذي لا نفع معه: «وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ» فهم وإن حققوا نفعا عاجلا فى هذه الدنيا بهذا السّحر الذي تعلموه، فإنهم لا يمسكون من هذا السحر فى الآخرة إلا بما يحزن ويسوء! «وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» . الآيتان (104- 105) [سورة البقرة (2) : الآيات 104 الى 105] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) التفسير: الكلمة المنافقة على ألسنة المنافقين، هى سلاح من أسلحة العمل فى سبيل الغايات الخسيسة التي يعملون لها، ولهذا كان اليهود أبرع الناس فى هذه التجارة الخاسرة، تجارة النفاق، بالكلمة، وبالعمل.. معا. سمعوا المسلمين يهتفون برسول الله، تقرّبا: «راعنا يا رسول الله» ، أي ضمّنا إليك، واجعلنا تحت رعايتك.. فحرفوا الكلم عن مواضعه، شأنهم فى ذلك مع كلام الله، ومع كل طيب من الكلم، تأبى نفوسهم إلا أن تمجّه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وتأبى ألسنتهم إلا أن تلتوى به- فجعلوا «راعنا» «راعنا» بالتنوين، يريدون بها صفة ذم، من الرعونة والطيش، ينطقون بها فى خبث تلتوى به ألسنتهم، حتى لا ينفضح أمرهم، ولا يجد من يعلم خبيئة أنفسهم، وسوء مكرهم، السبيل إلى مؤاخذتهم.. هكذا المنافق، حريص حرص الغراب، حذر حذر الضبّ، ناعم نعومة الحية!. ولإبطال هذا المكر السيّء، نبّه الله المؤمنين إلى أن يستبدلوا بكلمة «راعنا» كلمة «انظرنا» ، حيث لا يجد اليهود سبيلا إلى هذه الكلمة، بالتحريف الماكر! وقد ذكر القرآن الكريم هذا الموقف اللئيم الذي يقفه اليهود من الحديث مع رسول الله، وتعاملهم بالكلمة المنافقة معه، فقال تعالى: «مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» (46: النساء) . وانظر كيف نفاقهم.. تصرح ألسنتهم بالكلمة الطيبة، ثم تخطفها قلوبهم، بالكلمة الخبيثة.. فإذا قالوا جهرا: «سمعنا» قالوا سرا: «وعصينا» ! وإذا قالوا وأسمعوا: «اسمع» قالوا ولم يسمعوا: «غير مسمع» ! يدعون على النبىّ بالصمم.. وإذا قالوا «راعنا» نطقوا بحروفها الأولى نطقا سليما، حتى إذا بلغوا مقطعها الأخير، اضطربت ألسنتهم بالنون فجاءت بين المدّ والتنوين! وقد كان الأولى باليهود، أهل الكتاب، أن يدعوا الناس إلى الله، وأن يسعدوا بهداية الناس إلى طريق الحق والهدى، ولكن الأثرة التي تملك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 عليهم وجودهم، تجعلهم يتمنّون لعباد الله الضلال والكفر بالله، حتى لا يدخل إلى رحاب الله أحد غيرهم، حسبما يقدّرون ويزعمون! ولهذا فقد جمعهم الله مع المشركين من كفار قريش فى هذا الموقف، إذ يقول سبحانه: «ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ» وأول هذا الخير وأعظمه، هو هذا القرآن الكريم، وما يحمل من صنوف الخير وألوان النعم. الآيات (106- 110) [سورة البقرة (2) : الآيات 106 الى 107] ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) النسخ: معناه ومتعلقه مسألة النسخ فى القرآن الكريم من الأمور التي كانت ولا تزال مثار جدل وخلاف بين علماء المسلمين، كما أنها كانت ولا تزال داعية تخرّص وتقوّل على القرآن.. من أعداء الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وبكلمة واحدة نخرس أولئك الذين يتربّصون بالقرآن وأهله، ثم نتركهم فى غيظهم وكيدهم، لننظر فى هذا الخلاف الذي بين المسلمين فى أمر النسخ. والكلمة التي نقولها لأعداء هذا الدين هى قوله تعالى فى كتابه الكريم: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» (9: الحجر) . فهذا التحدّى القائم عليهم بحفظ الله تعالى للقرآن، هو مقطع القول فيما بينهم وبين القرآن.. فإذا استطاعوا أن يبدلوا حرفا أو يغيروا كلمة، أو يزيلوا آية من كتاب الله- كان لهم أن يقولوا فى هذا الكتاب ما يحلو لهم، من تشنيع عليه، واستهزاء به.. وهيهات هيهات.. فقد ذهبت سدى جميع المحاولات التي بذلها أعداء الإسلام، منذ قام الإسلام إلى اليوم، ليشوهوا وجه هذا الدين، بالتشويش على كتابه، والتشكيك فى صحته!. أما الخلاف الذي بين المسلمين فى أمر النسخ فقد وقع نتيجة للاختلاف فى فهم الآية الكريمة: «ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها» . فالذين قالوا بوجود «النسخ» فى القرآن، وأخذوا بمنطوق هذه الآية، دارت أعينهم فى كتاب الله، يلتمسون مصداق هذه الآية، ويستخرجون لها الشواهد لآيات منسوخة بآيات ناسخة.. وقد وقعت أنظارهم على آيات يمكن أن تفسّر عليها تلك الآية الكريمة.. فكان النسخ عندهم أمرا لا بد من وقوعه فى القرآن، إذ نطقت به آية كريمة من آياته. والذين لم يفهموا الآية على هذا الوجه، فلم يروا فى القرآن ناسخا ولا منسوخا- هؤلاء جعلوا للآيات التي قيل إنها منسوخة، وجها من التأويل، بحيث يبقى حكمها كما بقيت تلاوتها.. وهذا إجمال يحتاج إلى شىء من التفصيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 فأولا: ما هو النسخ؟ يجىء النسخ بمعنى المحو والإزالة، وذلك كما فى قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (52: الحج) . ويأتى النسخ بمعنى النقل من موضع إلى موضع، ومنه نسخت الكتاب أي نقلت ما فيه إلى كتاب آخر.. قالوا: ولا يقع هذا المعنى من النسخ فى القرآن.. إذ نقل الآية أو الآيات من كتاب إلى كتاب لا يسمّى نسخا بالمعنى الذي يفهم منه إزالة حكم الآية أو تلاوتها.. ويأتى بمعنى التبديل، كما فى قوله سبحانه: «وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ» (101: النحل) . هذا هو النسخ فى لسان الشرع، وهو فى اللغة قريب من هذا، فيقال: تناسخ الشيئان: إذا حلّ أحدهما محل الآخر، كما يتناسخ الليل والنهار، ويقال تناسخت الأزمنة: أي تبع بعضها بعضا، ومنه تناسخ الأرواح، بمعنى انتقال الروح من بدن إلى بدن، عند من يعتقد هذا المذهب. وثانيا: ما هو المنسوخ؟ اختلف العلماء فى المنسوخ، فقيل هو ما رفع تلاوة تنزيله، كما رفع العمل به. وردّ هذا القول بأن الله نسخ التوراة والإنجيل، وهما متلوّان. وقيل لا يقع النسخ بمعنى الرفع فى قرآن نزّل، وتلى، ذلك أن القول بأن من القرآن ما نزّل وتلى ثم رفع بالنسخ- فيه تعسّف شديد، ومدخل إلى الفتنة والتخرص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 فإذا ساغ أن ينزل قرآن، ويتلى على المسلمين، ثم يرفع، ساغ لكل مبطل أن يقول أي قول، ثم يدّعى له أنه كان قرآنا ثم نسخ.. وهكذا تتداعى على القرآن المفتريات، والتلبيسات، ويكون لذلك ما يكون من فتنة وابتلاء. ثم من جهة أخرى. ما حكمة هذا القرآن الذي ينزل لأيام أو لشهور، ثم يرفع، فلا يتلى، ولا يعرف له وجه بعد هذا؟ أيكون ذلك الرفع بقرآن يقول للناس: إن آية كذا رفعت تلاوتها، فلا تجعلوها قرآنا يتلى؟ أم أن هذا النوع من النسخ يقع بمعجزة ترفع من صدور الناس ما قد حفظوا من هذا القرآن المنسوخ؟ وإذا رفع بتلك المعجزة، فهل تكون معجزة أخرى يرفع بها ما كتب بأيدى كتاب الوحى بين يدى النبىّ؟ وإذا رفع من الصدور أو من الصحف المكتوبة بمعجزة من المعجزات، فما الذي يدلّ على أن قرآنا كان ثم رفع؟ إن هذا القول مسرف فى البعد عن مجال المنطق والعقل! وثالثا: هل فى القرآن نسخ؟ كثر علماء المسلمين على أن فى القرآن نسخا، وأن هناك آيات ناسخة وأخرى منسوخة بها. ومعرفة الناسخ والمنسوخ ودراستهما، مما اهتم له العلماء والفقهاء، وجعلوه أصلا من أصول الدراسات القرآنية، ومجازا من المجازات التي يدخل بها العالم أو الفقيه فى جماعة العلماء والفقهاء. فمن لم يعرف ناسخ القرآن ومنسوخه، فلا مدخل له فى باب العلماء والفقهاء. وقد استند القائلون بالنسخ فى القرآن إلى قوله تعالى: «ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها» . وقد أسعفهم النظر فى آيات القرآن الكريم بشواهد تؤيد ما ذهبوا إليه من القول بالنسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 ومن أمثلة هذا آية الوصية، وهى قوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ» (180: البقرة) . فهذه الآية، قيل إنها منسوخة بآية المواريث، وقيل بحديث: «ألا لا وصيّة لوارث» عند من يقول بنسخ القرآن بالسنّة، وقيل منسوخة بالإجماع. ومن أمثلة ذلك أيضا قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ» (240: البقرة) . قيل: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً» (234: البقرة) . فقد كانت المرأة إذا مات عنها زوجها لزمت التربص بعد انقضاء العدة حولا كاملا، ونفقتها فى مال زوجها، وهذا هو معنى قوله تعالى: «مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ» فنسخ ذلك بالآية المشار إليها، وصار تربصها أربعة أشهر وعشرة أيام، ولها نصيبها المعروف فى الميراث. وهكذا يعدّون الآيات المنسوخة والناسخة فى إحدى وسبعين سورة من القرآن الكريم «1» . أما الذين يقولون بألا نسخ فى القرآن، فيتأولون هذه الآيات، ويعطونها الحكم الذي تضمنته.. كما سنرى ذلك بعد قليل.   (1) الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى جزء 2 ص 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 رابعا: القول بألا نسخ فى القرآن: يرى عدد غير قليل من العلماء أن النسخ فى القرآن ليس نسخا بمعنى إزالة الحكم، كما ذهب إلى ذلك القائلون بالنسخ.. وإنما هو نسأ وتأخير، أو مجمل أخّر بيانه، أو خطاب قد حال بينه وبين أوله خطاب غيره، أو مخصوص من عموم، أو حكم عام لخاص، أو لمداخلة معنى فى معنى. وأنواع الخطاب كثيرة، فظنوا- أي القائلون بالنسخ- أن هذا نسخا، وليس به، وإنه- أي القرآن- الكتاب المهيمن على غيره، وهو نفسه متعاضد» «1» . وبهذا التحقيق يتبين ضعف ما لهج به كثير من المفسّرين فى الآيات الآمرة بالتخفيف من أنها منسوخة بآية السيف. والواقع أنها ليست كذلك، بل هى من النّسأ، بمعنى أن كل أمر يجب امتثاله فى وقت ما، لعلّة توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر، وليس بنسخ، إذ النسخ معناه الإزالة. وتطبيقا لهذا الرأى، نجد ألا تعارض، ولا تناسخ بين الآيات التي تختلف أحكامها فى الأمر الواحد، إذ أن كل حكم محكوم بحال خاصة به، مقدرة له، وعلة تدور معه وجودا وعدما. فمثلا.. قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» (65: الأنفال) .   (1) انظر البرهان فى علوم القرآن للزركشى: جزء 2 ص 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وقوله تعالى بعد هذا: «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» (66: الأنفال) . وليس بين الآيتين تعارض، أو تناسخ، وإن عرضا لأمر واحد، واختلف منطوق الحكم فيهما. فالآية الأولى تفرض على المؤمنين حكما فى فيها حال هم أهل للوفاء بهذا الحكم، لما فيهم من قوة إيمان وثبات يقين.. فإذا كانوا فى تلك الحالة كان واجبا عليهم إذا التقوا فى ميدان الحرب بأعدائهم من الكافرين- أن يثبت العشرون منهم لمئتين من أعدائهم، وأن تثبت المائة للألف. فلما أن وقع الضعف فى المسلمين، حين كثر عددهم، ودخل فيهم من دخل، وليس فيهم ما فى هؤلاء النفر القليل الكرام، الذين سبقوا إلى الإسلام، من كرم المعدن، وصفاء الجوهر، والتعرّف على الحق، والبدار إليه- لمّا أن كان هذا من أمر المسلمين، خفف الله عنهم، وجعل أمرهم يسرا، ففرض عليهم ألّا تفرّ المائة من المائتين، ولا الألف من الألفين. وانظر كيف كانت أعداد المسلمين فى الآية الأولى. «عشرون» و «مئة» ثم أصبحت فى الآية الثانية هكذا: «مئة» و «ألفا» .. وإن ذلك ليكشف عن المعنى الذي أشرت إليه من قبل، وهو أن الضعف الذي عرض للمسلمين فى هذا الوقت المبكر من الدعوة الإسلامية، وفى عهد النبوة، لم يكن من جهة المسلمين السابقين إلى الإسلام، فهؤلاء كانوا كلما مرّت بهم الأيام فى الإسلام، وفى صحبة الرسول، ازدادوا إيمانا مع إيمانهم، ولكن الضعف الذي وقع، كان على مجموع المسلمين، حين كثر عدد الداخلين فى الإسلام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 ولا شك أن هذه الأعداد الكثيرة التي دخلت فى دين الله أفواجا، لم يكن لها جميعها من وثاقة الإيمان، وقوة اليقين ما كان فى هذه الصفوة التي سبقت إلى الإسلام. وطبيعى أنة إذا عادت حال المسلمين إلى الحال الأولى التي كانوا عليها قبل هذا الضعف، عاد الحكم الأول، فإذا ضعفوا لزمهم حكم الآية الثانية، الذي لا ينبغى أن ينزلوا عنه أبدا، حتى فى أضعف أحوالهم.. المائة تغلب المائتين، والألف تغلب الألفين. وفى هذا ما فيه من تكريم الإسلام والمسلمين، ورفع درجة الجماعة الإسلامية بهذا الدّين، حتى فى أنزل منازلها، وأسوأ أحوالها. «ما ننسخ من آية» : ونعود إلى الآية الكريمة، التي فتحت على المسلمين بابا فسيحا للتأويل، ثم الخلاف فى هذا التأويل، ثم الانتقال به إلى دائرة فسيحة فى القرآن ذاته. حيث يقال عن آيات كثيرة إنها منسوخة حكما، وإن بقيت تلاوتها. وإذ ننظر فى الآية الكريمة نسأل أولا: هل إذا جاء شرط فى القرآن الكريم.. أيجب أن يقع هذا الشرط، وأن يتحقق تبعا لذلك جوابه؟ والجواب على هذا: أن ليس من الحتم اللازم أنه إذا ورد فى القرآن أسلوب شرطى أن يقع هذا الشرط، وإنما الحتم اللازم هو، أنه إذا وقع الشرط فلا بد أن يقع ويتحقق الجواب المعلق على وقوع هذا الشرط. فما أكثر ما وردت أساليب شرطية فى القرآن غير مراد وقوعها، وتحقيق جوابها.. ومن ذلك قوله تعالى، لنبيه الكريم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 «وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» (116: الأنعام) وقوله تعالى عن نبيه الكريم أيضا: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ» (44- 46 الحاقة) وقوله تعالى خطابا له: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» (65: الزمر) . فلم يقع شرط أي آية من هذه الآيات، ولم يقع جوابها كذلك. وعلى هذا، يجوز فى الآية الكريمة «ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها» - يجوز ألا يقع شرطها وجوابها، وتكون من قبيل القضايا الفرضية، التي يراد بها العبرة والعظة. والذي نأخذه من هذا، أن النسخ الذي أشارت إليه الآية الكريمة، ليس لازما أن يقع، وإنما وقوعه أمر احتمالي، يشهد له الواقع أو لا يشهد، فإن شهد له اعتبر، وإلا فلا. وإذن فلا نستصحب معنا هذا الحكم، الذي تقضى به الآية لو وقع شرطها وجوابها- لا نستصحب هذا الحكم، ونحن ننظر فى الآيات التي يقال إنها ناسخة أو منسوخة.. بل ننظر فى تلك الآيات نظرا منقطعا عن كل تأثير لهذا المفهوم الذي فهمت الآية الكريمة عليه. والآن ننظر فى آية النسخ نفسها.. «ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها.. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .. هذه الآية قد جاءت مع آيات كثيرة غيرها، دفاعا عن أمر أراده الله للمسلمين، وهو تحويل قبلتهم التي كانوا عليها، من بيت المقدس إلى البيت الحرام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وهذا التحول كان حدثا كبيرا من أحداث الإسلام فى حينه، كما كان فتنة وابتلاء لكثير من المسلمين، ومدخلا كبيرا للطعن فى الدين، والتشويش على المسلمين. وكان من تدبير القرآن الكريم لهذا الأمر، أن قدّم له هذه الآيات الكريمة، قبل أن يقع، لتكون إرهاصا به من جهة، وقوة يستند إليها المسلمون فى دفع كيد اليهود، ووسوسة الشيطان.. من جهة أخرى! واستمع لتلك الآيات الكريمات، ثم استمع للأمر الذي جاء بعدها: الآيات: (108) [سورة البقرة (2) : آية 108] أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108) فهذا الاستفهام الإنكارى: «أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ» ؟ والذي يتوجه به القرآن إلى المسلمين- فيه تحذير لهم من أن يكونوا مع النبىّ، كما كان اليهود مع موسى، كلما جاء بأمر لم يتلقوه بالامتثال والطاعة، بل قابلوه بالحذر والريب، وواجهوه بالأسئلة الكثيرة، التي تنبىء عن خبث طوية، وفساد سريرة. وتحويل القبلة إذا كان أمرا وشيك الوقوع، وقد كان المسلمون يصلّون إلى بيت المقدس منذ سبعة عشر شهرا، فإذا وقع هذا التحويل، نزعت بهم نوازع كثيرة تدعوهم إلى التساؤل: فيم كنا؟ ولم هذا؟ وهل سنتحول عن القبلة الجديدة فيما بعد أم سنظل عليها؟ .. وهكذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 ثم إن من وراء ذلك، اليهود، يلقون إلى المسلمين بما يفتح للشيطان طرقا كثيرة إلى قلوب لم يتوثّق فيها الإيمان بعد.. فكان هذا التحذير من قبل أن يقع هذا الأمر الذي من شأنه أن يثير شكا وتساؤلا- كان تدبيرا حكيما من حكيم، ووقاية للمسلمين من داء أصيب به اليهود من قبل، فعزّ شفاؤهم منه، وطال شقاؤهم به. ثم يقول سبحانه بعد هذا: الآيات (109- 110) [سورة البقرة (2) : الآيات 109 الى 110] وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وهذا تحذير آخر من الله سبحانه، من أن يستمع المسلمون إلى ما يلقاهم به اليهود عند وقوع هذا الأمر، وهو تحويل القبلة إلى المسجد الحرام- من تلبيسات وتلفيقات وأكاذيب. ثم هو تنبيه للمسلمين أن يمضوا إلى ما أمرهم الله به، وأن يستقيموا على قبلتهم التي وجههم الله إليها، غير ملتفتين إلى تخرصات المتخرصين، وضلالات الضالين. ثم يقول تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الآيات: (111- 113) [سورة البقرة (2) : الآيات 111 الى 113] وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) «1» التفسير: هذا موقف من مواقف أهل الكتاب- اليهود والنصارى- إزاء المسلمين.. فاليهود يقولون: لا يدخل الجنة إلا من كان على اليهودية، والنصارى يقولون: لا يدخل الجنة إلا من كان على النصرانية.. أي أن كل فريق منهما يرى أن دينه الذي يدين به هو الحق، ولا دين حق غيره. وأن قبلته التي يصلّى عليها هى القبلة الحق، ولا قبلة حق غيرها! .. وتلك أمانىّ وأحلام، لا برهان عليها.. إن دين الله واحد.. يلتقى عنده المؤمنون جميعا، وتترجم عنه رسالات الرسل ودعوات الأنبياء جميعا، فمن آمن بالله وأسلم وجهه له، دون التفات إلى سواه، ثم استقام على طريق الحق، فامتثل أوامر الله، واجتنب نواهيه- من فعل ذلك فهو المؤمن حقّا، الموعود من الله بالجزاء الحسن والجنة التي عرضها السموات والأرض، أعدت للمتقين.   (1) بلى: جواب بالإيجاب عن النفي قبلها، ولا تقع إلا بعد نفى، ويكون ما بعدها مخالفا لما قبلها فى الحكم، «وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى» فكان الجواب: بلى يدخلها «من أسلم وجهه لله وهو محسن» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 واليهود يقولون إن ما يدين به النصارى هو الباطل، والنصارى يقولون فى اليهود مثل هذا القول.. وكل منهما يرجع إلى كتاب الله.. كما يقول الله تعالى: «وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ» . وهذا يعنى أن الفريقين قد حرّفوا وبدلوا فيما بين أيديهم من التوراة والإنجيل، وإلّا لما كان بين الفريقين هذا الترامي بتهمة الكفر، إذ التوراة والإنجيل فى حقيقتهما على سواء، فى الحق الذي نزلا به من عند الله، ولهذا عبّر القرآن عنهما معا بالكتاب «وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ» فكأن التوراة والإنجيل كتاب واحد، وإن اختلفا لغة، وتباعدا زمنا. ومن قبيل ما يقوله كل من اليهود والنصارى فى رمى كل فريق منهما الآخر بالكفر، ما يقوله المشركون عن كل ذى دين غير دينهم، وقد وصفهم الله بأنهم «لا يَعْلَمُونَ» أي لا علم لهم من كتاب سماوى: «كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ» وإذا كان للمشركين عذر فى اتهام أهل الكتاب ورميهم بالكفر، فإنه لا عذر لأهل الكتاب، لأن المشركين يقولون ما يقولون عن غير علم، على حين يقول أهل الكتاب ما يقولون عن علم، أو ما ينبغى أن يكون عن علم!. ثم يقول تعالى: الآيتان: (114- 115) [سورة البقرة (2) : الآيات 114 الى 115] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 التفسير: فى هاتين الآيتين تهديد ووعيد، لأولئك الذين يحولون أن يحتجزوا رحمة الله فى دائرة مغلقة عليهم دون الناس جميعا، والذين يتصورون أن ما بأيديهم وحدهم هو الحق الذي يسعهم وليس لغيرهم مكان فيه- هؤلاء يظلمون الحق، ويظلمون أنفسهم، ويظلمون الناس.. ذلك أن هذا القصور الخاطئ للحق يقيم فى كيانهم عصبية عمياء، لا يرون معها إلا ذواتهم، ولا يحسبون لأحد حسابا معهم، ولا يرعون حرمة دين غير ما يدينون به، ولو كان هو الحق من عند الله.. ولهذا فهم- مع هذا الشعور- لا يجدون حرجا فى أن يصدّوا الناس عن عبادة الله، وأن يحولوا بينهم وبين مساجده، بل وأن يعطلوا هذه المساجد ويخربوها!! واليهود يقومون بدور خطير فى هذا المجال، بما يسوقون إلى المؤمنين من فتن، وما يدخلون به عليهم من تلبيسات وضلالات، تثير الحيرة، والبلبلة، وقد فعل اليهود هذا عند ما أمر الله النبي والمسلمين أن يتحولوا بقبلتهم إلى المسجد الحرام، بعد أن كان المسجد الأقصى هو قبلتهم فى الصلاة، فاتخذ اليهود من هذا الحدث مدخلا إلى الفتنة، يلقون بها بين جماعة المسلمين، وقد وصف الله اليهود بهذا الوصف الكاشف، فسماهم السفهاء فى قوله تعالى: «سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها» ؟ وفى قوله: «أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ» إشارة إلى أن هذا الجرم الذي يرتكبه المنافقون فى الكيد لبيوت الله لا يخليهم أبدا من شعور الخوف من افتضاح أمرهم، وخاصة إذا دخلوا هذه المساجد ليستروا موقفهم منها، وليرى الناس منهم أنهم من أهلها، شأن المجرم يحوم حول جريمته، وقلبه يرجف حوفا وفزعا. وفى قوله تعالى: «وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ» ردّ مفحم على هؤلاء المنافقين الذين يحاولون أن يردوا المسلمين عن قبلتهم الجديدة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وأن يعملوا على خراب هذا المسجد والمساجد التي ستقام على سمته وتدور فى فلكه. وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ» ردّ أيضا على أولئك الذي أعمتهم الأنانية، فحاربوا الناس فى كل موقع من مواقع رحمة الله التي لا حدود لها، يصيب بها من يشاء من عباده، حسب علمه وحكمته. ثم يقول سبحانه: الآيتان: (116- 117) [سورة البقرة (2) : الآيات 116 الى 117] وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) التفسير: وهذه مقولة من مقولات أهل الكتاب، تكشف عن زيغهم، وترى أنهم ليسوا على الحقّ الذي يدّعون أنهم أهله دون الناس جميعا، فاليهود يقولون: عزير ابن الله، النصارى يقولون المسيح: ابن الله.. وتعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا، له ما فى السموات والأرض، كل ما فيهما مستعبد له: «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» (93: مريم) ثم يقول جل شأنه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 الآيتان: (118- 119) [سورة البقرة (2) : الآيات 118 الى 119] وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) التفسير: وهذه مقولة أخرى لغير أهل الكتاب، من مشركى قريش، قالوا: «لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ» إنهم يأبون أن يعترفوا بوجود الله حتى يروه رأى العين، كما قال بنو إسرائيل لموسى: «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» (55: البقرة) .. فهكذا وساوس الشيطان تعبث بقلوب الناس وعقولهم، فتفسد عليهم الرؤية الصحيحة للحق، إلّا من عصم الله. وفى قوله تعالى: «إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ» مواساة للنبىّ الكريم، وتخفيف عليه، مما يلقى من عنت قومه، فما هو إلا رسول، يبلغ ما أنزل إليه من ربّه، فمن أبصر فلنفسه ومن عمى فعليها. ثم يقول سبحانه: الآيتان: (120- 121) [سورة البقرة (2) : الآيات 120 الى 121] وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 التفسير: هذا هو مقطع الفصل فيما تحدثت به الآيات السابقة، عن الكيد الذي يكيد به أهل الكتاب- وخاصة اليهود- للنبىّ ولرسالته، فى صدّ الناس عنه، وإلقاء الشبه والضلالات بين يدى المسلمين.. إنهم لن يرضوا عن النبىّ ولن يهادنوه، حتى يترك دعوته، ويطوى رسالته، ويدخل فيما هم فيه! «قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى» أي إن الهدى الذي بين يديك هو هدى الله، وهو الهدى الذي لا هدى إلا به. «وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» وهذا توكيد بأن ما مع النبي هو الهدى، وأن العدول عنه إلى ما يدعو إليه أهل الكتاب من مخلقات أهوائهم، هو البوار والهلاك. وليس هذا مما ينتقص من الكتب السّماوية التي بين يدى أهل الكتاب، فهى والكتاب الذي نزل على محمد، سواء فيما تحمل إلى الناس من الحق والخير، ولكنّ الأهواء هى التي أفسدت على أهل الكتاب أمرهم، حين زاغت أبصارهم عن الحق، فمكروا بآيات الله.. ولهذا فإن الذين يتلون منهم كتاب الله الذي بين أيديهم حقّ تلاوته، لا يحرفون كلمه، ولا يبغونها عوجا- هؤلاء يجدون أنهم والكتاب الذي نزل على محمد على طريق واحد، وأنهم ملزمون بالإيمان به، وأن من يكفر به فإنما يكفر عن عناد، وعن علم، وذلك هو الفسوق الذي يورد صاحبه موارد الضلال والهلاك. ثم يقول سبحانه وتعالى: الآيتان: (122- 123) [سورة البقرة (2) : الآيات 122 الى 123] يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 التفسير: وهذا تذكير لبنى إسرائيل بالنعم التي ساقها الله إليهم، وأنه على قدر هذه النعم سيكون البلاء، ويكون الحساب، وقد مكر القوم بآيات الله، وكفروا بنعمته، فهم فى معرض النقمة، إن لم يرعوا حقّ الله فيما آتاهم من فضله. وفى قوله تعالى: «وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ» (123) وفى قوله سبحانه فى آية سابقة: «وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ» . (48: البقرة) فى هاتين الآيتين نظر، حيث اختلف نظمهما على حين كان ينتظر- فى ظاهر الأمر- أن يجيئا على نسق واحد! ولكن للنظم القرآنى، ولإعجاز هذا النظم- جاء هذا الاختلاف، تقريرا للواقع، ومراعاة لمقتضى الحال، وتحقيقا للإعجاز الذي هو أمر لا انفكاك له، فى كل آية من آيات الكتاب الكريم، بل وفى كل كلمة من كلماته، وحرف من حروفه. ففى الآية (48) يتوجه الخطاب إلى أصحاب الرّيب والشناعات من بنى إسرائيل، الذين يلبسون الحق بالباطل، ويكتمون الحق وهم يعلمون، والذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، فكان من مقتضى الحال أن يحذروا من هذا اليوم الذي يعرضون فيه على الحساب، حيث لا تجزى نفس عن نفس شيئا، وحيث يتلفت المفلسون فى هذا اليوم إلى من يجيرهم، ويمدّون أبصارهم إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 من أخذ بيدهم، فلا يجدون من يجير أو يغيث: «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» (37: عبس) حيث لا تدفع نفس عن نفس مكروها، وحيث لا يقبل منها شفاعة فى أحد، وحيث لا يؤخذ منها فدية لأحد. وقد جاء البذل فى هذه الآية معبرا عنه بقوله تعالى: «يُقْبَلُ» و «يُؤْخَذُ» لأنه مجلوب على سبيل الإحسان للمفلس المحتاج فى هذا اليوم، فهى مجابهة للأشقياء، فى مواجهة من يرجون عندهم العون والنصرة. أما ما فى الآية: (123) فهو مواجهة صريحة للأشقياء بمعزل عمن يرجون نصرهم، وبمنقطع عمن يطمعون فى الوقوف إلى جانبهم، فإذا تعلق هؤلاء الأشقياء بالآمال الكاذبة وطمعوا فى أن يقع لأيديهم ما يفتدون به أنفسهم فلا فدية تقبل منهم، وإذا تمنّوا أن يطلع عليهم من يشفع لهم فشفاعته غير مقبولة فيهم «فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ» : (48: المدثر) . وبهذه الصورة من صور التيئيس، والصورة التي قبلها يتم إغلاق دائرة اليأس عليهم، فلا ينفذ إليهم بصيص من أمل، ولو كان كاذبا! ثم يقول سبحانه: آية: (124) [سورة البقرة (2) : آية 124] وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) التفسير: اختلف فى معنى الكلمات التي ابتلى الله إبراهيم بها، وتشعبت مذاهب المفسرين لها. ولعل أعدل طريق وأقومه فى مثل هذا المقام أن نقف عند حدود اللفظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 القرآنى، ولا نتجاوزه إلى مقولات يناقض بعضها بعضا، إن أخذ بأحدها كان ترك غيرها مجازفة لا يؤمن معها الخطأ، وإن أخذ بها جميعا لم يكن للجمع بينها سبيل. وهنا فى هذه الآية تجد أن بعضها يفسر بعضا، وأن قوله تعالى: «قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً» هو التفسير المناسب للكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم.. فالكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم هى قوله تعالى: «إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً» والإمامة وإن تكن نعمة وفضلا من الله، فهى ابتلاء، لما لها من أعباء، لا يقدر على حملها والوفاء بها على وجهها إلا أولو العزم من النّاس، وقد كان إبراهيم قدوة للناس فى قيامه على هذه الإمامة، فنوّه الله به فى أكثر من موضع فى القرآن الكريم، فقال: «وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى» (37: النجم) أي وفّى الأمانة التي أداها على وجهها كاملة، ويعضد هذا المعنى الذي نراه، ارتباطه بما سبقه من الحديث عن أهل الكتاب، وأنهم حمّلوا أمانات فضيعوها، وخانوا الله وخانوا أنفسهم فيها. وقوله تعالى: «قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي» يمكن أن يكون هذا استفهاما أو دعاء من إبراهيم، بمعنى: أهذه الإمامة له وحده أم هى ممتدة فى ذريته من بعده؟. أو بمعنى: اجعل هذه الإمامة فى بعض من ذريتى. فكان جواب الحق جلّ وعلا: «لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» .. أي هذا عهد لا يمتد إلى الظالمين، فمن سلم من ذريته من الظلم، كان أهلا لأن ينضوى تحت هذا العهد، ويأخذ ميراثه منه. ثم يقول جل وعلا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 آية (125) [سورة البقرة (2) : آية 125] وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وهذا فضل من الله اختصّ به مكانا مباركا، فجعله حرما آمنا، يأوى إليه الناس، فيجدون فى ظله السّكن والاطمئنان!. والمثابة: المرجع، يثوب إليه الناس ويرجعون. والبيت. هو البيت الحرام بمكة، وقد ذكر معرّفا هكذا: «البيت» إشارة إلى أنه واحد البيوت كلّها، وأنه إذا ذكر «البيت» كان هو هذا البيت! .. البيت الحرام. وفى قوله تعالى: «وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» التفات من غيبة إلى حضور، ومن خبر إلى أمر، للتنويه بشأن هذا البيت، وبالأمر المتعلق به. وفى قوله تعالى: «وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» التفات من أمر إلى خبر، ليقوّى من شأن الأمر، وليزيد فى ظهوره، والعهد هنا، معناه: التكليف والأمر.. وتطهير البيت: إعداده وتخصيصه للمؤمنين بالله، فلا يقربه مشرك، ولا يطوف به، ولا يعكف فيه إلا مؤمن خالص الإيمان. ثم يقول سبحانه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 آية: (126) [سورة البقرة (2) : آية 126] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) التفسير: وإذ جعل الله البيت الحرام مثابة للناس وأمنا، وإذ جعله الله مقاما لإبراهيم ومصلّى للمؤمنين، وإذ عهد إلى إبراهيم وإسماعيل بالقيام على هذا البيت وتطهيره من أن يلمّ به رجس- إذاك توجه إبراهيم إلى ربّه أن يبارك البيت وما حوله، وأن يصيب البلد الذي يقوم حول هذا البيت ببعض نفحاته وبركاته.. هكذا الطيب يعبق ريحه، فيطيّب الأجواء من حوله.. ومن شأن هذا البيت الطهور القدس أن يجد ريحه الطيب كلّ شىء يدنو منه، من إنسان وحيوان ونبات.. فأما كنه آمنة، والناس فيها آمنون، وحيوانها ونباتها آمن، فلا يصاد حيوانها ولا يعضد شجرها، «رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً» أمنا مطلقا يصيب كل شىء.. «وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ» فهذا الرزق هو مما يكفل الأمن لأهله.. «مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» .. وفى قول إبراهيم: «بَلَداً آمِناً» ، وقوله فى آية أخرى فى سورة إبراهيم: «رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً» ما يشعر بأن بين «البلد» و «بلدا» فرقا.. وهذا ما يحدّث عنه التاريخ، من أن إبراهيم كانت له عودة إلى البلد الحرام بعد أن ترك إسماعيل وأمه فيها.. فحين تركهما لأول مرة كانت غير معمورة، فهى «بلد» لم يكتمل بعد، فلما عاد إليها بعد مدة كانت قد أخذت تعمر فهى «البلد» ! وقد تأدب إبراهيم مع ربّه، ونظر إلى قوله تعالى «لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» فخصّ بدعائه هذا من آمن بالله واليوم الآخر، حيث لا مكان فى هذا البيت القدس لمن كفر بالله، ولكن رحمة الله تسع البرّ والفاجر، ومن طبيعة الحياة ألا يستقيم فيها الناس جميعا على صراط الله: فكان ردّ الله على إبراهيم أن سمع دعاءه فى المؤمنين، وأما من كفر فلا يحرم هذا الرزق المساق إلى البيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 الحرام، متاعا له فى هذه الدنيا، ثم يوفىّ حسابه فى الآخرة، بما أعد للكافرين من عذاب أليم. ثم يقول سبحانه: الآيات: (127- 129) [سورة البقرة (2) : الآيات 127 الى 129] وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) التفسير: فى هذه الآيات خبر بناء البيت الحرام بيد إبراهيم وإسماعيل، وقد ذكر البيت قبل هذه الآيات وهو مستكمل وجوده، ومهيأ للعبادة، وهذا ما يشعر بجلاله وقدسيته، وأنه كان معدا من قبل بيد القدرة، وأن يدى إبراهيم وإسماعيل اللتين جرتا عليه بعد هذا، إنما لإظهار هذا السرّ المضمر، والقدر المقدور. وفى قوله تعالى: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ» هو ظرف حاو للحال التي كان عليها إبراهيم وإسماعيل وهما يرفعان القواعد من البيت، ويدعوان الله بما دعواه به، فى قولهما: «رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ» وقد استجاب الله لهما، فجعل منهما أمة محمد، ثم كان من دعائهما قولهما: «رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ» . وقد استجاب الله لهما فبعث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 النبىّ العربىّ، محمد بن عبد الله، صلوات الله وسلامه عليه، وفى هذا يقول النبىّ الكريم: «أنا دعوة أبى إبراهيم، وبشرى أخى عيسى» ، والكتاب هو القرآن، والحكمة هى السنّة، وبهما يتزكى المؤمن ويتطهر. ثم يقول سبحانه تعالى: الآيات: (130- 132) [سورة البقرة (2) : الآيات 130 الى 132] وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) التفسير: الدّين الذي اصطفاه الله سبحانه لإبراهيم واصطفى إبراهيم له، هو الإسلام، وهو دين الله، كما يقول سبحانه: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» (19: آل عمران) . وتلك هى ملة إبراهيم، فمن رغب عنها فقد رغب عن الحق، وتنكّب عن الهدى، ولا يفعل ذلك إلا سفيه أحمق، اشترى الضلالة بالهدى. وقوله تعالى: «إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» هو مما ابتلى الله به إبراهيم من كلماته، وقد استجاب إبراهيم لله، وخرج من الابتلاء سليما معافى، مستأهلا لرضى الله ورضوانه. وفى قوله تعالى: «وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ» يعود الضمير فى «بها» إلى الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم، والتي وصّى بها إبراهيم يعقوب، ثم وصّى بها يعقوب بنيه من بعده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 ثم يقول جل شأنه: الآيتان: (133- 134) [سورة البقرة (2) : الآيات 133 الى 134] أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) التفسير: الخطاب هنا لبنى إسرائيل، ليذكروا تلك الوصية التي وصّى بها يعقوب بنيه حين حضرته الوفاة، وأنه أقامهم على دين الله، دين إبراهيم وإسماعيل وإسحق، وهو دين الإسلام. وإذن فهذا الدين الذي جاء به «محمد» ليس بدعا من الدين، وإنما هو امتداد لدين إبراهيم، الذي وصّى به بنيه: إسماعيل وإسحق، والذي وصّى به اسحق يعقوب، كما وصى به يعقوب بنيه! وإذن فلم يدّعى بنوا إسرائيل- وهو يعقوب- أنهم على الحقّ وحدهم؟ وكيف ودينهم هو فرع من أصل هو دين إبراهيم، وإسماعيل، وإسحق؟. إن دعوى أنهم المصطفون وحدهم لدين الله دعوى باطلة، إذ ليس إبراهيم لهم وحدهم، وليس دينهم ميراثا من إبراهيم، مقصورا على إسرائيل «يعقوب» وحده فإن يكن هذا الدين ميراثا، فقد ذهب إسماعيل بشطره، على حين ذهب اسحق بالشطر الآخر!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 ويقول سبحانه: الآيتان: (135- 136) [سورة البقرة (2) : الآيات 135 الى 136] وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) التفسير: وقال اليهود للمسلمين: كونوا هودا تهتدوا، وقال لهم النصارى: كونوا نصارى تهتدوا، حيث حسب اليهود أن اليهودية وحدها هى الدين الحق، وحيث حسب النصارى أن النصرانية وحدها هى الدين الحق، فردّ الله سبحانه وتعالى على الفريقين هذا الردّ الذي لقّنه المسلمين، وأمرهم أن يكون هو المعتقد الذي يعتقدونه، والدّين الذي يدينون به، والقول الذي يلقون به اليهود والنصارى على السواء: «بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين.. قولوا آمنّا بالله، وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيّون من ربّهم لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون» فهذا هو دين الله، الذي حمله الأنبياء والرسل إلى عباد الله.. فمن آمن برسول من رسل الله ولم يؤمن بجميع الرسل، فليس من المؤمنين، ومن تمسك بكتاب وكفر بما سواه من كتب الله، فهو من الكافرين.. وقد ذمّ الله أهل الكتاب- من اليهود والنصارى- الذين فرّقوا دين الله وتوعدهم بالعذاب الأليم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 فقال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (150- 151: النساء) على حين الله مدح المؤمنين الذين يؤمنون برسله جميعا، ولم يفرقوا بين أحد منهم، وأنزلهم منازل رضوان، وأوسع لهم فى جناب رحمته ومغفرته، فقال تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» : (252: النساء) ويقول جل شأنه: الآيات: (137- 139) [سورة البقرة (2) : الآيات 137 الى 139] فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) التفسير: الإيمان بالله وكتبه ورسله من غير تفرقة بين الله ورسله، هو الإيمان الذي قامت عليه دعوة الإسلام، واستقام عليه المسلمون، فإن آمن أهل الكتاب مثل هذا الإيمان فقد اهتدوا، وصح إيمانهم، وإن تولّوا فقد ضلّوا سواء السبيل، وصار أمرهم إلى خلاف وشقاق بينهم وبين المؤمنين، ثم بينهم وبين أنفسهم، وليس على النبىّ والمسلمين من بأس فى مخالفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 أهل الكتاب لهم، واتباعهم سبيلا غير سبيل المؤمنين، فالله سبحانه، سيكفى النبىّ شرّهم، ويبطل كيدهم. وقوله تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ» داخل فى مقول القول، فى قوله تعالى: «قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ» أي قولوا آمنا بالله وصبغنا صبغة الله، أو رضينا صبغة الله، والصبغة هنا هى السّمة واللون الذي يظهر به المسلمون فى الناس، وهو الإسلام. وقوله تعالى: «قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ» إنكار من المسلمين على أهل الكتاب أن يجادلوهم فى الله، إذ الأمر لا يتسع لجدال فى حقيقة واحدة، فإمّا إيمان، وإما كفر. ثم يقول سبحانه: آية: (140) [سورة البقرة (2) : آية 140] أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) التفسير: وهذا إنكار أعلى هل الكتاب- اليهود والنصارى- أن يقول اليهود إن إبراهيم وإسماعيل: وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا يهودا، وأن يقول عنهم النصارى إنهم كانوا نصارى، وقد أخبر الله أنهم لم يكونوا يهودا، أو نصارى: «ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا، وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» : (67: آل عمران) وأهل الكتاب يعلمون من التوراة والإنجيل هذه الحقيقة، ولكنهم يكتمونها، ويشهدون زورا وبهتانا على خلافها، وذلك ظلم مبين للحقيقة، ولأنفسهم، التي حجبوها عن الحق، وأوردها موارد الضلال والخسران. ثم يختم الله هذا الموقف بقوله سبحانه: آية: (141) [سورة البقرة (2) : آية 141] تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141) التفسير: الأمة هى الجماعة، ويراد بها هنا إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وأتباعهم، وقد صار أمرهم إلى الله، والخلاف فيهم لا ثمرة له، وإنما يؤخذ كل إنسان بعمله، فمن أحسن فلنفسه، ومن أساء فعليها، وما ربك بظلام للعبيد. فانظر كيف كان دفاع القرآن عن هذا الأمر الذي جاء به، ودعا المسلمين إليه؟ إنه إلى الآن لم يجىء الأمر المرتقب، وهو دعوة المسلمين إلى أن يحوّلوا قبلتهم إلى البيت الحرام.. ومع هذا كانت تلك المواقف التي كشف فيها القرآن عن طوايا النفوس، وما يحمل أهل الكتاب فى نفوسهم- وخاصة اليهود- من ضغينة وحقد على الإسلام! كانت إعجازا من إعجاز القرآن. وأنت ترى أن الأمر بتحويل القبلة لم يذكر بعد، ولهذا لم يكن لأهل الكتاب ولا لغيرهم حديث عنه، وإنما سبق القرآن إلى الكشف عن المستقبل، وأطلع المسلمين على ما سيلقى به أهل الكتاب هذا الأمر.! وأول آية تلقانا بعد هذا هى قوله تعالى: «سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها» (الآية: 142) .. إنهم لم يقولوا بعد شيئا، ولكنهم سيقولون، حين يجىء الأمر الذي قدره الله وأراده! وسنرى فى الآيات الآتية كيف كان دفاع القرآن، وكيف كان ردّه وردعه لهؤلاء السفهاء، المتطاولين على الحق، المتربصين به وبأهله السوء! وإنك لترى من هذا كلّه أن آية النسخ كانت مقدمة الدفاع، فى قضية التحوّل بالقبلة إلى المسجد الحرام.. وكأنها تقول للمسلمين ولأهل الكتاب: إن الله سبحانه وتعالى إذا نسخ آية من آياته، أو بدل حكما من أحكامه بحكم آخر، فذلك بمقتضى حكمته ورحمته بعباده. وقد نسخ الله كثيرا من الشرائع التي تقدمت شريعة الإسلام، وأنساها فلم يعد أحد يذكر عنها شيئا.. فأين رسالة نوح؟ وأين صحف إبراهيم التي ذكرها القرآن فى قوله تعالى: «إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى» ؟ وأين رسالات الأنبياء: صالح، وهود، وشعيب، ولوط؟ يقول ابن كثير فى تفسيره: «والذي يحمل اليهود على البحث فى مسألة النسخ هو الكفر والعناد، فإنه ليس فى العقل ما يدل على امتناع النسخ فى أحكام الله تعالى.. لأنه يحكم ما يشاء، كما أنه يفعل ما يريد.. كما أنه قد وقع ذلك فى كتبه المتقدمة، وشرائعه الماضية، كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه ثم حرّم ذلك، كما أحلّ لنوح عليه السلام بعد خروجه من السفينة، جميع الحيوانات، ثم نسخ حلّ بعضها، وكان نكاح الأختين مباحا لإسرائيل وبنيه، وقد حرّم فى شريعة التوراة وما بعدها. وأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده، ثم نسخه قبل الفعل ... » «1»   (1) تفسير ابن كثير. الجزء الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وعلى هذا، فإن أقرب مفهوم إلى النسخ الذي تشير إليه الآية: «ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ» هو نسخ الأمر بالتوجّه بالصلاة إلى البيت المقدس، وجعله إلى المسجد الحرام.. وكلا المسجدين آية من آيات الله، إذ قاما بأمره، وأفاض عليهما من فضله، فإذا نسخ المسجد الحرام المسجد الأقصى، فإنما هو نسخ آية بآية، وتبديل نعمة بنعمة! .. «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» . أما قوله تعالى: «أَوْ نُنْسِها» ففيه قراءتان: ننسها، أو ننسأها. فعلى القراءة الأولى، يكون من النسيان، بمعنى أنه تعالى يعفّى آثار بعض شرائعه التي شرعها، وأحكامه التي قد فرضها فى أجيال الماضين.. قال أبو بكر الرازي: «إنما يكون بأن ينسيهم الله إياه، ويرفعه من أوهامهم، ويأمرهم بالإعراض عنه وكتبه فى الصحف، فيندرس على الأيام، كسائر كتب الله القديمة، التي ذكرها الله فى كتابه، فى قوله تعالى: «إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى» .. ولا يعرف اليوم منها شىء» . وعلى القراءة الثانية، يكون من النّسأ، وهو التأخير، ومعنى هذا أن الله سبحانه قد يؤخر نسخ آية إلى أجل معلوم، كما أخر نسخ التوجه إلى بيت المقدس، منذوجّه المسلمون وجوههم إليه فى الصلاة، إلى أن أمروا بالتحول إلى المسجد الحرام.. بعد سبعة عشر شهرا!. ونخلص من هذا كله، إلى القول، بأن آية النسخ ليست موجهة إلى نسخ آيات من القرآن الكريم، بآيات أخرى، وإنما إلى نسخ قبلة وإحلال أخرى مكانها.. وأن النّسأ هو تأخير الحكم الذي دعى به المسلمون إلى التحول إلى البيت الحرام- مدّة بلغت سبعة عشر شهرا، كانوا يتجهون خلالها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 نحو بيت المقدس، وذلك لحكمة أرادها الله تعالى، فيها امتحان وابتلاء لعباده، من مؤمنين، وكافرين، ومنافقين.. تأويل بعض ما يبدو فيه النسخ: من آيات الأحكام ما يبدو فيها النسخ، إذ كانت القضية واحدة، والأحكام فيها مختلفة، وأوضح مثل لهذا، الآيات التي جاءت فى «الخمر» ومثلها الآيات التي جاءت فى «الربا» . فقد جاء فى «الخمر» آيات فى عدة مواضع من القرآن، وفى كل موضع حديث عن الخمر، يختلف عما تضمنته الآيات الأخرى، وذلك فى صدد تحريمها، ومثل ذلك ما ورد فى الربا. ويرى العلماء القائلون بالتناسخ بين هذه الآيات أن ذلك لحكمة تربوية، قصد بها التلطّف فى الدخول على النفوس دخولا مترفقا، فى تحريم أمور كانت ذات ارتباط وثيق بها، وسلطان قاهر لها.. وفى انخلاع النفس عنها جملة، ما لا يؤمن معه سلامة النفس، أو تقبلها لهذه الأوامر إذا هى حملت عليها دفعة واحدة، على هذا الوجه المفاجئ، فقد تخور كثير من النفوس، وقد تتصدع وتنحلّ، إذا هى واجهت الأمر مرة واحدة دون إعداد وتمهيد. ففى الخمر.. حين أراد الله أن يحرمها، سلك ذلك المسلك التربويّ الحكيم، الذي لا يرى ألطف، ولا أحكم، ولا أعدل مدخلا منه إلى النفس. (1) : كان أول إشارة إلى الخمر تلك الإشارة التي تضعها وضعا غير كريم بين النعم التي أنعم الله بها على عباده، فقال تعالى: «وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً» (67: النحل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 فالرزق الحسن الذي يتخذ من ثمرات النخيل والأعناب، ليس منه السّكر الذي يتخذ من هذه الثمرات.. وإلا لكان قد وصف بأنه سكر حسن، كما وصف الرزق بأنه رزق حسن. وفى هذا ما يفتح للكثير من ذوى البصائر سبيلا إلى العزوف عن هذا السّكر وتجنبه، إذ كان رزقا غير حسن! (2) : ثم تجىء الآية الثانية بعد هذا، وفيها تشنيع على الخمر، وتقبيح لها، وفى هذا يقول الله تعالى: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما» (219: البقرة) . فقد قرنت الآية الخمر إلى الميسر، وجعلتهما فى مقود واحد، إذ كانا من فصيلة الشر والفساد على السواء.. ومن تدبير القرآن الكريم فى هذا أنه لم يغفل الوجه الآخر لهذه المنكرات. فكل شىء وإن بلغ ما بلغ من السوء، له جانب آخر غير سيىء.. إذ ليس هناك شر خالص، أو خير محض، فيما يدور فى دنيا الناس، وفيما يتقلّبون فيه. فلم ينكر القرآن هذه الحقيقة الواقعة، وهى أن للخمر والميسر منافع من بعض الوجوه، وعند بعض الناس، ولكن هذه المنافع ليست شيئا إذا هى قيست إلى جانب الإثم والشرّ اللّذان ينجمان منهما. فإذا ربح إنسان من الميسر مرة، فإن خسائره المحققة آخر الأمر أضعاف ما ربح، وإذا كان للخمر عند شاربها لذة أو نشوة فى أول عهده بها، فإنها تنتهى به إلى تدمير كامل، لقواه العقلية والجسدية والنفسية، إن لم يكن فى جميع الأحوال ففى غير قليل منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 (3) : ثم تجىء بعد ذلك إشارة أوضح وأصرح من سابقتها فى التحذير من الخمر.. إذ يقول تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» (43: النساء) فقد حرمت هذه الآية على المسلم أن يدخل فى الصلاة وهو فى حال سكر، لا يعلم معها ما يقول. والصلاة تتكرر فى اليوم خمس مرات، فى أوقات متفاوتة، تكاد تجعل الليل والنهار قسمة بينها، وهيهات أن يشرب شارب الخمر عقب صلاة من الصلوات، ثم تدركه الصلاة التالية، وقد صحا من خماره، أو أفاق من سكره. ولقد دعت هذه الإشارة كثيرا من المسلمين إلى أن يتجنبوا الخمر، وألا يقربوها بحال، على حين ظل بعضهم يلقاها بين الحين والحين، وفى حذر وإشفاق.. (4) : ثم كانت الحاسمة.. فجاء قوله تعالى: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» (91- 92 المائدة) . وبهذا يجىء الحكم القاطع فى تحريم الخمر، فتصبح منذ اليوم الذي نزلت فيه هاتان الآيتان الكريمتان، محرمة على المسلم! والسؤال الوارد بعد هذا: هو: ماذا يقال عن تلك الآيات التي تحدثت عن الخمر، قبل هاتين الآيتين اللتين جاءتا صريحتين قاطعتين بتحريم الخمر؟ أهي منسوخة بهاتين الآيتين؟ وهل هناك سلسلة من التناسخ بينها، بحيث ينسخ بعضها بعضا.. اللاحق منها ينسخ السابق؟ والجواب على هذا ليس جوابا واحدا.. فإذا قلنا بوجود النسخ فى القرآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 كان واضحا أن هذه الآيات جميعها منسوخة بالآيتين الأخيرتين، وكانت مراحل النسخ بينها متتابعة.. اللاحق منها ينسخ السابق! أما إذا قلنا بألّا نسخ فى القران، كان الجواب، بأن هذه الآيات جميعها عاملة، تلاوة وحكما، وأن اللاحق منها هو منسأ تأخر نزوله، ووجب امتثاله، كلّ فى وقته، لحكمة توجب ذلك الحكم الذي تضمنته الآية. وهنا يلقانا هذا السؤال: كيف يمكن التوفيق بين هذه الأحكام المختلفة، فى أمر واحد هو الخمر؟ فالخمر: رزق غير حسن.. وهى إثم ونفع، وإثمها أكبر من نفعها.. وهى محرمة.. إذا دخل بها شاربها الصلاة وقد سكر منها. ثم هى محرمة حرمة مطلقة من كل قيد! هذه سلسلة من الأحكام، واقعة على أمر واحد هو الخمر. فأى هذه الآيات، أو بمعنى آخر، أي أحكام هذه الآيات يلزم المسلمين العمل، والوقوف عنده؟ وقبل الإجابة على هذا السؤال، نسأل سؤالا آخر ونجيب عليه، وهو: هل من شأن النهى القاطع الملزم الذي جاءت به آخر آية فى تحريم الخمر- هل من شأن هذا النهى أن يحول بين المسلم وبين أن يشرب الخمر؟ أو بمعنى آخر هل فى هذا النهى من القوى الذاتية ما يعصم المسلمين جميعا من شرب الخمر أو يحميهم جميعا- فردا فردا- من الضعف النفسي إزاءها؟ والجواب على هذا إنما نأخذه من الواقع التطبيقى فى الحياة، للأوامر والنواهي، التي جاءت بها الأديان، وهى أن أي أمر أو نهى لا يستقيم الناس جميعا عليه، ولن يلتزموه التزاما كاملا، فما أكثر الذين يخرجون عن تلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 الأوامر والنواهي، فلا يأتون منها ما أمر الله به، ولا ينتهون عما نهى الله عنه. فالأديان تنهى عن الكذب، وكثير من أتباع هذه الأديان يكذبون، والأديان تنهى عن الظلم، وكثير من أتباع هذه الأديان يظلمون، والأديان تنهى عن السرقة وكثير من أتباع هذه الأديان يسرقون.. وهكذا الشأن فى كل ما تأمر به الأديان أو تنهى عنه، لا يستقيم الناس أبدا على أوامرها ونواهيها.، استقامة مطلقة، تحتوى الناس جميعا! والأديان تعلم هذا مقدما، ولهذا تفرض عقوبات دنيوية وأخروية، للمخالفات التي تقع من أتباعها. والخمر التي نهى الإسلام عنها، قد رصد الشارع العقوبة الرادعة لمن يشربها، ولا ينتهى عما نهى الله عنه منها. والسؤال هنا: إذا شرب مسلم الخمر.. فما موقف الإسلام منه؟ وما موقفه هو من الإسلام؟ أما الإسلام هنا، فإنه يراه آثما، يستحق العقوبة الرادعة فى الدنيا، وهى الجلد، وأمره إلى الله فى الآخرة.. إن شاء غفر، وإن شاء أخذه بما ارتكب. وأما هو- أي شارب الخمر- فهو على ما به من إثم- مسلم.. آثم، عاق. ولا تلتفت هنا إلى قول من يقول بتكفيره.. فقد شرب الخمر من شربها من المسلمين فى عهد النبوة، وفى عهد خلفائه الراشدين، وقامت البينة القاطعة التي أوجبت الحدّ عليهم.. ومع هذا فقد بقي معهم إسلامهم، وكانوا يشهدون مشاهد المسلمين فى الصلاة وغيرها. وإذن، فقد يشرب المسلم الخمر، يشربها ويدمغ بالإثم والعصيان، ولكن على أي حال هو مسلم، لا تسقط عنه الواجبات المفروضة على المسلم، ومن بينها الصلاة.. وليس من حائل يحول بينه وبين الصلاة فى هذه الحال، إلا أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 يكون فى حال سكر، لا يدرى معها ما يقول.. وهنا نجد الآية الكريمة: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» نجدها عاملة غير معطلة، فهى تفرض حكمها على من خالف ما نهى الله عنه- من أمر الخمر فشربها حتى سكر، وهو ألا يقرب الصلاة حتى يصحو من سكره، ويعلم ما يقول. وتبقى بعد هذا الآيتان: الأولى والثانية، وهى قوله تعالى: «وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً» وقوله تعالى: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما» . وهاتان الآتيان تعرّضان بالخمر، وتشنّعان عليها، وتضعانها موضعا غير كريم، وتزنانها بميزان يقلّ فيه خيرها ويكثر فيه شرها. فهى رزق.. ولكنها رزق غير حسن. وهى نفع.. ولكن إثمها أكبر من نفعها. وهى رجس.. ولكن بعض الناس يلطخ نفسه بهذا الرجس!. فجميع هذه الأوصاف هى للخمر، وهى أوصاف خسيسة كلها، ولكنها درجات فى الخسّة من حيث النظرة التي ينظر بها إليها، وهى على جميع مواقع النظر موسومة بسمة القبح والإثم والرجس، وتلك الأوصاف ملازمة لها، لا تنفصل عنها أبدا. وإذن فالآيات الأربع الواردة فى شأن الخمر، لا تعارض بينها، ولا تناسخ، بل كلها عاملة، تعطى الوصف المناسب لها، كما تعطى الحكم المناسب أيضا. وما قيل فى آيات الخمر، يقال فى آيات الربا كذلك: فالآيات التي نزلت فى شأن الربا، جاءت متدرجة على مراحل، على نحو ما جاءت عليه آيات الخمر فى الخمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 فأول ما نزل فى شأن الربا قوله تعالى: «وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ» (39: الروم) . وفى هذا تحريم للرّبا، وتشنيع عليه، وكشف لوجه كريه من وجوهه. ثم نزل بعد هذا قوله تعالى فى شأن اليهود المتعاملين بالربا، المستحلّين له: «وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ» (161: النساء) . وهذه الإشارة والإشارة التي قبلها تدعوان كثيرا من المسلمين إلى أن يحذروا هذا النوع من المعاملات، وأن ينفروا منه، وإن لم يكن قد حرّم عليهم بعد. ثم نزل بعد هذا قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (130: آل عمران) . «والنهى هنا ليس نهيا قاطعا فى تحريم الربا تحريما مطلقا، وإنما وقع تحريمه فى صورة خاصة، وهى أن يكون أضعافا مضاعفة.. وهذه الصورة تقابل فى تحريم الخمر قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» . ثم كانت الكلمة الأخيرة فى الرّبا، فنزل قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ» (278- 279: البقرة) . وبهذا كان الحسم والقطع فى تحريم الرّبا!. هذا، ويرى كثير من العلماء أن ما جاء فى الربا والخمر، ليس من قبيل النسخ، لأن النسخ هو إزالة حكم شرعى بحكم آخر شرعى.. والخمر والربا لم يكن قد جاء فيهما حكم شرعىّ بحلّهما، ثم جاء حكم شرعىّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 آخر بتحريمهما، فيكون الحكم الثاني ناسخا للحكم الأول، وإنما هما مما كانا للعرب فى الجاهلية، ثم جاء الإسلام فوجدهما على ما هما عليه فحرّمهما.. وقد ظلّت الخمر غير محرّمة إلى صلح الحديبية، حيث جاء القرآن إذاك بتحريمها. وكذلك الرّبا، لم يحرم تحريما قاطعا إلا قبيل وفاة النبىّ الكريم. ولكن إذا قيل فى القرآن نسخ- ألا تعتبر هذه المراحل التشريعية للأمر الواحد واختلاف الحكم فى كل مرحلة منها- ألا تعتبر هذه المراحل مما يقيم للقائلين بالنسخ فى القرآن، الشرط الذي يطلبونه له، وهو إزالة حكم شرعى، بحكم شرعى آخر؟. ثم ألا تعتبر كل مرحلة من هذه المراحل مظروفة بحكم يخصّها.. ثم تجىء المرحلة التالية فتنسخ حكمها؟. وعلى أىّ فإن رأينا فى الآيات التي نزلت فى الخمر والرّبا ألّا تناسخ بينها، وأنها جميعا محكمة، عاملة، تلاوة وحكما. وندع هذه الآيات التي يلتقى معنا فى الرأى فيها بعض الذين يقولون بالنسخ، وإن كان هذا اللقاء على وجه مختلف بيننا وبينهم!. وننظر فى آيات أخرى يقطعون بالقول بنسخها، ونقطع نحن بالقول بأنها غير منسوخة. فمن ذلك قوله تعالى: «وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً» (8: النساء) . فالقائلون بالنسخ مجمعون- قولا واحدا- على أن هذه الآية منسوخة بآية المواريث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 والقول ينسخ هذه الآية يسدّ على الفقراء والمساكين واليتامى بابا من أبواب الرحمة، أراد الله سبحانه أن يفتحه عليهم، كما أنه يقطع آصرة المودة بين ذوى القربى، التي أمر الله بها أن توصل!. وما أعدل الإسلام، وما أحكم أحكامه التي تتجلّى فى كل آية من آياته! وهنا فى هذه الآية الكريمة، التي يريد القائلون بالنسخ، عزل المسلمين عنها- تدبير حكيم من الإسلام، وآية من آيات خلود هذا الدين. فالميراث الذي يتركه الميت لورثته هو خير غير مرتقب، قد شمل أعدادا من الناس بحكم قرابتهم لهذا الوارث.. وهناك عيون كثيرة تتطلع إلى هذا الخير، وتتبع مواقعه التي وقع فيها، وخاصة ذوى القربى الذين لا نصيب لهم بين الورثة، وكذلك من يشهد قسمة هذا الميراث من فقراء ومساكين، لهم بالمورّث صلة جوار أو معرفة. إن هؤلاء وأولئك يرون مائدة ممدودة حافلة بأنواع الطعام، وهم جياع يسيل لعابهم إلى القمة مما عليها. هذا هو الموقف، كما يراه القرآن، وكما تشهده الحياة.. فماذا لو ذهب الورثة بكل هذا الميراث؟ ثم لم يكن لذوى قرابتهم المحرومين منه، نصيب؟ ولم يكن للفقراء والمساكين الذين تتلمظ شفاههم إلى نفحة منه شىء؟ ماذا يكون؟. أحقاد وأضغان، وعداوات، تثير السخط والنقمة، وتذهب بالإخاء والمودة بين الناس والناس!. وتأمل قوله تعالى: «إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ» .. أي إذا كانت القسمة بمحضر منهم، وبمشهد وعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 فهذا الحضور هو شرط فى أن يرزق هؤلاء الحاضرون من هذا الخير الذي شهدوه، ورأوا الأيدى تمتد إليه وتنال منه! وأنت ترى ما فى هذا التوجيه السماوي، تلك الحكمة الحكيمة التي تقوم عليها شريعة الإسلام فى تربية الأمم، ودعم بنائها، وإقامة أسسها على دعائم وطيدة من التضامن الاجتماعى، وحراسة المجتمع الإنسانى من أن تدخل عليه آفات التباغض والتحاسد، التي هى أفتك الأدواء فى تقويض الجماعات والأمم!. إن ضريبة «الزكاة» التي تفرضها كثير من الدول على ما ترك المورّث ليس إلا تطبيقا إجباريا، لهذا المبدأ الكريم السمح، وإلا وحيا من وحيه، وإن كان البون شاسعا، والمدى بعيدا، بينها وبين ما جاء به القران وشرعه الإسلام. فالإسلام لم يجعل هذا الأمر على وجه ملزم، بل جعله دعوة مطلقة للخير وللبر، فى مقام يحضره داعيان من دواعى الخير والبر، وهما: الوجد والموت.. إذ المال موجود عتيد بين يدى من سيصير إليهم من الورثة، وهو مال لم يقع فى أيديهم بعد.. ومن أجل هذا فإن النفس- فى تلك الحال- لا يغلبها الحرص عليه، والضنّ به كما لو وقع فى اليد، وصار فى حوزة صاحبه.. خاصة وأنه لم يبذل له جهدا، ولم يتكلف له عملا، بل جاءه هكذا عفوا من غير سعى.. ثم الموت المشهود المذكور فى هذا الوقت، حيث كل شىء من هذا المال يذكّر بالميت والموت معا.. ومن أجل هذا فإن النفس لا يغلبها الشح، ولا يمسك بها عن البذل والإنفاق فى سبيل الله، داعى الحرص على الحياة فى هذا الوقت، الذي يطلّ عليها فيه شبح الموت، ويذكرها بأن كل شىء إلى زوال «والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا» !. هذه الآية من الآيات الكثيرة التي قيل- على سبيل القطع- إنها منسوخة، وهى- كما رأيت- دعوة كريمة من دعوات الإسلام إلى البرّ والإحسان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وقوة عاملة فى حراسة المجتمع وحمايته من عوادى العداوة والبغضاء!. فإذا كان هذا ما ينسخ من آداب القرآن وأحكامه.. فماذا يبقى من آدابه وأحكامه؟ بل ولم يبقى- بعد هذا- على شىء من آدابه وأحكامه!؟ إننا لا نسيغ القول أبدا بأن شيئا منسوخا من هذا القرآن الذي نقرؤه، ونتعبّد به! إذ لا حكمة- مع هذا- لآيات كريمة نتلوها ونتعبّد بتلاوتها، ثم لا نعمل بها، ولا نأخذها مأخذ الجدّ، فى تحصيل الخير المشتمل عليه كيانها! إن النسخ معناه عزل الآيات المنسوخة عن الحياة، وإحالتها إلى «المعاش» .. وما الاحتفاظ بها فى القرآن إلا كالاحتفاظ بجثث الأموات محنطة فى توابيت!! وذلك مقام تنزّه عنه كلام الله رب العالمين! ولا نستكثر من عرض الآيات التي قيل إنها منسوخة- وهى كما يقول القائلون بالنسخ- كثيرة، تبلغ نحو ثلث القرآن عند بعضهم.. وسنلتقى أثناء نظرنا فى كتاب الله مع بعض تلك الآيات، التي قيل إنها منسوخة، وسنكشف إن شاء الله عن وجه الحق فيها! والله المستعان، ومنه السداد والتوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 ال آية: (142) [سورة البقرة (2) : آية 142] سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) كان تحوّل النبىّ والمسلمين بقبلتهم فى الصلاة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام، حدثا اتخذه اليهود ذريعة للتشويش على المسلمين، وإدخال البلبلة والاضطراب على معتقدهم، فكانوا يرصدون كل حدث يقع فى محيط المسلمين، ليقعوا منه على سلاح مسموم، يعملونه فى المعركة التي يخضونها ضد الإسلام والمسلمين. وحين أمر الله نبيه أن يتحول بالمسلمين إلى المسجد الحرام فى الصلاة وجدها اليهود فرصة سانحة للعمل، فأذاعوا أن محمدا إنما فعل ذلك على حساب عقيدته، للخلاف الذي بينه وبينهم، وأن بيت المقدس هو قبلة الأنبياء جميعا، فكيف استباح محمد لنفسه أن يخرج على شريعة الأنبياء وهو الذي يدعو إلى الإيمان بهم جميعا؟ فإذا كان دينه من عند الله، فهذا الذي فعله هو إبطال لهذا الدين، ومعالنة صريحة بالخروج على أحكامه، وأما إذا كان ما يدعو إليه من دين هو من عمله، فإن له أن يغيّر فيه ويبدّل كيف يشاء، لكن على ألا يتحكك بالأديان السماوية، وألا يعقد صلة بينه وبين الأنبياء.! بمثل هذه التخرصات كان يلقى اليهود المسلمين، على ألسنة المنافقين ومن فى قلوبهم مرض، وقد أثاروا بهذه المقولات بلبلة واضطرابا، حتى لقد وقع عند بعض المسلمين أن صلاتهم التي اتجهوا بها إلى بيت المقدس لم تكن قائمة على وجهها الصحيح، ولهذا أمرهم الله بالتحول إلى البيت الحرام! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 هذا، وفى قوله تعالى: «سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ» إخبار بما سيكون من هؤلاء السفهاء من سفاهة، قبل أن يقع منهم هذا السّفه عن تلك الواقعة، وفى هذا ما يكشف عن لؤم القوم وخبث طويتهم، وأنهم- بحكم ما هم عليه من خبث ولؤم- لن يتركوا هذا الحدث من غير أن يثيروا الغبار حوله، وأن يشعلوها فتنة عمياء، إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا! وفى قوله تعالى: «قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ردّ مفحم على تلك السفاهة المضلة، فإذا كانت العبادة لله وحده، وإذا كانت وجوه العابدين إنما قبلتها لله وحده، فإن أي متجه يتجه إليه المؤمن هو وجه قاصد إلى الله: «فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ» .. «قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ... وقد وجّه الله المسلمين وجهتهم الأولى، وهو الذي وجههم وجهتهم الثانية، وهم فى وجهتيهم على صراط مستقيم، إذ كانوا ملتزمين أمر الله، آخذين بهديه، عابدين له وحده! آية: (143) [سورة البقرة (2) : آية 143] وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) التفسير: قوله تعالى: «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً» عطف على قوله سبحانه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 «وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» أي قد هديناكم إلى صراط مستقيم «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً» أي أمة قائمة على صراط مستقيم، هو الوسط بين التقصير والغلوّ. وهذا هو أعدل المناهج وأقومها، حيث أن التقصير يقعد بصاحبه عن اللحاق بالركب، كما أن الغلوّ يقطع صاحبه عن مواصلة الرحلة، بعد أن يكلّ حدّه، ويفتر عزمه. وقوله تعالى: «لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» تعليل شارح للأمة الوسط ومكانها المحمود بين الأمم، فأهل هذه الأمة، هم بموقفهم الوسط، شهادة قائمة على الناس جميعا، إذ كان سيرهم على خط الحياة سيرا يحتمله جهد الأقوياء والضعفاء جميعا ... إنه سير يحفز همّة الضعيف ويشحذ عزمه، على حين أنه يمسك زمام الشارد، ويردّ أنفاسه المبهورة. وقوله تعالى: «وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» هو الميزان الذي يضبط الأمة الوسط، ويحكم قيامها على هذا الطريق السّوىّ، حيث كان الرسول الكريم هو المثل الأمثل لأمته، فهو فى الأمة الوسط شهادة قائمة عليها، يأخذ بقوله وعمله خطّ الوسط فيها، فيمسك بالضعاف أن ينزلوا عن المستوي الجامع للأمة الوسط، ويهتف بالمغالين ألّا يتفلتوا من خط هذه الأمة وينقطعوا عنه. والوسط من كل شىء هو مركز الاعتدال منه، ونقطة التوازن فيه. وطبيعى أن فوق الوسط منزلة أعلى منه، وأنه ليس غاية الكمال، ومع هذا، فإنه- فى مجموعه- خير مما فوقه، لأنه أثبت وأدوم، ولأنه أقرب إلى متناول الناس، إن لم يكن الناس جميعا، فالأغلب الأعم منهم. إن الاعتدال فى أي شىء وفى كل شىء، هو مما يحتمله الناس ويقدرون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 على الوفاء به، ويصبرون على ما يكرهون منه، أما ما فوق الوسط فهو أمر لا تحتمله أكثر النفوس، ولا تصبر عليه.. وقد يرتفع الإنسان إلى أكثر مما يحتمل، فيختل توازنه ويسقط.. ولا تكون السلامة والعافية إلا حيث الاعتدال، الذي يجد الإنسان فى مجاله القدرة على التحرك إلى فوق، وإلى تحت، وهو فى تلك الحركة- بحكم الوسط- لا يخرج عن المقام الكريم اللائق به، حيث يظل- بالوضع الذي هو فيه- مشرفا على الأرض، مستشرفا للسماء! وقد يقول بعض القائلين: إن الوسط لا طعم له، ولا ذاتية لوجوده.. إنه أشبه بالخط الوهمي بين شيئين.. إنه ليس شيئا، ولا ضد شىء. إن القسمة فى الأمور، هى الشيء وما يقابله.. الخير والشر.. الأبيض والأسود.. الحلو والمر.. الجميل والقبيح.. اليمين والشمال.. أما الوسط الذي يفصل بين هذه المتقابلات فليس إلا خطا وهميا.. ونقول: إننا لا ننكر أن الوسط ليس هو الكمال كله، وأن فوق الوسط منازل كثيرة للفضل، وأنه غير محجور على الناس أن يرتفعوا إليها، وأن يتنافسوا فيها.. بل إن ذلك مندوب محمود.. ولكن هذا شىء، والتشريع العام شىء آخر. التشريع إلزام لا انفكاك منه.. التشريع عقد بين صاحب الشريعة وأتباع هذه الشريعة.. فهم مطالبون بالوفاء بما شرع لهم، وهم ملومون مأخذون بالعقاب إذا قصروا.. وليس الأمر كذلك فيما كان عن تطوع واختيار.. إذ للإنسان أن يمضيه أو يعفى نفسه منه.. ولا لوم عليه! والتشريع حين يكون عاما.. لأمة، أو للإنسانية كلها- تقتضى الحكمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 فيه أن يكون قائما على معيار يسع الناس جميعا.. الأقوياء والضعفاء.. فى جميع الأزمان والأوطان. لذلك اقتضت رحمة الخالق بعباده، فى دعوتهم إلى الإسلام، الذي أريد له أن يكون دين الإنسانية، ومختتم رسالات السماء- اقتضت هذه الرحمة الراحمة أن تكون شريعة هذا الدين مقدرة على قدر ما يحتمل الضعفاء لا الأقوياء، وأن يكون ما فى الأقوياء من قدرة على احتمال ما فوق هذا التشريع هو فضل من فضل الله عليهم، يزدادون به كمالا فوق الكمال الذي بلغوه بأداء ما كلّفوا.. فإنه ما على المحسنين من سبيل. وقوله تعالى: «وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ» بيان للحكمة التي أرادها الله من وراء هذا الامتحان الذي امتحن المسلمين به، حين وجههم إلى بيت المقدس، ثم عدل وجههم عنه إلى البيت الحرام. ففى هذا الامتحان يختبر إيمان المؤمنين، وتظهر حقيقة ما عندهم من طاعة وامتثال لله ولرسوله، من غير أن تدور فى رءوسهم أسئلة التوقف، فيقول قائلهم: ما هذا؟ ولم؟ وكيف؟ إذ أن من شأن المؤمن أن يتلقى أمر الرسول بالقبول والتسليم، امتثالا لقوله تعالى: «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» : (7: الحشر) وفى قوله تعالى: «وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ» إشارة إلى أن هذه المحنة التي امتحن بها المؤمنون كبيرة، لا يجوزها بقلب سليم، ونفس مطمئنة إلّا الذين هداهم الله وثبت أقدامهم على طريق الحق واليقين: «وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» : (213: البقرة) . وقوله تعالى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ» تطمين لقلوب المؤمنين الذين وقع فى نفوسهم شىء من صلاتهم التي كانوا يصلّونها إلى بيت المقدس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 فهى صلاة كاملة، مقبولة عند الله.. ذلك أن المسلمين كانوا يصلون إلى بيت المقدس، فلما هاجر النبىّ وتحولت القبلة إلى البيت الحرام اهتزت مشاعرهم، وساورهم القلق فى شأن تلك الصلاة التي صلّوها إلى بيت المقدس، فكان أن تداركهم الله برحمته، وأنزل عليهم قوله: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» . آية: (144) [سورة البقرة (2) : آية 144] قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) التفسير: يخبر الله سبحانه فى هذه الآية عن الحال التي كان يعانيها النبىّ الكريم، حين هاجر إلى المدينة وقلبه معلّق بمكة والبيت الحرام، ووجهه يتردد فى السماء بين مطالع المسجدين: المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وهما على سمت واحد، فقطع الله عليه طريق التردد، وأمسك وجهه على القبلة التي تهفو إليها نفسه: «فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» . ويلاحظ أن هنا تقديما وتأخيرا فى عرض الأحداث، إذ جاء ذكر الآثار التي ترتبت على هذه الواقعة، قبل وقوعها، فكشفت الآيات عن موقف اليهود من تحول القبلة إلى المسجد الحرام أولا، ثم عرضت الأمر بهذا التحول بعد ذلك، وفى هذا ما يشعر بأن هذا التحول فى ذاته ما كان ليكون موضع تساؤل وجدل، فهو أمر من أمر الله، ووجه من الوجوه إليه: «وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وَالْمَغْرِبُ» .. ولكن النفوس المريضة لا تجد طعما لحلو، ولا مساغا لطيب، وهذا هو الذي ينظر فيه، ويهتم له، خاصة إذا كان المراء فيه عن علم: «وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» . آية: (145) [سورة البقرة (2) : آية 145] وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) التفسير: المراد بالقبلة هنا الدين والملّة، وموقف أهل الكتاب من النبىّ وما جاء به موقف عنادىّ، فهم منه على خلاف، لا يردّهم عنه أي برهان، ولا تنفعهم معه أية حجة، ولو جاءهم النبىّ بكل آية قاهرة ما آمنوا له، ولا اجتمعوا إليه.. وإذن فهم أبدا على ما هم عليه من هذا الخلاف.. هم مع باطلهم فى جانب، والنبي مع الحق الذي معه فى جانب، ثم هم فيما بينهم مختلفون، لا يلتقى بعضهم ببعض، ولا يستقيم بعضهم على طريق بعض!. وفى قوله تعالى: «وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ» استبعاد من أن يميل النبىّ إلى جانبهم، لأنهم إنما يتبعون أهواء، ويميلون مع مفتريات! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 الآيتان: (146- 147) [سورة البقرة (2) : الآيات 146 الى 147] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) التفسير: هؤلاء الذين يجادلون النبىّ ويكذّبون به وبرسالته، من أهل الكتاب- وخاصة علماءهم- يعرفون صدق هذا النبىّ، إذ يجدون صفته فى التوراة والإنجيل، بحيث لا يلتبس عليهم من أمره شىء، ولكنهم ينكرون هذا الحق الذي يعلمونه علم اليقين، حسدا وبغيا، وذلك ضلال ما بعده من ضلال، والله سبحانه وتعالى يقول: «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ» (23: الجاثية) وقوله تعالى: «الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» تطمين للنبىّ الكريم، وتثبيت له على ما عنده من آيات الله، فهى الحق من عند الله، فلا جدال فيها ولا امتراء، كما يجادل ويمارى الذين بأيديهم مثل هذا الحق من أهل الكتاب. آية: (148) [سورة البقرة (2) : آية 148] وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) التفسير: أي دع مراء هؤلاء القوم، فلهم وجهتهم، ولك وجهتك، واستبق الخيرات أنت ومن معك من المؤمنين، فذلك هو الذي ينفع يوم الجزاء، يوم يقوم الناس لربّ العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 آية: (149) [سورة البقرة (2) : آية 149] وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) التفسير: لا مراء مع أهل الكتاب، ولا التفات إلى ما يرجف به المنافقون فى شأن القبلة وتحول المسلمين إلى البيت الحرام، وإذن فالمسجد الحرام هو قبلتك أيها النبىّ، تتجه إليه أينما كنت، فى الحضر أو فى السفر، فذلك الأمر هو الحق المنزل إليك من ربّك، الذي لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء. آية: (150) [سورة البقرة (2) : آية 150] وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) التفسير: أعيد الأمر مرة ثانية بأن يوجّه النبىّ وجهه شطر المسجد الحرام، ولكن فى هذه المرة دخل المسلمون معه فى هذا الأمر، وإن كان دخول المسلمين مع النبي لازما فى الأمر الأول، وذلك ليتقرر فى نفوس المسلمين أنه أمر لازم لا رجوع فيه، ولا تحول بعده. وفى قوله تعالى: «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ» ما يقطع بأنه لا تحول عن البيت الحرام بحال أبدا، فذلك مما يعطى اليهود حجة على المسلمين إذا هم رجعوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 فتحولوا بقبلتهم إلى بيت المقدس، استجابة لما يوسوس لهم به اليهود، إذ أن الحق طريق واحد، والتردد فيه يعمّى السبل إليه. وقد عبّر القرآن عن اليهود هنا بكلمة «الناس» ليدخل معهم غيرهم، ممن تأثر بوسوستهم واستمع لضلالتهم. الآيتان: (151- 152) [سورة البقرة (2) : الآيات 151 الى 152] كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152) التفسير: من تمام النعمة على المسلمين، أن الله سبحانه أرسل فيهم رسولا من أنفسهم، يتلو عليهم آيات الله، ويطهرهم بالإيمان من أرجاس الوثنية والشرك، ويعلمهم ما فى كتاب الله من شرائع وآداب، وما فى سنة الرسول من أدب وحكمة، ويفتح لهم بذلك آفاق العلم والمعرفة.. وحقّ على المسلمين من أجل هذا أن يذكروا فضل الله عليهم، وأن يحمدوه ويمجدوه، ليزيدهم الله من فضله: «فاذكرونى أذكركم» أي اذكروني بالحمد والشكران، أذكركم بالمزيد من الفضل والإحسان. الآيتان: (153- 154) [سورة البقرة (2) : الآيات 153 الى 154] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 التفسير: الطاعات والاستقامة عليها، لها أعباؤها التي تحتاج إلى قوة احتمال ومجاهدة، ولكى يقوى الإنسان على حمل هذه الأعباء، كان لا بد له من زاد يعينه، ويمسك عليه عزمه ومضاءه.. والصبر والصلاة هما خير ما يتزود الإنسان به، لكى يجد من نفسه القدرة على الوفاء ببعض حق الله عليه. والصبر قوة معنوية لا يحصل عليها الإنسان إلا بعد رياضة ومعاناة، وتلك الرياضة وهذه المعاناة يحتاجان إلى الصبر، والصبر يحتاج إليهما.. وإذن فالدعوة إلى الصبر دعوة إلى التمرس بالطاعات أولا، والتعود على أداء الواجبات، فذلك هو الذي يخلق فى الإنسان خلق الصبر.. وفى هذا يقول الله سبحانه للنبى الكريم: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها» .. فأداء الصلاة والمداومة عليها يحتاج إلى الصبر والمصابرة، وبذلك توضع الخمائر الأولى للصبر فى كيان الإنسان، ومع الزمن ينمو الصبر، ويصبح قوة عاملة فى الإنسان. هذا ويذهب بعض المفسّرين إلى أن معنى الصّبر فى قوله تعالى: «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ» هو «الصوم» إذ كان الصوم فى صميمه تجربة حية مباشرة لغرس بذرة الصبر وإرواء نبتته، ولهذا سمّى رمضان شهر الصبر. ونحن نأخذ بهذا المعنى للصبر، ونرى فى التعبير القرآنى عن الصوم بالصبر إعجازا من إعجاز القرآن، حيث كان الصبر والصوم متلازمين، لا وجود لأحدهما بغير الآخر، فلا صوم إلا مع الصبر، ولا صبر إلا ومعه صوم وحرمان.. صوم عن مكروه، وحرمان من محبوب!. ولأن الصوم لا يكون إلا ومن ورائه الصبر، كان التعبير عنه بالصبر أولى من التعبير عن الصبر بالصوم، إذ قد يكون الصبر ولا صوم، ولكن لا يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 الصوم بغير الصبر!. والجهاد فى سبيل الله، والانتظام فى صفوف المجاهدين، والإقدام على ملاقاة الأعداء، والتعرض لمواجهة الموت- ذلك كله يحتاج إلى رصيد عظيم من الصبر والإيمان.. ولهذا جاءت دعوة الله إلى الجهاد فى سبيل الله، بعد دعوته إلى الاستعانة بالصبر والصلاة، على المحن والشدائد. والجهاد فى سبيل الله، محفوف دائما بالبذل والتضحية.. بذل المال، وتضحية النفس، والأهل والولد. والابتلاء بفقد الأحباب- ولو كان فى سبيل الله- شاق على النفس، أليم وقعه على الأحياء، ولهذا لم يكن الفيء إلى الصبر والصلاة- مهما كان شأنهما- بالذي يقهر نوازع الحزن، ويذهب بلواعج الأسى فى هذا المقام.. ولهذا جاءت تلك المواساة الكريمة الرحيمة من رب العالمين، لتمسح بيد الرحمة على ما بقلوب المبتلين بفقد أحبابهم، والمصابين باستشهاد أهليهم، من آلام وأحزان، فهؤلاء الشهداء- كما يخبر رب العالمين- ليسوا بالأموات، وإنما هم أحياء. فى أطيب منزل، وعند أرحب جناب: «عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» (179- 170: آل عمران) إن لهؤلاء الشهداء شأنا آخر عند الله غير شأن غيرهم ممن ينقلون من هذه الدنيا إلى الدار الآخرة.. فهم أحياء عند ربّهم وإن كنا لا نشعر بحياتهم، هم فى عالم ونحن فى عالم، وبين العالمين حجاز.. وحسب المؤمن أن يتلقّى هذا الخبر عن الله تعالى فيعلم، عن يقين أن الشهداء أحياء، يلبسون صورة للحياة أكرم وأبقى من الحياة التي كانوا عليها.. وهم فى نعيم لا يقاس به أي نعيم ينعم به المنعمون فى هذه الدنيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 الآيات: (155- 156- 157) [سورة البقرة (2) : الآيات 155 الى 157] وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) التفسير: الناس جميعا مبتلون فى هذه الحياة- سواء أكانوا أفرادا أو جماعات أو أمما- بشىء من الخوف والجوع- يختلف قلة وكثرة- وبنقص فى الأموال والأنفس والثمرات.. فليس أحد فى هذه الدنيا بمأمن أبدا من أن تنزل به هذه النوازل، متفرقة أو مجتمعة.. والجزع فى هذه المواطن هو الذي يثقّل المصيبة، ويولّد منها مصائب، فيضاعف معها البلاء، ويعظم الألم، ويطبق اليأس، ويغلق كل باب للأمل والرجاء!. أما الذي يلقى أحداث الحياة ومصائبها بالصبر، ويواجهها بالتسليم والرضا، عن يقين وإيمان بأن ما وقع إنما هو بقضاء الله وقدره- فإن ذلك يهوّن عليه من وقع المصائب وإن عظمت، ويمدّه بمعين عظيم من الصبر والاحتمال، ويفتح له بابا واسعا من الأمل والرجاء فيما هو خير عند الله وأبقى: «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» فحين يذكر المؤمن أنه- ذاتا ومالا وأهلا وولدا- ملك لله، لا يملك مثقال ذرة مما فى ملك الله، وأن مصائر الأمور كلها إلى الله، ومردّها جميعا إليه- حين يذكر المؤمن هذا لا يأسى على فائت، ولا يحزن على مفقود، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 وتلك هى أولى بشريات المؤمنين فى هذه الدنيا، لا ينزل الحزن ساحتهم، ولا يرهق الهمّ والكرب قلوبهم: «أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» . آية: (158) [سورة البقرة (2) : آية 158] إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158) التفسير: الصفا والمروة جبلان صغيران قرب مكة، وهما منسكان من مناسك الحج، والسعى فيهما واجب فى الحج والعمرة عند بعض المذاهب، ونافلة عند البعض الآخر. وفى قوله تعالى: «فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما» ما يشعر بأن الأصل فى الطواف بهما هو الحظر، وأن رفع الحظر والجناح وارد استثناء على هذا الحظر، وهذا يعنى أن هذا الطواف تركه أبرّ من فعله.. ولكن كيف يكونان- الصفا والمروة- من شعائر الله، ثم يكون الطواف بهما أو السعى بينهما داخلا فى باب الحرج؟. هذا ما دعا أكثر المفسرين إلى البحث عن وجه يوفّقون به بين هذين الأمرين! وقد كثرت فى هذا المقولات واختلفت المرويات، كما هو الشأن دائما فى مثل هذا الموقف!. ومما قيل هنا: إنه كان هناك صنمان فى الجاهلية، أحدهما اسمه أساف، على الصّفا، والآخر اسمه نائلة، على المروة، وأن العرب فى الجاهلية كانوا يترددون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 عليهما، ويطوفون بهما، فلما جاء الإسلام، ودخل النبىّ- صلى الله عليه وسلم- مكة معتمرا وأراد أن يسعى بين الصفا والمروة، وقع فى بعض نفوس المسلمين شىء من الكراهية، فنزل قوله تعالى: «إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ، فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما» أي حيث أن الصفا والمروة من شعائر الله ومناسك عبادته، ولأن السعى بينهما منسك من مناسك الحج، يجب أو أن يندب أداؤه عند الحج أو العمرة، فليسع الحاجّ أو المعتمر بينهما، ولا عليه من بأس أو جناح من وجود هذين الوثنين! فرفع الحرج هو عن السعى مع وجود الصنمين، لا عن ذات السعى. ولكن هذا التعليل إن ساغ فى تلك الحال العارضة يوم نزول الآية- كما يقال- فإنه بعد ذلك يجعل الآية معلقة بوقت نزولها، منقطعة عن الحياة بعد هذا الوقت، فإن نظر إليها ناظر اليوم على أنها حكم من أحكام الحج، وجد فيها هذا الحرج قائما، يجده فى قلبه من يطوف أو يسعى بين الصفا والمروة!!. إن كلمات الله فوق هذا النظر المتهافت الكليل، وإن آيات الله لا يقطعها الحادث العارض لنزولها، عن أن تظل عاملة فى الحياة، ومصدر هدى ونور للناس إلى يوم الدين. وبنظرة أكثر عمقا وأبعد مدى، نرى فى تلك الآية- بما أرانا الله- ما يطمئن إليه القلب، وتستريح له النفس، وينشرح به الصدر.. والحمد لله رب العالمين. ففى قوله تعالى: «إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ» حكم قاطع بأن هذين المكانين من أماكن الله، التي اختصها بأن يتعبّد له فيها العابدون، ويتقرب إليه عندها المتقربون! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وقد جعل الله السعى بينهما منسكا من مناسك الحج، وفعلا من الأفعال التي تتم بها هذه الفريضة! وليس يعقل بحال أن يلمّ بمن يؤدى هذا المنسك- حاجّا أو متعمرا- غير نفحات الرحمة والرضوان.. وإذن فينبغى أن يكون معنى قوله تعالى: «فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما» كاشفا عن هذه الحقيقة، وعن نفحات الرضا والرحمة التي تحفّ بمن يطّوّف بهما! وننظر فنرى أن كلمة «يطّوف» بالتشديد غير كلمة «يطوف» بالتخفيف، ومعنى هذا أنها تعنى كثرة الطواف، لا مجرد الطواف! ومن جهة أخرى، فإن الطواف معناه الدوران، ومنه الطواف حول الكعبة، ومنه الطائفة وهى الجماعة المتحلّقة، وعلى هذا يكون المراد بالتطوف بالصفا والمروة: الدوران حولهما لا السعى بينهما.. والطواف بهما أمكن وأشق من السعى. وعلى هذا يكون معنى التطوف: إما الإكثار مع السعى بين الصفا والمروة، أو التطوف حولهما مع السعى بينهما. وعلى هذا أيضا، يكون رفع الحرج والجناح لا عن السعى، بل عن الاستزادة من السعى، أو الجمع بين الطواف والسعى، حيث يظن أن أداء الشعيرة موقوف به عند السعى بعدد من المرات، لا يتجاوزه الحاج أو المعتمر، أو أن الجمع بين الطواف والسعى غير مستحب، فكان رفع الحرج بإطلاق قيد العدد فى السعى، إلى ما يمكن أن يحتمله الجهد والطاقة، أو بالجمع بين السعى والطواف- كان الرفع للحرج إغراء بالإكثار من السعى، أو بالسعي الذي يجعل الطواف بالصفا والمروة جزءا منه.. فذلك زيادة فى العمل فى باب الخير، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 يزداد به الثواب، ويتضاعف به الجزاء، ولهذا جاء قوله تعالى: «وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ» عقب قوله سبحانه: «فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما» بيانا لهذه الاستزادة من التطوف التي هى زيادة فى خير، ومضاعفة لأجر، فمن استزاد خيرا فهو خير له. والفاصلة التي تختم بها الآية: «فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ» إقرار لهذا التطوع بالخير، الذي يجىء عن تبرع بما هو فوق المطلوب، وتقبّل له بالحمد والرضا من رب العالمين: «فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ» . ومثل هذا ما جاء فى قوله تعالى فى صوم رمضان: «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» . فالذين يجدون جهدا أو مشقّة فى صوم رمضان، مباح لهم أن يفطروا وأن يطعموا مسكينا عن كل يوم، وإطعام المسكين هو القدر المطلوب الذي يجزى كفدية عن إفطار يوم، لمن يفطرون رمضان حين يجدون مشقة فى صومه: «فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ» أي من زاد عن المطلوب، فأطعم مسكينين أو ثلاثة، أو عشرة، أو مائة، أو أكثر، فذلك زيادة فى عمل الخير، وعلى قدر هذه الزيادة يزاد فى الثواب. ومثل آية الطواف بالصفا والمروة ما جاء فى قوله تعالى فيما هو من أعمال الحج: «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ» . فبالإفاضة من عرفات تتم أعمال الحج، ولكن الحاج لا يزال فى تلك المواطن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 المقدسة، ونفسه معلقة بها، وأشواقه نازعة إليها. وعزيز عليه أن تنقطع الصلة بينه وبينها.. إلا أنه من جهة أخرى يرى أنه أدّى الفريضة وقضى مناسكها، وربما لو أنى عملا آخر ولو كان برا لم يقع عند الله موقع القبول، لأنه جاء على غير شرع الله، فكان قوله تعالى: «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ» إذنا بالدخول فى باب جديد من أبواب الخير، فيه طلب المزيد من فضل الله: «فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ» . الآيتان: (159- 160) [سورة البقرة (2) : الآيات 159 الى 160] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) التفسير: مناسبة هذه الآية للآية التي قبلها- على ما يبدو فى ظاهر الأمر من بعد الصلة بينهما- هو أن الله سبحانه وتعالى يرسل رسله بالبينات والهدى ليكشفوا للناس طريقهم إلى الله، وما يتقربون به إليه، من عبادات ومعاملات، وقد بينت الآية السابقة منسكا من مناسك الحج، وفتحت للناس بابا من أبواب التقرب والزّلفى إلى الله. وآيات الله هذه هى ميراث المؤمنين عن أنبيائه، والعلماء هم الأمناء على هذا الميراث الكريم.. وقد أخذ الله عليهم الميثاق أن يبينوه للناس ولا يكتموا شيئا منه.. كما قال تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وإذا كان أهل الكتاب- وخاصة علماءهم- قد نقضوا هذا الميثاق، فكتموا ما أنزل الله عليهم. وشوهوا معالم الحق فيه، فكان من المناسب أن يذكّروا فى تلك الحال بما هم متلبسون به، وأن يحذّروا، حتى ينتزعوا أنفسهم مما هم فيه، من خلال، إن كان لهم إلى أنفسهم عودة وإلى استنقاذها رغبة! والضمير فى قوله تعالى «مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ» يعود إلى الاسم الموصول فى قوله تعالى «ما أَنْزَلْنا» أي من بعد ما بينا هذا المنزل، وجعلناه فى كتاب، وهو التوراة والإنجيل. وقوله تعالى: «أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ» وعيد شديد لهؤلاء الذين يكتمون ما يعرفون من الحق، الذي بيّنه الله لهم فى كتبه، واللعنة معناها المقت والطرد من رحمة الله. وأما قوله سبحانه: «وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ» فهو تشنيع عليهم، وتغليظ لجرمهم، وفضح لهم بعرضهم فى وجه كل مسبّة يتسابّ بها الناس، ورميهم بكل سوء يرمى به الناس فى دنيا الناس.. هكذا بكل لسان، وفى كل مكان وزمان!! وقوله تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا» هو يد رحيمة منعمة، يمدها الله سبحانه لهؤلاء الذين غرقت سفينتهم، وتدافعت بهم أمواج الضلال والفتنة، لتلقى بهم إلى حيث البلاء المبين، والعذاب الأليم، وتلك فرصتهم إن اهتبلوها ومدوا أيديهم إلى الله، وأخلصوا له القول والعمل، كان فى ذلك خلاصهم ونجاتهم، ففى رحمة الله متسع لهم، فعلى هؤلاء الذين مكروا بكتاب الله ان يتوبوا، وأن يعدلوا عن طريقهم المعوج الذين ركبوه، وأن يصلحوا ما أفسدوا وما أدخلوا على كتاب الله من تحريف وتبديل، وأن يبينوا ما فى كتاب الله من حق، فى شأن النبي ورسالته.. هنالك يستقيم طريقهم، وتقبل توبتهم: «فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وانظر فى قوله تعالى: «وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» كم تجد فى قول الحق جل وعلا: «أَنَا» من معطيات الأمل والرجاء لمن يلفتهم الله إليه، ويتجلّى عليهم بذاته؟ وكم تجد فى «واو» العطف فى قوله سبحانه: «وَأَنَا» من قوى الجذب إلى الله لهؤلاء الضالين الظالمين؟ «فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ» فهم الراجعون إلىّ، الطامعون فى رحمتى «وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» . الذي يقبل التوبة عن عباده، ويرحمهم. الآيتان: (161- 162) [سورة البقرة (2) : الآيات 161 الى 162] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) التفسير: أما الذين أصروا على الكفر وماتوا عليه، دون أن يتطهروا منه بالتوبة والإيمان، فقد ضلّ سعيهم، وساء مصيرهم، ووقع عليهم من ربهم رجس وغضب، ومن الوجود كلّه- أرضه وسمائه- المقت واللعنة.. والضمير فى قوله تعالى: «خالِدِينَ فِيها» يعود إلى اللعنة فى قوله تعالى: «أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» أي هم واقعون تحت هذه اللعنة، خالدين فيها أبدا، لا يخفف عنهم عذابها، ولا ينظر إليهم بعين الرحمة أبدا. الآيتان: (163- 164) [سورة البقرة (2) : الآيات 163 الى 164] وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 التفسير: هذه دعوة إلى كل مخلوق: أن يشهد أن لا إله إلا الله ربّ العالمين، لا شريك له، رحمن السموات والأرض ورحيمهما. وبين يدى هذه الدعوة، معارض مختلفة الصور والألوان لما أبدعت يد الخالق، وما أودعت قدرته وحكمته فى هذا الوجود من آيات وشواهد، تحدّث بجلال الله وعظمته ووحدانيته. وفى كلّ شىء له آية ... تدلّ على أنه الواحد فنظرة مستبصرة فى هذا الوجود تفتح للناظر أكثر من طريق إلى الله، إن هو احترم عقله، واستفتى قلبه! آية: (165) [سورة البقرة (2) : آية 165] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) التفسير: وإنه لضلال ما بعده من ضلال، وسفه ليس وراءه من سفه أن تكون دلائل القدرة، وشواهد الوحدانية مبثوثة فى كل أفق، ناجمة فى كل مكان، ثم يكون مع ذلك فى الناس من لا يعرف طريقه المستقيم إلى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 فتتفرق به السبل إليه، فيرى الله بعين مريضة، وبقلب سقيم، وإذا الله عنده ربّ مع أرباب، وإله بين آلهة، فولاؤه لله قسمة بينه وبين ما أشرك معه من آلهة وأرباب، وحبه لله موزع مشاع بينه وبين الشركاء الذين جعلهم معه، وليس كذلك حبّ الذين آمنوا وأخلصوا إيمانهم لله، فهو الحبّ كل الحبّ لله وحده، لا شريك له فيه. وقوله تعالى: «وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ» وعيد مزلزل لكيان أولئك الذين أشركوا بالله وجعلوا له أندادا، وانتقال خاطف بهم إلى يوم القيامة وأهوالها، والنار الجاحمة المعدة لهم، وعندئذ يرون أن الملك لله وحده، وأن القوة كلها بيده، لا يملك أحد منها مع الله شيئا، يدفع عنهم هذا العذاب المحيط بهم. الآيتان: (166- 167) [سورة البقرة (2) : الآيات 166 الى 167] إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) التفسير: هنالك فى هذا الموقف المتأزم الخانق، وبين يدى هذا الجحيم الآخذ بالنواصي والأقدام، يكثر التلفت إلى الوراء، وترتفع صيحات الحسرة والندم من الآثمين الضالين! وفى مشهد من تلك المشاهد تقع الملاحاة بين الأتباع والمتبوعين، ويتبرأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 المتبوعون من الأتباع، وتتقطع بينهم أسباب التقارب والتواصل، ويترامون بالعداوة والبغضاء! والأتباع والمتبوعون هنا هم جميعا من أهل الضلال.. أما الأتباع فهم العامة، وأما المتبوعون فهم العلماء وأصحاب القيادة الدينية فيهم، إذ هم الذين زينوا للعامة هذا الضلال، وهم الذين حرّفوا لهم الكلم عن مواضعه، فأهلكوهم وهلكوا معهم جميعا. فالمشهد هنا بين الأتباع والمتبوعين قائم على شفير جهنم التي يساق إليها الأتباع والمتبوعون معا. ولما كان هؤلاء المتبوعون هم الذين زينوا لأتباعهم هذا الضلال الذي أوردهم موارد الهلاك، فقد وقع فى أنفسهم حين رأوا العذاب الذي ينتظرهم، أن أتباعهم سوف يتعلقون بهم، ويسوقونهم للقصاص منهم، بتهمة التحريض والغواية لهم، إذّاك بادر هؤلاء المتبرعون وتبرءوا من أتباعهم، ونفضوا أيديهم من كل صلة بهم! وحين يجد الأتباع أنهم وقادتهم حصب جهنم، كما يقول الله تعالى: «فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ» : (33: الصافات) يتضاعف حزنهم وتشتد حسرتهم، ويقطّع اليأس نياط قلوبهم، حين لم ينالوا منالا من هؤلاء الذين غرروا بهم، وأوردوهم هذا المورد الوبيل! وإذ ذاك تنطلق ألسنتهم بكلمات تتميز غيظا ويأسا: «لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً! فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا؟» فهم إنما يتمتمون- فى يأس مغلق- أن يردّوا هم ورؤساؤهم إلى هذه الدنيا، ليراجعوا حسابهم معهم على ضوء ما تكشّف لهم فى هذا الموقف، وليصموا آذانهم عن كل دعوة باطلة يدعونهم إليها.. أما تبرؤهم منهم فى الآخرة فإنه لا يجدى نفعا.. فقد دعوا إلى الضلال وأجابوا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وهاهم أولاء يجنون ثمرة ما زرعوا من شرّ، وما ثمّروا من إثم! «كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ» . الآيتان: (168- 169) [سورة البقرة (2) : الآيات 168 الى 169] يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169) التفسير: تكشف هاتان الآيتان عن وجه آخر من وجوه الضلال، فكما يفسد بعض الناس على الناس تفكيرهم، ويفتنونهم فى دينهم، كذلك تفسد نفس الإنسان على الإنسان تفكيره وتفتنه عن دينه، حين يسلم المرء زمامه لنفسه فلا يراجعها، ويتبع هواها حيث يميل به، والإنسان بما فيه من عقل وإدراك مسئول عن نفسه مسئولية لا يدفعها عنه إغواء المغوين ولا إضلال المضلين، حتى ولو كان وارد هذا الإغواء، ومهب ذلك الضلال نابعا منه، ومن نفسه التي بين جنبيه. وهو ما يعبر عنه القرآن الكريم بالشيطان.. فسواء أكان الشيطان هنا أو هناك، بعيدا أو قريبا، فإنه لا يبدو للإنسان، ولا يجد له وجودا قائما فى كيانه، وإنما هى وسوساته وخطراته، التي يقذفها فى النفس، فتتحرك أهواؤها، وتتناغى بلابل شهواتها، فإذا لم يتنبه الإنسان لها، ويأخذ السبيل عليها، ملكته، وأسرته، وألقت به ليد الشيطان! فالشيطان، هو دعوة الضلال التي تساق إلى النفس، على لسان إنسان ضال مضلّ، وذلك هو شيطان الإنس، أو التي تتحرك من داخل كيان الإنسان فيجد مسّها فى صدره ووقعها على نفسه، من وارد خفى، لا يدرى من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 أين جاء، وذلك هو شيطان الجن: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ» . الآيتان (170- 171) [سورة البقرة (2) : الآيات 170 الى 171] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) التفسير: هؤلاء الذين لم يستمعوا لنداء الحق، ولم يستجيبوا لدعوة العقل، فاتبعوا خطوات الشيطان، وأسلموا زمامهم ليده- هؤلاء قد ألغوا عقولهم، وباعوها بيع المفلسين.. بلا ثمن.. فإذا دعاهم داعى الحق: أن آمنوا بما أنزل الله، قالوا: «بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا» هكذا يريحون أنفسهم من عناء التفكير والنظر، وحسبهم أن يقفوا آثار آبائهم، وأن يرثوا عنهم عقيدتهم، ويتلقوا منهم دينهم، كما يرثون ما خلّفوا من متاع، وكما يتلقون ما استقر فيهم من تقاليد وعادات!! والمجتمع الذي يحيا هذه الحياة، مجتمع مصيره إلى الضياع والبوار، لأنه أشبه بالبركة الراكدة، التي لا يلبث ماؤها طويلا حتى يفسد ويتعفّن! أما المجتمعات التي يكتب لها النماء والازدهار فهى المجتمعات التي يتجدد شبابها بالعمل المادي والعقلي، فتفيد من تجارب أسلافها، وتضيف إلى تلك التجارب جديدا يجلو صدأها، وينمّى ذاتها، ويستولد الجديد الكريم منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وماذا على هؤلاء الذين يدعون إلى الإيمان بما أنزل الله، لو نظروا بعقولهم فى هذا الذي يدعون إليه، فإن صحّ فى عقولهم، واستقام مع الحق البعيد عن الهوى، اتبعوه عن علم، ولا عليهم أن يكون موافقا أو مخالفا لما عليه آباؤهم.. فإن كان موافقا له، زاد إيمانهم إيمانا، ويقينهم يقينا، وإن كان مخالفا وقوا أنفسهم شرّ الهاوية التي كانوا سيهوون إليها، لو أنهم اقتفوا آثار آبائهم، وسلكوا مسلكهم! وفى قوله تعالى: «وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً» تصوير كاشف لحال هؤلاء الذي لبسوا الكفر تقليدا ومتابعة وإرثا، فجمدوا على ما هم فيه، وأبوا أن يتحولوا عنه، ولو زلزلت الأرض بهم.. إنهم- وهذا شأنهم- لا يستمعون لداع، ولا يستجيبون لمناد، فلا تختلف حالهم كثيرا عن حال الحيوان الأعجم الهائم على وجهه، يهتف به: أن أقبل، أو اتجه يمينا أو يسارا، أو ما أشبه ذلك، فلا تترجم هذه المعاني فى سمعه إلا على أنها أصوات هائمة، لا معقول لها عنده، فتسقط الكلمات على أدنه كما تسقط الحجارة على الحجر! «صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ» فلقد سدّت عليهم منافذ العلم، وأغلقت دون عقولهم أبواب المعرفة. وفى قوله تعالى: «يَنْعِقُ» إشارة إلى أن الكلمات التي يهتف بها الهاتف إلى هذا الحيوان هى بالنسبة إليه نعيق، ولهذا عبّر عنها بما هى صائرة إليه، لا بما كانت عليه عند منطلقها من فم قائلها! الآيتان: (172- 173) [سورة البقرة (2) : الآيات 172 الى 173] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 التفسير: هذا نداء إلى الذين آمنوا، والتفات إليهم بعد الانصراف عن أولئك الذين أصمّوا آذانهم عن دعوة الحق، وأغلقوا قلوبهم على ما أشربوا من التعلق بما كان عليه أسلافهم من ضلال. وطيبات الرزق، هى الصفو الخالص من كل شائبة، وقد أبيح للمؤمنين كل طيب، وحرم عليهم كل خبيث، حتى لا يدخل على أجسامهم من الطعام إلا الطيب، كما لم يدخل على عقولهم من الدين إلا الحق. وما أهلّ به لغير الله، هو ما لم يذكر اسم الله عليه، وذبح قربانا لمعبود غير الله. وفى قوله تعالى «غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ» ضبط للقدر الذي يقف عنده المضطر حين يدعوه الاضطرار إلى تناول شىء من هذه المحرّمات، فلا يفتعل الاضطرار، ولا يركب الأمور التي يعلم أنها ستدخله مداخل الاضطرار وهو قادر على ركوب غيرها فإذا دخل منطقة الاضطرار من غير بغى، فلا ينال من هذه المحرمات إلا القدر الذي يمسك عليه حياته، ولا يلقى به فى التهلكة.. من غير عدوان ومجاوزة الحدّ، الذي يحفظ النفس من التلف. الآيات: (174- 175- 176) [سورة البقرة (2) : الآيات 174 الى 176] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 التفسير: من الذين يأكلون السحت ويملئون بطونهم بالحرام، أولئك الذين عندهم علم الكتاب من أهل الكتاب، ثم يكتمون علمهم هذا، ولا يؤدون الشهادة على وجهها إذا دعوا ليدلوا بما عندهم من علم، فى أمر ما، بل يحرّفون ويبدلون، لقاء الاحتفاظ برياسة دينية لهم على الناس، أو انتصارا للمشركين على المؤمنين فى مقابل ثمن معلوم. فهؤلاء إنما يأكلون فى بطونهم النّار فى هذه الحياة الدنيا، لأن هذا الطعام الذي يأكلونه إنما هو مما باعوا به دينهم، وبهذا صاروا أهلا للنّار، وقد أعدت أجسامهم التي نمت من هذا الطعام الحرام لتكون وقودا لتلك النار! وفى قوله تعالى: «فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ» صوت يتردد من خارج النار التي تلتهم أولئك الذين مكروا بما أنزل الله، فاشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، إنه صوت أولئك الذين نجاهم الله من هذا البلاء، يعبّرون به- فى دهشة واستغراب- عن صبر هؤلاء الأشقياء الذين تأكلهم النار وهم يتقلبون على جمرها.. إن كل من يطلع عليهم لا يملك إلا أن يستهول هذا الهول الذي هم فيه، ويتعجب من احتمالهم له، وصبرهم عليه! واستحضار هذه الصورة فى الدنيا، فيه تنفير من هذا الموقف الأليم، وتحذير من هذا المصير المشئوم! والإشارة فى قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ» واردة على هذا المصير البغيض، الذي صار إليه أولئك الذين كتموا ما أنزل الله من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 الكتاب واشتروا بآيات الله ثمنا قليلا، وأنهم إنما استحقوا هذا الجزاء السيّء لانحرافهم عن الحق عن علم.. ذلك بأن الله نزل الكتاب ناطقا بالحق، وقد عرفوه، فلا عذر لهم إذا هم تنكبوا طريق الحق، وركبوا شعاب الباطل والضلال!. الآية: (177) [سورة البقرة (2) : آية 177] لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) التفسير: يحسب علماء أهل الكتاب أن مراسيم العبادات وصورها وأشكالها التي يقفون عندها، بحيث لا تنفذ آثارها إلى باطنهم، ولا تؤثر فى سلوكهم- يحسبون أن ذلك هو غاية الدين، ومقصد الشرع، فنعى الله عليهم ذلك، وكشف سوء فهمهم للدين، وقصر نظرهم إلى الشرع.. فالدين معتقد وعمل، وعبادة وسلوك، وغرس وثمر! وفى الآية الكريمة أكثر من نظر: ففى قوله تعالى: «وَفِي الرِّقابِ» وهو معطوف على ما قبله.. وكان سياق النظم يقضى أن يكون: و «الأرقاء» أو نحو هذا، حيث أن المال المدعوّ إلى بذله، إنما يبذل لذوى القربى واليتامى، والمساكين وابن السبيل والسائلين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 أي أنه يقدم لأيد محتاجة إليه، ولأشخاص يسدون به حاجاتهم، وهو مع الأرقاء لفك رقابهم، ولكن لما كان الرقيق يمكن أن تفك رقبته من غير أن يأخذ هو المال فى يده، بأن يشترى من مالكه ثم يعتق بيد شاريه، أو يكون ملكا بشراء أو بغير شراء ثم يعتقه مالكه- فعتقه هنا إنما هو بذل المال، وإن لم يكن مقبوضا. ولهذا كان لفظ القرآن هو اللفظ الذي لا لفظ غيره فى هذا المقام: «وفى الرقاب» أي وإنفاق المال فى فك الرقاب، وتخليص الأرقاء وتحريرهم. وفى قوله تعالى: «وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ» عطف جملة على جملة، حيث عطف الفعل «أقام الصلاة» على قوله تعالى: «مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ» أي البرّ: من آمن بالله ... وأقام الصلاة وآتى الزكاة!. وإيتاء الزكاة، بعد بذل المال على ذوى القربى واليتامى والمساكين والسائلين وفى الرقاب- هو فرض واجب، على حين أن البذل المدعوّ إليه قبل ذلك، هو من قبيل التطوع الذي لا تسقط به فريضة الزكاة!. قوله تعالى: «وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ» معطوف على «من آمن» أي البر هو آمن بالله واليوم الآخر، و ... و ... والموفون بعهدهم إذا عاهدوا أي والذين أوفوا بعهدهم إذا عاهدوا. قوله تعالى: «وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ» قطع للصابرين عما قبلها، منصوبة على الاختصاص، إظهارا لفضل الصبر، وأنه ملاك كل أمر، كما بينا ذلك من قبل.. إذ لا وفاء بتكليف إلا مع عزيمة، ولا عزيمة إلا مع الصبر، وبالصبر. والبأساء: الحاجة والفقر، والضراء: ما يصيب الإنسان فى ماله أو نفسه، أو أهله، وحين البأس: أي حين الحرب والقتال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 الآيتان: (178- 179) [سورة البقرة (2) : الآيات 178 الى 179] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) التفسير: ممّا هو من البر الذي ذكر فى الآية السابقة على هذه الآية، أن يأخذ المسلمون أنفسهم بالتطبيق العملي لما فرض عليهم فى جرائم القتل، وهو القصاص، وهو قتل القاتل بمن قتل!. وفى قوله تعالى: «الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى» بيان لتكافىء المسلمين.. فليس حرّ أحسن من حرّ، أو عبد أكرم من عبد، أو أنثى أفضل من أنثى!. وقد رأى بعض الأئمة الفقهاء أن القصاص هنا إنما يقع بين المتماثلين: الحرّ بالحرّ، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى.. فلا يقتل الحرّ بالعبد، ولا الرجل بالمرأة!. وهذا تخريج غير سليم للآية الكريمة.. إذ ليس هذا التقسيم التنويعى للناس، بالذي يوجب التفاضل بين نوع ونوع! ولو كان موجبا لذلك لما كان قتل المرأة بالرجل، ولا العبد بالحرّ قصاصا.. إذ لا بفي دم المرأة- على هذا التقدير- بدم الرجل، وكذلك دم العبد ودم الحرّ!. وأولى من هذا أن تفهم الآية على وجه آخر.. وهو أن التنويع الذي جاءت به الآية، ليس مقصودا به التفاضل بين نوع ونوع، وإنما المقصود به أولا هو: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 ألّا تفاضل بين أفراد الأنواع.. فالحر لا يفضل الحرّ، سواء أكان قرشيا، أو غير قرشى.. وهكذا سائر الأنواع.. فإذا استقام ذلك، وزالت الفوارق بين الناس، فى النسب، والدم، والجاه، والسلطان، جمعهم جميعا- أحرارا وعبيدا، ذكورا وإناثا- نسب واحد.. هو الإسلام، الذي اصطبغوا بصبغته وحدها، وتعرّوا من كل نسبة إلا نسبته، وهنا تتكافأ دماؤهم.. الحر، والعبد، والأنثى.. سواء، كما فى الحديث الشريف: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» . وعلى هذا تقتل النفس بالنفس، أيّا كان جنسها، أو مكانها الاجتماعى.. إنسان بإنسان، وروح بروح. الآيتان: (180- 181) [سورة البقرة (2) : الآيات 180 الى 181] كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) التفسير: ومما هو من البر أيضا، التزام هذا التشريع الذي كتب على المؤمنين، وهو الوصية للوالدين والأقربين.. وقد ذكر فى الآية (177) أن مما يقوم عليه البر هو إيتاء ذوى القربى، وإذ جاء ذلك مطلقا من غير أن يبيّن، أهو على سبيل الوجوب، أو التطوع، فقد جاء فى هذه الآية مبينا بأنه على سبيل الوجوب، إذ كان مما كتبه الله وفرضه على المؤمنين. وقد اختلف فى وصف «الخير» الذي يتركه الذين يحضرهم الموت، من حيث الكثرة والقلة.. والرأى أنه يكون شيئا له وزنه واعتباره، بحيث يكون مما تطمح إليه الأنظار، وترصد مساره النفوس.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وقوله تعالى «الْوَصِيَّةُ» هو نائب فاعل للفعل: كتب عليكم، أي فرض عليكم الوصية للوالدين والأقربين إذا حضر أحدكم الموت. وقوله تعالى «بِالْمَعْرُوفِ» هو ضبط للمعيار الذي تقوم عليه الوصية، فلا يتحكم فيها هوى، فتميل بجانب، وتخفّ بجانب، أو أن يراد بها الكيد لا البرّ.. وهذه الآية مما قيل إنها من المنسوخ، وأنها نسخت بآية المواريث! ونحن لا نقول بالنسخ، ولا نراه فى تلك الآية الكريمة.. فهى برّ خاص بالوالدين، اللّذين قد لا يقوم الميراث بحاجتهما، وخاصة إذا كانا قد تقدمت بهما السنّ، وخلا ظهرهما من الابن الذي كانا يأملانه لكفالة شيخوختهما! وإذا كان ما فرضه الله سبحانه وتعالى لهما من ميراث فيما ترك ابنهما هو القدر الذي قضت به الشريعة، كنصيب مفروض لهما، فإن ذلك لا يقضى بحرمانهما من برّ خاص يجىء من قبل الابن، أو الابنة، وهما فى حال الحياة، ومن قبل أن يصير ما فى أيديهما خارجا عن سلطانهما، ملكا لغيرهما.. وليس تأخير الوصية والبر الذي تحمله إلى ما بعد الوفاة- بالذي يخرجها عن كونها برّا خاصّا، جاء من عمل ابنهما أو ابنتهما، وعن إرادتهما.. فإذا عرفنا- مع هذا- أن الوصية محددة القدر، وأنّها، لا تتجاوز بحال ثلث التركة- كان القول بنسخها قطعا لآصرة المودة والبر بالوالدين، هذا البرّ الذي يرى فيه الولد- وقد أحسّ دنوّ أجله- شيئا من العوض عما فاته من برّ والديه، وقد قضى الموت قضاءه فيه قبلهما، ثم إن هذا البرّ قد يكون شيئا رمزيّا، لا يراد به إلا التعبير عمّا للوالدين من حقّ قبل ولدهما، إذ لم يكن ما يوصى به مقدورا بقدر معيّن من المال! هذا فى الوصية للوالدين.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 أما الأقربون، فإن كانوا ورثة كالزوجة والابن وغيرهما، فشأنهم شأن الوالدين، فى إطلاق إرادة المورث، المشرف على الموت، أن يوصى لمن شاء منهم- فى حدود الثلث- بما يراه، ليسدّ حاجة يراها المورث فى ورثته، كأن تكون الزوجة مريضة، أو يكون أحد الأبناء ذا عاهة أو نحو هذا.. فإن كان الأقربون غير ورثة، فإطلاق إرادة المورث بالوصية لهما بشىء مما سيترك، أوجب وألزم.. إذ يرى أنهم- وهم ذوو رحمة- محرومون مما ترك للورثة من أقاربه! فالوصية- على هذا التقدير- ليست إلا استثناء من حكم عام هو الميراث، وبهذا الاستثناء تعالج الثغرات التي تظهر فى الحكم العام عند تطبيقه، الأمر الذي لا يخلو منه حكم عام! وفى قوله تعالى: «بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ» حراسة مؤكدة على هذا الاستثناء من أن يجوز على الحكم العام أو يعطّله..! وبهذه الحراسة المؤكدة تكون الوصية دعامة قوية يقوم عليها الميراث، وتكمل بها جوانب النقص الذي قد يكون فيه، فى أحوال وظروف خاصة، يترك تقديرها للمورث، ولما فى قلبه من تقوى، خاصة وهو على مشارف الطريق إلى الله. وقوله تعالى: «فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ» الضمير فى «بدّله» يعود إلى قوله تعالى «خَيْراً» أي فمن بدّل فى هذا الخير المسوق إلى الموصى إليهم من الموصى، بأن زاد أو نقص فيما سمع من الموصى، فإن إثم ذلك التحريف والتبديل واقع عليه.. فليحذر شاهد الوصية أن يشهد بغير ما سمع: «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» قد سمع ما نطق به الموصى، وعلمه وشهد عليه.. ومخالفة شاهد الوصية لما أوصى به الموصى، هو مخالفة لما سمعه الله وعلمه، وشهد به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 والحديث المروىّ: «لا وصية لوارث» حديث غير متواتر، لا ينسخ به حكم من أحكام القرآن. آية: (182) [سورة البقرة (2) : آية 182] فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) التفسير: بعد أن أثّم الله سبحانه وتعالى الذين يحرّفون الوصية على غير ما أراده الموصى ونطق به، كان مما قضت به حكمة الحكيم العليم أن يقيم الوصية على العدل، وأن يحمى هذا البر من أن يدخل عليه ما يجعل منه أداة للظلم، وطريقا إلى الإثم. فقد يركب الموصى رأسه، فيتخذ من الوصية سلاحا يضرب به فى عصبية وعمى، فيعمل على حرمان بعض أصوله أو فروعه، على حين يعطى بغير حساب من تقع عليه مشيئته منهم.. وفى هذا ما فيه من تقطيع أو أصر المودة والرحمة بين ذوى القربى. ولهذا جعل الله لشاهد الوصية جانبا من المسئولية فيها، وفى إقامتها على العدل والخير والمعروف. فهو- أي الشاهد- مطالب بأن يؤدى الشهادة فى الوصية على وجهها، إذا كانت محققة للعدل والخير والمعروف، فإن حرّف أو بدل، اتباعا لهوى، أو ميلا إلى ذى قرابة أو صداقة، فهو آثم، يلقى من الله جزاء الآثمين، فإن كان التحريف أو التبديل لسدّ خلل فى الوصية ولإقامة ميزان العدل فيها فإنه لا بأس حينئذ منه. ولما كان هذا التبديل خروجا على الأصل، فهو فى حكم ما أبيح للاضطرار، ينبغى الأخذ منه بالقدر الضروري، وبحذر وحرج معا، إنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 أشبه بعملية جراحية، لا تتعدى العضو الفاسد، وإلا كان الخطأ والخطر، وكان اللوم والمؤاخذة!. وفى قوله تعالى: «فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ» إشارة صريحة إلى الطريق الذي يلتزمه شاهد الوصية، إذا رأى أن يعدّل من صورتها، وهو الصلح بين ورثة الموصى وقرابته، بحيث يكون حظهم مما ترك مادة خير لهم، لا مصدر شقاق وفرقة. وفى قوله سبحانه: «فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» إشارة رفيقة إلى أن ما يفعله شاهد الوصية من تبديل، فى الحال التي يعالج ما بها من عوج، ليس من باب اكتساب الثواب، وحسبه إن هو أحسن ووفق أن يخرج معافى، لا له ولا عليه! .. «فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ!» وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» إشارة ثالثة إلى أن ما فعله شاهد الوصية فى هذا الموقف أمر ترجى له المغفرة والرحمة من رب غفور رحيم، إذ كان داعيته البر والخير، وكانت النية القائمة وراءه الإصلاح بين الناس، فهو والأمر كذلك أشبه بمعصية، ترجى لها الرحمة والمغفرة، فإنّ الكذب هو الكذب، حتى ولو كان فى سبيل البرّ والخير.. ولكنه فى هذا المقام متسامح فيه بالقدر الضروري، كما يتسامح فى أكل الميتة ولحم الخنزير وغيرهما من المحرمات عند الاضطرار! الآيتان: (183- 184) [سورة البقرة (2) : الآيات 183 الى 184] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 التفسير: فى آية البر (177) لم يذكر الصوم فيما ذكر من شعائر البر، ولكن قد أشير إليه ضمنا فى قوله تعالى: «وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ» إذ كان الصوم مما يدخل فى دائرة الصبر.. بل هو «الصبر» نفسه. وفى هذه الآية بيان لفريضة الصوم ووقتها وأحكامها، كما ذكر، فى الآيات التي قبلها من أعمال البر: القصاص فى القتلى، والوصية عند الموت، وهما أمران يستندان إلى الصبر، وكما سيذكر بعد ذلك الجهاد فى سبيل، وهو أمر لا يقوم إلا على الصبر. وفى قوله تعالى: «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ» بيان لمن أبيح لهم الخروج من هذا الحكم العام الذي دخل فيه المسلمون جميعا، وهو وجوب الصوم.. ويقال: طاق الشيء يطوقه طوقا وطاقة، وأطاقه إطاقة إذا قوى عليه، وطوّقه تطويقا ألبسه الطوق، يقول الله تعالى: «سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ» : (180 آل عمران) ومعنى هذا أن الذي يطيق شيئا إنما يعطيه طاقته، أي كل قوته، وهذا لا يكون إلا مع الأمر الشاق، الذي لا يقدر علية إلا بجهد ومشقّة. والذين يطيقونه هم الذين يرهقهم الصوم، ويبلغ بهم المشقة والجهد، كالمريض مرضا ملازما، وكمن دخل مرحلة الشيخوخة، وكبعض الحوامل اللائي يعانين من حملهن ما يلزمهن نظاما خاصّا فى التغذية.. وهكذا كلّ من خرج بناؤه الجسدى عن حد الاعتدال، فلا يستطيع الصوم، وإن استطاعه وجد المشقة والحرج، فلهؤلاء أن يفطروا، فقد رفع الله عنهم الحرج بقوله تعالى: «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (78: الحج) وبقوله سبحانه: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» : (286: البقرة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 والفدية هى ما يفتدى به المفطر الذي أباحت له حاله الجسدية الإفطار، وهو ما يقدمه كفّارة عن إفطاره، كما بينه الله تعالى فى قوله: «طَعامُ مِسْكِينٍ» أي عن كل يوم. وقوله تعالى: «فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ» ترغيب فى عمل البر والاستزادة منه، فإذا جعل الله سبحانه الفدية الواجبة هى طعام مسكين، فإنما ذلك رحمة بعباده ورفقا بالمعسرين منهم، وتمكينا للفقراء أن يلحقوا بالأغنياء، بتقديم هذا القربان إلى الله، وبالمشاركة فى البر والمواساة، ثم إن باب التطوع متسع مع هذا لمن تسخو نفسه بالبذل، وتسمح يده بالعطاء: «فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ» !. وفى قوله تعالى: «وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ» ما يضبط ميزان الاتجاه إلى الإفطار عند ذوى الأعذار. فلا يميل بهم إلى التفلّت من الصوم، مع الجهد المحتمل، ومع المشقة الممكنة، فالصوم تكليف، ولكل تكليف أعباؤه ومشقاته، وإلا لما كان ثواب وجزاء.. فترجيح جانب الصوم على جانب الإفطار مع الفدية ومع قيام العذر- من شانه ألا يجعل للأعذار الواهية مدخلا للترخص فى هذه العبادة، والتحلل منها لأقل مشقة وأقل جهد. الآية: (185) [سورة البقرة (2) : آية 185] شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 التفسير: اقتضت حكمة الله تعالى، إذ فرض على المسلمين الصوم أن؟؟؟ له خير وقت بالنسبة لهم، وهو شهر رمضان، ذلك الشهر الذي بدأ فيه نور القرآن، وافتتحت فيه طريق الرسالة الإسلامية بين السماء والأرض، تتنزل أنوار الهداية والرحمة، فكان اتصال المسلمين بالله فى هذا الشهر، والتقرب بالصوم فيه، أنسب وقت وأعدله، لإفاضة المشاعر الكريمة، وإيقاظ الأحاسيس السامية فى الإنسان، ليخلص وجهه لله، وليصفّى روحه من دخان المادة وغباره؟؟؟ وفى قوله تعالى: «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ» إشارة إلى معنيين أولهما مشاهدة الشهر ورؤيته، واقعا أو حكما، وثانيهما الحضور، من غير مرة؟؟؟ أو سفر.. وقوله تعالى: «وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ» معطوف على مقدر محذوف بعد قوله تعالى: «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ أي أن الله يسّر لكم هذه الفريضة، وقرنها بما يدافع المشقة والحرج عنكم لتؤدوها ولتكملوا عدتها، ولتكبروا الله وتشكروه على أن هداكم ووفق لأداء هذه الفريضة، وتعرضكم لما أعدّ الله من ثواب عليها. الآية: (186) [سورة البقرة (2) : آية 186] وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) التفسير: جاءت هذه الآية بين الآيات الشارحة للصوم وأحكامه لتلفت الصائمين إلى ما هم عليه فى تلك الحال من صفاء روحى يدنيهم من الله ويجعلهم أكثر استعدادا للاتصال به.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 فالله سبحانه وتعالى دائما أبدا أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، ولكن الإنسان هو الذي تختلف أحواله، مع الله، فيدنو أو يبعد، ويتصل أو ينقطع حسب إيمانه به، وطاعته له، ورجاءه فيه.. والإنسان فى شهر الصوم مهيأ للقرب من الله، مستيقظ المشاعر والأحاسيس لمناجاته. الآية: (187) [سورة البقرة (2) : آية 187] أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) التفسير: نجد عند المفسرين أقوالا كثيرة فى هذه الآية، وفى نسخها بآية ونسخها لآية، وغير ذلك من الوجوه التي لم نرض عنها، وقد أدلينا بما أرانا الله فيها، والله هو الموفق والمعين. الرفث: ضرب من اللهو والعبث، والمراد به هنا مخالطة النساء والخلوة بهن. ولما كان الصوم فى صميمه حرمانا من شهوات النفس ولذاذاتها، وانقطاعا بها عن كل ما من شأنه أن يشبع هوى النفس ويرخى لها الزمام فيما تحب- لما كان هذا هو شأن الصوم، فقد أحس المسلمون عند ما فرض عليهم الصوم وبدؤا يؤدون هذه الفريضة، أن اتصالهم بنسائهم، وإطلاق أنفسهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 على طبيعتها معهنّ، هو مما يجرح صيامهم، ويلقى ظلالا من العبث على هذا، الجدّ الجادّ الذي هم فيه، الأمر الذي لا يتفق أوله مع آخره، ولا يلتقى فيه ليله مع نهاره.. وقد امتدّ هذا الشعور إلى الطعام والشراب كذلك، فتحرّج كثير منهم أن يستبيح لنفسه الطعام والشراب على امتداد الليل كله، وإنما الذي له هو أن يفطر فيما بين المغرب والعشاء، ثم يمسك بعد ذلك حتى مغرب اليوم التالي، بل إن كثيرا منهم كان لا يفطر، اليومين، والثلاثة، بل يواصل الصوم. وعلى هذا فإن الموقف لم يكن واضحا أول عهد المسلمين بالصوم، بين الإنسان ونفسه، أو بين عزيمته وواقع أمره، ومعطيات تجربته، وخاصة فيما يتصل بالاتصال بالمرأة، إذ كيف يكون اتصال ولا يكون شىء من المداعبة والملاعبة؟ وكيف يكون فيها الجدّ وهى الغريزة الحيوانية التي لم يستطع الإنسان أن يستعلى عليها من غرائز الحيوان الكامن فيه؟ فإذا غلب الإنسان على أمره فى هذا الموقف ووقع منه ما لا بد أن يقع من عبث فى سكرة من سكرات نفسه، عاد فانتزعها من هذا الذي هى فيه من عبث، وحاول أن يردّها إلى الجدّ، وهذا فى الواقع خيانة للنفس، وسلب لحق من حقوقها الطبيعية، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة فى قول الحق جلّ وعلا: «عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ، فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ» . ولهذا جاء قول الله تعالى: «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ» حاسما لهذا الموقف، رافعا عن الصائمين الحرج، فيما يقع بينهم وبين نسائهم من رفث. وانظر فى قوله تعالى: «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ» وفى قوله بعد ذلك: «هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ» تجد كيف ألقى سبحانه وتعالى على هذا الرفث ستارا جميلا رفيقا، يستر به ما يكون بين الزوجين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 فى حال اتصالهما، فلا يطلع أحد على ما يكون بينهما، «هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ» أي ستر لكم كما يستر الثوب لابسه، «وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ» تسترون ما يكون منهن من رفث! وفى قوله تعالى: «عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ» بيان لتلك الحال التي كان يعانيها الصائمون من صراع بين الطبيعة النفسية الغالبة، وبين السموّ الروحي، الذي يريد أن يبلغه الصائمون بصيامهم، وأن يتجنّبوا الرفث الذي يقع بين الزوجين. وفى قوله تعالى: «فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ» إظهار لرحمة الله بهم وفضله عليهم: إذ عاد عليهم برحمته، حين أطلق نفوسهم من هذا الحرج الذي كانوا يعيشون معه، فى همّ وقلق. وفى قوله تعالى: «فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ» إشارة إلى إباحة اتصال الصائمين بنسائهم على الوجه الذي يكون بينهم فى غير أيام الصوم. وإنك لتجد فى قوله سبحانه: «فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ» ما يشير إلى إيذان بصورة جديدة للصوم، على غير الوجه الذي كان قائما عليه.. وفى قوله تعالى: «بَاشِرُوهُنَّ» معنى غير الذي يعطيه «ارفثوا معهن» إذ المباشرة هى الاتصال المطلق الذي تحدد صفته حسب تصرف الإنسان، وحسب الحال الذي يكون عليه، وليس كذلك الرفث الذي يحمل معه عند المباشرة شيئا من اللهو والعبث.. فالأمر بالمباشرة إذ يعنى رفع الحرج، يعنى مع ذلك أن يلتزم الإنسان القصد والاعتدال، وأن يتألف هذا الحيوان الذي يكمن فيه، وأن يذكر فى تلك الحال أنه إنسان! وأما قوله سبحانه: «وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ» فيشير إلى ما ينبغى أن يكون مقصدا فى المباشرة بين الرجل والمرأة وهو طلب الولد، والأخذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 بالأسباب المفضية إلى ما قدر الله للزوجين من ذرية.. فليست المباشرة. قضاء الشهوة وإشباع الغريزة، وإنما هى مطلب كريم، ورسالة سامية، ينظر إليها الإنسان من خلال المشاركة فى عمران الحياة، ونماء الإنسان وحمل المسئولية فى تقديم الإنسان الصالح فى بناء المجتمع! وهذا ما؟؟؟ للمباشرة معنى يرتفع بها عن الرفث الحيواني، والعبث الماجن. وأما قوله تعالى: «وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ» صيانة لتلك الفترة التي نوى فيها المسلم الاعتكاف «1» فى بيت من بيوت؟؟؟ والانقطاع للعبادة الخالصة لله، من أن يدخل عليها شىء من لهو النفس؟؟؟ يذهب بثمرة هذه الرياضة، التي أخذ الإنسان بها نفسه لفترة محدودة الزمن، فهى أشبه بيوم من أيام الصوم- فرضا أو تطوعا- لا يحلّ؟؟؟ فيه أن يتحلل من صومه. فللعبادات حرمتها. فإذا أوجب الإنسان على؟؟؟ شيئا منها، وجب أن يؤديه على الوجه الأكمل له، وإلا أثم من حيث؟؟؟ الأجر والمثوبة. وفى قوله تعالى: «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها» تحذير من اختر الحدود التي أقامها الله سبحانه وتعالى لحرماته، وجعلها حمى لتلك الحرما؟؟؟ والهاء فى قوله «فَلا تَقْرَبُوها» ضمير يرجع إلى تلك الحدود، بمعنى أن؟؟؟ الإنسان الإلمام بالحدود المطيفة بالحرمات، أو يدنو منها، مخافة أن تزلّ؟؟؟ فيقع فيما حرم الله، وفى الحديث: «من حام حول الحمى يوشك يواقعه» !.   (1) اختلف الأئمة فى مدة الاعتكاف بين يوم وعشرة أيام.. فى أقل مدة! ولا حد لأكثره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 هذا وحدود الله قد تضرب على أشياء فرض تحريمها، أو تقام على أمور أباحها وأجاز الأخذ بها. وسبحان من أحكم آياته، وتفرد بكلماته، فجاء بها معجزة قاهرة، تعنو لجلالها وجوه العالمين، وتخرس لبيانها ألسنة المخلوقين! ففى الحدود التي تحتوى فى داخلها المحرمات كما فى قوله تعالى: «وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ» جاء النهى هكذا: «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها» أي بالتزام الوقوف خارج تلك الدائرة، حيث أن ماوراءها من مقابل هذا المنهىّ عنه هو المطلق المباح، والاقتراب من تلك الدائرة اقتراب من خطر! وفى الحدود التي تضمّ المباحات، حيث يكون الناس معها فى داخل الدائرة، يجىء النهى هكذا: «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ.. فَلا تَعْتَدُوها» أي ألزموا هذه الدائرة ولا تخرجوا عنها إلى ما يقابل هذه المباحات، مما هو خارج تلك الحدود! فإن الخروج عن تلك الدائرة وقوع فى محظور! استمع إلى قوله تعالى: «الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» : (229: البقرة) !. فالآية هنا تشريع لإباحة الطلاق، ولكن هذه الإباحة ليست على إطلاقها، بل هى داخل حدود مرسومة، فمن تجاوز هذه الحدود، وخرج عنها فهو معتد ظالم!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وانظر قوله سبحانه: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» (الطلاق: 1) تجد أنها على سمت الآية السابقة.. إنها تقيم حدود الله على أمر مباح، ولكنه قائم على وصف خاص داخل هذه الحدود، فمن تجاوز به هذا الحد، وخرج به عن تلك الصفة فقد ظلم نفسه!. الآية: (188) [سورة البقرة (2) : آية 188] وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) التفسير: فى الآية السابقة على تلك الآية أقام الله سبحانه وتعالى حدّا على حرمة من حرماته، وهى مباشرة المعتكف فى المسجد زوجه مدة اعتكافه، ونهى سبحانه عن الاقتراب من هذا الحدّ. وفى هذه الآية أدخل فى تلك الحدود حرمة أخرى، هى حرمة المال، ونهى عن العدوان على هذه الحرمة. «وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ» وهذه صورة من صور العدوان على المال، بما يجرى بين الناس من تسلط، أو نهب، أو سرقة، أو غش، أو احتيال، إلى غير ذلك مما لا بد للحاكم فيه. وهناك صورة أخرى للعدوان، وهى أن يستعان بالحاكم على هذا العدوان بأن يستمال إلى أحد الخصمين بالرشوة، وفى هذا يقول الله تعالى: «وَتُدْلُوا بِها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 إِلَى الْحُكَّامِ» أي تلقوا بها إلى الحكام «لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» والحكام هنا هم من يكون إليهم أمر الفصل فيما يقع بين الناس من خصومات، وبيدهم ردّ المظالم، ودفع العدوان. الآية: (189) [سورة البقرة (2) : آية 189] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) التفسير: الذين لا يأخذون الأمور مأخذ الجدّ، يصرفون أكثر جهدهم فى اللغو، ويقطعون أكثر حياتهم فى المماحكة والجدل والعبث. والمنافقون هم دائما أبدا على تلك الصفة.. ينظرون إلى الأمور نظرة لاهية، ليقعوا منها على وجه من وجوه الخداع، يلبسونه فى تلك الحال، ثم يلقونه ليلبسوا غيره فى حالة أخرى.. وهكذا وفى موكب الدعوة الإسلامية كان المنافقون يعترضون سير هذا الموكب، ويقطعون عليه الطريق بتلك الأسئلة التي لا يراد بها كسب معرفة، ولا تعرف على حق، وإنما يقصد بها أولا وآخرا، التشويش على الدعوة، وشغلها بالجدل، والالتحام معها فى معركة من اللغو، الذي لا محصّل له إلا صداع وضلال. وقد حمى الله الدعوة الإسلامية من أن تنزلق إلى هذا المنزلق، فكانت إجابة القرآن الكريم على تلك التساؤلات الخبيثة والمماراة المضللة- كانت إجابة مفحمة مفحمة رادعة فاضحة. «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ» ما بالها تظهر ثم تختفى؟ وما شأنها تتجدد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 كل عدد معلوم من الأيام؟ ثم لم تلبس كل يوم صورة جديدة؟ وتولد كل يوم ميلادا جديدا؟. ولو شاء القرآن أن يجيب على تلك الأسئلة الجواب المناسب لها، لأعطى الكلمة الحاسمة الفاصلة، ولكن هذا يفتح المجال للمناظرة والأخذ والرد، والقبول والرفض.. ثم أنّى للعقول- فى كل عصر وفى كل مجتمع- أن تستوعب الحقيقة العلمية، وتقنع بها؟ إن غير هذا أولى بالقرآن، وأنفع للناس فى مجال دعوته إلى الحق والخير!. «قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ» ذلك هو الجواب الذي كان ينبغى أن يكون سؤال السائلين متجها إليه، باحثا عنه..: «هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ» فهذا هو بعض معطيات الأهلة للناس، يضبط بها رءوس الشهور، ويوقف منها على أشهر الحج التي يقول الله عنها: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ» . وفى قوله تعالى: «وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها» تعقيب يستخلص الحكمة والعبرة من ثنايا الحدث والواقعة، وذلك من تمام الهدى الذي جاء القرآن الكريم به، وقامت الرسالة الإسلامية عليه. فليس من التزكية للنفس، والهداية للعقل، والاطمئنان للقلب، أن يلقى الإنسان الأمور من ظهورها، وأن ينظر إليها من ورائها، فذلك لا يطلعه منها إلا على ظلال وأشباح، أما إذا أراد أن يتعرف إليها، ويعرف وجه الحق منها، فليلقها مواجهة، ولينظر إليها نظرا قاصدا، فذلك هو الذي يدنيه من الحق، إن كان طالبا له، عن نية خالصة وقلب سليم.. وليس كذلك شأن المنافقين الذين لا يأتون الأمور إلا مواربة، ولا ينظرون إليها إلا بأبصار زائغة منحرفة! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 الآيات: (190- 191- 192- 193) [سورة البقرة (2) : الآيات 190 الى 193] وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) التفسير: نحن على رأينا من أنه ليس فى القرآن نسخ، وأن كتاب الله الذي فى أيدينا لا نسخ فيه، وأن آياته كلها عاملة أبد الدّهر. وآيات القتال من الآيات التي أكثر المفسرون من القول بتوارد النسخ عليها! وهذا رأى- كما قلنا- لا نأخذ به ولا نقيم نظرنا عليه! فقوله تعالى: «وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ» ليس بالمنسوخ بالآية التي بعدها، كما يقول المفسّرون، ولا وجه لنسخه.. فالأمر بالقتال فى سبيل الله قائم ما قامت الحياة. وإذا كان القتال يقوم بين الناس فى وجوه كثيرة فى سبل غير سبيل الله، فالقتال فى سبيل الله أوجب القتال وأبرّه، وأعدله، وأكرمه، إذ كان ولا غاية له إلا الانتصار للحق، والتمكين له.. ثم إذا كان هذا القتال لم يكن مبادأة ولا هجوما، بل كان دفاعا وقصاصا، فهو القتال الذي لا بد منه، ولا بديل له، إن لم يطلبه الدين طلبته الدنيا.. ثم أيضا، إذا كان هذا القتال- مع مشروعيته دنيا وديانة، ومع حجزه عن المبادأة بالعدوان- غير متلبس بمجاوزة الحدّ فى القصاص، فهو القتال الذي لا يحسم الشر غيره، ولا يقيم الأمن والسلام سواه.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 «وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» . فهذه ثلاث دعائم من العدل، يقوم عليها هذا القتال: قتال فى سبيل الله، بين الإيمان والشرك، ودفع لعدوان المشركين على المؤمنين، ووقوف بالقتال عن مجاوزة إلى اعتداء المؤمنين على المشركين! تلك هى الدعائم التي يقوم عليها قتال المسلمين أبدا مع مقاتليهم على أية ملة، وفى أي زمان ومكان.. فماذا ينسخ من تلك الدعائم، وما داعية نسخها؟ لا نجد جوابا مقنعا. وقوله تعالى: «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ» . هو من تمام البيان لهذه القضية، قضية القتال بين المسلمين ومشركى قريش، فحين يلتقى بهم المسلمون فى ميدان القتال، فلا يتحرج المسلمون من قتلهم حيث التقوا بهم، من غير أن تعطفهم عليهم عاطفة قرابة أو نسب، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم، أو إخوانهم، فلقد بدءوا هم المسلمين بالعدوان، وأخرجوهم من ديارهم، وفتنوا بعضهم عن دينهم، ولا يزالون يفتنون من قدروا عليه منهم، بما يسلطون عليه من عذاب ونكال «وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ» إذ المفتتن فى دينه قد أصيب بما هو أشد وأنكى من القتل، قد خسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين!. فإذا كان القتال فى المسجد الحرام، أي فى البلد الحرام مكة، فلا يبدؤهم المسلمون بقتال فيه حتى يكون المشركون هم الذين بدءوه، وعندئذ تحل حرمة الحرم، اقتصاصا ممن أحلوا حرمته: «وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وقوله تعالى: «فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» حسم لما بين هؤلاء المشركين وبين المسلمين من خلاف، وتصفية للشر الذي وقع بينهم، وذلك إذا انتهى هؤلاء المشركون عن شركهم، وأسلموا وجوههم لله.. عندئذ تنقطع أسباب القتال، وتزول آثاره، فلا ثارات، ولا ديات، ولا عداوة، بل يصبح الجميع إخوة، تجمعهم كلمة الإسلام، وتظللهم راية الإسلام!. وفى قوله تعالى: «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» تطيب لخاطر الفريقين جميعا، فليغفر بعضهم لبعض، وليرحم بعضهم بعضا من حمل البغضة والعداوة، ولهم عند الله المغفرة الواسعة والرحمة الشاملة، فإن الله غفور رحيم. هذا وقد نظرنا فى تفسير قوله تعالى: «فَإِنِ انْتَهَوْا» وحملناه على الانتهاء مما كانوا عليه من شرك- نظرنا فى هذا إلى قوله تعالى «وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ» (275: البقرة) . وهذا المعنى هو الذي يلتقى مع قوله تعالى: «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» حيث يغتسل المشركون الذين دخلوا فى الإسلام من أدران شركهم بما يفضل الله عليهم به من مغفرته ورحمته. وقوله تعالى: «وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ» أمر بمقاتلة من بقي على شركه من مشركى مكة الذين يفتنون المؤمنين والمؤمنات، لأنه ما دام المشركون قائمين فالفتنة قائمة، والفتنة هى قتل للمسلمين، وعلى هذا فلا مهادنة مع المشركين «حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ» .. «فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ» أي فإن انتهوا عماهم فيه من شرك ودخلوا فى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 دين الله، فقد دخلوا فى السلم، لا ينالهم أحد بسوء إلّا من نكص على عقبه أو دخل الإسلام ليكيد له ولأهله. (الآيتان: (194- 195) [سورة البقرة (2) : الآيات 194 الى 195] الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) التفسير: كان أهل الجاهلية يعظمون أربعة أشهر، هى: ذو القعدة، وذو الحجة ومحرم ورجب، فكانوا لا يطلبون فيها ثارا، ولا يوقعون بينهم فيها قتالا، فهيئوا بذلك لأنفسهم فترة أمن وسلام، يستروحون فيها ريح الطمأنينة والعافية خلال هذا الشر المحتدم بينهم، وتلك الحروب المتقدة فى كل أفق من آفاقهم، معظم حياتهم. وجاء الإسلام فزكّى هذا الشّعور الذي يودّ الإسلام لو استقام عليه الناس أبد الدهر، لو كان ذلك مما تحتمله النفوس البشرية، وتتقبله طبيعة الناس! ولكن ماذا يكون موقف الإسلام لو تخلّى المشركون عن هذا الشعور وأباحوا حرمة هذه الأشهر الحرم، وأعلنوها حربا على المسلمين؟ وماذا يكون موقف المسلمين لو عرف العدوّ من أمر دينهم هذا المعتقد، فانتهزها فرصة فيهم، وساق إليهم جيوشه، وأعمل فيهم أسلحته؟ أيمسك المسلمون عن القتال ويدعون العدو يمضى فيهم حكمه بالهلاك والفناء؟ ذلك أمر لا يقبله عقل، ولا يرتضيه دين، إلا أن يكون عذابا من عذاب الله، ونقمة من نقمه، كما دان الله به اليهود وشرعه لهم، حيث حرّم عليهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 أن يباشروا عملا فى يوم السبت، فلا يقاتلوا من قاتلهم، ولا يدفعوا من اعتدى عليهم، وإلا كانوا عصاة آثمين! وهذا لا شك ضرب من البلاء، ساقه الله إلى هذا القطيع المعربد- كما يقول فيهم السيد المسيح- ليذلّوا، ويستكينوا، ويكونوا صيدا لكل صائد! وإنه لمحال أن يفى اليهود بهذا الأمر السماوي، وأن يمتثلوه، وإلا هلكوا وضاعوا.. ولكن الله سبحانه أمرهم بهذه المحال، وحمّلهم هذا الحمل الثقيل، ليلقوه وراءهم ظهريا، وبهذا لا يكون أمامهم فرصة أبدا لامتثال أمر الله، بل يكون أمرهم دائما على معصية وخلاف، حتى لو أجهدوا أنفسهم فى البرّ والطاعة.. لأن أي بارّ وأي مطيع منهم لا بد له- كى يعيش- أن يدفع العدوان ويردّ المعتدين، وإلا أصبح فى الهالكين! وهكذا.. كل يهودى محمول حملا على أن يعصى الله، ويخرج عن أمره فى حرمة يوم السبت.. وتلك هى اللعنة التي ألقاها الله عليهم.. تتناول برّهم وفاجرهم جميعا.. تقول التوراة: «فتحفظون السبت لأنه مقدس لكم.. من دنّسه يقتل قتلا.. إن كل من صنع فيه عملا تقطع تلك النفس من بين شعبها.. كل من صنع عملا فى يوم السبت يقتل قتلا» (الإصحاح الحادي والثلاثون.. سفر الخروج) وقد جاءهم السيد المسيح بأمر كهذا الأمر، إذ فرض عليهم الاستسلام لكل يد تضربهم، إذا لطمهم أحد لم يكن لهم أن يردوا اللطمة.. وفى هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 يقول السيد المسيح لهم: «من ضربك على خدّك الأيمن فأدر له خدّك الأيسر» وفى هذا ما فيه من إذلال لهم، وقتل لمعانى الإنسانية فيهم، إن هم استقاموا على هذا الأمر، فإن خرجوا عليه فهم عصاة خارجون على أمر الله، يستحقون اللعنة وسوء المصير.. وليس هذا مما يكلف الله به عباده، ولكنه من نقمه التي ينزلها على أهل البغي والعدوان. ولهذا أمر الله المسلمين بما أمرهم به من هذا الخير، بترك القتال فى الأشهر الحرم، ثم حرس هذا الخير من أن يستبد به الأشرار، ويجنى ثمرته المبطلون.. فهى أشهر حرم لا يبدأ فيها المسلمون بقتال، فإن بدأهم أحد فيها بقتال فلا حرمة عندئذ لهذه الأشهر الحرم، التي ما شرعت إلا لخير الإنسان وصيانة دمه، وأما وقد جعلها العدوّ ظرفا يستبيح به دماءهم، فصيانة دمائهم والدفاع عنها أكثر قداسة وحرمة من كل حرمة وقداسة.. لزمان أو مكان! هذا ما يقرره قوله تعالى: «الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ» فى أي مكان وفى أي زمان «فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» . وفى قوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» تذكير للمسلمين بما وصاهم به الإسلام من آداب القتال، وهى ألا يعتدوا، فإن اعتدى عليهم ردّوا الاعتداء.. ولكن لما كان عدوان المعتدى باعثا على النقمة منه، جاء قوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» ضابطا لمشاعر الانتقام من العدو المعتدى، مذكرا المسلمين بالتقوى فى هذا الموطن، فلا يأخذون أكثر من حقهم فى تأديب العدوّ، وكسر شوكته، فإذا تخلّى المسلمون عن التقوى فى هذا الموطن تخلّى عنهم عون الله ونصره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وقوله تعالى: «وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» . دعوة إلى البذل فى وجوه الحق والخير، وأولى هذه الوجوه ما كان فى الجهاد فى سبيل الله، فهذا باب أجزل الله فيه الثواب لأهله، وخصهم بالمزيد من فضله ورضوانه، ولهذا اقتضت حكمة الله سبحانه أن يشارك المجتمع الإسلامى كله فى الجهاد، كل بحسب جهده وقدرته، وذلك حتى لا يحرم أحد منه هذا الخير الكثير، بالقليل من الجهد.. فمن جهز غازيا فقد غزا، ومن أعان فى إعداد أدوات الحرب، ومئونة الجيش فقد غزا، ومن قام على خدمة من خلّف المجاهدون وراءهم من أهل وولد، فهو فى المجاهدين.. وهكذا كل عمل يقوّى من جبهة المجاهدين هو من الجهاد المبرور المقبول عند الله. هذا، وقد يعمل المجاهد فى أكثر من ميدان، فيجهز المجاهدين بما له، وينفق فى كل ما تحتاج إليه الحرب من سلاح ومتاع، ثم يكون هو مع المجاهدين فى ميدان القتال، وإنه على قدر العمل يكون الثواب. وفى قوله تعالى: «وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» تنبيه وتحذير من هذا الشعور الحماسى الذي قد يغلب على المجاهد وهو فى ميدان المعركة، فيتحدى الموت الذي يتخطف النفوس من حوله، فيندفع متهورا يلقى الموت فى غير مبالاة. والإسلام حريص على أهله ضنين بهم، فلا يبيع حياتهم إلا بالثمن الكريم الغالي، ولا يقتضيها هذا البيع إلا حيث تجب التضحية والفداء فى سبيل الله، ولا سبيل آخر غير هذا السبيل تقدم فيه النفوس قربانا لله وفى سبيل الله. وعلى هذا فإن واجبا على المسلم إذ يشرى نفسه ابتغاء مرضاة الله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وإذ يدفع بها فى مزدحم المنايا، أن يتقاضى الثمن المجزى لها، وأن يأخذ لها حقها الكامل فى القتال، بالنكاية فى العدو، فإن قتل بعدها فقد كتب بدمه الطهور حرفا من حروف النصر للجبهة المقاتل فيها، وللجماعة المحارب معها. وفى قوله تعالى: «وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» دعوة إلى الإحسان المطلق، الإحسان فى كل أمر يقوم عليه الإنسان ويؤديه، لله أو لنفسه أو للناس.. وعن هذه الدعوة إلى الإحسان المطلق تتجه دعوة خاصة إلى الإحسان فى مواطن القتال، فيقاتل المسلم على بصيرة، ولا يكن من همّه الأول أن يقتل ويستشهد فى سبيل الله، بل أن يكون مقصده النيل من العدو، والنكاية به، إذ يقتل فرسانه وشجعانه، فذلك هو المطلوب أولا، فإن قتل وهو يسعى لتحقيق هذه الغاية لم يكن مجرد شهيد، بل كان بطلا يحمل شهادة أعداد من الشهداء. آية: (196) [سورة البقرة (2) : آية 196] وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 التفسير: فى هذه الآية بعض أحكام الحج وأعماله، التي تولت السنّة النبوية القولية والعملية تفصيلها وترتيبها.. وهى مبسوطة فى كتب الفقه، وحسبنا هنا الوقوف على معنى الآية الكريمة فى حدود ما تنطق به ألفاظها. هذا، ولأن أعمال الحج كثيرة، مختلفة الصور، متعددة المواقف، ولأنها من جهة أخرى تضم ألوفا مؤلفة من المسلمين، يجتمعون إليها من كل أفق، ويلتقون عندها من كل جنس- لهذا فقد اقتضت حكمة الحكيم الرحيم التوسعة على الناس فى هذه الفريضة، وتقبّل كل ما يؤدونه فيها من أعمال، ما دامت تلك الأعمال صادرة عن نية خالصة، وقلب سليم، فقد أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وقف فى حجة الوداع، على ناقة بمنى، والناس يسألونه.. فجاء رجل فقال: لم أشعر، فحلقت قبل أنحر، فقال: «انحر ولا حرج» ثم جاء آخر فقال: نحرت قبل أن أرمى، فقال: «ارم ولا حرج» ، ثم أتاه ثالث، فقال: أفضت إلى البيت قبل أن أرمى، فقال: «ارم ولا حرج» .. قالوا.. فما سئل النبي عن شىء مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور على بعض، إلا قال: «افعلوا ولا حرج!» هذا، وقد توجه الأمر فى قوله تعالى: «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ» إلى الحج والعمرة معا، ولهذا رأى بعض الفقهاء أن العمرة واجبة، على حين رآها بعضهم سنة، حيث انفرد الحج وحده بالوجوب فى قوله تعالى «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» . وقوله تعالى: «فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ» إشارة إلى ما قد يعترض الحاج من معوقات وهو فى طريقه إلى الحج، فيحال بينه وبين أن يمضى فى طريقه إلى غايته، وذلك كأن يقطع الطريق على الحجيج عدو، أو ينزل بالحاج مرض مقعد، ونحو هذا.. والحصر معناه: الحبس والمنع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وقوله سبحانه: «فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ» أي فقدموا وانحروا ما وقع لأيديكم من الهدى، مما قدرتم عليه من غير مشقة. وقوله جلّ شأنه: «وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ» إشارة إلى التحلل من الإحرام، فحلق الرأس للحاج لا يكون إلا بعد أن يؤدى أعمال الحج، ثم ينحر، ويحلق! ومحلّ الهدى مكانه الذي ينحر فيه، وهو بالنسبة لمن أحصر وحبس- المكان الذي حصر فيه، أما من لم يحصر فمحل هديه هو البيت الحرام. أما قوله تعالى: «فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ» فهو فى حكم الحاج الذي عرض له فى حجه عارض فى رأسه أو فى جسده، فحلق، أو خلع ملابس الإحرام ولبس المخيط.. فمثل هذا الحاج قد أبيح له ذلك، على أن يفدى الحرمة التي أحله الله منها بما يقدر عليه من ألوان الطاعات، من صيام يوم أو أكثر، أو من صدقة قليلة أو كثيرة، أو من فداء بشاة أو نحوها.. وقيد بعضهم الصوم بثلاثة أيام والصدقة باطعام ستة مساكين، والنسك بشاة.. ونحن لا نرى هذا القيد واردا على الآية، وقد يسّر الله بهذا الإطلاق، والقيد تضييق لما وسع الله فيه. وقوله تعالى: «فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ» فيه بيان حكم الحاج الذي لم يحصر، ولم يصب بأذى فى رأسه أو بدنه، فإن مما يسر الله به على الحاج فى هذه الحال أن يحج معتمرا، أي يدخل الحج فى العمرة، ويؤدى أعمال الحج محلّا بعد طواف العمرة وسعيها، وعليه فى تلك الحال أن يقدم فدية، هى ما تيسر من الهدى، من بدنة إلى شاة. وقوله تعالى: «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 الْحَرامِ» هو بيان لمن لم يتيسر له تقديم الهدى، فيجزى عنه فى تلك الحالة أن يصوم عشرة أيام.. ثلاثة منها فى أيام الحج، تنتهى بانتهاء يوم عرفة، وسبعة بعد أن يعود الحاج إلى بلده وأهله. وهذا الحكم خاص بمن كان من غير أهل البلد الحرام. الآية: (197) [سورة البقرة (2) : آية 197] الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197) التفسير: قررت الآية السابقة الحج والعمرة، وبينت بعض الأحكام والأعمال المتعلقة بهما.. وفى هذه الآية بيان لميقات الحج وظرفه وما ينبغى أن يأخذ به الحاج نفسه من آداب، خلال تلك الأيام المباركة التي تؤدى فيها تلك الفريضة. وأشهر الحج هى شوال وذو القعدة وعشر من ذى الحجة، وهى ليست كلها لأعمال الحج، وإنما الثلاثة الأيام الأخيرة من عشر ذى الحجة، هى التي تضم كل أعمال الحج.. ولكن الحجيج إذ يأتون من آفاق مختلفة، فإن كثيرا منهم يهيئ نفسه، ويخرج من بلده قبل الوقوف بعرفة ببضعة أشهر، وبعضهم قبل ذلك ببضعة أيام، والمدة التي ذكرها القرآن هى المتوسط الزمنى بين من يأتون من أقصى الأرض وبين من هم أهل البلد الحرام.. وهذه الأشهر لا يصح الإحرام بالحج إلّا فيها. وقوله تعالى: «فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ» بيان للآداب التي يجب على الحاج أن يلتزمها فى هذه الأشهر، فيصون نفسه فيها عن كل لغو، ويجنبها كلّ معصية، وينأى بها عن الجدال المفضى إلى الخصام والخلاف. فالحج مدخل إلى طاعة الله، وسعى إلى التقرب منه، والتعرض لمغفرته ورضوانه.. ومن أجل هذا خرج الحاج من أهله، وأعماله، واتجه إلى ربّه، وبيت ربّه، ومن أجل ذلك أيضا نزع كلّ ما على جسده من ملابس عاش فيها قبل هذه الرحلة إلى الله، وأصابها ما أصابها مما اقترف من سيئات، واستبدل بها ملابس الإحرام، التي ينبغى أن يصونها ويصون نفسه فيها عن كل حرام، فلا يتندس بملابسة رفث أو فسوق أو جدال، وبهذا يكون أهلا لأن يدنو من الله، وينال من رحمته ما يناله المتقون. وقوله تعالى: «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى» دعوة إلى أن يحمل الحاج معه من المال أو الطعام ما يكفيه، حتى لا يكون عالة على غيره فى هذا البلد غير ذى الزرع، ثم لكى لا يكون التزود بالمال والطعام هو كل همّ الحاج، فقد نبه الله سبحانه إلى أن هذا الزاد وإن كان مطلوبا لسدّ الحاجة، فإن هناك زادا خيرا من هذا الزاد يجب على الحاج أن يحرص عليه، وأن يسعى ما استطاع إلى تحصيله، وهو التقوى، فهى الزاد الطيب الباقي، الذي يعين على الوصول إلى الله، والتعرض لهو اطل رحمته، وغيوث رضوانه. وقوله تعالى: «وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ» تنويه بشأن العقل، وتكريم للعقلاء الذين يحترمون عقولهم، ويستجيبون لما تدعوهم إليه، من إيثار ما يبقى على ما يفنى، وشراء الآجل بالعاجل. فالعقلاء الراشدون هم أولى الناس بأن يرجى عندهم الخير، ويؤمل فيهم الاستقامة والهدى.. وفى هذا يقول الله تعالى: «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» : (28: فاطر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 الآية: (198) [سورة البقرة (2) : آية 198] لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) التفسير: أشرنا إلى هذه الآية عند قوله تعالى: «إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما» وقلنا إن معنى قوله تعالى «فَلا جُناحَ عَلَيْهِ» أي لا حرج عليه، وهو رفع لشبهة فى فعل أمر يبدو أنه محظور، وهو فى الواقع مندوب محبوب: وهنا فى هذه الآية رفع الحرج عن ذكر الله، والاستزادة من فضله ورحمته بعد الإفاضة من عرفات، وانتهاء أعمال الحج، إذ بانتهاء هذه الأعمال قد يقع فى حساب بعض الناس، أنه وقد أدى فريضة الحج فقد فرغ من أعمال البرّ، وأنه قد أنهى رحلته التي قطعها إلى الله، وليس عليه من بأس أن يعود كما بدا، إذا ليس أمامه طريق مرسوم للعمل فى هذا المجال، وأنه إذا أدخل شيئا من عنده على أعمال الحج، ولو كان من قبيل البر والخير، فربما يكون قد خرج عن الطريق المرسوم- لهذا جاء قوله تعالى: «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ» رافعا لهذا الحرج، مزيلا لذلك اللبس، وأصلا الحاج بالخير. وفى قوله تعالى: «فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ» فتح لطريق جديد من طرق التقرب إلى الله، وذلك أنه بعد أن يفيض الناس من عرفات، تتدفق جموعهم منها إلى المشعر الحرام، وهو المزدلفة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 هنالك يكون لهم ذكر لله، ولهج بالثناء عليه، بما علّمهم من صيغ حمده وتمجيده، وإن كانوا من قبل هذا العلم لا يعرفون كيف يتصلون بالله، وكيف يجدونه فى قلوبهم، ويرطبون ألسنتهم بحمده وذكره. الآيتان: (199- 200) [سورة البقرة (2) : الآيات 199 الى 202] ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202) التفسير: ومن المزدلفة تكون الإفاضة والانتشار فى وجوه الأرض، حيث تتم أعمال الحج، وحيث يتوجه الحاج إلى الله أن يتقبل حجّه، ويغفر ذنبه، ويتجاوز عما كان قد وقع منه، مما نهى الله عنه من رفث أو فسوق أو جدال «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» . فإذا ختم الحاج حجّه باللّجأ إلى الله، والابتهال إليه أن يتجاوز عن سيئاته، ويتقبل حجّه، لم يكن له- وقد ذاق لذة الطاعة، ووجد ريح الرضوان- أن يتحول عن هذا الطريق الذي سلكه، وأن ينشئ له طرقا أخرى، تقطعه عن هذا الطريق، وتباعد بينه وبين الله. لهذا جاء قول الله تعالى: «فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً» ملفتا إلى تلك المشاعر التي تترصد الإنسان على نهاية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 الطريق، بعد التحلل من الإحرام، واسترداد الجسد ملابس الحلّ، وعندها يجد الإنسان ذاته التي كان عليها قبل أن يحج، فكان قوله تعالى هنا تنبيها إلى هذا الخطر الذي يقدم عليه الحاج، وأنه لن تنقطع صلته بالله بعد أداء هذه الفريضة، بل إن هذه الفريضة ستزيد تلك الصلة قوة وعمقا: «فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً» أي ليكن ذكركم الله، والتفاتكم إليه، ورجاؤكم فيه كذكر الابن أبويه، والتفاته إليهما ورجائه فيهما، بل وأكثر من هذا ذكرا والتفاتا ورجاء.. فالله سبحانه هو الذي يرعى الولد والوالدين جميعا! ثم إن الناس فى لجئهم إلى الله، وضرعهم إليه، فريقان: فريق يطلب الدنيا، ويقيم علاقته مع الله على طلب المزيد من أشياء الحياة الدنيا، دون أن يقيم وزنا للحياة الآخرة، وما ينبغى أن يعدّه لها من صالح الأعمال! فهذا فريق شغلته دنياه عن آخرته، إذ غلبت عليه شهوة المال وزينة الحياة، فلم تتسع نفسه لشىء غيرهما.. وفريق آخر. هدى إلى الحق، وإلى طريق مستقيم.. فأخذ من الدنيا بنصيب، ومن الآخرة بنصيب، يقول: «رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنا عَذابَ النَّارِ» . وفى قوله تعالى: «أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا» إشارة إلى هؤلاء الذين هدوا إلى الحق، وأن ما كسبت أيديهم ليس لهم منه إلا هذا الذي كان لحساب الآخرة، فهو الباقي الذي يجدونه عند الله، وما سواه مما كان للدنيا فهو إلى زوال وإلى عدم، فإن قوله تعالى: «مِمَّا كَسَبُوا» يدل على أن ما كسبوه للدنيا لا معتبر له، وأن لهم بعض ما كسبوا، وهو ما كان للآخرة، لا كل ما كسبوا مما هو للدنيا وللآخرة، قال الله تعالى: «وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا» (46: الكهف) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 الآية: (203) [سورة البقرة (2) : آية 203] وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) التفسير: بعد أن نبّه الله سبحانه إلى ذكر الله ذكرا دائما متصلا بعد أداء مناسك الحج، حتى يظل المؤمن على هذا الطريق الذي استقام عليه وهو يؤدى هذه المناسك- بعد هذا نبّه سبحانه إلى ذكره ذكرا خاصّا فى أيام معدودات موصولة بأيام الحج مباشرة، وهى أيام التشريق الثلاثة. وفى قوله تعالى: «فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ» إشارة إلى أنها أيام محصورة بالعدد، على خلاف قوله تعالى: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ» وقوله سبحانه: «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ» : (28: الحج) فالأشهر والأيام هنا معلومة، هى أشهر الحجّ، وأيام الحجّ المحصورة فى شوال وذى القعدة وعشر من ذى الحجة. والحكمة فى الأمر بذكر الله هنا فى أيام معدودات لا معلومات علما محددا، هى السماح بشىء من الحرية فى تقديم وقتها أو تأخيره، حسب ظروف الحاجّ، التي تتحكم فيها كثير من الأمور، فى غربته تلك عن وطنه وفى انقطاعه عن أهله وولده، وفى ارتباطاته بالجماعة التي صحبها فى مجيئه، وسيصحبها فى عودته.. فكل هذه وكثير غيرها أمور تفرض على الحاج ألا يتقيد بزمن، قيدا ملزما، لا يستطيع التصرف فيه.. والأيام المعدودات هى أيام التشريق.. ثلاثة أيام العيد.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 الآيات (204- 205- 206) [سورة البقرة (2) : الآيات 204 الى 206] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206) التفسير: الكلمة لها معتبرها ولها حسابها فى سلوك الشخص، وفى توجيهه إلى الخير أو الشر، سواء أكانت تلك الكلمة مسموعة أو مقروءة، تدخل على الإنسان من العالم الخارجي.. أو ملفوظة، تتولد فى عالمه الداخلى، ثم تتصور كائنا مكتملا، يتحرك بها لسانه، وينطق بها فمه. فالكلمة الواردة على الإنسان، لا تذهب هكذا صوتا ضائعا فى الهواء، بل إنها تتردد أصداؤها فى كيانه، وتثير فيه مشاعر بقدر ما تحمل من طاقات الحسن أو القبح، والحق أو الباطل، ثم سرعان ما تتحول تلك المشاعر إلى نزوع يتبعه عمل، ويلتزم به سلوك. والكلمة الصادرة من الإنسان ليست مجرد صوت منطلق منه، بل هى مدركات تحولت إلى مشاعر، ومشاعر تصورت فى كلمات، وكلمات تشير إلى أعمال، وتهتف بمنجزات!. لهذا كان ذلك الاهتمام العظيم من الإسلام، للكلمة، ينطق بها المسلم أو يستمع إليها.. وكان منهجه التربوى فى هذا أعدل منهج وأحكمه.. فهو من جهة، حرس سمع المسلم من أن يستمع إلى اللغو من القول، أو الزور من الكلام، وأعلى مقام أولئك الذين لا يشهدون الزور وإذا مرّوا باللغو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 مرّوا كراما، ثم هو من جهة أخرى أقام على منطق المسلم حارسا لا يدع لكلمة السوء منطلقا تنطلق منه، بل وأكثر من هذا، فإنه نبّه إلى وساوس السوء التي تتحرك فى صدر الإنسان ليميتها قبل أن تتخلّق منها المشاعر والكلمات، فقال تعالى: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» (16- 18 ق) . وفى قوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ» فضح للكلمة المنافقة تنطلق من فم المنافق، منمقة، مزوقة، مموهة ببريق لامع يضلل ويخدع. فهناك طوائف من الناس تتخذ من الكلمة الخادعة المنافقة طريقا لترويج الباطل، فيضعون على ألسنتهم كلمات معسولة، تفيض رقة وتتناغم حنانا ومودة، ولو ذهبت تفتش فى ثناياها، وتنظر فى أطوائها لوجدتها تنغر قيحا وصديدا، وتفور زفيرا وفحيحا، بما تحمل فى كيانها من حسد وبغضاء. هكذا كان موقف المنافقين من رسول الله، إذا لقوا الرسول هشّوا له وتخاضعوا بين يديه، وألانوا القول وزينوه، وأشهدوا الله أن علانيتهم مثل سرهم، وأن ما يجرى على ألسنتهم منطلق من صميم قلوبهم.. فالمنافق يستر نفاقه بهذا الدهان، ويغطى كذبه بالحلف بالله وبكل ما يحلف به، وفى هذا يقول الله تعالى لنبيه الكريم: «فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ» (8- 10: ن) وقوله تعالى: «وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ» بيان للوجه الآخر من وجهى المنافق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 فهو كان يلقى النبىّ بهذا الوجه المدهون بالرياء والنفاق، ثم لا يلبث أن يلقى هذا النقاب عن وجهه حين يزايل مكانه ويولّى ظهره، وهنا يطلق نفسه على سجيتها، فينفث سموم حقده، ويرمى بشرر عداوته، فى كل موقع من مواقع الخير! وقوله تعالى: «وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ» يكشف عن الإمعان فى الضلال، والإغراق فى الخداع والتمويه، من هذا المنافق الذي يعيش فى ضلاله ونفاقه، حتى ليكاد ينسى أنه يلبس ثوب النفاق، ويتزيا بزى الباطل.. فإذا قال له قائل: «اتق الله» فى نفسك وفى الناس، واقتصد من هذا الشرّ الذي تزرعه فى كل مكان، وتخفف من هذا الفساد الذي توزعه فى كل أفق- إذا قيل له هذا أو نحوه أنكر على قائله هذا القول، ونظر إليه من عل نظرة ساخطة هازئة تقول فى غير حياء: وماذا من تقوى الله غير هذا؟ وماذا على طريق الصالحين والمتقين غير الذي أنا فاعله؟» . والله سبحانه وتعالى يقول: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» (103- 105: الكهف) . ذلك هو تقدير المنافق، وتلك هى عاقبة أمره «فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ» . الآية: (207) [سورة البقرة (2) : آية 207] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 التفسير: والناس- مع هذا- فى خير.. فإذا كان فيهم من يبيع نفسه للشيطان، ويتزود من دنياه بما يثمّر له الباطل والضلال، فإن فى الناس من يبيع بيع السّماح نفسه فى سبيل الله، حيث ينال الشهادة مع الشهداء، أو يقيمها على جادة الطريق، فيكظمها عن كل محرّم، ويذودها عن كل مأثم! ولو أحد من هؤلاء الذين سكنوا إلى الله خير للإنسانية من ملء طلاع الأرض من أمثال هذا الإنسان المشئوم، الذي استغواه الشيطان، فملك زمامه، واستبدّ بأمره. وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ» توجيه كريم من أرحم الراحمين لعباده، الذين يشتدون على أنفسهم، ولا يرفقون بها فيما ينبغى الرفق فيه، ولا يعطونها حقّها فيما أحل الله من طيبات، فلمثل هؤلاء يتوجه هذا التوجيه الحكيم الكريم «وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً» (29: النساء) الآيتان: (208- 209) [سورة البقرة (2) : الآيات 208 الى 209] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) التفسير: هذه عدة كريمة للذين استجابوا لله وللرسول، فدخلوا فى دين الله، وأصبحوا فى أمة المؤمنين.. وتحمل هذه الدعوة إليهم أن يدخلوا فى السّلم كافة، والسّلم هو الإسلام والسلام والأمن، وقد دخل المسلمون فى الإسلام، وبقي عليهم أن يحصّلوا السّلام والأمن، وذلك بالتطبيق العملي لدعوة الإسلام، والرعاية الكاملة لأوامره ونواهيه، فهذا هو الذي يحقق للمسلم ثمرة الإسلام، فيجد فى ظلّها السلام مع نفسه ومع الناس، ويستشعر فى كيانه طمأنينة الرضا، وثلج الرضوان، بما رعى من حقوق الناس، وببد أدّى من حقوق الله!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 وفى قوله تعالى: «فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» تحذير من وساوس الشيطان، الذي يعمل بكل حوله وحيلته، على أن يغوى المستقيم، ويضل المهتدى، فليس لهجماته على الإنسان موعد، بل إنه هو الذي يتخيّر الفرصة المواتية، ويتفقد أضعف المواقع فى الإنسان لينفذ إليه منها، ويعمل أسلحته فيها. وليس مثل زلّة من عرف الحق، وارتفعت لعينيه أمارات الهداية، وأعلام الهدى.. إنّها زلّة مزلزلة، وسقطة قانلة، قلّ أن يسلم منها الإنسان إلا إذا استجمع كل قوته وإرادته، وإلا إذا استدعى غائب رشده، وعازب حكمته، وإلا إذا ذكر أنّه إنسان مهيأ للسموّ، بما فيه من نفحات علوية من عزيز حكيم، منه تستمد العزة والحكمة.. فليطلبهما الإنسان فى هذا الموطن، الذي إن استسلم فيه للهزيمة هوى إلى مرتبة الحيوان، وإن جاهد وانتصر ارتفع إلى ما فوق الإنسان!. الآية: (210) [سورة البقرة (2) : آية 210] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) التفسير: الاستفهام هنا إنكارى، يجرى مجرى النفي، أي ما ينظرون إلّا أن يروا بأعينهم اليوم الموعود، أي يوم القيامة، حيث يتحقق لهم ما هم فى شك منه، ويومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون، فقد جاءتهم البينات على يد رسل الله الكرام، تبدد كل ضلال، وتفضح كل باطل، ولكنهم أصمّوا عنها آذانهم، وأغلقوا دونها قلوبهم!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 والملاحظ هنا أن الإنكار موجه إلى غير معلوم، فلم يجر لهم قبل هذا ذكر يعود إليه الضمير فى قوله «ينظرون» .. وهذا التجهيل إنما هو نداء يصك آذان أولئك الضالين فى متاهات الكفر والنفاق، والبغي، والسفه، ويهتف بهم أن يجيئوا من كل أفق، ليكونوا هذا الفاعل المطلوب للحساب فى هذا اليوم الذي أنكروه ولم يعملوا له حسابا! وهؤلاء هم اليهود الذين تجاهلوا يوم الحساب وجروا على أهوائهم، لا يرجون لله وقارا، فقام الاتهام عليهم من غير أن يذكروا، وذلك للتشنيع عليهم بأن كل تهمة لا يعرف فاعلها عالقة بهم، حيث كانوا هم أحقّ الناس بها وأهلها. قوله تعالى: «وَقُضِيَ الْأَمْرُ» الواو هنا للحال، والجملة بعدها حالية، أي ما ينظرون إلا أن يأتيهم الله فى ظلل من الغمام والملائكة وقد مضى الأمر. ويمكن أن تكون الواو للعطف على محذوف دل عليه الكلام، والتقدير: ما ينظرون إلا أن يأتيهم الله فى ظلل من الغمام والملائكة، ويومئذ يرون الحق الذي جحدوه، ولكن لا سبيل لهم إلى إصلاح ما أفسدوا، فقد وقعت الواقعة وقضى الأمر: «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» . الآية: (211) [سورة البقرة (2) : آية 211] سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211) التفسير: فى الآية السابقة انتقل اليهود المنكرون للبعث نقلة سريعة مفاجئة إلى يوم القيامة، فى مسيرة مجهدة مرعبة.. انتقلوا من عالم الأحياء إلى عالم الأموات.. فضمّت عليهم القبور وأكلتهم الأرض.. ثم بعثوا أحياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 من جديد.. ثم سيقوا إلى الموقف.. ثم أحضروا للحساب بين يدى الله.. ثم أخذ بهم إلى مصيرهم المشئوم!. وإذا هم على مشارف الهاوية فى هذه الرحلة المثيرة، قد أوقظوا من هذا الكابوس المزعج الخانق، وما كادوا يفتحون أعينهم، ويستشعرون وجودهم حتى رأوا أنفسهم أمام هذه المواجهة بهذا الاتهام: «سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ؟» والسؤال وإن كان مطلوبا من النبىّ أن يوجهه إلى بنى إسرائيل فى هذا الإعلان العام، فإنه سؤال مطلوب من كل إسرائيلى أن يوجهه إلى نفسه، وأن يعطى الجواب عليه فيما بينه وبين نفسه!. وقد يسأل بنو إسرائيل أنفسهم هذا السؤال، وقد يجيبون عليه، ولكنهم لا يقعون على الحق، ولا يهتدون إليه، وخاصة فيما بيّنه الله تعالى لهم من دلائل النبوة المحمديّة، الناطقة به، الكاشفة عنه، لأنهم بدّلوا آيات الله وحرّفوا كلماته، فكان انحرافهم عن الحق، وتخبطهم فى الضلال، هو مما صنعته أيديهم، والتوت به ألسنتهم: «وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» فإنه ليس نعمة أتم وأعظم من نعمة العلم الذي يهدى إلى الحق، ويكشف الطريق إلى الله، فمن جحد هذه النعمة، ومكر بها، فقد وقع تحت غضب الله واستحق شديد عذابه. الآية: (212) [سورة البقرة (2) : آية 212] زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212) التفسير: هذا معرض آخر للذين كفروا من اليهود ومن على شاكلتهم.. فقد زيّن لهم سوء عملهم فرأوه حسنا، وبدا لهم أنهم فى صفقة رابحة مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 ما فى أيديهم من هذه الدنيا التي آثروها على كل شىء، وباعوا لها أنفسهم، ولبسوا من أجلها أثواب الرياء والنفاق، ثم هم مع هذا ينظرون إلى الذين آمنوا نظرا ساخرا هازئا، إذ يرونهم على غير ما هم فيه من حرص على الدنيا، ومن استجلاب شره لما فيها من لذات وشهوات، فتلك هى نظرة أصحاب الدنيا إلى أهل الإيمان والتقوى، وذلك هو الميزان الذي يضعون أنفسهم فيه مع المؤمنين، فيرون أنهم أرجح ميزانا، وأعلى مقاما!. ولكن هذه النظرة ستتغير، وهذا الميزان سوف يتبدل، وذلك يوم الحساب الأكبر، يوم يوضع الميزان الحق بين الناس، فإذا أهل الدنيا فى بلاء وضنك، وإذا المؤمنون فى نعيم مقيم ورضوان دائم.. «فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ» . وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» معدول به عن أن يقال: «والذين آمنوا فوقاهم يوم القيامة» الذي كان يقتضيه سياق النظم، حيث كان الموقف بين الذين كفروا والذين آمنوا. وفى وضع الذين اتقوا مكان الذين آمنوا إشارة إلى أن الإيمان مجردا من العمل الذي يلبس به صاحبه ملابس التقوى- هذا الإيمان لا يؤهل صاحبه لرضوان الله، ولا يرفعه إلى تلك المنزلة الرفيعة، وهذا المقام المحمود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 الآية: (273) [سورة البقرة (2) : آية 213] كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) التفسير: قوله تعالى: «كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً» أي أصلا واحدا من طبيعة واحدة.. هى الفطرة التي فطر الله الناس عليها.. ثم تناسلوا، وكثروا وتفرقوا فى وجوه الأرض، وخضعوا لمؤثرات الحياة، ووقعت بينهم منازعات ومشاحنات، وجرى بينهم البغي والعدوان، وولدت لهم مدركاتهم مواليد من الضلال، والبهتان، ففسدت طبيعتهم، وعطبت فطرتهم، فغاثهم الله برحمته، وبعث فيهم رسله، بكلماته الشافيات، وآياته البينات، ليصححوا معتقداتهم، ويسلكوا بهم مسالك الحق، ويقيموهم على الطريق السوي، كما يقول سبحانه: «فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ» أي ليكون هذا الكتاب ميزان قسط بين الناس، يرجعون إليه فى ضبط أقوالهم وأفعالهم، وليسوّوا عليه حسابهم فيما يقع بينهم من خلاف. والكتاب هنا هو مجمع كتب الله التي نزلت على رسله، لأن تلك الكتب فى مضامينها هى كتاب واحد، ينطق بالحق ويهدى للحق! وقوله تعالى: «وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ» تشنيع على أهل الكتاب، وتنديد بهم، إذ بعد أن جاءهم الحق من ربّهم، ووضحت لهم معالم الطريق بما حمل الكتاب إليهم من آيات الله البينات- وقع بينهم الخلاف، وعادوا إلى ما كانوا عليه من فساد عقيدة، وضلال سعى.. فإذا كان لخلافهم وشرودهم عن الحق وجه قبل أن يأتيهم هدى الله، فإنه لا وجه لهذا الخلاف بعد أن جاءهم الهدى واستنارت أمامهم معالم الطريق! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وهذا الحصر للخلاف فى الحقّ، والشرود عنه، وجعله فى أهل الكتاب وحدهم- إنما هو لانقطاع العذر عندهم لهذا الخلاف، بما وضع الله بين أيديهم من آياته، التي لو انتهوا عندها، ووقفوا على حدودها، لما ضلوا ولما اختلفوا.. أما غير أهل الكتاب ممن اختلفوا فى الحق، وضلوا عن سبيله فلهم عذرهم، إذ لم يكن بين أيديهم من حق وهدى مثل ما بأيدى أهل الكتاب الذين لا عذر لهم، إذ كان خلافهم وضلالهم عن بغى وعدوان. وقوله تعالى: «فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» يحدّد موقف الذين استجابوا لله وللرسول، واتبعوا ما أنزل على «محمد» ، واستقاموا على الحق الذي ضلّ عنه أهل الكتاب واختلفوا فيه. وكان ذلك توفيقا من الله وفضلا ورحمة بالمؤمنين، إذ استنقذهم من الضلال والعمى. «وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» . الآية: (214) [سورة البقرة (2) : آية 214] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) التفسير: أما وقد استنقذ الله سبحانه المؤمنين برحمته، وهداهم الصراط المستقيم بفضله، فقد وجب عليهم أداء أمانة هذا الدين الذي هداهم الله إليه، فالدّين ليس مجرد مفاهيم أو تصورات يتلقاها المؤمن من نصوص الشريعة، وإنما هو مع ذلك سلوك قائم فى ظل هذه المفاهيم وتلك التصورات، فالطريق إلى الجنة محفوف بالمكاره، والمؤمنون مبتلون فى أموالهم وأنفسهم، ممتحنون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 فى إيمانهم وصبرهم، كما يقول الله تعالى: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ» (31: سورة محمد) ويقول سبحانه «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ» (155: سورة البقرة) . فالذين آمنوا بالله واتبعوا رسول الله، معرّضون لهذا الامتحان الذي يمتحن به المؤمنون، أتباع رسل الله، فكم حمل هؤلاء الرسل وأتباعهم من أعباء، وكم لاقوا من أهوال، وكم تجرعوا من غصص، مما رهقهم به سفهاء أقوامهم من جهالات وسفاهات: «مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا» أي اضطربت مشاعرهم وتبلبلت خواطرهم، واستيأسوا وظنّوا أنهم أحيط بهم، فاستعجلوا النصر الذي وعدهم الله، كما يقول سبحانه: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» (28: المجادلة) وقالوا: «مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟» وكأنهم يقولون فيما يقولون: أين نصر الله الذي وعدنا به؟. ومن آفاق الحق ومن قلوب أولياء الله الراسخين فى الإيمان، يجىء هذا المدد الكريم، يسوق بين يديه بشريات الفرج المرتقب والنصر الموعود: «أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ» . إن راية الحق لا تنكس أبدا، إذا هى شدّت إلى أيد مؤمنة مستمسكة بالحق، معتصمة بالصبر، مستعدة للبذل والتضحية، فإن المجاهدين تحت هذه الراية، إنما يجاهدون تحت راية الله، وحسبهم بالله معينا وناصرا «أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (32 المجادلة) وقوله تعالى: «وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ» أي ولما تصابوا بما أصيب به من سبقكم من المؤمنين فى الأمم الماضية من شدائد ومحن، فالمثل هنا هو الواقعة المادية، وليس الصورة اللفظية الحاكية لتلك الواقعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 الآية: (215) [سورة البقرة (2) : آية 215] يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) التفسير: مما يبتلى به المؤمن أن يمتحن فى ماله بقضاء الحقوق الواجبة عليه فيه، فالإنسان بطبعه ضنين بماله، حريص عليه، لما للمال من سلطان فى هذه الحياة، يملك به كل شىء، ويطول به صاحبه أي شىء!. وقد فرض الله على المؤمنين حقوقا فى أموالهم: للوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل، فإذا واجه المؤمن حاجة محتاج ثم ضنّ بماله عن أن يسعفه ويسدّ حاجته: فقد قصر وأثم، وتحلل من عقد وثّقه الله معه!. الآية: (216) [سورة البقرة (2) : آية 216] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) التفسير: ومما ابتلى به المؤمنون أيضا أن كتب عليهم القتال.. فذلك أمر لا محيص لهم عنه، ولا مفرّ لهم منه.. إذ أنهم فى وجه عداوة مستعرة بينهم وبين أرباب الضلال، وأهل السوء. فالأخيار مبتلون دائما بأهل السوء، ومن هنا كان هذا الصراع المتلاحم بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 فالقتال فرض لازم على المؤمنين، إن أرادوا أن يكون لهم وجود وأن تكون للحق راية!. والقتال أيّا كان، وفى أي وجه يكون، هو مكروه، لا تقدم عليه النفوس إلا متكرهة له، ضائقة به. ولهذا كان قوله تعالى. «وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» عزاء للنفوس ومواساة فى لها فى حمل هذا المكروه، وإساغة ما فيه من مرارة، إذ ليس كل ما تستقبل النفوس من مكروه شرا لا خير فيه، وليس كل ما تستقبل من محبوب خيرا لا شرّ معه. فقد يركب المرء المكروه فيحمله إلى مواقع الخير، ويركب المحبوب فيسوقه إلى مهاوى الرّدى!. والأمور دائما بخواتيمها، المحجبة وراء الغيب، والكائنة فى علم الله، والمحكومة بقضائه وقدره.. وما فرضه الله علينا فالخير كلّه فيه، وإن اقتضانا جهدا، وحمّلنا أعباء، فإنه لا أجر بلا عمل، ولا عمل إلا ببذل، وعلى قدر المشقة يكون الجزاء: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» . الآية: (217) [سورة البقرة (2) : آية 217] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 التفسير: شنّع المشركون على المسلمين لأن قاتلوهم فى الشهر الحرام، ووقع فى نفس المسلمين شىء من الحرج من القتال فى الأشهر الحرم، وجالت فى أنفسهم خواطر التساؤلات، فجاءت آيات الله تجلو هذا الموقف، وتكشف هذا الحرج. وقد بيّن القرآن الكريم فى قوله تعالى: «الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ» موقف المسلمين من حرمة الأشهر الحرم إذا بدأ هم العدو بقتال فيها، وأنه لا حرمة لهذه الأشهر حينئذ، إذ كانت حرمة دمائهم فوق كل حرمة!. وهنا جاء قوله تعالى: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ، قِتالٍ فِيهِ» تحريرا للسؤال الدائر فى شعور المسلمين وعلى ألسنتهم.. وقوله تعالى: «قِتالٍ فِيهِ» بدل من الشهر الحرام.. أي يسألونك عن الشهر الحرام.. أي يسألونك عن الشهر الحرام، عن قتال فيه. وكان قوله تعالى: «قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ» - جوابا شافيا لهذا السؤال الحائر. ومفهوم هذا الجواب: أن القتال فى الشهر الحرام إثم كبير.. ولكن الصدّ عن سبيل، والكفر بالله وبالمسجد الحرام بما استباح المعتدون من حرمته، وإخراج أهله المؤمنين به من جواره.. كل هذه الحرمات المستباحة أكبر فى استباحتها إثما من استباحة القتال فى الشهر الحرام.. إذ الفتنة أكبر من القتل، والمشركون يعرضون المؤمنين للفتنة فى دينهم بصدّهم عن سبيل الله، وإخراجهم من ديارهم بالبلد الحرام. وفى قوله تعالى: «وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ، عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» ما يكشف للمسلمين عن نوايا العدوان التي يبيتها لهم المشركون، وأنهم مصرّون على قتالهم حتى يبلغوا منهم ما يريدون، وهو ارتدادهم عن دينهم، وعودتهم إلى ما كانوا عليه من شرك، ما وجدوا إلى ذلك سبيلا، وما مكّن لهم ضعاف الإيمان من تحقيق ما أرادوا. ثم يتوعد الله سبحانه وتعالى أولئك الذين دخلوا فى الإسلام، ثم لما أن مسّهم شىء من البأساء والضراء، ارتدوا على أدبارهم، وارتدوا لباس الشرك من جديد- توعدهم سبحانه بالبوار والخسران فى الدنيا، والعذاب الأليم فى الآخرة: «أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» . وقوله تعالى «فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ» هو قيد وارد على الشرط فى قوله سبحانه: «مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ» فالحكم الواقع على المرتد هنا- وهو خسران أعماله فى الدنيا وعذابه فى الآخرة- ليس على إطلاقه، وإنما هو لمن ارتد ثم ثبت على ردته إلى أن مات.. أما من نظر إلى نفسه، واستنقذها من الشرك، وعاد إلى الإيمان بقلب سليم، ونفس لوّامة، فقد غسل حوبته بتوبته، ومسح بنور إيمانه على ظلام شركه: «وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً» (110: النساء) . وأما قوله سبحانه: «فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ..» فهو حكم على حياتهم وهم فى لباس الشرك، بالبوار والخسران فى الدنيا والآخرة.. أما فى الدنيا فلأنهم يعملون فى تجارة خاسرة، وإن خيّل إليهم أنهم قد ملئوا أيديهم من دنياهم، وضمنوا السلامة فى أنفسهم وأهليهم وأموالهم، فذلك كله إلى زوال. وأما فى الآخرة فلأنهم يساقون إليها وقد صفرت أيديهم من كل شىء يعود عليهم نفعه فى هذا اليوم، فضلا عما يثقل ظهورهم من أوزار الشرك والضلال.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 الآية: (218) [سورة البقرة (2) : آية 218] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) هذه الآية تفرد الذين آمنوا وثبتوا على إيمانهم، واجتازوا المحنة، ونجوا من الفتنة- تفردهم بذكر خاص، وتنوّه بهم، وتدنيهم من رحمة الله ورضوانه، وذلك فى مواجهة أولئك الذين واجهوا المحنة فلم يصبروا ولم يصابروا، ففروا من ميدان المعركة تاركين دينهم الذي ارتضوه سلبا ملقى فى ساحة الحرب! هذا وفى الآية الكريمة: أولا: قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» فصل بين الذين آمنوا وبين الذين هاجروا وجاهدوا فى سبيل الله، فلم يجعلهم نسقا واحدا داخلا فى صلة الموصول الأول، بل أفردهم بذكر خاص، فكأن الذين آمنوا صنف، والذين هاجروا وجاهدوا صنف آخر.. ولو كانوا صنفا واحدا لجاء النظم هكذا: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا. ولكن هكذا جاء نظم القرآن بجلاله وروعته وإعجازه، ليضع موازين الحق فيما يقول.. فالمؤمنون- مطلق الإيمان، بلا هجرة ولا جهاد- هم صنف وحدهم فى المؤمنين. والمؤمنون المهاجرون المجاهدون، هم صنف آخر يختلف عن الصنف الأول بميزات وفضائل.. ويحق لهم بهذه الميزات وتلك الفضائل أن ينوه بهم، ويرفع شأنهم بين المؤمنين. إذ الإيمان بلا عمل نبات لا ظل له، ولا ثمر فيه. ثانيا: قوله تعالى: «أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ» وضع الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا فى سبيل الله موضع الرجاء من رحمة الله، ولم يعطهم الثواب والمغفرة والرضوان على القطع والتحقيق، وذلك ليقيمهم من هذا الرجاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 على عمل دائم، وجهاد متصل، وهذا على خلاف ما إذا سوّى حسابهم بعد الهجرة وبعد كل موقف من مواقف الجهاد، فقد يقعد بهم هذا عن أن يضيفوا جديدا، أو يخفّوا للجهاد، مرة بعد مرّة. ثم إنه من جهة أخرى يرى الذين آمنوا- مجرد إيمان- ولم يهاجروا ولم يجاهدوا- يريهم شناعة موقفهم ومغبّة تقصيرهم بتخلفهم عن ركب المهاجرين والمجاهدين، ويرفع لأعينهم بعد ما بينهم وبين مواقع رحمة الله ورضوانه، إذ يرون المهاجرين المجاهدين ولمّا يلمسوا بأيديهم مواقع الرحمة والرضوان، وأنهم ما زالوا على رجاء! فكيف بالذين آمنوا، ولم يهاجروا ولم يجاهدوا؟ إن المدى بعيد بينهم وبين أن يصلوا إلى جانب الأمن والسّلامة، وإن عليهم أن يحثّوا المطىّ إلى ميدان الهجرة والجهاد، ليلحقوا بركب المهاجرين المجاهدين، وليكونوا بمعرض من رحمة الله ورضوانه!. الآيتان: (219- 220) [سورة البقرة (2) : الآيات 219 الى 220] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) التفسير: هنا عدة قضايا عرضت لها هذه الآيات، وقضت فيها بأحكام إلهية، كانت سكنا لوساوس السائلين، وطمأنينة لحيرة الحائرين.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 فهنا قضية الخمر والميسر، وقضية القدر الواجب إنفاقه من مال ذوى المال، ثم قضية اليتامى وحقهم فى المجتمع ومكانهم فيه. ويلاحظ أن هناك قضية كانت مثارة من قبل، وهى قضية الأشهر الحرم وما يقع فيها من قتال، وأن هذه القضايا قد انعزلت عنها، فلم تعطف عليها، ولم تدرج معها فى سجل واحد، ولهذا جاءت منقطعة عنها، فلم يقع بينهما حرف عطف. وفيما يبدو لنا- والله أعلم- أن هذه القضايا الثلاث تختلف فى موضوعها عن قضية الأشهر الحرم. ولهذا كان لها هذا الوضع الخاص الذي سمح لها بأن تنحاز جانبا، وتنظر فى غير مواجهه سابقتها. فموضوع الأشهر الحرم يتناول رفع الحرج والحظر عن أمر كان محرما محظورا، ولكنه رفع مؤقت، جاء نتيجة لعارض عرض، فإذا زال هذا العارض زال رفع الحرج، وعادت الحرمة والحظر. أما موضوع الخمر والميسر فعلى عكس هذا، إذ هو يعرض لأمر كان مباحا ديانة وعرفا فى حياة الجاهلية، فيؤثّمه ويجرّمه. فالخمر والميسر مما كانت الجاهلية تعيش فيهما، وتشتغل بهما فى غير تحرج أو تأثم من أمردين أو ناموس مجتمع. وأما قضية النفقة الواجبة فى مال ذوى المال فهى فى المباح المطلق، ويراد له هنا أن تحدد حدوده، وتوضح معالمه.. وكذلك الشأن فى اليتامى وحقهم فى المجتمع.. إذ كان هذا الحق مجهّلا، فرفعت جهالته وعرف وجهه. فهناك- فى حرمة الأشهر الحرم- حرام ترفع حرمته، وهنا- فى القضايا الثلاث- حلال يحرّم، أو تقام حدوده، أو ترفع جهالته.. ولهذا كان القطع، وعدم التعاطف بين الأمرين. وننظر فى هذه القضايا الثلاث فنجد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 قوله تعالى: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما» . هذه إشارة حادّة من إشارات السماء، إلى أمرين من أمور الجاهلية، كانت حياتهم متلبسة بهما، دائرة فى فلكهما، وهما الخمر والميسر، وقد كان هذان المنكران متلازمين، لا يكاد يفترق أحدهما عن الآخر.. فحيث كان خمر كان معه ميسر، وحيث كان قمار ومقامرة دارت كئوس الخمر ودارت معها رءوس النّدمان.. ولهذا قرنهما الله سبحانه فى هذا المقام.. الخمر والميسر، ودمغهما بالإثم. والحكم- كما ترى- أنهما يحملان فى كيانهما قدرا كبيرا من الإثم، إلى جانب ما يحملان من نفع.. وإن كفة الإثم فيهما ترجح عن كفة النفع. ويلاحظ أن التعبير بالإثم جاء فى مقابله لفظ النفع، والنفع لا يقابل الإثم، وإنما يقابل الضرّ.. وهذا يعنى أن الإثم ليس مجرد ذنب ومعصية، يضاف حسابهما إلى الحياة الآخرة، بحيث لا يجد من يقترفهما ممن لا يؤمن بهذه الحياة ما يضيمه أو يضيره، بل إن هذا الإثم هو ذنب ومعصية يترصد صاحبه فى الآخرة، ثم هو ضرر وشر يصيب مقترفة فى الدنيا.. ومعنى هذا أن صاحب الخمر والميسر إن كان لا يؤمن بالحياة الآخرة ولا يخاف مأثما منهما، فإنّ ما فيهما من ضرر يصيبه فى حياته الدنيا.. فى جسده وماله، جدير به أن يخيفه ويزعجه، ويقيمه منهما على حذر وتخوف، فكيف بصاحب الدّين الذي ينظر إلى هذين المنكرين وقد أصاباه فى دينه وفى دنياه جميعا؟. هذا، وليس جمع «المنافع» بالذي يرجّح كفة الشر على الخير، فى جانب الخمر والميسر، فإن هذا الجمع لا يتجه إلى النفع فى ذاته وقدره، وإنما هو لتعدد وجوه الناس فى التماس الكسب منهما.. فمن صانع للخمر، إلى جالب لها، إلى بائع، إلى ساق، إلى مغنّ فى حانها.. إلى غير ذلك ممن يعملون للخمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 وفى طريقها.. وكذلك الميسر وأصناف الناس الذين يجتمعون عليه، ويعملون فى ميدانه!. أما الإثم فهو الإثم، وإن تعددت مصادره، واختلفت موارده، والوصف الذي يلحقه هو الذي يفرق بين إثم وإثم، فيقال إثم كبير، أو عظيم، أو غليظ، أو يسكت عنه فلا يوصف بوصف ما.. ويكفى فى وصفه فى هذه الآية أن يقال: «إثم كبير» فيكون وصفا جامعا لكل منكر. ويتفق المفسرون على أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (90: المائدة) . ونحن.. على رأينا فى موضوع النسخ.. لا نرى فى هذا نسخا للآية الكريمة، بل هى محكمة عاملة، وكذلك كل الآيات التي جاء فيها للخمر ذكر أو حكم، كما أوضحنا ذلك من قبل فى مبحث «النسخ» . قوله تعالى: «وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ» .. العفو: ما زاد عن حاجة الإنسان، فى قصد واعتدال، بلا سرف ولا تقتير. وحيث كفى الإنسان حاجته فإن واجبا عليه- ديانة وإنسانية ومروءة- أن يسمح بما زاد عن هذه الحاجة، فيدفع به حاجة المحتاجين.. إذ كيف يكون الإنسان إنسانا بارّا بإنسانيته، وفى يده فضل مال أو متاع، وفى الناس من أهله وجيرانه، وقومه، من هو فى حاجة إلى بعض هذا المال أو المتاع؟. لهذا جاءت شريعة الإسلام بهذا التوجيه الإنسانى الكريم، الذي يصل الناس بالناس، بصلات المودة والرحمة، ويجعل منهم كيانا واحدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 متكافلا تتوزع فيهم خيرات الأرض وأرزاق السماء بحكمة وعدل، كما يتوزع الدم من القلب على سائر أعضاء الجسد عضوا عضوا!. وإنفاق العفو الذي لا يضر الإنسان ولا يجور على مطالبه، هو من البرّ بالمنفق والرحمة له، حتى لا يحمله الدافع الإنسانى على أن يجاوز الحد فيتحيّف حقّه فى ماله، ويجوز على نفسه فيما آتاه الله، فيخرج مما فى يده جملة، ويصبح فى جبهة المحتاجين بعد أن كان فى جماعة المنفقين، وتلك حال لا يرضاها الإسلام من المسلم، إذ الإسلام يريد بهذه المواساة الكريمة أن يستنقذ بعض ذوى الحاجات ليقلّ عددهم، وتضمر أعدادهم.. وصاحبنا بفعلته هذه، قد أضاف إلى المحتاجين محتاجا، وربما لم يكن بما فعل قد استنقذ واحدا منهم، وإن كان قد أعطى الدواء المسكن لآلام الكثيرين. قوله تعالى: «كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» أي بمثل هذا البيان الواضح الشافي يبين الله لكم أحكامه فى آياته المحكمة، لتكونوا على رجاء من التعرف على مواقع الخير والشر، فتقبلوا على الخير وأهله، وتجتنبوا الشر ودواعيه، ولتفرقوا بين ما هو للدنيا وما هو للآخرة، فذلك هو الذي يقيمكم على الصراط المستقيم. وفى الانتهاء بفاصلة الآية عند قوله تعالى: «تَتَفَكَّرُونَ» ثم بدء الآية بعدها بقوله سبحانه: «فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» - فى هذا تحريض على استحضار العقل دائما، ودعوته إلى النظر المطلق فى رحاب هذا الكون، وفى كل ما يدور فى فلك الحياة.. ثم يجىء بعد هذا، النظر إلى أمور الدنيا فى مواجهة الآخرة، وما يدّخر منها لهذا اليوم العظيم، وعندئذ يجىء النظر صائبا، ويقع متمكنا، بعد أن يكون العقل قد دار دورته الشاملة فى هذا الكون الرحيب!! قوله تعالى: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ» .. خير ما يؤدّى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 لليتيم من إحسان إليه وبرّ به، هو أن يربّى تربية طيبة، تبلغ به مبلغ الكمال والرشد، حتى يستقل بشئون نفسه، ويتولى رعاية أموره، وتلك هى الأمانة التي جعلها الله فى عنق من يقومون على اليتامى، من أولياء وأوصياء، فإذا قصروا فيها كان حسابهم عليها بين يدى الله على قدر ما قصروا. قوله تعالى: «وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ» أي وإن تضموهم إليكم وتتولوا عنهم رعاية أمورهم فهم إخوانكم، لهم مكان الأخوة بينكم، وما لهذه الأخوة من حقوق. وفى التعبير عن الإشراف على اليتامى بالمخالطة، إشارة إلى أن هذا الإشراف ينبغى أن يقوم على صلات روحية ونفسية، تمتزج فيها مشاعر الأوصياء على اليتامى بمشاعر هؤلاء اليتامى، ويختلط إحساسهم بإحساسهم، حتى لكأنهم كيان واحد، وذلك هو الذي يعطى اليتيم مكانا متمكنا فى قلب الوصىّ وفى أهله الذين يعيش معهم، مختلطا وممتزجا، لا منفصلا ومعتزلا. وفى التعبير عن اليتامى بقوله تعالى: «فَإِخْوانُكُمْ» بدلا من «فأولادكم» كما يقتضيه ظاهر الأمر، إذ اليتيم لا يكون يتيما إلا فى حال صغره، الأمر الذي يجعله من الوصىّ بصفة الابن لا الأخ- فى هذا التعبير تنويه بما ينبغى أن تكون عليه نظرية الوصىّ على اليتيم إلى اليتيم، وهو أن ينظر إليه على أنه مثله وفى درجته، وإن كان فى مدارج الصّبا.. فهذه النظرة جدير بها أن تقيم الوصىّ دائما على شعور يقظ، بأنه إنما يتعامل مع إنسان رشيد، يرقب أعماله، ويرصد تصرفاته فى شئونه، وهذا الشعور يجعل الوصىّ حذرا فى تصرفاته، حريصا على أن يظهر بمظهر الأمين الحريص على مصلحة اليتيم.. ثم إنه من جهة أخرى، سيعمل هذا الشعور عمله عند الوصىّ فى الوصول باليتيم إلى مرحلة الرشد فى أقصر زمن ممكن، بحكم هذه الأخوة الملازمة له، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 والمستقرة فى شعوره، وهذا شعور معاكس تماما لما يشعر به الأوصياء نحو اليتامى من أنهم لن يكبروا أبدا، حتى يظلوا أكبر زمن ممكن تحت أيديهم!! فانظركم أعطت هاتان الكلمتان المباركتان: «وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ» من ثمرات طيبة، وكم تعطيان هكذا أبدا من ثمر طيب مبارك لكل طالب ومريد؟ وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ» حماية لهذا الشعور الذي أثاره قوله سبحانه: «وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ» وتغذية دائمة له من أن يضعف، إذ يجد الوصي على اليتيم عين الله ترقبه، وعلمه يحيط بكل ما يعمل لليتيم الذي فى يده، من خير أو شر، ومن إصلاح لأمره، ليرشد ويستقلّ بشؤنه، أو ليفسد ويظل هكذا تحت يده!. وفى قوله سبحانه: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ» إشارة إلى أن ما قضت به حكمة الله من تكاليف فى شريعة الإسلام، هو مما لا إعنات فيه ولا إرهاق، بل هو مما تحتمله النفوس فى متوسط مستوياتها.. فأوامر الشريعة الإسلامية ونواهيها ملتزمة هذا الموقف الوسط، الذي جمع أطراف الناس جميعا، من أقوياء وضعفاء. ولو أراد الله سبحانه وتعالى أن يكلف بما هو فوق احتمال الناس، أو بما يصيبها بالجهد والإعياء لما كان لأحد أن يعترض، ولكان ذلك شريعة ملزمة، يحلّ العقاب بمن خرج عليها، كما فعل الله سبحانه وتعالى ذلك باليهود، وذلك من باب الابتلاء والفتنة، التي عافى الله سبحانه وتعالى منها هذه الأمة الإسلامية، ورحمها من هذا البلاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 الآية: (221) [سورة البقرة (2) : آية 221] وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) التفسير: فى الآيات السابقة بيّن الله سبحانه حدودا وأحكاما، جلابها وجه الحق فيما التبس على النّاس من أمر القتال فى الشهر الحرام، ومن شأن الخمر والميسر. ومن النفقة المطلوبة من مال أصحاب المال، ومن حق اليتيم على الوصىّ. وفى هذه الآية بيّن الله تعالى حكم التزاوج بين المؤمنين والمشركين، فيقضى سبحانه بتحريم التزاوج بينهما، فلا يحلّ للمؤمن أن يتزوج مشركة، ولا لمشرك أن يتزوج مؤمنة. ذلك أن العلاقة الزوجية من شأنها أن تربط بين الزوجين بروابط روحية ونفسية وعقلية، وقيام تلك الروابط بين مؤمن ومشركة، أو مشرك ومؤمنة، يؤدى غالبا إلى إفساد الطبيعتين معا، فلا يكون المؤمن مؤمنا، ولا المشركة مشركة، كما لا يكون المشرك مشركا ولا المؤمنة مؤمنة. إذ أن كلّا من الزوجين ينضح على الآخر من روحه ونفسه وتفكيره، فيقيمه على منزلة بين المنزلتين: بين الإيمان والشرك.. وفى هذا ما يدخل الضيم على المؤمن فى دينه، وربما خرج منه جملة، فباء بالخسران المبين. أما المشرك فلا خسران عليه، إذ هو- عند الله- من الخاسرين، من قبل ومن بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وقد يخطر بالبال هنا أن فى التزاوج بين المؤمنين والمشركين، ربما يكون من نتائجه تحول المشرك أو المشركة إلى الإيمان، وفى هذا تعويض للخسارة التي قد تنجم من تحول المؤمن أو المؤمنة إلى الشرك، وبهذا لا تكون هناك خسارة بالنسبة للمجتمع المسلم، الذي إن خسر هنا ربح ما يعوض الخسارة هناك! وهذا التقدير غير سليم، وغير عادل! أما أنه غير سليم، فإن الشرّ غالبا يغلب الخير، وتتسرب عدواه إلى الخير بالمخالطة أكثر من تسرب الخير إليه، إذ كان الشر يعمل وأهواء النفوس معه، وشهواتها مائلة إليه، جاذبة له! وأما أنه غير عادل، فإن فيه مخاطرة بنفس مؤمنة فى مقابل نفس مشركة، وشتان ما بين نفس ونفس! وقد أباح الإسلام أن يتزوج المؤمن الكتابية، ولم يبح أن يتزوج الكتابي المؤمنة، وذلك فى قوله تعالى: «وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ» : (5: المائدة) . وذلك أن الرجل أقوى من المرأة، وأقدر على التحكم فى عواطفه، وأن تأثيره على المرأة أكثر من تأثيرها عليه، وأنه أحرص على دينه من حرصها على دينها، وذلك فى الأعم الأغلب.. والحكم للعام الغالب. وعلى هذا كان تقدير الإسلام، فأباح للمؤمن أن يتزوج الكتابية، ولم يبح للمؤمنة أن تتزوح الكتابي. ويرد على هذا خاطر أيضا، وهو أنه إذا كان الأمر على هذا التقدير، فلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 لا يبيح الإسلام للمؤمن أن يتزوج المشركة.. وهو الرجل، وهى المرأة، على ما عرفنا من فوارق بين الرجل والمرأة؟ والرد على هذا فيما أشرنا إليه من قبل، وهو أن ذلك من قبيل المخاطرة بنفس مؤمنة فى مقابل نفس مشركة، وأن الاحتمال وإن كان هنا قويا فى أن يشدّ الرجل المرأة إليه، إلا أنه معارض باحتمال آخر، وإن كان أضعف. وهو أن المرأة قد تغلب الرجل الذي يضعف لها، وليس بقليل أولئك الرجال الذين يخضعون لسلطان النساء.. فكان تدبير الإسلام بالمنع المطلق، هو التدبير الحكيم، الحريص على سلامة المؤمن، وحياطة دينه من أن يتعرض لسوء، أو يحوم حول فتنة! الآية: (222) [سورة البقرة (2) : آية 222] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) التفسير: ممّا يسأل السائلون عنه، فيما بين الرجال والنساء هو: هل يحل مباشرة النساء وهن فى المحيض؟ وقد جاء حكم الله فيه: «هو أذى، فاعتزلوا النّساء فى المحيض» أي هو أذى تستقذره النفس وتتأذى منه.. وقد تغلب الشهوة على بعض الناس فيحتمل هذا الأذى فى سبيل إرضاء شهوته، ولكنه- مع ذلك وبعد قضاء شهوته- يظل وفى نفسه شىء من آثار هذا الأذى، قد تنضح آثاره على ما بين الزوج وزوجه من السّكن الروحي، الذي بغيره لا تطيب الحياة الزوجية ولا تدوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 ويلاحظ أننا لم ننظر فى قوله تعالى: «هُوَ أَذىً» إلا من جانب واحد، هو جانب الأذى النفسي، ومع أنّ التعبير القرآنى جعله أذى مطلقا، عاما شاملا، فى جانب الرجل والمرأة معا، وفى النفس والجسد جميعا- فإنه حسبنا هنا ما وقع عليه نظرنا، أما ما يقول به العلم، وما يكشفه الطب من هذا الأذى، فلا نريد أن نعرض له، إذ كان ما يقول به العلم ويكشفه الطب فى هذا الأمر مما لا يقع على حقيقته إلا أهل الذكر من العلماء! قوله تعالى: «وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ» المراد بالقرب هنا قرب المباشرة لا قرب الحياة من مؤاكلة، ومجالسة، وحديث، وغيرها.. إذ ليس الحيض مما يمسّ طهارة المرأة فى ذاتها كإنسان، كما ترى ذلك بعض الديانات التي ترى أن المرأة أيام حيضها نجسة فى ذاتها، وفى كل ما يمسّها! وذلك هو معتقد اليهود! ومن جهة أخرى فإنا نرى قوله تعالى: «فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ» وإن كان يراد به الاعتزال عن المباشرة إلا أنه يشير من بعيد إلى شىء من الإمساك عن المخالطة الدائمة، التي تكون بين الزوجين فى غير أوقات الحيض.. إذ أن المرأة فى أيام حيضها تكون فى أحوال غير طبيعية، سواء فى حالتها الجسدية، أو النفسية، والإقلال من لقائها فى تلك الحال آمن وأسلم من أن يجد منها زوجها ما لا يرضاه! قوله تعالى: «فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ» التطهر طهر وزيادة.. فالطهر هو انقطاع دم الحيض، والتطهّر الاغتسال. أي فإذا اغتسلن فأتوهن من حيث أمركم الله، أي فأتوهن من حيث ينبغى أن تؤتى المرأة.. وكان بعضهم يأتى المرأة من دبرها، وهو انحراف خارج على طبيعة الحياة بين الأحياء، من حيث كان اتصال الذكر بالأنثى فى عالم الحيوان لا يعدو الموضع الذي يجىء منه النسل! فكيف لا يعفّ الإنسان عما عفّ عنه الحيوان؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ» دعوة إلى التزام الطريق القويم لمن كان قد انحرف عنه، وأتى المرأة من غير المأتى الطبيعي لها، فباب التوبة مفتوح لمن أناب إلى الله والتزم حدوده: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ» فالتوبة تغسل الحوبة.. وليس مصيبة الإنسان فى أن يخطىء ويزل، فالإنسان بحكم أنه بشر عرضة للخطأ والزلل، ولكن المصيبة ألّا يتأثّم من الإثم، ولا يتحرج من الانحراف، فيقيم على إثمه، ويصر على انحرافه.. وليس يستنقذ الإنسان من أن يحيط به ذنبه إلّا أن يرجع إلى الله من قريب، وأن يلقاه نادما تائبا.. هنالك يجد من ربه رحمة ومغفرة، ورضى ورضوانا «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ» أي المتطهرين من كل أذى يمسّ أجسادهم وأرواحهم..! الآية: (223) [سورة البقرة (2) : آية 223] نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) التفسير: قوله تعالى: «نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ» أي محترث ومزدرع، تبتغون منهن ما يبتغى الحارث والزارع مما يحرثه ويزرعه، وهو الثمرة التي يجتنيها من زرعه.. وفى هذا دعوة إلى أمور، منها: رعاية المرأة، وتدبير أمرها، وإصلاح شأنها، وتوفير وسائل الحياة الطبيعية لها، شأن الزارع الذي يقوم على رعاية زرعه، وحمايته من كل ما يعرض له من سوء.. ومنها غرس ما يرجى ثمره، وما ينتفع به من ثمر، وذلك لا يكون إلا بمباشرة المرأة من حيث يؤتى بالولد الذي هو الثمرة المرجوة من هذا الغرس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وقوله تعالى: «فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ» إطلاق لأى قيد فى اتصال الرجل بزوجه، بعد أن يلتزم الحدود التي بينها الله، وهو ألا يباشرها إلا بعد أن تطهر من الحيض، ثم أن تكون المباشرة فيما ينفع ويثمر.. قوله سبحانه: «وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ» دعوة إلى ألا يكون همّ الرجل كلّه فى مباشر المرأة هو اللذة المجرّدة من كل قصد، إلا إشباع شهوته وإرواء ظمئه.. فذلك عمل مستهلك لا يبقى للإنسان منه شىء بعد ساعته.. والأولى بالإنسان هنا أن يطلب فى مباشرته للمرأة النّسل، وأن يقوم على رعاية هذا النسل، وإعداده إعدادا صالحا للحياة، ليشارك فى بنائها وعمرانها، وبهذا يكون قد استجاب لأمر الله تعالى فى قوله: «وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ» فقدم لنفسه عملا صالحا يلقاه يوم القيامة: «مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ» (20: الشورى) . قوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ» تعقيب على تلك المحظورات التي بينها الله سبحانه وتعالى فى هذه الآيات، وتنبيه إلى أنها من حرمات الله، وأن اتقاءها ومجانبتها هو الذي يرضى الله، ويحقق للمؤمن إيمانه، فيلقى الله آمنا يوم القيامة «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» بما أعدّ الله سبحانه وتعالى لهم يوم القيامة من مغفرة ورضوان. الآية: (224) [سورة البقرة (2) : آية 224] وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) التفسير: ذات الله سبحانه وتعالى، فى جلالها وبهائها وعظمتها، ينبغى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 أن تكون فى قلب المؤمن بمكانتها المكينة من الإجلال والتعظيم، وأن تصان من كل ما يمسّ هذه المكانة من اهتزاز أو إزعاج!. وأسماؤه تعالى، لها ما لذاته سبحانه، من هذا الإجلال والتوقير والإعظام، فلا يتلفظ المؤمن باسم من أسمائه جلّ وعلا إلّا فى مقام العبادة والتسبيح، وإلا فى حال الضراعة والابتهال. فليس بالذي يقدر الله حقّ قدره من يتخذ اسم الله يمينا يحلف به، ويقدّمه بين يدى كل أمر يعرض له، ويتخذ من جلال الاسم الكريم وعظمته وسيلة يتوسل بها إلى نفاذ ما يحلف عليه إلى مشاعر من يحلف له، فيحترم حرمة اليمين، ويصدقه. فقوله تعالى: «وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ» أي لا تعرّضوا اسم الله تعالى للحلف به فى كل ما يعترضكم من أمور دنياكم، تريدون لها التوثيق والتوكيد. وقوله سبحانه: «أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ» أي لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ولو كان الحلف من أجل أمر تلتزمون فيه قول الحق، وترعون فيه تقوى الله، وتصلحون به بين الناس.. لأن الإكثار من الحلف بالله مقام الصدق والتقوى والإصلاح بين الناس، يفتح للإنسان الطريق إلى الحلف بالله فى مجال الكذب والفجور والإفساد بين الناس!. فالنهى عن الحلف بالله فى مقام الصدق والتقوى والإصلاح بين الناس، ليس نهيا مطلقا، وإنما هو نهى عن الإكثار واللامبالاة، حيث لا يتحرج المرء من الحلف فى هذا المقام، وهو يلتزم حدود الصدق والتقوى.. فإن هذا الإكثار فى الصدق- كما قلنا- يفتح الطريق إلى الحلف بالكذب والفجور!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 الآية: (225) [سورة البقرة (2) : آية 225] لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) التفسير: من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده أن تجاوز عنهم فيما يقع منهم من أيمان يجرى بها اللسان من غير قصد، فلا يراد بها إبطال حق، ولا إحقاق باطل.. فهذه الأيمان قد تجاوز الله عنها. ولكن ما انعقد عليه القلب منها، واحتوته النية، وصحبته العزيمة هو الذي تقع المؤاخذة عليه، فمن برّ وصدق فلا إثم عليه، ومن كذب وفجر فعليه وزر ما اكتسب، «وَاللَّهُ غَفُورٌ» يتجاوز عن سيئات المسيئين إذا أنابوا إليه، ومدّوا يد الرجاء إلى أبواب رحمته، «حليم» لا يعجل بأخذ المذنب بذنبه، بل يمهله الأيام والشهور والسنين، ليراجع نفسه، ويستغفر لذنبه، ويصطلح مع ربه. الآيتان: (226- 227) [سورة البقرة (2) : الآيات 226 الى 227] لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) تبين هاتان الآيتان الكريمتان، حكما من أحكام الله فى العلاقة بين الرجل والمرأة، حين تتأزم بينهما الأمور، وتتصادم النفوس! ومما يأخذ الرجل به المرأة من أدب أن يهجرها، أي لا يتصل بها اتصال الرجل بالمرأة، وذلك ما تشير إليه الآية الكريمة فى قوله تعالى: واللاتي تخافون نشوزهن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 فعظوهن واهجروهنّ فى المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا (34: النساء) وليس لهذا الهجر زمن محدد، إذ هو مقدور بالقدر الذي يعدّ كافيا للتأديب والإصلاح! هذا، إذا لم يكن الهجر محكوما بيمين آلى بها الرجل على نفسه ألا يقرب زوجه، فإذا كان ذلك عن يمين، وهو ما يسمى «بالإيلاء» لم يكن المزوج أن يهجر زوجه أكثر من أربعة أشهر، فإن رجع خلال هذه الأشهر، وقبل انتهائها، إلى زوجه وأعاد الحياة الزوجية إلى ما كانت عليه قبل هذا الإيلاء، فزوجه حل له، وعليه كفارة يمينه: «فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» يقابل سيئاتكم بالغفران والرحمة، فليذكر الزوجان ذلك، وليلق كل منهما صاحبه بالغفران والرحمة، فذلك هو الذي يمسك الحياة الزوجية بينهما، ويقيمها على طريق السلامة والأمن. وإن أصر الرجل على موقفه طوال هذه الأشهر الأربعة- فإن إمساك المرأة بعدها فى عصمته هو إضرار بها، والطلاق فى تلك الحال خير لها، إذ بهذا يتحدد موقفها وتتعرف إلى مكانها فى الحياة، وذلك على ما فيه من أذى، خير من إمساكها بهذا القيد الثقيل الذي يحول بينها وبين أن تتحرك إلى أي اتجاه. «وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» والدلالة على عزيمة الطلاق هنا هو عدم مراجعة الزوجة خلال أربعة الأشهر، فإن طلق الزوج عند انتهاء هذه الأشهر انتهى الأمر، وإلا طلق عليه القاضي، وأخلى سبيل المرأة من هذا المقام الذي أقامها فيه الزوج، والذي لا يراد منه غير الإضرار، لا الإصلاح، كما دلّ على ذلك هذا الزمن المتطاول.. أربعة أشهر، لم ير فيها الزوج بابا يدخل منه ليصلح ما بينه وبين زوجه.. فلم يبق إلا التفرقة بينهما: «وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 الآية: (228) [سورة البقرة (2) : آية 228] وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) التفسير: من أحكام المطلقة المدخول بها، غير المتوفّى عنها زوجها، وغير الحامل، وغير اليائسة من الحيض- أن تعتد ثلاثة قروء. والقرء يجىء لغة بمعنى الطهر، وبمعنى الحيض أيضا، فهو ضد. والمراد بالعدة هنا هو استبراء الرحم، ولا يتحقق الاستبراء ويقع موقع اليقين إلا بأن ترى المرأة الدم ثلاث مرات.. أي تحيض وتطهر، ثم تحيض وتطهر، ثم تحيض وتطهر، فإذا كان ذلك فقد استبرأت رحمها، وتم انفصام العلاقة الزوجية بينها وبين زوجها، وحل لها أن تتزوج. والطلاق الشرعي هو أن يطلق من انتهى موقفه إلى الطلاق- امرأته فى طهر لم يمسسها فيه، فإذا جاءها الحيض طلقها طلقة أولى رجعية، ثم إذا طهرت وجاءها الحيض طلقها طلقة ثانية، ثم إذا طهرت وجاءها الحيض طلقها الطلقة الثالثة. قوله تعالى: «وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ» أي يحرم على المرأة المطلقة المعتدة بالقروء أن تكتم ما خلق الله فى رحمها من الولد، فتقر بالواقع، إذ القول هنا قولها، وما تعلمه هو أمانة حملتها، فإذا لم تؤد الأمانة على وجهها فقد أصبحت فى الخائنات الآثمات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 وقوله تعالى: «إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» تذكير لهن بالله وبالإيمان به، فإن من شأن من يؤمن بالله أن يتقيه وأن يستقيم على طريقه القويم، وأن يقول قولة الحق، له أو عليه. قوله تعالى: «وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً» ذلك إشارة إلى الوقت الذي تكون المرأة فيه حلّا لزوجها لم تحرم عليه، بأن كانت فى العدّة بعد طلاقها للمرة الثانية.. فهو أحق بها من غيره، إن أراد أن يصلح ما أفسد، ويقيم البيت الذي تهدم. وفى قوله تعالى: «أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ» إشارة إلى أن هذا الحق ليس خالصا للأزواج فى ذلك الوقت. فللمرأة هنا أن تتزوج من تشاء، وزوجها لا يعدو أن تكون واحدا ممن يتقدمون لها، وأحقيته بها ليست حقا شرعيا، وإنما هى حق أدبىّ، لسالف العشرة بينها وبين زوجها. قوله تعالى: «وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ» أي للنساء من الحقوق على أزواجهن مثل ما للأزواج على النساء من حقوق.. فهذا ما يقتضيه العدل، وما تقوم عليه الحياة بين شريكين، أراد الله لهما أن يكون كل منهما سكنا لصاحبه. وليست هذه الحقوق التي للرجل على المرأة، والتي للمرأة على الرجل من قبيل الحقوق التي يقتضيها الغريم من غريمه، ويأخذها بيد السلطان والقانون إن ماطله الغريم والتوى بحقه. وإنما هى حقوق تفيض بها النفس فى سماحة ورضى، وتنبع من عاطفة إنسانية لا يملك الإنسان دفعها، أشبه بتلك العاطفة التي بين الآباء والأبناء، بل ربما كانت أكثر من هذا.. إنها عاطفة الأليف إلى أليفه، والعاشق إلى معشوقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 هذا ما ينبغى أن يكون عليه ما بين الزوجين من تواد وتعاطف، وحبّ، وتراحم، وتعاون.. طواعية واختيارا، لا قهرا ولا قسرا.. وإلا فقدت الحياة لزوجية روحها، وصارت جسدا باردا، لا يلبث أن يذيل ويموت! قوله تعالى: «وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ» أي درجة فى التفاوت بينهما فى الحقوق والواجبات، بمعنى أن للرجل على المرأة حقوقا أكثر درجة مما لها عليه من حقوق، وأن عليه لها من الواجبات أكثر مما لها عليه.. وصاحب الحق أولى بالفضل ممن لزمه الواجب المقابل لهذا الحق! والتعبير بدرجة يعنى أن هذا التفاوت لا يمسّ جوهر الاعتبارات الإنسانية فيهما، فهما إنسانان متساويان فى الإنسانية، ولكن اختلافهما النوعي أدى إلى الاختلاف الوظيفى فى الحياة بينهما: فكما كانا رجلا وامرأة.. فى الجنس، كانا أولا وثانيا، فى الرتبة.. وليس هذا بالذي يدخل الضيم على أي منهما، ما دام يحيا حياته على النحو الذي يلائم طبيعته. هذا، والدرجة التي للرجل على المرأة ليست بالتي تجىء عن طريق القهر والقسر، وإنما تستدعيها تصرفات الرجل وآثاره فى الحياة الزوجية، وفى مدّها بأسباب الحياة والنماء والاستقرار.. فهذا هو الذي يعطى الرجل- من غير أن يطلب- مكان الصدارة والقيادة، وإلا كان متخليا عن هذا المكان لمن هو أولى به منه، من زوجة أو ولد! قوله تعالى: «وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» إشارة إلى أن العزة التي تقوم إلى جانبها الحكمة هى العزة الرشيدة البارة بأهلها وبالناس حولها.. فالمكانة التي منحتها الحياة للرجال، فجعلت لهم على النساء درجة، وأقامت لهم سلطانا عليهن- هذه المكانة إن لم تلتزم جانب الحكمة والاعتدال كانت أداة سفه وطيش، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 تدمر حياة صاحبها، وتفسد الحياة على من يصحبه، وسنعرض لقضية المرأة والرجل عند تفسير قوله تعالى: «الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ» (34: النساء) إن شاء الله. ال آية: (229) [سورة البقرة (2) : آية 229] الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) [الطّلاق وحكمته] فى هذه الآية يبين الله سبحانه وتعالى الأسلوب الذي يتم به الانفصال بين الزوجين، وإنهاء الحياة الزوجية بينهما! إنه كان لا بد أن يشرّع الإسلام لهذه العلاقة التي كانت قائمة بين الزوجين، ثم طرأ عليها ما يجعل بقاءها غير ممكن، لسبب أو لأكثر من سبب! وذلك ما تسميه الشريعة الإسلامية «الطلاق» . «والطلاق» مشتق من الإطلاق، وهو ضد الإمساك والحبس..! وهذا يعنى أنه عمل فيه خلاص وفكاك من ضيق، ونجاة وعافية من بلاء.. وذلك حين تصبح الحياة الزوجية- لسبب أو لأكثر، من جهة الزوج أو الزوجة أو منهما معا- ثقيلة ثقل العلة القاتلة، بغيضة بغض العدو المقيم! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 وعجيب أن ينكر بعض السفهاء على شريعة الإسلام هذا التدبير الحكيم، ويرميها- زورا بهتانا- أنها تحمل للناس هذا السلاح الذي يفصم عرى الزوجية، ويقطع أوصالها.. وذلك قطع لما أمر الله به أن يوصل! وبمفهوم هذا السفه الجهول علا صراخ بعض المتهوسين من الرجال والنساء- فى المجتمع الإسلامى- ممن يحملون- كذبا وادعاء- رايات الإصلاح، ويدّعون- زورا وبهتانا- أنهم صوت العصر، ووجه المدنية والحضارة! نعم، علا صراخ هؤلاء المتهوسين من الرجال والنساء، يتهمون الشريعة الإسلامية، بأنها تفرض على المرأة فى القرن العشرين، أسلوب الحياة البادية فى عصر الجاهلية الأولى، إذ تعطى الرجل هذا الحق الذي يتحكم به فى حياة المرأة بكلمة واحدة، يرسلها من فمه فإذا هى بالعراء، منبوذة نبذ النواة، وإذا هذا العش الذي كانت تأوى إليه، وتجد فيه السكن والاستقرار قد عصفت به عاصفة مدمرة، فذهبت به، وبددت شمله الجميع! وكذبوا وضلّوا! فما جاءت شريعة الإسلام هنا إلا بالدواء الناجع، والرحمة الراحمة لحياة مريضة، وداء عضال، لا يجد أصحابه للحياة طعما، ولا للراحة سبيلا..! إن الشريعة الإسلامية لم تفرض الطلاق فرضا، ولم تجعله واجبا يؤديه الرجال ابتغاء المثوبة والرضوان.. بل هو فى شريعة الإسلام أمر كريه مبغّض، لا يجيئه المرء إلا مكرها، ولا يلجأ إليه إلا مضطرا.. وحسبه شناعة وضلالا أن يقول فيه النبي الكريم: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» . فالأصل فى شريعة الإسلام أن تقوم الحياة الزوجية بين الزوجين على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 أساس الاستمرار والدوام إلى آخر العمر المقدّر لها.. ما دامت الحياة تجرى بهما فى مجراها الطبيعي، وما دام الوفاق والإلف بينهما قائما.. وليس يعقل- والأمر كذلك- أن تجىء شريعة- سماوية أو وضعية- فتدعو إلى الفرقة بين الزوجين، ولو فعلت- ولن تفعل- لما وجدت من يسمع أو يجيب! ولكن هل من طبيعة الحياة أن تلزم الأزواج- فى جميع الأحوال، وعلى امتداد الأزمان- أن يجمعهما الوفاق وألا يقع بينهما خلاف، وألا يتحول هذا الخلاف إلى عداوة، ثم لا تكون هذه العداوة جحيما يحترق به الزوج والزوجة معا؟ وإذا كانت الحياة بين الأزواج والزوجات- فى غالبيتها وعمومها- تسير فى مجرى طبيعى من مبدئها إلى نهايتها، فهل يمنع هذا من أن تكون هناك- وفى أعداد غير قليلة- علاقات زوجية مفككة الأوصال، واهية العرى، تنعقد على سمائها سحابات ممطرة دائما بشتى الآلام وصنوف العذاب؟ إن ذلك أمر واقع لا ينكره أحد، حتى أولئك الذين يصرخون فى وجه الشريعة الإسلامية، من غير المسلمين أو المحسوبين على الإسلام، وينددون بأحكام الطلاق فيها.. وإن كثيرا منهم- من رجال ونساء- عاشوا فى هذه التجربة، أو هم يعيشون فيها، ولكنهم مع هذا يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم! ونسأل: ماذا يكون الرأى والتدبير فى أمر هذا الخلاف الذي يقع بين زوجين، فيحيل حياتهما على هذا النحو الذي رأيناه؟ أيتركان هكذا يكيد كل منهما كيده لصاحبه؟ أيقطعان الحياة معا فى هذا الصراع الظاهر والخفي، حتى يقضى أحدهما على صاحبه؟ وماذا يظن بأخوين استحكم بينهما الشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 فالتقيا بسيفيهما، يريد كل منهما أن يقتل الآخر، وهما فى مكان مطبق عليهما وليس لهما من منفذ ينفذان منه؟ إنه لا بد أن تقع الجريمة، وتزهق روح أو روحان! وشواهد هذا كثيرة فى محيط الجماعات التي حرّمت الطلاق.. فما أكثر المآسى والفواجع، وما أكثر الويلات والمصائب التي امتدت آثارها فجاوزت الأزواج إلى المجتمع كله، وأشاعت فيه الفساد والانحلال، وأقامت الحياة الزوجية على دخل وفساد ونفاق!! وما كان لشريعة الإسلام- وقد جاءت لتسع الحياة الإنسانية كلها، فى امتداد أزمانها- ما كان لشريعة الإسلام- وتلك رسالتها- أن تغمض العين عن هذا الواقع من الحياة، وأن تدع داء كهذ الداء يأكل الناس فى غير مرحمة، ويقيم فى المجتمع صداعا حادا تتصدع به الأخلاق، وتفسد معه الضمائر، وتروج به سوق الكذب والنفاق! فكان عن تدبير الشريعة الإسلامية الحكيم أن رصدت لهذا الداء الذي يدخل على الحياة الزوجية ويفسد المشاعر التي بين الزوجين- الدواء الناجع، وهو فصم تلك الحياة بالطلاق، وإطلاق كل من الزوجين من هذا الوثاق الذي يشدّهما، والذي كان يوما ما داعية بهجة ومسرة، فأصبح سبب عذاب وبلاء! إن «الطلاق» شرّ.. ولكنه شر لا بد منه، إذ يدفع به ما هو أكثر منه شرا.. والشرّ حين يدفع به شر أعظم منه يكون رحمة، ونعمة! وبعض السمّ ترياق لبعض ... وقد يشفى العضال من العضال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 هكذا ينظر الإسلام إلى الطلاق.. إنه أمر مكروه، ولكنه مع كراهيته قد يركبه المرء مضطرا ليسلم، ولو بفقد عضو عزيز عليه من أعضائه! يقول نبىّ الإسلام صلوات الله وسلامه عليه: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» فهو- مع أنه رخصة- بغيض كريه، لا يقدم عليه المرء إلا مضطرا، ولا يتناوله إلا مكرها، شأنه فى هذا شأن المحرمات التي أباحتها الشريعة فى أحوال الاضطرار، كالخمر، والميتة والدم، ولحم الخنزير، وغير ذلك مما تتقذره النفس وتعافه- فإنه عند المخمصة، وتعرض الإنسان للهلاك، قد أبيح أكلها، والأخذ منها بالقدر الذي يحفظ الحياة، ويدفع التلف.. والله سبحانه وتعالى يقول: «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ذلك هو «الطلاق» فى شريعة الإسلام، دواء مرّ، يطبّ به لداء موجع، وطعام خبيث، يدفع به جوع قاتل! وإذا كان بعض الجاهلين والحمقى، وذوى الجرأة على دين الله، قد ترخّصوا فى هذه الرخصة، واستخفوا بأمر الله فيها، فجاوزوا الحدود، واستباحوا الحرام فى غير اضطرار، فليس ذلك بالذي يحسب على الإسلام ولا بالذي يشوّه من جلال أحكامه، وينال من حكمة شريعته.. فالتشريع شىء، والمشرّع له شىء آخر إذ ليس هناك من قوة تحجز الناس عن مخالفة الشرع، ومجاوزة حدوده! «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» (29: الكهف) إنّ أكثر الذين ينظرون إلى «الطلاق» وتعلوا صيحاتهم فى وجهه، لا ينظرون إليه فى الشريعة التي حملته وحددت حدوده، ورسمت معالمه، وإنما ينظرون إلى من جهلوه، أو تجاهلوه، فعبثوا به، واتخذوا دينهم لهوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 ولعبا، فطلقوا فى غير حرج أو تأثم، وفى غير اضطرار لدفع بلاء، والتماس نجاة وعافية!. وقد نبهت الشريعة فى أكثر من موضع إلى قداسة الحياة الزوجية وحرمتها، وعملت على تغذية المشاعر الإنسانية بين الزوجين، بآدابها وأحكامها، وجعلت من الزوجين كيانا واحدا، يغتذى من نبع واحد، هو المودة والرحمة.. فقال تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» (21: الروم) وقال سبحانه: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها» (1: النساء) . ويتجه الإسلام إلى الأزواج الذين فى أيديهم عقدة النكاح فيدعوهم إلى الصبر والأناة، واحتمال ما يقع من مكروه فى الحياة الزوجية، رجاء أن ينجلى هذا المكروه، وتنقشع سحبه، ويعود إلى الحياة الزوجية صفاؤها، وجمالها، بل ربما كان هذا المكروه هو ضرورة لازمة لتلك الحياة، حيث تنصر فيه الآلام، وتشتد العزائم، وينكشف لكلا الزوجين معدن صاحبه، وربما تكشف عن جوهر نفيس، كان خافيا فى ظلال هذه الحياة الساكنة، فلما ماجت أمواجها بين مد وجزر، ظهر ما كان يكمن فى أطواء النفس من خير كثير.. وفى هذا يقول الله تعالى مخاطبا الأزواج فى شأن النساء: «وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً» (19: النساء) . فأى عدل بعد هذا العدل؟ وأي رحمة بعد تلك الرحمة؟ فى هذا التشريع السماوي الذي لا تقوم الحياة الزوجية على دعائم سليمة إلا إذا كانت تلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 الشريعة شأنا من شئونها، وحالا من أحوالها، ودواء عتيدا، يستطبّ به عند الحاجة، ويؤخذ منه بالقدر المطلوب.. جرعة، جرعة، فإن ذهب هذا الدواء بالداء فى المرة الأولى، لزم التوقف والإمساك، وإلا كانت الجرعة الثانية، فإن كان فيها الشفاء، وإلا فالثالثة، ولا بعدها! فقد عظم الداء ولا أمل فى الشفاء! وقوله تعالى: «الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» بيان لإجراء عملية الطلاق. وكلمة الطلاق: لفظ ينطق به الزوج فى مواجهة الزوجة أو بعلمها به علما متيقنا نافيا للظن، مرادا به فصم عرا الزوجية.. وكل لفظ يؤدى هذا المعنى هو طلاق.. أما إذا وقع على غير تلك الصورة فلا يعتدّ به، ولا يحمل على محمل الجدّ فى فصم علاقة أراد الله لها الاستقرار والتمكين. ثم هو «مرّتان» أي عمليتان، أو عملية على مرحلتين.. ومن هنا كان القول بالطلاق جملة فى لفظة واحدة، قولا بعيدا عن منطوق الآية، مجانبا الصواب والحكمة اللذين هما مناط كل حكم من أحكام الشريعة. ولفظ «مرّتان» دال دلالة صريحة فى منطوقه ومفهومه على التكرار، مرّة ثم مرة.. وإذا طلق الرجل للمرّة الأولى، فإنه يدخل فى تجربة نفسية وروحية وجسدية لأول مرة فى حياته مع المرأة التي اتخذ هذا القرار بشأنها. وفى هذه التجربة تعرض له خواطر وصور، وربما امتد نظره فرأى طريقه موحشا مقفرا بغير هذا الرفيق الذي كان يصحبه، وهنا كان من حكمة التشريع أن أعفاه من مغبة هذه التجربة، فجعلها له، يتعرف بها على ما هو مقدم عليه، فيقدم أو يحجم، بعد اختبار وتجربة.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 وللمرأة ما للرجل فى هذه التجربة، إذ تعرف حالها بعد هذا الموقف، وتدبر أمرها على ضوئه، وربما كان فى سلوكها وعنادها ما حمل الزوج على أن يقدم على هذا الذي أقدم عليه، فتراجع نفسها، وتصلح من أمرها، وتسترضى زوجها.. فيكون الوفاق والوئام!. وللمرأة والرجل معا خير كثير فى هذه المهلة. ذلك أنه إذا لم يكن عندهما من الرأى والحكمة ما يجمعهما على الوفاق، كان فى نصح الناصحين لهما من الأهل والأقارب والأصدقاء، ما يبصرهما بالخير، ويكشف لهما ما غاب عنهما من رشد، وما عزب من رأى. هذه مرحلة أولى، من مراحل الطلاق، وللرجل أن يراجع زوجه خلال فترة العدة، فإذا انتهت العدة دون مراجعة بانت منه زوجه بينونة صغرى، وصارت المرأة أجنبية عنه، لا تحلّ له إلا بعقد ومهر جديدين، برضاها أو رضى وليّها. وسواء أعاد الرجل زوجه إليه بالمراجعة، أو بعقد ومهر جديدين، فقد حسبت عليه تطليقة.. فإذا عاد الرجل وطلق هذه الزوجة مرة أخرى.. كان له أن يراجعها ما دامت فى العدة، فإذا انتهت العدة دون مراجعة صارت المرأة أجنبية عنه، وكان له أن يعيدها إليه بعقد ومهر جديدين، وبرضاها أو رضا وليها أيضا.. وحسبت عليه تطليقة أخرى.. أي أنه يكون فى تلك الحال قد أوقع على زوجه تلك، تطليقتين! وهنا تصبح الحياة الزوجية بينهما واقعة تحت الحكم الوارد فى قوله تعالى: «فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» .. حيث كان ما جرى بين الزوجين غاية ما يمكن أن يصلح به شأنهما، إن كان هناك سبيل للإصلاح والاستقرار! بمعنى أنه إذا طلق الزوج زوجه هذه، بعد ذلك، كان هذا الطلاق خاتمة المطاف فى تلك الدورة للحياة الزوجية بينهما، وتصبح المرأة بمجرد وقوع هذا الطلاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 محرّمة عليه، بائنة بينونة كبرى، فلا تحل له، حتى تنكح زوجا غيره ثم يطلقها ذلك الزوج، أو يموت عنها، وتنتهى عدتها وهذا ما يقرره قوله تعالى: «فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ.. الآية» والمراد بالطلقة هنا، الطلقة الثالثة. وقوله سبحانه: «وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ» . بعد أن بيّن الله سبحانه وتعالى الطريق الذي يسلكه أولئك الذين تنتهى حياتهم الزوجية بالطلاق- بيّن أسلوب العمل فى تسوية ما بين الزوجين من علاقات مادية، كانت قائمة بحكم الرابطة الزوجية بينهما. فهناك المهر الذي قدّمه الرجل للمرأة، وهو ملك خالص للمرأة للدخول بها، ولا يحق للرجل أن يسألها شيئا منه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى «وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً» ولكن قد تكون المرأة متضررة بالحياة الزوجية، كارهة لها، غير محتملة أعباءها، والرجل حريص عليها، محبّ لها.. هو يريدها وهى لا تريده. وأما وقد أصبحت الحياة الزوجية على هذا الوضع المضطرب القلق، وأما والمرأة هى صاحبة المصلحة المحققة فى قطع هذه الحياة الزوجية، فإنه لا بأس من أن تفتدى نفسها بشىء مما فى يدها من المهر الذي قدمه الزوج لها.. وفى هذا الذي يأخذه الرجل منها، تعويض له عن بعض ما ذهب منه، على حين تنال المرأة خلاصها، وتدير وجهها على الوجه الذي تحب.. وهذا ما يشير إليه الاستثناء الوارد على الحكم فى قوله تعالى: «تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً.. إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ، فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ» . والحياة الزوجية المضطربة لا يمكن أن تظل هكذا وتقام فيها حدود الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وإنه لا جناح على كل من الرجل والمرأة أن يتصالحا على فدية تقدمها المرأة ليفصما بها علائق الزوجية وهذا ما يسمّى بالخلع. وعلى هذا فإنه يجوز للمرأة أن تطلب الطلاق، وأن تجاب إلى هذا الطلب إذا نزلت للزوج عن مهرها. وقد طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم «جميلة» امرأة الصحابي الجليل «قيس بن ثابت» .. ففى الحديث أن جميلة امرأة قيس بن ثابت جاءت إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، لا أجد فى قيس بن ثابت عيبا من خلق أو إيمان، ولكنى لا أجد فى طوقى مجاراته «1» ، فسألها النبىّ صلى الله عليه وسلم: «هل تعيدين إليه حائطه؟ «2» » فقالت: نعم.. فأمر النبي بردّ الحائط إلى قيس بن ثابت، وتطليقها! وقوله تعالى «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» تنبيه إلى أن هذه الأحكام قائمة داخل حدود الله، وأن التزامها واجب، وأن مجاوزتها هو عدوان عليها.. «وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» آية: (230) [سورة البقرة (2) : آية 230] فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)   (1) أي فى انقطاعه عن الدنيا (2) الحائط: البستان الذي أقيم حوله سور «حائط» وكان قيس قد أصدقها هذا البستان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 بينت الآية السابقة حدود الطّلاق، وأنه مرّتان تنتهى بعدهما علاقة الزوجية بين الزوجين، ويصبح كل منهما أجنبيا عن الآخر، وقد أشارت الآية السابقة أيضا إلى ما انتهى إليه الموقف بعد هذا، فقال تعالى «فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» أي رجعة بعقد ومهر جديدين، أو التطليقة الثالثة. وفى هذه الآية يبين الله تعالى الموقف بين الزوجين بعد أن ينتهى الأمر بينهما إلى التطليقة الثالثة، حيث يقول سبحانه: «فَإِنْ طَلَّقَها» أي الطلقة الثالثة- لفظا أو حكما- «فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ» أي تصبح هذه المرأة أكثر من أجنبية عنه، فليس له أن يتقدم إلى خطبتها إلا بعد أن تتزوج غيره ثم يطلقها ذلك الغير، ثم تنقضى عدتها من ذلك الغير، وعندئذ فقط يحلّ له أن يخطبها، بعقد ومهر جديدين. وقوله تعالى: «فَإِنْ طَلَّقَها» أي الزوج الآخر «فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا» أي يراجع كل منهما الآخر فى الزواج وإعادة الأمور بينهما إلى ما كانت عليه.. «إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ» أي إن غلب على ظنهما أنهما سيعودان إلى الحياة الزوجية السليمة، بعد أن يعزلا عنها ما كان سببا فى الخلاف الذي نجم عند الانفصال بينهما، فتقوم الحياة الزوجية بينهما على الحدود التي رسمها الله للزوجين.. «وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» فيفيدهم العلم ويعملون به، ويقيمون سلوكهم عليه. وفى قوله تعالى: «حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ» فوق أنه تأديب للزوج، فيه إثارة لحميته، وبعث لغيرته أن تصبح هذه التي كانت زوجا له وحرما غير مباح من حرماته- أن تصبح ليد غيره، حمى مستباحا له، محرّما على غيره، وعلى هذا الذي كانت له من قبل.. وفى هذا ما يبعث فى الزوج رغبة فى إمساكها قبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 أن تخرج من يده فيراجعها قبل الطلقة الثالثة.. ولا شك أن هذا الموقف له أثر كبير فى الحرص على الحياة الزوجية، وفى حمل الأزواج على مراجعة زوجاتهن، إن لم يكن ذلك فى كل الأحوال، فهو فى كثير منها. الآية: (231) [سورة البقرة (2) : آية 231] وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) أشار سبحانه وتعالى فى الآية (229) فى قوله سبحانه: «الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» إلى الموقف الذي ينبغى أن يلتزمه الرجل من زوجه إن طلقها للمرة الثانية، وهو إما أن يمسكها على نية خالصة وقلب سليم، ورغبة صادقة فى أن يقيم الحياة الزوجية معها كما أمر الله، من إحسان ومودة، وإما أن يرسلها ويخلى سبيلها، لتستقبل حياتها الجديدة كما تريد. وفى هذه الآية تحذير آخر للأزواج، وما تنعقد عليه قلوبهم تجاه الزوجات اللائي طلقن الطلقة الثانية.. إذ الزوجة فى تلك الحال صالحة لأن يراجعها زوجها، وأن يعيدها إليه بعقد ومهر جديدين، وقد تستجيب الزوجة لهذا وفى ظنها أن رجلها قد عاودته الرغبة فيها وفى السّكن إليها، وقد يكون الرجل على نية غير هذا، إذ يعيدها إليه للمضارّة بها، وليخضعها لضروب من الضرّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 والأذى.. وهذا مما لا يعلمه إلا الرجل وحده.. فجاء قول الله سبحانه: «وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا» خطابا موجها إلى ضمائر الرجال، وما انطوت عليه، وما بيتته من خير أو شر فى إمساك زوجاتهن، فالله سبحانه وتعالى مطلع على السرائر، لا تخفى عليه خافية، فمن بيّت الشرّ، ورمى بالضرّ والأذى، فقد ظلم نفسه، ووضعها موضع الحساب والعقاب: «وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» لأنه عبث بآيات الله، واتخذ الرخصة التي جعلها الله له فى مراجعة زوجه والتي من شأنها أن تصلح ما أفسد- اتخذها وسيلة لمزيد من الإفساد. قوله تعالى: «وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ» ونعمة الله هنا هى المرأة التي جعلها الله سكنا لزوجها، ومن تمام هذه النعمة أن أتاح الله المزوج فرصة مراجعتها وإمساكها بعد أن قطع حبل الزوجية مرة ومرة، فإذا أعادها إليه فليذكر أنها نعمة فى يده، فلا يطلقها من يده مرة أخرى!! الآية: (232) [سورة البقرة (2) : آية 232] وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232) فى الآية السابقة (230) نبه الله سبحانه وتعالى الأزواج الذين طلقوا للمرة الثانية وأرادوا مراجعة زوجاتهن- أن يكونوا جادّين فى مراجعتهنّ، يريدون منها الخير والإصلاح، وإلا فقد تعرضوا لغضب الله وباءوا بسخطه. وفى هذه الآية يحذر الله سبحانه أولياء هؤلاء المطلقات من أن يكونوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 حجر عثرة فى طريق المراجعة بين المطلقة ومطلقها، وأن يمسكوا المطلقات عن أن يعدن إلى أزواجهن مرة ثانية بعقد جديد ومهر جديد، فإن فى هذا إضرارا بالزوجة من حيث يقدّر وليّها أنه إضرار بالزوج وحده.. فإذا تراضى الزوجان وقدرا أنهما قادران على بناء الحياة الزوجية من جديد، كان على وليّها أن يستجيب لهذه الرغبة.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً» . وقوله تعالى.. «ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» تنبيه لأولياء الزوجات إلى ما قضى الله به فى هذا الموقف. وهو قوله: «وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً» وقوله: «فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ» فمن آمن بالله واليوم الآخر لم يكن له أن يعطل حكما من أحكام الله، وأن يقيم لذلك المعاذير الواهية والعلل الكاذبة. وقوله سبحانه: «ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ» إشارة إلى الوقوف عند حدود الله وأحكامه فى موقف الأولياء من المطلقات اللاتي يرغب أزواجهن فى مراجعتهن، ثم هو من جهة أخرى لفت لهؤلاء الأولياء إلى أن مراجعة الزوج لزوجه وإمساكها فى بيت الزوجية خير لها من أن تعيش من غير زوج أو أن تتزوج رجلا آخر، ففى الحالة الأولى لا تكون المرأة بمأمن من أن تزلّ وتنحرف، وفى الحالة الثانية تنكشف المرأة لرجل آخر، وهو وإن كان حلالا مباحا إلّا أن فيه شيئا ما يخدش به حياء المرأة الحرة، ويتأذى منه وليّها الرجل! وخير من هذا كلّه أن تعود المرأة إلى زوجها الذي عرفها وعرفته! «ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» أي أن الله سبحانه يعلم من عواقب الأمور ما لا تعلمون، وأن عضل المطلقة التي ترغب فى العودة إلى زوجها يخفى وراءه أضرارا ومآثم لا يعلمها إلّا علام الغيوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 الآية: (233) [سورة البقرة (2) : آية 233] وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) التفسير: بيّن الله فى الآيات السابقة أحكام الطلاق وحدوده، والأخلاقيات التي ينبغى رعايتها فيه. وفى هذه الآية يبيّن الله أحكام الرضاع، لمن كان ثمرة الحياة الزوجية من بين وبنات. والوالدة هى التي تتولى إرضاع ولدها، إذ هى أولى به، رعاية للمولود، وصيانة لحياته، إذ كان لبن الأم وحنانها ورعايتها فى تلك المرحلة من حياته مما لم يكن ممكنا أن يعوض من امرأة أخرى غيرها. وقد جاء هذا الحكم: «وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ» فى صورة الخبر ولكنه يحمل فى طياته الأمر والإلزام، فهو خبر وأمر معا، حتى لا يكون على سبيل الواجب الذي لا فكاك للمرأة عنه من جهة، وحتى لا تتحلّل منه المرأة من غير ضرورة، من جهة أخرى.. وبين هذين الموقفين يقع الحكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 ثم إنه لم يجىء الأمر على سبيل الوجوب والإلزام، لأن عاطفة الأم فى غنى عن أن يعطفها على وليدها أمر، وإنها لن تتخلّى عن هذا الواجب الطبيعي إلا إذا كانت تحت ظروف أكبر من عاطفتها، فكان من تدبير الحكيم العليم أن جعل ذلك حقّا لها فى الجانب الخبرى من الحكم، وجعله أمرا متوجها إلى الآباء فى الجانب الأمرى منه!! وقوله تعالى: «حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ» بيان للمدة اللازمة لفطام الصبىّ، وليس هذا التحديد على سبيل الوجوب، بل هو محكوم بتقدير حال الرضيع وحاجته، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ» .. وفائدة هذا التحديد ليضمن للأم حقّا فى مدة الرضاع وهى سنتان، وقد لا تكون كلها لإرضاع الوليد، ولكن لمعالجة حاله بعد فطامه، وأخذه بالحياة المناسبة له بعد الفطام، وجعلها عادة له، حتى إذا بعد عن أمّه كان من الممكن تدبير شئون حياته. قوله تعالى: «وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ» حكم على الآباء بالنفقة الواجبة للأم المرضع، فى مدة إرضاعها، وهذه النفقة هى مما يكفل للأم الحياة المناسبة من مسكن ومطعم وملبس.. على اختلاف فى النوع والقدر، حسب يسر الوالد وإعساره. وقوله تعالى: «لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها» رفع للحرج عن الآباء فى النفقة الواجبة للأم، فلا يتكلف لها الأب ما لا يطيق، ولا يحمل منها على ما يكره.. بل يطلب منه ما يقدر عليه، حسب يسره وإعساره، وفى هذا يقول الله تعالى: «لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً» (7: الطلاق) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 وقوله سبحانه: «لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ» بيان لقوله سبحانه «لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها» فكما لا يجوز أن يرهق الأب من أمره عسرا فى النفقة على المولود، كذلك لا يجار على حق الأم فى النفقة المطلوبة لها من والده.. فلا يكون الولد وهو نعمة من نعم الله على الوالدين، سببا فى شقاء أحدهما وتعاسته. وقوله تعالى: «وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ» أي وعلى وارث الأب أن يتكفّل فى مال مورّثه ما يكفى حاجة الأم من مسكن وملبس وطعام، بالقدر الذي يتحمله ما ورث المولود من والده، فإن يكن المتوفى لم يترك شيئا، أو ترك ما لا يكفل حاجة الأم، كان على وارثه القيام بهذا من مالهم، حسب درجتهم فى القرابة، وحسب يسرهم وعسرهم. وقوله تعالى: «فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما» أي إن أراد الوالدان فطام الصبىّ قبل عامين فلا جناح عليهما بعد أن يتشاورا ويتراضيا على ما فيه من مصلحة المولود. قوله تعالى: «وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ» أي وإن أردتم أن تطيلوا مدة الرضاعة بعد العامين، وذلك لما يبدو من حال الطفل ومن حاجته إلى التغذية بيد أمه، كما كان يتغذى من ثديها.. فلا حرج فى هذا. فكلمة استرضاع تشير إلى مدّ فترة الرضاع، وذلك بكثرة حروفها، وامتداد جرسها.. ثم إنها تفيد لونا آخر غير الرضاعة المعروفة، وإن كان من جنسها، وطبيعتها! وقوله تعالى: «إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ» أي لا جناح عليكم أيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 الوالدون أن تطيلوا مدة الاسترضاع إذا أديتم ما وجب عليكم من كفالة حاجة الأم، أداء لا حيف فيه، ولا مطل معه. وقوله سبحانه: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» تذكير بالله فى هذه المقامات، لرعاية أحكامه، وتوقيرها، والوفاء بها، فإن عين الله الله لا تغفل، وعلمه لا بعزب عنه شىء! الآية: (234) [سورة البقرة (2) : آية 234] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) التفسير: هذا حكم المرأة المتوفى عنها زوجها فى عدتها، فتعتد أربعة أشهر وعشر ليال.. هذا إذا لم تكن حاملا وامتد حملها إلى ما بعد هذا الأجل، فعدتها حينئذ وضع حملها. والخطاب هنا موجه للأزواج الذين يتوفون ويتركون زوجات لهم.. فكيف يخاطب الأموات؟ والسر فى هذا هو بعض إعجاز القرآن الكريم، ذلك الإعجاز الذي تحمله كل كلمة من كلماته، بل وكل حرف من حروفه. فهذه العدة التي تعتدها المتوفّى عنها زوجها إنما هى رعاية للحياة الزوجية التي انقطعت بموت الزوج، وهى توقير لقداستها وحرمتها.. ومن حق هذه الحياة أن تظل حية فى نفس الزوجة، وأن يظل الزوج المتوفى ماثلا فى خيالها، حاضرا فى خاطرها! ثم إنها- أي العدة- من جهة أخرى مجاوبة لمشاعر أهل الزوج، ومشاركة عملية فى الأسى على فراقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 من أجل هذا كان حكم العدة هنا موجها إلى المرأة فى مواجهة الزوج، وكأنه حاضر يشهد مدى رعايتها للعلاقة التي كانت بينه وبينها. ولهذا ينبغى للمرأة خلال هذه العدة ألّا تتزين زينتها للزوج، وألا يبدو منها ما ينم عن نسيانها لهذه الذكرى، فذلك أقل ما يجب أن يكون منها! وللزوجة على الزوج مثل هذا الحق، وإن لم توجبه الشريعة حكما، فقد أشارت إليه من طرف خفى، فى هذا الحكم الذي فرضته على الزوجة فى مواجهة زوجها، إذ حين يرى الزوج أن زوجه سوف تلتزم بنوع من الأسى عليه والحزن لفراقه، يجد فى نفسه مثل هذا الشعور نحوها حين تسبقه هى إلى الدار الآخرة. والأمر فى ذاته ليس فى حاجة إلى تشريع، ولكن لما كان بعض المتوفّى عنهن أزواجهن يذهب بهن النزق والطيش إلى قطع علائق الزوجية وآثارها من أول يوم يغيب فيه الزوج عن شخصها، وفى ذلك ما فيه من اعتداء على حرمة تلك الرابطة المقدسة، واستخفاف بشأنها، الأمر الذي إن ترك هكذا سرت عدواه فى المجتمع، وصار تقليدا سيئا، يدخل الضيم على العلاقات الزوجية، ويذهب بجلالها! فكان لا بد من وضع حد لهذا الاستهتار، حماية الحياة الزوجية منه، حتى بعد انقطاعها. وقوله تعالى: «فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ» بيان للجانب الآخر من جانبى المرأة وموقفها من الرجل بعد موته- فإنه كما تكون هناك بعض الزوجات غير آبهات إلى فقد الزوج، ضائقات بهذه العدّة التي فرضتها الشريعة عليهن، فإن بعضهن لأخريات قد يذهب بهن الأسى والوحشة، إلى زمن أبعد من هذا الزمن، الذي حددته العدة لهن، فتظل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 عاما أو أعواما تحيا فى ذكرى زوجها الذي ذهب، وإنه لا حرج عليها فى هذا إذا هى وقفت فى ذلك الحزن والأسى عند الحد الذي لا يخرج عن المعروف المعقول. وفى قوله تعالى: «فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ» قد يكون الخطاب للأزواج الغائبين ليذكر الزوجات اللاتي يخرجن بهن الأسى والحزن عن حد الاعتدال أنّ فى هذا أذى للزوج، تتأذى به روحه التي تدرك الزوجة أنها قريبة منها، وقد يكون خطابا لأولياء الزوجات على نحو ما هو خطاب للأزواج المتوفّين! وفى قوله تعالى «بِالْمَعْرُوفِ» ضبط لمشاعر المرأة التي قد يستبد بها الحزن على زوجها إلى حد التلف.. وهذا شعور غير محمود، بل الشعور المحمود هو القائم على حدود المعروف من الطبائع البشرية فى مثل تلك الحال! الآية: (235) [سورة البقرة (2) : آية 235] وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) التفسير: أباح الله سبحانه وتعالى للرجال الذين يرغبون فى زواج النساء اللاتي يتوفى عنهن أزواجهن وهنّ فى العدة- إن يعرّضن بخطبتهن تعريضا لا تصريحا، وهذا من الرحمة واللطف بالمرأة، فهى وإن كانت فى فترة العدة إلا أنها مطلقة إطلاقا تاما من عقدة النكاح، ليس لزوجها المتوفى عنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 متعلّق بها، إلا هذه العدة التي تعتدها رعاية للرابطة الزوجية التي بينها وبينه، واستبراء لرحمها منه.. وهذا لا يمنع من أن تكون موضع نظر من يريد الزواج منها.. فقد يكون من العزاء لها أن تجد فى فترة الحزن والوحشة أملا يجىء إليها فى صورة زوج منتظر، بعد انقضاء عدتها! وإنه لكى لا يدخل على هذه العدة ما يجرحها ويذهب بحكمتها، فقد أبيح للرجل أن يعرّض بخطبة المعتدة لوفاة ولا يصرح بهذه الخطبة، فهذا التصريح يقضى على كل أثر لهذه العدة. وإنه لخير من هذا أن يضمر الرجل فى نفسه خطبة المعتدة لوفاة.. فذلك ما لا حرج فيه، ولا إثم فيه! وقوله تعالى: «عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً» أي علم الله أنكم لا تقدرون على كتمان ما فى أنفسكم، وسيجرى ذكرهن على ألسنتكم، وقد تجاوز سبحانه وتعالى لكم عن ذلك، ولم يبح لكم لقاءهن والتحدث إليهن فى تكتم وخفاء، فذلك مما يثير الشكوك والريب، ويجعل لألسنة السوء مقالا، فإذا كان لكم معهن حديث فليكن حديثا مشهودا ممن يؤتمن عليه، فيعرف ما يقال، ولا يدع سبيلا إلى قالة سوء. وقوله تعالى: «وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ» المراد بالكتاب هنا ما كتب على المرأة من عدّة، وأجل الكتاب عمره ومدته.. والآية تنهى عن المعالنة الصريحة، واتخاذ ما يدل على القطع بالرابطة الزوجية التي ستكون بين المعتدة المتوفى عنها زوجها وبين من يرغب فى الزواج منها، فذلك من شأنه- كما أشرنا إلى ذلك من قبل- أن يفسد الحكمة من هذه العدة، ويقضى على مظهر الرعاية لحرمة المتوفّى ولمشاعر أهله! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وقوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ» رصد لما فى النفوس من وساوس وخواطر، ونيات منعقدة على الخير أو الشر، ومبيتة للإخلاص أو الخداع.. فالله سبحانه وتعالى مطلع على كل شىء، مجاز على كل شىء.. فليحذره أولئك الذين يدبرون السوء، وينوون الغدر.. وفى قوله سبحانه: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ» دعوة إلى التسامح والمغفرة فى تلك الهنات التي تبدو من الزوجة، ووصاة بحمل هذه الهنات على محمل حسن، وألا يبادر المطلعون على هذه الهنات بإصدار أحكام الاتهام.. ولينظروا إلى مغفرة الله التي وسعت ذنوبهم. وإلى حلمه الذي أمهلهم فلم يمجل بأخذهم بها! الآية: (236) [سورة البقرة (2) : آية 236] لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) التفسير: تبين الآية الكريمة هنا حكم المرأة غير المدخول بها، وغير المسمى لها مهر، إذا أريد طلاقها. وأن شأنها فى الطلاق شأن المرأة المدخول بها والمسمى لها مهرا، فللزوج أن يطلّق إذا لم يكن له بد من الطلاق! وللمرأة المطلقة هنا نصف مهر مثلها، منظورا فيه إلى يسار الرجل وإعساره، فذلك مما يخفف عن المرأة من تلك الصدمة، ويضمد جراحها. وفى قوله تعالى: «مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ» ما يشير إلى تلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 المواساة، التي ينبغى أن يسمح بها الرجل فى كرم ورضى، وأن يستدعى لها مروءته، ورجولته، ودينه، فلا يطعن المرأة هذه الطعنة، ثم لا يمد لها يد الرحمة والمواساة! إذ ليس ذلك من الإحسان فى شىء، والنبىّ الكريم يقول فى قتل الحيوان المؤذى: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة» ! فكيف بإنسان؟ الآية: (237) [سورة البقرة (2) : آية 237] وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) التفسير: إنّها المتعة المفروضة للمرأة المطلقة قبل الدّخول بها ولكن قد سمّى لها مهر! فلها نصف المهر المسمّى، للاعتبارات التي أشرنا إليها فى الآية السابقة. وقوله تعالى: «إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ» إشارة إلى أن هذا الحكم لا يمنع التراضي بين الزوجين، فإنه- مع هذا- يجوز للمرأة أن تنزل عن حقّها فى نصف المهر، فقد تكون فى سعة، ويكون الزوج فى حال يضيره فيه المهر الذي قدمه، فتعيده إليه، واضعة فى اعتبارها- إلى هذا الاعتبار- أن الزوج لم ينل شيئا منها، وأنه ربما اضطر إلى الطلاق لظروف خارجة عن إرادته.. فكان هذا الفضل منها داعية إلى الحفاظ على الروابط الإنسانية بينه وبينها، وبين أهله وأهلها، وربما كان ذلك داعيا إلى حسن الأحدوثة عنها والرغبة فيها من زوج آخر.. ولولىّ المرأة مثل هذا الحق الذي لها فى التنازل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 عن نصف المهر المسمّى. «أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ» . وقوله تعالى: «وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى» خطاب للأزواج، وتحريض لهم على التنازل عن نصف المهر من جهتهم، فتذهب المرأة بالمهر كلّه، وذلك على سبيل التسامح والتفضل. وبين التسامح من جهة الزوجة أو وليها، والتسامح من جهة الزوج، يلتقى الطرفان على طريق سواء، لا مشاحّة فيه، ولا كيد، ولا عداوة، فيفترقان من غير أن تتصدع روابط الإنسانية فى مجتمعهما الأسرىّ، الذي هو أساس البناء للمجتمع كله. وقوله تعالى: «وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ» دعوة للطرفين معا أن ييسّرا ولا يعسّرا، وأن يحسنا ولا يسيئا، فذلك هو الأقرب إلى التقوى، والأليق بالمتقين: «إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» فيجازى الفضل بالفضل والإحسان بالإحسان، أضعافا مضاعفة: «وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» . الآية: (238) [سورة البقرة (2) : آية 238] حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) التفسير: الدعوة إلى الصّلاة فى هذا المقام استحضار للدعوة الإسلامية كلها، وتذكير بالله، وبجلاله وعظمته ورحمته، وبما يبعث هذا التذكير فى نفس المؤمن من استجابة لأوامره، وامتثال لأحكامه، إذ كانت الصلاة عماد الدين، وأكثر العبادات أثرا فى تثبيت مغارس الإيمان، وفى النهى عن الفحشاء والمنكر، كما يقول سبحانه: «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» (45 العنكبوت) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 وقد اختلف فى الصلاة الوسطى على وجوه شملت الصلوات الخمس لمفروضة كلها، حيث لم تحددها الآية.. فالصلوات المفروضة خمس، وأي صلاة منها هى وسط بين اثنتين واثنتين! وقالوا فى تعليل إشاعة الصلاة الوسطى بين الصلوات الخمس: إن ذلك من جل أن يحرص المصلّى على الصلوات جميعها، وأن يؤدى كل صلاة منها على نها الصلاة الوسطى، فيحرص على أدائها جميعها فى وقتها، ويستحضر لها مشاعره كلها. وأقول- والله أعلم- إن الصلاة الوسطى هى الصلوات الخمس جميعها، وهى صلاة المسلمين، التي هى وسط بين الصلوات المفروضة على أهل الكتاب، كما أن الشريعة الاسلامية هى الشريعة الوسطى بين الشرائع السماوية، والأمة الإسلامية هى الأمة الوسط بين الأمم. والعطف على الصلوات بقوله تعالى «وَالصَّلاةِ الْوُسْطى» هو عطف بيان، والتقدير حافظوا على الصّلوات وهى الصلاة الوسطى، أي الصلاة المحمودة التي رضيها الله لكم على الوجه المفروض عليكم من عدد الركعات، والركوع والسجود. قوله تعالى: «وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ» أي استحضروا وجودكم كله عند الصلاة، وأدوها قياما فى خشوع، وخضوع، وسكون! الآية (239) [سورة البقرة (2) : آية 239] فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 التفسير: هذا بيان لصلاة الخوف، أو الصلاة فى غير حال السكن والاستقرار، كأن يصلى الإنسان فى طائرة، أو على ظهر دابة، أو فى مواجهة عدو.. والرّجال: هم المشاة، والركبان: هم الراكبون.. فليصلّ المصلّى فى مثل هذه الأحوال ماشيا أو راكبا.. وذلك حتى لا تفوته الصلاة على أي حال كان عليها! وفى هذا ما فيه من تعظيم شأن الصلاة، والحرص على أدائها فى أي ظرف، وفى أي حال.. حيث لا رخصة تدخل عليها بالإسقاط أبدا، إلا فى حال المرأة مدة الحيض. الآيات: (240- 241- 242) [سورة البقرة (2) : الآيات 240 الى 242] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) التفسير: جاء فى الآية الكريمة (234) قول الله تعالى: «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً» وقد قلنا إن توجيه الخطاب هنا للأزواج المتوفين يحمل دلالة على وثاقة الرابطة بين الزوجين، وقداستها، وأنها لا تنقطع بموت أحدهما. وفى هذه الآية (240) يجىء الخطاب أيضا إلى الأزواج المتوفّين، ليقيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 بينهم وبين زوجاتهن صلة ممتدة إلى ما بعد الموت أيضا، ولكنها فى هذه المرة محمولة على الرجال، كما حمل الحكم فى الآية السابقة (234) على النساء، وهو أن يتربصن أربعة أشهر وعشرة أيام، حدادا على أزواجهن. والحكم المحمول على الرجال هنا هو أن يكون للمرأة المقام فى بيت الزوجية مكفولة النفقة عاما كاملا بعد وفاة الزوج، لا يعرض لها أحد بإزعاج من بيت الزوجية، مادامت راغبة فى السكن إليه. وفى قوله تعالى: «وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ» إشارة إلى أن هذه الوصية مفروضة بأمر الله، سواء أوصى بها الزوج قبل وفاته أم لم يوص، وعلى هذا نصب لفظ الوصية بهذا الأمر، على تقدير: فرضنا «وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ، مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ، غَيْرَ إِخْراجٍ» «ومتاعا» بدل من «وصية» و «غير إخراج» صفة لمتاع. النفقة للمتوفّى عنها، زوجها وللمفسرين رأى فى هذه الآية، وأنها منسوخة بآية المواريث، وما فرض للزوجة فيها من فريضة الربع أو الثمن. ونقول- والله أعلم-: إنه لا نسخ فى هذه الآية الكريمة، ولا تعطيل لحكمها، وحكمتها! ونسأل: لماذا هذا النسخ وما حكمته؟ ولماذا يحمل القرآن الكريم آية كريمة، متلوة، متعبدا بها، وتحمل حكما صريحا مؤكدا موثقا. ثم تجىء آية أخرى بحكم آخر يعطل هذا الحكم، ويبقيه هكذا، يعلن فى وجه المرأة سلب حكم كان فيه خيرا لها وبرّا بها؟ أهذا مما تقتضيه حكمة الحكيم العليم، فى حال كحال تلك المرأة التي ذهب عنها زوجها، وتركها تعانى الوحدة والوحشة، وربما الفاقة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 من بعده؟ وإذا كان من تقدير الله ألا يكون للمرأة مثل هذا الحق، أفكان من التدبير الحكيم أن يلوّح لها بهذا البر وتلك المواساة فى آية كريمة، ثم تحرمه وتذاد عنه بآية أخرى من آيات الكتاب الكريم؟ وإذا أقمنا الآية الكريمة على تلك الموازين التي يزن بها علماء التفسير ضوابط الناسخ والمنسوخ، نجد أن أهمّ الاعتبارات التي جاء من أجلها النسخ عندهم هى: 1- التدرج فى الأحكام، رحمة بالناس، وتخفيفا عليهم، وذلك حين يكون الحكم متعلقا بعادة متأصله فى النفوس، ثم تقضى الشريعة بتحريمه، فإنها حينئذ لا نفجأ الناس بهذا الحكم مرة واحدة، بل تدخل عليهم به على عدة مراحل، فى رفق وأناة، وفى تدرج.. من الخفيف، إلى الثقيل، إلى ما هو أثقل منه، كما حدث ذلك فى تحريم الخمر والربا، على ما يقولون فى الآيات الناسخة والمنسوخة فيها، وهو ما لا نقول به، كما عرضنا له من قبل. 2- التخفيف على الناس، مراعاة لتغير الظروف.. كما كان الأمر فى قتال المسلم عشرة من المشركين، وذلك فى أول الإسلام، فلما كثرت أعداد المسلمين، خفف الله عنهم، هذا فكان على المسلم قتال مشركين اثنين بدلا من عشرة. 3- تغليظ الحكم لا تخفيفه، وذلك لتغير الظروف أيضا.. فلم يكن على المسلمين قتال فى أول الدعوة الإسلامية، ثم لما دخل فى الإسلام الأنصار واجتمع إليهم المهاجرون أذن الله لهم فى قتال من قاتلهم.. ثم لما قويت شوكة الإسلام ودخل الناس فى دين الله أفواجا جاء الأمر بقتال المشركين متى طالتهم يد المسلمين. تلك هى أهم الضوابط التي رآها علماء التفسير داعية إلى نسخ ما نسخ من آيات الكتاب الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 وإذا أقمنا الآية الكريمة- كما قلنا- على تلك الضوابط لم نجدها تستقيم عليها، أو تستجيب لها.. فما جاءت الشريعة السمحاء فى كتابها الكريم ولا فى السنّة المطهرة، بمباح ثم حظرته، ولا حملت إلى الناس خيرا ثم عادت فسلبته، ولا بسطت يدها الكريمة بإحسان ثم قبضتها.. بل العكس هو الصحيح، وهو الواقع.. ولا نسوق الشواهد لهذا.. فأمر الشريعة كله قائم على اليسر والخير والرحمة.. فما كان على غير هذه السبيل فهو مدخول على الشريعة، مفترى عليها. وننظر فى الآية الكريمة: «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ» فنرى المرأة الموصى لها- بأمر الله- بهذه الوصية، قد كانت فى ظل زوج كفل لها الاستقرار والسّكن، وأنها قد اطمأنت إلى تلك الحياة، وأنست بها، وقرت فيها.. ثم إذا هى تمسى أو تصبح فتجد الرجل الذي كان يظللها بجناحيه قد طواه الموت، وذهب به بعيدا عنها إلى غير رجعة!! فانظر ماذا يكون حالها وهى تستقبل هذا الوجه الجديد من الحياة؟ ثم ضع فى تقديرك أنها ربما تكون قد استهلكت شبابها، وصحتها، وقواها، فى هذا البيت الذي دخلته فتاة ملء إهابها الشباب والصحة والقوة.. ثم ضع فى تقديرك أيضا أن هذه المرأة- مع ذهاب شبابها واستهلاك صحتها- قد لا تكون أمّا لولد يؤنس وحشتها، ويحمى حماها، ويرعى شيخوختها. انظر ماذا يكون من شأن هذه المرأة وقد جاءها من ورثة زوجها، عشيّة موته أو ضحاها- جاءها من يمسك بيدها لينتزعها من عشّها الذي عاشت فيه، ويقودها إلى ما بعد الباب، ثم يقول لها: «مع السلامة» ! إن رفق وتلطف، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 أو «بلا رجعة» ! إن اشتدّ وعنف!؟ وفاعل هذه الفعلة، وقائل هذا القول لا يتأثّم أو يتحرج، لأنه يستعمل حقّا له، ولم ينتقص المرأة حقّا من حقوقها، لأنه يعلم- كما يقول المفسرون- أن الآية التي تعطى المرأة حق السكن والمتعة حولا كاملا، هى آية منسوخة، غير عاملة!!. وكلّا، فإن شريعة الإسلام أبرّ وأرحم من أن تعرّض تلك المرأة الجريحة لمثل هذه التجربة القاسية، وتلقى بها بين متلاطم أمواج الحياة قبل أن تندمل جراحها، وتجفّ دموعها، وتعتاد النظر إلى الحياة فى وضعها الجديد! ولقد كان من تدبير الشريعة الحكيم أن قدمت للمرأة فى هذا الحدث الأليم، جميل العزاء، ووضعت فى يدها حق القرار فى بيت الزوجية عاما كاملا، وكفلت لها من مال زوجها نفقة هذا العام على نحو ما كانت تعيش فيه مع زوجها، إن كان فيما ترك الزوج ما يسع تلك النفقة، فذلك هو الذي يمسك المرأة فى محنتها تلك. وذلك هو البرّ من جهة الورثة بمورثهم، إذ حفظوا أهله، وصانوا عرضه! وأكثر من هذا.. فإنه إذا لم يكن فيما ترك المتوفى ما يقوم بنفقة المرأة خلال هذا العام فإن ورثة الزوج، ورحمهم الماسّة به توجب على الموسر منهم أن يكفل للزوجة حاجتها من ماله.. فكما أنه كان سيرته إذا ترك مالا، فإن عليه أن يؤدى عنه دينا هو فى عنقه لزوجته! ذلك ما نراه أقرب إلى شرع الله، وأنسب لدينه الذي ارتضاه. ولا بد لنا من قولة فى هذا المقام. فلقد أعطى الإسلام المرأة كثيرا، وأضفى عليها حماية ورعاية، وجاءت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 آيات القرآن الكريم توصى بالنساء فى كل دور من أدوار حياتهن، وفى كل موقف من موقفهن فى الحياة: أوصت بهن متزوجات، وأمهات، ورعتهن يتيمات، ومطلقات، وأيامى. وأعطتهن من الحقوق مثل ما عليهن من الواجبات كما يقول الله تعالى: «وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ» وكانت آخر وصاة للرسول الكريم، ختم بها رسالته العظيمة الرحيمة قوله: «اتّقوا الله فى الضعيفين: المرأة والمملوك» . إن الإسلام إنما جاءت رسالته لاستنقاذ المجتمع البشرى من عوامل التصدع والهدم التي كانت عاملة فيه، وهو من أجل هذا قد نفذ إلى الصميم من كيان هذا المجتمع. وهو الفرد الذي يتكون من وحداته المجتمع كله، فأخذ الفرد بآدابه وتعاليمه وأحكامه كى ينقّى جوهره، ويصفّى عناصره من من الشوائب والأدران، حتى إذا أصبح الفرد صالحا ليكون لبنة فى بناء المجتمع، كان أول تلاحم له فى هذا المجتمع هو وصله بالمرأة، ليكونا معا حجر الزاوية فى هذا البناء، وعلى قدر التحامهما وتماسكهما تكون قدرته على الصمود والاحتمال! فكيف يعقل والأمر على ما ترى أن يقيم الإسلام بناء يقوم على دعامتين، هما: الرجل والمرأة، ثم يجعل من إحدى هاتين الدعامتين قوة تتسلط على الأخرى، وتفتّت كيانها، وتغتال وجودها، وتأتى على عناصر التفاعل والالتحام المهيأة لتوليد القوة وبعث النشاط فى المجتمع البشرى كله؟ أهذا يكون من تدبير حكيم أو من عمل عاقل؟ يريد البناء فيهدم؟ ويغزل وينسج. ثم ينقض ما غزل ونسج؟ وإذا جاز هذا على أحد المخلوقين فهل يجوز هذا على رب العالمين وأحكم الحاكمين؟ وتعالت حكمة الله عن هذا علوّا كبيرا.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 وفى القرآن الكريم، وفى السنة المطهرة- كما قلنا- منهاج متكامل حكيم لإقامة هذا البناء. وإحكام هذا النسج المتلاحم بين الرجل والمرأة، إذا استقام المجتمع الإنسانى عليه، ونسج على منواله. ولكن الذي حدث كان على غير هذا الاتجاه، إذ أنّ تفسير القرآن بدأ فى عصر كانت فيه المرأة قد أخذت وضعا جائرا فى المجتمع، لكثرة ما ازدحم فى عصور الخلفاء والأمراء والوزراء وأصحاب الجاه والثراء- من الإماء، اللائي غلبن على الحرائر، واستأثرن بالنصيب الأوفر عند الرجال، وبهذا صرن الوجه البارز للمرأة فى هذا العصر، فى حين أصبحت المرأة الحرة فى بيت الرجل شيئا كماليّا، لا يراد منه غير أن يكون للرجل امرأة، يكون له منها الولد أو الأولاد! وحين أخذ المفسرون ينظرون فى كتاب الله، وفى الآيات التي تمسّ المرأة، وتقرر الأحكام التي تربط بينها وبين الرجل، وتحدد مالها من حقوق وما عليها من واجبات- حينئذ كانت نظرة المفسرين إلى المرأة واقعة على هذه الصورة الشائهة لها، المعزولة عن الوضع الصحيح الذي أقامتها الشريعة عليه.. ومن هنا كان تأويل آيات الكتاب الكريم واقعا تحت هذا المفهوم الجديد للمرأة، متأثرا به، مقدورا بقدره! وقد جاء الفقهاء على آثار المفسّرين فنظروا من وراء نظرتهم، وبنوا أحكامهم على أساس تلك النظرة، فبخسوا المرأة حقّها وأزالوها عن تلك المنزلة التي رفعها الإسلام إليها، وأعادوها إلى أنزل من الوضع الذي كانت عليه فى الجاهلية. والشيء الذي يلفت النظر فى هذا هو أن كلمة المفسّرين الأولى فى تأويل كتاب الله كانت طريقا سلكه كل من جاءه بعدهم، فنظر بنظرهم، وأخذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 مأخذهم، إذ وجد من الحرج أن يعيد نظره فيما نظر فيه السلف، الذين كانوا أقرب إلى عصر النبوة وإلى تنسّم أنسامها الطيبة. والحقّ أن هذا الشعور قد حجز كثيرا من العقول عن أن تتصل بكتاب الله وبالسنة المطهرة اتصالا مباشرا، غير واقع تحت تأثير هؤلاء السّلف الذين اجتهدوا فأخلصوا الاجتهاد، ولكن لا عليهم أن يجتهد غيرهم، بل لم يكن فى تقديرهم أن يقولوا ثم لا يكون لغيرهم مقالا فيما قالوا! والسبب فى جمود التشريع الإسلامى، يرجع فى الواقع إلى هذا الشعور الذي دخل على العلماء والفقهاء من التزام الخطوة الأولى التي خطاها السلف فى طريق هذا التشريع، الذي كان من طبيعة الأمور ومن معطيات الأصول التشريعية له- أن تتبع هذه الخطوة بخطوات، ممتدة امتداد الزمن، متفتحة على مسالك الحياة، مسايرة لسيرها!! وأحسب أنه لو تخففنا من هذا الشعور إلى الحدّ الذي يسمح لنا بحرية الحركة، واستقلال النظرة لوحدنا بين أيدينا التشريع الإسلامى الذي يقيمنا على أوضاع سليمة مستقرة فى حياتنا المادية والروحية، وفى نظمنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولكانت صحبتنا للدين صحبة نأنس بها، ونطمئن إليها، ونثق فيها، ولذهب ما بيننا وبين الدين من جفوة، ولتحولت نظرتنا تلك الفاترة الضائعة فى اتصالنا به، إلى نظرة حيّة واثقة من أنها إنما تنظر إلى الحياة كلها، وإلى أجمل ما فى هذه الحياة، حين تنظر فى هذا الدين، وتقيم حياتها عليه! وأكثر من هذا- فإننا لو ذهبنا نأخذ شريعتنا من مصدرها الأول- الكتاب والسنة- لوجدنا أن كثيرا من القضايا الهامة فى حياتنا التي جاءت إلينا باسم الدين، وصارت وجها من وجوهه، ومادة من مواد دستوره، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 لم تكن من الدين، وإنما وقعت من تأويلات، تحكّم فيها يومئذ واقع الحياة، وتحيف فيها المتأولون! إننا لو فعلنا هذا لأخر سنا تلك الألسنة التي ترمى الإسلام بالجمود والتخلف، وتحكم عليه بأنه دين الحياة القبلية، الذي لا يصلح لحياة المجتمع المتحضر، ولا يتفق والزىّ الذي يتزيا به إنسان القرن العشرين! الطلاق مثلا هو عند من يفهمون الإسلام هذا الفهم السقيم- لا يعدو أن يكون كلمة يتلفظ بها فى جد أو هزل، وفى صحو أو سكر، فإذا هى سيف قاطع يصيب المرأة فى مقتلها، وإذا هى جثة هامدة لا حياة فيها! وليس الطلاق هكذا فى شريعة الإسلام، ولا هو على تلك الصورة الهزيلة الباردة! الطلاق قضية: ونعم قضية.. مثيرة.. خطيرة.. لها شأنها ووزنها فى حساب الحياة، وفى بناء المجتمع الإنسانى! وبهذا الاعتبار، وعلى هذا التقدير، فإن أي انحراف يقع فى النظر إليها، أو أي سوء فهم يرد على تصورها، لا يصيب المرأة وحدها، وإنما تمتد آثاره السيئة إلى المجتمع كله، ونصيب الصميم من مركز القوة والحياة فيه. بهذا التقدير الحكيم كانت نظرة الإسلام إلى الطلاق.. إنه فى نظر الإسلام قضية من أهم قضايا المجتمع البشرى، بل هى عملية جراحية خطيرة يقتطع بها الإنسان بضعة منه، على تكره واضطرار. وقد رأينا فيما نظرنا فيه من آيات الكتاب الكريم فى شأن الطلاق كيف كانت نظرة الإسلام إلى الطلاق، وكيف كان تقديره له. فى كل مرحلة، وفى كل خطوة يخطوها الرجل نحوه.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 وقد رأينا كذلك مفهوم قوله تعالى «الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» وأشرنا إلى ما تشير إليه لفظة «مرتان» من أن الطلاق ليس مجرد تلفظ بكلمة الطلاق، بل هو عمليّة قاسية، وأنه ليس عملية واحدة، بل هو عمليتان موجعتان.. قلنا هذا أو نحوه وهو شىء قليل مما يمكن أن يقال! ولكن انظر كيف وقع مفهوم هذه الآية الكريمة فى العصر الذي أشرنا إليه، عصر تدوين التفسير، والفقه، وما كان لأحداث العصر من أثر فى إعطاء الآية الكريمة هذا المفهوم! كان الخلفاء يأخذون البيعة من الناس لأولياء العهد من بعدهم، لمن يختارونه من أبنائهم، وإنهم لكى يسدّوا على المبايعين منافذ التحلل من تلك البيعة، كانوا يوثقونهم بأيمان مغلظة لا يستطيعون الفكاك منها.. ومن هذه الأيمان يمين الطلاق! فكان فيما يحلف به المبايع أنه إن تحلل من هذه البيعة التي بايعها فكل نسائه طالق ثلاثا! على اعتبار أن التلفظ بأعداد الطلاق الثلاث مرة واحدة هو الطلاق الباتّ الذي لا رجوع فيه.. وبهذا تصبح المرأة طالقا بمجرد الحنث فى هذا اليمين.. وعلى هذا أصبح الحكم الشرعىّ للطلاق عموما هو أن يحسب الطلاق بالعدد الملفوظ به، طلقة واحدة، أو اثنتين، أو ثلاثة، وبهذا يمكن أن يقع الطلاق البات، وتنفصم عرا الحياة الزوجية فى لحظة واحدة بكلمة واحدة! وأغرب ما فى هذا المفهوم الخاطئ للطلاق، أنه يحتسب «الطلاق» يمينا يحلف به، مع أنه إجراء أو عملية، يتم بها الانفصال بين الزوجين، كما تم الاتصال بينهما بعملية مماثلة فى الزواج، وإن كانت عملية الاتصال بين طرفين، وعملية الانفصال من طرف واحد.. فذلك لا يعدو أن يكون فسخا من جانب واحد لعقدتم بين طرفين. وهذا أمر جائز فى بعض العقود، كعقد الهبة، وعقد الوصية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 ولا شك أن هذا المفهوم للطلاق بعيد غاية البعد عن ملفوظ الآية ومفهومها، مضاد كل التضاد للنظرة التي نظرت بها الشريعة إليه كدواء مر، لا يتجرعه الرجل إلا عند ما تعتلّ الحياة الزوجية، ويهدد الداء حياتها، عندئذ يجاء إلى هذا الدواء المر، ولكن لا يؤخذ منه إلا جرعة واحدة، فإن ذهبت بالداء، وإلا فالثانية، فإن لم يكن ثمة أمل فالثالثة.. ولا شىء بعدها! أرأيت إذن كيف كان أثر العصر الذي دوّن فيه تفسير القرآن فى تلوين هذا التفسير بلون الحياة الغالبة على الناس يومئذ، وفى تخريجه على نحو يستجيب لمنازع هذه الحياة، ولا يتصادم مع أحداثها! ولك أن تنظر بعد هذا فيما يقال من أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه هو الذي أفتى بهذه الصورة الكريهة التي يقع بها الطلاق مرة واحدة بلفظ واحد، وأنه ألزم المتلفظ بكلمة الطلاق أن يقع طلاقه بائنا بينونة كبرى إذا حملت اللفظة معها ما يدل على عدد الثلاث، كأن يقول: هى طالق- طالق، طالق، أو هى طالق ثلاثا.. أو يقع يمينى ثلاث طلقات إذا حدث كذا أو كذا ثم لم يحدث هذا أو ذاك! لك أن تنظر فى هذا الذي يقال عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فى أمر هذا الطلاق، وما يقام له من تعليل ينسب إلى عمر أيضا، وهو أن الناس استعجلوا أمرا كان لهم فيه أناة، فكان ذلك عقابا لهم! يا سبحان الله! أهذا عمر بن الخطاب، وهذا توقيره لدين الله، وحياطته له، وحرصه عليه؟ ومعاذ الله أن يستحلّ ابن الخطاب حرمة من حرمات الله، فيحل حراما أو يحرم حلالا!! أفلأن خرج بعض الناس على منهج الدين يلقاهم ابن الخطاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 بهذا الدين وقد غير لهم وجهه، وأدار لهم ظهره؟ وماذا لو رأى ابن الخطاب أن المسلمين قد أكثروا فى عهده من التزوج بالكتابيات، ورغبوا فيهن عن المسلمات؟ أكان عليه- حسب هذا المنطق- أن يحىء إلى المسلمين بفتوى تحرم عليهم التزوج بهن؟ إن هذا من ذاك سواء بسواء! إننا نلغى عقولنا ونبيعها بأبخس ثمن إذا قبلنا مثل هذه الروايات التاريخية المتهافتة، التي تدين الإسلام، وتدين رجلا من رجالات الإسلام كعمر بن الخطاب، رضى الله عنه وأرضاه. ندع هذا، ونسير فى طريقنا مع كتاب الله، ومع آياته البينات. قوله تعالى: «فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ» . بعد أن قضى الله سبحانه وتعالى للمرأة المتوفى عنها زوجها بالمقام فى بيت الزوجية حولا كاملا، مكفولة النفقة، غير متوجه إليها بكيد يفسد عليها المقام فيه، ويحملها على الخروج منه- بعد أن بين الله سبحانه هذا، أباح للمرأة أن تخرج من هذا البيت متى شاءت خلال هذا الحول، حسب تقديرها وتدبيرها لشئوون نفسها، فهذا الحق ملك لها تستعمله أو لا تستعمله، كله، أو بعضه، ولا سبيل لأحد عليها، ولا حرج على أهل الزوج إن هى خرجت راغبة غير مكرهة، ولا ضائقة! وقوله تعالى: «وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» تذكير لأهل الزوج وورثته بعزة الله وقوته، حتى لا يعتزوا بعزتهم، أو يغترّوا بقوتهم، إزاء ضعف المرأة واستكانتها فى الحال التي هى فيها، فيجوروا على حقها، ويعتدوا على ما وضع الله فى يدها.. فما قضى الله به هو حكم الحكيم العليم، وليس لأحد أن يعترض على هذا الحكم أو يقف فى سبيل إمضائه، وإلا كان معتديا آثما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 وفى قوله تعالى: «وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ» تأكيد لهذا البرّ الإنسانى بالمرأة المتوفّى عنها زوجها، إذ جعله الله حقّا للمطلقات عموما، فالمتوفّى عنها زوجها أحق وأولى بهذا البر منهن. وإذ جعل الإسلام هذا البرّ حقا واجبا للمرأة المطلقة أو المتوفى عنها زوجها، على الزوج المطلّق، أو على ورثة المتوفى، فإنه لم يكتف بهذا الأمر الملزم، بل استدعى له إنسانية الإنسان كلها، وخاطب فيه جانب المروءة والرجولة، ليكون من ذوى الفضل والإحسان، وذلك ليشد الأمر الديني إلى ضمير الإنسان، وليوقظ له المشاعر الطيبة الرحيمة فيه، حتى يستقبل الأمر الديني، طيب النفس، منشرح الصدر، فيخف عليه أداؤه، والوفاء به على أكمل وجه وأتمه.. فسبحان الحكيم العليم المستولى بحكمته وبعلمه على ما تكن الضمائر وما تخفى الصدور! قوله تعالى: «كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» أي بمثل هذا البيان المبين، يخاطبكم الله بآياته، ويعلمكم آدابه وأحكامه، حتى تكونوا على هدى وبصيرة، لما التقى بعقولكم من هذا العلم الرّبّانى الوضيء. آية (243) [سورة البقرة (2) : آية 243] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) التفسير: من هم هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت؟ تختلف أقوال المفسرين اختلافا كبيرا فى هؤلاء القوم.. وفى الأمة التي ينتسبون إليها، وفى العصر الذي كانوا فيه، وفى الحدث الذي خرجوا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 أجله، وفى المعتقد الذي كانوا يعتقدونه.. إلى غير ذلك من وجوه الأقوال فيهم، والتي لا يجد المرء فيها- مجتمعة أو متفرقة- شيئا يستريح له، ويقف عنده! وندع هذه الأقوال جميعها، لنأخذ بما يقع فى وجداننا، ونحن نتلو الآية الكريمة، وما بعدها من آيات. فنقول- والله أعلم- إن كلمة «الذين» تجىء أكثر ما تجىء فى القرآن الكريم مرادا بها جنسا خاصا من الناس، مثل: الذين آمنوا، والذين كفروا والذين جاهدوا، والذين صبروا.. 1- فهؤلاء الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف لا بد أن يكونوا على صفة واحدة، اجتمعوا عليها، وعاشوا فيها. 2- ثم إنهم من جهة أخرى- قد شملتهم حال واحدة، أحاطت بهم وعرضتهم للموت، فخرجوا من ديارهم طلبا للنجاة من وجه هذا الخطر الجاثم عليهم: «خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ 3- ثم إنهم- من جهة ثالثة- خرجوا بتدبير من عند أنفسهم، وأنهم تركوا ديارهم خفية دون أن يشعر بهم العدو المتربّص بهم، وأنه لو كان هذا الخروج من عمل عدوهم لكان التعبير عن هذا الخروج بلفظ «أخرجوا» لا بلفظ خرجوا كما جاء به الخبر القرآنى! هذه دلالات ثلاث نجدها فى الآية الكريمة. ونتفرس فى وجوه الأحداث التي كانت تستدعيها الدعوة الإسلامية، وتقيم منها العبرة والعظة للمؤمنين، وفى الجماعة التي كانت مضرب المثل للمؤمنين- فى الخير والشر- فنجد هذه الجماعة هى جماعة بنى إسرائيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 والحدث الذي يعطى هذه الدلالات، هو خروجهم من مصر على يد نبى الله موسى عليه السلام! فالذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف إذن، على هذا التفسير- هم بنو إسرائيل. 1- فهم الذين كانوا جماعة مستقلة بذاتها، متميزة بعاداتها وأوضاعها فى المجتمع المصري. 2- وهم «الذين» أخذهم فرعون بالبأساء والضراء، وأنزلهم منازل الهون والذلة: «يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ» (4: القصص) . 3- وهم «الذين» خرجوا بليل مستخفين تحت جنح الظلام، دون أن يشعر بهم فرعون وجنوده، إلا بعد أن قطعوا معظم الطريق، جادّين فى الهرب: «فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ: (23: الدخان) . والآية القرآنية تقول: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ» .. ولا تحتاج الآية بعد هذا إلى شرح أو تأويل! وتقول الآية بعد ذلك: «فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا.. ثُمَّ أَحْياهُمْ» . والسؤال هنا: هل كتب الله سبحانه وتعالى على هؤلاء القوم، الموت، بعد أن خرجوا من ديارهم، وهم ألوف، حذر الموت؟ نعم..! فإنه بعد أن خرج بنو إسرائيل من مصر، وبعد أن رأوا من آيات الله ما رأوا عادوا فكفروا بآيات الله وعبدوا العجل، واتخذوه إلها من دون الله. فكان أن عاقبهم الله بأن كتب عليهم التيه فى الصحراء أربعين سنة، كما قال الله تعالى: «قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 (26: المائدة) .. وهذا موت أدبى ومادىّ معا.. فقد عزلهم الله بهذا التّيه عن الحياة، وعن المجتمع البشرى كله، لا يدرون أين هم فى هذا القبر الكبير الذي أطبق عليهم، وسدّ دونهم منافذ الخروج منه! ثم تقول الآية الكريمة بعد هذا: «ثم أحياهم» أي قال لهم الله موتوا، فماتوا.. ثم أحياهم أي أخرجهم من هذا التيه، وبعثهم من هذا القبر المشتمل عليهم، بعد أن قضوا الأربعين سنة المحكوم عليهم بها. وتقول الآية فى خاتمتها: «إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ» تنبيها لأولئك الغافلين عن نعم الله وأفضاله، ليقوموا بحق شكرها، بالإخبات لله والحمد له، ولكن أكثر الناس يجحدون بآيات الله ويكفرون بنعمه! وفى قوله تعالى: «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ» تشنيع على بنى إسرائيل وإدانة لهم بأنهم استقبلوا نعم الله بالجحد والكفران.. كانوا فى قبضة فرعون أمواتا أو كالأموات فأحياهم الله، إذ خلصهم من عدوهم، ولكنهم كفروا النعمة وجحدوا المنّة فأماتهم الله بالتيه فى الصحراء أربعين سنة، ثم أحياهم إذ أخرجهم من هذا التّيه، فلم يكن منهم إلا الجحود والكفران. هذا، ومورد الآية الكريمة هنا، أنها تمثل للمسلمين موقفا أشبه بالموقف الذي كانوا يقفونه يومئذ، وأنه إذا كان بنو إسرائيل قد مكروا بآيات الله وجحدوا فضله فليكن المسلمون على حذر من أن يضلوا كما ضل القوم، وأن يقعوا فيما وقعوا فيه! والآية الكريمة نزلت فى سورة البقرة التي كانت أول القرآن نزولا بعد الهجرة.. فهى تذكّر الرسول والمسلمين بأن قوما قبلهم قد خرجوا من ديارهم فرارا بأنفسهم من وجه الظلم والقهر والإذلال، كما خرج النبىّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 والمهاجرون معه من ديارهم فرارا بدينهم، وأن يفتنهم المشركون فيه «وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ» . وأن الله- سبحانه- الذي نجّى بنى إسرائيل من عدوهم سينجّى النبي وأصحابه من عدوّهم، وأنه كما أحيا هؤلاء القوم وحفظ عليهم حياتهم سيحيى المسلمين ويحفظ عليهم دينهم! ثم إنه سبحانه- وقد جحد بنو إسرائيل نعمته فرماهم فى التيه- يرصد عقابه لكل من لا يشكر له، ويستقيم على طريقه القويم. فليأخذ المسلمون العظة من هذا الحدث. وإلا صاروا إلى ما صار إليه هؤلاء القوم من فتنة وضلال! آية: (244) [سورة البقرة (2) : آية 244] وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) التفسير: لقد نجّى الله المسلمين من عدوّهم، كما نجّى بنى إسرائيل من عدوّهم، ولكن بنى إسرائيل كفروا وجحدوا، وضنّوا أن يعطوا شيئا من أنفسهم لله الذي استنقذها وخلّصها. وهذه دعوة للمسلمين الذين خلصهم الله من البلاء، وعافاهم من السوء الذي كانت ترميهم به قريش- دعوة لهم أن يقاتلوا فى سبيل الله، وأن يدفعوا يد الضلّال والمفسدين عن طريق الحق والخير والسلام، فتلك هى الزكاة التي يؤدونها عن هذه النعمة التي ألبسهم الله إياها، وبذلك تضعف قوى البطش والطغيان، فلا تتسلط على عباد الله كما كانت متسلطة عليهم هم، من قبل أن يمنّ لله عليهم، وينجّيهم مما كانوا فيه من بلاء! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 آية: (245) [سورة البقرة (2) : آية 245] مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) التفسير: إن مجال الجهاد فى سبيل الله متعدد الميادين، مختلف الوسائل. فمن جهاد بالنفس وبيع لها فى سبيل الله، إلى جهاد بالمال، وبذل له فى وجوه الخير والنفع، إلى جهاد بالكلمة الطيبة الصادقة فى دعوة الحق والخير.. كل أولئك وما شابهه جهاد مبرور فى سبيل الله. ومن لطف الله بعباده ورحمته لهم أنه يمنحهم الحياة، ويفضل عليهم بالمال، ثم يجعل ذلك ملكا خالصا لهم، ثم يعود بفضله عليهم فيشترى منهم تلك الأنفس، ويقترض منهم هذا المال، ثم يعود بفضله وكرمه فيؤدى إليهم ثمن ما اشترى، وقيمة ما اقترض أضعافا مضاعفة.. وكان له- سبحانه- أن يأخذ ما منح، ويسلب ما أعطى، بلا عوض، ودون مقابل، ولكنه ذو رحمة واسعة وفضل عميم! «إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ» آية: (246) [سورة البقرة (2) : آية 246] أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 التفسير: مثل آخر من بنى إسرائيل تعرضه الآية الكريمة لأنظار المسلمين الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلّا أن يقولوا ربنا الله.. وفى هذا المثل يرى المسلمون صورة كريهة للمهانة والذلة تركب القوم، فإذا هم جبناء أذلّاء، لا يدفعون عن حرماتهم، ولا يردّون يد العدوّ المتسلط عليهم! إن هؤلاء الملأ من بنى إسرائيل- وهم سادة القوم وأشرافهم- هم أبناء أولئك الذين أماتهم الله ثم أحياهم، بأن أدخلهم الأرض المقدسة، وجعل لهم مقاما فيها، فلما ركبهم البغي والعدوان سلط الله عليهم من بدّد شملهم، وخرب ديارهم وأزال ملكهم، ونبذهم بالعراء فى تيه أشبه بالتيه الذي عاش فيه سلفهم.. وإذ دبّ فى القوم دبيب الحياة، وتحركت فيهم أثارة من نخوة ورجولة قالوا لنبيهم: اختر لنا ملكا نجتمع إليه، ونقاتل تحت رايته، لنستعيد ملكنا، ونجتمع إلى ديارنا! ونبيهم يعلم من أمرهم ما لا يعلمون، ويرى من أنفسهم ما لا يرون.. إنهم أكثر الناس أقوالا وأقلّهم أفعالا.. يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم! «قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . فيلقاهم النبىّ بما يتوقع أن يكون منهم.. «قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا؟» . وتأخذهم الحميّة، وتغلب عليهم شهوة القول.. فيقولون: «وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا؟» .. إنهم يجدون أكثر من دافع يدفعهم إلى القتال.. لقد أخرجوا من ديارهم وأموالهم، وشرّدوا هم وأبناؤهم.. فهل يصبر على هذا الضيم أحرار الرجال؟ ولكن أين هم الرجال؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 «فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» . لقد فضحوا أنفسهم حين دخلوا فى هذه التجربة، وكانوا من قبل أن يطلبوا الدخول فيها، فى ستر من أمرهم، ولكن أبوا إلا أن يركبوا مراكب الرجال، فزلت أقدامهم، وعفرت وجوههم فى تراب الخزي والمهانة.. إلا قليلا ممن أراد الله له السلامة والأمن، فثبت قدمه، وربط على قلبه. الآية: (247) [سورة البقرة (2) : آية 247] وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247) التفسير: وتشرح هذه الآية والآيات التي بعدها ما أجملته الآية السابقة، من هذا الموقف المتخاذل الذي كان من هؤلاء القوم، الذين يمكرون بآيات الله، ويستخفّون بأوامره وأحكامه. لقد اختار لهم الله ملكا يقاتلون معه، وذلك إجابة لمقترحهم الذين اقترحوه.. فجعلوا يفتشون فى هذا الملك المختار من قبل الله، ويفندون الأسس التي قام عليها اختياره، وفى ذلك ما فيه من جرأة على الله، وعدوان على ما يقضى به ويحكم فيه.. وليتهم إذ نظروا، وقعت أنظارهم على ما فى الإنسان من فضائل نفسية وروحية، هى التي يكون بها التفاضل والتمايز بين إنسان وإنسان.. ولكنهم لم ينظروا إلا إلى ما أشربته قلوبهم من حبّ المال، الذي هو ميزان المفاضلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 والفضل عندهم.. فحين رأوا أن الملك المختار لم يكن أكثرهم مالا، وأوسعهم ثراء، أنكروا أن يكون ملكا عليهم، وقالوا: «أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ؟» . وتلقّوا الإجابة من نبيهم مسكتة مفحمة: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ» ! فهل لهم أن يحتكموا على الله؟ لقد اصطفاه الله عليهم.. «وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ» ثم إن هذا الذي اصطفاه عليهم قد زاده الله بسطة فى العلم والجسم، فإذا كان فيهم من يفضله فى المال، فهو يفضلهم فى كمال الجسم وتمام العقل، وذلك مما يكمل به الملك ويجمل به الملوك! جمال وروعة فى المظهر، وفى المخبر.. معا.. «وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» يصطفى من يشاء لما يشاء، وسع فضله كل شىء، وأحاط علمه بكل شىء، فلا معقّب لحكمه، ولا منازع له فى سلطانه. «فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً» ؟ الآية: (248) [سورة البقرة (2) : آية 248] وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) التفسير: لم يطمئن القوم إلى ما أخبرهم به نبيّهم عن طالوت، وأن الله قد اصطفاه لهذه المهمة، وأن عنده من مستلزمات الملك ما ليس لأحد منهم.. بسطة فى العلم والجسم.. ولكنهم أبوا أن يخفّوا للانضواء إليه والقتال تحت رايته.. فجاءهم نبيهم بآية محسوسة، يجدونها بين أيديهم، أمارة على اصطفاء الله له، وهو أن يعود إليهم التابوت الذي افتقدوه من زمن بعيد، وفى هذا التابوت سكينة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 واطمئنان لهم، إذ كانوا يجدون فى وجوده بينهم دلالة على رضى الله عنهم وتأييده لهم فى القتال. وفى هذا الصندوق أيضا بعض من مخلفات موسى وهرون.. وفى هذا شاهد واقعي يشهد لصدق النبىّ، ويؤيد ما بلّغ به عن ربّه فى شأن طالوت! والتابوت هو «صندوق» يقال إنه هو الذي كان قد وضع فيه موسى حين ألقته أمه فى اليمّ، ويمكن أن يكون صندوقا من صنع موسى كان يضع فيه الألواح والعصا، وغير ذلك من آثاره وآثار هارون، وكانوا يصحبون التابوت معهم فى حروبهم، تبركا به، فلما كان القوم فى بعض حروبهم مع عدوّهم، وغلبوا على أمرهم، واستبيحت ديارهم وأموالهم، حمل أعداؤهم هذا التابوت، فيما حملوا من مال ومتاع! فكانوا بعد ذلك لا يجرءون على ملاقاة عدو! وجاءهم التابوت وما كان فيه من آثار، وعندها وجدوا السكينة، والاطمئنان.. فآمنوا وصدّقوا، ورضوا بطالوت ملكا وقائدا.. وهكذا يقاد القوم قسرا، بيد الآيات المعجزة القاهرة، التي تسدّ عليهم منافذ، المعاذير والعلل، التي يقيمونها بين يدى كل أمر يدعون إليه من الله! الآية: (249) [سورة البقرة (2) : آية 249] فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 التفسير: أما والقوم قد أبوا أن يصدّقوا إلا أن يروا بأعينهم، فقد ابتلاهم الله، ووضعهم أمام تجربة حسيّة يدعوهم إليها «طالوت» الذي جاءهم بالآيات ليحملهم على التصديق به.. وليس لهم بعد ذلك أن يخرجوا عن طاعته، بعد أن استيقنوا أن الله قد اصطفاه عليهم.. وها هوذا يدعوهم إلى محنة قاسية، لم يكن لهم أن يتحللوا منها بحال أبدا.. إنها من طالوت، وإن طالوت من الله، وشاهده فى يده!! «قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ» . هذه هى التجربة، وهذا هو الابتلاء.! فالقوم عطشى والماء بين أيديهم، وكلمة الله إليهم: «ألّا يشربوا من هذا الماء وألا يرووا ظمأهم» . وفى هذا: أولا: امتحان لإيمانهم، واستجابتهم لما يدعون إليه، وهم فى وجه تجربة أقسى وأمر، هى لقاء العدوّ الذي عرفوه وعرفوا بأسه وجبروته وبطشه بهم، وبآبائهم من قبل! وثانيا: أن ذلك رياضة لهم وتدريب على احتمال مكاره الحرب وأهوالها، وربما كان الظمأ أهون شىء فيها. هذا بعض ما تنطوى عليه التجربة فى كيانها، ولكن القوم لا يرون إلا ما يطفو على ظاهرها، وأنها ليست إلا تحكما من طالوت، لا يمليه عليه إلا حبّ التسلط والاستبداد، وهذا ما يضاعف من كمدهم وحقدهم.. ليجعل الله ذلك حسرة فى قلوبهم.. إنهم يحومون حول الماء ولا يردونه، وتحترق أكبادهم ظمأ ويحرم عليهم أن يشربوا منه.. «كَذلِكَ الْعَذابُ، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ» (16: فصلت) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 وإن القوم لعلى ما هم عليه من فساد طوية واعتلال نية.. فخرجوا عن أمر نبيهم، وشربوا من النهر وعبّوا، إلا قليلا منهم ممن عافاه الله من هذه المحنة، فتجنّب النهر ولم يشرب منه! وقد اعتزل طالوت أولئك الذين شربوا، وخلص بالذين لم يشربوا أو اغترفوا غرفة بأيديهم.. وحين رأى القوم عدوّهم يقودهم قائدهم الجبار «جالوت» فزعوا واضطربوا وقالوا: «لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ» ولكن قلة قليلة منهم ممن آمن بالله، ووثق بما أعده فى الآخرة لعباده المؤمنين، فآثروا الآخرة على الدنيا، وزهدوا بما فى أيديهم طمعا بما فى يد الله- هؤلاء لم يلتفوا إلى ماوراءهم من أهل وولد ومال، ولم يخفهم الموت الراصد لهم فى يد أعدائهم، فلم يهابوا العدوّ وكثرته وقوته، وأطمعهم هذا الشعور فى عدوّهم، ورأوا أنهم فى قلتهم المؤمنة الصابرة أقوى من عدوّهم الذي لا يؤمن بالله ولا يصبر على المكروه، إلا طمعا فى مغانم الدنيا ومتاعها.. وإذ قال غيرهم: «لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ» قالوا هم: «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» . الآيتان: (250- 251) [سورة البقرة (2) : الآيات 250 الى 251] وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 التفسير: تلك عاقبة الصابرين فى مواقع الحق، المجاهدين فى سبيل الله، على بصيرة وهدى، لا يخطئهم النصر أبدا. وواضح من الآية الكريمة أن داود عليه السلام كان فى هذه الحرب جنديا من جنود طالوت، وأنه ببسالته وشجاعته قد تولى قتل قائد العدو جالوت، وبفعله هذا كان النصر والغلب.. ثم كان من فضل الله على داود بعد هذا أن أتاه الله الملك والحكمة، وعلمه مما يشاء من علمه، فألان له الحديد، وعلمه صنعة الدروع للحرب، وجعل لصوته من حسن النغم ما جعل الحياة كلها من حوله تنسجم معه، وتستجيب له، وإذا هى معه صوت واحد، يسبح بحمد الله رب العالمين!! وقوله تعالى: «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ» . يبيّن أن هذا التدافع بين الناس.. بين الخير والشر.. بين الحق والباطل.. بين الأقوياء والضعفاء.. بين الأغنياء والفقراء.. بين الأفراد والأفراد.. وبين الجماعات والجماعات.. وبين الأمم والأمم- هذا التدافع فى كل موقع من مواقع الحياة، وفى كل متجه فيها، وعلى كل مورد مواردها- هو الذي يحرك دولاب العمل على هذه الأرض، ويبعث الحياة فى كل جانب منها.. ولو كان النّاس متجها واحدا، ومذهبا واحدا، وشعورا واحدا، وتفكيرا واحدا، ومنزعا واحدا- لكانوا شيئا واحدا.. كانوا كتلة باردة متضحمة، أشبه بجبل من الجليد، لا تطلع عليه الشمس أبدا!! فسبحان من خالف بين النّاس فجعل من هذا التخالف مادة الحياة والبناء والعمران، ولولا ذلك لفسدت الأرض وضاع الناس: «وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 الآية: (252) [سورة البقرة (2) : آية 252] تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) التفسير: هذه الآيات التي يتلقّاها النبىّ الكريم- صلوات الله وسلامه عليه- إنما هى كلمات الله، يتلوها عليه رسول كريم من رسل الله، وإنها لحقّ من ربّ العالمين، تقرر الحق بأنه من المرسلين الذين أنعم الله عليهم. واصطفاهم للسفارة بينه بين خلقه، يحملون بين أيديهم وعلى ألسنتهم النور والهدى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 [الجزء الثاني] [تتمة سورة البقرة] الآية: (253) [سورة البقرة (2) : آية 253] تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253) التفسير: لله سبحانه وتعالى أن يصطفى من يشاء من عباده.. والرسل عليهم الصلاة والسلام هم ممن اصطفاهم الله، لحمل رسالته إلى عباده، فجعلهم سفراءه إلى الناس بالرحمة والهدى.. وهؤلاء الرسل- على علوّ مقامهم وشرف منزلتهم- هم درجات عند الله في الفضل.. بعضهم أفضل من بعض، فكما اصطفى سبحانه وتعالى هؤلاء الرسل من بين خلقه، اصطفى منهم صفوة جعلها في الدرجة العليا من هؤلاء المصطفين الأخيار.. والإشارة إلى الرسل بالمؤنث، إنما هى إشارة إلى جملتهم، أو جماعتهم، باعتبارهم كيانا واحدا، يحملون شعلة الهدى، ويتجهون بها إلى غاية واحدة، هى هداية الناس واستنقاذهم من الضلال. وقد نوّه سبحانه بالنبيين الكريمين: موسى، وعيسى، بهذا الفضل الذي فضل به عليهما، إذ شرّف الله موسى بأن أسمعه كلامه سبحانه، من غير واسطة، وأكرم عيسى بأن جعل على لسانه الحكمة، وفى قلبه روح القدس، حيث كان نفخة من روح الله، فكان في قلبه شعاعة من نور الحق لا تخبو أبدا، ولا يستملى لسانه منها غير الحق أبدا!. واختصاص هذين النبيّين الكريمين بهذا الذكر هنا دون سائر الأنبياء والمرسلين لا يحصر الفضل فيهما وحدهما، ولا يعطيهما المنزلة العليا فى الأنبياء جميعا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 وإنما كان ذلك الذكر لاستحضار أتباعهما من اليهود والنصارى، وتذكيرهم بما حمل إليهم موسى وعيسى من الهدى والرحمة، وما كان من أتباعهما من خلاف وشقاق، ذهب بهم فى الفرقة والعداوة كل مذهب. وهذا الخلاف بين أتباع موسى وعيسى- فيما بين كل فريق منهم، ثم فيما بين الفريقين، ثم فيما بينهم وبين المسلمين- هذا الخلاف هو مما تقتضية طبيعة الحياة، وهو بعض مما أشار إليه سبحانه وتعالى فى قوله في الآية السابقة: «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ» .. فهناك حقّ وباطل، وهناك محقّون ومبطلون، وإنه لا بد أن يصطدم هؤلاء وهؤلاء، ويقتتل هؤلاء وهؤلاء، ولولا ذلك لتسلط الشر على الخير، وغلب الباطل على الحق، وكان في ذلك فساد كل شىء، وضياع كل شىء. وفى قوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ» إشارة إلى أن هذا الخلاف الذي وقع بين أتباع الأنبياء، وأوقع القتال بينهم، إنما هو بتقدير الله وحكمته، ليكون فى ذلك ابتلاء واختبار، وليميز الله به الخبيث من الطيب.. فالضمير في «مِنْ بَعْدِهِمْ» يرجع إلى أتباع الأنبياء الذين اختلفوا بعد أنبيائهم، الذين هم جميعا على دين واحد، هو دين الله، وهو الإسلام. قوله تعالى: «وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ» أي وقع الاختلاف بين أتباع الرسل، فكان منهم المؤمنون وكان منهم الكافرون، وكان من ذلك أن اقتتل المؤمنون والكافرون.. «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا» أي ولو شاء الله ما اقتتلوا مع وجود هذا الخلاف بينهم.. «وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ» أي فوقع القتال بينهم لما أراد الله من حكمة يعلمها، ولما قضى به من خير وراء هذا الذي يحسبه الناس شرا. ولكن أكثر الناس لا يعلمون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 الآية: (254) [سورة البقرة (2) : آية 254] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) التفسير: الناس فريقان: مؤمن وكافر.. والمؤمنون هم الذين يتقبلون دعوة الحق، ويستجيبون لها.. والنداء هنا موجه للمؤمنين، إذ يحمل إليهم أمر الله بأن ينفقوا فى سبيل الله مما رزقهم الله.. فمن هذا الذي ينفقونه فى هذه الدنيا يكون رصيدهم من الخير الذي يجدونه يوم القيامة، يوم لا يلقى الإنسان شيئا إلا ما أعده من قبل لهذا اليوم.. حيث انقطع الإنسان من كل شىء، وانقطع عنه كل شىء، فلا بيع ولا شراء، ولا ربح ولا خسارة.. فقد انفضّت السوق من قبل، فربح من ربح وخسر من خسر.. وليس هناك من صديق أو معين يمد يده إلى غيره بشىء مما عنده، فلكل امرئ يومئذ شأن يغنيه، وليس لأحد شفاعة من أحد أو فى أحد، فقد صار الأمر كله إلى يد غير يد الأصدقاء والشفعاء.. إنه فى يد الله رب العالمين. وقوله تعالى: «وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ» تنديد بالكافرين، وإثارة لمشاعر الحسرة والندامة فيهم، إذ ظلموا أنفسهم، ولم يعملوا لها حسابا لهذا اليوم العظيم.. وحصر الظلم فيهم إشارة إلى أن كل ظلم هو تبع لظلمهم، وفرع من أصل. الآية: (255) [سورة البقرة (2) : آية 255] اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 تستعرض هذه الآية الكريمة أمجاد الله وعظمته وقدرته، ليكون من هذا العرض الكاشف مجلّى لأبصار المستبصرين، ونور لبصائر الراشدين، حتى يتعرفوا على الله، ويؤمنوا به، ويخبتوا له، ليرشدوا ويسعدوا. فالله هو الذي لا إله إلا هو.. وكل ما يعرف الضالون من أرباب وآلهة غيره، ضلال فى ضلال. والله- سبحانه- هو الحىّ حياة أبدية سرمدية. لم يسبقه عدم، ولا يلحقه فناء. والله- سبحانه- هو القيوم، المالك لكل شىء، والقائم على كل شىء، والمهيمن على كل شىء. والله- سبحانه- منزه عن العوارض التي تعرض للمخلوقات، فلا يعرض له تعب أو كلال، ولا يلحقه سهو أو نسيان، ولا تأخذه سنة ولا نوم.. مما يأخذ الناس من جهد العمل. والله- سبحانه- له ملك السموات والأرض وما فيهن، يدبرها بحكمته، ويسعها بعلمه. والله- سبحانه- قد بسط سلطانه على السموات والأرض، ووسع كرسيه السموات والأرض. والله- سبحانه- هو العلى العظيم، الذي لا يطاوله فى علوه أحد، ولا يشاركه فى عظمته أحد.. هكذا يتجلّى الله سبحانه فى عظمته وجلاله، وفى حكمته وعلمه، وفى قدرته وحياطته، وفى ملكه وسلطانه- هكذا يتجلّى لمن نظر فى هذا الوجود، وهكذا يتجلّى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. وفى قوله سبحانه: «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ» استحضار لنتيجة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 لازمة من هذا العرض المبسوط لسلطان الله وقدرته، يشهد منه أولئك الذين يتخذون من الله أربابا يقولون عنهم إنهم شفعاؤنا عند الله، ويقولون فيهم: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» (3: الزمر) - يشهد منه هؤلاء ألّا سلطان لأحد مع سلطان الله، ولا شفاعة لأحد فى أحد عند الله، إلا لمن يأذن له الله، ويرضى له الشفاعة، فضلا منه وكرما وإحسانا! وفى قوله تعالى: «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» إشارة إلى امتداد سلطانه، وسعته، ونفوذه إلى كل شىء فى هذا الوجود، وامتلاكه ناصية كل شىء فيه!. فالكرسى عادة يحتوى السلطان الجالس عليه، وهو فى حقيقته ليس إلّا شيئا صغيرا، لا يشغل إلا حيّزا محدودا مما يقع تحت يد السلطان من ملك. ولكن كرسىّ الله- سبحانه وتعالى- هو الوجود كلّه، بل إن الوجود كله- فى أرضه وسمائه، وما تحوى أرضه وسماؤه- هو مما يحويه هذا الكرسىّ، ويشتمل عليه.. فانظر إلى هذا الكرسي، الذي يضم فى كيانه الوجود كلّه، ثم انظر إلى عظمة الله سبحانه وتعالى، الذي لا يمثل كرسيّه إلا حيزا محدودا من سلطانه، على نحو ما يمثل كرسىّ صاحب الملك من ملكه.. ولله سبحانه وتعالى المثل الأعلى، وهو العزيز الحكيم. الآية: (256) [سورة البقرة (2) : آية 256] لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 الدين فى صميمه جذوة من الحق، تسكن ضمير المؤمن، فتكون النور الهادي له، والقوة الموجهة لأفعاله وتصرفاته. ومن هنا كان الدّين عقيدة ينعقد عليها الضمير، فلا يعرف أحد كنه ما انطوى عليه الضمير من الدين.. إنه سرّ بين الدّين وصاحبه.. لا سبيل لأحد إليه، ولا سلطان لمخلوق عليه. ومن هنا أيضا لم يكن دينا ذلك الدين- إن سمّى دينا- الذي يجىء إلى الإنسان أو يجىء إليه الإنسان قسرا من غير اقتناع أو رضى. ولهذا كانت دعوات الرسل إلى دين الله محملة بالشواهد والآيات التي تشهد بصدقها، وتحدّث بخبرها وما تحمل إلى الناس من هدى ونور.، حتى يكون الإيمان عن نظر واقتناع. وإذا كانت الرسالات السماوية التي سبقت الإسلام قد جاءت إلى الناس بالآيات القاهرة، وبالمعجزات المذهلة، التي تقهر العقل وتتعامل مع الحواس، حيث كان العقل يومئذ غير أهل لأن يفكر ويقدر- فإن رسالة الإسلام، وقد التقت بالإنسانية فى رشدها، وبالعقل فى نضجه واكتماله- قد جاءت بآياتها ومعجزاتها فى مواجهة العقل، تحاجّه بالمنطق، وتجادله بالحكمة، وتأخذه بالموعظة الحسنة، حتى إذا اطمأن الإنسان ووجد برد السكينة فى صدره آمن عن يقين، ودان لله عن رضى! وهذا هو الدين الذي يعيش مع الإنسان، ما عاش معه عقله، وسلم له تفكيره. وقوله تعالى: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» تقرير لحقيقة من أهم الحقائق العاملة فى الحياة، ومن أبرز السّمات التي قامت عليها دعوة الإسلام.. «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» .. فهو نفى مطلق لكل صور الإكراه، المادية والمعنوية، التي تختل النّاس عن الحق، وتحملهم حملا على معتقد لم يعتقدوه، ولم يجدوا من جهته مقنعا!. وليس هذا شأن الدين وحده، بل هو الشأن أو ما ينبغى أن يكون الشأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 فى حياة الإنسان كلها، لا يتلبّس بأمر إلا بعد أن ينظر فيه، ويطمئن إليه، ويرضى عنه، فيقدم أو يحجم عن هدى وبصيرة، وهذا هو ملاك النجاح فى كل أمر، ومنطلق الملكات الإنسانية كلّها فى وثاب وقوة، إلى أنيل؟؟؟ الغايات وأعظمها. إن تحرير ضمير الفرد من الضلال والعمى، وفك عقله من الضّيق والإظلام، لا يكون إلا بتحرير إرادة الإنسان وإطلاقها من كل قهر أو قسر.. وإنه لن تصحّ إنسانية الإنسان، ولن يكتمل وجوده، إلا بالضمير الحر، والعقل المتحرر.. وإنه لا فرق بين الأحرار والعبيد وبين الإنسان وغير الإنسان إلا فى تلك المشاعر التي يجدها الإنسان فى كيانه من طاقات الحرية والتحرر، فيمتلك بها أمر نفسه، ويكتب بها خطّ مسيره ومصيره، كيف شاء، وعلى أي وجه أراد.. وفى الواقع أن ركوب الخطأ عن رأى الإنسان وتقديره، غير المدخول عليه بإكراه أو خداع، أو تضليل- هو خير من الانقياد للصواب عن قهر وقسر، وعن تمويه وتلبيس.. إذ الأول يسير ومعه عقله، وتفكيره، وليس ببعيد أن يلتقى يوما بالصواب الذي ضل عنه.. أما الآخر، فإنه يسير بلا عقل ولا تفكير.. يسير بعقل غيره، وبتفكير غيره، وليس ببعيد أن يلتفت يوما فلا يجد من أعاره عقله وتفكيره، فإذا هو كتلة جامدة، أو تمثال من لحم ودم، لا حياة فيه، ولا معقول له! .. إن الأول مبصر يتخبط فى الظلام، ولكنه إذا رأى النور، أبصر، واهتدى واستقام على سواء السبيل.. أما الآخر.. فهو أعمى يقاد لكل يد تمتد إليه.. وكما انقاد ليد من ينصح له ويهديه، فإنه لن يمتنع عن الانقياد لمن يمكر به، ويضلّه.. وهل يملك الأعمى أن يأخذ طريقا غير طريق من يقوده، ويمسك بيده؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 وقوله تعالى: «قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» هو ليس قيدا واردا على إطلاق الحرية فى الدّين، وإنما هو تقرير لبيان الحال من أمر الدعوة الإسلامية، وهو أنه يجب ألا يطوف حول دعوتها طائف من القهر والقسر، إذ قد استبانت معالمها، ووضحت حدودها، وإن الذي ينظر فى مقرراتها، وفى شواهدها وآياتها ثم لا يجد الهدى، ولا يقبل عليه، فلا سبيل إلى هداه، ولا جدوى من إيمانه! إنه فى حساب الناس.. لا شىء!. قوله تعالى: «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها» . «الطاغوت» شىء مخيف، مفزع، أشبه بالشيطان.. لا تقع عليه العين، وإنما يصوره الوهم من هذا الاسم الذي يطلق عليه «الطاغوت» ، ويشكلّه من هذه الأحرف المتنافرة التي يتشكل منها اسمه:.. الطاء، والغين، والتاء، يجمعها كيان واحد. وإن الذي يحترم عقله، ويكرم إنسانيته ليأبى أن ينقاد للوهم، ويتعبّد لآلهة من مواليد الباطل والضلال، إنه يجرى وراء سراب، ويتعلق بما هو أوهى من خيوط العناكب!. والموقف الصحيح الذي ينبغى أن يأخذه الإنسان العاقل الرشيد، هو أن يعلو بعقله فوق هذه الأوهام، ويرتفع بإنسانيته عن هذا الهوان، وأن يجعل ولاءه وخضوعه لمن بيده ملكوت السموات والأرض، رب كل شىء، وخالق كل شىء.. وبهذا يمسك الإنسان بالسبب الأقوى، ويعلق بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وبهذا تكتب له النجاة والسلامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 الآية: (257) [سورة البقرة (2) : آية 257] اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257) التفسير: منذ يدخل الإنسان ساحة الإيمان ويسلم وجهه لله وحده، وهو فى ضمانة الله، يتولاه برحمته وهدايته وتوفيقه، ويخرجه من ظلمة الضلال إلى نور الحق، وإذا هو على نور من ربّه «وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» (40: النور) . أما حين يعطى المرء وجوده للطاغوت، ويسلم إليه زمامه، فهو في ضمانة هذا الطاغوت.. أعنى فى ضمانة الباطل والضلال.. فانظر إلى أين يقاد من كان قائده الباطل وحاديه الضلال؟ إنه يخرجه من النور إلى الظلمات، إذ يفسد عليه تلك الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فيطمس عليها فى كيانه، فإذا هو أعمى يتخبط فى ظلام،، ويقاد بيد الضلال إلى كل مضلّة وكل مهلكة. وانظر إلى كلمة «الطاغوت» مرة أخرى، وقد جاءت مسندة إلى الفرد في الآية السابقة: «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ» ، ثم جاءت مسندة إلى الجمع فى هذه الآية: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ» دون أن تتغير صورتها فى الحالتين، بل ظلت هكذا: «الطاغوت» .. وهذا ما يؤيد ما ذهبنا إليه من أنه لا مشخّص لهذه الكلمة، وإنما هى اسم جامع لكل باطل، وكل ضلال، وكل غواية، وهو قادر على أن يحمل فى كيانه الضخم كل هذه المخازي والضلالات.. إنه «الطاغوت» !!. بناء ضخم شامخ من الوهم والضلال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 الآية: (258) [سورة البقرة (2) : آية 258] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) التفسير: هنا نجد المثل لمن آمن بالله فكان الله وليّه، يخرجه من الظلمات إلى النور، ومن كفر فكان الطاغوت وليّه، يخرجه من النور إلى الظلمات! ومثل الأول نجده على أكمل صورة وأتمها، فى إبراهيم عليه السّلام، كما نجد مثل الثاني فى هذا الذي آتاه الله الملك، وغمره بالنعم، فاستقبلها بالجحود والكفران، والإغراق فى البهت والضلال.. ولم يذكر القرآن اسم هذا الإنسان المتمرد على الله، ولم يدل عليه، لأنه ساقط من حساب الإنسانية، إذ باع إنسانيته للشيطان، وأسلمها للطاغوت.. ثم إنه لا ضرورة لذكره، حتى لا يتعرف عليه أحد، فتصيبه عدواه ولو من بعيد، كما تصيب الرائحة الخبيثة بالأذى كلّ من يمر به حامل الجيف.. ثم لمن أراد أن يعرف وجه هذا الشر، وحامل هذا المنكر فإن التاريخ يقول إنه «النمرود» ملك كنعان.. وكم فى الناس من نمرود؟ والذي تعرضه الآية الكريمة هنا، وتحرص على كشفه وتجليته، وهو هذا الصّدام الفكرى بين منطق الحق وسفاهة الباطل، بين نور الإيمان وهداه، وظلام الشرك وضلاله! يقول الله تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ» فهذا الإنسان الذي فضل الله عليه وأوسع له فى فضله، ومكّن له فى الأرض، قد غرّه ما بيده من سلطان، فكفر بأنعم الله، ثم لجّ به الكفر فحادّ الله ورسوله، وادعى لنفسه الألوهية، وقال قولة فرعون: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» ! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 فلما جاءه نبىّ الله، إبراهيم، يدعوه إلى الله، أنكر هذه الدعوة، وجحد أن يكون فى الأرض إله معه، وجعل يلقى إلى إبراهيم بالحجج الدالة على ألوهيته، وأهليته لتلك الألوهية، بما فى يده من سلطان بتصرف به كيف يشاء.. وكثرت بينه وبين إبراهيم المحاجّة والمناظرة.. وتخير القرآن الكريم من هذه المواقف مشهدين، يلخصان القضية كلها، ويضبطان محتواها ومضمونها. «قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ» ! هذا هو ربّ إبراهيم، الذي يدين له، ويدعو إليه.. هو الذي بيده الحياة والموت، وهو الّذى أمات وأحيا.. فذلك أمر لا يشاركه فيه أحد، ولا يدّعيه لنفسه مخلوق، إلا أن يركب الحماقة والسّفه. وقد ركب هذا الجهول الحماقة والسفه وانطلق بلا عنان.. «قالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ!!» هكذا يقولها بملء فيه! ولم يذكر من أين هو جاء، ولا إلى أين هو يصير؟ «أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً» ؟ (67: مريم) . ولم ير إبراهيم- إزاء هذا السّفه الوقاح- أن يقف عند هذا الجواب، وأن يكشف باطل هذا الأحمق الجهول.. فقد يذهب بالرجل الحمق والجهل فيقول لإبراهيم: ألا تصدق ما أقول؟ أتريد شاهدا؟ أنت نفسك أنا الذي أحييه، لأنى لا أريد قتلك! وأنا أميتك لو أردت! فهل تريد مصداق ذلك؟ وقد يفعلها الرجل ولا معقّب عليه!! وتحاشى إبراهيم أن يدخل مع النمرود فى هذا الجدل، وأن يمد له فى حبال السفسطة، بل جاء إليه إبراهيم بما يخرسه ويفحمه! «قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 فهذا النظام الذي ينتظم حركة الشمس قبل أن يولد هذا الإنسان المغرور بآلاف السنين وملايينها، ليس من صنع إنسان من الناس، إنه من عمل قدرة غير قدرة الناس.. فإذا كان النمرود إلها يناظر إله إبراهيم، فليجب على هذا التحدّى، ولينقض على إله إبراهيم عملا من عمله، وتدبيرا من تدبيره! «فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ!!» . وأسقط فى يد الرجل، وخرس لسانه وشلّ تفكيره، وسقط من عليائه مبللا فى ثيابه، بعرق الخزي والخذلان! «فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» . وهكذا يصاب الرجل فى مقاتله، بطعنة نافذة من يد الحق: «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» . الآية: (259) [سورة البقرة (2) : آية 259] أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) التفسير: لمّا ذكر الله فى الآية (257) أنه ولىّ الذين آمنوا، وأنه بهذه الولاية لهم يخرجهم من الظلمات إلى النور، وأن الذين كفروا أولياؤهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 الطاغوت، وأنهم بهذه الولاية للطواغيت يخرجونهم من النور إلى الظلمات- لما ذكر الله هذا الحكم، لفت النبىّ الكريم إليه سبحانه، ليريه له الأمثال والشواهد فى الناس، ثم قدم له سبحانه شاهدين من التاريخ، ليسكونا مثلين للمؤمنين والكافرين.. أولياء، الله وأولياء الطاغوت.. والمثل البارز لأولياء الطاغوت هو ذلك الذي حاج إبراهيم فى ربه، أما المثل الآخر لأولياء الله فهو ذلك الذي مرّ على قرية وهى خاوية على عروشها. فهذا العطف فى قوله تعالى: «أَوْ كَالَّذِي» هو عطف لهذا المثل على المثل السابق.. والتقدير: أتريد يا محمد شاهدا لهذا الحكم الذي حكمت به، وهو أنى ولىّ الذين آمنوا أخرجهم من الظلمات إلى النور، وأن الذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات؟ أتريد لهذا شاهدا؟ إليك شاهدين أو مثلين.. أما المثل الأول فتجده فى هذا الذي حاجّ إبراهيم فى ربه، وقد كان وليّا للطاغوت، فأخرجه من النور إلى الظلمات. وأما المثل الثاني فتجده فى ذلك الذي مرّ على قرية وهى خاوية على عروشها.. فهو رجل مؤمن بالله، وهو يريد أن يستوثق لإيمانه، ويطلب له المزيد من الأدلة والشواهد، وليس هذا بالذي يضير المؤمن أو يجور على إيمانه، مادام حريصا على طلب الحق، مجتهدا فى السعى إليه، والبحث عنه، فإنه بهذه النية المخلصة سيجد العون والتوفيق من الله: «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» . وفى قوله تعالى: «أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها؟» ما يكشف عن مشاعر هذا المؤمن بالله، حين مرّ بقرية قد اندثرت معالمها، وخمدت الحياة فيها، فتمثل له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 منها ما كانت عليه فى سالف الزمن، وما كانت تزخر به من عمران، وما كان يموج فيه أهلها من ألوان الحياة، ومذاهب العمل.. لقد صار كل ذلك ترابا فى تراب! واهتاجت مشاعر الرجل، وتمثل له من هذا الهمود الموحش صور من الماضي البعيد، وإذا القرية وأهلها حاضرة فى خياله، تنبض بالحياة، وتفور بالنشاط، كإحدى القرى الحية الماثلة لعينيه هنا أو هناك.. وفتح الرجل عينيه فطار حلم اليقظة الذي ارتسم فى خياله.. وتساءل: أهذا الحلم يمكن أن يصبح حقيقة؟ وهل تعود هذه الأجساد التي بلاها البلى وأكلها التراب؟ هل تعود مرة أخرى إلى الحياة؟ أذلك ممكن؟ ويهتف به هاتف الإيمان: أهذا امتحان لقدرة الله؟ أأنت فى شك من تلك القدرة القادرة على كل شىء؟ ويجيب على نفسه: معاذ الله أن أمتحن أو أشك.. ولكن!! وتموت الكلمات بعد ذلك فى صدره، ويمضى فى طريقه في صمت ووجوم!! وهنا تجىء نجدة السماء فى أطواء قوله تعالى: «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» .. وكانت تجربة حية وجدها الرجل فى نفسه، وفى الأشياء التي بين يديه.. الرجل، وحماره، وطعامه، وشرابه.. وذلك يمثل الإنسان، والحيوان، والطعام، والماء.. إنها صورة مصغرة للقرية بكل مشخصاتها، مما يدخل عليه الفساد والانحلال مع الزمن.. الرجل وأشياؤه التي يضمها إليه.. فى رحلة إلى غاية يقصدها، ومنزلة يحط عندها رحاله.. والقرية وأشياؤها التي تضمها إليها.. في رحلة إلى غاية هى سائرة إليها، ومنزلة هى منتهية عندها.. يوم يقوم الناس لربّ العالمين! وما يكاد الرجل يعطى القرية ظهره، حتى تتردد فى أذنيه من جنباتها أصداء تلك الكلمات التي همس بها إلى نفسه: «أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها» ؟ فلا يلبث أن يخرّ صعقا! .. «فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 إنها رحلة طويلة فى عالم ما بعد الحياة، استغرقت مئة عام قطعها الرجل وأشياؤه مع القرية فى مسيرتها.. وصحا الرجل بعدها، فوجد من يسأله من قبل الله، على لسان هاتف يهتف به: «كم لبثت» فى نومتك تلك؟ وما حسب أنه طوى هذا الزمن الطويل فى هذا النوم الثقيل، فقال: «لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ!» ذلك ما وقع فى تقديره، قبل أن يفتح عينيه على الحياة من حوله، ويرى سير الزمن بها، وأثره فيها.. فلما قيل له: «بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ» فزع، وكرب، وجهد أن يستحضر وجوده كله، ويقظته كلها، ليعلم أهو فى يقظة أم منام.. وصحا الرجل صحوة مشرقة، فرأى الأمر على ما أخبر به.. لقد تغيرت وجوه الأرض من حوله، فأنكرها وأنكرته، بل لقد أنكر نفسه بما طرأ عليه خلال نومه الطويل، من تغيّر فى هيئته.. ووقع فى يقينه أنه نام نومة استغرقت مئة عام، وهتف به هاتف الحق: أن انظر إلى طعامك وشرابك.. إنه على ما هو عليه لم يدخل عليه فساد، بل ما زال طيبا هنيئا «لم يتسنّه» أي لم تغيّره السنون- وأصله لم يتسنّ، والهاء للسكت!! «وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ» إنه ما زال قائما إلى جوارك على عهدك به!! ففيك وفى أشيائك التي بين يديك آية لك وللناس، يرون فيها قدرة الله التي لا يعجزها شىء، ويستيقنون منها إمكانية البعث الذي يرتاب فيه المرتابون. وحين استبان للرجل كل شىء حوله، وأشرق قلبه بنور الحق، واستنارت بصيرته بهدى الله، دعى إلى أن ينظر نظرا أعمق وأشمل، إذ قيل له: «وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً» ونشز العظام هو بروزها من بين أخلاط الجنين.. وفى النظر تتكشف عملية الخلق، وبعث الإنسان من عدم، كما يقول الله تعالى: «أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً» (67: مريم) . فالذى أوجد الحياة من موات، قادر على أن يرد هذه الحياة إلى موات، كما أنه قادر على أن يعيد الحياة إلى هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 الموات.. «كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ» (104: الأنبياء) . وتنجلى هذه التجربة المثيرة عن إيمان عميق بقدرة الله، يملأ كيان الرجل كله، وتندفع به غيوم الشك من صدره، ويزول دخان الريب من قلبه. «فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» فهذا تصديق لما كان يعلمه من قبل، وليس إنشاء لعلم جديد. ولكن شتان بين علم وعلم، وإيمان وإيمان.. «وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً» (76: مريم) . وهنا أسئلة: فأولا: هل هذه حادثة وقعت، أم هى مثل مضروب للعبرة والعظمة؟. والذي نقول به هو أن كل قصص القرآن وأمثاله، وما ورد فى هذا القصص والأمثال من أشخاص وأحداث، هو من الواقع الذي لا شك فيه، وإذا كان لنا نحن البشر أن نلجأ إلى الخيال والوهم لننسج منهما قصصا، وذلك حين يعجز الواقع عن أن يسعفنا بما نتصوره ونتمناه، فإن قدرة الخالق جلّ وعلا لا يعجزها شىء.. تريد فيقع ما تريد، كما أرادته، دون قصور أو مهل، إنها إرادة لا يخالطها وهم، ولا يطوف بها خيال، ولا تعللها الأمانىّ.. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. فالذين يرون أن من قصص القرآن ومن أمثاله ما لا يقع، إنما يتهمون قدرة الله، وينسبون إليه ما ينسبون إلى البشر من عجز وقصور. وثانيا: هل كان الذي حدث للرجل موتا حقيقيا، أم كان سباتا ونوما طويلا، كما حدث لأصحاب الكهف؟. وكلا الأمرين يمكن أن يكون، مادام ذلك متعلقا بقدرة الله.. وكذلك الشأن فى حماره الذي كان معه!. على أننا- مع هذا- نميل إلى القول بأن ما حدث للرجل كان نوما ثقيلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 عميقا، فى مكان منعزل عن الناس والحياة، وليكن كهفا، وذلك على نحو ما حدث لأصحاب الكهف، ولكلبهم، الذي صحبهم فى نومهم الطويل. وفى قوله تعالى: «فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ» مشابه كثيرة من قوله سبحانه فى أصحاب الكهف: «فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً» (11: 12 الكهف) وثالثا: ماذا أفادت هذه التجربة فى واقع الحياة؟ ولم كانت مئة عام ولم تكن عاما، أو بعض عام.. فإن امتداد الزمن وقصره سواء، بعد أن يجاوز المدى الذي يمكن أن يحتمله الإنسان فى الحياة بلا طعام أو شراب؟. والجواب عن الشق الأول من السؤال، هو أن التجربة قد رفعت عن هذا الرجل المؤمن بالله غشاوة كانت تظلل إيمانه، وتزعج طمأنينة قلبه، وفى هذا رحمة من رحمة الله بعبد من عباده، إذ استنقذه من الضلال، وأدخله فى عباده الصالحين.. وليس هذا بالشيء القليل من معطيات هذه التجربة، كما أن هذه التجربة ليست بالشيء الكثير على قدرة الله- إنها لا تعدو أن تكون استيلادا لمولود جديد من مواليد الحياة! فإذا نظرنا إليها من هذه الزاوية هانت وصغرت بالنسبة لبابها الذي جاءت منه، وإذا نظرنا إليها من جهة دلالتها كانت شيئا رائعا عظيما مثيرا، للدلالة على قدرة الله وحكمته، وسعة رحمته! والجواب عن الشق الآخر من السؤال هو أن امتداد رحلة النوم أو الموت إلى مئة عام، إنما هو إخبار عن الحدث الذي وقع، ولو كانت هذه الرحلة عاما أو بعض عام أو عشرة أعوام أو ألف عام، لكان هذا السؤال واردا على أي زمن منها! وإذن فلا محلّ لهذا السؤال عن المائة عام! ولنؤمن بما أخبر الله به عنها، وأنها مئة عام.. ولنترك حكمة هذا الزمن الطويل لله وحده.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 على أنه- مع هذا- يمكن أن يقال إن المائة عام هى الزمن المناسب لتلك التجربة، إذ أن هذه المدة كافية لتغير وجه الحياة تغيرا واضحا، وخاصة فى الوجه البشرى منها، فمئة عام يمكن أن تأتى فى نهايتها على كل من كان حيّا من الناس فى أولها.. وبهذا يكون هذا الرجل الواقع تحت التجربة فى الأموات حكما، بعد أن كان فيهم فعلا وقد أماته الله.. وبهذا أيضا يكون كل من كان على ظهر الأرض من الناس حين قال الرجل قولته: «أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها» قد مات فى نهاية المائة عام، فلما بعثه الله من بينهم وحده، كان بعثه شاهدا على إمكان بعثهم جميعا، وشاهدا على إمكان بعث من سبقهم، ومن سيلحق بهم.. ال آية: (260) [سورة البقرة (2) : آية 260] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) التفسير: في هذه الآية صورة أخرى، تمثل المؤمن الذي يطلب المزيد من الإيمان، ليقتل فى نفسه كل وسواس، وليخمد فى صدره كل همسة من همسات الشيطان! .. ثم هى مثل آخر لمن كان وليّا لله.: يخرجه من الظلمات إلى النور. وهذا الموقف- كما قلنا- لا ينتقص من إيمان المؤمن، إذ كانت غايته طلب المزيد من النور، والجديد من العلم. فذلك طريق لا نهاية له، ولا ضلالة فيه! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 وقضية الموت والبعث هى القضية الأولى فى باب الإيمان، وهى الثغرة التي تنفذ منها رميات الشيطان إلى قلوب المؤمنين! وإبراهيم- عليه السّلام- فى وثاقة إيمانه، وقوة يقينه- لا عليه إذا هو وجد طريقا إلى مزيد من الإيمان، حتى يمتلىء به قلبه، فلا يبقى فيه مكان لم يغمره نور اليقين، ولم تعمره الطمأنينة- لا عليه أن يطلب المزيد حتى يرتوى ريّا لا ظمأ بعده! وقد وجد أن ألطاف الله تحف به، ونفحاته ورحماته لا تنقطع عنه، فهفت نفسه إلى أن يسأل الله هذا السؤال الذي يشهد به جلال الله وعظمته من قريب: «رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى؟» وقد سأل موسى عليه السّلام سؤالا أعظم من هذا، فقال: «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» (143 الأعراف) . والسؤال «بكيف» لا يكون جوابه إلا بأن يشهد إبراهيم عملية الإحياء وكيف تتم هذه العملية، والعناصر التي تعمل فيها.. وأمر كهذا هو فوق مستوى الإدراك البشرى، إنه سرّ من أسرار الألوهية، لا يستطيع أحد أن يحتمله، أو يعرف السبيل إليه. ومن أجل هذا كان الجواب آخذا اتجاها آخر غير متجه السؤال.. فيه عرض لقدرة الله، دون كشف عن سرّ هذه القدرة.. وذلك بما رأى إبراهيم بين يديه من تجليات هذه القدرة وآثارها. وفى قوله تعالى لإبراهيم: «أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟» إثارة لمشاعر إبراهيم، واستحضار للإيمان الذي يعقد عليه قلبه.. ولهذا كان جواب إبراهيم: «بلى» أي أنا مؤمن كل الإيمان «وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» وتلك درجة فوق درجة الإيمان.. إذ لا سلطان للإنسان على قلبه، وليس من شأن القلب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 أن يستقر على حال واحدة فى جميع الأحوال، لما يموج فيه من شتى المشاعر، ومختلف العواطف والنزعات.. واطمئنان القلب اطمئنانا مطلقا أمر يكاد يكون مستحيلا، لا يبلغه إلّا المصطفين من عباد الله!، بعد إبتلاء ومجاهد.. وقوله تعالى: «قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً» . هو كشف عن تجربة يجريها إبراهيم بنفسه، ويصنعها بيده، ويشهد آثارها بعينه. وتمر التجربة فى مراحل: 1- أن يأخذ إبراهيم أربعة من الطير. 2- أن يضمها إليه، ويتعرّف عليها، ويجعل لكل منها سمة خاصة يدعوها بها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ» أي تألفهن إليك. 3- أن يقطعهنّ قطعا، ويمزقهنّ أشلاء. 4- أن يوزع أشلاءها على رءوس الجبال. 5- ثم يدعوها إليه بأسمائها، كما يدعو أهله ومعارفه بأسمائهم!. وبهذا تتم التجربة، وتجىء الطيور الأربعة مسرعة!. وقد كان.. فتمت التجربة على هذا التدبير والتقدير!. هذا، وفى الحديث عن الطير بنون النسوة ومعاملتها معاملة المؤنث العاقل، ما يدل على أنها كانت فى خضوعها لإبراهيم، واستجابتها لندائه، تفعل فعل العقلاء، وتتصرف تصرف من يعى ويعقل! وهذا يعنى أنها عند ما دعيت استجابت للدعوة فى غير توقف أو تردد! لأنها تعرف وجه الذي دعاها، وتفهم مدلول كلماته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 آية: (261) [سورة البقرة (2) : آية 261] مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) التفسير: المشاهد التي عرضتها الآيات السابقة، لقدرة الله وحكمته، من شأنها أن تذكى وقدة الإيمان فى النفوس، وتفتح القلوب إلى الخير، وتهيئها لاستقبال دعوات الحق وتقبلها.. وإن النصح فى تلك الحال لأشبه بالضرب على الحديد وهو ساخن! وهذا ما نجده فى تلك الآية الكريمة من الدعوة إلى البر والإحسان، بعد تلك الآيات الكريمة، التي كانت معرضا مثيرا لجلال الله وقدرته وحكمته، حيث تهتاج لها المشاعر، وتخفق القلوب!. وهنا يقول الله تعالى: «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ» . فهذا مثل للخير يربو وينمو فى مغارس الحق والخير، كما يربو العمل وينمو فى مناهج الحق والخير، وكما يربو الإيمان وينمو فى طريق الهداية والعلم! فالذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله، أي فى كل وجه من وجوه الخير والحق، إذ سبيل الله كلها حق، وكلها خير- هؤلاء إنما يجنون ثمرة هذا الغرس الذي غرسوه فى سبيل الله.. أضعافا مضاعفة، كما يزرع الزارع حبة فى أرض طيبة فتنبت سبع سنابل، تحمل كل سنبلة مئة حبة! هكذا الحبة تعطى سبع مئة حبة، والحسنة تجازى بسبع مئة حسنة «وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 يَشاءُ» أي يضاعف هذه الحسنات، فلا تكون الحسنة بسبع مئة حسنة، بل بأضعاف هذه السّبع مئة «وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» لا حدّ لفضله، ولا نفاد لرزقه، يضع ذلك حيث شاء علمه، الذي يحيط بكل شىء ويعلم كل شىء!. ولعلّ سائلا يسأل: أهذا تمثيل وتخييل، أم أنه حقيقة واقعة؟ وهل هناك حبة تنبت سبع سنابل؟ وإذا صح هذا، فهل هناك سنبلة تحمل سبع مئة حبة؟. وقد قلنا من قبل إن أمثال القرآن الكريم، وأحداث قصصه، كلها من واقع الحياة، ليس فيها شىء على سبيل الفرض المستحيل أو للممكن، بل هى الواقع المخبر عنه بالحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. إن الذي يلجأ إلى الفرض هو العاجز الذي لا يقدر على تحقيق ما افترضه، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وفى هذا المثل.. ليس ببعيد أن تكون هناك الحبة التي تنبت سبع سنابل، وأن تحمل كل سنبلة منها مئة حبة، فما أكثر غرائب الطبيعة وعجائبها، وكم من امرأة ولدت ثلاثة توائم أو أربعة أو خمسة أو ستّة؟ كذلك الله يخلق ما يشاء! .. ولقد اهتدى العلم الحديث إلى معجزات فى عالم النبات بحيث تلد الحبة أكثر من سبع مئة حبة. الآية: (262) [سورة البقرة (2) : آية 262] الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) التفسير: الإنفاق فى سبيل، الله لا يكون إنفاقا فى سبيل الله حقّا، حتى يكون خالصا لله، صافيا من كلّ كدر، ليصل إلى جهته طيبا، نافعا، لا يصيبها منه ضر أو أذى.. فإن الخير إذا شيب بالمكروه، واتصل بالضرّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 شاه وجهه، وفسدت طبيعته، ولم يكن إحسانا بقدر ما هو إساءة.. وبهذا تضيع الحكمة منه، ويذهب الأثر المعلق عليه. فالذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله، طيبة بها نفوسهم، سخية بها أيديهم، محسنة بها ألسنتهم، يتقبّل الله سبحانه منهم عملهم، ويجزيهم به الجزاء الحسن الذي وعدهم: «لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» إذا خاف الناس يوم القيامة، لما بين أيديهم من هول، وإذا حزن الناس يوم القيامة لما فاتهم من عمل صالح يقدمونه لهذا اليوم.. فهؤلاء قد آمنهم الله من الخوف لما يرون من بشريات الجزاء الحسن لأعمالهم الصالحة، وقد أخلى قلوبهم من الحزن على أن لم يكونوا قدموا لهذا اليوم العظيم. الآية: (263) [سورة البقرة (2) : آية 263] قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) التفسير: الكلمة الطيبة صدقة.. والصدقة التي تحمل وراءها الأذى، فى كلمة جارحة للمتصدّق عليه، تخدش حياءه، أو تمس إنسانيته وكرامته- هذه الصدقة منعها خير من إعطائها.. فإن كرامة الإنسان فوق شبع البطن أو كسوة الجسد! بهذا الأدب الربانىّ يؤدب الله عباده، ويحفظ عليهم إنسانيتهم، ويصون كرامتهم، ويعليهم فوق حاجة الجسد ومطالبه.. فليستعفف الإنسان عن أن يمدّ يده ما استطاع، ثم ليتأدب المحسن، وليقدم إحسانه فى لطف ويسر وستر، حتى يتقبّل الله منه إحسانه، وحتى يكون محسنا حقّا!، وليمسك المحتاج، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 وليتجمل بالصبر، حتى لا يكون بالمكان الذي قد يتعرض فيه لكلمة جارحة من أحمق أو سفيه، يمدّ إليه يده بشىء من الإحسان، محمّلا بالمن والأذى! قوله تعالى: «وَمَغْفِرَةٌ» هى مغفرة مطلوبة من المتصدّق، فهو الجانب القوى الذي يملك العفو والمغفرة، وذلك كأن يساء إليه ممن أحسن هو إليه، فلا يلقى هذه الإساءة بالمنّ عليه وفضحه بين الناس، حين يمنّ عليه بما كان من سابق إحسانه إليه.. وليذكر أنه إنما وضع إحسانه فى سبيل الله، وقدمه خالصا لوجه الله.. وقوله تعالى: «وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ» تذكير للمحسنين بأنهم إنما يحسنون بما أحسن الله به إليهم، وأن غناهم مستمد من غنى الله، والله الذي أعطاهم هذا العطاء يغفر لهم الكثير، ويتجاوز لهم عن الكثير، حلما منه وفضلا وكرما، فليغفروا هم لمن أحسنوا إليهم، ثم قابلوا الإحسان بالإساءة.. الآية: (264) [سورة البقرة (2) : آية 264] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264) قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى» تنبيه للمؤمنين الذين يغرسون فى مغارس الخير، من أن تسطو على هذا الغرس آفة فتذهب به، ويضيع أجرهم الذي كانوا يرجونه عند الله. والمنّ.. هو إزعاج المحسن إليه من المحسن بما يذكر- بمناسبة أو بغير مناسبة- من إحسانه إليه وفضله عليه، يريد بذلك استصغاره وامتهانه، على حين ينبغى لنفسه تفاخرا وتعاليا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 فالمنّ أذّى جارح قد يصيب الإنسان فى مقاتله.. ولهذا كان هو الآفة التي تأكل الصدقة كما تأكل النار الحطب، إذ قد استوفى بها صاحبها حقّه من المتصدق عليه، حين أحسن أولا، ثم أساء ثانيا.. فذهبت إساءته بإحسانه. وقوله تعالى: «كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» هو مثل رفعه الله لأعين المؤمنين الذين يتصدقون، فيذهب بصدقتهم ما سلطوه عليها من منّ وأذى، وفى هذا المثل يرون صورة واضحة ناطقة، للإحسان الذي يذهب هباء ويضيع هدرا. فالكافر الذي يؤمن بالله واليوم الآخر، لا يتقبل الله منه صالحا أبدا، لأنه أبطل كل صالح بهذا الكفر الذي انعقد عليه قلبه، وفسد به كيانه كلّه. وقد يتصدق هذا الكافر لا لوجه الله، ولا فى سبيل الله، ولكن ليرى الناس إحسانه، أو ليملك وجودهم بإحسانه إليهم، أو ليحتل منزلة فى قلوبهم.. فهذه الصدقة وغيرها مما يحسب فى وجوه البر والإحسان مما تجود به يد الكافر، لا يتقبلها الله، ولا يجزى الجزاء الحسن عليها، والله سبحانه وتعالى يقول: «مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ» (18: إبراهيم) . وإنها لصورة كريهة مفزعة للمؤمن الذي يتصدق فيبطل صدقته بيده كما يبطل الكافر إحسانه بكفره! وهنا يتمثل المنّ والأذى كأنه الكفر.. وإذ تجنب المؤمن الكفر حتى حسب فى المؤمنين، فليتجنب المنّ والأذى حتى يكون فى المحسنين، وإلا فهو والكافر فى هذا الموقف سواء بسواء.. لا يقبل الله من أىّ منهما عمله الذي عمل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 ثم ضرب الله سبحانه مثلا للكافر ولأعماله التي تدخل فى باب الإحسان، وما لهذه الأعمال من وزن عند الله!. فالكافر فى ذاته حجر صلد، أصمّ، لا يمسك خيرا، ولا يجود بخير!. وأما ما يكون منه من أعمال حسنة فى ظاهرها، فهى أشبه بما يعلو هذا الحجر الصلد الأصم من تراب.. والتراب من شأنها أن تنبت الزرع، وتخرج الثمر، إذا رواها الماء واختلط بها. والصورة تبدو هكذا: الكافر وأعماله التي يرجى خيرها، والحجر الصلد وما عليه من تراب، يرجى منه أن يكون يوما أرضا معشبة، أو حبة مثمرة! وينجلى الأمر عن هذا الموقف هكذا: الكافر يوم القيامة، وقد جاء عريانا مجردا من كل عمل ينفعه فى هذا اليوم.. والحجر الصلد وقد أصابه الغيث فجرف بتياره العنيف كل ما عليه من تراب، فانكشف وتعرّى، وأصبح ولا موضع فيه لنبت يطلع منه! وفى هذا يقول الله تعالى: «فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» والصفوان: الحجر الأصم. والوابل: المطر الغزير، والصلد: الأصم الأملس. وقوله تعالى: «لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا» استحضار للكافرين جميعا ليشهدوا هذا الموقف الذي يتعرّى فيه الكافر من كل شىء، كما أنه استحضار للمحسنين الذين أبطلوا إحسانهم بالمن والأذى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 الآية: (265) [سورة البقرة (2) : آية 265] وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) التفسير: بعد أن ضرب الله سبحانه وتعالى مثلا للذين ينفقون ولا يتقبل الله ما ينفقون، لأنهم إما كانوا كافرين بالله، وإما كانوا مؤمنين ولكن يتبعون ما أنفقوا المنّ والأذى- بعد أن ضرب الله مثلا لهؤلاء وأولئك، ضرب- سبحانه- مثلا للمؤمنين الذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله، ابتغاء مرضاته. فمثل ما ينفق هؤلاء المؤمنون كمثل من غرس جنة بربوة عالية، وهى المكان المرتفع، تستقبل أشعة الشمس صافية مطلقة، وتتنفس أرواح النسيم عليلا بليلا، وتمتص أنداء الليل نقية معطرة، وترتضع أخلاف السحاب عذبة صافية، وهذا ما يجعل ثمرها مباركا، وعطاءها جزلا مضاعفا، بما اجتمع لها من طيب المكان، والماء الروىّ، وسلامة المفترس من الآفات.. وهكذا يربى الله للمؤمنين المتصدقين صدقاتهم، إذا غرسوها بعيدا عن متناول الآفات التي تأكلها وتأتى عليها، وهى المنّ والأذى. وقوله تعالى: «فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ» أي أن هذه الجنة التي قامت فوق الربوات العالية، لا تنقطع عنها أمداد السماء، فإن لم يسقها المطر الغزير فى بعض الأوقات، سقتها أنداء الطل التي لا تنقطع أبدا فى تلك المواطن.. وكذلك إحسان المحسن المؤمن، ينمو ويزدهر مثل تلك الجنّة، فإن فضل الله دائما متصل بهذا الإحسان، يغذيه وينميه لصاحبه، حتى يجده شيئا عظيما يسر العين، ويشرح الصدر!. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 الآية: (266) [سورة البقرة (2) : آية 266] أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) التفسير: وفى مواجهة هذه الجنة المونقة المعجبة، على صدر تلك الربوة الشامخة، جنة من نخيل وأعناب، ومن كل الثمرات.. قد آتت أكلها، ونضجت ثمارها.. يملكها رجل أصابه الكبر، ودنا منه شبح الموت، وبين يدى الرجل ذرية ضعفاء، لم يقدروا بعد على العمل والكسب، فهم فى حاجة إلى من يعولهم، ويدبر لهم وسائل العيش، وهو ينظر إليهم فى حالهم تلك، وقلبه يخفق إشفاقا عليهم، وخوفا من أن تقسو عليهم الحياة من بعده، ويمسّهم الضر والأذى بفقده، ولكنه ينظر من جهة أخرى إلى تلك الجنة التي بين يديه، وما فيها من خير كثير، ورزق موفور، فيطيب خاطره، ويطمئن قلبه، أن ترك لصغاره هذه الجنة، يسرحون فيها ويمرحون.. وفيما الرجل يردد النظر بين صغاره وبين جنته، وفيما هو بين نوازع الألم والحزن، وبارقات الرجاء والرضى، يطلع عليه من وراء الأفق عاصف مجنون، يسوق بين يديه شواظا من سموم، فيرمى به تلك الجنة، فإذا هى رماد تذروه الرياح!. إنها القيامة.. ولقد وجد الرجل نفسه عاريا من كل شىء، لم يترك لصغاره شيئا بعده، ولم يجد بين يديه شيئا لمصيره! فما أشأم هذا الموقف وما أنكده وأقساه.. وحزن مرير على ما فات، وخوف شديد مما هو آت!. وإنها لحسرة تأكل الإنسان ظهرا لبطن..! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 وفى هذه الصورة المفزعة، فى هذا الرجل الفاني، وصغاره، وجنته المزهرة المعجبة المثمرة، عبرة لمعتبر!. فلقد أضاع الرجل جنته بيده، وحرقها بسموم أنفاسه! إنه كان من المحسنين، الذين غرسوا فى مغارس الخير، وكان يرجى لغراسه هذا أن يكون منه زاد لصغاره بعد مماته، كما يكون منه الزاد الطيب العتيد له يوم حسابه، فإن المحسن فى الدنيا تعود نفحات من إحسانه على ذريته من بعده، كما يقول الله سبحانه وتعالى فى الغلامين صاحبى الجدار، فى قصة موسى والعبد الصالح: «وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً» . (82: الكهف) ولكن الرّجل أفسد كلّ شىء، وأتلف ما غرس بيده، إما لأنه كان كافرا لم يتقبل الله منه عملا أصلا، وإما لأنه كان مؤمنا محسنا، ولكنه يبطل إحسانه بالمنّ والأذى!. فلينظر الإنسان أين يكون مكانه فى المحسنين: أيكون محسنا مؤمنا، لا يبطل إحسانه بالمنّ والأذى.. أم محسنا مؤمنا، يسلّط على إحسانه منّه وأذاه فلا يبقى على شىء منه.. أم يكون كافرا يمحق كفره كل شىء، ويأتى على كل صالح؟ «كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ» . الآية: (267) [سورة البقرة (2) : آية 267] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) التفسير: آفة أخرى من الآفات التي تتسلط على إحسان المحسنين، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 وإن لم تكن من تلك الآفات التي تأتى على كل إحسان، ولكنها تغيّر وجهه، وتهزل كيانه، وهى أن يمدّ المحسن يده إلى ما لا تطيب نفسه به، ولا يشتد حرصه عليه، من ماله أو متاعه، أو طعامه، فينفقه فى سبيل الله، ونفسه مستغنية عنه، زاهدة فيه.. والله سبحانه وتعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، فكيف يقدّم إليه ما عافته النفس، أو استثقلته أو زهدت فيه؟ والله سبحانه وتعالى يقول: «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» (92: آل عمران) فقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ» دعوة إلى الإنفاق من الطيب الذي تحبه النفس وتتعلق به، وفى ذلك تغلّب على نوازع النفس، واستعلاء على حرصها على هذا الطيب وتعلقها به، الأمر الذي لا يكون إلا عن مجاهدة وإيثار وتضحية.. فإنه على قدر المشقة يكون الثواب! وقوله تعالى: «وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ» تنبيه وتحذير من نوازع النفس التي تغلبها الأثرة، عن أن تنفق- حين تنفق- إلا من خبيث ما معها.. وتسمية الشيء المكروه أو المزهود فيه أو المستغنى عنه- خبيثا، للتنفير منه، ولاستبعاده فى مجال الإحسان، والإنفاق فى سبيل الله.. والتيمم هو القصد، فما كان عن غفلة فليس تيمما. وقوله تعالى: «وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ» الإغماض غمض الطرف تكرها، وتقززا.. ومعنى هذا أن الإنسان لا يرضى أن يأخذ الشيء المزهود فيه أو المستغنى عنه، أو المشوب المعيب بأية شائبة أو عيب-- إلا متكرها، فكيف يعطى الإنسان ما هو معطوب معيب، وهو لا يقبل أن يأخذ مثل هذا المعطوب المعيب؟ إن ذلك ليس عدلا، وليس إحسانا! قوله تعالى: «وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ» دعوة إلى البذل والإنفاق فى سخاء، وعلى يقين بأن الله سبحانه هو الغنى الذي لا تنفد خزائنه، يربى صدقة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 المتصدقين، ويضاعف إحسان المحسنين حيث يقول سبحانه: «وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ» (39، سبأ) ومع هذا السخاء فى البذل والإحسان ينبغى أن يكون المبذول والمحسن به مما هو طيب كريم محمود حتى يقبله الله ويحمده، ويجزى الجزاء الحسن عليه. الآية (268) [سورة البقرة (2) : آية 268] الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) التفسير: (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) أي يخوّفكم منه، وينذركم به، إذا أنتم أنفقتم فى سبيل الله، والأصل فى الوعد أن يكون بالخير، والإيعاد بالشرّ، ووعد الشيطان هنا لمن يوسوس له بالشحّ والإمساك مخافة الفقر- وعده له بالفقر، إنما هو فى صورة الخير، إذ يحذره ويربه عاقبة أمره، فهو وعد الناصح الأمين الحريص على مصلحة من ينصحه.. هكذا يزين الشيطان للناس الشر ويلبسه وجه النفع والخير. (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) . والفحشاء كل شىء مكروه، وكل رذيلة مستقبحة.. هذا ما يأمر به الشيطان، وهو لا يأمر على الحقيقة، ولكنه يزين، ويوسوس، ويخدع، فإذا المنخدع له مستجيب لما يدعوه إليه، ويوسوس له به، فكأنه- والحال كذلك- ينفد مشيئة من، لا يرد له أمرا. (وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا) هذا ما يجىء من قبل الله، وما تحمله إلى الناس دعوات رسله.. المغفرة لمن تاب وأناب إلى الله، وأصم أذنيه عن دعوة الشيطان، والفضل وسعة العطاء ووفرته لمن أعطى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 وبذل وأنفق فى سبيل الله.. (وَاللَّهُ واسِعٌ) أي فى عطائه ومغفرته، فلا حدود ولا قيود (عليم) بما تعملون من خير أو شر فيجازيكم بما تعملون. فهاتان دعوتان: إحداهما من الشيطان، والثانية من الله.. والأولى تسلك بمتبعها مسالك الهلاك والبوار، على حين تسلك الثانية بسالكها إلى موارد الرحمة والرضوان.. فلينظر المرء إلى نفسه، وليستقم على أي طريق شاء «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» . (29: الكهف) الآية: (269) [سورة البقرة (2) : آية 269] يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269) التفسير: «الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ» (18: الزمر) . فهؤلاء هم الذين رزقهم الله بعض ما يرزق عباده من السداد والتوفيق، والاستماع إلى دعوة العقل، والاتهام لداعى الهوى ووساوس الشيطان.. وهذا من موارد الحكمة، ومن ثمرات الحكماء «وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً» إذ يكون أمره إلى عقل يهديه، وبصر يقيمه على سواء السبيل، فلا يفعل إلا خيرا، ولا يجنى إلا خيرا «وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ» «الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ» . والحكمة: هى البصيرة النافذة، التي تقدر الأمور قدرها، وتضع كل شىء موضعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 الآية: (270) [سورة البقرة (2) : آية 270] وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) التفسير: الذين ينفقون فى سبيل الله نفقة صغيرة أو كبيرة، أو يعقدون أنفسهم على نذر لله ويوفّون به، فإن ذلك كلّه محسوب لهم عند الله، لا يضيع منه شىء، وسيجازيهم عليه، ويدفع عنهم أهوال يوم كان شره مستطيرا، على حين يتلفت الظالمون يومئذ فلا يجدون لهم فى هذا اليوم وليا ولا نصيرا، فقد ظلموا أنفسهم، فلم يعملوا لها حسابا لاستنقاذها من شر ذلك اليوم وأهواله. الآية: (271) [سورة البقرة (2) : آية 271] إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) التفسير: الصّدقات هى ما يتطوع له الإنسان من خير، غير المفروض عليه من زكاة. وقد تدخل الزكاة فى باب الصّدقات. وصدقة التطوع، من الخير أن تقع ليد مستحقها من الفقراء فى ستر وخفية، حتى لا يخدش حياؤه، ولا يظهر للناس فى موقف يجرحه ويحرجه. وفى هذا التدبير تبرز وجوه من الحكمة: فأولا: حفظ الكرامة الإنسانية، وصونها. ثانيا: قهر مشاعر التعالي والتعاظم فى نفس من يتصدق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 ثالثا: إشعار المتصدق عليه أنه بسؤاله واستجدائه ومدّ يده إلى الغير، إنما يأتى عملا شائنا، ومن الحكمة أن يفعله الإنسان- إذا اضطر إليه- فى ستر وخفاء، وفى هذا تحريض له على التحول من هذا الموقف، والتماس وجه للعمل، حتى بكفّ يده عن السؤال!. وكذلك الشأن فى الزكاة حين يضعها المزكّى فى يد مستحقيها.. فإنه من خير أن تحمل إليهم فى ستر وخفاء.. أما إذا كانت تقدم لجهة برّ عامة، أو ليد ولىّ الأمر فإن إبداءها خير من إخفائها، لما فى ذلك من تحريض للغير على أدائها. وفى قوله تعالى: «إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ» بيان لفضل الإحسان ومنزلته عند الله، وأنه مقبول على أي حال، سواء كان فى سر أو فى جهر، ما دامت النيّة الخالصة من ورائه، غير متبوع بمن ولا أذى!. الآية: (272) [سورة البقرة (2) : آية 272] لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) التفسير: بعد أن دعا الله سبحانه وتعالى إلى الإنفاق فى سبيل الله، وبيّن وجوه هذا الإنفاق وأسلوبه، والعوارض التي تعرض له، وما ينبغى على العاقل من تجنبها، حتى يكون هذا الإحسان مقبولا عند الله- بعد أن بين سبحانه وتعالى كل هذا أوضح بيان، لم يبق إلا أن ينظر الإنسان لنفسه، وأن يتخيّر طريقه، فاما أن يستمع إلى ما أمر الله به ويسير عليه، فيسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 ويسعد، وإمّا أن يسلم يده للشيطان، ويتبع سبيله فيضل ويشقى، فليحمل الإنسان إذن مسئولية هذاه أو ضلاله «بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ» (14- 15 القيامة) . وليس على النبىّ إذن حمل النّاس حملا على الإيمان، وإكراههم إكراها على الهدى، فما على الرسول إلّا البلاغ، فمن أراد الله له الخير شرح الله صدره، وشدّ عزمه، وثبت قدمه على طريق الحق والخير. «لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» . قوله تعالى: «وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ» أي هو لكم ثوابه، وإليكم عائدة ثمرته، وذلك إذا كان هذا الإنفاق ابتغاء وجه الله، خالصا له، بعيدا عن الرياء والمنّ والأذى «وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ» فهو الوجه المقبول عند الله، وهو الوجه الذي يجب أن يتوجه إليه الإنفاق «وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ» أي أن ما أنفقتموه على هذا الوجه فهو مقبول عند الله، يجزيكم به أضعافا مضاعفة «نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» (56: يوسف) . الآية: (273) [سورة البقرة (2) : آية 273] لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) التفسير: فى قوله تعالى: «لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» الجار والمجرور «للفقراء» متعلق بمحذوف تقديره النفقة مطلوبة للفقراء الذين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 أحصروا فى سبيل الله والحذف هنا أبلغ من الذكر، حيث يشعر بأنّ أمر هؤلاء الفقراء فى غنىّ عن أن يحرّض عليه، فحقّهم على المحسنين واجب لا يحتاج إلى بيان. وقوله تعالى: «أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» أي حبسوا عن الكسب، بسبب اشتغالهم بما هو أهم، وهو أنهم يعملون فى سبيل الله، كالمجاهدين أو الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم لإيمانهم بالله، ولم تتهيأ لهم أسباب الرزق، أو قعد بهم المرض أو الكبر، وهم يعملون فى سبيل الله.. أو غيرهم ممن افتقروا وهم قائمون فى سبيل الله.. «لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ» . وقوله: «يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ» أي أنّ هؤلاء الفقراء ليسوا من الطفيليين الذين يعيشون عالة على كسب غيرهم، وإنما هم أزهد الناس فيما فى يد الناس، وقد بذلوا أنفسهم وخرجوا عن ديارهم وأموالهم فى سبيل المبدأ والعقيدة، ومن أجل هذا فهم- على فقرهم وحاجتهم- متجملون بالتعفف والقناعة والصبر، حتى ليحسبهم من لا نفاذ لبصره فى حقائق الأمور، أنهم أغنياء لا حاجة بهم إلى شىء من مال أو متاع، وقد يكون أحدهم طاويا لأيام لم يذق طعاما. ولكن البصير الذي يتفرس فى وجوههم، فينفذ إلى دخيلة أمرهم يجد منهم ما يخفيه تعففهم وتجملهم من ضرّ الجوع، وأذى المسغبة.. ومن هنا كان واجبا على المحسن أن يتحسّس حاجة المحتاجين، وأن يتعرف على ذوى الحاجة المتسترين الذي يمنعهم الحياء والتعفف عن أن يسألوا.. فهؤلاء هم أحق الناس بالعون والإحسان!. وقوله تعالى: «لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً» هو سمة من سمات المتعففين من ذوى الحاجة، وأنهم إذا سألوا سألوا فى رفق، وعلى استحياء.. وذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 أنهم لم يعتادوا السؤال، ولم يقفوا هذا الموقف من قبل، وإلا لذهب حياؤهم، وانحلّت عقدة ألسنتهم، وأصبح السؤال عادة عندهم.. ومثل هؤلاء لا يكونون على سبيل الله، ولا فى سبيله! الآية: (274) [سورة البقرة (2) : آية 274] الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) التفسير: الإنفاق فى سبيل الله وابتغاء مرضاته، مقبول فى كل وقت، بالليل والنهار، وعلى أي أسلوب.. سرّا وعلانية، والمنفقون على هذا الوجه مقبولون عند الله، مكفول لهم أجرهم، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يوم يخاف الناس، ويحزن الناس! الآية: (275) [سورة البقرة (2) : آية 275] الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) التفسير: لم تعطف هذه الآية على ما قبلها، وإن كان سياق النظم يقضى بهذا، على نحو ما تجرى عليه فى أسلوبنا، بل وعلى ما جرى عليه نظم القرآن فى كثير من المواقف المشابهة لهذا، حيث يعطف الليل على النهار، والمحسن على المسيء والمؤمن على الكافر، وهكذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 لم يقع العطف هنا بين الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية، والذين يأكلون الربا- على غير المألوف- وذلك للبعد البعيد الذي بين هؤلاء وأولئك، حيث لا يمكن أن يلتقيا على أي وجه من الوجوه.. فهما أكثر من متناقضين. وأبعد من متضادّين، وفى هذا تشنيع على الرّبا وآكليه، وعلى عزلهم عن المجتمع الإنسانى كلّه، حتى مجتمع الكافرين والمنافقين، لأن كلا من المنافق والكافر يأكل نفسه على حين أن آكل الربا يأكل نفسه ويأكل ضحاياه المتعاملين معه! وقوله تعالى: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا» الرّبا فى الأصل الزيادة والنماء، وفى عملية الرّبا زيادة فى مال المرابى ونماء له، ثم أطلق على عملية الرّبا المعروفة، شاملا جميع أطرافها المال المتعامل به، وصاحب المال، وآخذه. فالذين يأكلون الربا هما الطرفان المتعاملان به.. المقرض، والمقترض، حيث لا تتم العملية إلا بهما معا.. والأظهر هنا أن المراد بهم، هم المقترضون حيث يأخذون المال «الربا» ويأكلونه، أي يستهلكونه فيما اقترضوا. وفى قوله تعالى: «لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ» . أكثر المفسّرون من التأويل والتخريج لهذا المقطع من الآية الكريمة، واستهلكوا كثيرا من الجهد فى البحث عن معنى التخبط، والشيطان، والمسّ، وفى الصورة المركبة من هذه الجزئيات، وكلهم ناظر إلى أن المراد بآكل الربا هو المقرض دون المقترض. غير أن جميع هذه الآراء، وتلك التخريجات لم نجد منها ما نطمئن إليه، ونقنع به. وقد أوردنا النظر إلى الآية الكريمة على وجه غير الوجه الذي التفتوا إليه، ووقفوا عنده، فظهر لنا منها ما وجدنا له مفهوما، وفيه مقنعا! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 فنقول- والله أعلم- إن الضمير فى قوله تعالى: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ» يراد به المقترضون بالربا، وهم- كما قلنا- الذين يأكلون هذا المال المقترض، ويستهلكونه فى الأمر أو الأمور التي اقترضوا من أجلها. ويسند هذا الرأى أن المقرض- وهو المرابى- لا يأكل المال الذي أقرضه بالرّبا، ولا يستهلكه، وهذا ما ينطق به ظاهر اللفظ «يأكلون» والحمل على الظاهر أولى، ولا يصار إلى غيره إلا عند ما يكون للظاهر وجه مقبول! هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإننا لو نظرنا فى الصورة كلها على هذا الوجه، لبدا لنا أن آكلي الرّبا، وهم المقرضون- على ما ذهبنا إليه- قد رهقهم الدّين، وأثقلهم حمله، وأنهم أصبحوا فى يد المرابى كالسمكة فى شبكة الصياد، كلّما ضربت برأسها وذنبها فى الشبكة لتجد طريقا إلى الخلاص كلما اشتد ضغط الشبكة عليها وإمساكها بها.. فالمقترض بالربا قد علقت به حبائل المرابى، وكلما أراد أن يفلت من يده، ويتخفف من الدين الذي أثقله به كلما ازداد إحكام يده عليه، وتضاعف الدين الذي كان ينوء به! والصورة التي رسمها القرآن الكريم لآكلى الربا من المقترضين أحكم إحكاما، وأردع روعة من كل صورة تكشف عن حال هؤلاء المقترضين وسوء المصبر الذي يتخبطون فيه! «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ» . إنهم كلما أرادوا أن يقوموا من هذا الهمّ الثقيل الذي أقعدهم وأعجزهم عن السير فى ركب الحياة مع الناس، تخبطوا واضطربوا، فقاموا ثم قعدوا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 وقاموا ثم قعدوا.. ثم لا يكاد أحدهم بهم بالقيام حتى يسقط، ثم يهم ويسقط، ثم يختلج جسده كلّه، ويضطرب كيانه كله، فيخر صريعا، ويضطرب على الأرض اضطراب الجمل المذبوح! والممسوس الذي أصابه الصّرع هو الذي يمثل تلك الحال أدق تمثيل.. فى اضطرابه وتخبطه، وقيامه، وسقوطه، ثم ارتماؤه أخيرا على الأرض يرتعش رعشة المحموم، ويضطرب اضطراب الحيوان الذبيح! وسواء أكان للشيطان مسّ أم لم يكن، فإن النّاس يشهدون المصروعين، ويرون النوبات التي ينتابهم فيها الصرع، على هذا النحو الذي ذكرناه. على أنه ليس بالمستبعد أن يتسلط الشيطان على بعض الأجساد، فيصيبها بهذا الداء.. وقد ورد فى الإنجيل أن المسيح عليه السّلام كان يشفى الممسوسين والمصروعين- وأنه كان يخرج الشياطين الحالة بأجسادهم فيبرءون. ففى إنجيل متى: «ولما جاءوا إلى الجمع تقدم إليه رجل جاثيا له، وقائلا: يا سيد ارحم ابني، فإنه يصرع ويتألم شديدا، ويقع كثيرا فى النار، وكثيرا فى الماء.. فانتهره يسوع فخرج منه الشيطان، فشفى الغلام من تلك الساعة» (الإصحاح 17) وإذا فهمنا الآية على هذا الوجه بدا لنا أنها؟؟؟ تتجه إلى المقترضين بالرّبا والمقترضين، وأنها تمثل لهم المصير الذي سيصيرون إليه إذا هم تعاملوا بالربا، ووقعوا فى شباك المرابين.. وبهذا يظهر حرص الإسلام على حماية هؤلاء المقترضين، وهم من ذوى الحاجات وتحذيرهم من أن يغريهم المطعم فى هذا الفخ المنصوب لهم. إن المقترض بالربا لا يكون غالبا إلا من ذوى الحاجة والمعسرة، وأن يده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 أعجز من أن تسعفه بحاجاته التي تمسك عليه حياته.. فهو يلجأ إلى المقرضين بالرّبا، تحت هذا الظرف القاسي، فيقدم على القرض بالرّبا مضطرا، ويحمل هذا العبء الثقيل مكرها، ليدفع بذلك خطرا داهما، بتهدده ويتهدد أهله بالموت جوعا.. ثم إذا جاء الوقت المعلوم لأداء هذا الدّين وما زيد عليه من ربا، وجد نفسه عاجزا عن الوفاء بالأداء، فيضطر تحت الحاجة إلى المادّة فى الأجل، ومضاعفة الدين.. وهكذا تمضى الأيام، ويد المدين عاجزة عن الوفاء، والدين يتضاعف عاما بعد عام، حتى يبدو وكأنه جبل يجثم على صدر المدين، فلا يقدر على الحركة إلى أي اتجاه. فهذه هى صورة المقترض بالرّبا، يمشى فى الناس وكأنه يحمل ثقلا من الأحجار ينوء به كاهله، وينحنى منه ظهره، ويضطرب معه خطوه. وفى هذا ما فيه من تبعيض فى الرّبا، وتنفير من التعامل به. والحق أنه لو امتنع المقترضون بالرّبا عن طرق أبواب المرابين لما وجد هؤلاء المرابون من يتعاملون معه، ولما تمت هذه الجريمة المنكرة! وفى قوله تعالى: «لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ» تشبيه للمرابى بالشيطان، إذ كان مصدر شر يتهدد حياة من يتعامل معه، ويذهب بمقومات حياته، ويغتال ثمرة جهده.. وكما أن الشيطان يزيّن للإنسان الشرّ، ويغريه به، حتى ليسيل لعابه إلى تلك المنكرات التي يوسوس له بها، ويرفعها لعينيه فى صورة رائعة معجبة- كذلك يفعل المرابى، بما فى يديه من مال أعدّه للمراباة، ولوّح به لذوى الحاجات، فجاءوا إليه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 ووقعوا فى شباكه، كما يقع الفراش فى النار، وهو يرقص على ضوئها الذي خيل إليه أنه مطع فجر جديد. فالمرابى شيطان يتسلط على المتعامل معه، فيصاب منه بالخبل والاضطراب، كما يصاب الممسوس من الشيطان بالتخالج والتخبط. من هذا كله نرى أن ما ذهبنا إليه من أن «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا» هم الذين يقترضون بالرّبا من المرابين، وليسوا هم المرابين، كما ذهب إلى ذلك المفسرون. وهذا المعنى الذي ذهبنا إليه يجعل الآية الكريمة غير منسوخة، كما يقول ذلك المفسرون بإجماع، وإنما هى لتقرير حكم خاص بطرف من أطراف العملية الربوية، وهو الطرف المقترض، لا المقرض.. أما المقرضون بالرّبا فسيجىء بعد ذلك الحكم الخاص بهم، فى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» . وأما تقديم المقترضين بالربا على المقرضين به فى مجال التشنيع على الرّبا، والتهديد للمتعاملين به، فذلك لأن المقترض- كما قلنا- هو الذي بيده مفتاح هذه العملية، وأنه هو الذي يطرق باب المرابى. وبتلك الطرقات يفتح الباب، وتتم الجريمة.. ولو أمسك المقترضون عن التعامل بالرّبا لما وجد المرابون سوقا رائجة يتعاملون معها. فكان تقديم الحديث إليهم فى هذا الموقف هو من مقتضيات الحكمة والبلاغة معا. قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا» القول هو قول آكلى الرّبا، وهم المقترضون، والإشارة ب «ذلك» إشارة إلى تلك الحال التي لبست آكلى الرّبا، وما صار إليه أمرهم بعد أكله، حتى أصبحوا كمن يتخبطه الشيطان من المسّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 والمعنى: أن هؤلاء الذين أكلوا الرّبا إنما صار حالهم إلى ما هو عليه من السوء والبلاء بسبب غفلتهم، وسوء تقديرهم، واغترارهم بظاهر الأمور، حتى حيّل إليهم أن التعامل بالرّبا لا يعدوا أن يكون من باب البيع، وأنه كما يشترى المشترى السلعة بالثمن الذي يتفق عليه بالتراضي مع البائع، كذلك يشترى المقترض بالرّبا المال الذي اقترضه بالثمن الذي يتفق عليه بالتراضي مع المقرض.!! هكذا يركب الإنسان طرق الشرّ ويأكل ما يلقاء فيها من خبيث الطعام، وهو يحسبه الطيب الهنيء المريء، ثم لا يقف عند هذا، بل يتكلّف له المبرّرات والمسوّغات. وقولهم: «إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا» جاء على غير المألوف المتوقع، وهو أن يقولوا: «إنما الرّبوا مثل البيع» إذ أنهم إنّما قبلوا الرّبا، ورضوا بالتعامل به، قياسا على أصل قاسوه عليه، وهو البيع، فكان عليهم أن يقولوا لأنفسهم، أو لمن يسفّه عملهم هذا: إنما الربا الذي يلام عليه، أو يحذّر عاقبته، هو مثل البيع الذي لا ينكره أحد، ولا يحذّر منه أحد» . وقولهم هذا الذي حكاه القرآن عنهم يكشف عن مدى ما يفعل السوء بأهله حين يستبد بهم، ويفسد عليهم أمرهم، حتى لتنقلب عندهم أوضاع الأمور، وتختل موازينها فى تفكيرهم، فيبدو الشر حسنا، والقبيح جميلا.. فهم هنا يرون الرّبا الذي يتعاملون به أصلا يقاس عليه البيع، على حين أنهما من واديين مختلفين، وإن يكن ثمة قياس، فالبيع هو الأصل الذي تقاس عليه الصور المشابهة له! وقد ردّ الله عليهم هذا القول، وأبطل هذا الادعاء الذي ادّعوه، فقال تعالى: «وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا» فإنه إذا كان ثمة تقابل بين البيع والربا فى ظاهر الأمر، فإنهما فى الحقيقة ضدان لا يلتقيان أبدا.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 هذا حلال، وذاك حرام، ويا بعد ما بين الحلال والحرام. وليس يمنع من تشابه الشيئين فى الصورة أن يكونا على بعد بعيد من الخلاف حتى يبلغ حد التناقض والتضاد فى الحكم الواقع على كل منهما. فالحيوان الذي أحلّ أكله.. إذا ذبح كان لحمه حلالا، وإذا مات حتف أنفه مثلا.. كان لحمه حراما خبيثا، وهو هو الحيوان فى حلّه وفى حرمته. قوله تعالى: «فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» . الموعظة ما يوعظ به، من توجيه إلى الخير، وتحذير من الشر. وإذا كانت الموعظة من الله فهى حكم ملزم، لا اجتهاد لأحد فيه برأى أو تقدير.. بل هو هكذا.. يؤخذ به، أو يترك.. فمن أخذ به رشد ونجا، ومن تركه أثم، وهلك.. وهذه الموعظة التي حملتها الآية الكريمة فى التشنيع على الرّبا، وتحريمه إنما هى لآكلى الربا وهم المقترضون خاصة. وفى قوله تعالى: «فَلَهُ ما سَلَفَ» أي فقد تجاوز الله عما سلف أي ما أكله من الرّبا قبل أن يبيّن له هذا البيان، ويجيئه هذا الحكم، فى تلك الآية الكريمة. وفى قوله تعالى «وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ» إشارة إلى رحمة الله ومغفرته التي تمحو سيئات المسيئين، إذا هم تابوا إلى الله وأنابوا.. فمن كان أمره إلى الله فإنه فى ضمان من كل سوء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 قوله تعالى: «وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ» أي ومن عاد إلى أكل الرّبا، مستحلا له بعد أن حرّمه، الله فقد تعرض لغضب الله وانتقامه، ونعوذ بالله من غضبه وانتقامه. قوله سبحانه: «وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ» ، وصف الله سبحانه بالعزة هنا، هو عرض لسلطان الله، وقوته، وأن حرماثه فى حمى عزيز، ولكنه- سبحانه- لا يعجل بأخذ الذين يعتدون على حرماته، كرما منه ورحمة، بل يمهلهم حتى يراجعوا أنفسهم، ويفيئوا إليه، فإن فاءوا وجدوا المغفرة والرضوان، وإن عادوا ولم يتوبوا فقد وقعوا تحت نقمة الله، الذي يغار على حرماته أن تستباح بلا قيود ولا حدود.. فمع عزة الله، وقوته، وبسطة سلطانه، تقوم نقمته تتعقب بالعقاب أولئك الذين استخفوا بعزة العزيز، واستباحوا حرمات المنتقم.. بلا حساب! هذا، ويؤيد ما ذهبنا إليه من أن المراد فى قوله تعالى «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا» هم المقترضون ما جاء فى الحديث الشريف: «لعن الربا.. آكله، ومؤكّله، وشاهديه، وكاتبه» . الآية: (276) [سورة البقرة (2) : آية 276] يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) التفسير: بعد أن حرّم الله أكل الرّبا فى الآية السابقة، وكشف هذا الطرف من أطراف الربا- وهو طرف- المقترضين على تلك الصورة الكريهة- جاءت هذه الآية لتكشف وجها آخر من وجوهه، وطرفا ثانيا من أطرافه، وهو المال المتعامل به! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 فصاحب هذا المال، وهو المرابى، يوجه مآله إلى هذا الوجه، يريد له النماء والكثرة، ويبغى منه الثروة والغنى. وقد أخبر الله سبحانه أنه لا يبارك هذا المال، ولا يزكىّ الوجه الذي اتجه إليه.. «يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا» والمحق هو المحو والإزالة، بحيث لا يبقى أثر لما يمحق. والمراد هنا بمحق الرّبا، أن هذا المال الذي يجمع من وجوه الرّبا مصيره الزوال، وأنه إذا كان له مع صاحبه شأن فى هذه الدنيا، فإنه لا يجد منه شيئا بين يديه فى الآخرة، على حين أن المال المتصدّق به، وإن كان قليلا، فإنه ينمو النماء الحقيقي، الذي لا يفنى بفناء صاحبه، ولا يذهب بذهاب الدنيا كلها، بل يظل هكذا فى ازدهار ونماء، حتى يستقبل صاحبه يوم القيامة، فيكون له زادا طيبا فى هذا اليوم العظيم، كما قال تعالى: «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» وكما يقول الرسول الكريم: «إنّ الله ليربّى لأحدكم التمرة كما يربّى أحدكم فلوّه وفصيله حتى يكون مثل أحد» . والفلوّ: ولد الفرس، والفصيل: ولد الناقة. قوله تعالى: «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ» تعريض بالمرابين، وهم الطرف الثالث فى عملية الربا، وتمهيد لما سيأتى من حديث عنهم. فالمرابى كافر بنعمة الله، إذ وسّع الله له فى الرزق، حتى فضل المال عن حاجته، وكان من شأن هذا الفضل أن يعود به على ذوى الحاجة، صدقة أو قرضا حسنا، فلم يفعل، بل جعله سلاحا حادا مرهفا، لا يسلط إلا على رقاب المحتاجين والبائسين خاصة، فهو بفعله هذا قد حرم الفقراء وذوى الحاجة حقا لهم وضعه الله فى يده، ثم لم يقف عند هذا، بل صنع من هذا الحق شباكا يصطاد بها الفقراء وذوى الحاجة ثم يلقى بهم ليد الهلاك والضياع.. فهو كافر.. كافر بنعمة الله، ثم هو آثم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 آثم، بهذا الموقف اللئيم الذي يتخذ فيه من نعمة الله نقمة يسلطها على عبادة الله. الآية: (277) [سورة البقرة (2) : آية 277] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) التفسير: بعد أن توعد الله سبحانه وتعالى المرابين بمحق أموالهم، ووصمهم بالكفر الشديد لنعمه، بما ارتكبوا من هذا الإثم الغليظ الذي يعرضهم لسخط الله وعذابه- وعد سبحانه- الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة بالأجر العظيم، والرحمة والرضوان، والأمن يوم الفزع الأكبر.. ذلك لأنهم استقاموا على الصراط المستقيم، وجاءتهم الموعظة فاستمعوا إليها، وامتثلوا لها، وانتهوا عما نهوا عنه من منكرات كانوا يأتونها وهم جاهلون. و «إيتاء الزكاة» هنا له آثاره فى التحريض على البذل والإنفاق على ذوى الحاجات، حتى لا تضطرهم الحاجة إلى التعامل بالربا.. الآية: (278) [سورة البقرة (2) : آية 278] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) التفسير: هنا تعرض الآية الكريمة الطرف الثالث من أطراف العملية الربوية، وهم المقرضون بالرّبا، بعد أن عرضت الآيات السابقة الطرفين الآخرين وهما: المقترضون، والمال المقترض.. وإذ وعد الله سبحانه الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالمغفرة والأجر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 العظيم، والجزاء الحسن فى الآخرة، وإذ كان ذلك موقظا لأشواق النفس نحو هذا المقام الكريم، حافزا الهمم والعزائم إلى بلوغ هذه الغاية المسعدة- فقد جاءت دعوة الذين آمنوا إلى ترك هذا المنكر، فى وقتها المناسب، لتتلقاها النفوس، وهى فى نشوة أشواقها إلى رضوان الله، وإلى الطمع فيما أعدّ للمتقين من جنات فيها نعيم مقيم. فمن واجب الذين آمنوا، وصافحت قلوبهم أضواء الهدى أن يتقوا الله، وأن يقدروه حق قدره، فلا ينتهكوا حرماته، ولا يحوموا حول حماه.. وقد حرّم الله الرّبا، ومن تقوى الله اجتناب هذا المحرم، إن أراد المؤمن أن يكون فى المؤمنين حقا.. إذ لا يجتمع الإيمان بالله، والمحادّة لله، ومحاربته. وقوله تعالى: «وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا» أي اتركوا ما تعاملتم به من ربا قبل أن يأتيكم الله حكم فيه بالتحريم، فليس لكم بعد هذا إلا رءوس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون. الآية: (279) [سورة البقرة (2) : آية 279] فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) التفسير: أي فإن أنتم أيها المقرضون بالرّبا لم تنتهوا عما نهيتم عنه من أخذ الربا، فأعدّوا أنفسكم لحرب معلنة عليكم من الله ورسوله.. فهل لكم على هذه الحرب صبر؟ وأين لكم القوة التي تقف لقوة الله، وتحول بينكم وبين ما يرسل عليكم من صواعق سخطه، ووابل عذابه؟ وفى قوله تعالى «فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» ما يسأل عنه، وهو: إذا كان لحرب الله للمصرّين على أخذ الربا.. مفهوم، وهو وقوعهم تحت سلطان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 سخطه ونقمته وعذابه.. فما مفهوم حرب رسول الله لهم؟ والجواب على هذا من وجهين: الوجه الأول: أن مخالفتهم لأمر الله وخروجهم عن طاعته هو مخالفة لأمر الرسول، وخروج طاعته، إذ كان الرسول- عليه السلام- هو حامل أمر الله ومبلغه. فعقاب الله الذي يأخذهم به هو عقاب من رسول الله أيضا، وحرب الله لهم، هى حرب لحساب رسول الله كذلك.. وذلك ما يدل عليه قوله تعالى: «وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً» (23: سورة الجن) الوجه الثاني: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منفّذ أمر الله فيهم، بما مكّن الله من سلطان، يقيم به حدود الله على الخارجين عليها.. وإذ لم يكن للرّبا حدّ مفروض يعاقب به المرابون، كحدّ السرقة والزنا مثلا، وذلك لشناعة الربا، وغلظ جريمته التي لا حدّ لها إلا عذاب جهنم أو مغفرة الله- إذ كان ذلك كذلك، فإن لرسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- إذا عرض عليه نزاع فى معاملة ربوية أن يسقط الربا، وأن يجعل للمرابى رأس ماله دون ما أربى به.. كما فعل صلوات الله وسلامه عليه. فوضع ربا الجاهلية كلّه، وذلك فى قوله فى خطبة الوداع:: «كلّ ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلب» . وهذا الذي لرسول الله من تسلط على الرّبا، هو حق من بعده لولىّ الأمر، إذا عرض له نزاع فى معاملة ربوية، وضع الربا عن المقترض، وجعل للمقرض رأس ماله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 الآية: (280) [سورة البقرة (2) : آية 280] وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) التفسير: وحين يستجيب المؤمن لأمر الله بترك الرّبا، وأخذ ما أقرضه دون زيادة، فإن عليه أن ينظر فى حال المدين، فإن كان معسرا- وهو ما يكون غالبا- ترفّق به، ومدّ له فى الأجل إلى أن يتدبر أمره، ويتهيأ له الظرف المناسب لأداء ما عليه من دين.. فذلك ما تمليه عاطفة الرحمة والمودّة، وما تقتضيه المروءة فى مثل هذه الحال.. ثم هو فوق ذلك عمل مبرور، له ثوابه وجزاؤه عند الله.. وخير من هذا وأعظم ثوابا وأحسن جزاء عند الله، هو أن يتصدق الدائن بدينه على المدين.. كله، أو بعضه، حسب ما يرى الدائن من حال المدين. وفى الدعوة إلى التصدق بالدّين على المدين هنا ما يشير إلى أن هؤلاء الذين تضطرهم أحوالهم إلى الدين إنما هم- فى الغالب الأعم- الفقراء، الذين لا يجدون من مالهم ما يستجيب لحاجتهم من ضرورات الحياة، فيمدّون أيديهم إلى ذوى اليسار ممن يتوسمون فيهم المروءة، ليعينوهم بشىء من مالهم، على أن يكون ذلك دينا يرد إليهم فى أجل معلوم! فإذا سخت نفس الإنسان أن يقدم هذا العون للمحتاج فى صورة دين، فإنه لأجمل وأكمل أن يحتسبه صدقة عند الله، على ألا يجرح بذلك مشاعر المدين، وألّا يمنّ عليه، ويفضحه، بأن يقول له على سبيل المباهاة، أو الإيذاء والانتقام: تصدقت عليك بما لى عليك من دين.. فذلك مما يذهب بصدقته ويمحقها، والطريق الأمثل فى هذا- إن رأى أن يتصدق بدينه- أن يترك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 المدين، فلا يطالبه بالدين، تصريحا أو تلميحا.. فإن أيسر المدين أدى إليه دينه، وإن ظل على إعساره أمسك عنه، ولم يطالبه. و «كان» فى قوله تعالى: «وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ» تامة، بمعنى وجد، أي وإن وجد فى المدينين ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة، إذ ليس كلّ المدينين على حال واحدة من الإعسار! الآية: (281) [سورة البقرة (2) : آية 281] وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) التفسير: الخطاب هنا للمقرضين بالرّبا خاصة وللمؤمنين عامة- وهو دعوة إلى تقوى الله، والإعداد ليوم يرجع فيه الناس إلى الله، فيوفيهم حسابهم حسب أعمالهم، وما كسبت أيديهم من خير أو شر، ولا يظلم ربك أحدا. مبحث فى الربا أنواعه وأحكامه معناه فى اللغة: النّماء والزيادة، يقال: ربا الشيء يربو رباوة وربا، إذا نما وزاد، ومنه الرّبوة، وهى الأرض المرتفعة على ما حولها. وفى لسان الشريعة، وفى لغة المعاملات: هو عملية دين، يؤدّى عنه مال زيادة على أصل الدين، فى المدة التي يظل فيها الدين فى ذمة المدين. ذلك هو أصل الرّبا الذي أدركه الإسلام عند عرب الجاهلية وشهد آثاره السيئة فى المجتمع العربي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 الإسلام والربا وكان طبيعيا أن يتدخل الإسلام فى هذا الضرب من المعاملات الجائرة، التي تغتال الضعفاء، وتمتص عصارة الحياة فيهم، وتقطع أواصر الرحمة والأخوّة بين الناس والناس. وقد جاء الإسلام بالحكم القاطع فى تحريم الربا فى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ، وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ» . والربا.. الذي جاء القرآن بتحريمه هو ربا النّسيئة، وهو الذي أشرنا إليه من قبل، والذي يقع بين الدائن والمدين بفرض زيادة على أصل الدين، فى مقابل تأجيل دفع الدّين مدة معينة.. إذ النسيئة هى التأخير، يقال نسأ الله فى أجل فلان: أي مدّه وأطاله. ولا شك أن فى هذه العملية ظلما محققا وقع على المدين من الدائن.. وذلك أن الدائن- وهو صاحب المال الذي هو نعمة من نعم الله فى يده، وفضل من أفضاله عليه، لم يرع فيه حق الله، وحق الفقراء فيه، بالصدقة والإحسان.. وهو إذ لم يفعل هذا، كان من الواجب عليه- ديانة ومروءة- أن يمسكه فى يده، ولا يجعل منه أداة يمتص بها البقية الباقية من حياة الفقراء! يقول ابن قيّم الجوزية: «إن الله لم يدع الأغنياء حتى أوجب عليهم إعطاء الفقراء، فإذا أربى الغنىّ مع الفقير فهو بمنزلة من له على رجل دين فمنعه دينه وظلمه زيادة أخرى- أي زيادة على أصل الدين بالربا- والغريم- أي الفقير- محتاج إلى دينه، الذي أوجبه الله له فى مال الغنى- وهذا من أشد أنواع الظلم.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 «فهذا هو أصل الرّبا المستكمل لجميع سيئاته.. ولهذا روى عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الرّبا فى النسيئة» «1» أي فى تأخير دفع الدّين نظير الزيادة عليه. مداخل إلى الربا ومن تمام الحكمة فى الشريعة الإسلامية، أنها لا تحفل كثيرا بالصور والأشكال، وإنما تلتفت دائما إلى ماوراء الصور والأشكال من آثار.. وعلى هذه الآثار يكون حكمها على الشيء.. من الحظر، أو الإباحة، أو الوجوب. وغير هذا من الأحكام. فالخمر- مثلا- مسكر.. فهو حرام لهذه العلة، وهى الإسكار.. وقليل الخمر لا يسكر، ومع هذا فقد تساوى القليل من الخمر مع الكثير، فى التحريم.. ونطق لسان الشرع الحكيم فيه: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» . ولو أخذنا بمنطق الصورة والشكل، لكان قليل الخمر غير حرام، مادام لم يبلغ بالإنسان مبلغ السكر. وربما يكون هذا مقبولا فى عمليات المنطق، ولكن هل يقبل الواقع هذا؟ وهل تصدقه التجربة؟ التجربة والواقع ينكران أن يقوم حجاز يفصل بين قليل الخمر وكثيره، لتقع جريمة السكر أو لا تقع.. فقد يسكر بعض الناس بهذا القليل، ولا يسكر آخرون بأضعافه.. ثم من ذا الذي يضمن نفسه إذا ألقى فى جوفه بقليل الخمر، الذي لا يسكر به، ألّا تمتد يده إلى غير هذا القليل حتى يسكر؟ وإذا استطاع هذا الإنسان أن يردّ نفسه مرة ومئة مرة عن أن يتجاوز حد الإسكار، فهل من الممكن أن يطول به الوقوف عند هذا الحدّ إلى غير حدّ؟ وإذا   (1) القواعد النورانية.. لابن قيم الجوزية.. ص 117. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 استطاع إنسان أن يمر بهذه التجربة سالما، فهل ذلك فى مقدور الناس جميعا؟ الواقع والتجربة ينقضان هذا، ويؤكدان أن كثيرا من الناس شربوا قليل الخمر مداواة، أو لعبا، فتجاوزوا المداواة واللعب إلى الإدمان، ثم الإغراق فى الإدمان! هذا صنيع الإسلام فى كل محرم.. إنه يحرّمه ويحرّم الذرائع المؤدية إليه. وفى الربا.. حرم القرآن الكريم الرّبا، على الصورة التي كانت معروفة له فى الجاهلية، وهو ربا النسيئة، ثم جاءت السنّة المطهرة، فحرمت الذرائع المفضية إليه، حتى لا يتخذ الناس من تلك الذرائع مطايا- تنقلهم بقصد أو غير قصد- إلى الربا الصريح!. ومن الذرائع التي حرّمها الإسلام، وعدّها من الرّبا، إذ كانت بابا يؤدى إليه- هذه الصور من المعاملات: 1- ربا الفضل وهو بيع المتماثلين.. من ذهب أو فضة أو برّ أو تمر أو غير هذا.. بزيادة أحد المثلين على الآخر.. كمن يبيع درهما من الذهب بدرهم وبضعة قراريط من الذهب، وكمن يبيع قدحا من التمر، بقدح ونصف منه.. فهذا بيع متلبّس بالحرمة والإثم. يقول ابن قيّم الجوزية: «ثم إن النبي صلّى الله عليه وسلّم حرّم أشياء، مما يخفى فيها الفساد، لإفضائها إلى الفساد، كما حرم قليل الخمر، لأنه يدعو إلى كثيرها، ومثل ربا الفضل، فإن الحكمة فيه- أي فى تحريمه- قد تخفى.. إذ العاقل لا يبيع درهما بدرهمين إلا لاختلاف الصفات، مثل كون الدرهم صحيحا والدرهمين مكسورين، أو الدرهم مصوغا، أو من نقد نافق (أي رائج) ، ونحو ذلك.. ولهذا خفيت حكمته على ابن عباس ومعاوية، حتى أخبرهما الصحابة الأكابر، كعبادة بن الصامت وأبى سعيد الخدرىّ وغيرهما- بتحريم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 النبىّ- صلّى الله عليه وسلّم- لربا الفضل «1» » . وقد ألحق الرسول الكريم هذا الضرب من المعاملات بالربا.. إلّا أن يكون مثلا بمثل، ويدا بيد.. يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلّا مثلا بمثل ولا تشفّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز «2» وفى لفظ: «إلّا وزنا بوزن، مثلا بمثل، سواء بسواء «3» » . وعن أبى سعيد الخدري، رضى الله عنه قال: جاء بلال إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بتمر برنىّ «4» . فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أين هذا؟» قال بلال: كان عندنا تمر ردىء، فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي، فقال النبي عند ذلك: «أوه!! عين الرّبا.. لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشترى فبع التمر ببيع آخر، ثم اشتر به «5» » . ولا شك أن مثل هذه المعاملات لا يقصد منها الربا على الوجه المعروف، المراد منه استغلال الفقير المحتاج، وفرض إرادة صاحب المال- الدائن- عليه.. ولكن يمكن أن تجرّ هذه المعاملات إلى ما يجرّ إليه الربا من ضغينة وعداوة. أما الضغينة والعداوة فتنشآن مما يتكشف عنه الحال بعد عملية بيع المتماثلين مع تفضيل أحدهما عن الآخر، حين يرى أحد المتبايعين- بعد الرجوع إلى ذوى   (1) القواعد النورانية.. لابن القيم ص 117. (2) الورق. الفضة، والشف الزيادة أو النقصان، والناجز: الحاضر (3) صحيح مسلم جزء/ 4 ص 24. (4) التمر البرني: من أحسن أنواع التمر عند العرب. [ ..... ] (5) صحيح مسلم: جزء/ 4 ص 48. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 الخبرة- أنه غبن، ولا سبيل إلى الرجوع فى عملية البيع. فالمتماثلان، لا يفضل أحدهما الآخر إلا فى أمور لا يتعرف عليها إلا أهل النظر والخبرة فى هذا الشأن، ومن هنا يقع الغبن، الذي تنتج عنه العداوة والبغضاء، كما ينتج الظلم يأكل أموال الناس بالباطل، عن طريق الربا المعروف، وهو ربا النسيئة. وقد يقال: إن هذا الذي يقع فى بيع المتماثلين مع زيادة أحدهما عن الآخر- يقع أيضا فى بيع المتماثلين مثلا بمثل.. إذ لا شك أن المتماثلين لا يتماثلان فى جميع الوجوه، وإلا لما كان هناك داع يدعو إلى استبدال هذا بذاك. ونعم. إنه لا بد من فروق بين المتماثلين، حيث يرى كل من صاحبيهما الرغبة فيما فى يد الآخر.. ولكن الغالب فى المماثلة أن تكون الفروق طفيفة، يمكن أن يحتملها الطرفان بالزيادة أو النقص، ولكن لو فتح باب المفاضلة بين المتماثلين لا تسع مجال الغبن، وتضاعفت مقاديره.. فكان فى إباحة بيع المتماثلين مثلا بمثل رفع للحرج على الناس فى تبادل المنافع، التي لا غنى لهم عنها، كما كان فى تقييد هذه الإباحة بألّا يفضل أحد المثلين الآخر، وزنا أو كيلا- كان فى هذا ما يحرس هذه العملية من الغبن الفاحش، لو فتح فيها باب التفاضل!. 2- بيوع الغرر ومن الأمور المفضية إلى الربا، بيع الغرر، والغرر فى اللغة، معناه التغرير والخداع.. يقال. غرّر فلان بفلان أي ساقه إلى سوء، أو أوقعه فى مكروه عن طريق الحيلة والخديعة والغش. ويقع الغرر أو التغرير فى بعض صور هذا البيع.. وذلك كبيع المعدوم.. مثل حبل الحبلى، وبيع السمك فى الماء، وبيع المعجوز عن تسليمه، كالحيوان الشارد عن صاحبه، أو بيع المجهول المطلق.. مثل قولك: بعتك منزلا، أو المجهول العين، مثل قولك: بعتك ما فى جيبى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 ولا شك أن مثل هذه المبايعات لا تنتهى- غالبا- إلا بخلاف بين المتابعين إن لم يكن متخذا صورة مادية ظاهرة، اتخذ مشاعر محملة بالبغضة والعداوة، لأن البيع الذي حدث على تلك الصورة هو فى الواقع ضرب من المقامرة والمخاطرة.. إذ لا يدرى أحد متى تحمل هذه الناقة أو النعجة، التي وقع البيع على ما قد تحمل فى المستقبل، ولا أحد يدرى ما سيكون عليه نتاجها.. أهو سليم أو معطوب، أو هو واحد أو اثنين أو ثلاثة.. ويقال مثل هذا فى بيع الحيوان الشارد، أو المجهول جهالة مطلقة، كالبيع الواقع على كلمة «منزل» أو ما فى «الجيب» . روى عن أنس بن مالك رضى الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، نهى عن بيع الثمار حتى تزهى، قبل: وما نزهى؟ قال: تحمرّ أو تصفر.. قال: أرأيت إذا منع الله الثمرة، بم يستحلّ أحدكم مال أخيك؟. وروى أحمد فى مسنده، قال: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، ونحن نتبايع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، فسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خصومة، فقال: ما هذا؟ فقيل: إن هؤلاء ابتاعوا الثمار.. يقولون: أصابها الدّمّان والقشام «1» ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فلا تبايعوها حتى يبدو صلاحها» . فالرسول- صلوات الله وسلامه عليه- لم ينه عن هذا البيع إلا بعد أن تكشفت آثاره السيئة، وتكشفت عن مشاحنة وبغضاء.. ولو جرى هذا البيع دون أن يثير مثل هذه المشاحنات أو لو كان بين أيدى الناس من وسائل العلم ما يضبط الحال التي سيكون عليها الثمر وقت نضجه، لما وقع حظر على هذا البيع، وما ماثله.   (1) الدمان والقشام: من الآفات التي تعرض للثمر قبل أن ينضج، فيعطب أو يفسد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 حكم الربا هل الربا كبيرة من الكبائر؟. هذا سؤال يبدو غريبا، بعد أن قالت الشريعة قولها فيه، فى الكتاب الكريم، وفى السّنّة المطهرة. فالقرآن الكريم يصور.. آكل الربا فى صورة من أصابه مسّ من الشيطان، فاختبل عقله، واضطرب كيانه، وبدا للناس فى أسوأ حال يبدو فيه إنسان: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ» . والقرآن الكريم يعلن الحرب من الله ورسول الله على مؤكّلى الرّبا إن لم يتوبوا، ويرجعوا إلى الله.. «فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» . والرسول الكريم يلعن جميع الأطراف المشتركة فى عملية الربا: آكله، ومؤكلّه، وشاهديه، وكاتبه «1» .. ثم أفلا يكون الرّبا بعد هذا كبيرة؟. وبلى، إنه لكبيرة الكبائر عند الله!. يقول الرسول الكريم: «الرّبا ثلاثة وسبعون بابا.. أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمّه، وإنّ أربى الرّبا عرض الرجل المسلم «2» » . وفى هذا ما فيه من تغليظ لجريمة الرّبا، وتشنيع عليها، وأنه لو صوّر الرّبا درجات بعضها فوق بعض، لكان أهون درجاته، وأقلها إثما، مماثلا للإثم الواقع من نكاح الرجل أمّه!!. فكيف الحال بما فوق ذلك من درجات فى الكيان الربوىّ؟ .. لقد وضع الرسول الكريم على قمة الرّبا.. إباحة عرض المسلم.. وهو الزنا!!.   (1) صحيح مسلم: جزء/ 5 ص 50. (2) بلوغ المرام من أدلة الأحكام ص 142. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 وكل درجات الرّبا الثلاث والسبعين- من أدناها إلى أعلاها- سلسلة متشابكة الحلقات من الظلم والعدوان.. ظلم النفس، وظلم الغير، وعدوان على حرمة النفس، وحرمة الغير. والسؤال هنا هو: إذا كان هذا هو شأن الرّبا، وتلك هى جنايته، وآثاره السيئة فى الحياة، فلماذا لم يضع الإسلام عقوبة مادية له، كما وضع للجرائم الأخرى، كالقتل والسرقة، والزنا، وشرب الخمر، والقذف؟ فلكل جريمة من هذه الجرائم حدّ مقرر، وعقوبة راصدة، فرضها الإسلام، وأوجب على المجتمع الإسلامى إقامتها على من وجبت عليه؟. هذا سؤال، لم أجد فى كتب الفقه التي وقعت ليدى من سأله من الفقهاء.. وإذن فلا سبيل إلى جواب على هذا السؤال من كتب الفقه.. ومع هذا، فقد وقع فى نفسى أن أسأل هذا السؤال، وأن أتولّى الإجابة عليه!!. ولكن.. لماذا لم يسأل الفقهاء هذا السؤال؟ ولماذا لم يكشفوا عن السبب فى عزل هذا المنكر عن الكبائر الأخرى، فلم تفرض له عقوبة؟ ولقد سأل الفقهاء عن أمور فرضية أو وهمية، قد لا تقع فى الحياة أصلا، ووضعوا أجوبة لها.. فكيف بهذا الأمر الواقع فى الحياة؟ وأكبر الظن عندى، أنه ربما كان ذلك، لأنهم عدّوا مسألة الرّبا من المسائل التعبديّة التي تخفى حكمتها، ولا يسأل عنها، كما خفيت حكمة ربا الفضل على ابن عباس ومعاوية، وكما خفيت الحكمة فى ألوان أخرى من المعاملات. التي دخلت مدخل الرّبا! ولهذا روى عن عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- أنه كان يقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 «ثلاث وددت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد إلينا فيهن عهد، ننتهى إليه: «الجدّ «1» ، والكلالة «2» ، وأبواب من الرّبا» .. وقول عمر: «وأبواب من الرّبا» أي صور منه، وهى كما قال الرسول الكريم: «الربا ثلاثة وسبعون بابا» .. أما الرّبا الذي قطع الإسلام بحرمته- وهو ربا النسيئة- فقد جاء البيان فيه واضحا قاطعا.. وبقيت الصور الأخرى، وهي التي ليست فى حقيقتها ربا، ولكنها مداخل إلى الربا، فقد تركها الإسلام خاضعة للنظر والتقدير، حسب الظروف والأحوال. فما قد يكون مدخلا منها إلى الربا اليوم، لوقوعه تحت احتمالات شتى- قد يوجد فى المستقبل من العلم ما يرفع هذه الاحتمالات كلها، ويقيمه على أمر واحد محقق، فيصبح- والأمر كذلك- على حقيقة واحدة، لا مجال فيها لمفاجأت الاحتمالات، وتوقعاتها! وأما الحكمة فى تحريم الرّبا- بمعناه المعروف- فهى ظاهرة لمن طلبها.. يقول النبىّ الكريم: «الربا ثلاثة وسبعون بابا، أيسرها أن ينكح الرجل أمّه، وإن أربى الرّبا عرض الرجل المسلم» . وواضح أن الاعتداء على عرض الرجل المسلم، ليس من الربا المعروف، بل المراد بالربا هنا هو المعنى الملازم له، وهو الظلم. وإذن فنستطيع أن نفهم الحديث الشريف، على هذا الوجه، وهو أن المراد بالربا، وأنه ثلاثة وسبعون بابا- أنه الظلم، وأن أبواب الظلم ودرجاته هى هذه الثلاثة والسبعون بابا.. ولما كان الرّبا- بمعناه المعروف- على رأس أبواب الظلم جميعها، فقد جعله الرسول الكريم، العنوان لجميع أنواع الظلم.. تشنيعا عليه، وتنبيها إلى مكانه المشئوم بين الكبائر..   (1) أي ميراث الجد. (2) أي ومعنى الكلالة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 ويقول النبي الكريم: «من شفع لأخيه شفاعة، فأهدى له عليها هدية فقبلها، فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا» «1» . وهذا بيان صريح فى أن الرّبا يقابل الظلم مقابلة واضحة صريحة. وعلى هذا، فإنه مهما تعددت أنواع الرّبا واختلفت صوره، فإن الأصل الذي تفرع عنه الربا واضح معروف، والحكمة فى تحريه واضحة لا تخفى.. وأن أكل أموال الناس بالباطل وظلمهم، هو العلة فى تحريم الرّبا.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ» . وليس بعد هذا بيان فى النصّ على تحريم الرّبا، وفى الكشف عن الحكمة فى تحريمه، والنهى عن التعامل به. ونعود إلى سؤالنا: لماذا لم يضع الإسلام عقوبة مادية للربا، مثل الجرائم التي فرض عليها عقوبة؟ والجواب الذي يمكن أن نستلهمه من روح الشريعة.. هو: أولا: أن الحدود التي فرضها الإسلام عقوبة للقتل والسرقة والزنا.. وغيرها.. هى تطهير لمرتكبيها من آثار ما ارتكبوا.. فإذا أقيم الحد على مرتكب جريمة من هذه الجرائم طهر.. كما ورد فى الحديث عن عبادة بن الصامت، قال: أخذ علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (أي العهد) كما أحد على النساء: «ألا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزنى، ولا نقتل أولادنا، ولا يعضه «2» بعضنا بعضا، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أتى منكم حدّا فأقيم عليه، فهو كفّارته.. الحديث» «3» .   (1) السياسة الشرعية لابن تيمية ص 21. (2) يعضه: أي يقذف، ويفضح. (3) صحيح مسلم: جزء: 5 ص 119. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 ذلك شأن الذنوب التي يقام فيها الحدّ.. يتطهر منها مرتكبوها بإقامة حدود الله عليهم.. أما «الربا» فهو باب وحده من أبواب الشر والفساد، وخطيئته تحيط بصاحبه، وتخالط كيانه الروحي والجسدى، فلا ينجو منه إلا بالتوبة الخالصة ونقض يديه من هذا الوزر.. إلى غير رجعة.. وإلا فهو حصب جهنم.. «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» . ثانيا: الربا محاربة سافرة لله ولرسوله، إذ كان بغيا على عباد الله الفقراء، وتحكّما فى أرزاقهم، وإفسادا لحياتهم، وتضييعا لهم.. إنه قتل خفىّ جماعىّ للفقراء المستضعفين فى المجتمع، ولهذا تولّى الله- سبحانه وتعالى- الدفاع عنهم، والانتقام لهم، ممن ظلموهم، وأوردوهم هذا المورد المهلك.. «فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» .. فالله سبحانه هو الذي أعلن هذه الحرب على المرابين، وكفى بحرب يعلنها الله، وكفى بجرم يعلن الله الحرب على مرتكبيه!! إن الله- سبحانه- لم يعلن الحرب على غير هذا الصنف من المفسدين.. وهم المتعاملون بالرّبا! حتى أولئك الذين أعلنوا الحرب على الله وعلى رسوله، لم يؤذنهم الله بحرب، كما يقول سبحانه وتعالى: «إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ» . (33: المائدة) فلم يعلن سبحانه وتعالى الحرب على هؤلاء العصاة المتمردين، الذين سعوا فى الأرض فسادا، وأعلنوا الحرب على الله وعلى رسوله.. ولكنه أعلنها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 سافرة صريحة على المرابين: «فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» وليس وراء هذه الحرب إلا خراب شامل، وضياع وفساد لما جمعوا، وعذاب شديد فى نار جهنم، يوم يقوم الناس لرب العالمين. هذا هو الحدّ الذي وضعه الله سبحانه- عقوبة للربا، وتولّى- سبحانه- تنفيذه، دون أن يعهد بذلك إلى أحد. ثالثا: تتم عملية الربا بين آكل الربا- المقترض، وبين صاحب المال- المقرض- والشاهدين، والكاتب. إنها عملية واحدة، ولكل من هؤلاء دوره فيها. فهل يكون الحد واحدا لجميع أطرافها، إن وضع لهذه الجريمة حد؟ أم أن يكون لكل طرف من الأطراف الأربعة الحدّ الذي يناسب دوره فيها؟ إن قيل بأن تكون العقوبة واحدة لهؤلاء جميعا، تكون قد سوّت بين الظالم والمظلوم، وبين من أغواه الجشع وحب المال، ومن دفعه الفقر وألجأته الحاجة، حتى صار كالمضطر! ثم إن الشاهدين والكاتب لم يأكلوا الرّبا ولم يؤكّلوا، فهل يسوّون يمن أكل أو أكّل؟ لا محل للمساواة إذن فى العقوبة هنا. وإن قيل: تقع العقوبة على قدر الجرم الذي تلبس به كل من المشتركين فيه.. قيل إن فى هذا تهوينا من شناعة الجريمة، لأنها جريمة أعلن الله فيها الحرب، على أطرافها جميعا وإن أدنى عقوبة لمن اشتبك فى حرب مع الله ينبغى أن يكون أقصى عقوبة عرفت فى الحدود، وهى القتل، أو الرجم.. فبم يعاقب من هم أكثر التصاقا بهذه الجريمة، وأشد وزرا فيها؟ وهل بعد القتل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 أو الرجم عقوبة؟ إذن فلا سبيل إلى المساواة! وإذن فلا مكان لوضع عقوبة عادلة تأخذ هذه الأطراف.. كلّا بحسب ذنبه! رابعا: إذا قيل إن هذه الجريمة، وقد بلغت ما بلغت من الشناعة والظلم.. لم لا يكون القتل حدّا من حدودها.. ينال على الأقل صاحب المال، وهو المرابى؟ ثم يكون التعزير لآكل الربا (المدين) ثم للشاهدين والكاتب. إذا قيل هذا.. قيل: إن الجريمة أكبر من القتل، وأكبر من أن ينال مقترفها شرف التطهير بإقامة حدّ من حدود الله عليه.. وليكن عذاب السعير هو العقاب الذي ينزل كل واحد من هؤلاء المشتركين فى هذه الجريمة- منزله من النار، وفى النار منازل، ودركات! خامسا: إن معركة المال بين الأغنياء والفقراء، هى معركة الحياة الدائمة المتصلة.. وهذه المعركة لا ينفع فيها عقاب مادى، ولا يخفف من طغيانها.. لأن المال شهوة قائمة في النفس لا ينطفىء سعارها إلا إذا بللتها قطرات من ينابيع العطف والرحمة والمحبة، ينضح بها ضمير حىّ، ووجدان سليم. إن الضمير وحده هو الذي يمكن أن يفاء إليه فى تسكين هذه الشهوة الصارخة لحب المال.. ومن هذه الجهة يجىء الأمل فى القضاء على جريمة الرّبا، أو الحد من نشاطها. ولهذا ترك الإسلام العقاب المادي لهذه الجريمة الغليظة، واتجه إلى الضمير الإنسانى، يخاطبه، ويبعث فيه مشاعر الخير والرحمة والمودة.. فإذا لم يكن ثمة ضمير يندى به قلب الغنىّ عطفا ورحمة على الفقير، فيقرضه قرضا حسنا، أو ثمة ضمير يعفّ به الفقير عن هذا المورد الوبيل- إن لم يكن ثمة هذا الضمير أو ذاك، فلا قيمة لوازع السلطان أمام سلطان المال وطغيانه، وإزاء ضراوة الحاجة وقسوتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 ولهذا ختم الله سبحانه وتعالى آية الربا، بالحثّ على مراجعة النفس فيما هى مقدمة عليه بارتكاب هذا المنكر، وما ينتظرها من حساب يوم القيامة.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» . فهذه المراجعة إن صادفت قلبا سليما، ونفسا مهيأة للخير، عدلت بها عن هذا المورد الوبيل، وساقتها إلى موارد البر والخير، والتعفف والصبر «1» وإلّا فلا دواء لهذا الداء إلّا ما أعد الله لأهله من عذاب السعير. مبحث فى الدّين توثيقه والإشهاد عليه الآية: (282) [سورة البقرة (2) : آية 282] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) حرّم الله سبحانه القرض بالرّبا، ورغّب فى القرض الحسن، المراد به وجه الله، وفك ضائقة ذوى الحاجة، فذلك عمل مبرور يجزى الله عليه الجزاء الحسن.   (1) انظر هذا البحث فى كتابنا: «السياسة المالية فى الإسلام» ص 24 وما بعدها تجد بحثا وافيا فى هذا الموضوع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 ولأن عملية القرض عملية إنسانية، تنبع من عاطفة كريمة رحيمة، فقد حرص الإسلام على أن يثبّت دعائمها، وأن يحرسها من الآفات التي نشوّه معالمها، وتفسد الجوّ الذي تتنفس فيه. ففى النفوس ضعف، وفى القلوب مرض، وفى الناس نكران للمعروف، وجحود للإحسان.. وقد تتوارد هذه الآفات جميعها على عملية القرض، فتجعله مصدر عداوة وبغضاء، بعد أن كان باب تواصل وتراحم وتوادّ.. فقد يجحد المدين أصل الدّين، أو يجحد بعضه، أو يقع سهو أو نسيان فى أصل الدين.. عند كل من الدائن والمدين.. وكل هذا يوجد شقاقا، ويوقع عداوة! لهذا أمر الإسلام على وجه الإرشاد والنصح أن يكتب الدّين، وأن يشهد عليه.. فقال تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ» فكما تعرف قيمة الدين، كذلك ينبغى أن يعرف الأجل الذي يؤدّى فيه إلى صاحبه، إذ أن تجهيل الوقت الذي يردّ فيه الدين، وتركه مفتوحا لتقدير المدين- يفتح بابا واسعا للماطلة والتسويف، مما يدعو إلى المشاحنة والعداوة، فى أمر ينبغى أن يصان عما يدعو إلى المشاحنة والعداوة، وأن يخلص للبر والإحسان! وقوله تعالى: «وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ» أي ليقم بين الدائن والمدين من يكتب لهما الدين وأجله، وليشهد عليه.. وذلك إذا لم يكن الدائن والمدين معا ممن يحسنون القراءة والكتابة، فإذا كان أحدهما يحسنهما أو كانا معا لا يحسنانهما فليقم بينهما كاتب عدل، يكون منهما بمنزلة الحكم. وهو أمر موجه إلى من يحسنون الكتابة أن يقوموا بهذه المهمة إذا دعوا إليها.. والأمر لا يكون إلا حضوريا، يخاطب به من يراد منه الأمر، وقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 وجّه الأمر هنا إلى غائب، وذلك أنه لا غائب عن علم الله وقدرته، فكل غائب هنا حاضر فى علم الله.. فكل كاتب موجود أو سيوجد، ماثل بين يدى الله، ومخاطب بهذا الأمر. وقوله تعالى: «وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ» هو نهى لمن يعرف الكتابة أن يمتنع عن كتابة الدين إذا دعى إلى كتابته، فقد أنعم الله عليه بأن علّمه ما لم يكن يعلم، فلينفق من هذا الرزق الذي رزقه الله إياه، فى سبيل الخير، فذلك من زكاة هذه النعمة. وكما أن الأمر لا يتجه إلى غائب، كذلك النهى لا يكون لغير حاضر.. وكما قلنا، فإنه لا غائب فى علم الله، فالله سبحانه وتعالى يأمر وينهى الحاضرين والغائبين.. فى نظرنا، والجميع حاضر بين يدى الله، واقع تحت علمه. قوله تعالى: «فَلْيَكْتُبْ» أمر آخر، بالكتابة، يتوجه إلى من يحسنها، ويؤكد الواجب المدعوّ إليه فى تلك الحال، فإن تخلّى عنه كان ذلك منه عصيانا عن عمد، وتحدّ صريح لأمر الله، الذي بلّغه فى أبلغ بيان وآكده.. بالأمر به، ثم بالنهى عن مخالفته، ثم بالأمر به مرة أخرى.. وقوله تعالى: «وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ» ، هذا بيان لحق المدين فى توثيق الدين.. فبعد أن دعا الله سبحانه وتعالى كلّا من الدائن والمدين أن يكتبوا الدين، ثم دعا إليهما من يكتب لهما- أمر المدين أن يملل أي يملى على الكاتب المال الذي استدانه، والأجل المتفق على أدائه فيه، ليكون ذلك بإقراره، الذي يتعلق بذمته، وذلك بحضور الدائن، ومصادقته على ما يمليه المدين، أو يستمليه منه الكاتب. وقوله تعالى: «وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً» هو أمر توجيهى للمدين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 بأن يتقى الله ربّه فى هذا المال الذي صار وديعة فى يديه، وأمانة فى ذمته، إلى أن يؤديه، كما أخذه، محمولا إلى الدائن بيد الشكر وعرفان الجميل، وألا يبخس من هذا المال شيئا، إذ ليس ذلك من صنيع الكرام إلى من أكرمهم وأحسن إليهم، وذكر الاسم الكريم «ربّه» بعد ذكر لفظ الجلالة «الله» تذكير للمدين بربوبية الله له بعد تذكيره بألوهيته، فيستحضر بذلك عظمة الله وجلاله كما يذكر نعمه وآلاءه، ويذكر مع هذا أن من نعم الله على المدين أن يسر له أمره العسر، وفرج كربه على يد عبد من عباده، هو الدائن، وتلك نعمة من نعم الله، يجب على المدين أن يرعاها، وأن يحرص على شكرها، بأدائها إلى أهلها، فى سماحة ويسر وشكر. قوله تعالى: «فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ» (282) أي فإن عرض للمدين ما يمنعه من أن يتولّى بنفسه إملاء الدين والإقرار به، بأن كان سفيها محجورا عليه، أو صغيرا، أو أبكم أو أصم، أو نحو هذا مما ينقص من أهليته وقدرته، فليتولّ ذلك عنه وليّه، أو وصيّه، فيستدين له، ويقرّ بالدين الذي استدانه، متوخيا فى ذلك العدل، فلا يقر بأكثر أو أقل مما استدانه. قوله تعالى: «وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى» (282) أي فإذا كتب الدين بحضور المتداينين، وأقر المدين أو وليه بما كتب الكاتب، فليشهد على ذلك شاهدين عدلين من الرجال، أو رجل وامرأتان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 وفى قوله تعالى: «وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ» إشارة إلى تحيّر الشاهدين، والتماس الصفات الطيبة فيهما، فليس كل من حضر مجلس العقد كان صالحا للشهادة، قادرا على تحملها، بل يجب أن يكون ذلك بعد طلب، وبحث، فقوله تعالى: «وَاسْتَشْهِدُوا» أي اطلبوا شاهدين، وفى قوله تعالى: «مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ» أي ممن رأيتم فيهما، الاستقامة والسلامة، من بين أهل الاستقامة والسلامة. وقوله تعالى: «أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى» معدول به عن أن يقال: «أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى» حيث يبدو معناهما واحدا، وهو أنه إذا ضلّت إحدى المرأتين عن الحقيقة التي شهدت عليها، ذكرتها الأخرى بهذه الحقيقة، وأعادتها إلى الصواب. واللفظ القرآنى- فى ظاهره- فيه إطناب وتكرار، ولا يكون ذلك إلا لمعنى زائد، وإلا لغرض مراد، لا يحققه غير هذا اللفظ القرآنى على صورته تلك..فماذا هناك؟ لم يعرض القرآن الكريم للرجلين، إذا ضل أحدهما وأنكر ما شهد عليه، كما لم يعرض للرجل مع المرأتين.. إذا ضل عما شهد عليه. وإنما عرض للمرأتين فقط، وما قد يقع من إحداهما.. فما وجه هذا؟ نقول- والله أعلم-: إن الشهادة أمانة تحمّلها الشاهد، وقبلها طائعا مختارا، حسبة لوجه الله.. فإذا غيّر الشاهد وبدل فيما شهد عليه، فليس لأحد عليه من سبيل، وحسابه عند ربّه! سواء أكان الشاهد رجلا أو امرأة. ولكن لما كانت المرأة أقرب إلى السهو والنسيان من الرجل بسبب ما يعرض لها من أحوال جسدية، من حمل وولادة، ومن هزّات عاطفية، فى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 قيامها على شئون صغارها وما يعرض لهم- لما كانت المرأة على تلك الصفة هنا فإن استشهادها لم يكن إلا لضرورة، وذلك حين لم يكن ثمة أكثر من رجل واحد يصلح للشهادة! وهنا تقوم المرأتان مقام الرجل الآخر المطلوب للشهادة. ولما كان الضلال عن طريق الحق فى جانب المرأتين ليس مقصورا على إحداهما دون الأخرى، بل هو قدر مشترك بينهما، فقد تذكر إحداهما بعض ما شهدت عليه وتنسى بعضا، كأن تذكر أن الدين قدره كذا وتنسى الأجل المضروب له، أو تذكر أين كان مجلس العقد وتنسى زمانه، أو يختلط عليها الأمر فى من هو الدائن أو المدين.. على حين تذكر الأخرى ما نسيته الأولى، وتنسى ما تذكره صاحبتها.. وهكذا تكمّل إحداهما الأخرى، فيأتيان بالشهادة على وجهها الصحيح، أو على ما هو أقرب إلى الصحيح! فالمراد بالضلال هنا الحيدة عن الواقع، بسبب سهو أو نسيان، كما يضلّ السائر طريقه إلى الغاية التي يقصدها. وقوله تعالى: «وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا» (282) أمر موجه إلى الشهود بأداء الشهادة إذا ما دعوا إلى أدائها عند الحاجة إلى شهادتهم، وبهذا يتحقق الغرض المقصود من توثيق الدين، والإشهاد عليه. وفى التعبير عن الشهود بلفظ «الشهداء» الدال على علو القدر وشرف المنزلة- احتفاء بالشهادة وتكريم عظيم للشاهد، إذا كان أهلا لحمل الأمانة، وموضع ثقة بين الناس، حيث ائتمنوه، ورضوا به حكم عدل بينهما، ففى كلمته التي يشهد بها مقطع الحق. وقوله تعالى: «وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا» (282) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 هو تحذير من التهاون فى توثيق الدين أيّا كان قدره، فقد يستخف بعض الناس بشأن الدين، حين يكون قليلا، فلا يكتبه، ولا يحدد له أجلا، وهذا من شأنه أن يفتح بابا للخلاف، ثم الشقاق والعداوة. وكتابة الدين أيّا كان قدره هو العمل المبرور عند الله، لأنه قائم على العدل والإحسان، ولأنه هو الذي يضبط الشهادة ويقيمها على وجهها الصحيح، إذا اختلف الشهداء فيها، ولأنه من جهة ثالثة يبعد الريب والشبهات، حيث يرجع المتداينين إلى ما كتب، وضبط. وقوله تعالى: «إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ» (282) استثناء من الحكم العام المأمور به فى كتابة الدين. ففى عملية البيع والشراء، حيث تكون البضاعة حاضرة، والثمن حاضرا معجلا، وحيث تسلّم البضاعة ويقبض الثمن فى مجلس البيع- فى هذه العملية لا تكون الكتابة ضرورية، إذ لا غناء لها، ولا معوّل عليها بعد أن يتم تسليم البضاعة وقبض الثمن. وقوله تعالى: «تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ» إشارة إلى فورية التسليم والقبض، وتبادل البضاعة وثمنها بين البائع والمشترى. وقوله تعالى: «وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ» أمر توجيهى بأن يكون البيع والشراء بحضور شاهدين، ذلك أنه إذا لم يكن للكتابة أثر فى عمليه البيع الحاضر، فإن للشهود أثرهم فى حسم ما قد يقع بين البائع والمشترى من خلاف، فى مجلس البيع. كأن يختلفا فى الشيء المباع، كمية، أو عددا، ونحو هذا، أو أن يختلفا فى الثمن الذي تراضى به كل منهما، فيكون للشاهدين الكلمة الحاسمة فى هذا الخلاف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 وقوله تعالى: «وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ» (282) حماية للكاتب، وللشاهدين من أن يلحقهما أذّى فى هذا العمل الذي أدّياه حسبة لوجه الله. فالكاتب والشاهد فى العقود المبرمة بين المتعاقدين يؤديان عملا إنسانيا، حسبة لوجه الله، ومن الظلم أن يمسّهما سوء أو ينالهما أذى من أجل هذا العمل الذي يقومان به، وإلّا زهد الناس فى هذا العمل المبرور، إذا لم تيسر سبله، ولم يمط عنه كل أذى. لهذا جاء قول الله تعالى: «وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ» حماية للإحسان وللمحسنين من أن يكدر صفو الإحسان، وأن يساء إلى أهله بأى لون من ألوان الأذى المادىّ أو الأدبىّ. وقوله تعالى: «وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ» تحذير للدائنين والمدينين، والبائعين والمشترين، ولكل طرف من الطرفين المتعاقدين فى أية عملية يضبطها عقد ويشهد عليها شهود- تحذير لهؤلاء جميعا من أن ينال الكاتب أو الشاهد أذى منهم، فإن فعلوا كان ذلك فسقا منهم، وخروجا على سنة العدل والإحسان، وتعديا على حدود الله. وقوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (282) هذا أمر عام بتقوى الله، ومراقبته، والوفاء بأوامره ونواهيه على الوجه الأتم الأكمل.. وتقوى الله مطلوبة هنا فيما بيّنه الله تعالى من أحكام، وأوضحه من معالم، ورسمه من حدود فى عملية الدين، وفى البيع والشراء، فإنه إذا كانت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 تقوى الله بمحضر من قلوب المتعاملين هنا، استقام أمرهم، وسلم لهم دينهم ودنياهم جميعا. الآية: (283) [سورة البقرة (2) : آية 283] وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) التفسير: تبين هذه الآية حكما من أحكام الدين، وذلك حين يكون المتداينين على سفر، وليس هناك من كاتب يكتب لهما، كما أمر الله فى الآية السابقة، والحكم التعليمى هنا هو أن يقدّم المدين ليد الدائن رهنا يضمن دينه، وبذلك لا يكون هناك سبيل للمدين أن يماطل أو ينكر، فإن ماطل أو أنكر كان فى يد الدائن ما يفى بدينه، وهو الرهن المقبوض. قوله تعالى: «فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ» وذلك حين لا يكون فى يد طالب الدين ما يقدمه لمن يطلب الاستدانة منه كرهينة لما يستدينه.. ففى هذه الحال يترك الأمر لتقدير الدائن، فإن أمن المدين، واطمأن إلى سلامة دينه، واستشعر الوفاء بدينه، داينه، وجعل هذا الدين أمانة فى ذمته، يؤديه إليه فى الأجل المحدد له، على أن يشهد على هذا الدين. وقوله تعالى: «فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ» أمر إلزامى للمدين الذي ائتمنه الدائن، ولم يكتب دينه، ولم يكن فى يده رهن مقبوض فى مقابله- أمر إلزامى له أن يؤدى ما ائتمن عليه، فإن خيان الأمانة هنا جرم غليظ، إذ حكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 الدائن على نفسه، أنه غير أهل للثقة ولا مستأهل للجميل، الأمر الذي يجور على انسانيته، ويذهب بمروءته. وقوله تعالى: «وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ» تذكير للمدين أن يفىء إلى تقوى الله إذا حدثته نفسه بجحد الدين أو المماطلة فيه، فإن الله له بالمرصاد، إن أحسن أحسن الله إليه، وإن أساء أخذه بذنبه. «إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» (102: هود) . وقوله تعالى: «وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ» تحذير للشهود- فى جميع الأحوال- أن يكتموا ما استشهدوا عليه، فإن الشهادة أمانة، وجحودها، خيانة للأمانة. وقوله تعالى: «فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ» إشارة إلى أن الإثم قد استولى على قلبه الذي كان مستودع الشهادة، وإذ كتمها صاحبها فى قلبه، وأبى أن يرسلها حين طلب إليه أداؤها إلى أهلها، فقد علقت بقلبه، ورانت عليه، وتغير وجهها، واصطبغ بصبغة الخيانة والإثم. وقوله تعالى: «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» أي مطلع على ما ضمّت عليه القلوب، وما أعلنته أو أخفته. الآية: (284) [سورة البقرة (2) : آية 284] لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) في الآية استعراض لقدرة الله، وبسطة سلطانه، وعظمة قدرته، وسعة علمه.. وفى كل هذا يرى المؤمنون بالله أنهم إنما يتحركون ويعملون فى مجال القدرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 الإلهية، وتحت سلطانها، لا يخفى على الله منهم شىء ... وقوله تعالى: «وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ.» هو خطاب للشهود، وتحذير لهم من أن يكتموا الشهادة، فإن أبدوا ما فى أنفسهم مما استشهدوا عليه، أو أخفوه وكتموه، فإن الله بهم عليم، وهو محاسبهم على خيانتهم الأمانة، وكتمانهم الشهادة. وقوله تعالى: «فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ» بسط من الله تعالى ليده، التي تنال برحمتها ومغفرتها أولئك العصاة، الذين كتموا الشهادة، فيغفر الله لمن شاء منهم، ويعذب من يشاء، يغفر لمن يشاء كرما وفضلا، ويعذب من يشاء حقا وعدلا.. وذلك ما يشهد له قوله تعالى: «نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» (56: يوسف) فرحمة الله عامة شاملة، تنال المحسن والمسيء، والبرّ والفاجر.. كما يقول سبحانه: «رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ..» (156: الأعراف..) أما إحسان المحسنين فهو فى ضمان الله، لن يضيع أبدا! الآية: (285) [سورة البقرة (2) : آية 285] آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) التفسير: يخبر الله سبحانه وتعالى بإيمان الرسول بما أنزل إليه من ربّه، أي بالقرآن الذي أنزل عليه، وبما حمل هذا القرآن من أحكام وآداب، كما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 يخبر سبحانه بإيمان المؤمنين الذي اتبعوا النبي، على نحو الإيمان الذي آمن به النبىّ. وليس الإخبار بإيمان النبىّ والمؤمنين لمجرد الإعلام بمضمون هذا الخبر، وإنما لما ينكشف وراء هذا الخبر من الصورة التي كان عليها إيمانهم، فهذا الإيمان قائم على دعائم، هى: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، دون تفرقة بين أحد من رسله، فهم جميعا حملة رسالة الله إلى عباده، يعملون لغاية واحدة، هى هداية الناس إلى الله، وإقامتهم على صراط الله، ودين الله.. والتفرقة بينهم تفرقة للحق الذي جاءوا به، والحق وجه واحد، وطريق واحد، لا تختلف مناهجه، ولا تتفرق سبله. ومن تمام هذا الإيمان أيضا، السمع والطاعة لله ولرسوله، والإنابة إلى الله في العثرات والزلات. وقوله تعالى: «لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ» هو مقول لقول محذوف يدل عليه القول فى قوله تعالى: «وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا» أي قائلين لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا.» وفى هذا كله تعريض بأهل الكتاب، وخاصة اليهود، الذين فرّقوا دين الله، فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعضه، وعزلوا رسل الله بعضهم عن بعض كما عزلوا هم أنفسهم عن المجتمع الإنسانى كله. الآية: (286) [سورة البقرة (2) : آية 286] لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 التفسير: التكاليف التي حملها رسل الله إلى الناس، إنما هى لإصلاح معاشهم ومعادهم، وإقامتهم على طريق مستقيم، تطيب لهم فيه الحياة، حيث تجمعهم الأخوة والمودة، ويؤلف بينهم العدل والإحسان. وهذه التكاليف ليس فيها إعنات ولا تحدّ لقدرة الإنسان وقوة احتماله، وإلا كانت ضربا من النكال، ولونا من العقاب، الأمر الذي جاءت رسالات السماء على خلافه.. فما هى إلا رحمة من رحمات الله، وفضل من أفضاله على عباده، تفتح لهم مغالق الخير، والحق، والهدى. وقوله تعالى: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» هو البيان المبين لحقيقة الشرائع السماوية، وأنها المنهج التربوى السليم، لإصلاح أمر الفرد والمجتمع، وهى الغذاء الروحي والنفسي والعقلي للإنسان.. وإذ كان هذا شأنها فإنها لم تجىء إلا بما تتقبله النفوس السليمة، وتستجيب له، وتتفاعل معه، وتسعد به. وإذ كانت أحكام الشريعة عامة للناس كلهم، عامتهم وخاصتهم على السواء، وإذ كان الناس على درجات متفاوتة، فى القوة والضعف، وفى الصحة والمرض- فإن مما قضت به الحكمة فى ذلك أن جاءت الشرائع السماوية- وخاصة شريعة الإسلام- على مستوى الوسط للقدرة الإنسانية، بمعنى أن من فوق هذا المستوي تتسع قدراتهم لأكثر من تكاليف الشريعة، على حين أن من دون هذا المستوي لا تضيق نفوسهم به، وإن وجدوا فيه شيئا من العناء والجهد. هذا فى مجال الإنسانية كلها.. أما فى خاصة حياة الفرد من الناس، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 فإن الشريعة قد راعت الظروف الخاصة التي تعرض للإنسان، والضرورات التي تتحدّى قدرته، فوضعت لتلك الظروف وهذه الضرورات أحكاما خاصة، موقوتة بوقتها، ومقدورة بقدرها، فأباحت المحظورات عند الضرورات، ودفعت الحرج عن الضعفاء، والمرضى، والمسافرين، فرفعت عنهم بعض الأحكام، رفعا جزئيا أو كليا، بصفة مؤقته أو دائمة، وبهذه الأحكام الاستثنائية الواردة على الأحكام العامة، يرفع الحرج عن المؤمنين بالله، الحريصين على الوفاء بأحكام شريعته.. وهذا من رحمة الله بالناس، ولطفه بعباده: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (220: البقرة) . ثم إن فى قوله تعالى: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» . ما يجعل إلى الإنسان نفسه عند التطبيق العملىّ لأحكام الشريعة، أن يردّها إلى قدرته واحتماله، فما خرج منها عن قدرته، وجاوز احتماله، فقد تجاوز الله عنه، ورفع عنه الحرج فيه، شريطة أن يكون ذلك عن نية صادقة فى الامتثال لأمر الله، ورغبة خالصة فى مرضاته، بمعنى أن يحاول الإنسان أداء المطلوب صادقا مخلصا، فإن عجز أو قصّر فرحمة الله لن تضيق به، ولن تقيمه على الضر والأذى: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» . وقوله تعالى: «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» الكسب هنا غير الاكتساب.. فالكسب للحسنات والأعمال الصّالحة، والاكتساب للسيئات والأعمال السيئة.. وفى لفظ الكسب خفة، ولطف، واستقامة على اللسان، على خلاف لفظ الاكتساب وما فيه من ثقل، وقلق واضطراب.. «كسبت» و «اكتسبت» ! ولفظ «لها ما كسبت» يفيد الملكية، التي تقضى للمالك بالانتفاع بما ملك، والتصرف فيه بما ينفعه، وذلك واقع فيما يكسبه الإنسان من حسنات، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 وما يعمله من صالحات.. إنها له، وملك يمينه، أما لفظ «عليها ما اكتسبت» فهو يدل على إلقاء أعمال وأعباء على كاهل المكتسب، تنقض ظهره، وتقيد خطوه، فلا يبلغ غاية، ولا يحقق أملا. قوله تعالى: «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» . من رحمة الله بنا وألطافه علينا- أتباع هذه الملة السمحاء- أن دعانا إلى أن ندعوه بهذا الدعاء، الذي صاغه سبحانه من كلماته، وجعله سبحا لملائكته ولعباده الصالحين، يسبّحون له، ويدعون لنا به.. بل إنه سبحانه وتعالى يأتمّنا بهذا الدّعاء، ويصلى علينا به، ونحن نقول بما يقول، ونصلّى بما يصلّى.. فما أكثر رحمة الله بنا، وما أوسع فضله علينا.. إذ تقبّل دعاءنا قبل أن ندعو، واستجاب لنا قبل أن نكون! فقد رفع الله عنا الخطأ والنسيان، كما أخبر الرسول الكريم فى قوله: «رفع عن أمّتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» كذلك عافانا مما ابتلى به أمما قبلنا.. كأمة اليهود، الذين ابتلاهم الله بضروب شتى من البلوى، وحمّلهم من التكاليف ما أعنتهم وأرهقهم، عقابا لهم، ونكالا، جزاء كفرهم بآيات الله، ومكرهم بنعمه، وفى هذا يقول سبحانه: «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ» (160: النساء) ويقول سبحانه: «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ» (146: الأنعام) .. لقد عافانا الله من هذا الامتحان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 القاسي، فلم يأخذنا بذنوبنا، ولم يحملنا من التكاليف ما لا نطيق، وجعل لنا باب التوبة مدخلا نثوب به إليه، ونقترب منه، بعد أن بعدنا بذنوبنا عنه، إذ نضرع إليه قائلين: «رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» . وإنى لأحبّ أن أفهم قوله تعالى: «رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ» . على أنه- مع كونه دعاء مطلقا يدعو به المسلم فى كل وقت- هو تعويذة يلوذ بها المذنبون الذي تغلبهم أنفسهم، وتقهرهم أهواؤهم فيقترفون ما اقترفوا وهم فى هذا الضعف النفسي المستولى عليهم، فهم- والحال كذلك- قد وجدوا أمام أمر لا طاقة لهم به، وهم لذلك فى استخزاء، وفى حسرة وندم، لا يجدون إلا وجه الله يبسطون أيديهم إليه أن يعينهم على أنفسهم، فيقوّى من إيمانهم، ويشد من عزائمهم، فى هذا الصراع الدائر فى كيانهم، بين الإقدام على المعصية والإحجام عن مواقعتها، حتى ينتصروا على أنفسهم وينتهوا عمّا نهوا عنه.. وفى ختم هذا الدعاء العظيم الشامل بقوله تعالى: «أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» إلفات للمسلمين بأن غايتهم من هذا التضرع إلى الله، بإصلاح أمرهم واستقامة طريقهم- هو أن يكونوا آخر الأمر أهلا لهداية الناس إلى الله، وأن يصبحوا جبهة عاملة لنصرة الحق، وجندا مقاتلا فى سبيل الله، وبهذا تقوى جبهة الإيمان، وتضمر أو تزول دولة الكفر.. وإذ كان المؤمنون أولياء الله، ونصراء كلمته، فإن الله وليهم وناصرهم على عدوهم.. «أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 3- سورة آل عمران اسمها : سورة آل عمران، ومن أسمائها: «الزهراء» . وتسمى هى والبقرة: الزهراوين. نزولها: نزلت بالمدينة.. بعد البقرة، والأنفال. عدد آياتها: مائتا آية. عدد كلماتها: ثلاثة آلاف وأربعمائة وثمانون كلمة. عدد حروفها: أربعة عشر ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرون حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم الآية: (1) [سورة آل عمران (3) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) ذكرنا فى أول سورة البقرة ما يقال عن المراد من الحروف التي بدئت بها بعض السور فى القرآن الكريم الآيات: (2- 4) [سورة آل عمران (3) : الآيات 2 الى 4] اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4) التفسير: جملة «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» صفة لله، «والْحَيُّ» صفة ثانية، و «الْقَيُّومُ» صفة ثالثة. فالله سبحانه وتعالى الموصوف بالتفرّد بالألوهية، السرمدية الأبدية، التي لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 يسبقها ولا يلحقها عدم، وبالقيومية المبسوط سلطانها على كل شىء، القائم أمرها على كل شىء- هذا الإله هو الذي نزل الكتاب على محمد- صلوات الله وسلامه عليه- فمن هذا المقام الكريم الذي لا يطاول ولا يسامى كان متزّل هذا الكتاب الكريم، الذي يقول فيه المشركون والمنافقون- زورا وبهتانا- إنه من معطيات محمد، تلقاه من أصحاب العلم من أهل الكتاب، ولقنه من مدارسة الدارسين.. كما حكى القرآن الكريم ذلك عنهم فى قوله تعالى: «إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ» (103: النحل) وقوله سبحانه: «وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» (5: الفرقان) وقد جاء هذا القرآن بالحقّ الذي لا مرية فيه، لأنه من ربّ العالمين، جاء مصدقا لما سبقه من الكتب السماوية، لأنها جميعها من مصدر واحد، جاءت من الحق بالحق كما يقول سبحانه: «وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ» (105: الإسراء) والله سبحانه الذي أنزل القرآن بالحق، هو الذي أنزل التوراة والإنجيل من قبل هدّى للناس، وأنزل الفرقان أي القرآن كذلك هدى للناس. فالذين يكفرون بآيات الله التي أنزلها الله على رسله، وأودعها كتبه، لهم عذاب شديد، أعده الله لهم يوم القيامة، ولن يعصمهم من الله عاصم- ولن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا، «وَاللَّهُ عَزِيزٌ» عزّ سلطانه، وقد اعتز هؤلاء السفهاء بسفههم، فتطاولوا على حماه، وكفروا بآياته، واستخفوا بها. «ذو انتقام» يأخذ بنقمته من استخف بعزته! وفى الآيتين الكريمتين مسائل، منها: أولا: قوله تعالى: «نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ» فيه إشارة إلى أن القرآن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 الكريم نزل منجما أي مفرقا، يدل على هذا شاهد التاريخ، كما يدل عليه هذا اللفظ «نزّل» الذي يفيد الحركة والتفرق، بخلاف «أنزل» الذي يدل على الثبوت والوحدة. ثانيا: قوله تعالى: «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ» لم تذكر الكتب التي بين يدى القرآن، وإن كان المراد بها التوراة والإنجيل، وذلك الإطلاق إنما ليشمل جميع الكتب والصحف المنزلة على الأنبياء جميعا. ما بقي منها وما لم يبق، وما ذكر وما لم يذكر، لأنها جميعها من مورد الحق، يصدّق بعضها بعضا. وإذا نظرنا إلى الكتب المنزلة، حسب واقعها التاريخىّ نجد أن القرآن الكريم هو الذي بين يدى الكتب السماوية، وليست هى التي بين يديه، لأنه جاء إلى هذا الوجود تاليا لها، لا سابقا عليها. ولكن الكتب السماوية ليست أحداثا حادثة، وإنما هى وقائع فى علم الله، موجودة من الأزل، شأنها شأن جميع ما فى علم الله، وظهورها وانكشافها لنا يجىء موقوتا بإرادة الله مقدورا بحكمته.. ففى سير الأحداث من سجل الغيب وظهورها على مسرح حياتنا، نجد أن الكتب السماوية جميعها تقدمت القرآن الكريم، واحدا واحدا، والسابق منها بين يدى اللاحق، وبهذا التقدير تقع جميعها بين يدى القرآن! وليس الأمر كذلك فى حركة التاريخ، حيث تطوى الأحداث التي تجدّ، فكل حدث جديد فى هذه الحركة يمشى على آثار الحدث الذي مضى، ويخلّفه وراءه.. وحركة الزمن ليست على تلك الصورة، إنها حركة واحدة، أشبه بحركة القطار.. والأحداث محمولة على جزئيات هذا الامتداد الزمنى، كما يحمل الأشخاص والأشياء فى عربات القطار، والمتقدم منها يظل دائما متقدما بين يدى المتأخر! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 وننظر إلى القرآن الكريم فى هذا الوضع فنجده وقد أخذ مكانه من الكتب السماوية، كمصدر إشعاع لها، ومركز انطلاق لكلمات الله منها، يرسل كل حين شعاعات من نور الله، إلى عباد، الله على يد رسل الله، ويقدمها بين يديه، وكأنها تمهد له الطريق، وتهيىء له الأفق الذي يستقبله، حين يطلع على الناس بشعلته المقدسة، ويملأ الوجود بنوره القدسىّ.. وعلى ضوء هذا التصوّر يمكن أن نفهم قول الله تعالى: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ» (48: المائدة) . فهذه الهيمنة إنما تكون لقوة هى مصدر لتلك القوى النابعة منها، المستندة إليها، فيكون لها بهذا الوضع مكان الرقابة عليها، والضبط لخط سيرها.. ثالثا: ومن الهيمنة التي للقرآن على الكتب السماوية التي بين يديه أنه هو المصدّق لها، الشاهد الذي ترى فى أضوائه وفى أحكامه، وأخباره وآدابه- آيات صدقها، وأنها من مورد هذا الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إذ ليس بعد شهادة القرآن شهادة، ولا وراء الحق الذي يقوله حق، وإنه سيظل قائما هكذا إلى يوم القيامة، معجزة تنحدى الناس جميعا، أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة من مثله،.. «وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (23: البقرة) ومن كان هذا شأنه، وذلك إعجازه فله أن يقول، وعلى الناس أن يسمعوا، وله أن يحكم، وعلى الناس أن ينزلوا على حكمه، طوعا أو كرها.. رابعا: قوله تعالى: «وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ» بعد قوله تعالى: «نَزَّلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 عَلَيْكَ الْكِتابَ» . وذلك لاختلاف المقامين، فالله سبحانه هو الذي أنزل الفرقان، ونسبة هذا الخبر إلى الله سبحانه وتعالى هنا هي نسبة مجردة، لا يراد بها غير إثبات الحكم الذي تضمنه الخبر، وهو أنه تعالى هو الذي أنزل القرآن.. أما الخبر فى قوله تعالى «نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ» فليس مرادا به مجرد النسبة إلى الله تعالى، بل وبيان الصورة التي نزل عليها الكتاب الكريم، وأنه نزل على النبي مفرقا ولم ينزل جملة واحدة. الآيتان: (5، 6) [سورة آل عمران (3) : الآيات 5 الى 6] إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) التفسير: هنا استعراض لقدرة الله، وكشف لمظاهر هذه المقدرة، فيما أبدعت وصورت، من آيات مبثوثة فى ملكوت السموات والأرض! فهذه القدرة محيطة بكل شىء، عالمة بكل شىء، وهو سبحانه خالق كل شىء، فما من شىء إلّا وهو من فيض صنعه وتدبيره، فكيف لا يعلم ما خلق؟ «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (14: الملك) ومن شواهد قدرة الله، وسلطان علمه، تلك العملية التي تتخلق منها الكائنات الحية، والتي من بعض كائناتها الجنس البشرى! فهذا الإنسان، الذي يفور كيانه عظمة وكبرياء. حتى ليكاد يطاول الإله فى عظمته وكبريائه- هذا الإنسان نشأ على يد القدرة، وتنقّل فى أطوار الخلق، من عدم إلى وجود.. وفيما بين العدم والوجود قطع مراحل طويلة، وتقلب فى صور شتى.. من نطفة، إلى علقة، إلى مضغة، إلى عظام عارية، إلى عظام يكسوها اللحم، إلى كائن له سمع وبصر وشم وذوق.. كل هذا وهو فى عالم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 مطبق عليه.. «فى ظلمات ثلاث» فى بطن أمه، فإذا خرج من هذا العالم إلى عالم الناس.. تنقل فى أطوار.. من الطفولة، إلى الصبا، إلى الشباب، إلى الاكتهال، والشيخوخة.. فأين أول الإنسان من آخره؟ وأين النطفة من الطفل؟ وأين الطفل من الشاب؟ « «أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً» (67: مريم) . وقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ» يشير إلى مالله سبحانه من شأن، فى تقدير خلقنا، وتحديد أرزاقنا، وأوضاعنا فى الحياة، حيث اختلفت صور الناس، وتباينت حظوظهم، حسب إرادة الله وتقديره.. فكل إنسان منا هو عالم مستقل بدأته، دائر فى الفلك المقدور له. الآية: (7) [سورة آل عمران (3) : آية 7] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7) التفسير: اختلف الأئمة المفسرون فى هذه الآية، وتضاربت آراؤهم فى مواضع كثيرة منها.. فى الآيات المتشابهة.. ما هى؟ وما مدلول التشابه هذا؟ ومن هم المقصودون بقوله تعالى: «الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ؟ وهل الوقف على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 لفظ الجلالة فى قوله تعالى: «وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ» ؟ أم يعطف عليه قوله سبحانه «وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» ؟ وهل الواو هنا للعطف أم للاستئناف؟ وفى الإجابة على أي سؤال من هذه الأسئلة، عشرات من الأجوبة التي يذهب كل منها مذهبا غير مذهب صاحبه! وندع كل هذا، وننظر فى الآية الكريمة نظرا مباشرا، يصافح وجهها المشرق، ويتملّى بيانها المبين.. ونقف قليلا عند قوله تعالى: «وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ» ونطلب المعنى اللغوي لكلمة «التأويل» . وإذ ننظر فى معاجم اللغة.. لا نجد فيها ما يشفى.. إذ لا تبعد كثيرا عن معنى التفسير، أو التخريج، وقد يراها بعضهم هى والتفسير سواء، فلا فرق عندهم بين التفسير والتأويل. والقرآن الكريم- وهو الحجة على اللغة، وليست اللغة حجة عليه- يفرق بين التأويل والتفسير، ويجعل لكل منهما مجالا لا يعمل فيه الآخر. يستعمل القرآن الكريم «التأويل» للأمور الخفيّة الغامضة، التي يخفى ظاهرها ما ضمّ عليه باطنها، من أمور محجبة وراء هذا الظاهر.. وبين الظاهر غير المراد والباطن المراد بون شاسع، وبعد بعيد، لا يبلغه إلا بصر ذوى البصائر، ممن رضى الله عنهم، ورفعهم إلى هذا المقام الكريم، الذي يطلعون منه على ماوراء الحجب من علم الله. ذكر القرآن الكريم أن هذا المقام الكريم- مقام التأويل- كان ليوسف عليه السّلام، فقال تعالى: «وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ» (21 يوسف) . وقال تعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 «وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ» (6: يوسف) وقال سبحانه على لسان يوسف: «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ» (101: يوسف) وقال سبحانه على لسانه أيضا: «يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ» (100: يوسف) وقال تعالى على لسان صاحبى السجن «نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» (36: يوسف) وقال سبحانه على لسان يوسف: «لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي» (37: يوسف) وقال تعالى على لسان أصحاب فرعون: «وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ» (44: يوسف) . وقال تعالى على لسان أحد صاحبى السجن، وهو الذي نجا: «أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ» (45: يوسف) . وكما كان ليوسف هذا العلم الذي فضل الله عليه به، فكشف بهذا العلم ما وراء تلك الحجب من الأزمنة والأمكنة.. كان ذلك العلم أيضا للعبد الصالح صاحب موسى عليهما السلام- والذي يقول لله تعالى فيه: «فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً» (65: الكهف) . وفى صحبة موسى للعبد الصالح، رأى موسى العجب فى أمور كان يأتيها العبد الصالح بين يديه، فتجرى فى وضع مقلوب، كما يبدو ذلك فى مستوى النظر الطبيعي للناس، بينما هى- فى حقيقة أمرها- تسير فى أعدل وجه وأحسنه! كما ظهر ذلك منها، حين كشف العبد الصالح لموسى، عما وراء هذا الظاهر غير المستقيم، أو بمعنى أوضح، حين كشف له عن حجاب الزمن، وأراه مسيرتها، والنهاية التي تنتهى إليها، وما تؤول إليه عاقبة أمرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 وفى هذا يقول العبد الصالح لموسى- بعد أن حجز موسى عن السير ممه فى هذا الطريق- فى هذا يقول، كما قال القرآن على لسانه: «هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» (78: الكهف) هذا ما ورد فى القرآن الكريم من لفظ «التأويل» وهو فى جميع موارده لم يستعمل إلا فى الكشف عن أمور غامضة، متخفية وراء ستر، تحول بين الناظر إليها وبينها.. وهى- كما نرى فى سورة يوسف- أحلام.. هى رموز إلى أشياء وأحداث، لم يستطع قراءتها وفك رموزها إلا يوسف عليه السلام.. أو هى كما نرى فى مسيرة العبد الصالح مع موسى، أضغاث أحلام من أحلام اليقظة.. لا يكاد المرء يصحو، حتى ينكرها، وينفض أطيافها المحوّمة أمام عينيه. فالتأويل على هذا هو فك طلاسم ورموز، يقف الناس جميعا أمامها حائرين، ويقول فيها كل إنسان يقول، وينظر كل ناظر إليها بنظر.. وهيهات أن يلتقى قول بقول، أو يقع نظر على نظر! فكل ما يقال فيها هو رجم بالغيب، إلا من علّمه الله تأويل الأحاديث! وقد آن لنا بعد هذا أن ننظر فى الآية الكريمة: فقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ» . يبيّن الأسلوب الذي جاءت عليه آيات القرآن.. فمنه الآيات المحكمة، وهى التي تنطق بدلالتها نطقا واضحا محددا لا يقبل التخريج أو التأويل.. وهذه الآيات هى التي تحمل أحكام الشريعة.. من صلاة وصيام، وزكاة، وحج، كقوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 تعالى: «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ» وقوله سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» وقوله: «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» . وكذلك الآيات التي تتعلق بالإيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والجنة والنار.. لأن هذه أمور إن حملها نص غير واضح الدلالة محدد المفهوم- أوقع الناس فى لبس وخلاف، وذهب كلّ فيها مذهبا، ففرقوا دين الله، وتفرقوا فيه، وهو الذي من شأنه أن يجمعهم عليه، وأن يجتمعوا هم على كلمة سواء فيه. فهذا المحكم من آيات الكتاب الكريم، يعطى دلالته، محددة واضحة، لأول نظرة فيه. وهناك آيات متشابهة، تحتمل وجوها من التأويل والتخريج.. وسنعرض لها بعد قليل. وبين الآيات المحكمة والآيات المتشابهة آيات ليست من هذه أو تلك، ليست محدّدة الدلالة، ولا مغلقة المفهوم.. بل يمكن- مع النظر السليم- أن ينكشف مدلولها، ويتحدد مفهومها، وذلك هو معظم القرآن، فيما جاء فى الأخلاقيات وفى الأحكام الجزئية. ذلك أن القرآن الكريم لم يجىء على الأسلوب العلمي، الذي يصبّ قواعد العلم ومقرراته فى قوالب لفظية جامدة، لا تنفتح إلا على حكم واحد لا شىء بعده، بل جاء القرآن على أسلوب أدبى رفيع، استولى على قمة الفن الأدبى، بلا منازع، وهذا الأسلوب مهما كان من الدّقة والإحكام لا يمكن أن ينضبط على القالب العلمي، ولا أن تحمل ألفاظه أحكاما صامتة- مغلقة- مثل ما تحمل ألفاظ الأسلوب العلمي، بل تجىء الأحكام فى هذا الأسلوب مغلّقة فى غلائف رقيقة مشعّة، تومىء إلى المعنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 ولا تكشفه، وتتخافت به ولا تجهر! وهذا ما يجعل للقرآن الكريم حياة متجددة فى العقول وفى القلوب، لا يمل مرتله الترتيل أبدا، إذ يجد لما يعاود ترتيله روحا فى كل مرّة، ووجها جديدا في كل ترتيلة.. ونعود إلى المتشابه.. ما هو؟ وأين هو فى القرآن؟ وما الحكمة منه؟ المتشابه- كما قلنا- هو المغلق، الذي لا ينكشف للنظر، بل يتراءى لمعطيات الحدس والرجم بالغيب، أشبه بالأحلام وأضغاث الأحلام التي يتأولها المتأولون، ويقول فيها القائلون! وليس يعلم قولة الحق فيها إلا علّام الغيوب.. ذلك هو المتشابه. أما أين هو فى القرآن.. فإنا إذا نظرنا فى كتاب الله، فيما بين أوله وآخره نجد أن قوله تعالى: «وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ» يلفتنا لفتا قويا إلى هذا المتشابه، وهو تلك الأحرف المتقطعة التي تبدأ بها بعض سور القرآن الكريم، مثل «الم، الر، المر، كهيعص، طس، طسم ... » فهذه الأحرف هى التي يقف أمامها دارس القرآن حائرا، لا يدرى لها مفهوما، إلا أن يكون ذلك بضرب من الحدس والتخمين، ولهذا كثرت فيها تأويلات المتأولين، إلى أن جاوزت السبعين قولا فيها، بل ويمكن أن نزاد هذه الأقوال إلى مئات، بل وتتسع لألوف، دون أن يكون قول أحق فيها من قول، أو أولى بالقبول والتسليم.. إذ كل الأقوال هى اجتهاد شخصى، كالحدس عن شىء داخل صندوق مغلق، ولهذا كان أعدل قول فيها وأصدقه هو القول: «الله أعلم بمراده» فما يعلم تأويلها إلا الله! وقد عرفنا معنى التأويل، وأنه- كما جاء فى القرآن- لا يكون إلا فى مواجهة الأمور المغلقة، كالأحلام وأضغاث الأحلام! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 قوله تعالى: «فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ» . أي إن الذين فى قلوبهم مرض، بما عشّش فيها من نفاق، وضلال.. هؤلاء لا ينظرون فى كتاب الله، ولا يقفون عند محكم آياته، لأنهم لا يؤمنون به، بل يجعلون همهم كله فى صيد ما يمكن صيده من كتاب الله، من هذا المتشابه من كلماته، التي أشرنا إليها، والتي يمكن ألا يقال فيها أىّ شىء، كما يمكن أن يقال فيها كل شىء! لأنها- كما قلنا- كتاب مغلق.. إذا سئل الإنسان عما فيه، فإن احترم عقله، قال: «لا علم لى» ، وإن سفه وحمق، قال، وأكثر القول، وتحدث وأطال الأحاديث بما هو أكثر مما فى الكتاب امتدادا وطولا، وربما كان الكتاب فى علم الحساب، على حين يحسبه المتخرصون كتابا فى الفقه، أو الحديث، أو الأدب، أو الموسيقى مثلا!! وهؤلاء من مرضى القلوب، إنما وقفوا عند هذه المتشابهات، لأنها تفتح لهم أبوابا واسعة إلى أن يقولوا فيها ما يشاءون، وأن يحمّلوها من المعاني ما يريدون من مقولات، تفتن وتضلّ، دون أن يقف لهم أحد، أو يفنّد مقولاتهم مفنّد، فإذا واجههم أحد، أو حاجّهم محتاج سألوه رأيه فيها، وقوله عنها، وقد عرفنا أنها تتسع لكل رأى، وتتقبل كل قول، وليس فيها إلا قول واحد، علمه عند علام الغيوب. «وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ» ! .. ولو كان هؤلاء الزائغون المنافقون يؤمنون بالقرآن، وبأنه من عند الله، لكان لهم أن يقولوا فى المتشابه ما يقولون، مما يؤدى إليه نظرهم واجتهادهم، ولكان لهم من إيمانهم ما يعصمهم من أن يزلّوا ويضلّوا، ولكنهم- كما عرفنا- لا يمسكون من القرآن إلا بتلك الكلمات المتشابهة، التي رصدها الله ابتلاء وفتنة، تزداد بها قلوب المنافقين مرضا إلى مرض، ورجسا إلى رجس، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 أما المؤمنون فقد عافاهم الله من هذا البلاء، وعصمهم من تلك الفتنة، لأنهم يتقبلون هذا المتشابه كما يتقبلون المحكم وغير المتشابه من كتاب الله، ويقولون فيها جميعا: «كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا» . وقوله تعالى: «وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ» . هو بيان لموقف المؤمنين من متشابه القرآن، إزاء موقف المنافقين منه، وهو أنهم- أي المؤمنون- يؤمنون بالمتشابه إيمانهم بالمحكم وبغير المتشابه، إيمان تسليم وامتثال، لأن كتاب الله- المتشابه، وغير المتشابه والمحكم- كله من عند الله، فليس فى المتشابه- والأمر كذلك- ما ليس فى كتاب الله، لأنه بعض كتاب الله، ولا يخرج البعض الكلّ، وإلّا كان غريبا عنه! فإذا كان لقائل أن يقول فى هذا المتشابه فليقل ما يشاء، شريطة أمر واحد، وهو ألا يخرج فى قول من أقواله عمّا فى كتاب الله من أحكام ومقررات. ولهذا لم يكن ثمة حرج عند علماء التفسير أن يقولوا فى هذه المتشابهات ما قالوه من مختلف الآراء. لأنهم يقولون ما يقولون، وهم مؤمنون بكتاب الله، كله، محكمه ومتشابهه. وفى قوله تعالى: «وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ» إشارة إلى أن الراسخين فى العلم- وهم ما هم فى العلم والحكمة والعقل- إذا كان موقفهم من هذا المتشابه موقف عجز وتسليم، فلا ينطقون إزاء هذا المتشابه- إذا نطقوا- إلّا كان قولهم: «آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا» - إذا كان هذا هو موقف الراسخين فى العلم، فإن من السفاهة والحمق والجهل جميعا أن يقول غيرهم مما لا رسوخ له فى العلم- غير هذا القول، وألّا يؤمن إيمان عجز وتسليم، كما آمن الراسخون فى العلم إيمان عجز وتسليم، بهذا المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 وعلى هذا، فإنا نرى أن الوقوف على لفظ الجلالة فى قوله تعالى: «وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ» هو وقوف لازم، حتى يكون العلم بتأويل هذا المتشابه مقصورا على الله وحده، أما الراسخون فى العلم فهم والجاهلون سواء فى هذا المتشابه، لا يملكون إزاءه إلا التسليم بالعجز، وإلا أن يقولوا: «آمنّا به» على ما هو عليه، لأنه هو والمحكم على سواء.. «كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا» . وهذا موقف يجب أن يتملّاه العقلاء، وينتفع به أولو الألباب، وذلك بقياس الغائب على الشاهد، والبعيد على القريب، وإحالة المتشابه على المحكم! الآية: (8) [سورة آل عمران (3) : آية 8] رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) التفسير: مما يقضى به العقل، وينزل على حكمه العقلاء، أن تكون الأحداث والمواقف دروسا نافعة، وعبرا مثمرة، يجتنى من ثمرها الخير، ويدفع بها البلاء. وقد كان فى الموقف الذي وقفه أهل الزيغ والضلال والنفاق، من المكر بآيات الله، ما أركسهم فى الفتنة، وأغرقهم فى الضلال، حيث طرحوا كتاب الله وراء ظهورهم، وتعلقوا بالمتشابه من آياته، ليفتنوا الناس ويضلوهم، بما يتأولون لهم من مقولات عمياء.. فزادهم الله عمى إلى عمى، وضلالا إلى ضلال. وإذ يرى المؤمنون هذا الموقف الذي اتخذه الزائغون، فتقطعت بهم الأسباب، التي كانت تصلهم بالإيمان، والتي كان جديرا بهم- لو عقلوا- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 أن يستعصموا بها، وأن يحكموا فتلها، بتوجيه قلوبهم إلى الله، وإخلاص نياتهم للإيمان به- إذ رأى المؤمنون هذا فزعوا إلى الله وضرعوا بين يديه، ألّا يصير أمرهم إلى ما صار إليه أمر هؤلاء السفهاء الحمقى، الذين غلبت عليهم شقوتهم.. فضلوا سواء السبيل.. فبين يدى الله يضرع المؤمنون بهذا النداء الذي ساقه الله إليهم، ليكون سفينة النجاة لهم «رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ» . الآية: (9) [سورة آل عمران (3) : آية 9] رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9) التفسير: ومن تمام الإيمان بالله، وجلاء القلوب من الشرك والزيغ، الإيمان بالبعث والجزاء، فبهذا الإيمان تقوى صلة المؤمن بربه، وتشتدّ مراقبته له، وحرصه على مرضاته، لينجو من شر هذا اليوم «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» ويفوز بمرضاته ورضوانه.. وإنه لو لم يكن هناك بعث، ولا حساب، ولا جزاء، لكان الإيمان بالله مجرد تصور عقلى، لا يكاد يؤثر فى سلوك الإنسان، أو يمسك زمام هواه! وإذ يذكر المؤمن هذا اليوم- يوم البعث والجزاء- ويستحضر أهواله، وما يلقى فيه العصاة من عذاب- يخشع لله ويخضع، ويفكر أكثر من مرة، قبل أن يركب منكرا، أو يواقع معصية.. ولو استحضر المؤمن هذا اليوم، وتمثله فى خاطره، وأشهده كل موقف تراوده فيه نفسه على منكر، ويؤامره فيه هواه على معصية- لكان له من ذلك قوة تعينه على الخلاص من دوافع شهواته، ونزوات أهوائه، ولهذا كان مما فضل الله به على المؤمنين، أن جعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 ذكر هذا اليوم عبادة يتعبدون بها فيما يتلون من كلماته.. «رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ» .. وبهذا تظل أنظارهم شاخصة إلى هذا اليوم، يرجون رحمة الله، ويخشون عذابه. «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ، وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً» . الآية: (10) [سورة آل عمران (3) : آية 10] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) التفسير: وهذا عرض لبعض ما يقع فى يوم البعث، وما يلقى فيه الذين كفروا بالله وباليوم الآخر من نكال وبلاء، حيث يدعّون إلى نار جهنّم دعّا. فلا يغنى عنهم فى ردّ هذا البلاء ما كان لهم من مال وبنين، ومن أهل وصديق، فلقد أفردوا من كل شىء، وصفرت أيديهم من كل شىء، ومنادى الحق يناديهمَ قَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً» (48: الكهف) .. وفى هذا ما يفتح أنظار الغافلين عن هذا اليوم، إلى ما فيه من أهوال ونكال، لأهل الزيغ والضلال، فيحذرون هذا المصير المشئوم. الآية: (11) [سورة آل عمران (3) : آية 11] كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 التفسير: الدأب: السعى، والعمل، والحال الذي يبلغه المرء بسعيه وعمله. وقد ضرب الله سبحانه وتعالى للكافرين مثلا بآل فرعون- وهم جماعة الفراعين- الذين استكثروا من الدنيا، وبلغوا من السلطان والقوة ما بلغوا، حيث استطالوا بما فى أيديهم من سلطان وقوة، وقال قائلهم للناس ما حكاه القرآن عنه: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى» (24- 25) : النازعات. هكذا يغرى السلطان ويغوى، إلّا من عصم الله، وقد كان فرعون مثلا بارزا للكفران بنعمة الله، والاغترار بما مكّن الله له فى الأرض. فقال تعالى: «وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ «1» الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ» (10- 14: الفجر) . وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» أي الذين سبقوا هؤلاء الفراعين فى الضلال والعتوّ، إذ ليس هؤلاء الفراعين هم أول من حادّ الله وكفر به، فالكفر قديم فى الناس، لا يسلم منه جيل من أجيالهم «إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» (34: إبراهيم) . وهؤلاء الكفرة جميعا- قريبهم وبعيدهم، سابقهم ولاحقهم- لن يفلتوا من قبضة الله، ولن ينجوا من عذابه.. «فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ» إذ انقطع عملهم من الدنيا، وصاروا إلى الله بما اقترفوا من   (1) المراد بالأوتاد هنا تلك الأهرامات التي رفعها فراعين مصر على وجه الأرض، فكانت جبالا كالجبال، التي هى أوتاد الأرض: «أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً» (6، 7: النبأ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 أوزار، يحملونها على كواهلهم إلى يوم الجزاء، حيث ينزل بهم العذاب الأليم بما حملوا من كفر غليظ! وفى هذه المثل، وتلك النذر، عبرة لهؤلاء الكفار الذين أعنتوا رسول الله، واستطالوا بقوتهم على ضعاف المسلمين بمكة، وسلطوا عليهم ألوانا من العذاب والنّكال.. فلينظروا إلى ما نزل بمن كانوا أشدّ منهم قوة وأكثر بأسا، وأوسع سلطانا.. كيف أخذهم الله، فلم يغن عنهم ما كسبوا من الله شيئا. الآية: (12) [سورة آل عمران (3) : آية 12] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) التفسير: فى سكرة السلطان، يفقد كثير من الناس صوابهم، ويضل عنهم رشدهم، فتمرّ بهم العبر وهم عنها غافلون.. وفيما ذكر الله سبحانه- مما أخذ به الطغاة والظلمة، ما فيه عبرة ومزدجر للطغاة والظلمة، من كفار مكة.. ولكنهم فى سكرتهم يعمهون. وإنه لكى تنقطع أعذارهم ولا يكون لهم على الله حجة، فقد أمر الله نبيّه عليه السّلام، أن يلقاهم صراحة بهذا النذير، وأن يقرع آذانهم بما ينتظرهم من مصير مشئوم، إن هم ظلّوا على ما هم عليه من عمى وضلال.. «سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ» فلا حظّ لهم فى الدنيا ولا فى الآخرة.. إذ لا يعصمهم سلطانهم، ولا تمنعهم كثرتهم وقوتهم، من أن يلقوا الهزيمة فى هذه الدنيا على يد هؤلاء الذين استضعفوهم واستبدّوا بهم، وهذا من أنباء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 الغيب التي حملها القرآن عزاء وبشرى للمؤمنين، إذ تلقّوا هذا الوعد الصادق الذي لا يخلف أبدا، فهوّن عليهم البلاء الذي هم فيه، وربط على قلوبهم بالصبر، انتظارا ليوم النصر، وقد جاء تأويل هذا فى تلك الخاتمة التي ختمت بها حياة الكفر والكافرين، يوم فتح مكة، يوم جاء نصر الله والفتح، ودخل الناس فى دين الله أفواجا. هذا ما كان ينتظر الكافرين فى الدنيا، التي ظنوا أنهم يمسكون منها بالسبب القوىّ الذي لا ينقطع.. أما فى الآخرة فالأمر أدهى وأمرّ.. حيث تنتظرهم جهنم بسعيرها المتسعر، وعذابها الأليم.. «وَبِئْسَ الْمِهادُ» . الآية: (13) [سورة آل عمران (3) : آية 13] قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) التفسير: إن يكن ثمّه شكّ عند أحد فيما سيلحق هؤلاء الكافرين المغترّين بكثرتهم وقوتهم على أيدى هذه القلّة المستضعفة من المؤمنين- فالشاهد حاضر بين أيديهم، والآثار ماثلة لهم فى أنفسهم. فهذا يوم بدر- وما زال غبار المعركة منعقدا فى سمائه، وجثث قتلى المشركين وأشلاؤهم متناثرة على أرضه، وما زالت فلول الجيش المنهزم تحبو حبوا نحو مكة، مثخنة الجراح، متقطعة الأنفاس، موقرة بالخزي والعار- هذا يوم بدر يمثل لهؤلاء المشركين ما ينتظرهم فى مستقبل الأيام، من خزى وهزيمة على أيدى المسلمين، وإن قلّ عددهم وعدتهم، فليس الأمر أمر عدد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 وعدة، وإنما هو أمر إيمان بالحق. وثبات عليه، واستشهاد فى سبيله، ولقد رأى المشركون ذلك بأعينهم، إذ جاءوا بعددهم وعدّتهم، والمسلمون بين أيديهم قلة فى العدد والعدة «يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ» .. فانتصرت الفئة القليلة على الفئة الكثيرة: «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» (249: البقرة) فليستيقن المؤمنون، ولينتظر المشركون، فإن ما وعد الله به واقع لا شك فيه. هذا والظاهر- والله أعلم- أن هذه الآية وما قبلها كان نزولها عقب موقعة بدر، بل ربّما والمشركون فى طريقهم بعد الهزيمة، لم يبلغوا مكة بعد، وفى هذا ما يضاعف من حسرتهم، ويملأ قلوبهم يأسا، من كل أمل يتعزّون به فى مستقبل الأيام.. فأيامهم المقبلة أشد سوادا وأكثر شؤما من يومهم هذا الذي هم فيه. الآية: (14) [سورة آل عمران (3) : آية 14] زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) التفسير: هذا جواب عن سؤال يعرض فى كل موقف يتصارع فيه الحق والباطل، وهذا السؤال هو: لم هذا الضلال من الناس؟ ولم هذا الباطل الذي يمسكون به ويحرصون عليه؟ وفى الآية الكريمة الجواب على هذا.. فالناس- كل الناس- مفطورون على حبّ الاقتناء، والاستزادة مما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 يقتنون، من الأشياء التي تغذّى عواطفهم، وتشبع حاجاتهم الجسدية، والنفسية، وتنزلهم فى الحياة منزلا عاليا رفيعا، يبسط لهم سلطانا يستجيب لكلّ ما يدّعون وما يشتهون! هذه طبيعة فى الناس، غير منكرة، ولا متكرّهة، لأنها قوة عاملة فى الحياة، بها يخفّ الناس إلى السعى والجد، والمغامرة والمخاطرة،، ولولاها لما خطت الإنسانية هذه الخطوات الواسعة، إلى العمران والمدنية! وهذا فى ذاته خير للإنسانية وكسب للناس. ولكن الشيء إذا زاد عن حدّه انقلب إلى ضدّه- كما يقولون. وهذا ما يحدث لغريزة حبّ الاقتناء، إذا جاوزت حدّها، وخرجت عن سنن القصد والاعتدال! إنها تتحول حينئذ إلى شره قاتل، يصير به الإنسان حيوانا ضاريا، يشتبك فى صراع دام مع كل من يلقاه! وقوله تعالى: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ» عرض لصور مما تشتهيه النفس، وتحرص عليه، وتستكثر منه.. النساء والبنين، والذهب والفضة، والخيل المعلّمة، والأنعام، والحرث والزرع.. ولم يتحدث القرآن عن الدّور والقصور والأناث والرياش، ولا عن ألوان الطعام، ولا عن الخدم والأتباع، وكلها مما تشتهيه النفوس، وترغب فيه.. لم يذكر القرآن الكريم هذا، ولا كثيرا غيره من مطالب النفس- لأنه ذكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 الأصل الذي ترجع إليه كل هذه الأشياء، وهو المال، من الذهب والفضة والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، فبهذا المال ينال كل هذا وأكثر من هذا، فحيث كان المال كان معه الجاه والسلطان، وكل متع الحياة، لمن أرادها من أصحاب المال. وقد ذكر القرآن النساء والبنين والذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث، لأنها أصول قائمة فى النفوس، لا تتغير بتغير الأزمان واختلاف الأمم! النساء رغيبة الرّجال من جميع الشعوب.. الأغنياء والفقراء. والبنون قرة عين الوالدين، فى كل زمان ومكان.. أغنياء وفقراء. والذهب والفضة.. لهما حب مستقل لذاتهما، حيث يجد الإنسان القوة والعزة، بامتلاكهما، ولو لم يسخرّهما لمأرب من مآربه.. والخيل المسوّمة، (أي المعلّمة) نموذج للمراكب الطيبة، التي تجمع بين البهجة والمتعة. والأنعام والحرث، نموذج آخر لمتعة العين وبهجتها لهذا المال المتحرك فى الإنعام، والمزدهر الثمر فى الزروع والجنات. وقوله تعالى: «ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا» إشارة إلى أن هذا الذي يرغب فيه الناس ويشتهونه فى حياتهم، إنما هو متاع وزاد للحياة الدنيا، يزول بزوال هذه الحياة، ويفنى بفناء الطاعمين له.. وقوله تعالى: «وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ» إلفات إلى حياة أخرى غير هذه الحياة، لا يزول نعيمها، ولا تفنى لذاذاتها. تلك هى الحياة الآخرة، التي أعدّ الله فيها لعباده المتقين، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 الآية: (15) [سورة آل عمران (3) : آية 15] قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) التفسير: ذلك هو حسن المآب الذي أعده الله لعباده المتقين.. جاءت هذه الآية الكريمة شارحة له، بهذا الإعلان لذى أمر الله نبيه الكريم أن يؤذّن به فى الناس، وأن يلفت إليه أولئك الذين غلبتهم شهواتهم، فأذهبوا طيباتهم فى حياتهم الدنيا، ولم يستبقوا شيئا للآخرة. وفى قوله سبحانه: «بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ» إشارة إلى أن تلك الشهوات التي زينت للناس من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث- ليست شرا فى ذاتها، وإنما فيها خير لمن أخذ منها باعتدال وقصد- كما قلنا- ولكن مع هذا فهناك ما هو خير من هذا الخير، وهو ما أعدّه الله للمتقين فى الدار الآخرة من جنات تجرى من تحتها الأنهار، وأزواج مطهرة.. وفوق هذا كله رضوان الله، الذي يفيض الخير كله على أهل الرضا.. جعلنا الله سبحانه وتعالى منهم، بفضله وكرمه.. هذا، والملاحظ أن الله سبحانه عوّض المتقين فى الآخرة عن متع الدنيا وشهواتها، جنات تجرى من تحتها الأنهار، وأزواجا مطهرة.. ولم يكن فيما عوضهم به الذهب والفضة، ولا الخيل المسوّمة والأنعام، ولا البنين.. فكيف هذا؟ والجواب: أنه لا حاجة إلى ذهب وفضة فى الدار الآخرة، وفى جنات النعيم، حيث كل شىء حاضر عتيد لأهل الجنة «لَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ» . فلا بيع ولا شراء هناك. وكذلك المراكب من الخيل المسومة والأنعام.. إن شاء الإنسان وجدها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 ولكن هناك ما يشغله عن كل هذا، الذي هو إلى جانب نعيم الآخرة هباء وهراء! والشأن كذلك فى البنين، إذ يقوم حبهم فى النفس، على غريزة حب البقاء، حيث يرى الإنسان الفاني امتداد حياته فى بنيه الذين يخلفونه فيما ترك، ويأخذون مكانه من بعده.. أما والإنسان قد وجد الخلود وضمنه فى الحياة الآخرة فإنه لا حاجة به إلى ذرية من بعده. ثم إن رضوان الله الذي أفاضه على أهل الجنة، هو الغنى كله، وهو السعادة كلها.. فلا مطلب بعده، ولا سعادة وراءه. الآيتان: (16، 17) [سورة آل عمران (3) : الآيات 16 الى 17] الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17) التفسير: هاتان الآيتان الكريمتان تبينان المنهج الذي يستقيم عليه الإنسان، ليكون فى عداد أولئك المتقين الذين وعدهم الله بجنات تجرى من تحتها الأنهار وأزواج مطهرة ورضوان من الله. فالتقوى لا يكسبها الإنسان إلا بمجاهدة، ولا يبلغها إلا بعد أن يقطع إليها طريقا شاقا من الجهد المتصل والعمل الدائب، فى طاعة الله وابتغاء مرضاته. وأول هذا الطريق. الإيمان بالله، الذي هو ملاك التقوى، وبغيره لا يقبل عمل، ولا يؤذن لإنسان بالدخول مع المتقين.. «الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ» . ثم إن الإيمان بلا عمل زرع بلا ماء.. لا يزهر ولا يثمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 والصّبر هو عدة المؤمنين، وزادهم العتيد فى الطريق الشاق الذي يصحبون به الإيمان، ليصل بهم إلى التقوى، فبالصبر يغلب الإنسان شهواته، ويقهر أهواءه، ويحتمل تكاليف الشريعة، ويؤديها على الوجه الأكمل لها.. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» (52: البقرة) والصّبر ملاك أمره الصّدق.. الصدق فى القول والعمل.. والصدق مع النفس، ومع الناس، ومع الله- فإذا لم يكن ذلك كان الصّبر بلادة، وموانا، وموقفا سلبيا من الحياة. ولكن إذا واجه الإنسان الحياة ومعه الصبر وجد فى كل موقف شاق طريقين: طريق الكذب والهروب، وطريق الصدق والثبات.. وهنا تظهر فضيلة الصبر، ويتجلى أثره.. «وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) » . والولاء لله، والإنفاق فى سبيله، وقيام الليل واستقبال الأسحار بالتوبة والاستغفار.. كل هذه مواقف يمتحن فيها إيمان المؤمنين، وصبرهم، واستمساكهم بالحق الذي أمر الله به. فبهذه المجاهدات- مع الإيمان- يبلغ الإنسان منازل المتقين، وينال رضوان الله، وينعم بجنات النعيم. الآية: (18) [سورة آل عمران (3) : آية 18] شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 التفسير: الذين يؤمنون بالله، يجدون فى كل لمحة من لمحات الوجود آيات تشهد بوحدانيته المطلقة، وتفرده بالوجود المطلق، فإن لم يكن لهم نظر يؤدّيهم إلى التحقق من هذه الحقيقة، فقد حملتها إليهم ثلاث شهادات قاطعة: أولا: شهادة الله، فقد شهد الحق لنفسه: أنه لا إله إلا هو.. وهى عند المؤمنين شهادة صدق مطلق، لا تعلق بها شائبة أو تشوبها شبهة. ثانيا: شهادة الملائكة، وهم خلق جبله الله على الحق والصدق المطلقين.. وقد يقول جهول: كيف يشهد الله لنفسه وكيف السبيل إلى سماع هذه الشهادة والتحقق منها؟ أما شهادة الله لنفسه، فقد نطق بها هذا الوجود الذي هو صنعة يديه، والذي يشهد كل موجود فيه، بقدرته، وعلمه، وحكمته ووحدانيته، وإن لم تشهد بها الموجودات لسانا، فقد شهدت بها عيانا واعتبارا، لمن نظر واعتبر.. أمّا من لم يكن له نظر واعتبار، فليأخذ بشهادة أهل النظر والاعتبار.. ليأخذ بشهادة الملائكة، وهم بعض هذا الخلق الذي خلق الله، وهم الذين لا يفترون عن عبادته، ولا ينقطعون عن ذكره.. فإن لم يجد لشهادة الملائكة أذنا تسمع، فليستمع إلى شهادة بشر مثله، خلقوا من طينته، ونطقوا بلسانه، وهم: ثالثا: أولو العلم، الذين نظروا فى هذا الوجود، فعرفوا الله، وعاينوا آثار قدرته، وعلمه، وحكمته، ووحدانيته. وهذه شهادة لا يردّها عاقل، مهما كان حظه من العقل.. فإن الأعمى الذي لا يسلم يده للمبصر الذي يقيمه على الطريق، هو لا محالة ملق بنفسه إلى التهلكة.. والمقعد الذي لا يستسلم لمن يحمله، لا يزال هكذا ملتصقا بالأرض إلى أن يهلك، غير مأسوف عليه. أما شهادة الله وشهادة الملائكة، فقد أخذ بهما أولو العلم فكانت مع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 شهادتهم نورا إلى نور ويقينا إلى يقين.. «وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» (166: النساء) . وقوله تعالى: «قائِماً بِالْقِسْطِ» صفة للإله المتفرد بألوهيته، كما شهد بذلك الله سبحانه، والملائكة، وأولو العلم.. والمعنى شهد الله والملائكة وأولو العلم أنه لا إله إلا هو قائما بالقسط، أي إلها قائما على الوجود بالعدل المطلق، فيما خلق وفيما نوّع وفرق من مخلوقات، وفيما قدر لكل مخلوق من صورة، ورزق، وأجل.. إذ ليس فى الإمكان أبدع مما كان. وقوله: «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» قد يكون توكيدا لما شهد الله به والملائكة وأولو العلم، أو يكون إقرارا بلسان الوجود كله بعد أن سمع تلك الشهادة فصدّقها، معترفا بوحدانية الله، مقرا بقيامه على ملكه بالعدل، مذعنا لعزته، راضيا بحكمه، فهو «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» . الآية: (19) [سورة آل عمران (3) : آية 19] إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) التفسير: بعد أن بين الله صفته التي ينبغى أن يؤمن عليها المؤمنون، وهو أنه لا إله إلا هو المتفرد بالألوهية، القائم على ملكه بالعدل، فإلى جانب سلطانه المطلق، عدله المطلق، وهو العزيز الذي تقوم إلى جانب عزته، حكمته، فلا يخاف أحد بغيا أو عدوانا من جهة العزيز الحكيم! - بعد أن بيّن الله صفته على هذا الوجه، بيّن دينه الذي يدين عباده به، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 ويتعبدهم بشريعته، ذلكم الدين هو «الإسلام» الذي حمله رسل الله، إلى عباد الله، من آدم إلى محمد، عليهم جميعا الصلاة والسلام. يقول الله سبحانه وتعالى لنبيه الكريم: «إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً» (163: النساء) . فالذى أوحاه الله إلى رسله، هو دينه الذي ارتضاه لعباده، وهو الإسلام. وفى هذا يقول سبحانه وتعالى: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» (13: الشورى) وفى قوله تعالى: «وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ» إشارة إلى ما وقع بين أصحاب الكتب السماوية من خلاف، وأنه خلاف لم يقم على عقل، ولم يستند إلى منطق، لأن الكتب التي يختلفون فيها تجىء من مصدر واحد، وتتجه نحو غاية واحدة، فيلتقى بعضها ببعض، ويصدّق بعضها بعضا، فكيف يقع بينها خلاف أو يدور عليها اختلاف؟ وكيف يؤمن الإنسان ببعض الشيء ثم يكفر ببعضه الآخر؟ إن ذلك لم يكن إلا عن بغى وعدوان بين أصحاب هذه الكتب.. فاختلاف من اختلف من أهل الكتاب، وزيغ من زاغ منهم، إنما هو عن علم، وذلك هو البغي على الحق، والعدوان على العقل! وقوله تعالى: «وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» تهديد لأهل الكتاب من اليهود والنصارى، ونذير لهم إذا اختلفوا، وكفّر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 بعضهم بعضا، ثم هو تحذير لهم من أن يكون شأنهم مع الكتاب الذي نزل على محمد كشأنهم فيما كان منهم مع الكتب التي نزلت على الأنبياء من قبله، وخاصة النبيين الكريمين، موسى وعيسى عليهما السّلام.. إن يفعلوا «فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» .. لهم فى الدنيا خزى ولهم فى الآخرة عذاب عظيم. الآية: (20) [سورة آل عمران (3) : آية 20] فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) التفسير: ذلك هو الموقف الذي يتخذه النبي من أهل الكتاب، ألا يدخل معهم فى جدل ومحاجّة.. وإنما يلقى لجاجهم ومحاجتهم بما أمره الله به، إذ يكون قوله لهم: «أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ» أي إنى أسلمت وجهى لله حنيفا، لا أشرك به أحدا.. هذا هو دينى، ودين من اتبعنى من المؤمنين. وقوله تعالى: «وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ؟» هو ما يعقّب به النبىّ فى ردّه على المجادلين من أهل الكتاب ومن مشركى مكة، وهم الأميون.. فبعد أن يلقى جدلهم بقوله: أسلمت وجهى لله.. يعقبّ على ذلك بدعوتهم إلى أن يسلموا وجوههم إلى الله كما أسلم هو وجهه إلى الله، فلا يدعون مع الله أحدا، وذلك هو الدّين الخالص.. دين الله.. دين الإسلام. «فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ» . أي إن لم يستجيبوا لك ويؤمنوا كما آمنت، فسيظل أمرهم هكذا فى شقاق واختلاف، وليس عليك من أمرهم من شىء، إنما عليك البلاغ «وَاللَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 بَصِيرٌ بِالْعِبادِ» يهدى من يشاء ويضلّ من يشاء.. «مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (39: الأنعام) . الآيتان: (21، 22) [سورة آل عمران (3) : الآيات 21 الى 22] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22) التفسير: هاتان الآيتان لتقرير أمر واقع.. ففيهما كشف عن جرائم أهل الكتاب من اليهود، الذين كفروا بآيات الله، وقتلوا أنبياءه، وأشياع أنبيائه، ولهذا أحصت الآيتان الكريمتان، تلك الجرائم الغليظة التي ارتكبوها، وهى الكفر بآيات الله التي حملها إليهم رسل الله، وهى آيات لا يكذّب بها إلا كل معتد أثيم.. كفلق البحر بالعصا، وتفجير الماء من الصخر بها، على يد موسى عليه السّلام.. فكفروا بتلك الآيات وعبدوا العجل من دون الله، وكذلك فعلوا مع الآيات التي أجراها الله سبحانه على يد عيسى- عليه السّلام- من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص.. فكفروا بتلك الآيات، ورموا عيسى بالبهت والشعوذة، حتى دفعهم ذلك إلى السعى فى قتله، وتقديمه للمحاكمة والصلب، ولكن الله أبطل كيدهم، وأفسد تدبيرهم، وهم يحسبون أنهم صلبوه: «وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ» (157: النساء) . فهؤلاء هم الذين كفروا بآيات الله، وقتلوا أنبياءه، ومنهم زكريا عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 السلام، وقتلوا كثيرا من صلحائهم ودعاة الخير فيهم.. وقد توعدهم الله سبحانه وتعالى بالعذاب الأليم.. على أن واحدة من هذه الجرائم المنكرة تكفى فى تجريم صاحبها، وفى سوقه إلى العذاب الأليم، فالكفر وحده، يحبط كل عمل: «وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ» (104: البقرة) . والقتل العمد وحده، يوجب الخلود فى النار: «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً» (93: النساء) فكيف بقتل أنبياء الله ورسله؟. ولكن ما ذكر من هذه الجرائم هو تسجيل للواقع الذي حدث- كما ذكرنا من قبل- وهو تشنيع على أولئك اليهود الذين وقفوا من الدعوة الإسلامية موقف المحادّة والخلاف، كما وقف أسلافهم من قبل، مع أنبياء الله فيهم، ورسله إليهم. فما أشبه الأبناء بالآباء، والخلف بالسّلف، فى المكر بآيات الله والزيغ عن الهدى، والإعنات للأنبياء.. وقد سجل القرآن الكريم عليهم هذا الموقف الذي يصل حاضرهم بماضيهم، على طريق الكفر والضلال، فقال تعالى: «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (91: البقرة) .. فهل يلتقى الإيمان وقتل المؤمنين؟ بل وقتل حملة الإيمان ودعاته، من الأنبياء والرسل؟ وفى قوله تعالى: «وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ» هو تقرير لما حدث، وإعلان لما تكشف من تلك الحرائم الشنعاء، التي أريقت فيها دماء الأنبياء، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 إذ قد ثبت لهؤلاء اليهود أنفسهم أن آباءهم الذين ارتكبوا هذا الإثم العظيم إنما قتلوا أنبياء حقيقيين، لم يكونوا من الأنبياء الكذبة كما ادّعوا عليهم، وهذا ما كان فى قتل يحيى عليه السّلام، قتله اليهود بأيديهم، وآمن به اليهود وبعد ذلك، نبيا صادقا، ورسولا كريما فى كتابهم المقدس التوراة. فشهدوا بذلك على أنفسهم وبلسان أبنائهم أنهم قتلوا هذا النبىّ الكريم ظلما وعدوانا.. بغير حق. فقوله تعالى: «بِغَيْرِ حَقٍّ» هو من اعتراف القتلة أنفسهم، بما شهد به عليهم بعضهم، وهم أبناؤهم من بعدهم. وقوله تعالى: «فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» هو غاية فى التيئيس من كل أمل فى نفحة من خير، أو عافية، من هذا البلاء المطبق عليهم.. إذ كان ما تحمله البشرى إليهم هو العذاب الأليم، فكيف بما يساق إليهم بين يدى النّذر والفواجع؟ ذلك شىء لا يمكن تصوره من الأهوال والشدائد، التي أخفها وأهونها، هو العذاب الأليم!! الآية: (23) [سورة آل عمران (3) : آية 23] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) التفسير: الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، هم اليهود، وعلماء اليهود خاصة، والنصيب من الكتاب هو جزء وبعض منه، وذلك أن الكتاب الذي فى أيديهم، وهو التوراة، ليس هو كل كتاب الله، إذ حرّفوا فيه، وبدّلوا وحذفوا، وأضافوا، فما بقي من كتاب الله فى أيديهم هو بعض من كلّ.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 وفى قوله تعالى: «يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ» تنويه بشأن القران الكريم، وأنه كتاب الله، الذي يستحق أن يضاف إلى اسمه الكريم، حيث ظل- وسيظل أبدا- محتفظا بالصورة التي نزل عليها دون أن يمسه تبديل أو تحريف.. مصداقا لقوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» . وهؤلاء الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، وحظا من العلم، حين يدعون إلى القرآن الكريم ليقضى بينهم فيما اختلفوا فيه، وليريهم الوجه الصحيح من الكتاب الذي بين أيديهم، - يأبون أن يسمعوا، «ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» (127: التوبة) . وفى قوله تعالى: «يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ» تصوير لحالهم التي استقبلوا بها دعوة داعيهم إلى كتاب الله، وأنهم على خلاف مبيّت على الإعراض عن القرآن، والاستماع إليه، والنزول على حكمه، فإذا سمعوا هذه الدعوة الكريمة الموجهة إليهم أعطوها ظهورهم، منصرفين عنها، حاملين معهم عقدة الإعراض والخلاف التي انعقدت عليها قلوبهم. الآية: (24) [سورة آل عمران (3) : آية 24] ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) التفسير: هذا التمادي فى الضلال، والإعراض عن آيات الله، وعدم التوقف للتثبت من الحق، هو مما دخل على القوم من غرور، بسبب ما بدلوا وغيروا فى دين الله، حتى أخذوا عن هذا الدين المحرّف أنهم شعب مختار، لهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 عند الله فضل ومنزلة، وأن من يدخل النار من عصاتهم لن تمسّه النار إلا أياما معدودة، على حين يخلد غيره فى النار ممن ليس منهم! وبهذا اجترءوا على الله، واستباحوا حرماته، لأنهم كما صوّر لهم دينهم الذي لعبوا فيه بأهوائهم- لا ينالهم الله بعذابه! وأن العصاة الغارقين منهم فى العصيان لن يمسّهم عذاب الله إلا مسّا رفيقا.. وكذبوا وافتروا.. وقد فضحهم الله تعالى فى قوله: «وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (80- 81: البقرة) وفى قوله تعالى فى هذه الآية: «أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ» وفى آية البقرة «أَيَّاماً مَعْدُودَةً» هو حكاية لأقوالهم التي تختلف فى أسلوبها، وإن لم تختلف فى مضمونها، فكل واحد منهم له أسلوبه فى التعبير عن هذا المعنى الذي تتوارد عليه ضلالاتهم.. ففريق يقول «أَيَّاماً مَعْدُودَةً» ، وفريق آخر يقول «أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ» وذلك بلسانهم العبرىّ، وتلك ترجمته الصادقة الأمينة. الآية: (25) [سورة آل عمران (3) : آية 25] فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) التفسير: تنتقل هذه الآية بهؤلاء المفتونين فى دين الله، والمتألّين على الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 ألا تمسّهم النار إلا أياما معدودات- تنتقل بهم فى لمحة خاطفة إلى الدار الآخرة، حيث الحساب والجزاء، وحيث توفّى كل نفس ما كسبت من خير أو شر.. وفى هذا المشهد يرون سوء المصير الذي ينتظرهم، وأنهم قد مكروا بآيات الله، وخانوا أنفسهم، ووجدوا أعمالهم السيئة بين أيديهم، توزن بميزان العدل المطلق، حيث لا محاباة لأحد.. عندئذ يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون، وعندئذ يمضغون الندم، ويبتلعون الحسرة، ثم يساقون إلى عذاب جهنم، وبئس المصير!. الآيتان: (26- 27) [سورة آل عمران (3) : الآيات 26 الى 27] قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27) التفسير: الحسد هو الذي يفسد على كثير من الناس أمورهم، فلا يرونها على وجهها الصحيح، وإنما تبدو لهم على الوجه الذي تصوره أوهامهم وأهواؤهم. وقد استشرى هذا الداء فى بنى إسرائيل، فحسدوا أنبياءهم، الذين اصطفاهم الله للسفارة بينه وبين عباده، ورموهم بالكذب والبهتان، وبلغ بهم الأمر فى كثير من الأحيان إلى قتلهم، شفاء لما فى صدورهم من نار الحسد لهم. وموقفهم من رسول الله، وخلافهم عليه، وبهتهم له، لم يكن إلا عن حسد، أعمى قلوبهم عن الحق الذي كانوا على علم به وانتظار له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 ونسى هؤلاء القوم أن نعم الله ونقمه إنما هى بيد مالك الملك، الحكم العدل، وأن الحسد لنعمة يلبسها الله عبدا من عباده، أو الشماتة فى نقمه ينزلها على عبد من عباده كذلك- هو اعتراض على الله، ومشاركة له فى تدبيره وتقديره. أما طريق المؤمنين فهو قائم على التسليم لحكم الله، والرضا بقضاء الله «قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» وفى قوله تعالى «بِيَدِكَ الْخَيْرُ» إشارة إلى أن كل ما يأتى من عند الله هو خير، وإن بدا لنا فى صورة الشر الخالص.. «وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» (216: البقرة) وفى قوله تعالى: «تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ» استعراض لقدرة الله، وعجائب تصريفه فى ملكه، إذ يؤلّف بين المتناقضات.. يولج الليل فى النهار، ويولج النّهار فى الليل، ويستخرج من الشيء نقيضه، فيخرج الحىّ من الميت ويخرج الميت من الحىّ.. وذلك من تمام القدرة، التي لا تكون إلا لله رب العالمين. وفى الآية إشارة إلى ما فى الآية التي قبلها من قوله تعالى «بِيَدِكَ الْخَيْرُ» وأنه سبحانه قادر على أن يجعل من الخير شرا، ومن الشر خيرا.. «فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً» . (19: النساء) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 فالذى يخرج الحىّ من الميت، ويخرج الميت من الحىّ، قادر على أن يجعل من الخير شرا، ومن الشر خيرا. الآية: (28) [سورة آل عمران (3) : آية 28] لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) التفسير: الصلة التي ينبغى أن تقوم بين المؤمنين، هى صلة أخوة ومودة، دون نظر إلى لون أو جنس أو وطن.. فقد جمعهم الإسلام فى نسب يعلو على نسب الدّم والجنس والوطن.. «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» (10: الحجرات) وإنه لمن قلب الأوضاع أن ينعزل المؤمن بشعوره هذا من المودة والأخوة عن إخوانه المؤمنين، وينحاز إلى الكفار، يعطيهم ولاءه ومودته وأخوته. والإسلام الذي يدعو إلى الحبّ والسلام.. إذ يدعو أتباعه إلى التراحم والتواد والتآخى فيما بينهم، لا يجعل ذلك على حساب الصلات الأخوية التي ينبغى أن تكون بين المسلم وبين سائر الناس.. وفى هذا يقول الله تعالى فى وصايته للمسلمين، فى تحديد صلتهم بغير المسلمين: «لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (8، 9: الممتحنة) فما بين المسلم وغير المسلم هى صلات إنسانية، فيها المودة والألفة والإحسان، إلّا أن يقع بين المسلم وغير المسلم قتال فى سبيل الدين، ومن أجل الدين.. عندئذ ينبغى ألا يعطى المسلم ولاءه لمن قاتله فى دينه، فذلك خيانة لدينه، فوق أنه خيانة لنفسه ولجماعة المسلمين معه. وفى قوله تعالى: «لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ» نهى عن أن يكون ولاء المؤمن كلّه للكافرين فى الوقت الذي لا ولاء بينه وبين إخوانه المؤمنين، فذلك يقطع صلته بأهل الإيمان والتقوى، على حين يدعم صلته بأهل الإلحاد والكفر، وليس يأمن مع هذا أن تنضح عليه آثار الإلحاد والكفر، وأنه كلما مضى الزمن به كلما ازداد من الإيمان بعدا، وازداد من الكفر قربا. وقوله تعالى: «وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ» أي بعد عن الله، وقطع صلته به، إذ بعد عن المؤمنين وقطع صلته بهم، وقرب من الكفر ووثق صلته بالكافرين. وقوله تعالى: «إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً» استثناء وارد على النهى عن مولاة الكافرين، وهو أنه لا بأس- فى ظروف خاصة قد يضطر فيها الإنسان إلى أن يوالى غير المؤمنين- لا بأس أن يفعل الإنسان ذلك، ولكن شريطة أن يكون ذلك لدفع مكروه محقق، عنه أو عن جماعة المسلمين، على أن يكون ذلك موقوتا بوقته، محكوما بظروفه، ينتهى متى مضى الوقت، وتغيرت الظروف، فيعود إلى ولائه الكامل للمؤمنين. فإذا قامت بينه وبين غير المؤمنين صلة، فلتكن بحساب وحذر! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 الآيتان: (29- 30) [سورة آل عمران (3) : الآيات 29 الى 30] قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30) التفسير: بعد أن ذكر القرآن الكريم التحذير من موالاة الكافرين، وأباح ذلك فى أحوال وظروف خاصة- أشار هنا إلى أن المعتبر فى هذا الموقف هو ما انعقد عليه قلب المؤمن من إيمان، وهو فى تلك التجربة التي اضطرته الظروف فيها إلى مولاة الكافرين.. فقد أباح الإسلام «التقيّة» وهى أن يتقى المسلم أذى المشركين بكلمة أو فعل، ليدفع عنه أذاهم، دون أن يدخل من ذلك شىء على قلبه وما انعقد عليه من إيمان، وفى هذا يقول الله تعالى: «مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» (106: النحل) وقوله تعالى: «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً..» الظرف هنا «يوم» منصوب بفعل محذوف تقديره: اذكروا، واحذروا.. فذكر هذا اليوم، وما يلقى فيه الناس جزاء أعمالهم من خير أو شر- يخفف عن الإنسان كثيرا من ضواعط الحياة ومغرياتها، التي تحمله على التضحية بشىء من دينه فى مقابل كسب مادى عاجل، أو قضاء شهوة عارضة زائلة.. وفى قوله تعالى: «وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ» تنبيه لأولئك الذين يتألّون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 على الله، ويمنّون أنفسهم الأمانىّ بالطمع فى رحمته وغفرانه، وهم قائمون على عصيانه، ومحاربته، واستباحة حرماته، والاستخفاف بأوامره.. فهذا من الضلال الذي يفسد على المرء دينه ودنياه جميعا.. إذ لا يتفق عصيان الله، والتمرد على شريعته، مع موالاته والطمع فى رضاه.. ونعم.. إن رحمة الله واسعة، ومغفرته شاملة، ولكن لأهل طاعته، والمتجهين إليه.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ» (156: الأعراف) وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ» بعد قوله سبحانه «وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ» استصحاب لرحمة الله ولطفه بعباده الواقعين تحت بأسه وعذابه، وذلك مما يطمع المذنبين فى عفو الله ومغفرته، فيرجعون إليه ويمدون أيديهم بالتوبة له، فيجدونه ربّا رحيما غفورا، أما الطمع فى رحمة الله دون استصحاب العمل على مرضاته، بالنزوع عن مقاربة المنكرات- فذلك مكر بالله «وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» (54: آل عمران) الآيتان: (31- 32) [سورة آل عمران (3) : الآيات 31 الى 32] قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32) التفسير: ومما هو مكر بالله ما يدّعيه المدّعون على الله من اليهود أنّهم أبناء الله وأحبّاؤه، وهم فى الوقت نفسه يعادون أولياء الله، ويشاقّون رسله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 ويقتلون أنبياءه.. فكيف تصح لهم هذه الدعوى، وآخرها ينقض أولها؟ فإن المحبّ الحقيقي يحبّ كل من أحبّ من يحبّ، وإلّا فحبّه لمن أحبّ نزوة طارئة، أو دعوى باطلة. والعداوة التي يضمرها اليهود للنبىّ، والتي تستعلن فى كيدهم له ومكرهم به، لا تستقيم مع دعواهم بأنهم أحباء الله، فإن كانوا أحباء الله حقّا فليتّبعوا رسوله، وليستجيبوا لما يدعوهم إليه من كلمات ربّه.. إنهم لو فعلوا ذلك لصدقت دعواهم، ولأحبّهم الله حقّا، ولغفر لهم ذنوبهم، وما قطعوا من عمر طويل مع الشقاق والنفاق «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .. فإن أبوا إلا شقاقا ونفاقا، فهم على دعوى باطلة.. إنهم ليسوا أحبابا لله، بل هم أعداء محاربون له، كافرون بآياته وبرسله «فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ» وإنما حبّه للمؤمنين، فمن لبس الإيمان ظاهرا وباطنا، فهو من أولياء الله وأحبائه، ومن استبطن الكفر والنّفاق فهو عدوّ لله، لا يكون محبّا ولا محبوبا. الآيتان: (33، 34) [سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 34] إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) التفسير: من تصريف الله فى ملكه أنه يؤتى الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعزّ من يشاء، ويذل من يشاء! وقد اقتضت حكمته- سبحانه- أن يصطفى من يشاء من عباده لتلقى هباته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 وعطاياه.. وإن من عباده الذين اصطفاهم لأفضاله ومنحه.. آدم، ونوحا. وآل إبراهيم، وآل عمران.. فآدم، هو أبو البشر.. وقد اصطفاه الله فجعله خليفته فى الأرض. ونوح، هو الأب الثاني للبشرية، بعد أن هلك البشر بالطوفان. وإبراهيم، هو أبو الأنبياء.. وآله هم هؤلاء الأنبياء من ذريته. وعمران، هو الفرع الزاكي من شجرة إبراهيم، ومن ذريته موسى وهرون وزكريا ويحيى وعيسى. وفى قوله تعالى: «وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ» إشارة إلى امتداد الاصطفاء من الأصول إلى الفروع.. ولهذا قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً» لا آل آدم، ولا آل نوح.. لأن ذلك يشمل الإنسانية كلّها، من حيث كان آدم ونوح أبوى البشرية كلها، فلا يكون- والأمر كذلك- مكان للاصطفاء من بين الذرية المصطفاة كلها.. وفى قوله تعالى: «ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ» أي أن هؤلاء المصطفين من آل إبراهيم وآل عمران، هم وآباؤهم من معدن واحد، خلص من شوائب الفساد والكدر، فجاء الفرع مشابها للأصل، طيبا وكرما، وكمالا وحسنا.. الآيتان: (35، 36) [سورة آل عمران (3) : الآيات 35 الى 36] إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 التفسير: لقد سمع الله مريم إذ تناجى نفسها، وعلم- سبحانه- ما أخفاه عنها من ألطافه ونعمه إذ ناجته بنذرها الذي نذرته، وهو هذا الجنين الذي حملت به. «إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً» . فإنها ما كادت تتحقق من أن جنينا يتحرك فى أحشائها، حتى أقبلت على الله بكيانها كله، وإيمانها كلّه، جاعلة هذا الذي وهبها الله إياه خادما لله، محرّرا من كل رباط يربطه بالحياة، ليكون كلّه فى خدمة بيت الله: «إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً» وضرعت إلى الله تعالى أن يقبل هذا النذر، وأن يرضاه لها، تحية شكر له، على ما أنعم عليها من ولد بعد يأس كاد يدخل عليها، ويخرجها من الدنيا عقيما بين النساء: «فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» وجاءها المخاض، وولد المولود الذي كانت تنتظره، فإذا هو أنثى!! ونظرت فى وجه مولودتها فحزنت أن جاءت على غير ما كانت تنتظر. إنها كانت ترجو أن يكون وليدها ذكرا، فهو الذي ترى فيه الوفاء بنذرها، حيث هو الذي يصلح للخدمة فى بيت الله، أما الأنثى فمكانها هناك قلق حرج، بين المنذورين الذين يخدمون فى بيت الله، وكلهم من الذكور. ومع هذا، فقد نذرت ما فى بطنها محررا لخدمة الله، وقد جاء ما فى بطنها أنثى، فهى- والأمر كذلك- لا تملك غير هذه التي أعطاها الله، فلتقدمها لله وفاء بما نذرت: «فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى» !! وفى قوله تعالى: «فَلَمَّا وَضَعَتْها» إشارة إلى ما تقرر فى علم الله من أنها لا تضع إلا أنثى، فالضمير المؤنث فى «وضعتها» يشير إلى معهود معلوم من قبل الوضع. وذلك ما كان فى علم الله وتقديره! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 وفى قوله تعالى على لسان امرأة عمران: «قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى» ما يكشف عن استحيائها وخجلها من أن تقدم لله أنثى تخدم فى بيته، وكأن الله- سبحانه- لم يجعلها أهلا لأن تجىء بالذكر الذي هو أهل لتلك الخدمة. وقول الله تعالى: «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ» ردّ على هذا الشعور الحزين الآسف الذي كان يعتمل فى نفسها، وعزاء لها من أن تتحسر أو تحزن أو تعتذر لله، فالله سبحانه «أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ» وهو الذي قدّر هذا، وأراد الوليدة لأمر عظيم، ستكشف عنه الأيام، بعد قليل.. وهذا ما أشار إليه سبحانه بقوله: «وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى» أي أن الذكر الذي كانت تتمناه امرأة عمران وترجوه، لا يتحقق به هذا الأمر العظيم، الذي جعل الله إظهاره على يد هذه الأنثى، التي ستلد مولود البشريّة البكر: «عيسى عليه السّلام» ! فهل لو ولدت امرأة عمران ذكرا أكان لهذا الذكر أن يلد «عيسى» على الأسلوب الذي ولد به؟ ولهذا جاء أسلوب التشبيه على وجه عجيب: «وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى» وهذا ما جعل المفسرين يتأولون مختلف التأويلات له، مع أن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من نظرة، حتى تنحلّ عقدة هذا التشبيه، فإذا هو فى أعلى درجات البيان والوضوح.. إنه ليس قائما على مطلق المفاضلة بين الذكر والأنثى، ولكنه قائم على مفاضلة بين الذكر الذي كانت ترجوه امرأة عمران والأنثى التي وضعتها.. فإذا كان ذلك كذلك فهل لأحد قول فى أن هذا الذكر ليس كهذه الأنثى؟ محال! ليس الذكر كالأنثى لتحقيق هذا الأمر العظيم الذي أراده الله، واختص هذه الأنثى به. وهى أن تلد مولودا من غير أب، هو المسيح. «وعمران» هذا الذي تحدّث الآية بأنه أبو هذه الأنثى وزوج أمّها «امْرَأَتُ عِمْرانَ» ليس المراد به- والله أعلم- أنه زوجها، وإنما هو رجل من آل «عمران» الذين اصطفاهم الله فيما اصطفى من عباده، كما قال تعالى فى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 الآية السابقة «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ» . وقد وصفت أم مريم هنا بأنها امرأة عمران، إشارة إلى اتصال نسبها بهذا النسب الكريم المصطفى، وكذلك اتصال نسلها بهذا النسب الكريم المصطفى أيضا.. فهى امرأة عمران أي من نسل «عمران» وابنتها ابنة عمران أي أن ذريتها من نسل عمران كذلك، فهى مصطفاة من مصطفين أخيار، من جهة الأم والأب جميعا! الآية: (37) [سورة آل عمران (3) : آية 37] فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37) التفسير: قوله تعالى: «وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا» أي أن الله سبحانه وتعالى جعل كفالة مريم ورعايتها وتنشئتها إلى يد كريمة طاهرة، هى يد النبىّ الكريم، زكريا عليه السّلام. وقوله تعالى: «كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً» أي رزقا متجددا، ما يراه اليوم غير ما رآه أمس، وغير ما سيراه غدا.. وهذا ما جعله يرى نفسه أمام ظاهرة غريبة، تطالع عينه فيها نفحات الله وأفضاله فيجد بين يديها كل طيب كريم، من الطعام، لم يقدمه لها أحد.. ويسألها زكريا. فتجيب: «هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.. إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» وليس من جواب غير هذا الجواب، يحبس تساؤل المتسائلين، ويذهب بما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 ملأ صدورهم عجبا ودهشا، من هذه الآيات التي تتنزل بين يدى مريم، رزقا من السماء بلا انقطاع.. إنه من عند الله! وما كان من عند الله فلا مثار منه لعجب أو دهش!! الآيتان: (38، 39) [سورة آل عمران (3) : الآيات 38 الى 39] هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) التفسير: «هنالك» أي هذا المقام الكريم، الذي شهد فيه زكريا ما شهد من آيات ربّه المتنزلة على مريم بالنفحات والرحمات.. وفى هذا الموقف الذي اشتعل فيه كيان زكريا كلّه بأشواق التطلعات إلى السماء، وأحاسيس التداني والقرب.. هنالك استشعر زكريا قربه من ربّه، ودنوه من رحمته، فضرع بين يديه داعيا يطلب الولد، الذي حرمه حتى بلغ من الكبر عتيا، وكانت امرأته- مع ذلك- عاقرا. كان زكريا فيما شهد من أفضال الله على «مريم» أمام معجزات خارقات لمألوف الحياة، وما يخضع له الناس من سننها، فاهتبلها فرصة يأخذ فيها بنصيبه من هواطل غيوث رحمة الله، فطلب هذا المطلب الجاري على غير المألوف! وقد استجاب الله لزكريا ما طلب، فوهب له «يحيى» مصدقا بكلمة من الله، وسيّدا، وحصورا، ونبيا، من الصالحين. ومن هذا نعلم أنه يقدر ما يكون فى كيان الإنسان من إيمان بالله، وثقة به، وطمع فى رحمته، بقدر ما يكون حظه من القبول والاستجابة لما يدعو به ربه.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 ومن هنا كان للحال الذي يشتمل على الإنسان الأثر الأول فى قبوله واستجابة دعائه. وإن الذي يدعو وهو منقطع الصلة بالله، أو هو خامد الشعور بقدرة الله، أو متشكك فى سماع الله لما يدعو به، وإجابته له- إن مثل هذا قلّ أن يستجاب له. أما من يدعو وهو على يقين من أن الله قريب منه، مطلع على سرّه ونجواه، وأن بيده الخير كله، وأنه على كل شىء قدير- إن من يدعو وهو على تلك الحال، فهو فى معرض القبول والإجابة لا محالة.. ولهذا يقول الرسول الكريم: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة» قوله تعالى: «مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ» كلمة الله هنا هى المسيح عيسى ابن مريم، وبهذه الكلمة بشّر الله مريم، فقال تعالى: «يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ» وذلك فى الآيات التالية بعد هذه الآية.. وقد كان يحيى- عليه السّلام- هو الذي عمّد عيسى، وهو الذي بشّر به، وصدّق برسالته، كما تحدث بذلك الأناجيل. قوله تعالى: «وَسَيِّداً» أي سيّدا على نفسه، متحكما فى شهواته غالبا لها.. وقوله تعالى «وَحَصُوراً» أي مجانبا الشهوات، حتى لكأنه عاجز عن إتيانها لضعف أو مرض، وما به ضعف أو مرض، ولكن قوة روحه قهرت نداء شهواته، ودعوة جسده. وفى قوله تعالى: «وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» ما يسأل عنه، وهو: هل فى الأنبياء صالح وغير صالح، أم أن الأنبياء جميعا من الصالحين؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 لا شك أن الأنبياء جميعا من الصالحين، لأنهم صفوة خلق الله، وقد اختارهم الله، واصطفاهم للسفارة بينه وبين عباده، وليس يختار لهذه المهمة الكريمة إلا أكرم الخلق، وأفضل الناس فى كل أمة يبعث فيها رسول.. فكلمة «نبىّ» تحمل معها كل معانى الحياة للصلاح والتقوى! فما الحكمة فى أن وصف النبىّ بالصلاح هنا؟ ونقول- والله أعلم- إن وصف النبوة الذي وصف به يحيى فيما وصف به من صفات، هو وصف شرفىّ، لشرف الوظيفة التي هى النبوة، وهى مع هذا لا نستغنى عن الأوصاف الشخصية التي تكون للنبىّ، قبل النبوة، ومع النبوة.. والصّلاح على إطلاقه هو أكمل صفة وأتمها يمكن أن يظفر بها إنسان حتى الأنبياء.. فهى الكمال الإنسانىّ فى أعلى مراتبه وأشرف منازله، ولهذا كان من دعوات الأنبياء عليهم السلام أن يكونوا من عباد الله الصالحين كما قال الله تعالى على لسان سليمان: «وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ» . (19: النمل) وقال تعالى على لسان إبراهيم، وهو يطلب الولد الصالح: «رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ» (100: الصافات) وقال سبحانه فى وصف عيسى عليه السّلام: «وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ» (46: آل عمران) ومعنى هذا أن الصلاح صفة ملازمة له، قبل النبوة ومع النبوّة، فلو لم يكن نبيّا من الأنبياء لكان صالحا من عباد الله الصالحين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 الآيتان: (40، 41) [سورة آل عمران (3) : الآيات 40 الى 41] قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41) التفسير: أمام الخوارق المذهلة التي تخرج عن مألوف الحياة، وتجىء على غير حساب الناس وتقديرهم- يقف العقل مشدوها مضطربا، إذ يفقد توازنه، ويفلت من بين يديه كل حساب وتقدير، ويضل عنه ما كان له من علم ومعرفة.. لقد رأى موسى عليه السّلام- العصا يلقى بها من بين يديه فتتحوّل إلى حيّة تسعى، فتأخذه الرهبة، ويستولى عليه الفزع، وينطلق مسرعا.. ولا يمسكه أنه بين يدى الله، يناجيه ويسمعه كلماته! وهذا زكريا- عليه السّلام- يسمع الحق- جلّ وعلا- يستجيب دعاءه، ويبشره بالولد الذي طلب، فتعتريه حال كتلك الحال التي اعترت موسى حين انقلبت العصا إلى حية تسعى! فلا يملك أن يسأل ربّه: أنّى يكون لى غلام وقد بلغني الكبر وامرأتى عاقر؟ إنها صدمة المفاجاة بهذا الأمر الخارق العجيب، ولو جاء هذا الأمر متلبسا بمقدمات تومىء إليه، وتكون إرهاصا به- لما كان من هذا النبي الكريم هذا الموقف المثير لعجبه ودهشته، لأنه على يقين من قدرة الله التي لا حدود لها، والتي لا يسأل أمام عجائبها ومبدعاتها.. بكيف؟ ولكنها- كما قلنا- صدمة المفاجأة، ودهشة المستقبل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 لأمر غير متوقع! وقد أجاب الله زكريا بما لا يخفى عليه، ولا يعتقد فى الله غيره «قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ» .. ويجوز أن يوقف على قوله تعالى «كذلك» فيكون اسم الإشارة والمحذوف الذي يكمله هو مقول القول، والتقدير: كذلك قضى ربك، أو نحو هذا، ويكون قوله تعالى «اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ» جملة تفسيرية لمقول القول.. وهذا هو الوجه الأظهر للآية الكريمة. ويجوز أن يكون الوقف عند لفظ الجلالة: «قالَ كَذلِكَ اللَّهُ» ويكون المعنى كذلك هو الله سبحانه فى قدرته وحكمته، ثم يجىء بعدها قوله تعالى: «يَفْعَلُ ما يَشاءُ» جملة مستأنفة، شارحة موضحة. وقوله تعالى: «قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً» ليس عن شكّ فى تصديق زكريا بما أخبره به ربّه، وإنما هو استعجال لهذا الخير المنتظر، وائتناس بالبشريات التي تحدّث به، وتنتصب شاهدة عليه.. فالآية التي تعرض لزكريا فى هذا الوقت الذي لا زال فيه الولد فى عالم الغيب، لم تظهر له فى عالم الوجود إشارة أو علامة تنبىء عنه- الآية التي يراها زكريا فى هذا الوقت، هى فى الواقع شىء مجسّد يجده زكريا، ويجد ريح الولد فيه! وفى هذا ما فيه من تمام الفرحة وكمال المسرة! وكما استجاب الله لزكريا فيما طلب من ولد، استجاب له كذلك فيما طلب من آية على هذا الولد.. «قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً» هذه هى الآية التي تملأ قلب زكريا طمأنينة وأنسا بالولد المنتظر.. ألّا يكلّم النّاس ثلاثة أيام، بمعنى أن يجد لسانه عاجزا عن الكلام، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 محبوسا عن النطق، فلا يكون بينه وبين الناس تفاهم إلا بالإشارة بيده، أو الإماءة برأسه، أو ببعض الحركات بعضو أو بأكثر من عضو من جسده.. وفى هذا صوم إجبارى عن الكلام، وهو ضرب من ضروب العبادة العالية، وقد أمر الله تعالى به مريم فى قوله سبحانه: «فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا» . ويصحّ أن يكون قوله تعالى لزكريا: «قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً» يصح أن يكون هذا أمرا لزكريا بالصّوم عن الكلام ثلاثة أيام بلياليها، كما قال تعالى لزكريا فى آية أخرى: «قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا» (10: مريم) وعلى هذا المعنى يكون صوم زكريا عن الكلام صوما إراديّا، استجابة لأمر الله. والسؤال هنا: لم كانت الآية على هذا الوجه، وهو أن يصمت زكريا عن الكلام- إجباريا أو اختياريّا- ثلاثة أيام؟ يجيب أكثر المفسرين على هذا بأن ذلك كان عقابا لزكريا فى موقفه هذا القلق، الذي وقفه من الخبر الذي جاءه عن ربّه.. فقال أولا: «أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا؟» ثم قال ثانيا: «رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً» ! والذي نراه- والله أعلم- ن هذا الصمت الذي فرضه الله تعالى على زكريا مدة ثلاثة أيام، هو الدواء الذي تسكن به النفس المضطربة المهتاجة بهذا الخبر العجيب.. وهو طب بليغ، لا يغنى غيره غناءه فى مثل تلك الحال.. ذلك أنه ليس أحسن من الصمت علاجا لجمع النفس المشتتة، وتسكين القلب المهتاج!. ولو كان ذلك الصمت عقوبة لكان تكديرا لتلك النعمة التي كانت فى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 ذاتها آية من آيات الله.. وتعالت آيات الله أن تشاب بسوء، وجلّت نعمه أن تختلط بكدر! فالصوم عن الكلام هنا هو من تمام تلك النعمة، التي تستأهل عظيم الحمد، وجزيل الثناء، ولهذا جاء توجيه الله تعالى لزكريا بقوله: «وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ» بعد أن جعل الصوم عن الكلام آية له، شكرا على تلك العطية العظيمة، وعلى الآية المصاحبة لها. هذا، ويمكن أن يعطى النظر فى الآية الكريمة معنى آخر، وهو أن قوله تعالى لزكريا: «آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً» هو إيحاء لزكريا بأنه- وهو مما خلق الله- يستطيع إذا تعطلت الأداة الطبيعية للتفاهم بينه وبين الناس، وهى الكلام، فإنه لا يعدم وسيلة أخرى يتفاهم بها، ويجد منها ما يعوضه عن بعض ما فقد، فيتخذ الرمز والإشارة عوضا عن الكلمة باللسان.. فإذا كان ذلك شأن الإنسان، حيث يستطيع أن يخرج عن الأسباب المألوفة، ويحقق بأسباب غيرها ما كان يحققه بها، فإن قدرة الله- التي هى فوق نطاق الأسباب أبدا- أحق وأولى بألا تحتجزها الأسباب التي نراها مصاحبة للمسببات! وأنه إذا كان من مألوف الحياة الواقعة تحت حواسنا ألا تلد العقيم، وألا يولد للشيخ الفاني، فإن قدرة الله- إذا قضت حكمته- تجعل العقيم ولودا، وتخلق من الشيخ الفاني بنين وبنات.. «وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 الآيتان: (42، 43) [سورة آل عمران (3) : الآيات 42 الى 43] وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) التفسير: العطف هنا فى قوله تعالى: «وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ» هو عطف على قوله تعالى: «إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ» ، فهو عطف حدث على حدث. ولقد أصبحت «مريم» خادمة بيت الله أهلا لأن تتصل بالسماء، وأن تتلقى فيوض رحماتها وبركاتها، فنادتها الملائكة مبشرة لها بما فضل الله به عليها: «يا مَرْيَمُ.. إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ» بأن جعلك فى عباده المصطفين، القائمين على عبادته وطاعته.. «وَطَهَّرَكِ» من الشّرك به، أو التدنّس بالكبائر من الآثام.. «وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ» أي جعل منك الولد الذي لم يولد لإنسان من الناس على، صورة مثل صورته، وهو «المسيح» الذي سيولد من غير أب.. نفخة من روح الله، وكلمة من كلماته! إنها صورة فريدة لا مثيل لها فيما تلد الأمهات.. فلقد اصطفى الله- سبحانه- هذه الأنثى المباركة، لتكون معرضا من معارض قدرته، ومجلى من مجالى صنعته فيما يصنع، وشاهدا من شهود تلك القدرة التي إن أقامت هذا الوجود على سنن، وربطت بين المسببات والأسباب، فإنها فوق السنن، وفوق الأسباب،.. تخرج الحىّ من الميت، وتخرج الميت من الحىّ.. وتخلق أصل الإنسانية كلها ابتداء من غير ذكر أو أنثى- هو آدم- وتخلق أنثى- هى حواء- من ذكر، دون اتصال بأنثى، وتخلق ذكرا- هو المسيح- من أنثى دون اتصال بذكر! فهذا هو الاصطفاء الذي اصطفى به الله سبحانه وتعالى «مريم» على نساء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 العالمين، إذ كانت منها هذه الآية العجيبة، وتلك المعجزة الفريدة بين المعجزات! ومن حقّ هذا الاصطفاء الذي أضفاه الله على «مريم» أن تتلقاه بالشكران والحمد لله ربّ العالمين، فكان أن وجهها الله سبحانه، إلى هذا بقوله: «يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ» والقنوت هو الخضوع لله، والولاء المطلق لعزته وجلاله، والسّكن إلى نعمه وأفضاله.. والسجود والركوع عملان من عمل الجوارح لعبادة الله، والولاء له. فالقنوت عبادة صامتة مكانها القلب.. والسجود والركوع عبادة ظاهرة، مظهرها الجوارح.. وبالقنوت، والسجود، والركوع، يصبح باطن الإنسان وظاهره جميعا مشتغلا بعبادة الله، متجها إليه، قائما على الولاء له.. وهذا هو أكمل العبادة وأتمها. الآية: (44) [سورة آل عمران (3) : آية 44] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) التفسير: الإشارة هنا، إلى ما ذكره الله سبحانه وتعالى من أخبار امرأة عمران، وزكريا، ومريم ابنة عمران.. وهى مما غاب أمره عن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- ولم يكن عنده من أخبارها شيئا.. فهى غيب بالنسبة الرسول، وإن كان عند أهل الكتاب شىء منها! وقوله تعالى: «وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ» تأكيد لما بين الرسول، وبين هذه الأحداث من بعد، ومن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 غياب أمرها عنه، لأنه- أولا- لم يكن من أهل الكتاب، ولا من القارئين الدارسين لما فى أيدى أهل الكتاب من علم، ولأنه- ثانيا- لم يكن معاصرا لهذه الأحداث، ومشاهدا لها.. ومن جهة أخرى، فإن من هذه الأنباء ما لم يكن عند أهل الكتاب- وخاصة معاصرى النبوة- شىء منها، مثل ما أخبر به القرآن من اختصام المختصمين فى كفالة مريم، وأيّهم أحق بها، ثم التجاؤهم فى هذا الخلاف إلى أن يقترعوا عليها، وذلك بإلقاء أقلامهم فى الماء، فأيهم ثبت قلمه كفلها، وقد أصابت القرعة زكريا، فكفلها زكريا، كما أخبر القران الكريم بهذا.. فهذا كلّه لم يكن عند أهل الكتاب المعاصرين للنبيّ شىء منه، ولم يكن فيما بين أيديهم من كتب الله حديث عنه. وفى هذه الأخبار التي يتلقاها محمد من السماء، على غير سابق علم بها، وفى مجيئها على تمامها وصحتها، غير محرفة، ولا مبتورة، كما هو الحال فيما بقي بين أيدى أهل الكتاب منها- فى هذه الأخبار دلالة قاطعة على أن ما يتلقاه محمد من أخبار، هو من مصدر عال، لا يرجع فيه إلى بشر، ولا يستند فيه إلى علم بشر، وإلا كان لزاما عليه ألا يخرج عن محتوى ما يرد إليه من علم العالمين! الآيتان: (45، 46) [سورة آل عمران (3) : الآيات 45 الى 46] إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) التفسير: متعلق الظرف «إذ» هو قوله تعالى: «وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 إِذْ يَخْتَصِمُونَ» أي لم تكن يا محمد شاهدا لأمر مريم، وما وقع فيه من خصام فى الولد الذي جاءت به من غير أب، إذ جاء هذا الولد بنفخة من روح الله، وبكلمة منه. وقوله تعالى: «اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ» هو الاسم الذي اختاره الله لهذا المولود «الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ» ! فالمسيح صفة هذا المولود، وقد ورد كلمة مسيح فى كثير من المواضع فى التوراة، وترجمها اليهود الذين كتبوا الترجمة اليونانية السبعينية للتوراة (حوالى (38 ق. م) باللفظ اليوناني الذي معناه الشخص الذي مسح بالزيت المقدس، وهو زيت الزيتون.. وكلمة مسيح فى العبرية تنطق هكذا: (مسيح) . و «عيسى» هو اسمه. و «ابن مريم» هو صفة تكشف عن نسبه إلى من ولده، وهى أمّه، على حين ينسب الأبناء إلى آبائهم، وإذا كان ولا أب له، فإن نسبته إلى أمّه أمر لازم، لا بد منه. وقوله تعالى: «وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» الوجاهة هنا الرفعة وعلوّ الشأن.. أما فى الدنيا، فيكاد المسيح- عليه السّلام- يكون واحدا من أفراد يعدّون على أصابع اليد، ملأ الدنيا ذكرهم، وعمرت قلوب الناس بحبّهم والولاء لهم.. وأما الآخرة فعند الله وفاء هذا الوعد الكريم الذي وعده به. «وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» . قوله تعالى: «وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 كلام المسيح فى المهد ذكر القرآن الكريم، فى أكثر من موضع، أن المسيح- عليه السلام- تكلم فى المهد، وذلك، ليكون آية على طهر أمه وعفافها، وبراءة عرضها من أن يعلق به شىء مما تلوكه الألسنة، وتوسوس به الظنون، فى حال كحال مولود يولد من غير زواج معترف به شرعا، أو عرفا! ففى البشارة الأولى التي تلقتها مريم من السماء، يكشف لها الوحى، عن وجه هذا الغلام، الذي ستلده العذراء هذا الميلاد العجيب، الذي لم تعهده فى الناس، ولم تعلمه فى واحدة من بنات جنسها، وفى هذا يقول الله تعالى: «إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ» (45- 46: آل عمران) . والصفة البارزة التي لهذا الوليد هنا، هى نطقه وهو فى المهد، وحديثه إلى الناس حديثا واضحا مفهوما.. أما وجاهته فى الدنيا والآخرة، فهو أمر معنوى، لا ينكشف للناس انكشاف الكلام فى المهد، ولا يقع منهم موقع هذا الكلام الذي يثير العجب والدهش، ولا يدع لأحد سبيلا إلى الإنكار أو المكابرة ولكن هنا سؤال هو: ما وجه الإخبار عن كلام المسيح كهلا، إلى جانب الإخبار عن كلامه فى المهد.. مع أن كلامه كهلا أمر مفروغ منه، والإخبار به نافلة غير مطلوبة فى ظاهر الأمر؟ أكثر أقوال المفسرين لتعليل هذا، أنه إخبار عن رجعة المسيح- فى آخر الزمان- وذلك أنه مات فى سنّ الكهولة، وأنه سيعود إلى الدنيا مرة أخرى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 فى سنّ الكهولة.. وهذا تعليل- إن صح- فإنه يقوم على اعتبار أن رجعة المسيح أمر سيقع، وأنه لا وجه لهذا التعليل إذا كانت تلك الرجعة مشكوكه فيها، أو مقطوعا بعدم وقوعها. وإذا كان من رأينا أن رجعة السيد المسيح من الأمور غير المحققة، وأن الشك فى وقوعها- فى رأينا- يغلب أي احتمال ينبنى على روايات وآثار تقول بها- إذا كان هذا هو رأينا، فإننا نرى لتعليل هذا الأمر- وهو كلام المسيح كهلا- وجها آخر. فنقول- والله أعلم-: إنه لمّا كان النطق فى المهد أمرا واقعا على غير المألوف، خارجا عن طبيعة البشر، فقد يقع فى حساب الناس وتقديرهم أن هذا الوليد الذي تكلم فى المهد، سيسلك فى الحياة مسلكا غير مسلكهم، ويسير فى طريق غير طريقهم، وأنه وقد بدأ حياته متكلما يوم مولده، فغير مستبعد أن يكون كلاما بعد أن يكبر ويشب واقعا على صورة أخرى مفارقة لكلامه فى المهد.. فالطفل يبدأ الكلام بأصوات أشبه بأصوات الحيوان.. ثم تستبين تلك الأصوات شيئا شيئا، حتى تصبح لغة واضحة، ذات دلالة محدودة مفهومة.. وقياسا على هذا.. قد يقع فى التقدير أن كلام المسيح سيتدرج كما يتدرج كلام الطفل.. وأنه وقد بدأ بالكلام واضحا فصيحا من أول يوم، فإنه فى تدرجه بعد هذا سينتهى إلى صورة أخرى من الكلام، يكون الفرق بين أولها وآخرها، كالفرق بين أصوات الطفل، وبين كلامه فى الكهولة والشباب! هذه بعض المفاهيم التي يمكن أن تقع فى الأفهام وتدور فى الخواطر، عن هذا الحدث العظيم.. وهذا ما يدفعه قوله تعالى: «وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا» .. حيث تقرّر الآية أن كلام عيسى فى المهد وكلامه فى الكهولة على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 سواء، لا اختلاف بينهما، وأن صلة التفاهم لا تنقطع بينه وبين الناس فى مراحل حياته، وأنه إذا كلّمهم فى مولده بلغة سليمة مفهومة، فإنه سيكلمهم بهذه اللغة أيضا فى أدوار حياته.. وبهذا تعلم مريم من أول الأمر أن وليدها الذي سيتكلم فى المهد، لا يخرج به ذلك عن طبيعة البشر، ولا يجعل منه مولودا شاذا، تشقى به أمه، وتعانى من شذوذه هذا، ما تعانى الأمهات من مواليدهن الذين يجيئون على غير مألوف الحياة. وقد يكون لمعترض أن يلقانا بهذا السؤال: لم نصّ القرآن على دور الكهولة وحده، دون أدوار الحياة الأخرى.. من صبا وشباب وشيخوخة؟. والجواب على هذا، هو: أن دور الكهولة هو الدور الذي يبلغ فيه الإنسان تمام نضجه الجسدى والعقلي.. فإذا كان كلام المسيح فى المهد وفى الكهولة على حال واحدة، كان ذلك هو المعيار الذي تنضبط عليه لغته، وطريقة حديثه إلى الناس، فى جميع أدوار حياته. وندع هذا، لنصل ما انقطع من حديثنا عن كلام المسيح فى المهد- فنقول: إن مريم- عليها السلام- إذ تلقت هذه البشرى من رسول ربها، قد لفتها منها أمران: أن يكون لها ولد من غير أن يمسسها بشر.. ثم أن يكون هذا المولود على صفات خاصة.. أهمها أنه يتكلم فى المهد، كلاما سليما واضحا، كما يتكلم الراشدون من الناس. ولعلّ مريم لم تلتفت كثيرا إلى ما لهذا الوليد من صفات، إذ كان شغلها الشاغل إذاك، هو أن تلد مولودا من غير زوج يتصل بها. ولهذا كان عجبها ودهشها، فى هذا الاستفهام الإنكارى الذي ذكره القرآن على لسانها: «أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ» ؟ .. فهذه هى مشكلتها، وهذا هو موضع عجبها، ودهشها فى تلك الحال.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 ثم إنه حين تم لها ما أراد الله، وجاءها المخاض، ووجدت نفسها أمام الأمر الواقع، وأنها فى وجه فضيحة لا دفع لها- كان عزاؤها الوحيد فى تلك الحال هو ما كان قد أبلغها إياه رسول ربّها، بأن وليدها سيتكلم فى المهد، وسينطق بالشهادة التي تدفع قالة السوء عنها.. وفى هذا يقول الله تعالى: «فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا» (27- 33: مريم) ففى هذا الموقف المتأزّم جاءت المعجزة، لتواجه القوم، ولتخرس تلك الألسنة المتطاولة، ولتأخذ على المتقوّلين فيه وفى أمّه كل سبيل.. فهذا الوليد الذي ولد لغير أب، قد نطق فى المهد وتكلّم فى حال لا يتكلم فيها طفل غيره.. فمولده من غير أب، وكلامه فى المهد، على حدّ سواء، فى الغرابة والاستنكار.. وأنه إذا كان لأحد أن ينكر هذه المعجزة القاهرة، وهى معجزة كلام الوليد فى المهد، فلينكر ميلاد هذا الوليد غير أب!!. وكلام السيد المسيح هنا صريح واضح، على شاكلة ما يتكلم به قومه، وباللغة التي يتعاملون بها، وقد فهموا عنه ما قال، ولم يكن ما نطق به محتاجا إلى تأويل أو تخمين. وقد ذكر القرآن الكريم مرة ثالثة كلام المسيح فى المهد، فى معرض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 الامتنان على المسيح نفسه، بما كان من نعم الله عليه، وألطافه به.. حيث يقول سبحانه وتعالى: «إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ، تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ» . (110: المائدة) ويلاحظ هنا أيضا كلام المسيح فى المهد وكلامه كهلا، وذلك ليذكر المسيح- وهو المخاطب بهذا من ربّ العالمين- أن كلامه فى المهد كان على صورة هذا الكلام الذي يتكلم به فى كهولته.. فيه العقل والمنطق والحكمة، وليس أصواتا كأصوات الأطفال، ولا لغوا كلغو الصبيان!. والسؤال هنا.. هو: هل كان كلام المسيح فى المهد حدثا وقع فى موقف الدفاع عن التهمة التي رميت بها أمه من قومها.. ثم أمسك المسيح بعدها عن الكلام، ليأخذ الحياة على مألوف المواليد من الناس، وليدرج فى مدارج الطفولة خطوة خطوة.. أم أنه استمر متكلّما مبينا إلى آخر أيامه؟. ونقول: إن كلام المسيح فى المهد هو معجزة متحدّية، مثل معجزاته فى إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص. والشأن فى تلك المعجزات المادية أن تظهر فى الحال الداعية لها، ثم تختفى، فلا يرى الناس لها وجها إلى آخر الأبد. ومن الحكمة فى هذا ألا تعيش المعجزة المادية طويلا فى حياة الناس، حتى لا يألفوها، هذا الإلف الذي يذهب ببهائها وجلالها. ثم إن المعجزة المادية القاهرة امتحان وابتلاء، وما كان هذا شأنه فإن من الحكمة أن يلمّ بالناس إلماما، وألا يقيم إقامة دائمة، تلحّ على الناس فيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 الآيات المنطلقة منه، إلحاحا ملازما، وبهذا يتمايز الناس ويتفاضلون فى الإفادة من الفرصة العابرة، المتاحة لهم.. والقرآن الكريم- وإن قطع بأن المسيح تكلم فى المهد، فإنه لم يذكر شيئا عن صمته أو كلامه، بعد هذه الواقعة التي دافع فيها عن شرف مولده، وطهر أمه وعفافها.. لأن ذلك لا يقدّم ولا يؤخر فى هذا الموقف. ولكنا- مع ذلك، ومع احترامنا لصمت القرآن فى هذا الأمر- نستطيع أن نقول: إن المسيح لم يكن كلامه فى المهد، إلا تلك الكلمات التي نطق بها، فى مواجهة الاتهام المصوّب إلى أمه من قومها، وأنه بهذه الكلمات الواضحة المحدودة، قد أرى القوم معجزة منه، تناظر المعجزة التي ولد بها، والتي ينكرونها على أمه! ثم عاد بعد هذه الكلمات إلى الطفولة فى صمتها، وفى نطقها.. كما سيتضح ذلك فى حديثنا عن الأناجيل وإغفالها لذكر هذا الحدث العظيم، من حياة المسيح! الأناجيل وحديث المسيح فى مهده: والذي يدعو إلى العجب حقّا، هو أن الأناجيل الأربعة التي يدين بها المسيحيون اليوم، لم تشر أية إشارة من بعيد أو قريب إلى كلام المسيح فى المهد، ولم تذكر دفاعه المفحم عن أمّه، فى وجه تلك التهمة التي انعقد دخانها عليها، يوم جاءت به تحمله إلى قومها.. ونسأل أولا: لماذا ذكر القرآن هذا الحدث الذي لم يكن عند أهل الكتاب- من أتباع المسيح- المعاصرين للنبىّ علم به، أو كان لهم به علم ولكن لم يجرءوا على ذكره؟ لماذا يذكر القرآن هذا عن المسيح، ويعطى أتباع المسيح معجزة المسيح، هم ينكرونها؟ ونقول: إن القرآن الكريم إذ يقف هذا الموقف، وإذ يجبه إجماع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 أتباع المسيح على إنكار هذه الواقعة- ليعلم عن يقين أنه يواجه بهذه الحقيقة عالما متربّصا به، متلهفا إلى اصطياد المعاثر والمزالق له، فكان من المتوقع- والأمر كذلك- أنه إذا جاء يحدّث أهل الكتاب عن أمر هو فى أيديهم، ومن خاصة أمورهم- كان حديثه معهم جاريا مع ما يعرفون منه، وما يروون عنه، فإن كان اختلاف فى شىء، ففى ترتيب الأحداث وتلوينها، فإن زاد الخلاف شيئا، ففى الأحداث العارضة، التي لا تدخل فى الصميم من ذاتية هذا الأمر. أمّا إذا كان الحديث عن أمر له شأنه وخطره فى بناء العقيدة، ثم كان مما يقيم لأصحاب تلك العقيدة حجة دامغة ودليلا قاطعا لمقولاتهم التي ينكرها عليهم- فإن ذلك هو أعجب العجب.. حيث يجىء القرآن إلى هذه الدعوى التي ينكرها على أتباع المسيح، فى تأليههم له- يجىء فيضع بين يدى أصحابها حجة أقوى من حجتهم لها، ودليلا أوضح من دليلهم عليها.. إن ذلك لعجب عجيب!! ذلك أن أتباع المسيح يتخذون من معجزات المسيح الخارقة- كإحياء الموتى، وإبراء ذوى العاهات والزّمنى- يتخذون من ذلك دليلا على ألوهيته. ولو كانوا يرون سبيلا إلى القول بأنه تكلم فى المهد لحرصوا على إظهار تلك المعجزة، وإضافتها إلى ماله من معجزات، ليقوى هذا من قولتهم فيه، وتأليههم له! .. فكيف يقدّم القرآن لخصومه فى تلك الدعوى التي يدّعونها، والتي ينكرها عليهم- كيف يقدّم لهم مستندا جديدا، يؤيد هذه الدعوى عندهم، ويؤكد هذا الزعم لديهم؟ ونقول: إن القرآن الكريم لا يلتفت إلى شىء من هذا، ولا يجعل له شأنا فى حسابه مع ما يدعيه المدعون.. وإنما الذي يلتفت إليه، ويحسب له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 حسابا، هو الحق، والحق وحده.. سواء وافق هذا الحق واقع الناس، وجرى مع معارفهم ومعتقداتهم، أم جاء على طريق غير طريقهم، وبعلم غير علمهم! وهذا شاهد من شهود القرآن الكريم، بأنه ليس من عمل بشر، ولا من تدبير إنسان، وإلا كان عليه أن يتجنب هذا الصدام الصريح مع الواقع، الذي لا يعلم ما وراءه إلا علام الغيوب.. وإلا كان عليه أيضا- لو أنه من عمل بشر- أن يخفى ما بين يديه من حجج يستند إليها خصومه، ويتخذون منها سلاحا يحاربونه به، فى المعركة الدائرة بينه وبينهم. وما كان لغير الحق السماوي أن يقف هذا الموقف، إزاء أمر يشتهيه أهله وهم به جاهلون، ويتمنّونه وهم منه وجلون.. خوفا من البهت والتكذيب. لهذا، فإن القرآن الكريم، إذ يقول ما يقول فى عيسى وأمه مما تنكره اليهود، وتقول بخلافه فيهما، وإذ يقول ما يقول فى عيسى، وفى كلامه فى المهد مما ينكره النصارى، ولا يجدون عليه شاهدا مما فى أيديهم من أناجيل- إن القرآن، إذ يقول هذا، وذاك، إنما يقول الحق الذي غمّ على الناس أمره، وعميّت عليهم سبله، ثم لا عليه إذا هم صدقوه وآمنوا به، أو كذبوه وأعرضوا عنه.. فإن الحق الذي نزل به، سيظل هكذا قائما على الدهر، يتحدى المكابرين والمعاندين، ويواجه أبصار المتشككين والمنحرفين، «فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها» (204 الأنعام) .. «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» (29: الكهف) والعاقبة دائما للحق، فإنه وإن غامت عليه سحب الضلال، وانعقدت فى سمائه ظلمات الجهل- فإنها أمور عارضة، لا تلبث أن تزول، وإن طال مقامها.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 لماذا لم تذكر الأناجيل كلام المسيح فى المهد؟ وإذا تركنا جانبا، النظر فيما وقع فى الأناجيل من تحريف وتبديل، وقلنا إنها والقرآن على سواء فى صحتها وسلامتها- كان ظاهر الحال يشهد بأن كفّتها هى الراجحة فى هذه القضية، وأن الكلمة كلمتها فيما تقول فيها، وأن عدم ذكرها لكلام المسيح فى المهد يقطع بأن المسيح لم يتكلم فى المهد! إذ لو كان قد تكلم فى المهد لما كان هناك من سبب يدعو كتّاب الأناجيل إلى إغفال هذه الحادثة، التي تعلى من شأن المسيح، وترفع قدره، وتكاد تخرج به عن حدود البشر، وترفعه إلى مقام الملأ الأعلى- الأمر الذي يقوّى من دعوى أتباعه، بأنه هو الله أو ابن الله! .. بل وأكثر من هذا، فإن عدم ذكرها لهذا الأمر العظيم لدليل على أنها كانت تلتزم جانب الحق فى كل ما تقول فى المسيح، وأنها لم تقل فيه قولا لم يكن له، أو منه!! ولكن إذا أعدنا النظر فى هذه المسألة على ضوء الظروف والملابسات التي كتبت فيها الأناجيل، والتي تبدو واضحة لأدنى نظرة ينظر بها إليها- إذ فعلنا ذلك، رأينا أنه ليس ببعيد أن ينخرم من الأناجيل هذا الخبر، وأن يسقطه الذين كتبوها، من حسابهم، لأمر قدروه ولحساب حسبوه! ويمكن أن يعلل لذلك يعلل كثيرة.. منها: أولا: أن الأناجيل قد كتبت فى وقت كان اليهود يشنّعون فيه على المسيح، ويلاحقون أتباعه، ويأخذونهم بالبأساء والضراء حيث وجدوهم. ثانيا: قدّر كتاب الأناجيل أن الجوّ الذي يحيط بهم مشحون بالأكاذيب التي يطلقها اليهود فى جنون، حول المسيح وأمه. ويبهتون كل ما كان له من معجزات، ويدخلونها فى باب الشعوذة والدجل.. فليس معقولا والأمر كذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 أن يفتح كتاب الأناجيل جبهة جديدة للحرب بينهم وبين اليهود، وأن يلقوا إلى النار المشبوبة وقودا جديدا، يزيدها اشتعالا، ويزيد اليهود سفاهة وتطاولا! ثالثا: لنا أن نجعل فى اعتبارنا أن كلام المسيح فى المهد، لم يكن حدثا قائما يعيش فى الناس، وإنما كان للحظة عابرة- كما قلنا من قبل- أريد به أن يطفىء ثورة ثائرة على أمه.. وأنه إذا كانت تلك المعجزة قد أحدثت هزّة عميقة، ودويا عاليا- فإن صمت المسيح بعدها إلى أن جاوز دور الطفولة، قد أطفأ جذوتها، وجعلها تتوه خلال تلك الأحداث المذهلة التي دارت حول المسيح، فى كل خطوة كان يخطوها، وسط صخب اليهود وجلبتهم. رابعا: الذين شهدوا كلام المسيح فى المهد لم يكونوا يجاوزون بضعة من الناس، هم القرابة القريبة من أمّه، الذين استقبلوها وهى تحمل وليدها، فأنكروها وأنكروا ما تحمل!! ومثل هذا العدد، وإن وجدوا فى كلام المسيح ما يمسك ألسنتهم عن قول السوء فى العذراء البتول- لا يمكن أن يقف لهذه الأعداد الكثيرة التي تعيش خارج هذه الدائرة المحدودة، وتخفت صوتها، الذي إن بدأ خافتا، متهامسا، متقطعا، فإنه سيعلو ويعلو، ويصير صراخا، وعواء يملأ أرجاء اليهودية، حين يواجه المسيح اليهود بدعوته، ويواجهونه هم بالإنكار والتكذيب، ثم المطاردة، والمحاكمة!! والصورة التي تبدو لنا من هذا الموقف.. هى هكذا: عدّة من الناس.. قد يكونون عشرة، أو ما دون العشرة أو أكثر، هم رهط مريم الأقربون، قد رأوا الوليد، وسمعوه يتكلم، ويدفع عن أمه العار الذي واجهوها به.. فلما صمتوا حين تكلّم، صمت هو إلى أن فارق طور الطفولة.. ثم هناك أعداد لا حصر لها من الناس، ترامى إلى سمعها هذا الخبر العجيب، فجاءت تطلب له الشاهد من فم هذا الطفل الذي نطق، فلم تجد إلا صمتا، ولم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 تشهد فيه إلا ملامح الطفولة ومخايلها.. فرجعوا بين مصدّق ومكذب، وبين متشكك ومتهم!! ثم يمضى الزمن بهؤلاء وأولئك جميعا.. ويتقلب هؤلاء وهؤلاء، بين الشك واليقين، والتكذيب والاتهام. أما أصحاب اليقين، الذين عاينوا المعجزة- وهم قلة- فتذهب بهم الأيام واحدا واحدا، حتى إذا بلغ المسيح أشدّه، وطلع على الناس بمعجزاته، لم يكن منهم فى الحياة إلا بضعة أفراد، أو مادونهم. وأما المتشكّكون والمترددون، فقد أنساهم الزمن هذا الأمر، وما علق بنفوسهم منه.. من شك أو تردد. فلما أن كان وقت كتابة الأناجيل، كانت تلك الحادثة- حادثة كلام المسيح فى المهد، قد ضاعت فى طوفان الأحداث التي اتصلت بحياة المسيح، والتي انتهت بهذا الحدث العظيم. فى قضية صلبه، وقيامه من الأموات.. ثم فى مطاردة تلاميذه وأتباعه، والتنكيل بهم. حيث وقعت عليهم عين، أو وقعت عليهم يد! لقد كانت حادثة كلام المسيح فى المهد، عند كتابة الأناجيل، شيئا باهتا، أشبه بأضغاث الأحلام، لم يمسك الناس منها إلا بذكريات غامضة مضطربة، فكان إعلانها وإذاعتها فى هذا الوقت مما يقوّى جبهة أولئك الذين يجدّفون على المسيح، ويرمونه وأمّه بالمنكرات والأباطيل والمفتريات! هذا، وليست حادثة كلام المسيح فى المهد، هى وحدها التي أغفلت الأناجيل ذكرها، من متعلقات المسيح وأخباره، بل لقد أغفلت الأناجيل- عن تدبير وتقدير- كثيرا مما كان للسيد المسيح.. تقيّة وخوفا، تحت ضغط الظروف القاسية التي كتبت فيها الأناجيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 فمثلا: «ميلاد المسيح من عذراء» . هذا الحدث، لا يقلّ شأنا وإثارة، وتحديا عن كلام المسيح فى المهد! ومع هذا، فإن إنجيلى «مرقس» و «يوحنا» لم يشيرا أيّة إشارة إلى هذا الميلاد.. والقديس «بولس» مؤسس المسيحية، وداعيتها الأول، لم يتحدث عن هذا الميلاد، ولم يشر إليه فى رسائله، ولم يتخذ منه آية يغزو بها القلوب، لدعوته التي كان يدعو بها، ويجمع لها كل القوى المادية والمعنوية، لتأخذ طريقها إلى الناس! ثم إن إنجيلى «متى» و «لوقا» الذين تحدثا عن هذا الميلاد العذرى، لم يذكرا ذلك إلا ذكرا عابرا، وفى غير التفات إليه، أو احتفاء به، بل إنهما إذ يقولان بميلاد المسيح من عذراء، يعودان فيرجعان نسب المسيح إلى داود عن طريق «يوسف» الأب المسمّى للمسيح، وكأنما أرادا بذلك أن يسدّا هذه الفجوة، بنسبة المسيح إلى يوسف، زوج أمّه! فإذا وقع فى تقديرنا أنه كان من المكن إلغاء إنجيل «متى» و «لوقا» الذين ذكرا ميلاد المسيح من عذراء. كما ألغيت عشرات الأناجيل غيرهما، ثم أصبح اعتماد المسيحية على إنجيلى «مرقس» و «يوحنا» - لو وقع هذا- وكان من الممكن أن يقع- لما كان فى المسيحية أية إشارة إلى هذا الميلاد، ولذهب من تاريخ المسيح، كما ذهب كثير غيره من أقواله، وأعماله. وحادثة مجىء المسيح إلى مصر، مع أمه، وزوج أمّه.. هذه الحادثة، لا تقلّ خطرا، عن كلام المسيح فى المهد، وعن ميلاده من عذراء، إذ كانت عن إرهاصات مزلزلة، لما سيكون لهذا الوليد من شأن. ومع هذا فإن إنجيلا واحدا من الأناجيل الأربعة المعتمدة هو الذي ذكرها، ذلك هو إنجيل متى، الذي يروى هذه الحادثة على هذا النحو: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 «ملاك الربّ» ، ظهر ليوسف (زوج مريم) فى حلم، قائلا: خذ الصبى وأمّه واهرب إلى مصر، وكن هناك، حتى أقول لك، لأن «هيرودس» (ملك اليهوديّة) مزمع أن يطلب الصبىّ ليهلكه، فقام وأخذ الصبىّ وأمه ليلا وانصرف إلى مصر، وكان هناك إلى وفاة «هيرودس» (متى: 2: 13- 15) وهذا الخبر لم تذكره الأناجيل الثلاثة، ولم تشر إليه أية إشارة! فكيف كان الحال، لو ألغى إنجيل متى كما ألغيت عشرات الأناجيل، وكتب عليها أن تختفى إلى الأبد؟ وننتهى من هذا إلى القول بأن ما ذكره القرآن من كلام المسيح فى «المهد» هو الحق الذي لا شك فيه، وأن خلوّ الأناجيل من ذكر هذا الحدث، لا يجعل لها حجة على القرآن فى هذا المقام، خاصة وقد أغفل معظمها أحداثا تتعلق بالمسيح، ولا تقل شأنا عما ذكره القرآن عن كلامه فى المهد! إن القرآن قد أخبر بأن المسيح تكلم فى المهد، وهذا الخبر، هو معجزة متحدّية، إذ ينكره من هم أشد الناس حرصا على وقوعه، ليكون لهم منه حجة تقوّى معتقدهم فى ألوهيته المسيح، وفى خروجه عن طبيعة البشر! إن ذلك عند المؤمنين بالقرآن معجزة متحدية، وهو عند غير المؤمنين، دعوى ينقصها الدليل والبرهان، أو فرية يردّدها أصحاب الأهواء والبدع! فهذه منازل ثلاث، فى القول بأن المسيح تكلم فى المهد. والناس على منازلهم تلك.. إلى أن يأتى أمر الله، فيكشف وجه الحق، ويومئذ تبيضّ وجوه، وتسودّ وجوه!! بقيت كلمة لا بد منها.. وهى أنه قد يقع لفهم بعض الناس من قولنا إن فى الأناجيل اختلافا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 وتعارضا، وكتمانا لبعض الحقائق- قد يفهم من هذا أننا ننتقص من قدر الحواريين، ونسىء الظن بهم وبأمانتهم فيما نقلوا عن المسيح.. إذ أن الأناجيل الأربعة، ينسب ثلاثة منها إلى: متى، ومرقس، ويوحنا، وثلاثتهم من الحواريين.. ومعاذ الله أن نشكّ فى أمانة الحواريين، عليهم السلام، إنهم أجلّ من أن يكذبوا، أو يخونوا الأمانة، إذ كان الله سبحانه هو الذي اختارهم للمسيح أعوانا وأنصارا، كما يصرح بذلك القرآن الكريم، فى قوله تعالى: «وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ» (111: المائدة) والذي يمكن أن يقال فيما وقع فى الأناجيل من اختلاف، وما جاء فيها من مقولات يقف العقل إزاءها موقف الشك أو الإنكار- هو أن الأناجيل إما أن تكون قد كتبت بأيدى هؤلاء الحواريين المعروفين، ثم دخل عليها ما ليس منها، مما هو موضع خلاف، أو شك، أو إنكار، وذلك عن طريق الناقلين والمترجمين.. وإما أن تكون قد كتبت بغير أيدى أصحابها، ثم أضيفت إليهم، وحسبت عليهم، لتكتسب ثقة وذيوعا.. وهنا يتسع المجال لوقوع ذلك الاختلاف بين الأناجيل، وما تحمل فى ثناياها من تلك المقولات المختلفة المتضاربة! الآيات: (47- 51) [سورة آل عمران (3) : الآيات 47 الى 51] قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 التفسير: عجبت مريم لهذا الأمر العجيب، الذي تحدثها الملائكة به من عند ربها.. أن تلدا مولودا من غير أن تتصل بزوج! وكيف؟ وماذا تقول للناس؟ ومن يسمع لها أو يصدق قولها؟ وأنّى لها القوة التي نحتمل بها لذعات الألسنة، وغمزات العيون، وهمسات الشفاه؟ إنها تجربة فريدة فى عالمها، لم تكن لامرأة قبلها، فكيف لها باحتمالها، واحتمال تبعاتها؟ وفى وداعة العابدة المتبتلة، ولطف العذراء وحيائها.. نسأل ربها: «رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ؟» ويجيبها رسول ربها: «كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ» .. لا حدود لقدرته، ولا ضوابط من نواميس الطبيعة التي نعلمها، بالتي تحول بين قدرة الله وبين أن تأتى بما لا نحسب ولا نقدر! وفى قوله تعالى هنا «اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ» وقوله فى إجابة زكريا: «اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ» مراعاة تامة للمقام هنا وهناك. ففى أمر مريم عملية خلق كاملة. فناسبها قوله تعالى: «اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 أما فى قصة زكريا فهى على خلاف هذا.. مولود من رجل وامرأة، وإن كان كلّ من الرجل والمرأة غير أهل لأن يولد له فناسبه أن يعبر عنه بالفعل «اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ» والخلق والفعل وإن كانا من باب واحد، فإن هناك فرقا دقيقا بينهما، وهذا الفرق الدقيق له وزنه وله اعتباره فى بناء الأسلوب البلاغي الرفيع، الذي لا يوجد على كماله وتمامه إلا فى القرآن الكريم. فى قوله تعالى: «وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ» ما يسأل عنه وهو: الكتاب والحكمة.. ما هما؟ لقد منّ الله على عيسى بأن علمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل.. والتوراة والإنجيل معروف أمرهما، إذ كانت التوراة كتاب موسى وشريعته، وبالكتاب وبالشريعة دان عيسى، ثم كان له كتابه وهو الإنجيل.. يبشر به وبكتاب موسى وشريعته.. فما الكتاب والحكمة اللذان تعلمها من الله قبل أن يتعلم التوراة والإنجيل؟ فى القرآن الكريم جاء ذكر الكتاب مقترنا بالحكمة فى كثير من المواضع، مثل قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ» (164: آل عمران) وقوله سبحانه: «رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ» (129: البقرة) وقوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ» (81: آل عمران) وقوله سبحانه: «فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً» (54: النساء) وقوله تعالى: «وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ» (112: النساء) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 وقد جاءت كلمة الحكمة مفردة فى قوله تعالى: «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً» (269: البقرة) وفى قوله سبحانه عن داود عليه السّلام: «وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ» (20: ص) والحكمة هى إصابة مواقع الحق فى القول والعمل، فهى بهذا ضرب من الهداية والتوفيق، يرزقهما الله من يشاء من عباده. والكتاب المقترنة به الحكمة هنا يسبق الحكمة، أي أن الحكمة ثمرة من ثمراته، إذ كان طريق الوصول إلى الكتاب هو معرفة القراءة والكتابة، حتى يمكن الإفادة مما كتب الكاتبون ودرس الدارسون.. وقد تعلّم المسيح القراءة والكتابة، وقرأ ما كتب من كتب، وفتح الله بصيرته وأنار قلبه بالعلم والحكمة، قبل أن يقيمه قيّما على شريعة التوراة والإنجيل. قوله تعالى: «وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ» أي ويجعله رسولا إلى بنى إسرائيل.. فالمسيح أحد الرسل الذين أرسلهم الله إلى بنى إسرائيل، ورسالته خاصة بهم، مكملة لرسالة موسى عليه السّلام فيهم، كما جاء ذلك على لسان المسيح، فيما روت الأناجيل عنه.. ففى إنجيل «متى» : «ثم خرج يسوع من هناك وانصرف إلى نواحى صور وصيدا، وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة: ارحمني يا سيد يا ابن داود، ابنتي مجنونة جدا، فلم يجبها بكلمة، فتقدم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين، اصرفها، لأنها تصيح وراءنا، فأجاب وقال: لم أرسل إلّا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة» (متى: الإصحاح الخامس عشر) . وفى متى أيضا يوصى المسيح تلاميذه، وقد بعث بهم ليبشروا، قائلا: «إلى طريق أمم لا تمضوا، ولا مدينة للسّامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحرىّ إلى خراف بيت إسرائيل الضالّة» (متى: الإصحاح العاشر) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 قوله تعالى: «وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ» أي يتحدث إلى بنى إسرائيل ويخبرهم بما أرسله الله به إليهم» ويقول لهم: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، تشهد لى بأنى رسول من عنده، وتلك الآية هى ميلاده على الصورة الفريدة، إذ ولد من عذراء لم يمسسها بشر. وإذ كان ميلاده وظهوره فى بنى إسرائيل آية، فإن تلك الآية تتولد منها آيات ومعجزات. ومن تلك الآيات ما ذكره القرآن على لسانه: «أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ» فمادة الطين التي منها تخلّقت الكائنات الحية من إنسان وحيوان- هى التي ينشىء منها نماذج لكائنات حية من الطير، ثم ينفخ فيها فإذا هى فى عالم الطير ترفّ بأجنحتها، وتسبح فى السماء، شأنها فى ذلك شأن بنات جنسها من هذا العالم. ونسأل: لم لم تكن معجزته أن يصوّر من الطين إنسانا، فينفخ فيه فيكون إنسانا من الناس، فإن الذي يبعث الحياة فى الطين بنفخة منه، لا يعجزه أن يكون الإنسان أحد مخلوقاته، كما يفعل ذلك فى عالم الطير؟ وإنه لو فعل ذلك لكان أظهر لآيته، وأبلغ فى معجزته وإعجازه؟ ولكن لو وقع هذا لكان فتنة للناس.. إذ كيف يعيش مثل هذا الإنسان فى الناس؟ وكيف تطيب له الحياة بينهم؟ وبأية صلة يتصل بهم ولا نسب له فيهم؟ ثم ما شأنه بعد أن تتحقق المعجزة فيه؟ أيظل هكذا معجزة متحركة بين الناس يدورون معه حيث دار، ويتحركون معه حيث يتحرك؟ إنها الفتنة الممسكة بالناس إذن؟ إن شأن المعجزات المادية أن تكون بنت ساعتها، ثم تختفى فلا يرى الناس لها وجها بعد هذا.. إنها أشبه بإشارة ضوئية، تلمع ثم تختفى ليكون للناس نظر فيها، وتقدير لها، وليخلف عليها نظرهم وتقديرهم، وبهذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 يكون البلاء والامتحان.. ولو أن تلك المعجزات المحسوسة ظلت هكذا قائمة تحت بصر الناس لما كان هناك مكان للابتلاء، ولما كان لأحد فضل على أحد فى الإيمان بها، أو الشك فيها، أو الإنكار لها، ولاستقام أمرهم فيها على طريق واحد.. هو طريق الإيمان والتسليم، وعندها لا يكون للإنسان اختيار، ولا يكون إيمانه محسوبا له، إذ كان عن قهر، تحت ضغط هذه المعجزة القاهرة، التي تأخذ عليه كل سبيل إلى الفرار والزيغ! وانظر فى هذا الطائر، الذي كان تحت أعين الناس صورة من الطين، ثم أصبح بتلك النفخة طائرا ينطلق فى سبحات الجوّ.. ثم لا يلبث حتى يتوارى عن الأنظار، كما يلمع البرق ثم يختفى! .. هنا معجزة، ولكنها تحمل فى ثناياها امتحانا وابتلاء، فيؤمن بها من يؤمن، ويشك فيها من يشك، وينكرها ويكفر بها من ينكر ويكفر.. «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً» (89: يونس) فهكذا تكون المعجزات، لمحة خاطفة، وإشارة عابرة.. فيها نظر لناظر، وعبرة لمعتبر. ومن معجزات المسيح التي يلقى بها بنى إسرائيل، ما عرضه عليهم فى قول الله سبحانه على لسانه: «وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ» . والأكمه من ولد أعمى، وهذا النوع من العمى ليس للطب قديما وحديثا بصر به، ولا عمل فيه، بل هو العجز المطلق حياله.. ومن هنا كان شفاؤه لا يتم إلا بمعجزة متحدية! والبرص مرض خبيث يصيب الجلد، فيذهب بلونه، ويأكل أديمه، كما تأكل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 الأرضة لحاء الشجر.. وشأنه شأن الكمه، لا علاج له، ولا شفاء منه.. إلا بمعجزة متحدية! فكان من معجزات السيد المسيح إبراء الكمه والبرص، وإحياء الموتى! وتلك معجزات قاهرة متحدّية، تقف أمامها قوى البشر عاجزة مستخزية. ومن معجزاته التي أجراها الله على يديه أنه يخبر عما غاب من شئون الناس، فيخبرهم بما أكلوا فى يومهم أو أمسهم، وما ادخروا فى بيوتهم من مال ومتاع. ولكنها مع ذلك معجزات، يمكن أن يكون فيها للسفهاء قول، وللمتمارين والمجادلين مما حكات وتعليلات. ولما جاء المسيح إلى بنى إسرائيل بتلك المعجزات، ليفتح قلوبهم إلى الله، وإلى ما يدعوهم إليه من هدى وإيمان، جاءهم مصدقا بالتوراة، وداعيا بما فيها. وهذا أدعى إلى أن يستجيبوا له، ويؤمنوا به، إذ لم يأتهم بجديد، وإنما الجديد فى رسالته، أن يقيمهم على التوراة التي خرجوا عنها، وتأولوا أحكامها تأويلا فاسدا: «وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ» . وأكثر من هذا، فإن المسيح جاء رحمة من رحمات الله بهم. جاء ليرفع عنهم بعض تلك الأحكام التأديبية التي أخذهم الله بها، عقابا لهم ونكالا، بما حرم عليهم من طيبات كانت أحلت لهم، كما يقول تعالى: «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ» (160: النساء) . فكان من رسالة المسيح إليهم أن يخفف عنهم بعض هذه الأحكام: «وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ» وقوله تعالى «وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ» الآية هنا هى المعجزة التي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 ولد بها عيسى، وجاء إلى هذا العالم بها.. فميلاده على الأسلوب الذي ولد به هو آية من آيات الله، يراها أهل زمانه قائمة بينهم، فيضلّ بها كثيرون، ويهتدى بها كثيرون.. فهو إنما جاء إلى بنى إسرائيل وولد فيهم بآية من آيات الله. وقد ضلّ بها بنو إسرائيل إلا قليلا منهم.. فشنعوا على المسيح وأمّه، ونسبوا البتول إلى الفاحشة، ونسبوا المسيح إلى غير أمه، وجعلوه ابنا غير شرعى ليوسف النجار! قوله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» أي اخشوا الله فيما تقولون من بهتان فىّ وفى والدتي، وأطيعون فيما أدعوكم إليه من أمر الله. قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» هو التعقيب الجامع على ما جرى على يد المسيح من معجزات.. إنى لست إلا عبدا من عباد الله، فأقرّوا لله بالعبودية، كما أقررت له بالعبودية، واعبدوه كما أعبده.. «هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» من لم يستقم عليه فقد ضل وهلك، ومن استقام عليه اهتدى ونجا.. من كذب بتلك الآيات فهو فى الهالكين، ومن صدّق بها ثم بالغ فيها، فجعل من المسيح إلها فهو من الهالكين! الآيتان: (52- 53) [سورة آل عمران (3) : الآيات 52 الى 53] فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) التفسير: قوله تعالى: «فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ» . أي فلمّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 استبان له من عنادهم ولجاجهم، ومكرهم بآيات الله ومعجزاته، أنهم لن ينتفعوا بتلك الآيات، ولن يجدوا فيها طريقا يهديهم إلى الحق- لمّا تبين له ذلك من بنى إسرائيل ولمسه لمسا واقعيا، نقض يده منهم، واعتزلهم بمن آمن به، وأخلص الإيمان فى سره وعلنه.. فنادى فى القوم «مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ» فى الانجاء إليه، بنيّة صادقة وقلب سليم؟ فأجابه الحواريون، وهم تلاميذ المسيح وخلصاؤه الأولون، الذين سكنوا إليه، وتركوا كل ما فى أيديهم من أهل ومال: «قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» وكانت عدتهم اثنى عشر حواريّا، بعدد أسباط بنى إسرائيل الاثني عشر. قوله تعالى: «رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» هذا القول يمكن أن يكون لكل من يستمع آيات الله، وما أنزل على رسوله من كلماته، فيرى فيها نور الحق، ويستروح منها روح اليقين، فيؤمن بالله وبرسوله بالغيب، من غير أن يرى الرسول، أو يستمع إليه، ويقول مع المؤمنين: «رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» أي اجعلنا فى عداد الذين شهدوا الرسول وآمنوا به، وهذا هو الوجه الأقرب إلى منطق الآية الكريمة.. كما يمكن أن يكون تتمة لمقول القول الذي نطق به الحواريون، إجابة لعيسى عليه السّلام. الآيتان: (54- 55) [سورة آل عمران (3) : الآيات 54 الى 55] وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 التفسير: قوله تعالى: «وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ» المكر الذي مكره اليهود هو ما بينوه من أمر المسيح، وتدبيرهم التّهم لمحاكمته، وصلبه، وإقامة شهود الزور عليه، بأنه مشعوذ، ومفتر على الله، ومدّع أنه المبعوث ملكا على اليهود.. وقد انتهى أمره معهم إلى أن قدموه للمحاكمة، وشهدوا عليه زورا أمام الحاكم الرومانى «بيلاطس» الذي كان حاكما عليهم، فحكم عليه- حسب شريعتهم- بالصّلب. والصلب لا يحكم به فى شريعة اليهود إلا على من جدّف على الله، وكفر به، وبهذا يستحق اللعنة والطرد من رحمة الله، ومن الدخول فى ملكوته! والصلب هو العقاب الدنيوي المعجّل- عند اليهود- لمن كفر بالله، وهو رمز على تلك اللعنة التي حلّت بهذا الكافر بالله.. وفى التوراة: «ملعون من علّق على خشبة» (تثنية: 21) أي صلب. فالصلب فى حقيقته تجريم دينىّ لمن يحكم عليه به، ولعنة تصحب المصلوب إلى العالم الأخروى، وتأخذ عليه السبيل إلى ملكوت الله! ذلك هو مكر اليهود بالمسيح. كانوا فى شك من أمره.. إذ يرون معجزاته القاهرة تملأ عليهم الزمان والمكان اللذين يحتويانهما.. ولكنهما كانوا- من جهة أخرى- ينتظرون مسيحا مخلصا لهم- حسب تأويلهم لشريعتهم- وكان مسيحهم الذي ينتظرونه على صورة- فى وجدانهم- غير صورة المسيح عيسى، الذي جاءهم.. فمسيحهم الذي ينتظرونه هو ملك يخلصهم من الحكم الأجنبى، ويعيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 إليهم مملكة سليمان ومجده.. والمسيح عيسى بن مريم لم يجئهم إلّا بمملكة سماوية، وهذه المملكة لا يدخلونها إلا إذا خرجوا مما فى أيديهم من هذه الدنيا، من مال وأهل وولد! فما أبعد البون بين مسيحهم الذي يؤملون، وهذا المسيح الذي يكذّبون!! من أجل هذا كانت صدمتهم قاسية حين التقوا بالمسيح، وغلبت عليهم شقوتهم فأنكروه، وأنكروا ما جاء به، ورأوا فى المعجزات التي حملها بين يديه شعوذة وسحرا. وأرادوا أن يقطعوا الشك باليقين فى موقفهم المتردد من المسيح. فليدخلوا إذن فى تجربة مع المسيح. فليصلبوه إذن، وليكن هذا الصلب هو فيصل الحكم فيما بينهم وبينه. إنه يدّعى أنه المسيح، والمسيح الحقيقي لا يصلب ولا يقع تحت اللعنة! وتمضى الأيام بهم، فيزداد عنادهم وإصرارهم كلما زاد شكهم وقوى حدسهم فى أنهم لم يصلبوا المسيح، وإنما صلبوا شخصا يشبهه.. ويظل هذا الخاطر يزعج اليهود، ويبيتهم فى هم وقلق.. حتى يجىء القرآن الكريم، واليهود أعرف الناس به وبصدقه، فيكشف لهم عن وجه الحق سافرا ويقطع الشك باليقين.. فيقول الحق جلّ وعلا: «وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» (157، 158: النساء) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 وهنا يتجلّى لليهود سوء ما مكروا: «وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» . لقد دبّروا هذا التدبير السيء، فأبطل الله تدبيرهم، وردّ كيدهم فى نحورهم، وإذا هم وقد أرادوا أن يخرجوا المسيح من ملكوت الله، قد أخرجهم الله من ملكوته، وصبّ عليهم لعنته، وحمّلهم دم نبىّ لم يقتلوه، وقد خيل إليهم أنهم قتلوه! «1» وفى قوله تعالى: «إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا» يتعلق الظرف «إذ» بقوله تعالى فى الآية قبلها: «وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» أي مكر الله وتدبيره هو خير من مكرهم وتدبيرهم ثم علل لذلك وبينه بقوله: «إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى ... الآية» . فقد أوحى الله سبحانه إلى عيسى عليه السّلام بما بيّت الله القوم، ووعده سبحانه بأنهم لن ينالوا منه الذي أرادوا فيه، إذ أنه سبحانه سيوفّيه أجله المقدور له، غير منقوص منه شىء، وأن موته بيد الله لا بأيديهم، وسيرفع الله منزلته عنده، ويجعله من عباده المقربين إليه، ويطهره من اليهود فلا يصلب، ولا تمسه اللعنة، التي أرادوا أن يلبسوه إياها بصلبه! وقوله تعالى: «وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ»   (1) سوف نعرض هذه القضية قضية صلب المسيح عند تفسير الآيتين 157، 158 من سورة النساء- ومن أراد دراسة هذه القضية من جميع جوانبها فلينظر فى كتابنا «المسيح فى القرآن» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 أي أن المؤمنين من أتباع المسيح هم فوق الكافرين إلى يوم القيامة.. وهذا حكم عام فيما بين المؤمنين والكافرين.. فحيث كان مؤمنون وكافرون، فالمؤمنون فوق الكافرين أبدا.. فلا يتساوى المؤمن والكافر فى المركز الاجتماعى فى الدنيا، حيث لا يأكل المؤمن طعام الكافر، ولا يتزوج منه، ولا يزوّجه. فالكافرون فى منزلة دون منزلة المؤمنين أبدا، وإن تساووا فى الآدمية والإنسانية، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» (141: النساء) . وقوله سبحانه: «ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» . بيان لحكم الله فى الآخرة بين المؤمنين والكافرين، بعد أن بين الله هؤلاء وهؤلاء فيما اختلفوا فيه من الحق.. فالمؤمنون هم أهل الحق، ولهم يحكم الله، والكافرون أصحاب الباطل وعليهم يحكم الله.. وفى الآية وعيد للكافرين ونذير بالعذاب الذي ينتظرهم، وقد حملته الآية الكريمة تلميحا لا تصريحا، ولكنه تلميح يشير بأكثر من إشارة إلى الآيات الكثيرة التي حملت إلى الكافرين أهوال العذاب الذي توعدهم الله به. الآيتان: (56- 57) [سورة آل عمران (3) : الآيات 56 الى 57] فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 التفسير: فى هاتين الآيتين بيان لما تضمنه قوله تعالى فى الآية السابقة عليهما: «ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» وفى هذا الفصل ينكشف الكافرون، ويعرف المؤمنون، ويفرّق بينهما فى الموقف.. كل جماعة فى جهة.. ثم يكون الجزاء لكل من الفريقين حسب عمله.. فأما الذين كفروا فلهم عذاب شديد، ليس له من الله دافع، وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفون أجرهم كاملا، وتتلقاهم الملائكة تزفّهم إلى جنات النعيم. وفى قوله تعالى: «فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» ما يسأل عنه، وهو: كيف يعذبون عذابا شديدا فى الدنيا، وهم الآن فى الآخرة وفى موقف الحساب؟ والجواب عن هذا، هو أن هذا الوعيد من الله سبحانه وتعالى وعيد قديم، ولكنه يتجدد بتجدد الأزمان والأحداث، فيقع العلم به للمنذرين فى الوقت الذي ينذرون به، لا يوم القيامة والحساب.. وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» ما يسأل عنه أيضا.. إذ كيف يتناسب هذا، بعد قوله تعالى: «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ» ؟ والجواب عن هذا، هو أن المؤمنين قد بشّروا به فى قوله تعالى: «فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ» وأنهم قد اطمأنوا إلى هذا الوعد الكريم، ونعموا به، وإن نعيمهم ليتضاعف حين ينظرون إلى أصحاب النّار وما يلاقون فيها من عذاب الهون، فيسبّحون بحمد الله إذ نجاهم من هذا البلاء، وغمرهم بفضله ونعمه- إن المؤمنين وهم فى تلك الحال ليسألون عن عذاب أهل العذاب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 وما الذي أوردهم هذا المورد الوبيل، فيقال لهم: «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» أي أن هؤلاء الذين يتقلبون فى النار، إنما هم من الذين ظلموا أنفسهم، بأن حجبوها عن الإيمان، وسبحوا بها فى ظلمات الكفر والضلال، فهم إذن ظالمون. «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» . ولن ينال رضا الله، وينعم بنعيم جناته إلّا من رضى عنه وأحبّه! ومما يسأل عنه فى هاتين الآيتين: كيف جاء الوعيد للذين كفروا فى صيغة المتكلم فى قوله تعالى: «فَأُعَذِّبُهُمْ» على حين جاء الوعد للذين آمنوا فى صيغة الغائب فى قوله سبحانه: «فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ» . والجواب، هو أن الذين كفروا لم يؤمنوا بالله، بل ولم يعترفوا بوجوده، ومن هنا فإنهم لا يعرفونه، ولا يتصورون له وجودا.. فكان من المناسب لتلك الحال أن يسمعهم الله صوته، وأن يواجههم بالجريمة التي اقترفتها أيديهم، ويلقاهم بالعذاب الذي هم أهل له.. وهذا أبلغ فى إلفات الكافرين إلى ما هم فيه من غفلة وضلال، إذ يرون عذاب الله عيانا، فى هذا النذير الذي ينذرهم الله مواجهة به، «وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ» (47: الزمر) أما المؤمنون فشأنهم مع الله على غير هذا.. إن الله معهم دائما يملأ قلوبهم، ويعمر حياتهم، ويرون قدرته وحكمته فى كل ما تتصل به حواسهم، أو يتصوره خيالهم.. ومن ثم فإن ما بينهم وبين الله من معرفة لا يحتاج إلى إعلان.. إنهم آمنوا بالله عن غيب، وصدّقوا ما جاءهم به الرّسل من عند الله، فكان من المناسب لحالهم تلك أن يخاطبوا من الله بصيغة الغيبة.. تلك الغيبة التي هى حضور جلىّ فى قلوبهم، وظهور باد فى كل ما أبدع الله وصوّر! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 آية: (58) [سورة آل عمران (3) : آية 58] ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) التفسير: قوله تعالى: «ذلِكَ» إشارة إلى ما تقدم مما ذكر الله سبحانه من أخبار المسيح، وموقف اليهود منه، ومكرهم، ومكر الله بهم.. وما يلقى الكافرون بالله وبرسله من عذاب ونكال، وما يجزى به المؤمنون بالله من رضى ورضوان.. وقوله تعالى: «نَتْلُوهُ عَلَيْكَ» أي ذلك الذي ذكرناه لك هو متلوّ عليك من آيات الله ومن الذكر الحكيم، أي القرآن الذي هو مجمع آيات الله المتلوّة عليك. والمعنى أن ما يتلى عليك هو آيات من آيات الله المسطورة فى القرآن الكريم، الذي ينزل عليك آية آية، أو آيات آيات، فيها عظة وذكرى، وعبرة وحكمة. آية: (59) [سورة آل عمران (3) : آية 59] إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) التفسير: كثر الخلاف فى المسيح عليه السلام، لأن ميلاده كان على صورة فريدة، لم يولد بها أحد من قبله.. وكان الناس فى هذا الميلاد شيعا وفرقا، كل شيعه تقول فيه قولا، وكل فرقة تذهب فيه مذهبا! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 أما اليهود، فقد ارتضوا الجريمة مركبا، فقتلوا أنفسهم، وقتلوا الحق معهم.. وقالوا فى المسيح إنه ولد كما يولد الناس، من ذكر وأنثى.. وإن كان ميلاده على فراش الإثم والفاحشة.. لأنه ابن زنا! وأما أتباع المسيح، فقد قصرت مداركهم عن إدراك قدرة الله، فلم تحتمل عقولهم تلك الحقيقة، وهى أن الله قادر على كل شىء، يخلق ما يشاء، مما يشاء، وكيف يشاء! فقالوا: إن المسيح هو الله تجسد بشرا فى جسد عذراء.. وإذن فهو ميلاد صورىّ، لأنه لم يولد إلا الله نفسه، الذي كان موجودا بكماله الإلهى قبل هذا الميلاد! وإذن فلا مسيح، وإنما هو الله تسمّى باسم بشرى، كما لبس صورة بشرية.. وإذن فهى عملية أشبه بعملية الحلول التي آمن بها كثير من قدماء المصريين، والبراهمة، وغيرهم من الأمم.. فكما كان يحلّ الله فى ثور، أو تمساح، أو شجرة، أو رجل.. حلّ فى جسد طفل، وخرج وليدا من بطن امرأة. وأما المسلمون، فقد جاءهم القرآن بالخبر اليقين عن المسيح.. إنه خلق من خلق الله، وإنه إنسان من الناس، ولد بنفخة من روح الله، كما ولد هذا الوجود كله بفيض من فيض الله! وأقرب مثل لهذا. آدم- عليه السّلام- إنه خلق من غير أب أو أم.. خلق من تراب هامد، لا أثر للحياة فيه.. وعيسى- عليه السّلام- خلق مولودا من كائن حىّ، هى أمّه، فأيهما أشدّ غرابة فى الخلق؟ الذي خلق من تراب هامد، أم الذي تخلّق من جسد حىّ؟ وفى قوله تعالى: «ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» ما يسأل عنه.. وهو: كيف يقول الله للشىء كن، ثم لا يكون واقعا فى الحال، كما يدل على ذلك قوله تعالى: «فَيَكُونُ» التي تدل على المستقبل المتراخى، ولو كان ما أمر الله به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 واقعا فى الحال، لكانت صياغة الآية على غير هذا، ولكانت تلك الصياغة مثلا: «ثم قال له كن فكان» .. فكيف يكون هذا؟ وهل أمام قدرة القادر العظيم حواجز وحوائل، تحول بين القدرة وبين إمضاء ما قدرت، على الفور، وفى الحال؟ والجواب على هذا.. هو أنّ قول الله للشىء «كن» لا يقتضى وقوع هذا الشيء فى الحال، إذ قد يكون الأمر موقوتا بوقت، أو متعلقا بأسباب، لا بد أن يقترن حدوثه بها، وهذه الأسباب لا متعلّق لها بقدرة الله، وإنما متعلّقها بالشيء ذاته، الذي دعته القدرة إلى الظهور، والذي قضت حكمة الله ألا يظهر إلا بعد أن يستكمل أسبابه المقترنة به.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (82: يس) . فمثلا مما سبق علم الله به، واقتضته إرادته إيجاد، شىء ما، وليكن هذا الإنسان أو ذاك.. إن أمر الله قد صدر من قديم لهذا الإنسان أن يكون، على صورة كذا، وهيئة كذا، وأن تحمل به أمه فى يوم كذا، وأن يولد فى يوم كذا.. وهكذا.. بل وأكثر من هذا.. فإنه قبل ذلك بآلاف السنين، بل وآلاف الآلاف منها.. تنقّل هذا الإنسان فى أصلاب الآباء وترائب الأمهات إلى أن التقى أبوه بأمه، فى الزمن المحدد واليوم الموعود! .. وهكذا الشأن فى كل موجود.. إنه تنقل فى موجودات سبقته، وتقلّب فى أحوال وأطوار حتى صار إلى ما صار إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 وفى خلق آدم، وفى قول الله سبحانه وتعالى فيه: «خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» . ما يكشف عن وجه واضح من وجوه الإعجاز القرآنى، وذلك الإعجاز الذي يطالع الناس فى كل آية من آياته، الراصدة لأحداث الحياة، وتطور العقل البشرى، المتحدية للإنسانية فى كل جيل من أجيالها، وفى كل وجه من وجوهها. وانظر فى وجه هذه المعجزة، على ضوء ما كشف العلم الحديث، من علم الأحياء، ونظرية النشوء والارتقاء- فإنك ترى عجبا من العجب. فى نظم القرآن الكريم، وما يحمل هذا النظم من أسرار وغيوب. إن آدم- ونعنى به الإنسان- لم يخلق من تراب خلقا مباشرا، بمعنى أن الله سبحانه قبض قبضة من تراب، فقال لها كونى آدم- أي إنسانا- فكانت.. ولو شاء الله سبحانه هذا لكان كما شاء وأراد.. ولكنه- سبحانه- خلق آدم خلقا متطورا، كما يخلق الشجرة العظيمة- مثلا- من بذرة، وكما يخلق الرجل المكتمل من نطفة! لقد تنقّل آدم- ونقول الإنسان- فى أطوار كثيرة لا حصر لها، كما يقول سبحانه: «ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً» (14: نوح» وكما يقول سبحانه فى هذه السورة: «وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً» (17: نوح) . فآدم الذي هو أول إنسان ظهر على هذه الأرض- قد كان ترابا.. ثم تخلّق من هذا التراب أول جرثومة للحياة، هى أدنى مراتب النبات، فى عالم الطحالب.. ثم تدرجت الأحياء فى هذا العالم النباتي إلى مداها، فكان منها النخل الذي هو قمة هذا العالم النباتي، ثم بدأت جرثومة العالم الحيواني فى الإميبيا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 والمحّار، والإسفنج.. وذلك فى أدنى مراتب هذا العالم الذي نما صعدا حتى بلغ مداه فى فضائل القردة، التي بدأت تطل من وجهها صورة باهتة للإنسان «آدم» ثم أخذت هذه الصورة تتضح قليلا قليلا، وتنضج فى بوتقة الزمن على مهل.. حتى كان اليوم الذي أطل منه وجه «آدم» ، ممثلا فى إنسان الغاب. وكان هذا الآدم هو باكورة ثمار هذه الشجرة التي امتدت جذورها فى أعماق الأرض! واقرأ الآية الكريمة مرة أخرى: «كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ.. ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ.. فَيَكُونُ» . وقس أبعاد الزمن فى ذبذبات تلك الكلمة المعجزة.. «فيكون» . فإنه لو انكشف لك من العلم هذا المقياس الذي تقاس به ذبذبات الكلمات- لاهتديت إلى ذلك الزمن الذي تم فيه خلق آدم، وتنقله من طور إلى طور.. من التراب.. إلى النبات.. إلى الحيوان.. إلى الإنسان، ولوضعت يدك على العدد الصحيح من ملايين السنين التي قطعها «آدم» فى رحلته الطويلة عبر الزمن، حتى كان هذا «الآدم» !! إن «آدم» ليس غريبا عن هذا العالم الأرضىّ الذي يعيش فيه، والذي استولى عليه بسلطان العقل.. فهو ثمرة من ثمراته.. إنه من تراب هذه الأرض. واقرأ مع هذا قول الله تعالى: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ» (4: البلد) قوله سبحانه: «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ.. يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (45: النور) وقف عند قوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 تعالى: «فَمِنْهُمْ.. وَمِنْهُمْ.. وَمِنْهُمْ» إنهم هم آدم، وأبناء آدم، ينتقلون فى أصلاب هذه الكائنات وأرحامها، فى ملايين السنين. الآية: (60) [سورة آل عمران (3) : آية 60] الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) التفسير: قوله تعالى: «الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» أي هو الحقّ من ربّك، ذلك الذي حدّثك به من أمر عيسى- عليه السّلام- وأنه خلق من خلق الله، وعبد من عباده، إنه كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه.. فليس هو ابن زنا- كما يتخرص اليهود- وليس هو الإله ولا ابن الإله- كما يزعم النّصارى، وإنما هو من حدّثك الله به، في كلماته التي أنزلها عليك.. وهى الحق، نزل من عالم الحق.. فلا مرية فيه، ولا جدال معه. والامتراء: هو الشك: وفى هذه الآية تثبيت للنبيّ فى أمر المسيح، وفى حقيقته.. حيث لا التفات إلى أية مقولة أخرى تقال فيه، بعد قول الحق الذي قاله الله رب العالمين. الآية: (61) [سورة آل عمران (3) : آية 61] فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) التفسير: لقد عاشت أجيال النصارى نحو سبعة قرون قبل مبعث النبي الكريم، وهم على هذا المعتقد فى المسيح- عليه السّلام- وأنه هو الله، تجسد فى بطن عذراء! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 وإنه لمن العسير أن يتخلّصوا من هذا المعتقد الذي دانوا به، وأقاموا له بناء ضخما من المنطق العاطفى، الذي امتزج بتفكيرهم، واختلط بمشاعرهم.. وهيهات- والأمر كذلك- أن يستمعوا إلى قول يخالف ما قالوا، وأن يتصوّروا المسيح على غير الصورة التي انطبعت فى كيانهم. وإذن، فالحديث إليهم بمنطق العقل لا يجدى شيئا، وإقامة البراهين والحجج بين أيديهم لتفنيد ما زعموا، سيلقونها ببراهين وحجج، وإنه لا محصّل لهذا إلّا المماحكة والجدل، واتساع شقة الخلاف والخصام. وإذ كان الأمر كذلك، فلا جدال مع أتباع المسيح فيما يقولون فيه.. فإن جاءوا إلى النبىّ الكريم يجادلونه ويحاجّونه، فلا يلقاهم النبي بجدال وحجاج، إذ خرج الأمر فيه عن العقل ومنطقه، عند أتباعه، وصار إلى الوجدان والعاطفة.. فليكن مقطع الحق فى هذا الموقف، أن يصار فيه إلى الأسلوب العملىّ الملموس الذي يجابه الحواس، ويؤثّر آثاره فيها، بحيث يعلق الأثر بمن وقع عليه، ويجد مذاقه.. الحلو أو المرّ، فى نفسه. وجاء وفد من نصارى نجران، بعد أن أداروا الأمر فيما بينهم، وأعدوا له العدة- جاءوا يحاجّون النبىّ فى «المسيح» بما عندهم من مقولات فيه، وهم يريدون أن يسقطوا ما تلقّى النبىّ من كلمات الله فى المسيح وفى أمّه، وبذلك تسقط دعوى النبىّ كلها بأنه رسول من عند الله، وأن ما بين يديه من قرآن هو من عند الله. وأخذ النبىّ- كما أمره الله- الطريق عليهم، فدعاهم إلى أن يدخلوا معه فى تجربة عملية، هى أبلغ من كل قول، وأقوى من كل حجة.. «تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ» ولقد خرج النبي الكريم بنفسه، وبابنته فاطمة، وولديها الحسن والحسين، وبنسائه جميعا.. وطلب إلى هذا الوفد أن يلقوه بأنفسهم، وبأبنائهم وبنسائهم، وأن يبتهلوا جميعا- هو ومن معه، وهم ومن معهم- إلى الله: أن يجعل لعنته على الكاذب من الفريقين، فيما يقول عن عيسى من مقولات! وتدبّر الوفد الأمر فيما بينهم، وأداروه على جميع وجوهه، ونظروا إلى أنفسهم، وإلى أبنائهم ونسائهم، فرأوا أن الأمر قد صار إلى الجدّ، وأنهم مبتلون فى أنفسهم وأهليهم، وهنا أعادوا النظر فيما بين أيديهم من أمر المسيح، فرأوا أن حجتهم واهية، وأن يقينهم الذي استيقنوه منه، مشوب بشك يكاد يغلب هذا اليقين، وبدا لهم أن مصرعهم وشيك هم وأهليهم إن هم باهلوا النبي، وأن دعوتهم على أنفسهم باللعنة إن أخطأتهم، فلن تخطئهم دعوة النبي، التي لا ترد.. فتركوا ما جاءوا له، وعادوا من حيث أتوا، وفى قلب كلّ منهم وسواس، وفى كيانه صراع عاصف، بين الحق الذي رآه، والباطل الذي يعيش فيه. الآيتان: (62، 63) [سورة آل عمران (3) : الآيات 62 الى 63] إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) التفسير: إن الذي يقصّه القرآن الكريم من أحداث ومواقف، هو القصص الحق، لأنه منزل من الحق سبحانه وتعالى.. ومن الحق الذي تحدث به القرآن: أنه لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأن القول بأن مع الله آلهة أخرى، أو أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 لله ولدا، أو زوجا- هو كذب مبين، وبهتان عظيم.. وإن من صفات الله إلى جانب تفرده بالألوهية، تفرده كذلك بالعزة والحكمة.. وإن عزته ليست عزة جبرية وتسلط، وإنما هى عزة قائمة بالحكمة والعدل. هذا هو إيمان المؤمنين بالله، وذلك هو وصفهم له.. فإن آمن به أهل الكتاب على تلك الصفة، فقد اهتدوا ورشدوا، وإن تولوا فقد ضلوا وتعسوا. وقوله تعالى: «فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ» وعيد لأولئك الذين أبوا أن يستمعوا إلى قوله الحق، وأن يستجيبوا لما يدعوهم الرسول إليه من الحق.. فوقوعهم تحت علم الله يكشف مستورهم، ويفضح أعمالهم، ويسجل جرائمهم التي سيجزون عليها.. ثم إن وصفهم بالمفسدين حكم بالإدانة عليهم، وبأنهم- بعد كفرهم- قد أصبحوا فاسدين ومفسدين، ومن كانت تلك صفته فالنار أولى به، وبئس المصير. الآية: (64) [سورة آل عمران (3) : آية 64] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) التفسير: هذه دعوة عادلة إلى أهل الكتاب.. يدعوهم فيها رسول الله، إلى كلمة يجتمع عليها المسلمون وأهل الكتاب، تلك الكلمة هى: «أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» فالتوحيد الخالص لله، توحيدا مصفّى من كل ضلالات الشرك وأوهامه- هو مضمون تلك الكلمة ومحتواها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 وقوله تعالى: «وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» هو تعريض بأتباع المسيح الذين اتخذوا المسيح- وهو بعض الناس- اتخذوه إلها من دون الله.. فالمسيح هو إنسان من الناس، فكيف يتخذ الناس بعضهم أربابا وآلهة؟ إنه مهما بلغ تقديرنا وإعزازنا لبعض الناس منا، فإن ذلك لا يخرج بهم عن دائرة الإنسانية، ولا يخرج بنظرنا إليهم عن الحدود البشرية، وإن وضعناهم على الذروة منها. وقوله تعالى: «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» إلفات للمسلمين إلى ما بين أيديهم من حقّ، فى تلك الكلمة التي دعوا أهل الكتاب إليها.. فإن أباها أهل الكتاب، وأعطوها ظهورهم، فإن على المسلمين أن يؤذّنوا بها فى أسماع العالمين، وأن يملئوا أفواههم وقلوبهم بها، وأن يقولوها صريحة مدوية، بمحضر من هؤلاء الذين صمّوا آذانهم عنها، وأمسكوا ألسنتهم عن النطق بها.. وإشهاد أهل الكتاب على إيمان المؤمنين، هو شهادة عليهم، وحجة قائمة على موقفهم العنادىّ من دعوة الحق. الآيتان: (65، 66) [سورة آل عمران (3) : الآيات 65 الى 66] يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) التفسير: ينكر الله سبحانه وتعالى على أهل الكتاب- من اليهود والنصارى- دعواهم فى إبراهيم عليه السّلام، إذ تدّعى اليهود أنه على دين اليهودية، وأن اليهود على دينه، كما يدّعى النصارى أنه كان على النصرانية، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 وأنهم على دين إبراهيم! وقد كثر جدلهم وحجاجهم فى هذا.. فكان أن أنكر الله على الفريقين دعواهم.. «لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ» فكيف يدين إبراهيم بالتوراة والإنجيل وقد سبقهما بزمن طويل؟ وليست التوراة إحالة على دين إبراهيم، حتى يكون ما عليه اليهود هو دين إبراهيم، وإنما جاءت التوراة بشريعة خاصة لليهود، وإن كانت الشرائع كلها مستمدة من مصدر واحد.. ولكن لكل دين شريعة خاصة بالجماعة المدعوة إلى هذا الدين، قال الله تعالى: «لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً» (48: المائدة) . وكذلك الشأن فى الإنجيل، إذ ليس فيه شريعة، وإنما شريعة أتباع الإنجيل هى التوراة! وفى قوله تعالى: «أَفَلا تَعْقِلُونَ» تعريض بأهل الكتاب، وبغلبة التعصب الذي أعمى بصائرهم عن النظر فى البديهيات، فضلا عن المشكلات. وقوله تعالى: «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ» هو استدعاء لموقف أهل الكتاب وفيما يجادلون فيه، مما فى أيديهم من التوراة والإنجيل عن المسيح، وأمه، ومولده ومعجزاته، وصلبه.. فهذا الموقف على علّاته، وما فيه، من مقولات باطلة، هو أصح من موقفهم الجدلىّ فى إبراهيم عليه السّلام، وفى يهوديته ونصرانيته، إذ كان الموقف الأول يستند إلى شىء.. أي شىء، على حين أن الموقف الآخر لا يستند إلا على خواء!! وقوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» إفحام لهؤلاء الذين يتقوّلون بغير علم، وإخراس لألسنتهم التي تجادل بالزور والبهتان.. فليس لهم مع قول الله قول، وليس لهم مع علمه علم.. فالله يعلم علما مطلقا محيطا بكل شىء.. وهم لا يعلمون من علم الله شيئا! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 الآية: (67) [سورة آل عمران (3) : آية 67] ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) التفسير: هذا هو إبراهيم- عليه السّلام- وذلك هو دينه.. «ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» وقوله تعالى: «وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً» تعريض بما عليه أهل الكتاب- اليهود والنصارى- من انحراف عن الدين القويم، الدّين الذي جاء به أنبياء الله إلى عباد الله! والحنيف هو المتعبد لله، الراكع الساجد لعزته وجلاله، المائل عن طرق الهوى والضلال.. والمسلم، هو من أسلم وجهه لله، وأقامه عليه وحده، دون أن يلتفت إلى سواء. واليهود والنصارى، لم يسلموا وجههم لإله واحد، قائم على هذا الوجود، متفرد به.. إذ جعل اليهود إلههم إلها فرديّا، هو ربّهم، وقائد جنودهم، وقائم على تدبير شئونهم.. هم وحدهم.. أما الناس جميعا غيرهم، فلهم إلههم أو آلهتهم..! ولا شأن لهذا الإله أو تلك الآلهة باليهود، كما لا شأن لليهود بها.. هكذا يعتقدون.. أما النصارى فإلههم هو ثلاثة: أب، وابن، وروح قدس.. تجتمع وتتفرق.. فإذا اجتمعت كانت إلها واحدا، وإذا تفرقت كان كل منها إلها كاملا.. وهذا وذاك، على غير الحق، وعلى غير ما يدين به إبراهيم، الذي ينسبون دينهم إليه.. لأن ذلك شرك، والله تعالى يقول فى إبراهيم: «وَما كانَ مِنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 الْمُشْرِكِينَ» فكيف ينتسب إليه المشركون؟ وكيف تصحّ تلك النسبة، أو تستقيم على وجه؟ الآية: (68) [سورة آل عمران (3) : آية 68] إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) بعد أن أبطل الله سبحانه دعوى اليهود والنصارى بنسبتهم إلى إبراهيم، الذي يدينون بغير ما كان يدين به، من توحيد الله، توحيدا خالصا مطلقا- بيّن الله سبحانه- من هم أولى الناس بإبراهيم وبالانتساب إليه، وبوصل دينهم بدينه.. وإن أولى الناس بتلك النسبة لهو النبي صلّى الله عليه وسلّم والذين آمنوا.. إذ كان دين محمد هو الإسلام لله، والإقرار بوحدانيته، وكذلك إيمان المؤمنين بمحمد.. فكل من كان على إيمان بالله كهذا الإيمان فهو أحقّ الناس بإبراهيم، وأقربهم نسبا إليه. وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» مع ما فيه من فضل سابغ على المؤمنين بولاية الله لهم، وضمّهم إلى جناب رحمته، فيه زجر لأهل الكتاب وتشنيع عليهم، وطرد لهم من ولاية الله لهم، ومن قبولهم فى المقبولين من عباده المؤمنين: «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (257: البقرة) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 الآية: (69) [سورة آل عمران (3) : آية 69] وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) التفسير: الشرّ يعمل دائما على أن يتحكّك بالخير، وأن يدير وجهه إليه، ليرصد كل حركاته وسكناته، وذلك ليطمئن على وجوده القائم على الباطل، وحتى يطفىء تلك الشعاعات المضيئة المسلطة عليه من الحق، والتي تهدده بفضح موقفه وسوء مصيره. وهكذا أهل الباطل والضلال دائما، فى كل أمة، ومن كل جيل، يهاجمون الحق فى كل سانحة تسنح لهم، ويدبّرون له العدوان حيث وجدوا إلى ذلك سبيلا.. لأنهم يستشعرون أنهم مهددون بالضياع، وأن تلك الخيوط الواهية التي تشدّهم إلى الباطل، وتقيمهم على الضلال، هى فى معرض الانحلال والتفكك، لأدنى لمسة تلمسها بها يد الحق! فهم بهذه المحاولات التي يتهجمون بها على مواطن الحق إنما يريدون أن يدفعوا خطرا- متوهّما أو متحققا- يطلّ عليهم من آفاق الحق ومواطنه. وقد كشف الله سبحانه وتعالى فى القرآن الكريم كثيرا من مكايد أهل الكتاب، وما يدبرون للمسلمين من شر، وما يبيّتون من عدوان. والسلاح الأول الذي يعتمد عليه أهل الكتاب- وخاصة اليهود- فى المعركة التي يدبّرونها مع الإسلام، هو التشكيك فى رسالة الرسول، وفى الكتاب الذي نزل عليه.. ذلك أنهم لو كسبوا المعركة فى هذه الميدان، لأغناهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 ذلك عن لقاء الإسلام والمسلمين فى أي ميدان آخر.. حيث لا يكون إسلام ولا مسلمون، متى قام الدليل على بطلان دعوة «محمد» وبطلان ما نزل عليه من عند الله. ذلك هو تقدير بعض أهل الكتاب، وهو فى ذاته تقدير سليم لو أنه صادف النبىّ والكتاب الذي نزل عليه، كما توهموا وقدروا.. ولكن، فى كل مرة ساق فيها أهل الكتاب كيدا إلى النبي وإلى القرآن، رجمتهم صواعق الحق، فولوا مدبرين، يجرّون ثوب الخزي والخسران. وفى قوله تعالى: «وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ» ما يكشف عن بعض هذه النوايا الخبيثة، التي تنطوى عليها بعض النفوس الضالة من أهل الكتاب.. إنهم يريدون أن يفسدوا على المسلمين دينهم، وأن يقيموهم منه على الشك، بما يتأوّلون لهم من متشابه القرآن، وما يصدرون لهم من شبهات، يحيكونها من خيوط البهتان والضلال.. فبهذا إنما هم يضلّون أنفسهم، إذ اتخذوا الضلال مركبا، والزور طريقا، والجدل سلاحا، فى تلك المعركة التي اشتبكوا فيها مع الإسلام والمسلمين.. إنهم قد خسروا أنفسهم من أول الطريق، إذ كانوا على ضلال وفى ضلال.. فإن كسبوا المعركة واستطاعوا أن يضلوا غيرهم، فحسبهم من الغنيمة أنهم خسروا معها أنفسهم مرتين.. مرة قبل المعركة ومرة بعدها! وقوله تعالى: «وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ» قد قصر الضلال عليهم وحدهم فى سعيهم الذي سعوه لإضلال المؤمنين.. وهذا يدعونا إلى أن نسأل: كيف يقصر الضلال عليهم وحدهم، مع أنه من الممكن أن يكونوا قد أضلّوا غيرهم، بما فعلوا حين احتكاكهم بضعاف الإيمان، ممن أسلموا ولمّا يدخل الإيمان فى قلوبهم، من الأعراب وغيرهم.. فكيف هذا؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 والجواب على هذا، هو أن هؤلاء الضالين من أهل الكتاب، إذ يسعون إلى إضلال غيرهم الذين استقام طريقهم على الهدى- هؤلاء إنما يضلون أنفسهم، أي يغرقونها فى الضلال، وأما هؤلاء الذين أغواهم هؤلاء الضالون، وأركبوهم معهم مركب الضلال، فإنهم عبء جديد يثقل هؤلاء الضلال، ويغلظ جريمتهم، ويضاعف إثمهم.! فالواقع- والأمر كذلك- أنهم لم يضلّوا إلا أنفسهم، فيما سعوا فيه، من إضلال غيرهم، وأنهم حملوا فوق ظهورهم أوزار هؤلاء الذين أضلوهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ» (24، 25: النحل) . الآيتان: (70- 71) [سورة آل عمران (3) : الآيات 70 الى 71] يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) التفسير: بعد أن كشفت الآية السابقة عن بعض النوايا السيئة التي يعيش فيها فريق من أهل الكتاب، الذين يتربصون بالمؤمنين، ليضلّوهم، وليفسدوا عليهم دينهم الذي ارتضوا- بعد هذا التفت- سبحانه- إلى هؤلاء الضّالين المضلّين من أهل الكتاب، وخاطب فيهم أهل الكتاب جميعا، إذ كان هؤلاء هم علماؤهم وأهل الكلمة فيهم.. فقال سبحانه: «يا أَهْلَ الْكِتابِ» أي يأمن منّ الله عليهم بكتاب من عنده، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 فيه رحمة وهدى ونور، فكفروا هذه النعمة، وعموا عن هذا الهدى والنور اللذين يشعّان منها: «لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ» أي وأنتم تشهدون ما فى آيات الله من عبر وعظات، وما فيها من دلائل على قدرة الله، وحكمته، وعلمه.. إنها تنطق بالحق لو وجدت من يسمع، وإنها لتشعّ بالنور لو وجدت من يبصر.. «يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ» ونداؤهم مرة أخرى ونسبتهم إلى الكتاب توكيد لهذه التذكرة، إن كانوا ممن يتذكرون.. وفى قوله تعالى: «لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ» عرض لبعض أفاعيلهم وفضح لما هم فيه من ضلال.. إنّهم يلبسون الحق بالباطل، أي يغطّون وجه الحق، ويسترونه بدخان الباطل والضلال، فيشتبه على الناس وجه الحق، وتتفرق بهم السبل إليه.. وإنهم ليكتمون الحقّ الذي يعرفونه من أمر محمد والقرآن الذي نزل عليه، وليس ذلك الكتمان عن جهل، وإلا لكان لهم ما يعذرون به، ولكن كتمانهم هذا عن علم ومعرفة، وتلك هى مصيبة المتكبرين، وآفة الحاسدين، الحاقدين. «وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» ؟ الآية: (72) [سورة آل عمران (3) : آية 72] وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 التفسير: من مكر بعض الطوائف من أهل الكتاب، وكيدهم للإسلام والمسلمين، تلك التجربة التي أرادوا أن يفسدوا بها على المسلمين دينهم، وأن يدخلوا الشك عليهم من جهته، وهذه الطائفة هى من جماعة اليهود، الذين يكيدون للإسلام ويتربصون به. وانظر كيف سوّلت لهم أنفسهم، وإلى أين قادهم الحقد ودفع بهم الحسد؟ لقد ائتمروا فيما بينهم، وتخيروا جماعات منهم يدسونهم فى الإسلام، ويدخلونهم مع المسلمين، على حساب أنهم دخلوا فى الإسلام، وصاروا من المسلمين.. هذه هى المرحلة الأولى من مراحل التجربة.. وإذا دخلت هذه الجماعة فى الإسلام، وحسبت فى المسلمين، فإن لها أن تحدّث عن الإسلام، وأن تقول قولتها فيه، وفيما وجدت منه! وماذا لو أنّها قالت فى الإسلام قولة السوء؟ وماذا لو رمت الإسلام بكل نقيصة ومعيبة؟ أليست لسانا من ألسنة المسلمين؟ وأليس ما تقوله عن علم وتجربة؟ ومن ذاق عرف، كما يقولون؟ إن ذلك من شأنه أن يحدث اضطرابا وحلخلة فى المجتمع الإسلامى، وأن يثير شكوكا فى قلوب الضعفاء والجهلة، وعند من لم ترسخ أقدامهم بعد على طريق الإسلام. ذلك ما قدره أصحاب هذه «اللعبة» لتجربتهم الصبيانية تلك.. وقد جاء أمرهم على غير ما قدروا ودبّروا! فبدلا من أن يثيروا البلبلة والاضطراب فى محيط الإسلام والمسلمين، وقع الاضطراب والبلبلة فى جماعتهم هم، وإذا كثير من هؤلاء الذين أرسلوهم ليكونوا كلاب صيد فى حمى الإسلام، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 صادهم الإسلام، وعلقوا فى حباله.. فما أن عاش بعضهم فى الإسلام ساعات حتى استولت عليه روح الإسلام، وطردت من كيانه نوازع الزيغ والضلال، فدخل فى الإسلام عن يقين، بعد أن كان قد غشى حماه للكيد والإفساد.. ومن غلبت عليه شقوته من كلاب الصيد هذه، فلم يدخل الإسلام ولم يعتقده، عاد إلى جماعته مثخنا بالجراح، فلم يصبح مسلما، ولم يعد كافرا.، بل تحوّل إلى منافق، يتردد أمره بين الإيمان والكفر..! من أجل هذا كان من وصاة تلك الجماعة المتآمرة، لمن ترسلهم من كلاب الصيد هذه- كانت وصاتهم لهم: «وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ» يحذّرونهم من أن يلقوا أسماعهم إلى المسلمين، وأن يفتحوا قلوبهم إلى ما يحدّثونهم به من الإسلام، وإلا ساءت العاقبة، وفسد التدبير! وقد شاء الله أن تسيىء العاقبة، عاقبة تلك الجماعة المتامرة، وأن يفسد تدبيرها. ويسوء مصيرها. فتعلو كلمة الإسلام، ويموت الشانئون والكائدون، غيظا وكمدا! الآيتان: (73- 74) [سورة آل عمران (3) : الآيات 73 الى 74] وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) التفسير: فى قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ» رد على أولئك الذين اعتقدوا أنهم على الحق، وهم الضالون المضلون. ولم يقع فى تصورهم أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 يكون لله سبحانه وتعالى فضل على غيرهم، أو أن يؤتى- سبحانه- أحدا غيرهم كتابا، كما أتاهم كتابا، فمكروا به وحرّفوه. لهذا أمر الله نبيّه- عليه السّلام- أن يبطل هذا التصور الفاسد الذي تصوروه، وأن يقول لهم كلمة الحق التي ألقاها الله إليه: «إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ» أي إن الهدى هو ملك لله، لا ملك لأحد معه فيه، وأنه نعمة من نعمه، ورزق من أرزاقه، يضعه حيث يشاء، ويهدى به من يشاء، وأنه ليس محبوسا على اليهود وحدهم، مقصورا عليهم، لا ينال منه أحد غيرهم.. وفى قوله تعالى: «أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ» ما يكشف عن ظن اليهود بأنفسهم، وأنهم فوق العالمين، وأن الله هو ربّهم وحدهم، وأن رحمته ونعمته لا تنزلان إلا عليهم، وهم لهذا ينكرون كل نعمة تصيب غيرهم، وكل فضل يناله سواهم. كما يقول الله سبحانه وتعالى عنهم «وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً، حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ» (109 البقرة) ويقول سبحانه فيهم: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» (54: النساء) المصدر المؤول من أن وما بعدها فى قوله تعالى: «أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ» هو معمول للام التعليل المتعلق بفعل محذوف قبله، تقديره: فلا تقتلوا أنفسكم حسدا لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أو لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ركبتم الضلال وعميتم عن الحق، وفقدتم عقولكم فأهلكتم أنفسكم؟ وقوله تعالى: «أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ» معطوف على قوله تعالى «أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 والمعنى: ألأن أوتى المسلمون كتابا من عند الله فاهتدوا، كما أوتيتم أنتم كتابا من عند الله فلم تنتفعوا به، وقامت الحجة به عليكم، ولأن أصبح للمسلمين الحجة عليكم بهذا الكتاب الذي فى أيديهم، والذي يحدّث عنه كتابكم الذي فى أيديكم- ألهذا وذاك جحدتم الحق، وتنكرتم له، وحرّفتم كتابكم ليلتقى ما فيه مع أهوائكم، وليطفىء داء الحسد المتقد فى صدوركم؟ ولقد مكر اليهود بأنفسهم، وأفسدوا الكتاب الذي فى أيديهم، والذي يحدّث عن محمد، ويبشر به وبكتابه الذي أنزله الله عليه، حتى لا يكون للمسلمين حجة عليهم يلزمونهم بها، وما تنطق به التوراة من تصديق بمحمد وبكتاب الله الذي معه.. وفى هذا يقول الله تعالى عنهم: «أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ» (75- 76 البقرة) ذلك أن اليهود كانوا يعلمون ما فى التوراة عن «محمد» وعن رسالته، وأنّهم قد استقبلوا محمدا من أول الأمر بالتكذيب، وبادءوه بالعداوة والبغضاء، فلم يكن لهم- والشأن كذلك- إلّا يمضوا فى الشوط إلى نهايته، بل وأن يمعنوا فى التكذيب، وأن يتطاولوا فى العداوة والبغضاء.. وكان من أسلحتهم فى تلك الحرب أن يطمسوا ما فى التوراة من الحق الذي تتحدث به عن «محمد» ورسالته. وقوله تعالى: «قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» هو ردّ آخر على اليهود الذين أرادوا أن يحتجزوا فضل الله، وأن يجعلوه خالصا لهم.. شحّا وحسدا أن يصيب أحد خيرا غيرهم.. «وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» يسع فضله النّاس جميعا، دون أن ينقص من فضل الله شىء.. ولكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 اليهود يرون الله وكأنه أحد أغنيائهم، وأنه بقدر ما ينفق، يكون النقص فيما بين يديه من مال، ولو استمر فى الإنفاق لنفد ما بين يديه.. وفيهم يقول الله تعالى: «قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً» (100: الإسراء) . وللإنسان أن يذهب مذهب التقتير، لأنه إنسان، ملكه محدود وإن بلغ ما بلغ من كثرة واتساع، وتعالى الله علوا كبيرا أن ينظر إليه وإلى فضله هذا النظر الذي يجعله والناس على سواء وقد كشف الله سبحانه وتعالى عن هذا الخلق اللئيم المندسّ فى طبيعة اليهود، وهو الحسد القاتل، الذي يأكل صدورهم، إذا نال أحد من الناس خيرا.. يقول الله تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ «1» يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ «2» وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً» (51- 52- 53: النساء) .. إنها كزازة نفس، وسوء خلق، وفساد ضمير، وأنانية فاتلة، وشحّ لئيم. وقوله تعالى: «يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» رد ثالث على اليهود بأن فضل يقع حيث يشاء، وينزل حيث أراد الله أن ينزل: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» وفضل الله عظيم، ورحمته واسعة «فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً» (78: النساء)   (1) وهم اليهود. (2) أي الضلال والبهتان. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 الآية: (75) [سورة آل عمران (3) : آية 75] وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) التفسير: الأحكام التي جاء بها القرآن فى شأن اليهود، والتي كشف بها ما فى نفوسهم من ضلال، وما فى قلوبهم من حسد وبغضاء للناس عامة، ولأهل الإيمان خاصة- هذه الأحكام وإن شملت غالبية اليهود، ودمغت أحبارهم وعلماءهم وأصحاب الكلمة فيهم، إلا أنها ليست على إطلاقها، فليس هناك شر محض، ولا خير خالص، فمهما استشرى الشر فإن فيه لمعا من الخير لا تكاد ترى، ومهما صفا الخير فإن فيه غشاوات من الشر لا تكاد تبين! واليهود وإن كانوا الشرّ كله، من الرأس إلى القدم- ففيهم الضالون، وفيهم المؤمنون.. كما يقول الله تعالى: «مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ» (110: آل عمران) . وفى هذا المدخل الضيق إلى الإحسان والإيمان ما يسمح لأىّ من هذه الجماعة الضالة أن ينجو بنفسه، وأن يتحول إلى تلك القلة القليلة من المحسنين المؤمنين فيهم.. وفى قوله تعالى: «وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ» استثناء من الحكم العام الذي حكم به الله على اليهود.. وهذا باب رحمة لمن أراد الله له التوفيق والهداية منهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 ففى تلك الجماعة الضالة المعربدة أفراد قليلون يخافون الله ويرعون الأمانة التي فى أيديهم، سواء أكانت من الله أم من الناس، فلم يخونوا أمانة الله، ولم يكتموا ما فى أيديهم من التوراة عن النبىّ «محمد» ورسالته، ولم يخونوا الناس فى الأمانات التي اؤتمنوا عليها، وإن كانت القناطير المقنطرة من الذهب والفضة.. وهؤلاء النفر القليل هم الذين ذكرهم الله سبحانه وتعالى فى قوله سبحانه «مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ» : (113- 114: آل عمران) أما أكثر هذه الجماعة فهى على الضلال والعمى، وفى العداوة والبغضاء والحسد للناس جميعا، ولأهل الإيمان بخاصة.. فهذه الكثرة لا ترعى أمانة الله، ولا تحفظ أمانة الناس.. أما حسابهم مع الله فقائم على أنهم أبناؤه وأحباؤه، لهم أن يفعلوا معه ما يشاءون ويشاء لهم الهوى، دون أن ينالهم بشىء من عقابه وعذابه.. وأما حسابهم مع الناس، فالناس فى نظرهم وتقديرهم فى درجة دون درجتهم، وبينهم وبين الناس حجاز فى الفضائل وفى التكوين الجسدى والخلقي والروحي، كهذا الحجاز الذي بين الناس وفصائل القردة والحيوانات القريبة الشبه بالإنسان. فالناس- فى تقدير اليهود- قطيع من الحيوان، وإن لهم- بهذا التقدير- أن يستغلّوا هذا القطيع الآدمي، كما يستغلّون الحيوان، وألا يرتبطوا معه بروابط العقود والوثائق، وإن ارتبطوا فلهم أن يتحلّلوا منها ما وسعهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 الحول والحيلة «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ» أي لا حرج علينا، ولا حائل من خلق أو دين يحول بيننا وبين أن نستغلّ الأميين، بشتى الصور ومختلف الأساليب! والأميون هم غير اليهود، وهم العرب خاصة، إذ كانوا ولا كتاب لهم.. وقد منّ الله على هؤلاء الأميين- أي العرب- إذ بعث فيهم رسولا منهم، فقال تعالى «لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (164: آل عمران) . قوله تعالى: «وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» تكذيب لا دعائهم بأن ليس عليهم حرج، فيما نقضوا من عهود، أو ضيّعوا من حقوق فيما بينهم وبين غيرهم، فقد أقاموا هذه الدعوى على أساس من دينهم وشريعتهم، إذ كانوا أهل دين وأصحاب شريعة، وليس فى دينهم الذي أنزله الله على أنبيائهم ولا فى الشريعة التي حملها هذا الدين- إباحة للبغى والعدوان، ولا دعوة للسلب والنهب والسرقة، ولا تفرقة بين الناس والناس فى الحقوق والواجبات! وإنما بدل اليهود فى التوراة وغيّروا، ودسوا فيها من الأحكام والشرائع ما يغذّى غرورهم الزائف، ويرضى شعورهم المريض، نحو الإنسانية كلها، وأهل الأديان خاصة. الآية: (76) [سورة آل عمران (3) : آية 76] بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 التفسير: قوله تعالى: «بَلى» هو لفظ يجاب به على سؤال فى معرض النفي، فيجعل المنفىّ واقعا مثبتا. وعلى هذا فإنّ قبل لفظة «بلى» سؤال منفى، وهذه اللفظة وما بعدها جواب عن هذا السؤال. والسؤال محذوف.. وتقديره: ألم يكن هؤلاء الذين إذا ائتمنوا على قنطار أدوه.. ألم يكونوا من جماعة اليهود، تلك الجماعة الضالة التي حكم الله عليها باللعنة والطرد..؟ والجواب: بلى.. إنهم منهم، ولكن لكلّ حسابه وجزاؤه.. فمن أوفى بعهده فيهم، واتقى الله فى الأمانة التي أؤتمن عليها، فلن يأخذه الله بجناية قومه، بل هو ممن أحبهم الله ورضى عنهم «فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» فكيف لا يتقبل عملهم؟ وكيف يجعلهم والمجرمين على سواء؟ «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ؟ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟» (35- 36: القلم) الآية: (77) [سورة آل عمران (3) : آية 77] إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77) التفسير: بعد أن عزل الله سبحانه المتقين من أهل الكتاب، وضمّهم إلى أهل رحمته ومرضاته- كشف سبحانه وتعالى عن المصير السيّء الذي ينتظر الجماعة الباغية الضالة من اليهود، وهم الكثرة الغالبة فيهم.. فوصفهم الله سبحانه وصفا كاشفا، ودمغهم بجرائمهم الشنيعة، التي يحملونها على ظهورهم إلى يوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 الحساب.. فقال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا» .. فهم قد نقضوا عهد الله، وما عاهدهم عليه فى قوله سبحانه: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ» وقد كذب أهل الكتاب هؤلاء على الله، وبدلوا آياته، وأنطقوا كتابه بما أملته أهواؤهم، وحلفوا على هذا البهتان، وأكّدوا هذا الزور بأيمان بالغة. وهم بهذا الإثم الذي ارتكبوه قد باعوا آخرتهم، لقاء قليل من حطام الدنيا. فإذا كانت الآخرة جىء بهم إليها وليس لهم نصيب من نعيمها، وإنما لهم ما ينتظرهم من نكال وعذاب.. «أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ» والخلاق الحظ والنصيب «وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ» فهم مطرودون من رحمة الله، مبعدون من مواطن رضاه ومغفرته.. لا يكلمهم الله، حين يكلم عباده الذين رضى عنهم، لأنهم ليسوا أهلا لأن يسمعوا كلام رب العالمين، إذ أصمّوا آذانهم عن سماع كلماته التي حملها إليهم رسله الكرام.. ولا ينظر إليهم، نظر رحمة ومودة.. لأنهم أغمضوا أعينهم عن النظر فى آيات الله وتدبر ما فيها من هدى ونور.. ولا يزكيهم- أي ولا يطهرهم من الآثام التي حملوها معهم، ولا ينالهم بمغفرته ورحمته، كما يتجاوز لأهل مودته عن سيئاتهم. «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» فتلك هى عقبى الذين كذبوا على الله، وبدّلوا نعمة الله كفرا وأحلّوا قومهم دار البوار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 الآية: (78) [سورة آل عمران (3) : آية 78] وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) التفسير: هذه الآية تكشف عن فريق آخر من أهل الكتاب، من جماعة اليهود، بعد أن كشفت الآيات السابقة عن جماعة من أهل العلم فيهم، يتّجرون بما عندهم من علم، ويبيعونه لمن يشترى.. أما هذا الفريق فهم. «يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ» أي يتلون آيات الكتاب تلاوة تلوكها ألسنتهم، وتلتوى بها شفاههم، فلا تخرج الكلمات إلا متآكلة متكسرة، يختلط بعضها ببعض، لا يدرى أحد ما مدلولها، ولا يهتدى أحد إلى وجه الحقّ فيها.. فهى أقرب إلى الرمز منها إلى الكلام.. «وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.. وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» أنه الكذب.. أي أن كذبهم هذا على علم، وهو شرّ ما عرف من الكذب، وأبغض ما ظهر للناس من وجوهه. الآيتان: (79، 80) [سورة آل عمران (3) : الآيات 79 الى 80] ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) التفسير: فى هاتين الآيتين يكشف الله سبحانه عن تلك المفارقات البعيدة بين دعوات الأنبياء، وبين ما يدخله أتباعهم على تلك الدعوات من افتراء وبهتان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 فالنبىّ- وإن كان بشرا من البشر، وإنسانا من الناس- هو ممن اصطفاه الله، وتخيره من بين الناس، ليقوم بالسفارة بين الله وبين وعباده. والله سبحانه وتعالى، إنما يتخير سفراءه من صفوة خلقه، ثم يكملهم ويحمّلهم بما يفيض عليهم من نفحات رحمته، وغيوث بركاته، فإذا هم بعد هذا الأدب الربانىّ أكمل الناس كمالا، وأصدقهم قولا، وأبعدهم عن مواطن الشبه والريب،.. بل هم الكمال كله، والصدق جميعه، والفضيلة فى تمامها وكمالها.. فإذا جاء أتباع رسول من رسل الله، وبأيديهم كتاب يضاف إليه هذا الرسول، وعلى ألسنتهم كلمات يحسبونها عليه، ثم كان فى هذا الكتاب ما ينقص من جلاله وكماله، وكان فى تلك الكلمات ما يجعل لله ما لا ينبغى لذلك الجلال والكمال- فآفة ذلك هم الأتباع، الذين غيروا فى الكتاب وبدّلوا، وتقوّلوا على الرسول، ونسبوا إليه ما نسبوا، زورا وبهتانا، ليجدوا لما تقوّلوا وزيّفوا طريقا إلى الآذان، حين ينسبونه إلى الرسول، ويضيفونه إلى ما تلقوا من كلماته التي هى كلمات الله. وهذا الموقف يظهر على تمامه، فيما كان بين المسيح وأتباعه.. فقد جاء المسيح- عليه السّلام- إلى الناس مرسلا من عند الله، برسالة قائمة على سنن الأنبياء والمرسلين الذين سبقوه، كما ينقل ذلك عنه أتباعه فى كلمات صريحة واضحة إذ يقول: «ما جئت لأنقض الناموس والأنبياء بل لأكّمل» . ومع هذا الذي يقوله السيد المسيح، وينقله عنه أتباعه، ويؤمنون به- فإنهم يلتقون بالسيد المسيح فى آخر المطاف، فإذا هو الله رب العالمين، تجسد فى كائن بشرى، وعاش ما عاش بين الناس، ثم قدّم نفسه قربانا ليفتدى البشرية ويخلّصها من الخطيئة التي هى ميراث الناس جميعا من أبيهم آدم.. فكان أن عمل المسيح على إثارة ثائرة اليهود عليه، ليصلبوه، وليؤدّى بهذا الصلب الفداء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 المطلوب لخلاص البشر.. وقد تم له ما أراد، وقدّم إلى الصلب، وصلب!! هكذا يقول أتباع المسيح عن المسيح وفيه! وهى مقولات تنقضها كلمات المسيح نفسه فى الإنجيل أو الأناجيل التي فى يد أتباعه، كما ينقضها تاريخ الرسل والأنبياء السابقين له، ونبى الإسلام الذي جاء من بعده، وينقضها قبل ذلك كله، وبعد ذلك كله، المنطق السليم، والعقل المطلق من قيد الهوى، المتحرر من عبودية التقليد والمحاكاة. وفى قوله تعالى: «ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ» ... وفى ذكر «بشر» بدل «نبىّ» ما يشير إلى أن النبىّ بشر من البشر، وأنه إذا جاز على البشر الكذب والافتراء على الله وعلى الناس، فإن النبي- وهو بشر- لا يكون منه أبدا الكذب والافتراء على الله أو على الناس.. وإلا كان ذلك اتهاما لله، ورميا لعلمه بالقصور، ولقدرته بالعجز، ولحكمته بالنقص، حيث اصطفى واختار من يحمل رسالته، ويودّى أمانته، ثم لم يكن من هذا المصطفى المختار إلا أن زيف الرسالة وخان الأمانة.. وبدلا من أن يكون داعيا لله، هاديا إليه، تحول إلى داعية لنفسه، قائدا الناس إلى الهلاك والضلال.. وتعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.. وإنه لن يرضى أسوأ الحكام وأجهل الأمراء أن ينسب إليه مثل هذا العجز وسوء التقدير فى اختيار أعوانه وسفرائه. فكيف بأحكم الحاكمين.. الله رب العالمين؟ وفى الآية حذف دل عليه سياق الكلام.. وتقديره: «ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ» ليدعو الناس إلى الله، وإلى الإقرار بوحدانيته.. «ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ» وقوله تعالى: «وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ» أي ولكنه يدعوكم إلى أن تكونوا ربانيين أي مؤمنين بالله، دعاة إلى الله، إذ كنتم علماء، وللناس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 على العلماء حقّ هو أن يعلموهم ما علموا. والالتفات هنا من الغيبة إلى الحضور، هو إمساك بمخانق علماء أهل الكتاب، وهم متلبسون بهذا الضلال الذي هم فيه، يطعمون منه ويطعمون أتباعهم من هذا الزاد الفاسد، الذي يهلك من يتناوله ويتزوّد منه. وقوله تعالى: «وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً» معطوف على قوله تعالى: «ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ» .. ويكون معنى القول هنا الأمر، أو يكون معنى الأمر فى قوله تعالى: «وَلا يَأْمُرَكُمْ» القول.. أي ولا يقول لكم أن اتخذوا الملائكة والنّبيّين أربابا. وفى قوله تعالى: «أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» ما يسأل عنه.. وهو: هل كانوا مسلمين قبل أن يجيئهم الرسول ويدعوهم إلى ما دعاهم إليه؟ وإذا كان كذلك فما داعية إرساله إليهم؟ والجواب على هذا، هو أن أتباع المسيح الذين التقوا به، وآمنوا بدعوته، كانوا على هدى وبصيرة من أمر تلك الرسالة الكريمة التي حملها عيسى عليه السلام، وهم بهذا كانوا مؤمنين، مسلمين، بل كان منهم الحواريون الذين أوحى الله إليهم! فهذه هى دعوة عيسى، وتلك هى رسالته، وهؤلاء هم أتباعه الذين آمنوا به وحقّ لهم الانتساب إليه، وإلى المسلمين! ومع الأيام، وانتقال الشريعة اليهودية المسيحية إلى مواطن غير موطنها دخل عليها كثير من الحذف والإضافة، والتأويل، والتخريج، حتى أصبح لها وجهان.. وجه بدأت به، ووجه آخر انتهت إليه، وبين الوجهين من الخلاف ما بين الأبيض والأسود من خلاف. وتضادّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 بدأت المسيحية بالمسيح رسولا وانتهت به إلها يدعو إلى عبادته وعبادة أمّه.. كما يقول الله تعالى «وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟» (116: المائدة) . بدأت المسيحية إسلاما يدين بها المسلمون، وانتهت إلحادا يدين بها من يعبدون المسيح، ويؤلهون أم المسيح! وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: «أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» . أي أيدعوكم المسيح أيها الذين آمنوا به إلها، إلى الكفر بالله، بعد أن دعا آباءكم الأولين إلى الإيمان به فكانوا من عباده المسلمين؟ أيدعوكم إلى هذا الذي تدّعون؟ ذلك محال! إن دعوة المسيح هى تلك الدعوة التي دعا إليها آباءكم الأولين، فآمنوا وأسلموا عليها، فكيف تكون تلك الدعوة نفسها هى التي بين أيديكم، والتي تدعوكم إلى الإيمان به إلها من دون الله؟ ما تأويل هذا وما منطقه؟ إنه لا تأويل لهذا إلا أن تحريفا دخل على دعوة المسيح فغيّر وجهها، وقلب حقيقتها، وإنه لا منطق لهذا إلا أن يكون هناك مسيحيان: مسيح عرفه المسيحيون الأولون.. المؤمنون المسلمون، ومسيح عرفتموه أنتم وعبدتموه من دون الله! وأما وليس إلا مسيح واحد، فالكلمة الآن لكم، لتقيموا لهذا التناقض وجها، ولتجعلوا له منطقا، إن كان للجمع بين المتناقضين وجه أو منطق!!. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 الآيتان: (81- 82) [سورة آل عمران (3) : الآيات 81 الى 82] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) التفسير: النبيّون صلوات الله عليهم قائمون على أمر واحد، هو الدعوة إلى الله، وكشف معالم الطريق للناس إليه، ودعوة الناس بدعوة الحق والخير كما أمر الله. ومن ثمّ كانت الجامعة بينهم، وكان النسب والقرابة! إذ كانوا جميعا يعملون فى ميدان واحد، وغاية واحدة.. ونجاح الدعوة لأىّ منهم هو نجاح ضمنى لهم جميعا، وهو انتصار فى موقع من مواقع الحق الذي يجاهدون فى سبيله. وقوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ» هو توكيد لهذه الجامعة التي تجمع بين النبيين، وتوثيق للأمر الذي شدّوا أيديهم عليه وعلى الجهاد فى سبيله. فلقد أخذ الله العهد على النبيين واحدا واحدا، فيما ندبهم له، وفيما دعاهم إليه، وهو أن تتوحد فى مجال الجهاد رايتهم، وألا ينسخ بعضهم بعضا، أو ينعزل بعضهم عن بعض.. فإذا قام نبىّ منهم يدعو إلى الله، ثم جاء نبىّ آخر يدعو بتلك الدعوة، كان على كل منهما أن يصدّق الآخر، ويؤمن به، وينصره فيما يدعو إليه، لأن نصرة هذا النبىّ نصرة له، ونصرة لرسالتيهما معا. وليس هذا شأن الأنبياء وحدهم، فى إيمان بعضهم ببعض، وتصديق بعضهم بعضا، ونصرة بعضهم لبعض.. بل هو شأن أتباع الأنبياء جميعا.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 إذ هم المؤمنون بالله، وكتبه ورسله، فكل دعوة نبىّ هي دعوة جميع الأنبياء وأتباع الأنبياء، ومعاداة أي نبى وأتباع أي نبىّ هى محاربة لله ولرسوله وللمؤمنين: «إنما المؤمنون إخوة» وأتباع الأنبياء، المؤمنون برسالات الأنبياء، هم جميعا إخوة، يجمعهم التوحيد بالله، والعبودية لله! وفى قوله تعالى: «لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ» اللام موطئة للقسم الذي تضمنه العهد والميثاق الذي واثق الله به النبيين وعاهدهم عليه، والتقدير «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ» لئن آتيتكم النبوة وما معها من كتاب وحكمة «ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ» . وقوله تعالى: «مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ» وصف للرسول الذي يجب الإيمان به ونصرته، وهو أن يكون ما معه من كتاب، وما يدعو إليه من دين، قائما على السنن الذي دعا إليه أنبياء الله ورسله، من الإيمان بالله الواحد الأحد، المنزه عن الشريك والولد، فمن دعا إلى غير هذه الدعوة فليس نبيا وليس رسولا، فما أكثر أدعياء النبوة، ومدّعى الرسالة. قوله تعالى: «قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي» الإصر العهد الموثّق.. وفى استحضار النبيّين، وأخذ الإقرار من أفواههم، وإشهادهم عليه، ثم شهادة الله على ما شهدوا عليه.. كل هذا يدل على ما لهذا الأمر الذي عاهدهم الله عليه من شأن وخطر عظيمين: «قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» .. وكفى بالله شهيدا. وقوله تعالى «فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» توكيد لهذا العهد، وتجريم لمن نقضه، ووقف من أنبياء الله ورسله موقف المشاق المنابذ.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 وفى الآية الكريمة تعريض بأهل الكتاب، وخاصة اليهود، الذين نقضوا عهد الله، هذا الذي أخذه على أنبيائهم وعلى أتباع أنبيائهم، فكذّبوا بمحمد وبهتوه، وكتموا ما فى أيديهم من كتاب الله الذي لو استقاموا على ما فيه لكانوا أول المصدقين بمحمد، والمؤمنين به، إذ كانت التوراة تشهد لمحمد ولرسالته، وتبشّر به، كما يقول الله تعالى فى أهل الكتاب، وموقفهم من الرسول الكريم «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (146: البقرة) ويقول سبحانه أيضا: «وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» (89: البقرة) . وقد وصف الله سبحانه وتعالى أهل الكتاب هؤلاء الذين يكذبون رسل الله ويبهتونهم، بالفسق.. والفسق- فى اللغة- هو الخروج من حال إلى حال، ومن شأن إلى شأن، ثم كثر استعماله فى الخروج من خير إلى شر.. وأهل الكتاب هؤلاء كانوا على الإيمان قبل أن يمتحنوا بالدعوة التي حملها إليهم رسول الله، فلمّا زاغوا أزاغ الله قلوبهم، والله لا يهدى القوم الفاسقين. الآية: (83) [سورة آل عمران (3) : آية 83] أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) التفسير: تكر هذه الآية على الكتاب الذين كفروا بمحمد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 وجحدوا ما عندهم من حقّ فيه- تنكر عليهم هذا الموقف الذي لا ينبغى لعاقل أن يقفه، لأنه يورد بذلك الموقف، موارد الهلاك.. فأى دين غير دين الله يبغون؟ وماذا ينكرون من أمر محمد وقد جاءهم بالحقّ الذي كان معهم مثله من كتاب الله الذي فى أيديهم؟ وهل جاءهم محمد بغير ما جاء به الأنبياء من قبله من دعوة إلى توحيد الله، والإيمان به إلها واحدا، قيّوما، له ملك السموات والأرض؟ إن ذلك هو الحق الذي قام عليه الوجود، وهو الدين الذي دان به لله كل مخلوق، فى ملكوت السموات والأرض. فكيف يفسق أهل الكتاب هؤلاء، ويخرجون عن هذا الموكب الذي انتظم الوجود كلّه، فى أرضه وسمائه، وفى أحيائه وجماداته؟ وفى قوله تعالى: «وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً» الإسلام هنا الانقياد والخضوع.. وكل ما فى هذا الوجود منقاد لله، خاضع له، إن لم يكن عن ولاء ورضى، فهو عن قهر وسلطان! وماذا تملك المخلوقات من أمرها؟ وهل غير الاستسلام والخضوع؟ إنها جميعا فى يد القدرة القادرة المنصرفة وحدها من غير معترض أو معقب! فمن لم ينقد اختيارا انقاد اضطرارا، والله سبحانه وتعالى يقول «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» (93: مريم) ويقول سبحانه: «يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ» (33: الرحمن) .. فهل لهؤلاء المحادّين لله، الكافرين به، ملجأ غير الله؟ وهل لهم أن يدفعوا عن أنفسهم ما يصبهم من ضرّ وأذى؟ «قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (168: آل عمران) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 (الآيتان: 84- 85) [سورة آل عمران (3) : الآيات 84 الى 85] قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) التفسير: بعد أن كشفت الآيات السابقة موقف أهل الكتاب من رسل الله، وإيمانهم ببعض وكفرهم ببعض، ونقضهم فى هذا ما عاهد الله عليه أنبياءهم من الإيمان بكل رسول، ونصرته- بعد أن كشفت الآيات السابقة هذا، أمر الله نبيّه بأن يجهر بالحقّ الذي فسق عنه أهل الكتاب، وأن يقيم إيمانه على الدين الذي ارتضاه الله له، وللمؤمنين جميعا.. وهو الإيمان بالله، وما أنزل عليه من كتاب ربه، وما أنزل على الأنبياء قبله.. إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط، وما تلقى موسى وعيسى من آيات ربهما وكتبه، وما تلقى النبيون جميعا من ربهم، لا تفرقة فى هذا بين أحد منهم، فكلهم رسل كرام من رسل الله، سفراء بررة، بين الله وبين عباد الله! وفى قوله تعالى هنا: «قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا» وفى قوله سبحانه فى سورة البقرة: «قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا» (136) تفرقة بين النبىّ وأتباع النبىّ فى التلقّى عن الله سبحانه وتعالى، فالنبى هو الذي تلقى الكتاب عن الله، وأتباعه هم الذين تلقوا الكتاب عن النبي، ولهذا كان خطاب النبي: «قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا» وكان خطاب أتباعه: «قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا» . و «علينا» فيها الدنوّ والمباشرة، بخلاف «إلينا» وما فيها من بعد ومجاوزة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 وفى قوله تعالى: «وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ» وقوله: «وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ» - ما يسأل عنه.. وهو: لماذا كان الوصف المصاحب لما تلقّاه النبيون: محمد وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، هو «النزول» ، على حين كان الوصف المصاحب لما تلقّاه موسى وعيسى هو «الإتيان» هكذا: «وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى» ؟ والجواب على هذا- والله أعلم- هو أن ما تلقاه النبىّ عليه الصلاة والسلام، وما تلقاه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط عليهم السلام- كان وحيا من الله، على لسان ملك من ملائكته، هو جبريل عليه السّلام، فكان وصف هذا التلقي «بالنزول» هو الوصف المناسب لتلك الحال، أما ما تلقاه موسى وعيسى عليهما السلام، فكان تلقيا مباشرا من الله سبحانه وتعالى.. وفى موسى يقول الله تعالى: «وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً» (164: النساء) أما عيسى عليه السّلام، فقد أيده لله بروح القدس، لذى هو نفخة من روح الحق، فكان اتصاله بالله اتصالا مباشرا بهذا الروح الذي يملأ كيانه! وفى عيسى يقول الله سبحانه: «وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» (87: البقرة) وروح القدس، هو جبريل، أو روح من عند الله.. تلازمه، وتنطق بلسانه..! قوله تعالى: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ» .. الإسلام هو دين الله الذي شرعه لعباده، والذي جاء به الأنبياء والمرسلون جميعا، ودعوا الناس إليه، فمن آمن منهم بما جاء به الرسل- من غير تحريف ولا تبديل- فهو مسلم من المسلمين.. فإبراهيم عليه السلام.. يسأل الله أن يوفقه وأهله وذريته إلى دين الإسلام، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 فيقول كما ذكر القرآن ذلك على لسانه: «رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ» (128 البقرة) وفيه يقول الله تعالى: «إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» (131: البقرة) .. وفيه يقول سبحانه: «ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (67: آل عمران) وإبراهيم هو أبو الأنبياء، وعلى دينه- وهو الإسلام- كان جميع الأنبياء من بعده! وعلى هذا، فليس المراد «بالإسلام» هو الشريعة الإسلامية التي جاء بها محمد عليه الصلاة والسلام، خاصة، إذ ليست هذه الشريعة بدعا من الشرائع السماوية التي سبقتها، بل هى وما قبلها من الشرائع- من يهودية ونصرانية وغيرهما- على سواء.. فجميعها شريعة الله، وكلها «الإسلام» الذي هو الدين عند الله، ولا دين غيره. والخلاف الذي بين الإسلام، وبين اليهودية والنصرانية ليس اختلافا ناشئا عن حقيقة هاتين الديانتين، وإنما جاء الخلاف نتيجة لما حدث فيهما من تبديل وتحريف، ولو أنهما سلما من هذا التحريف والتبديل لالتقيا مع الإسلام. ولكان أتباعهما من المسلمين.. الآيات: (86- 89) [سورة آل عمران (3) : الآيات 86 الى 89] كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 التفسير: قوله تعالى: «كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ» . الاستفهام هنا ليس على حقيقته، وإنما هو استنكار واستبعاد لمن يطمع من هؤلاء الضالين أن يلبس ثوب المهتدين، وأن يرجو العون والتوفيق من الله، بعد أن أعطى الله ظهره، وكفر به وبآياته المضيئة بين يديه! وهؤلاء الضالون هم الذين كفروا من أهل الكتاب- وخاصة اليهود- الذين كفروا بعد إيمانهم.. فقد كانوا قبل بعثة محمد يؤمنون بأن نبيا عربيا سيبعث كما قال الله تعالى: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ» (157: الأعراف) .. ثم جاءهم النبي المنتظر، ورأوا فيه وبين يديه دلائل الحق التي تشهد له أنه رسول الله، ووافقت صفته عندهم ما تحدثت به كتب الله التي بين أيديهم عنه.. ومع هذا أبوا إلا عنادا وكفرا.. فأنكروا كلمات الله، وجحدوا الحق الذي تحدثهم به، وبهذا تحولوا من الإيمان إلى الكفر.. كما يقول الله تعالى: «كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ» .. وكما يقول سبحانه «فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» (89: البقرة) . والواو فى قوله تعالى: «وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ» وفى قوله: «وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ» يمكن أن تكون للعطف على قوله تعالى: «كَفَرُوا» وهذا يعنى أنهم جمعوا المتناقضات التي لا تستقيم على عقل عاقل.. إذ جمعوا الكفر مع ما شهدوا من الحق الذي يطالعهم من وجه الرسول، ومع ما بين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 يديه من آيات بينات.. وهذا أمر لا يكون إلا ممن سفه نفسه، وركب رأسه، وتعلق بأذيال شيطانه! كما يمكن أن تكون هذه الواو للحال، بمعنى أنهم كفروا فى تلك الحال التي يشهدون فيها دلائل النبوة، ويرون آياتها.. فهم والحال كذلك فى أمر مختلف.. الكفر عن علم وعمد! وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» ما يكشف عن حقيقة الاستفهام الإنكارى الذي بدأت به الآية، وهو: «كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ» .. فهؤلاء القوم قد اتخذوا الظلم مركبا، فاعتدوا اعتداء منكرا على الحقّ الذي بين أيديهم، حتى لقد اجترءوا على إفساد الكتاب السماوي الذي يؤمنون به، ويعيشون فيه.. «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» فكيف يهدى الله هؤلاء القوم الظالمين، الذين يشهدون الحق، ويستيقنونه، ثم يكفرون به؟ إنهم ليسوا أهلا لخير أبدا. وكلمة «القوم» هنا تعنى أن هذا الظلم الذي ركبه هؤلاء السفهاء هو ظلم جماعى، تواطأ عليه القوم جميعا، ولم يقم فيهم رجل رشيد ينكر عليهم هذا المنكر، فكان ظلما غليظا، وداء قاتلا، لا يرجى له شفاء أبدا.. إنه أشبه بالوباء الذي ينزل بجماعة من الجماعات، فيأتى عليها بين يوم وليلة. ولهذا كانت العقوبة الواردة على هؤلاء الظالمين عقوبة عامة قاصمة: «أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» .. إنهم بمعزل من رحمة الله.. تحيط بهم لعنة الله ولعنة ملائكته، ولعنة الناس أجمعين: المؤمنين منهم وغير المؤمنين.. أما المؤمنون فلأنهم من حزب الله، يحاربون من حارب الله، ويلعنون من يلعنه الله.. وأما غير المؤمنين فإنهم على خلاف مع هؤلاء القوم الظالمين.. لهم ظلم غير ظلمهم، ودين غير دينهم.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 فهم على عداوة- ظاهرة أو خفية- معهم.. ثم إنهم هم أنفسهم يتبرأ بعضهم من بعض، ويكفر بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضا، وذلك حين تقع بهم الواقعة، ويرون سوء المصير الذي هم صائرون إليه.. هكذا شأن جماعات الضالين والمفسدين، يجمعهم الضلال والفساد إلى حين.. ثم يفرّق بينهم الضلال والفساد يوم يقوم الناس لرب العالمين.. وفى هذا يقول الله تعالى: «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» (67: الزخرف) ويقول سبحانه: «وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ» (25: العنكبوت) . والضمير فى قوله تعالى: «خالِدِينَ فِيها» يعود إلى اللعنة، أي هم خالدون فى هذه اللعنة الواقعة عليهم من الله والملائكة والناس، لا تزايلهم أبدا.. وقوله تعالى: «وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ» إشارة إلى أن هذه اللعنة واقعة عليهم فى هذه الدنيا، كما هى واقعة عليهم يوم القيامة.. إنهم يلقون جزاء هذا الظلم الغليظ معجلا ومؤجلا معا. والاستثناء فى قوله تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» هو وارد على هذا الحكم الواقع على أولئك الظلمة وما رماهم الله به من لعنة عاجلة فى الدنيا وآجلة فى الآخرة.. بمعنى أن من تاب من هؤلاء الملعونين، ورجع إلى الله من قريب، وأصلح ما أفسد من دينه فإن مغفرة الله تسعه، ورحمة الله تعالى تناله، وترتفع عنه تلك اللعنة التي أحاطت به، وينزل منازل المؤمنين، الذين رضى الله عنهم، وتقبّل عنهم أحسن ما عملوا.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 وفى هذا ما يفتح لهؤلاء المذنبين باب الرجاء فى رحمة الله، وينصب لهم معالم النجاة، إن هم أرادوا النجاة والخلاص. ال آية: (90) [سورة آل عمران (3) : آية 90] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) التفسير: هذه الآية مكملة لما قبلها.. فبعد أن بيّن الله سبحانه وتعالى المصير المشئوم الذي سيقع على هؤلاء الكافرين من أهل الكتاب.. الذين كفروا بعد إيمانهم، وبعد أن شهدوا أن الرسول الذي ظهر فيهم هو رسول رب العالمين، يحمل آيات الهدى والنور من ربه.. وبعد أن ألبسهم الله ثوب اللعنة، ثم فتح باب الرحمة لمن نزع منهم عن غيّه وضلاله، وفاء إلى الحق، ورجع إلى الله تائبا، مصلحا ما أفسد من دينه وفى دينه- بعد هذا بيّن الله موقف المتعنتين من هؤلاء الضالين الظالمين، الذين دعاهم الله تعالى إلى جناب رحمته ومغفرته، فأبوا أن يستجيبوا، ولم يزدهم هذا الدعاء الكريم، من رب كريم، إلا إصرارا وعنادا، وإغراقا فى الإثم، واستغراقا فى الضلال- فهؤلاء لن تقبل توبتهم، ولن يلقاهم الله برحمته ومغفرته.. «وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ» . والسؤال هنا: أهناك من يتوب، ويمدّ يده إلى الله بالصفح والمغفرة.. ثم يردّ، ولا صفح ولا مغفرة؟ والجواب، أن الله سبحانه وتعالى يدعو عباده إلى التوبة، ويفتح لهم باب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 القبول والصفح، فيقول سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ» (222: البقرة) ويقول جل شأنه: «وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (31: النور) ثم يقول سبحانه: «وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» (75: الشورى) . فكيف لا يقبل الله توبة من جاء إليه ملبيّا نداءه، باسطا إليه يده بالتوبة والإنابة؟ والآية هنا تقول «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ» فهؤلاء الذين كفروا هم الذين أشارت إليهم الآية السابقة فى قوله تعالى: «كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ» إنهم- والأمر كذلك- ليسوا مجرد كافرين، ولدوا فى الكفر، ونشأوا على الكفر، وإنما هم كفروا بعد إيمان، وضلّوا بعد هدى.. وليس هذا وحسب، بل إنهم تعمّدوا الخروج من الإيمان، وأطفئوا بأيديهم وبأفواههم النور الذي كان معهم.. وإنهم ليعرفون أنهم على ضلال، ولكن الحسد الذي يأكل قلوبهم جعلهم يلقون بأيديهم إلى التهلكة عن عمد وإصرار. وإن إنسانا يستبدّ به العناد إلى هذا الحدّ، ويتسلط عليه الهوى إلى هذا المدى الذي يشوّه به معالم وجوده بيده- إن إنسانا كهذا الإنسان لن يرجع إلى الله أبدا، ولن تزيده الأيام إلا عمى وضلالا.. فقد استشرى به الداء، وهيهات أن يكون له دواء: «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ» (10: البقرة) .. وفى قوله تعالى: «ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً» ما يكشف عن معدن هؤلاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 القوم، وأنهم كلّما امتد الزمن بهم كلما ازدادوا عتوّا وكفرا.. ومن كان هذا شأنه فإنه لا يرجى له صلاح ولن تكون منه إلى الله رجعة. وفى قوله تعالى: «لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ» تيئيس لهم من التوبة التي إن أعلنوها بألسنتهم فى حال ماء أنكروها بقلوبهم، وشهد على إنكارهم سوء أعمالهم.. وفى قوله تعالى: «لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ» وجه آخر، هو أنهم- والله أعلم- قد لبسوا من الكفر غير ما يلبسه الكافرون.. إذا كانوا على الإيمان، فجعلوه، وارتدوا الكفر الذي لن يزايلهم أبدا، فإذا تاب تائبهم.. وهو على تلك الحال- فلن تقبل توبته، بمعنى أنه لن تمضى له هذه التوبة إلى آخر عمره، بل إنه راجع لا محالة إلى ما كان عليه من الكفر الغليظ الذي تلبّس به.. وبهذا تكون توبته تلك كلا توبة.. فقوله تعالى: «لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ» أي لن تقبل قبولا مثمرا، ينتهى بصاحبه إلى الهدى والإيمان.. إذ كانت التوبة غير خالصة لله وللحق! وقوله تعالى: «وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ» الإشارة هنا إلى هؤلاء القوم الذين كفروا بعد إيمانهم، ثم ازدادوا كفرا، ثم لم يكن الله ليقبل توبتهم.. «وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ» أي الذين استغرقهم الضلال، واشتمل عليهم.. فلا مخرج لهم منه إلى هدى. آية: (91) [سورة آل عمران (3) : آية 91] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 التفسير: هذا الحكم وإن كان عاما يلحق الكافرين الذين ماتوا وهم على كفرهم، إلا أنّه يتجه اتجاها مباشرا إلى اليهود، الذين أبعدهم الرحمن من رحمته، وتركهم مع كفرهم وضلالهم، وأغلق فى وجههم باب التوبة والقبول، وذلك لأنهم كفروا بعد إيمان، وضلّوا بعد علم، ثم اجترءوا على الله، فحرّفوا كلماته، وبدّلوا آياته.. وإنهم وقد أيأسهم الله من الرجوع إليه، سيمضون على ما هم فيه من كفر، وسيموتون كافرين.. ومن كان على تلك الصفة، فالويل له من عذاب يوم عظيم! وفى قوله تعالى: «فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً» أمور منها: أولا: أن المال الذي هو دين اليهود، والذي من أجله استرخصوا الدّين، واستخفوا بآيات الله، ليحتفظوا بمراكزهم الاجتماعية فى مجتمعهم الفاسد- هذا المال الذي هم تاركوه وراءهم لن يدفع عنهم شيئا من العذاب الذي ينتظرهم فى الآخرة.. ثانيا: التعبير بالذهب عن المال، سواء كان ذهبا أو فضة، أو ضياعا أو دورا وقصورا ودوابّ- لأن الذهب هو المقياس الذي تعرف به قيمة كل مال، وهو الذي به ينال كل مال مطلب. ثالثا: فى قوله تعالى: «أَحَدِهِمْ» ما يشعر بالاستخفاف بهذا المال، وبقلّة جدواه فى هذا الموقف، وأنه لو كان لأحدهم ملء الأرض ذهبا ما نفعه! فكيف وهو لا يملك من هذا المال ما يملأ حفرته من الذهب؟ فإن بلغ فى الغنى أقصى مدى فلن يملك مصرا من الأمصار! وأين هذا الذهب الذي يملأ هذا المصر الذي ملكه؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 رابعا: فى قوله تعالى: «وَلَوِ افْتَدى بِهِ» ما يكشف عن بعض البلاء النازل بهذا الذي كفر بالله، فى هذا اليوم، وأنه لو كان له ملء الأرض ذهبا لسمحت به نفسه فى غير تردد أو مساومة، ليدفع هذا البلاء، ويخلص بجلده.. وانظر كيف يسمح يهودى بهذا الذهب كلّه، ولا تنازعه نفسه إلى أن يحتجز بعضا، ويترك بعضا؟ ولقد كان مستعدا فى حياته الدنيا أن يبيع نفسه، لمن يشتريها- وقد باعها فعلا- لقاء حفنة من تراب هذا الذهب فكيف يلقى بهذا الذهب كله من يده؟ إنه العذاب الأليم الذي يجعله يذهل عن كل شىء حتى المال، وحتى الذهب. الآية: (92) [سورة آل عمران (3) : آية 92] لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) التفسير: فى الآية السابقة أهدرت قيمة الذهب، فكان لا ثمن له فى يد من يملكه، ولو كان ملء الأرض! إذ ماذا ينفع المال فى هذا اليوم، الذي لا بيع فيه ولا شراء؟ ومن هنا لم يكن لهذا المال الذي قدمه الكافر فدية له، وهو مال كثير، يملأ وجه الأرض كلها- لم يكن له أي أثر فى رفع شر أو جلب خير! .. إنه مال مزهود فيه، لا تلتفت إليه عين، ولا تمتد إليه يد، فهو والتراب سواء! وفى هذه الآية يبين الله تعالى أن المال الذي يبذل، وللأنظار مطمح فيه، وللقلوب علقة به، وللنفوس هوى إليه- هو المال الذي يدفع به الشر، ويجلب به الخير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 وإذ كان ذلك كذلك، فإن المال المبذول فى سبيل الله لا يبلغ بصاحبه منزلة الأبرار المقبولين عند الله، حتى يكون هذا المال أحبّ شىء عنده وآثره. إذ هنا يكون صاحب المال قد جاهد نفسه، وغلب هواه، وقهر دواعى الأثرة عنده، حتى نزل عن هذا الشيء المحبوب عنده، وأنفقه فى وجوه الخير، طمعا فى مرضاة الله، وابتغاء رضوانه.. وبهذا ينال ثواب المجاهدين، ويعطى أجر العاملين.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» (69: العنكبوت) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 الآيتان: (93- 95) [سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 95] كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) التفسير: عبث اليهود بآيات الله، وحرّفوا وبدّلوا فى كلماته، وأداروا دينهم على الوجه الذي يغذّى نزعاتهم، ويشبع أهواءهم، فأحلّوا وحرّموا، غير ما أحلّ الله، وغير ما حرم، وقد فضحهم القرآن الكريم فى أكثر من آية من آياته، فقال تعالى: «مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ، وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ، وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» (46: النساء) ولم يقف بهم الأمر فى تحريف كلمات الله وتبديلها عند حدّ، فتقوّلوا على أنبيائهم، ورموهم بالكبائر والمنكرات، وجحدوا رسالة محمد وما حدّثت به التوراة عنه، ثم تجاوزوا هذا إلى ما يتصل بشئونهم الخاصة التي رسمتها لهم شريعة موسى.. من القصاص فى القتلى، وحدود المحرمات، وما حرّم الله عليهم من طيبات كانت حلّا لهم من قبل أن تنزّل التوراة، نكالا لهم، جزاء كفرهم بآيات الله! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 وفى كل هذا كانت تنزل آيات القرآن الكريم فاضحة لهم، ناشرة على الناس ضلالهم وافتراءهم على الله، وعدوانهم على حدوده. فحين نزل فيهم قوله تعالى: «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً» (160: النساء) وقوله تعالى: «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ» (146، 147: الأنعام) - حين نزل فيهم هذا القرآن الذي يتهمهم بالبغي والعدوان، وأنهم عوقبوا ببغيهم وعدوانهم هذا العقاب الذي حرّم الله به عليهم ما كان حلّا لأسلافهم من قبل أن تنزل التوراة- حين قال فيهم القرآن هذا جعلوا يبدون العجب والدّهش، ويقول قائلهم: ما هذا القول الذي يحدّث به محمد عنّا؟ وكيف تبلغ به الجرأة على الحق أن يغيّر ويبدّل فى شريعتنا؟ وقد ردّ القرآن عليهم قبل أن ينطقوا بهذا الذي نطقوا به، ورصد لهم الجواب الذي يفحمهم ويخزيهم، قبل أن يتساءلوا ويعجبوا، فى خبث صبيانى مفضوح، فدعا الله تعالى نبيّه أن يلقاهم بهذا الردّ إن هم كذبوه فيما يتهمهم به القرآن من كذب على الله: «فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ» فمع سعة رحمة الله وشمولها، فإنها لا تنال هؤلاء المجرمين الذين رماهم الله ببأسه ونقمته، فحرم عليهم طيبات ما أحلّ.. وقد فضحهم الله فى قوله سبحانه: «وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ.. هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ.. لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ. إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ» (116: النحل) وفى قوله تعالى: «كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ» إشارة إلى أن الأصل فى الطعام أن يكون مطلق الحلّ، يتناول منه الإنسان ما ترضاه نفسه، وتطيب به.. إن ذلك شأن من شئون الناس.. فما استساغته النفوس وقبلته، فهو حلّ مباح لها، وما عافته واستقذرته لم يكن لأحد أن يحملها على تناوله. فهذه أنواع الحيوان، وأجناس الطير.. لكل نوع طعام، ولكل جنس ما يغتذى به، ويقيم حياته عليه، إذ يعيش بعضها على النبات، وبعضها على الحبوب، وبعضها على الثمار، كما تعيش أصناف منها على اللحم، وأصناف أخرى على العشب! فإذا عرض على الحيوان آكل العشب بعض قطع اللحم لم يمدّ فمه إليها، والعكس بالعكس.. وهكذا كل صنف وكل نوع، يسعى وراء الطعام الذي ساغته نفسه وقبلته طبيعته! والإنسان شأنه شأن الحيوان فى هذا.. له أن يأكل مما تنبت الأرض، وما تحمل على ظهرها من حيوان، ما دام المأكول مستساغا عنده، مقبولا لديه! وطبيعى ألا يستسيغ الإنسان كل شىء أو يقبل كل شيء.. فقبل كثيرا، ورفض كثيرا، وهو حرّ فى القبول وفى الرفض. ذلك شأن الإنسان، وهكذا ينبغى أن يكون شأنه.. الأمر متروك له، فيما يتخيّر من طعامه، وشرابه! ولكنّ العناية الإلهية كانت ولا تزال دائما أبدا تمدّ الإنسان بنصحها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 وإرشادها، حتى يستقيم على الطريق القويم. فأرسل الله رسله يحملون إلى الناس الهدى والرشاد، ويؤذّنون فيهم بكلمات الله، وما فيها من وعد ووعيد، إذ كان الإنسان أهلا لأن يخاطب من قبل الله، وأن تحمل إليه كلمات الله، وما فيها من نور وهدى! فكان الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وإباحة الحلال وحظر الحرام، مما بينته للناس شريعة السماء، وأمرت بالوقوف عند حدوده! وفى الطعام والشراب جاءت الشريعة السماوية بالإباحة المطلقة لكل ما هو طيب، كما يقول الله تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» (172: البقرة) ويقول سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا» (87: المائدة) . وقد يكون من العجب أن تحرّم الشريعة السماوية على الناس بعض ما يشتهون، أو بعض ما يجدون له مساغا بوجه من الوجوه! ويقوم هذا العجب حين ننظر إلى الإنسان نظرتنا إلى الحيوان، ونقيسه عليه، ونسوّى بينهما فى القياس، وعندئذ يحوز لقائنا أن يقول: إذا كان الحيوان قد أطلق له الأمر فى اختيار طعامه وشرابه، والاستدلال بغريزته على ما يصلح له وما لا يصلح، أفلا يطلق للإنسان الأمر فى اختيار طعامه وشرابه، والتمييز بعقله وخبرته بين النافع منها والضار؟ أليس من باب أولى أن يكون الإنسان سيد نفسه، وصاحب أمره فى هذا الأمر فى هذا الأمر الذي يتهدّى إليه الحيوان بطبيعته؟ ولكن يردّ على هذا، بأن الإنسان أكرم على الله من الحيوان، بما حباه من عقل، وما جعل له بهذا العقل من سلطان الخلافة على هذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 الأرض.. ولهذا تولّى الله سبحانه هدايته، وخاطبه- كما قلنا- على لسان رسله بكلماته وآياته.. وقد جاءت آيات الله إلى الإنسان لتحرر إرادته من الهوى المتسلط عليه، وتجلى عن عقله غيوم الجهل والضلال التي تخيم عليه بين الحين والحين.. وكما جاءت آيات الله لتحرر إرادة الإنسان، وتصحح وجدانه، وتنير عقله، جاءت أيضا إلى الجانب المادىّ منه، لتغذّى جسمه بالغذاء الطيب، ولتحول بينه وبين أن يطعم الخبيث، حتى يسلم له كيانه كله، جسدا، وعقلا، وقلبا، وروحا! ومن هنا كان ما فرضته الشريعة السماوية من تحريم الخبيث من الأطعمة على المؤمنين- استعلاء بالإنسان، واستكمالا للكمال المنشود له، بل والمطلوب منه. وهذا ما فعلته الشريعة الإسلامية مع أتباعها فيما حرمت عليهم من مطاعم، فيقول الله تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ.. ذلِكُمْ فِسْقٌ ... » وهى جميعها مطاعم تأباها النّفوس الطيبة، وتعافها الطبائع السليمة، بل إن بعض الحيوانات آكلة اللحوم تأبى أن تأكل الميتة، ولو هلكت جوعا.. كالأسد مثلا، فإنه لا يقرب الميتة أبدا! فالميتة، والدم، ولحم الخنزير، والحيوانات التي تموت غير ميتة طبيعية، كالمنخنقة والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع منها.. كل هذه مطاعم لا تقبلها نفس طيبة، ولا تسوغها طبائع سليمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 وهناك مطاعم حرّمها الإسلام لا لذاتها، ولكن لما أحاط بها من جوّ كريه، يفسدها، ويفسد طعمها على آكليها، كتلك التي تذبح قربانا للأوثان، ومثلها جميع مطاعم الوثنيين.. حيث تفوح منها ريح الشرك بالله، والكفر به.. فهى والحال كذلك طعام ملوّث بالشرك بالله، فمن طعمها طعم الشرك معها. وكالخمر التي حرمتها الشريعة الإسلامية، إنها شراب مشوب بداء يغتال العقل، وتذهب به حميّا خمارها وسكرها.. وعندئذ ينزل الإنسان عن إنسانيته التي يحرص الإسلام على أن يستبقيها فى كيان المخلوق الذي كرمه الله.. ومن أجل هذا كان تحريمها.. فهذه المحرمات من المطعومات والمشروبات، هى حماية للإنسان من أن ينزل عن إنسانيته، واستعلاء به، واستكمال للكمال المنشود له. وكما يكون تحريم بعض الأطعمة والأشربة لطفا من ألطاف الله بالإنسان، والاستعلاء به على الخبائث- يكون التحريم فى حال أخرى، ضربا من الهوان والإذلال للإنسان، وابتلاء وإعناتا له، حين يدفع عن الطيب، ويذاد عن الشهىّ، نكالا له بما كسب من ظلم، وما جنى من بغى.. فكان هذا العقاب له، من واردات الظلم والبغي، وإن لم يكن ظلما ولا بغيا، ولكن هكذا يجزى الظالمون البغاة.. «ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ» (146: الأنعام) فقد كانت المطاعم كلّها حلّا لبنى إسرائيل، لم يحرّم عليهم شىء منها إلا ما تعافه النفس، وتزهد فيه.. ومع هذا فإنه كان إذا ورد واردهم على الميتة أو الدم أو لحم الخنزير، أو الخمر، فإنه لا إثم عليه فيه، حيث لم يكن هناك حدّ شرعىّ، يفرق بين طعام وطعام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 ومع أن هذا الإطلاق يرفع الحرج عنهم فى أن يطعموا أي طعام يريدون- فإنه يحمل فى طياته الوقوف بهم عند مستوى من الإنسانية، دون هذا المستوي الكريم، الذي ندبت له الشريعة الإسلامية أتباعها، فحرمت عليهم ما حرمت من مطاعم، ولم تجعل ذلك إلى أتباعها، يطعمون منها ما شاءوا متى شاءوا، بل حرمت عليهم بعض الأطعمة تحريما قاطعا، وأثمت من ينال منها إلا عند الاضطرار، ودون مجاوزة حد الاضطرار. لم تحرّم الشريعة على بنى إسرائيل شيئا مما يطعمون إلّا ما حرم إسرائيل- وهو يعقوب- على نفسه من أطعمة استقذرها، وعافتها نفسه، فجعل ذلك حراما ملزما نفسه إياه! فلما جاء موسى عليه السّلام، إلى بنى إسرائيل، وطلع عليهم بآيات الله، وملأ الحياة عليهم بالمعجزات.. ثم لم يكن منهم إلّا العناد، والإغراق فى الضلال، والمكر بآيات الله- فكان أن أخذهم الله بالبأساء والضراء، وضرب عليهم التّيه فى الصحراء، وابتلاهم بتحريم العمل فى يوم السبت، فلم يطيقوا، وعملوا فى هذا اليوم، فرماهم الله باللعنة، وجعل منهم القردة والخنازير! ثم ابتلاهم الله بما حرّم عليهم من طيبات الطعام، التي ذكرها الله سبحانه فى القرآن الكريم، والتي جاءهم بها موسى فى التوراة، وبيّن الله فيها أنها نقمة وابتلاء، وبلاء! كما يقول الله تعالى: «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ» (146: الأنعام) . ونقرأ الآية الكريمة، التي تحدّث اليهود بما فى التوراة التي فى أيديهم، عن تلك المطاعم التي حرمها الله عليهم، نكالا وابتلاء.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 «كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ.. قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» . ففى التوراة مثل ما فى القرآن من هذا الأمر.. ولكن القوم يكابرون، وينكرون أن يكون فى التوراة شىء من هذا الذي يحدثهم به القرآن. ويمضى القرآن دون أن يلتفت إليهم.. إنه الصدق المطلق الذي يجدونه بين أيديهم، وإن أنكروه بألسنتهم، فهو يتحدث إليهم بصوت صارخ من التوراة: أن كذبتم وافتريتم.. فألجموا ألسنتكم، ودعوا هذا الافتراء الذي أنتم فيه.. «فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» !. ولكن هيهات أن يكفّ القوم عن الكذب والافتراء.. وتلك بلية أخرى، وداء يضاف إلى أدواء. ولا يقف القرآن ليسجل عليهم ما يثرثرون به، من كذب وافتراء، بعد كذب وافتراء، بل يمضى فى طريقه، يؤذّن بالحق، ويدعو إليه من شاء أن يكون من أهله.. «قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» .. .. فإن ما ينطق به القرآن هو كلمات الله، التي هى الصدق المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وفى قوله تعالى: «فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» تعريض باليهود، وبأنهم ليسوا على ملة إبراهيم التي يدّعون- زورا وبهتانا- أنهم عليها، فإن إبراهيم كان حنيفا مسلما، وهؤلاء ليسوا بالحنفاء ولا بالمسلمين، ولكنهم كفروا وأشركوا، وضلوا ضلالا بعيدا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 الآيتان: (96، 97) [سورة آل عمران (3) : الآيات 96 الى 97] إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) التفسير: فى هاتين الآيتين الكريمتين ما يكشف عن الأسس القويمة التي قام عليها دين الله، بدءا وختاما، فكان هو الإسلام فى مبدئه وختامه.. فاولا: إبراهيم عليه السّلام- هو أبو الأنبياء، ومن ذريته، وعلى دينه، داود، وسليمان، وأيوب، ويوسف، وموسى، وهرون، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وإلياس، وإسماعيل، واليسع، ويونس، ولوطا، ومحمد.. عليهم صلوات الله وسلامه.. وثانيا: البيت الحرام الذي بمكة هو أول بيت وضع للناس، فى هذه الأرض، ليكون مصدر الخير والبركة، ومعلم الهدى والنور للناس أجمعين. ثالثا: هذا البيت الحرام، كان مصلّى إبراهيم ومقامه، ساقته العناية الإلهية إليه، ليجدّد معالمه، ويرفع قواعده، ويعدّه لاستقبال الرسالة التي بدأها، حين يتمّ تمامها، وتبلغ غايتها على يد آخر المرسلين من أبنائه، وهو محمد عليه الصلاة والسلام. وهذا البيت الذي اتخذه إبراهيم مصلّى له، هو بيت الله، وهو أول بيت على هذه الأرض اتصل فيه الإنسان بربّه، منذ طفولة الإنسانية الأولى.. فلما اصطفى الله إبراهيم لرسالته، دعاه إلى تجديد معالمه، ورفع قواعده، ولم يكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 إبراهيم هو الذي أنشأه وأقامه.. فهو أقدم من إبراهيم بأزمان بعيدة، وفى هذا يقول الله تعالى: «وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» (125 البقرة) .. ففى قوله تعالى: «وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ» إشارة إلى أنه كان بيتا لله قبل أن يعهد الله إلى إبراهيم وإسماعيل بتطهيره من الأوثان التي عبدها العابدون فيه.. ثم يقول الله تعالى: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ..» (127: البقرة) . وفى هذا إشارة أخرى إلى أن البيت كان قائما على قواعد، وأنها كانت إلى عهد إبراهيم وإسماعيل قد تهدمت.. فكان عمل إبراهيم وإسماعيل فيها هو إقامتها على أصولها التي كانت عليها. رابعا: فى اشتراك إسماعيل مع أبيه إبراهيم فى إقامة هذا البيت، وتطهيره من الأوثان.. إعداد- كما قلنا- للرسالة المحمدية، التي ستكون ميراثا خالصا له من أبويه الكريمين: إبراهيم وإسماعيل. من هذا يبدو أن الرسالة الإسلامية المحمّدية كانت هى الفلك الذي تدور فيه رسالات الأنبياء والمرسلين، وأنها الجامعة التي تجتمع إليها جميع الرسالات، وتلتقى عندها، كما أنها كانت هى المنبع الذي فاضت منه عيونها، والكوكب الذي استمدت منه شعاعاتها.. فالرسالة الإسلامية المحمدية هى المبدأ والختام، بدأت كما يبدو الهلال، يكبر ليلة بعد ليلة، حتى يتم تمامه ويصير بدرا، ففى كل نبوّة، وبين يدى كل نبى، قبسة من أقباس الإسلام، وضوءة من أضوائه، حتى جاء صاحب الرسالة الإسلامية، محمد ابن عبد الله، فوضعها الله بين يديه، على أتم تمامها، وأكمل كمالها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 وقوله تعالى: «مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ» حالان لنائب الفاعل للفعل «وضع» أي وضع البيت مباركا وهدى للعالمين. وقوله تعالى: «فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ» بيان للبركة التي شملت هذا البيت، وللهدى الذي يفيض على الناس منه.. وتلك الآيات كثيرة.. منها أنه كان أقدم بنيّة لله على هذه الأرض، ومع ذلك ظل محتفظا بوجوده، لم تذهب به الأحداث، ولم يأت عليه الزمن كما أتى على آثار الأولين، وعفّى على كل معلم من معالمها.. أما هذا البيت فهو أقدم معلم على هذه الأرض، ومع ذلك فهو لا يزداد مع الأزمان إلا وضوحا ورسوخا.. حتى فى عهود الضلال والوثنية.. كان له فى قلوب الوثنيين وفى عقولهم من الإجلال والتقديس ما له فى قلوب المؤمنين وعقولهم من إجلال وإكبار وتقديس! ومن الآيات القائمة فيه، أنه كان ولا يزال أبدا حرما آمنا، يجد عنده من يلوذ به من إنسان وحيوان وطير، الأمن والسلامة، فلا تمتد إليه يد بأذى ولا يناله أحد بمكروه، توقيرا لهذا البيت، وتكريما لمقامه الكريم.. حتى إن أشدّ الناس فتكا، وأقساهم قلبا، وأكثرهم إضرارا بالناس وأذى، لا يجد فى نفسه القدرة على انتهاك حرمة هذا الحرم.. بل إنه سرعان ما يستولى عليه شعور الأمن والسلام، وإذا هو أمن وسلام، مع المؤمنين السالمين، فى جوار الحرم الأمين. ومن الآيات البينات فى هذا البيت أنه لا يزال أبدا مهوى الأفئدة، ومجتمع الحجيج من مختلف الأمصار والأجناس والألسنة، حتى إذا صارت إليه هذه الألوان المختلفة من الناس، أحالها لونا واحدا، وأوردها مشربا واحدا، وجمعها على أمر واحد!. وقوله تعالى: «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ» هو خبر يراد به الأمر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 أي أن الله سبحانه، قد فرض على الناس أن يحجوا إلى هذا البيت، وأن يذكروا الله فيه، لينالوا حظهم المقسوم لهم من نفحاته، وبركاته. وكلمة «الناس» هنا تعنى النّاس جميعا، لا تخصّ أمة من الأمم، ولا تنحصر فى شعب من الشعوب، إنها دعوة الله إلى كل النّاس، أسودهم وأحمرهم، وأبيضهم، على السواء.. إنهم عباد الله، والبيت بيت الله. وفى قوله تعالى: «مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» قيد وارد على الأمر العام المطلق بالحج، فلا بد لنفاذ هذا الأمر، من الاستطاعة، فإذا فقد الإنسان الاستطاعة فلا حجّ عليه! والاستطاعة هنا استطاعة عامة، تشمل القدرة المالية، والقدرة الجسدية، كما تشمل أمن الطريق، وكما تشمل قبل ذلك كلّه، الإيمان بالله.. فغير المؤمن بالله، لا يتجه إلى بيته، ولا يسعى إليه.. فهو فى حكم غير المستطيع، إذ قام الكفر حجازا بينه وبين هذا البيت. وفى قوله تعالى: «وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ» إشارة إلى أن الكافر صادّ عن بيت الله، لا يستجيب لهذا الأمر الذي دعا الله فيه الناس جميعا، أن يحجوا إلى بيته.. فكأنه جنس آخر غير جنس الناس المدعوين إلى بيت الله! الآيتان: (98- 99) [سورة آل عمران (3) : الآيات 98 الى 99] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 التفسير: دعا الله النّاس إلى أن يحجّوا إلى بيته، ولكن الذين كفروا بالله محجوزون بكفرهم عن إجابة هذا النداء.. فالله غنىّ عن العالمين! وأهل الكتاب- وخاصة اليهود- من الذين كفروا بآيات الله، فلم يدخلوا فى هذه الدعوة، ولم يستجيبوا لها، وقد أمر الله النبىّ الكريم أن يلقاهم بهذا السؤال الذي ينكر عليهم هذا الموقف الذي وقفوه من الدعوة الإسلامية وآياتها البينات، خاصة وأنهم أهل الكتاب، تلتقى دعوته مع دعوة الإسلام، لو أنهم آمنوا بما فى كتابهم، ولم يحرّفوا الكلم عن مواضعه.. «يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ؟» . وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ» تهديد لهم، ووعيد بسوء المصير، جزاء أعمالهم المنكرة، وكفرهم العنادىّ.. وذلك كلّه واقع فى علم الله، الذي لا تخفى عليه خافية.. ولو وقف أهل الكتاب بكفرهم عند حدّ، وقصّروا هذا الكفر على ذات أنفسهم، لكانت مصيبتهم مصيبة، ولكنهم تجاوزوا هذا الموقف القاتل، إلى إضلال غيرهم، وإلى التشويش على المؤمنين، وإفساد دينهم عليهم، إذ يصدّون المؤمنين عن سبيل الله، بما يلقون إليهم من أباطيل، وما يسوقون إليهم من فتن.. إنهم لا يريدون لأحد أن يستقيم على سبيل الله، لأنهم يعلمون أنهم على طريق الضلال، وأنهم هالكون، وإنه لعزيز عليهم أن يسلم الناس.. وإذن فليضلّ الناس كما ضلوا، وليهلك الناس كما هلكوا.. وذلك شأن المفسدين، إخوان الشياطين، يغوون الناس، ويزينون لهم سبل الفساد، ليكون معهم من يصاب بما أصيبوا به، وفى ذلك عزاء لهم، وإنه لبلاء إلى بلاء! .. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ» (69: آل عمران) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 ويقول سبحانه: «وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً..» (89: النساء) الآيتان: (100- 101) [سورة آل عمران (3) : الآيات 100 الى 101] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) التفسير: بعد أن كشف الله- سبحانه- أولئك الذين كفروا من أهل الكتاب، وما يبيّتون للمؤمنين من مكايد وفتن، ليفسدوا عليهم دينهم- دعا الله المؤمنين إلى أن يأخذوا حذرهم من هؤلاء الضالين المضلّين من أهل الكتاب: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ» .. والفريق المعنىّ هنا من أهل الكتاب، هم العلماء منهم، والذين يحسنون وسائل التضليل والخداع، بما لهم من علم، وفى قوله تعالى: «وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ» ، تنبيه للمؤمنين وتحذير لهم، وتسفيه لمن تسوّل له نفسه منهم أن يستجيب لدعوة هؤلاء الضالّين، ويعطيهم منه أذنا واعية.. إذ كيف ينفذ هذا الضلال إلى قلب مؤمن، وهو يستمع إلى آيات الله تتلى عليه، ويرى بعينيه رسول الله قائما على رسالة السّماء، يتلقى آياتها، ويفيض على الناس منها؟ كيف- والأمر كذلك- يتحول عاقل من الناس من النور إلى الظلام، ومن الهدى إلى الضلال؟ إن ذلك لن يكون إلا من أحمق، أو سفيه، أو مجنون! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 وفي قوله تعالى: «وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» توجيه إلى الطريق الذي ينبغى أن يستقيم عليه العاقل، ويلتزمه، وهو الإيمان بالله، والاعتصام به من وسوسة الضالين، وكيد المبطلين، فذلك هو الذي يعصم المؤمن من الزلل، ويحميه من الضلال، وفى هذا نجاته وسلامته. الآيتان: (102- 103) [سورة آل عمران (3) : الآيات 102 الى 103] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) التفسير: بعد أن حذّر الله- سبحانه- المؤمنين، فى الآيتين السابقتين (100، 101) من أن يأمنوا جانب تلك الجماعة المنحرفة من أهل الكتاب، التي تدبّر لهم الشر، وتحيك لهم الضلال، لتفسد عليهم دينهم، ولتفتنهم فيه- بعد هذا توجّه سبحانه بهذا النداء الكريم إلى المؤمنين فى خاصة أنفسهم، ليحذرهم من العدو الخفي، بعد أن حذّرهم من العدو الظاهر. وهذا العدو الخفي، هو النفس، ونزعاتها، وأهواؤها، تلك الأهواء والنزعات التي إن تسلطت على الإنسان أفسدته وأهلكته، وكانت أشدّ وبالا عليه من أعدى أعدائه الذين يراهم رأى العين! وفى هذا النداء الكريم، يدعو الله المؤمنين أن يتقوه حق تقواه، وأن يأتمروا بما أمرهم الله به، وأن ينتهوا عما نهاهم عنه، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 وقد فسّر بعض المفسّرين تقوى الله حق تقاته، بالتقوى التي تتناسب مع جلال الله، وكماله، وعظمته.. وهذا مقام لا يستطيعه بشر من البشر، ولا خلق من خلق الله. ولهذا رأى هؤلاء المفسرون أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (16: التغابن) والواقع أنه لا تعارض بين الآيتين، وإذن فلا تناسخ بينهما! ذلك أن معنى قوله تعالى «اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ» الاجتهاد فى عبادته، وفى طاعته، على قدر ما تسع نفس الإنسان وتحتمل، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» (233: البقرة) . وهو ما تشير إليه الآية الكريمة: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» .. فالتقوى على قدر الاستطاعة هى التقوى حقّ التقوى، وهى المناسبة لقدر الإنسان ولحظّه من الكمال المقدور له.. وعلى هذا، فالناس على منازلهم من تقوى الله، كل حسب وثاقة إيمانه وقوة عزيمته، لا على حسب مالله من كمال وجلال، فذلك مالا يبلغه إنسان.. أما ما ينبغى لله من قدر وكمال فلن يبلغ أحد ذرة منه! وحسب الإنسان لكى يكون من عباد الله، أن يؤمن بالله أولا، وأن يجتهد فى عبادته وطاعته ما استطاع، وإن فاته شىء من التقوى والعبادة- وهذا ما لا بد أن يكون- فلن يفوته سلامة معتقده فى الله، وإخلاصه فى الإيمان بوحدانيته، ثم الموت على هذا المعتقد- فإن فاته ذلك فقد حبط عمله، وضلّ سعيه، وأورد نفسه موارد الهالكين. وبعد أن ثبت الله قلوب المؤمنين على الإيمان، دعاهم دعوة أخرى، وهى أن يكونوا جبهة واحدة فى وجه الأعداء المتربصين بهم.. فقد عرف المسلمون آثار الفرقة فيما كانوا عليه هم وآباؤهم فى الجاهلية، من عداوة وبغضاء، ومن خلاف وشقاق، الأمر الذي ملأ قلوبهم خوفا، وغمر ديارهم فقرا وحزنا!. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها..» هكذا كان المؤمنون، ثم هكذا أصبحوا.. كانوا أعداء فألّف الله بين قلوبهم، فأصبحوا بنعمته إخوانا. وكانوا عبدة أوثان وأصنام، وفى شرك وضلال يهويان بالمشركين الضالين إلى مهاوى السعير.. وكان هؤلاء الذين أدركهم الإسلام من مشركى الجاهلية على حافة الهاوية، فأنقذهم الله، إذ دخلوا فى الإسلام، وكانوا من المسلمين! فليذكر المسلمون هذا الذي كانوا فيه.. فإن لم يذكروه فى أنفسهم ذكروه فى آبائهم وأجدادهم.. ثم ليذكروا هذه النعمة السابغة التي أضفاها الله عليهم بالإسلام، ثم ليحفظوا هذه النعمة، وليحرصوا عليها، وليحرسوها من الآفات التي تطلع عليها من آفاق شتى.. وبهذا يسلم لهم دينهم، وتسلم لهم أنفسهم. الآيات: (104- 107) [سورة آل عمران (3) : الآيات 104 الى 107] وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 التفسير: علماء أهل الكتاب هم الذين أفسدوا على الناس دينهم، فغيروا، وبدلوا، وحرفوا.. وهذه خيانة لله، وخيانة للعلم، إذ كان العلماء هم ورثة الأنبياء، وهم المؤتمنون على دعوة السماء، بعد الرسل، يعلّمون الجاهلين، ويهدون الضالين، ويقيمون المنحرفين، فإذا تحول العلماء أنفسهم إلى أدوات هدم وتدمير فى المجتمع، كانت المصيبة قاصمة مهلكة! من أجل هذا، كانت دعوة الله سبحانه وتعالى إلى الأمة الإسلامية، أن تندّب منها أمة، أي جماعة، يتولون قيادة الناس، وهدايتهم إلى سبل الرشاد.. فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.. وبهذا يقومون فى المجتمع مقام الأطباء، الذين يرصدن الآفات والأمراض التي تعرض للناس، فيعملون على دفعها، والقضاء عليها.. ويمكن أن يكون قوله تعالى: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» دعوة للأمة الإسلامية كلها أن تكون على تلك الصفة.. أمة تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر. ويكون معنى «من» فى «منكم» للبيان لا للتبعيض، وهذا ما يناسب قول الله تعالى بعد هذه الآية: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ.» (110: آل عمران) وسواء أكان الأمر موجها إلى الأمة الإسلامية كلها، أو إلى جماعة العلماء المتخيّرة فيها، فإنّ معطيات هذا الأمر واحدة، حيث تكون الأمة كلها منقادة للقيادة الرشيدة فيها، وهى جماعة العلماء العاملين بعلمهم، الداعين إلى الخير، الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، وبهذا تصبح الأمة كلها على هذا الطريق المستقيم. وإذ يأمر الله تعالى الجماعة الإسلامية بهذا، فإنه يحذّرها من أن تذهب مذاهب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 الجماعات المنحرفة من أهل الكتاب الذين تفرقوا واختلفوا، ولم يقم من بينهم راشدون، يقومون فى وجه تلك الانحرافات، وهذه الاختلافات، فكان أن ضلّوا جميعا، وهلكوا جميعا!! وهكذا شأن الجماعات التي تفقد القيادة الرشيدة.. لا يستقيم لها طريق، ولا تستقر لها حال.. إنها أشبه بالغنم ليس لها راع يوردها موارد العشب والماء، ويدفع عنها عادية الذئاب والسباع.. وقوله تعالى: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ» الظرف هنا متعلق بقوله تعالى: «وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ..» أي أنهم يعذبون عذابا أليما فى هذا اليوم، يوم الحساب والجزاء.. يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه.. وابيضاض الوجوه واسودادها، كناية عن البهجة والنعيم الذي يعلو وجوه المؤمنين، والخزي والسوء الذي يحيط بالكافرين، فى ذلك اليوم العظيم. وفى قوله تعالى: «فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ» بيان لما أجمل فى قوله تعالى: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ» . ولم يجىء هذا التفصيل مرتبا على حسب ما جاء فى المجمل قبله، إذ كان الترتيب يقضى بأن يبدأ بالذين ابيضت وجوههم، حيث بدئ بهم أولا. والذي جاء عليه النظم القرآنى، هو البيان المبين، الذي هو سمة الإعجاز من كلام ربّ العالمين، فقدّم أولا الذين ابيضت وجوههم وهم المؤمنون، لأن ذلك كان تعقيبا على ذكر الأمة الإسلامية، وما ينبغى لها أن تصون نفسها عنه، مما وقع فيه أهل الكتاب من فرقة وخلاف، كان لعلمائهم فيه الدور الأول.. ثم ذكر إزاء هذه الصورة صورة أهل الكتاب، وما يكون عليهم حالهم يوم القيامة: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ» المؤمنين «وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ» الكافرين من أهل الكتاب! .. وفى هذا ما فيه من تطمين للأمة الإسلامية، وترسيخ لأقدامها على الإيمان، والوحدة والألفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 فإذا جاء تفصيل هذا الإجمال، ووقع تأويله، وسيق الناس إلى الحساب والجزاء قدّم أولئك الكافرون، ليقفوا موقف المذنبين للمحاكمة، ولم يمهلوا، وذلك إشعار لفظاعة جرمهم، وشناعة ذنبهم، الذي يقتضى تعجيل الجزاء السيّء الذي ينتظرهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ» (87، 88: آل عمران) . وفى التعجيل بعرض هؤلاء الكافرين من أهل الكتاب ما يدخل الطمأنينة على المؤمنين، الذين ينتظرون دورهم فى ساحة الحكم.. فهذا الحكم الذي يقضى به على هؤلاء الكافرين فيه براءة ضمنية لغيرهم من المؤمنين، ولكنها براءة مشوبة بالخوف، محفوفة بالخشية.. فإذا جاء بعدها هذا الرضوان الذي يفتح لهم أبواب الجنات، وما يلقون فيها من نعيم- زادهم ذلك نعيما إلى نعيم، ورضوانا إلى رضوان.. «فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» . وانظر كيف كانت مساءلة الكافرين، وكيف كان خزيهم وعيّهم عن ردّ الجواب «أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ؟» .. ثم انظر كيف كان الجواب على هذا السؤال: «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» وفى قوله تعالى: «أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ» إشارة إلى أن هؤلاء الكافرين هم أهل الكتاب الذين تحولوا من الإيمان إلى الكفر، وهم الذين أشار إليهم الله سبحانه وتعالى فى قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ» (91: آل عمران) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 وفى قوله تعالى: «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» إشارة ثانية إلى هؤلاء الكافرين من أهل الكتاب الذين كذّبوا بمحمد، وكفروا بآيات الله التي بين أيديهم، فيما تحدّث به عنه. والمعنى: فذوقوا العذاب بسبب هذا الذي كنتم تكفرون به، وهو «محمد» وما تحدثكم به التوراة عنه. ثم انظر بعد هذا، وفى الجانب الآخر من الصورة، تجد المؤمنين وقد انتقلوا من هذا الموقف، موقف المحاكمة، فى لحظة خاطفة، دون أن يسألوا.. فإذا هم فى رحمة الله هم فيها خالدون.. «وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» . الآيتان: (108، 109) [سورة آل عمران (3) : الآيات 108 الى 109] تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) التفسير: يبين الله سبحانه لنبيه الكريم فى هاتين الآيتين الكريمتين لطفه به وبعباده، وأنه سبحانه يخاطبه بلسان الحق، وينزّل عليه آياته بالحق، ليهتدى بها الضالون، ويعلم منها الجاهلون، وبذلك لا يكون للنّاس على الله حجة بعد هذا البلاغ المبين، ولا يكون لقائل منهم أن يقول ما حكاه الله عنهم فى قوله تعالى: «رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (47: القصص) .. فإذا أخذ الله بعد ذلك مذنبا بذنبه كان ذلك هو الحكم الذي ينبغى أن يدين به العاقل نفسه.. «وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ» لأنه لو شاء سبحانه أن يعذب الناس جميعا- محسنهم ومسيئهم- لما كان لأحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 أن يجاحّ الله فى هذا، أو يدفع عن نفسه ما يريد الله به.. ولكنّ رحمة الله سبحانه بعباده، اقتضت أن يرسل إليهم رسله، يحملون إليهم آياته واضحة بيّنة، تهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم «فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها» (104: الأنعام) وقوله تعالى: «وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» هو بيان لما لله على النّاس من سلطان، وأنه يحكم فيهم ولا معقّب لحكمه، وأنه آخذ بنواصيهم جميعا، فإليه مرجعهم، وبين يديه حسابهم: «إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ» (25- 26: الغاشية) . [مبحث: الخير.. فى خير أمة أخرجت للناس] الآية: (110) [سورة آل عمران (3) : آية 110] كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) التفسير: مما يكبت الضّالين من أهل الكتاب- وخاصّة اليهود- أن يروا نعمة من نعم الله تلبس أهل الإسلام، وخاصة إذا كانت تلك النعمة بين أطواء آية من آيات الله، المنزلة على رسول الله، لأنهم يعلمون أن ذلك حق لا ريب فيه، وأن تلك النعمة إن لم تكن قد أتت فهى آتية لا ريب فيها، وهذا مما يضاعف حسرتهم، ويملأ قلوبهم غيظا وكمدا.. وإذ تلقّى المسلمون قوله تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» بالتهليل والتكبير، وبالثناء المستطاب على الله أنّ منّ عليهم بهذا الفضل، فرفع قدرهم بين الأمم، وأعلى شأنهم فى العالمين- فإن أهل الكتاب- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 وخاصة اليهود- قد صعقوا لهذه الآية، ودارت رءوسهم بها، وزلزلت أقدامهم منها، وأيقنوا أنهم لن يلحقوا بالمسلمين، ولن يقوموا لهم أبد الدهر! وفى قوله تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» وفى التعبير بلفظ الماضي «كنتم» ما يشير إلى أن هذا الحكم الذي حكم به الله على هذه الأمة، بأنها خير أمة أخرجت للناس- ليس محدودا بزمن من أزمانها، ولا مخصوصا بحال من أحوالها.. وإنما هو حكم عام مطلق، يشمل الأمة الإسلامية كلها، فى كل أزمانها، وفى جميع أحوالها، من عهد النبوة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. إنه حكم للأمة الإسلامية فى ماضيها وحاضرها، ومستقبلها. وإن تلقته فى أول وجودها، وفى ساعة مولدها.. «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» ! هذا هو حكم الله فيما أحاط به علمه، وفيما قدّره لكل أمة من أجل، ومن رزق!. وفى قوله تعالى: «أُخْرِجَتْ» تنويه آخر بشأن هذه الأمة، وأنها هى المولود الكامل، الذي تمخضت عنه الإنسانية كلها.. ولن تلد مثله أبد الدهر!. وفى قوله سبحانه: «أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» تنويه ثالث بتلك الأمة، فإنها لم تخرج من الناس، ولكنها «أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» وكأنها بهذا من معدن غير معدن الناس، ومن عالم غير عالم الناس، جاءتهم هكذا من عالم الغيب، وأخرجت لهم من حيث لا يتوقعون.. من صحراء مجدبة قفر، ومن مجتمع أمّى غارق فى الجهالة!، فقادت ركب الإنسانية، وحررتها من قيود العبودية والظلم. هذا هو مكاننا- أمة الإسلام- الذي ندبنا الله له، وأحلّنا فيه، وأقامنا عليه.. وإنه لن يزحزحنا عن هذا المقام زمان، ولن يحتله مكاننا أحد.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 وإننا- أمة الإسلام- على أي حال كنّا، وفى أسوأ وجود لنا- خير أمة أخرجت للناس!. وإن ميزاننا مهما خفّ فى هذه الحياة فهو أثقل من ميزان أية أمة، وإن بدا فى ظاهرها أنها أقوى قوة، أو أكثر مالا، وأعزّ نفرا!. ذلك ما ينبغى أن نؤمن به إيمانا راسخا كإيماننا بالله.. وإلا كنا مكذبين بآياته، منكرين، أو منتكرين لكتابه! إننا- أمة الإسلام- أشبه بالذهب، بين المعادن الأخرى.. قيمته دائما فيه، حتى ولو علا بريقه التراب، وغبّر وجهه دخان الزمن.. إنه الذهب على أي حال. فليكن ذلك شعورنا بأنفسنا، وإيماننا بمكانتنا فى هذه الحياة.. ثم ليكن منّا ما يقابل هذا الشعور، وذلك الإيمان، من جدّ، ومن تحصيل لكل معانى الإنسانية الكريمة، ومثلها الرفيعة، فذلك هو الذي يحقق كل معانى الخيرية فينا، ويعرض للناس وللحياة أكمل الكمال منّا.. ومع هذا، فإنه لن ينزع عنا هذا الفضل الذي فضل الله به على هذه الأمة ما يلمّ بنا من ضعف أو يعرض لنا من فتور، أو يقع فى محيطنا من انحراف.. فتلك كلها عوارض لا تمسّ الصميم منا، ولا تنقض حكم الله لنا.. فنحن- على أية حال نكون عليها- «خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» . ولسنا بهذا ندعى ما يدّعيه اليهود لأنفسهم من أنهم «شعب الله المختار» . فنحن شىء، واليهود شىء. نحن تلقّينا كرامة الله وفضله.. واليهود رموا بغضب الله ولعنته!! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 ذلك أن الله سبحانه، أفاض على اليهود من أفضاله، ومنحهم من نعمه ما لم يمنحه أحدا من العالمين.. امتحانا وابتلاء. فلما مكروا بآيات الله، وعصوا رسله، وقتلوا من قتلوا من أنبيائه، وأعنتوا من أعنتوا منهم- أخذهم الله بالبأساء والضرّاء، وساق إليهم نقمه، وشملهم بسخطه، وصبّ عليهم لعنته- وفى هذا يقول الله تعالى فيهم: «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ» (13: المائدة) . أما نحن- أمة الإسلام- فقد فضل علينا بهذا الفضل، وجعله حكما قائما فينا أبدا: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» ولن ينقض أبدا هذا الحكم الذي حملته كلمات الله. وقوله تعالى: «تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» بيان للصفات التي استحق بها المسلمون أن يكونوا «خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» فمن رسالة هذه الأمة ألا تحتجز الخير لنفسها، ولا تستأثر به حين يقع ليدها، بل تجعل منه نصيبا تبرّ به الإنسانية كلها، وتشرك الناس جميعا معها، فيه. ذلك شأنها فى كل خير تصيبه.. فإذا أصاب المسلم مالا، جعل فيه للفقراء والمساكين نصيبا، وآتى منه ذوى القربى واليتامى، وأنفق منه فى سبيل الله، وفى إعلاء كلمة الحقّ.. وإذا أصاب هدى من الله، وعرف طريقا إلى الحق، لم يجد لذلك مساغا إلا إذا وجّه الناس إليه، ودلّهم عليه، ولو احتمل فى سبيل ذلك الضرّ والأذى، وعرض نفسه للتلف والهلاك، شأن الطبيب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 الذي يرى وباء يفتك بالناس، ويذروهم كما تذرو الرياح الهشيم.. إنه- والحال كذلك- ينسى نفسه، ويدخل فى معركة مع هذا الوباء، غير حاسب حسابا لما قد يقع له من سوء، ولو كان فى ذلك ذهاب نفسه! هكذا هو موقف الأمة الإسلامية من الخير الذي ساقه الله إليها، على يد الرسول الكريم، مما تلقّى من بركات السماء، ورحماتها. «تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» كما جاءكم رسول الله يأمركم بالمعروف وينهاكم عن المنكر.. وفى هذا يقول الله تعالى «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ» . وفى قوله تعالى: «تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» قدّم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على الإيمان بالله، الذي هو مقدّم على كل عمل طيب، حيث لا يطيب العمل، ولا يقبل، إلا مع الإيمان.. فكيف يؤخر الإيمان هنا، عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؟ والجواب عن هذا من وجهين: أولا: أن الله سبحانه وتعالى إذ وصف هذه الأمة هذا الوصف الكريم، وحكم لها هذا الحكم القاطع اللازم، لم يصفها هذا الوصف ولم يعطها هذا الحكم إلا وهى على الإيمان، مجتمعة هى عليه ومشتملا هو عليها.. فهى ليست مطلق أمة، وإنما هى أمة مسلمة، تلك الأمة التي كانت استجابة من الله لدعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، إذ يقولان كما حكاه القرآن عنهما: «رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ» (138: البقرة) . ثانيا: ذكر الإيمان بالله هنا لم تكن داعيته وصف هذه الأمة بأنها مؤمنة بالله- إذ كان إيمانها بالله، معروفا مقدرا من قبل، وإنما داعية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 ذكره فى القرآن أنه إيمان على صفة غير ما عليه إيمان المؤمنين من أهل الكتاب!. والإيمان بالله الذي عليه الأمة الإسلامية، هو إيمان برىء من كل شائبة من شوائب الشرك، وخلص من كل نزغة من نزغات الشك.. إنه إيمان مصفّى، يرى فيه المؤمن وجه الحق واضحا مشرقا، إذ لا يتكلف له المؤمن جهدا فى الوصول إليه، ولا تنقطع أنفاسه فى الدوران حوله، لأنه قريب، قريب، يراه العامة والفلاسفة على السواء.. إنه: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيى ويميت، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ذلكم الله ربّ العالمين، وهو ما يقوم به وعليه إيمان المسلمين.. بلا فلسفه، ولا كهنة، ولا أحبار، ولا رهبان.. إيمان يطمئن إليه قلب الرّاعى بين غنمه، والزارع وراء محراثه، كما يطمئن إليه قلب العالم فى معمله، والفيلسوف فى محراب فلسفته! إيمان بديهة.. لا تكدّ ذهنا، ولا تشتت خاطرا، ولا تزعج وجدانا. وليس كذلك إيمان المؤمنين من أهل الكتاب.. إنه إيمان مرهق معقّد، مركّب على قضايا من المقولات الفلسفية والمنطقية، المبنية على معطيات مما وراء الطبيعة، التي تدور بها رءوس العامة، وتضطرب لها عقول العلماء.. فإذا آمن مؤمنهم بالله كان بينه وبين الله حجب كثيفة من هذه المقولات، التي لا يستطيع أن يرى الله من خلالها إلّا محاطا بضباب كثير من الشك والارتياب!! فإيمان المسلمين بالله، إيمان.. وإيمان أهل الكتاب بالله إيمان.. وبين الإيمانين بعد بعيد، وبون شاسع.. ومن هنا كان ذكر إيمان المسلمين فى هذا المقام تنويها بهذا الإيمان، وعزلا له عن إيمان المؤمنين من أهل الكتاب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 ذلك الإيمان المشوب غير الخالص من العلل والآفات، ولهذا جاء قوله تعالى: «وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ» جاء بعد «قوله تعالى: وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» داعيا أهل الكتاب أن يؤمنوا إيمانا مصححا مجددا، كإيمان المسلمين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ» . وقد كشف القرآن الكريم عن حقيقة الإيمان الذي عليه أهل الكتاب.. فقال تعالى: «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ» (13: البقرة) أي أنهم إذا دعوا إلى الإيمان بالله إيمانا بعيدا عن المماحكات والسفسطات، وعن الألغاز والطلاسم، التي تعمّى على الناس السبيل إلى الطريق المستقيم- إذا دعوا أن آمنوا كما آمن الناس، إيمانا سمحا سهلا واضحا- أبوا وقالوا أنؤمن كما آمن السفهاء من الجهلة والعامّة؟ وقالوا فى أنفسهم: كيف يهتدى أحد إلى الله من هذا الطريق القريب؟ إنّ الله بعبد بعيد، متستر فى حجب جلاله وبهائه، فلا تناله الأبصار، ولا تدركه العقول، وإنه لا بد- والأمر كذلك- من دراسات وفلسفات، وبحوث مضنية مرهقة، حتى يمسك الدارسون، والفلاسفة والباحثون بأذيال هذه الحقيقة الكبرى! هكذا زيّن لهم سوء عملهم فرأوه حسنا. وقال تعالى أيضا مشيرا إلى أهل الكتاب وإلى إيمانهم: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ» (8: البقرة) إنه إيمان مشوب بالشك، ومختلط بالضلال.. فلا يعدّ، ولا يحسب فى الإيمان الصحيح بحال أبدا. وفى قوله تعالى: «مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ» إشارة إلى أن قلّة قليلة من هؤلاء المؤمنين من أهل الكتاب قام إيمانهم على التسليم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 ولم يقم على الوساوس والهواجس، والضرب فى متاهات لا يهتدى السالك فيها إلى سواء السبيل أبدا.. أما الكثرة الكثيرة من أهل الكتاب فهم كما قال الله: «وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ» أي هم مؤمنون ولكنهم فى الوقت نفسه «فاسقون» أي خارجون على الإيمان. الآيتان: (111- 112) [سورة آل عمران (3) : الآيات 111 الى 112] لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112) التفسير: إنهم هم اليهود.. وإنّ آيات الله لتكشف المستور من أمرهم، وتفضح المتوقع من خزيهم فى خط مسيرتهم مع المسلمين فى الحياة. إنهم يكيدون دائما للإسلام والمسلمين، لأن داء الحسد الذي يغلى فى صدورهم لا يسكن أبدا. وكيف يسكن وهم يعلمون عن يقين أن المسلمين قد ظفروا من الكتاب الذي فى أيديهم بخير الدنيا والآخرة.. وأن هذا الكتاب كان ينبغى أن يكون لهم، كما كانت كتب الله من قبل كلها فيهم؟ وأما وقد سبقهم العرب إلى هذا الكتاب فليفسدوه عليهم، وليعزلوا المسلمين عنه! وفى قوله تعالى مخاطبا المسلمين: «لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً» . أولا: إلفات للمسلمين أن يأخذوا حذرهم من اليهود، الذين لا يكفّون أبدا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 عن السعى فى تدبير الكيد للمسلمين، وتوجيه الضّرّ إليهم، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. ثانيا: تطمين المسلمين- حالا ومستقبلا- مما يدبر اليهود لهم من كيد خبيث، ومكر خسيس، وأن غاية ما يبلغه اليهود من كل ما يكيدون وما يمكرون، لا يتجاوز «الأذى» الذي مهما بلغ لا يبلغ حدّ الخطر والتلف.. وسيظل المسلمون- رغم كل شىء- على الصحة والسلامة أبدا، وإن أصابهم الضرّ ومسّهم الأذى، فإن كيانهم سيظل سليما معافى، لا ينال منه هذا الضرّ، ولا يؤثر فيه هذا الأذى. هذا فى معركة الكيد، والدسّ، التي هى الميدان الذي يحسن فيه اليهود العمل.. فإذا انتقل اليهود إلى ميدان آخر، وهو ميدان القتال، واشتبكوا مع المسلمين فى حرب، فإنّهم لا يلقون إلا الخزي والخذلان.. «يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ» .. هذا حكم الله فيما يقع بينهم وبين المسلمين من قتال.. النصر دائما للمسلمين، والهزيمة دائما لليهود.. وإنه لا بد من وقفة هنا.. فإن وجه الأحداث المطل علينا فى هذه الآية، قد يطالع منه بعض الناس شيئا آخر غير الذي تطالعنا الآية الكريمة به، والذي نتأولها نحن عليه. يشتبك المسلمون مع اليهود اليوم فى معركة (يونيه 1967- محرم 1387) قد جمع لها اليهود كل كيدهم ومكرهم، وجلبوا لها كل ما استطاعوا من عتاد، وحشدوا فيها كل من على شاكلتهم فى العداوة للإسلام، والكراهية للمسلمين.. وقد أخذوا جيوش المسلمين على غرّة، فكان لهم من هذا نصر معجّل، تخلى فيه المسلمون عن مواقع كثيرة من أوطانهم، فى سيناء، وسوريا، والأردن.. وتوقف القتال.. استعدادا لمعركة قادمة فاصلة.. ونكتب هذا، ونحن فى شهر (أكتوبر 1967- رجب 1387) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 وما زال الموقف جامدا فى الظاهر.. ولكنه يتحرك فى خفاء لالتحام قريب! ولا ندرى متى يكون هذا اليوم الذي نلتحم فيه مع اليهود.. ولكن الذي نؤمن به ولا نشك فيه، هو ما وعدنا الله به، من النصر على اليهود دائما.. «وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ» .. فالنصر آت لا ريب فيه، وإنه لنصر يلبس اليهود ثوبا جديدا من أثواب الذلة التي ضربهم الله بها! وقد يبدو لبعض الناظرين إلى هذا الحدث، من خلال المدافع، وبين دخانه وضبابه- أن يتأول الآية الكريمة، وأن يرفع حكمها العام المطلق، ويرتفع به إلى الماضي البعيد، وإلى ما كان بين اليهود والنبىّ من قتال، أخزى الله فيه اليهود، وكبتهم، وأنزلهم من صياصيهم، وقذف فى قلوبهم الرعب، فاستسلموا للهزيمة، ونزلوا على حكم النبىّ فيهم، فقتل من قتل، وسبى من سبى، وأجلى من أجلى.. حتى إذا كانت خلافة عمر بن الخطاب لم يكن اليهود إلا جماعات متفرقة فى الجزيرة العربية، لا تملك غير الكيد والدس، ولا تعيش إلا على الكذب والنفاق، فأجلاهم عن الجزيرة العربية جميعا!! قد يبدو لبعض المتأولين أن يتأول الآية الكريمة على هذا الوجه، ويقف بها عند حدود الزمن الذي نزلت فيه، ويجعل أسباب نزولها مقيدا بهذا الوقت.. وذلك ليحمى كلام الله من المجازفات التي تنجم عن تعميم هذا الحكم الذي تحمله، والذي قد لا تجىء الأيام بتصديقه، خاصة وأن محامل الآية الكريمة تقبل هذا الوجه من التأويل ولا تردّه! فمالنا إذن لا نقبل هذا التأويل؟ ولم نغامر تلك المغامرة الخطرة بآية من آيات الله، ونحمّلها مالا تحتمل، لنتخذ منها أملا يدفىء صدورنا، ويطمئن قلوبنا، ويخفف آلام جراحنا التي نعانيها من هذا الحدث الذي نعيش فيه، فى مرارة، وألم، وقلق؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 أو من أجل هذا تبلغ بنا الجرأة على كتاب الله، فنبيعه بهذا الثمن البخس؟ وماذا تركنا لليهود إذن؟ وماذا يحول بيننا وبين أن نتعرض لما تعرضوا له من سخط الله وقد اشتروا بآياته ثمنا قليلا؟. «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ» (79: البقرة) . وإنه ليس ثمة فرق بعد أن يفترى مفتر على الله، آية.. فيقول: هذا من عند الله، وبين أن يحمل آية من آيات الله على هواه، فيغير وجهها، ويحرّم حلالها، ويحلّل حرامها! والله سبحانه وتعالى يقول متوعدا اليهود: «وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ () مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (116- 117: النحل) . أفمن أحل هذا المتاع القليل الذي نجد فيه من ريح الآية الكريمة أنسا لوحشتنا، وأملا فى محنتنا.. أفمن أجل هذا، نرد هذا المورد، ونجازف تلك المجازفة المهلكة؟ وكلّا، فإنا أحرص على أنفسنا من أن تلمّ بما يعرّضها لموقع من مواقع سخط الله، خاصة ونحن نسعى بين يدى كتابه الكريم، ابتغاء مرضاته، وطلبا للمزيد من إحسانه وفضله! أفنرجع إذن عن هذا الذي ذهبنا إليه، فى حمل الآية الكريمة على عمومها، من أن النصر الذي وعد الله به المسلمين على اليهود هو وعد دائم مستمر، غير موقوت بوقت، أو موقوف على واقعة بعينها- أفنرجع إذن ونعود بالسلامة والعافية.. من قريب؟ وكلّا.. مرة أخرى.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 فإنا مطمئنون إلى فهمنا للآية الكريمة، واثقون من معطياتها التي لا تتخلف أبدا.. بل وأكثر من هذا.. إننا ندعو إلى أن يفهمها المسلمون جميعا هذا الفهم الذي فهمناها عليه، وأن ينتظروا تأويلها فى الأيام المقبلة كما ننتظره.. فإن أخلفهم من الآية هذا الوعد، وإن وجدوا لهذا الإخلاف غمزة فى دينهم، أو حرجا منه فى صدورهم، أو خلخلة له فى قلوبهم- فالحكم الله بينى وبينهم! ولن يخزينا الله أبدا.. ولن يخلفنا وعده الذي وعد! وكيف؟ والله سبحانه وتعالى يقول فى اليهود، بعد هذه الآية الكريمة، مؤكدا وعده الذي وعدنا.. «ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ» . فهذا الحكم عام شامل غير محصور بمكان، أو مقيد بزمان! «ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ» والتعبير بضرب الذلة عليهم فيه إحكام لهذا الحكم الواقع بهم، وأن الذلّة التي رماهم الله بها، ذلة متمكنة، مختلطة بوجوهم، كما يختلط لون الجلد بالجلد.. لا يتغير ولا يتبدّل أبدا! وفى قوله تعالى: «أَيْنَما ثُقِفُوا» حكم قاطع بمصاحبة الذلة لهم، أينما وجدوا، وأينما كانوا، فى كل موطن، وفى كل زمن! هكذا هم فى ذلة وهوان، أبد الدّهر.. ذلة فى أنفسهم، وذلة بأيدى من يذلّونهم من عباد الله المسلطين عليهم. فإن نجوا من هذه الذلة التي يسوقها الناس إليهم، لم يخرجوا من تلك الذلة المستولية على طبيعتهم! وقوله تعالى: «إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ» .. الحبل العهد والعقد.. والمعنى: ضربت عليهم الذلة أبدا، إلّا أن يدخلوا مع المسلمين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 فى عهد الله، وذمة المسلمين، فيكونوا بذلك من أهل الذمّة، وتفرض عليهم الجزية، فيعطونها عن يد وهم صاغرون.. وهنا يرفع عنهم المسلمون الأذى والذلة التي أخذوهم بها. ولكن مع هذا لا يتخلّى عنهم روح الذلة المتسلط عليهم من داخل أنفسهم، لأن ذلك طبيعة فيهم، ولعنة من لعنات الله صبّها عليهم.. وقوله تعالى: «وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ» بيان للحال التي يكونون عليها، بعد أن يدخلوا فى ذمة المسلمين بعهد الله وعهد المسلمين. فهم وإن رفعت عنهم يد المسلمين بعد هذا العهد الذي دخلوا به فى ذمتهم، وإن رجعوا وقد أمنوا بطش المسلمين بهم بعد هذا العقد، فإنهم يرجعون ومعهم غضب الله الذي رماهم به، ومعهم المسكنة التي فرضها عليهم وابتلاهم بها.. وهكذا يعيش اليهود أبدا فى كل زمان ومكان فى ذلة وفى مسكنة، ذلة ومسكنة تلبسهم ظاهرا وباطنا.. إن سلم لهم ظاهرهم فى حال، فلن يسلم لهم باطنهم فى أي حال.. إنها لعنة الله «وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً» . وفى قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ» تعليل لهذا العقاب الأليم الذي أخذهم الله به، والذي أجراه فيهم مجرى الدم فى عروقهم، فكان ميراثا خبيثا، ينتقل فى الخلف بعد الخلف إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين! من هذا كله نستطيع أن نقرر فى إيمان وثيق، ثقتنا فى صدق الكتاب الذي فى أيدينا، وفى صدق كل كلمة، وكل حرف، من كلمات رب العالمين، وحروفها- أن ما بيننا وبين اليهود سينتهى بما حكم الله به عليهم، وهو أنهم «لا يُنْصَرُونَ» وأن الذلة والمسكنة مضروبة عليهم إلى يوم الدين، وأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 هذه الصحوة التي تبدو على ظاهرهم فى هذه الأيام ليست إلا صحوة الموت، يرتدون بعدها ثوبا جديدا من أثواب الذلة والمسكنة، وذلك بلاء إلى بلاء، وعذاب فوق عذاب.. فإنه ليس أشق على نفس المكروب من أن تهبّ عليه نسمة من نسمات العافية، ثم تعصف به بعدها عاصفة عاتية، وتلقى به بعيدا إلى أسوأ مما كان، ثم يتنفس نفس الحياة.. ثم تضربه موجة عاتية من موجات البلاء.. وهكذا يتردد بين الحياة والموت.. فلا يجد الحياة، ولا يستريح بالموت.. وذلك هو العذاب الذي يعذّب الله به أصحاب النار.. «كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ» (56: النساء) . فهذا الذي تعيش فيه إسرائيل اليوم هو فترة ما بين استبدال جلد بجلد، وذلة بذلة.. ليذوقوا العذاب، وليطعموه ألوانا فى الدنيا.. ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون! وبعد، فإننا على موعد، مع نصر الله، ولن يخلف الله وعده.. «وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ» ويومئذ يعلم الذين لا يعلمون، أن دين الله حق، وأن رسول الله حق، وأن ما نزل على الرسول حق.. ويومها يتجلّى وجه الإسلام مشرقا، وتطلع شمسه غير محجبة بضباب أو سحاب، فتعمر بالإسلام القلوب، وتشرق بنوره الآفاق «وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» (8: الصف) وهكذا يصنع الله للإسلام، فيجعل له من الضيق فرجا، ومن البلاء عافية، ومن الشر خيرا ونعمة! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 الآيات: (113- 115) [سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 115] لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) التفسير: ذكر القرآن الكريم «أَهْلِ الْكِتابِ» فى كثير من المواقف، وأدانهم فى كثير منها، وكشف موقفهم من رسالة الإسلام، ومن رسول الإسلام، هذا الموقف العنادىّ القائم على الكيد، والتربص! وإذ كان أهل الكتاب، هم اليهود والنصارى، فقد فرق القرآن بين الفريقين، إذ كان موقفهم من الإسلام والمسلمين مختلفا.. كان اليهود فى وجه عداوة ظاهرة وخفيّة لدعوة الإسلام ولرسول الإسلام، كما كانوا على كلمة سواء فى الكيد لها والمكر بها.. على حين كان النصارى على درجات متفاوتة فى موقفهم من تلك الدعوة.. تلقّاها بعضهم فآمن بها، ودخل فيها، وصار من أهلها.. وتلقاها بعض آخر متوقفا مترفقا، ومباعدا مقاربا.. أما أكثرهم عنادا وأشدهم مجافاة، فقد أنكر الدعوة، ونأى بنفسه عنها.. لا ينالها بسوء، ولا تناله هى بخير! ولهذا جاء قوله تعالى: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» (82- 83 المائدة) .. جاء قول الله هنا محددا موقف كلّ من الفريقين من الإسلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 فاليهود أشد الناس عداوة للذين آمنوا، وهم والمشركون على سواء فى هذه العداوة، مع أنهم أهل كتاب، يلتقى كتابهم ونبيهم مع كتاب الإسلام ونبىّ المسلمين، بنسب قريب، قريب. والنصارى- لأنهم أهل كتاب- هم أقرب الناس مودة للذين آمنوا، إذ خلت نفوسهم من الحقد والحسد للناس، ولأنهم لا يرون احتجاز الخير السماوي عليهم وحدهم، حيث سمحت النصرانية لأن يدخل فيها الناس جميعا من جميع الأجناس والشعوب، على حين احتجزت اليهودية ما نزل من خير سماوى على اليهود.. لا يسمحون لأحد من غير اليهود أن يدين بدينهم أو أن يصبح فى المؤمنين به. وفى قوله تعالى: «لَيْسُوا سَواءً» .. تفرقة بين هاتين الفرقتين من أهل الكتاب.. اليهود والنصارى، وأنهم ليسوا على وضع واحد فى موقفهم من الإسلام والمسلمين. وإذا كانت الآية الكريمة قد فرقت بين الفرقتين، فإنها لم تحدد أي الفرقتين من أهل الكتاب هو المتّجه إليه الحكم فى قوله تعالى «مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ» . وفى إطلاق الحكم هكذا بحيث يدخل فيه الفريقان معا، حكمة، نتبين منها: أولا: أنّ فى كلا الفريقين من أهل الكتاب- اليهود والنصارى- جماعات قائمة على الحق، مؤمنة بالله وباليوم الآخر، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 ثانيا: كثرة كثيرة من النصارى يتجه إليهم هذا الحكم.. وقلة قليلة جدا من اليهود يدخلون فى هذا الحكم أيضا.. كما يعلم ذلك من حال الفريقين الذي كشفه القرآن فى الموقف الذي أشارت إليه الآيات التي ذكرناها من سورة المائدة. ثالثا: من صدق القرآن، ودقة أحكامه، أنه لم يجعل الحكم مطلقا فى النصارى، ولم يخرج منه اليهود جميعا بلا استثناء.. إذ لا تخلو فرقة من الفرقتين من أخيار وأشرار، وإن غلب الأخيار فى النصارى، وغلب الأشرار فى اليهود.. بمعنى أنه ليس كل النصارى على إطلاقهم يقفون من الإسلام هذا الموقف المترفّق المسالم، وليس كل اليهود- بلا استثناء فرد أو عدة أفراد- يكيدون للإسلام هذا الكيد، ويمكرون به هذا المكر الذي يعيش فيه اليهود مع الدعوة الإسلامية. وفى قوله تعالى: «وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» وصف كاشف للنصارى، إذ كان دينهم يدعوهم إلى التبشير به وإذاعته فى الناس، وليس كذلك اليهود، وما يفهمون من دينهم- كما أشرنا إلى ذلك فى أكثر من موضع. وقوله تعالى: «وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ» تتمّة لهذا الحكم الذي حكم به الله لهم، وهو أنهم إذ عدّوا فى المؤمنين بالله فإن كل عمل خير يعملونه يتقبله الله، ويجزيهم عليه، وليس كذلك أعمال المشركين.. إن الشرك أحبطها، وحرم أهلها ثمرة قبولها عند الله.. «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» (27: المائدة) وملاك التقوى، الإيمان بالله وباليوم الآخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 الآيتان: (116- 117) [سورة آل عمران (3) : الآيات 116 الى 117] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) التفسير: الحكم الواقع على الذين كفروا هنا عام، يشمل الكافرين جميعا، وإن كان يتجه أول ما يتجه إلى الكافرين من أهل الكتاب، الذين تحدثت عنهم الآيات السابقة، لأنهم كفروا مع ما فى أيديهم من هدى، وطرحوا ما معهم من إيمان: بخلاف الكافرين أصلا.. وإن كان الكفر هو الكفر، إلا أن بعضه أشدّ من بعض سوءا، وأبغض وجها. فهؤلاء الكافرون من أهل الكتاب، ومن غير أهل الكتاب، سيلقون جزاء كفرهم يوم القيامة، حيث يلقون فى نار جهنم خالدين فيها أبدا، وحيث لا يدفع عنهم هذا العذاب ما كان لهم فى الدنيا من مال وولد، وإن ملأ وجه الأرض كثرة وعددا! أما هذه الأعمال التي عملوها فى هذه الدنيا، واحتسبوها فيما هو للخير، فلن يجدوا لها أثرا يوم القيامة.. إن كفرهم بالله قد أحبطها، وأبطل آثارها.. فهى أشبه بزرع تعب فيه زارعوه، وبذلوا له ما بذلوا من جهد، وفيما هم فى انتظار جنى ثمره، جاءته ريح عاصف فأتت عليه، وأصارته هشيما، لا ينتفع بشىء منه. وقوله تعالى: ِيحٍ فِيها صِرٌّ» أي ريح تحمل فى كيانها قوى التدمير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 والإتلاف.. والصّرّ هو البرد الشديد الذي يبلغ من شدته أن يحرق الزرع كما تحرق النار. وفى قوله تعالى: َصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ» ، إشارة إلى أن الظلم يحيط بأهله فى الدنيا وفى الآخرة جميعا.. وأن للظالمين عند الله عقابا معجلا، وآخر مؤجلا، ليكون فى ذلك عبرة ماثلة للناس، يرون فيها نقم الله لمن حادّ الله وحاربه! الآيات: (118- 120) [سورة آل عمران (3) : الآيات 118 الى 120] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) التفسير: فى هذه الآيات يحذّر الله المؤمنين أن يأمنوا جانب هؤلاء الذين يكيدون لهم ولدينهم، ويبيّتون السوء للرسالة الإسلامية، ويصدون الناس عنها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 والبطانة هم الذين يدنيهم الإنسان منه، ويتخذهم موضع سرّه، فيطلعهم على ما يخفيه ويبطنه عن غيرهم. وقوله تعالى: «لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ» أي لا تركنوا إلى أحد من غير دينكم، ولا تقاربوه هذه المقاربة التي يمكن أن يطلع منها على مواطن الضعف فيكم، فيكيد لكم. وفى قوله تعالى: «لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا» إشارة إلى السبب الداعي إلى الحذر من مخالطة هؤلاء الذين يعادون الإسلام ويكيدون له.. إنهم يجهدون كل جهدهم فى النيل من المسلمين.. لا يقصّرون فى أمر فيه نكاية بالمسلمين، وخبال لهم، وإضعاف لشأنهم. وفى قوله تعالى: «وَدُّوا ما عَنِتُّمْ» إشارة ثانية إلى ما فى قلوب هؤلاء القوم من كراهية للمسلمين.. يتمنون لهم ما يعنتهم ويثقل كاهلهم من هموم وآلام. وفى قوله تعالى: «قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ» بيان شارح لتلك الأسباب التي تجعل المسلمين على حذر من هؤلاء القوم، وأمارة دالة على حقيقة تلك الأسباب.. فعلى ألسنة القوم ومن أفواههم تتساقط الكلمات المسمومة، التي يصوبونها فى خبث ودهاء إلى الإسلام والمسلمين، وليس هذا الذي يتساقط من أفواههم إلا شيئا قليلا مما تنطوى عليه قلوبهم من حسد وغيظ، وما تفيض به مشاعرهم من عداوة وبغضاء. وفى قوله تعالى: «ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ» يضبط الله سبحانه وتعالى أولئك المسلمين الذين ظلوا على ولائهم وصداقتهم لهؤلاء الأعداء، ويقدمهم للمسلمين متلبسين بفعلتهم تلك المنكرة، ويريهم بأعينهم مدى الغبن الذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 أصابهم من تلك الصحبة.. إنهم يحبون من لا يحبهم، بل ومن يبيّت لهم الشر، ويدبر العدوان! وقوله تعالى: «وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ» إشارة ثانية إلى تلك الصحبة غير المتكافئة، فالمسلمون الذين يوادّون هؤلاء القوم، يؤمنون بالكتاب كله، أي بكتب الله المنزلة على رسله، وهى فى مجموعها كتاب واحد، هو كتاب الله- وهؤلاء القوم لا يوادّون المؤمنين، ولا يؤمنون إلا بالكتاب الذي فى أيديهم، ويكفرون بجميع الكتب السماوية، ومنها القرآن. وقوله: «وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ» سبب ثالث للمباعدة التي ينبغى أن تكون بين المسلمين وبين هذه الجماعة.. إنها تعيش مع المسلمين على نفاق.. يعطونهم بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم.. يظهرون لهم أنهم على دينهم، وأنهم على وفاق معهم.. فإذا خلا بعضهم إلى بعض لبسوا الثوب الذي أخفوه فى طيات نفاقهم وملّقهم، وأخذوا يدبّرون المكايد والمعاثر للإسلام وللمسلمين. وفى قوله تعالى: «قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ» ما يملأ قلوب هذه الجماعة المنافقة اللئيمة كمدا وحسرة.. إنها لن تنال من الإسلام والمسلمين منالا، كما أن فى هذا تطمينا للمؤمنين، بهذه البشرى السماوية التي كتب الله بها النصر للإسلام وأهله، والخزي والسوء على أعدائه ومناوئيه. وفى قوله تعالى: «إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً» إرهاص بما سيصيب المسلمين فى جهادهم فى سبيل الله، من نصر وهزيمة.. وأنهم فى حال انتصارهم على أعدائهم تفيض نفوس هذه الجماعة المنافقة حسرة وألما، وفى حال هزيمتهم تطير قلوبهم فرحا وطربا.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 وفى التعبير عن الإصابة بالخير بلفظ المسّ، والتعبير عن الإصابة بالشر بلفظ الإصابة، ما يكشف عن مدى السقوط والتدلّى من مشارف الإنسانية العالية إلى الحضيض والوحل! فالمسّ بالخير، مجرّد المسّ، وهو الشيء القليل يصيب المسلمين، يفزع له اليهود ويضطربون، وتغلى مراجل نفوسهم غيظا وكمدا.. فكيف لو أصاب المسلمون من الخير شيئا كثيرا مما وعدهم الله به؟ إن ذلك مما يذهب بنفوس القوم مذاهب التّلف! وإصابة المسلمين بالشر، ينزل بهم، ويعمّهم بالبأساء والضراء.. ينظر إليه هؤلاء القوم نظرا يملأ نفوسهم بهجة، ويغمر قلوبهم رضى.. ولو كانوا على شىء من الإنسانية والمروءة لخفّوا لنجدة المكروبين، وبادروا إلى إغاثة المصابين، فإن لم يكن هذا ولا ذاك فلا أقل من نظرة عطف وإشفاق، أو حسرة وألم، فإن لم يكن هذا ولا هذا أيضا فليكن موقف جمود وخمود.. أما أن يجد الإنسان فى هذا الموقف مشاعر تتحرك فرحا وبهجة، وتتناغى شماتة وغبطة، فذلك هو الذي لا يعرف فى إنسان غير إنسان اليهود! الخير القليل.. القليل جدا، يمسّ المسلمين مسّا، يحسدونهم عليه، وتختنق صدورهم به، حتى لتقتلهم الحسرة ويميتهم الكمد! والشر يصيب المسلمين إصابات قاتلة، ويرميهم بالمهلكات.. يجد فيه هؤلاء القوم سعادة ورضى، ولذة وسرورا. ألا ما أخسّ الإنسان وأحقره، حين يتعرّى من مشاعر الإنسانية، وتشتمل عليه طباع حيّة خبيثة، أو نفس شيطان رجيم! بل ما أخسّ الإنسان وأحقره، حين يعيش فى مسلاخ إنسان من هؤلاء الناس! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 والموقف الحكيم الذي ينبغى أن يقفه المسلمون إزاء هذه الجماعة، هو ألا يشغلوا أنفسهم بها، ففى ذلك تعويق لهم، وتفويت لخير كثير كان يمكن أن يحصلوا عليه بهذا الجهد الذي يبذلونه فى شغل أنفسهم بها.. وخير من هذا وأكثر عائدة على المسلمين هو أن ينظروا إلى أنفسهم، وأن يقيموها على ما أمرهم الله، فذلك هو الذي يحصل لهم الصبر والتقوى، وهى القوة التي لا تغلب أبدا.. من ظفر بهما فقد ظفر بنصر الله وتأييده.. أما هؤلاء المنافقون فأمرهم إلى الله.. «إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» . هذا، ولم تشر الآيات إلى تلك الجماعة التي كشفت عن مساوئها وحذرت المسلمين أن يوادّوهم ويأمنوا جانبهم.. ذلك أن هذه الصفات هى علامات مميزة، وسمات معينة لجماعة معروفة من الناس، هم اليهود، لا يشاركهم غيرهم فى هذه الصفات.. ومن هنا كان فى ذكرها غنى عن ذكرهم، كما فيه تشهير بهم، وتشنيع عليهم، بوضعهم هذا الموضع، الذي إذا ذكرت فيه سيئة علقت بهم، وأشارت إليهم. الآيتان: (121، 122) [سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 122] وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) التفسير: القتال الذي تشير إليه الآية هو القتال الذي حدث فى معركة أحد، وقد أصيب فيها المؤمنون بعدد غير قليل من الشهداء والجرحى، كما ستشير الآيات التالية إلى هذا الحدث، وما وقع فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن اليهود الذين يكيدون للإسلام ويتربصون به، قد وجدوا فيما أصاب المسلمين يوم «أحد» مقالا يقولونه فيهم وفى أمداد السماء التي أمدهم الله بها يوم بدر، والتي عدّها اليهود مزاعم وأباطيل.. فلما كان ما أصيب به المسلمون فى يوم أحد، أظهر اليهود الشماتة، وأخذوا يلقون إلى أسماع المنافقين ومن فى قلوبهم مرض بالشكوك والريب فى أمر محمد ودعوته.. وهذا ما حدّث القرآن الكريم عنه فى الآية (120) قبل هذه الآية: «إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها..» .. وقوله تعالى: «وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ» تذكير للنبىّ والمسلمين بغزوة أحد، وما كان فيها من أحداث، حيث أصيب المسلمون، وابتلوا فى أنفسهم، وكان فى هذا ما أشمت اليهود والمنافقين، وأطلق ألسنتهم بقالة السوء فى الإسلام، ونبى الإسلام، وهو ما حدّث عنه قوله تعالى: «وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها» . وفى غزوة أحد خرج النبي من أهله غدوة، أي مبكرا، ليلقى قريشا وجموعها التي أقبلت حتى أشرفت على المدينة، عند جبل «أحد» .. وهناك بوّأ النبيّ المؤمنين مقاعد للقتال، ووضع كل جماعة فى مكانها من المعركة. وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» تذكير للمسلمين، وتحذير لغيرهم من المشركين والمنافقين، من قدرة الله على كشف ما فى الصدور، حتى لتصير الخواطر كأنها أصوات تسمع، أو كأنها مسطورات ترى وتقرأ.. فلا تخفى على الله خافية، مما يدور فى الصدور من خير أو شر. وقوله تعالى: «إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا» هو من أنباء ما فى الصدور التي كشف عنها علم الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 ففى جيش المسلمين وقع فى بعض النفوس شىء من التردد والخوف، وكاد ذلك يكون واقعا يدفع صاحبه إلى الفرار من المعركة قبل وقوعها. وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ وَلِيُّهُما» بيان لرحمة الله ولطفه بهاتين الطائفتين من المؤمنين، إذ ربط على قلوبهم، وجلى عنهم خواطر الشك والريب، وثبّت أقدامهم على طريق الجهاد، فسلم لهم دينهم، وكان للمسلمين منهم قوة وعونا فى مواجهة العدو. والهمّ بالشيء تحديث النفس به، ومراودة صاحبها عليه، دون أن يتخذ مظهرا عمليّا. ولم يذكر القرآن الكريم اسم هاتين الجماعتين اللتين همّتا هذا الهمّ السيء. لأن رحمة الله تداركتهما، فلم يقع منهما ما يسوء، وكان من تمام رحمة الله ولطفه بهما أن ستر عليهما هذا الهمّ الذي همّتا به! ثم انظر فى قوله تعالى: «وَاللَّهُ وَلِيُّهُما» وكيف ترى أن ولاية الله لهما قد ألقت عليهما سترا من بهاء وجلال، فكانا من أولياء الله وأنصار الله. «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» (257: البقرة) فهل مع لطف اللطيف ورحمة الرحيم يبقى على الإنسان ذنب أوحوب؟ وكلا، ثم كلا! وكعادة المفسّرين، فى مثل هذه الأمور التي يذكر فيها القرآن الأحداث مطلقة، من غير تحديد أزمانها أو أمكنتها، أو أشخاصها، حيث لا تؤثر الأزمان ولا الأمكنة ولا الأشخاص فى العبر والعظات المستخلصة من الحدث- نراهم يجهدون الجهد كله فى البحث عن متعلقات الحدث، من زمان ومكان وأشخاص، يجلبونها من كل واد، ويلتقطونها من كل فم، ثم يلقونها بين يدى الحدث جثثا هامدة، مستجدية مستخزية! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 وهنا ذكر المفسرون مقولات كثيرة فى هاتين الطائفتين، ولو أخذ بتلك المقولات جميعها لشملت المسلمين كلهم، من مهاجرين وأنصار! ونحن نحترم صمت القرآن هنا، ولا نقول من هما هاتان الطائفتان- لأنا لا ندرى على وجه اليقين من هما، ولو درينا لم نر داعية للقول- وحسبنا أن نعلم من هذا الحدث أمورا.. منها. أولا: أن المؤمن لا يخلو فى حال من أن تطرقه وساوس سوء، أو تدور فى نفسه نزعات شر. وثانيا: أن صدق الإيمان، وإخلاص النية يصلان الإنسان بربه، فيجد من أمداد لطفه ورحمته، ما يأخذ بيده إذا عثر، ويشد من عزمه إذا ضعف، وفى هذا يقول الله فى يوسف- عليه السّلام- وقد جاءته أمداد السماء، فصرفت عنه السوء الذي كاد يلمّ به: «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ» (24: يوسف) . ثالثا: أن ما يهمّ به المؤمن من سوء، وما تحدثه به نفسه من وساوس الشر، لا يؤاخذ عليه، حتى يتحول هذا الهمّ وتلك الوساوس إلى عمل، يؤثّر أثره فى الناس، وفى الحياة. على أن الاستسلام لهواجس الشر، والاستماع الطويل لوساوس السوء، قد يمكّن لها فى كيان الإنسان، ويعطى لها سلطانا عليه، بحيث تصبح يوما فإذا هى مالكة زمام الإنسان، موجهة له.. وإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يخلى نفسه من تلك الوساوس، فإنه يستطيع أن يصرفها عنه كلما طرقته، وألا يعطيها شيئا من قلبه أو غقله، بل يشغلهما بما هو أجدى وأولى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 الآيات: (123- 126) [سورة آل عمران (3) : الآيات 123 الى 126] وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) التفسير: بعد أن استحضرت الآيتان (121، 122) المقدمات الأولى لمعركة أحد، إذ غدا النبىّ خارجا منزله إلى حيث يلقى العدو، الذي وقف عند مشارف المدينة، يفكر فى دخولها ولقاء المسلمين فيها، أو محاصرتهم داخلها إلى أن يخرجوا للقائه.. ولكن رأى النبي وأصحابه كان قد انتهى- بعد مشاورات كثيرة كادت تؤدى إلى فرقة وانقسام فى صفوف المسلمين- انتهى إلى لقاء العدو- خارج المدينة عند «أحد» . نقول- بعد أن استحضرت الآيتان السابقتان، هذه المقدمات الأولى للمعركة، جاءت آيات القرآن الكريم بعد هذا مباشرة، تحدّث المسلمين بمعركة بدر التي كانوا قد خاضوها منذ عام، مع هذا العدو الذي جاء إليهم بعدد عديد، وعتاد كثير، على حين كانوا هم فى أعداد قليلة، وعدة هزيلة، ولكن الله أيدهم بنصره، وكيب الهزيمة والخزي والخذلان على عدوهم. وفى إثارة هذه الأحداث من معركة بدر فى خواطر المسلمين، وهم على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 مشارف معركة جديدة توشك أن تبدأ بينهم وبين هذا العدو، الذي عرفوه، وذاقوا طعم النصر عليه، ورأوا رأى العين أمداد السماء لهم يومئذ- فى إثارة هذه الأحداث، فى هذه اللحظة الحاسمة، ما يطمئن الخواطر المضطربة، وما يقطع على المسلمين هذا الجدل المحتدم بينهم- فى لقاء العدو، داخل المدينة أو خارجها. ذلك ليعرفوا أن مكان لقاء العدو ليس هو العامل الأول فى المعركة، وليس العدد ولا العتاد هو كل شىء فى كسب النصر، وإنما السلاح العامل أولا وقبل كلّ شىء فى بلوغ النصر، هو الإيمان بالله، وتوجيه القلوب إليه، وإخلاص النية فى الجهاد فى سبيله، فذلك هو الذي يجعل ميزان المؤمن يرجح عشرة من غير المؤمنين فى ميدان الحرب. وليس ذلك بالذي يعفى المؤمنين من النظر فى إعداد العدة للقاء العدو، واتخاذ الحيطة والحذر منه، وسدّ المنافذ والثغرات التي ينفذ منها إليهم، فهذا كلّه وكثير غيره، هو من عدد النصر وأسلحته، التي يجد منها المؤمن قوة، إلى قوة إيمانه وتوكله على الله. وقوله تعالى: «وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ» صورة قوية نابضة بالحياة، تجمع فى كلماتها القليلة تلك، كل مشاهد المعركة، وتستحضر كل أشخاصها، ومشخصاتها، من بدئها إلى خاتمتها. وأول ما يذكر المسلمون عن هذا اليوم، وأهمّ ما يجدونه فى خواطرهم منه، أنهم انتصروا نصرا حاسما، من حيث كان لا يرجى لمثلهم نصر فى هذه الموقعة، لقلة عددهم، وضالة عدّتهم، مع كثرة عدوّهم، وقوة عدده! وهنا أمر لا يدع لأحد شكّا حتى عند من لا يؤمنون بالله، هو أن يدا قوية غير منظورة لأحد، هى التي أدارت تلك المعركة، وقلبت أوضاعها، وبدّلت موازينها! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 والذلّة التي وصف القرآن بها المسلمين هنا ليست ذلّة نفسيّة، ولا ضعفا قلبيا، وإنما هى ذلّة حاجة وعوز، وقلة فى المال والرجال، بحيث يخفّ ميزان أصحابها فى أعين الناس، حين ينظرون إلى ظاهرهم هذا.. فوصف المؤمنين بالذلّة هنا، إنما هو وصف للحال الظاهر منهم للناس.. أما فى حقيقة أنفسهم، فهم من إيمانهم بالله، وثقتهم فيه، وتوكلهم عليهم واستعلائهم على حاجات الجسد، ومتاع الحياة- هم فى عزّة عزيزة، تستخف بكل قوى المادة وعتوّها. وقوله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» تعقيب على هذه النعمة التي أنعم الله بها على النبىّ وأصحابه، يوم بدر، فمكّن لهم من رقاب أعدائهم، ومنحهم النصر عليهم، ذلك النصر الذي لم يتوقعه أحد.. فحقّ على المؤمنين أن يزداد إيمانهم بالله، وإقبالهم عليه، حتى يبلغ بهم هذا الإيمان وذلك الإقبال منازل المتقين، وعن هذه التقوى يكون الشكران لله على ما أنعم عليهم.. بل إن هذه التقوى فى صميمها هى شكران لله أعظم الشكران وأكمله، فما شكر الله، ولا حمده، ولا عرف فضله وقدره من لم يتّقه حق تقواه، فيأتى ما استطاع من أوامره، ويجتنب ما استطاع من نواهيه. فإنه بغير التقوى تكون العبادات والطاعات مجرّد مظاهر جوفاء، لا ثمرة لها، ولا جزاء عليها.. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» (27: المائدة) . وقوله سبحانه: «إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ» هو عرض وتذكير لما كان فى يوم بدر من أمداد السماء للمسلمين، حين بشرهم الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- بأن الله ممدّهم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين من عالمهم العلوىّ، ليشاركوا فى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 معركة الحق، ولينصروا أنصار الله، المجاهدين فى سبيله. وقوله تعالى: «بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ» هو تأكيد لهذا الوعد الكريم من الله تعالى الذي تحقق يوم بدر بهذا المدد السماوي، والذي شهد المسلمون آياته يوم بدر.. ثم هو عرض لوعد آخر معلّق على ما يكون عند المؤمنين من صبر وتقوى، فإن كان منهم هذا لم يكن المدد السماوي ثلاثة آلاف ملك وحسب، بل إن الله سبحانه وتعالى سيمدهم بخمسة آلاف فى هذه المعركة التي توشك أن تنشب بينهم وبين المشركين، فى أحد. والملائكة المسوّمون: هم المعلّمون، أي لهم شارات يعرفون بها. وهنا سؤال: ما هذا المدد السماوىّ؟ وما هى صورته؟ وكيف يكون عمله فى المعركة؟ وهل يكون على هيئة الرجال، أو الفرسان.. أو بين الرجال والفرسان؟ أم ماذا؟ والجواب على هذا من وجوه: أولا: أنه يجب التصديق تصديقا مطلقا بما أخبر به القرآن، وأن الملائكة قد كانوا بالأعداد التي ذكرها لله، وأنهم كانوا جندا مع جنود الله فى تلك المعركة. ثانيا: أن هذا المدد السماوىّ كان روحا من عند الله، لبست المؤمنين، وأحاطت بهم، فكانت قوة راسخة فى قلوبهم، ودروعا حصينة على صدورهم، وسيوفا قاطعة فى أيديهم! وما كان لهذه القوى أن تظهر عيانا للناس، وإلا كانت فتنة لهم.. ولكن يجد المؤمنون أثرها فى أنفسهم، كما يجد المشركون مسّها الرعب لقلوبهم! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 ثالثا: تجسيد هذه القوى السماوية للمسلمين فى الخبر الذي أخبروا به، وتحديد أعدادها، هو لتطمين قلوب المؤمنين، وتثبيت أقدامهم. رابعا: أن هذه القوى السماوية لو جسّدت لكانت رجالا وفرسانا، ولو عدّت لكان حسابها فى الرجال والفرسان بثلاثة آلاف من المقاتلين. خامسا: فى قوله تعالى: «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ» إشارة إلى أن هذا التجسيد، وتحديد العدد لتلك القوى السماوية التي تعمل معهم، إنما هو لتطمين قلوبهم، وليكون لهم من فرحة هذه البشرى قوة يرون منها خاتمة هذه المعركة قبل بدئها، وأنهم هم المنتصرون. سادسا: كانت أعداد المسلمين يوم بدر نحو ثلاثمئة، وكان حساب المسلم فى قتاله للمشركين يومئذ بعشرة منهم كما يقول الله تعالى: «إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» (65: الأنفال) .. فالمسلمون الذين قاتلوا يوم بدر وإن كانوا ثلاثمائة، هم فى قوتهم، وفى حسابهم فى المقاتلين ثلاثة آلاف..! وعلى هذا، فإن لنا أن نفهم أن هذه الثلاثة آلاف التي كانت مددا من السماء يوم بدر، قد كانت قوى سماوية، وأرواحا علوية لبست المسلمين، فإذا كل رجل منهم عشرة رجال! بل عشرة أرواح علوية سماوية، بل عشرة ملائكة.. «وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ» (31: المدثر) . هذا، وقد جاء فى سورة الأنفال فى غزوة بدر قوله تعالى: «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَما جَعَلَهُ اللَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (9- 10: الأنفال) . وهنا نجد المدد السماوىّ ألفا من الملائكة لا ثلاثة آلاف، ولكن فى قوله تعالى: «بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ» وفى وصف الملائكة بالمردفين- ما يشعر بأن وراءهم أمدادا أخرى، تجىء مرادفة لهم، وفى أعقابهم، ويؤيد هذا قراءة السّدّى: «أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ» . كذلك يجيء التعقيب على هذا المدد السماوي، بأنه لم يكن إلا بشرى للمؤمنين وتطمينا لقلوبهم، كما جاء ذلك فى آية آل عمران التي نحن بين يديها الآن! وقوله تعالى: «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ» وقوله فى سورة الأنفال: «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى» بزيادة «لكم» هناك، لاختلاف المقامين.. حيث أن الخطاب فى آية الأنفال كان والمسلمون يواجهون الحدث مواجهة واقعية، ويتلقون بشريات السماء وهم مشتبكون مع العدو، فلا حاجة إلى تعيينهم بقوله سبحانه «لكم» على خلاف ما جاء فى آية آل عمران، إذ كان نزولها والمسلمون مقدمون على حرب المشركين، فى أحد، فجاءت هذه الآية مع أخواتها لتذكرهم بفضل الله عليهم فى يوم بدر، فكان التعيين بقوله «لكم» هنا لازما. إذ كان كثير من المسلمين الذين يشهدون أحدا اليوم لم يشهدوا بدرا بالأمس! كذلك ما جاء فى قوله تعالى فى آل عمران: «وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ» وفى الأنفال: «وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ» فلاختلاف المقامين اختلف الأداء للمعنى المراد.. فالمسلمون الذين خوطبوا فى سورة الأنفال كانوا فى مواجهة المعركة فى بدر، وقلوبهم مضطربة واجفة تنظر إلى ما يطلع عليها من فضل الله ورحمته، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 فقدم ما بشّروا به من أمداد السماء، وهو المشار إليه بالضمير فى «به» على القلوب لأنه هو المطلوب لها.. أما فى آية آل عمران، فهو تذكير بهذا الحدث، فجاء ذكره على الأسلوب الذي يقتضيه النظم المعتاد فى لغة العرب.. الفعل، فالفاعل، فالمتعلقات: «وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ» . ويشبه هذا ما جاء فى قوله تعالى هنا فى آل عمران: «وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» وما جاء فى سورة الأنفال: «وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» . وأحسبك لا يخفى عليك الحال الداعي لاختلاف الأداء اللفظي فى الآيتين.. ولكن لا بأس من أن نشير إليه، كما أشرنا إلى سابقيه من قبل! ففى آية الأنفال تقرير وتوكيد لعزة الله وحكمته: «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» .. وهذا التقرير والتوكيد لازمان فى هذا الموقف، الذي كان يقفه المسلمون فى قلّتهم، وضالة شأنهم إزاء الجيش القوى الزاحف عليهم، فإذا جاءتهم البشرى بنصر الله، محمولة بما وعدهم على لسان نبيّه، ثم أتبعت هذه البشرى بالتذكير بعزة الله وحكمته فى هذا الأسلوب المؤكد «أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» كان لذلك وقعه فى القلوب وأثره فى النفوس! أما فى آية آل عمران، فالشأن مختلف.. إنها حديث عن أمر وقع، رأى منه المسلمون رأى العين كيف كانت عزة الله وكيف كانت حكمته.. فيكفى هنا أن يذكر الله وعزته وحكمته.. «الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» دون توكيد، إذ كان يعيش المسلمون مع الحدث الواقع، الذي هو أثر من آثار عزة الله وحكمته. وطبيعى أن مثل هذه الفروق الدقيقة فى الصور اللفظية التي تعرض لموضوع واحد، فيقع فى النظم تقديم وتأخير، أو زيادة وحذف- لا يلتفت إليها، ولا يقام لها وزن فى معايير البلاغة، إلا أن يكون ذلك فى نظم القرآن الكريم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 حيث كل شىء بحساب وتقدير، ولكل حرف وزنه، الذي يرجح موازين الدنيا جميعا.. وذلك وجه مشرق من وجوه الإعجاز القرآنى.. «تنزيل من عزيز حكيم» .. فسبحان من هذا كلامه. الآيات: (127- 129) [سورة آل عمران (3) : الآيات 127 الى 129] لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) التفسير: قوله تعالى: «لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ» هو تعليل لما جاء فى ختام الآية السابقة على هذه الآية، وهو قوله تعالى: «وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» حيث اقتضت عزّة الله وحكمته أن ينصر المؤمنين فى معركة بدر، هذا النصر الذي كان منحة من الله كتبها بأيدى المؤمنين، ولولا فضل العزيز الحكيم لما نال المسلمون ما نالوا من أعدائهم.. ولكن قضى الله بذلك «لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا» أي ليقضى على جانب من الذين كفروا بالقتل، وبذلك ينهدّ ركن من هذا البناء الأسود، الذي يصدّ عباد الله عن دين الله.. «أَوْ يَكْبِتَهُمْ» أي يملأ قلوبهم حسرة وألما، وذلك حين ينقلب الأحياء من جيش البغي هذا، بالهزيمة، وبما خلّفوا وراءهم فى ميدان المعركة من جثث وأشلاء، لأبطالهم، وفلذات أكبادهم.. فهذا الجيش الآثم الباغي: فريقان: فريق حصدته سيوف المسلمين فى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 المعركة، وفريق فرّ مثخنا بالجراح، محملا بخزي الهزيمة وعارها مثقلا بالحزن والألم، لما فقد من أهل وأحباب. وتغلى مراجل الضغينة والحقد فى رءوس المشركين، وتتحول مكة كلها إلى ذئاب عاوية، تتردد فى بيوتها، وفى أنديتها، وطرقاتها أصداء هذا العواء المسعور، تسبّ وتتوعد، «محمدا» ومن اجتمع إليه من مهاجرين وأنصار.. ثم هاهى ذى تجىء إليه محملة بحقدها، مشحونة ببغضائها، لتلقاه فى يوم كيوم بدر، تراق فيه الدماء، وتتناثر الأشلاء، ويتقطع فيه ما بقي بينه وبين قومه من أواصر الرحم والقرابة.. فما أمرّ هذا وما أقساه!! ويأسى النبىّ الكريم لهذا ويحزن، وكان يودّ ألا يبلغ الأمر بينه وبين أهله إلى هذا الحدّ، وهو الذي جاءهم بالهدى والرحمة، ودعاهم إلى البر والتقوى. ولكن القوم أبوا إلّا إعناتا له، وخلافا عليه، وإمعانا فى توجيه الأذى والضرّ إليه وإلى من اتبعه، حتى لقد حملوه على أن يهاجر من موطنه، ليخلص بدينه، وليجد له طريقا غير هذا الطريق المسدود! فكان قول الله تعالى: «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ» عزاء للنبيّ، وتخفيفا لما وجد فى نفسه من تلك الحال التي وقعت بينه وبين أهله وذوى قرابته.. كما كان فيه إلفات لهؤلاء المشركين إلى الجهة التي نالتهم بهذا السوء الذي حلّ بهم، جزاء كفرهم وعنادهم، وأنها جهة لا تنال.. إنها يد الله القوى العزيز، لا يد محمد، ولا أصحاب محمد، وفى هذا تيئيس لهم من أن يأخذوا بثأرهم الذي احتسبوه على محمد وأصحاب محمد، فما كان لمحمد وأصحابه من هذا الأمر شىء! وقوله تعالى: «أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ» فتح لصفحة جديدة، ولحساب جديد مع هؤلاء المشركين، بعد وقعة بدر.. فهم بين أمرين: إما أن يرجع راجعهم إلى الله ويستجيب لدعوة الحق الذي يدعى إليه، فيجد المغفرة والرحمة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 وإما أن يزداد إثمه إثما، فيمضى فى طريق العناد والكفر، والمحادّة لله ولرسوله، فيلقى الجزاء الذي هو أهله، ولا جزاء له غير العذاب الأليم.. «فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ» . فما محمد إلا رسول، يبلّغ ما أنزل إليه من ربّه.. والله سبحانه هو الذي يرجع إليه الأمر كلّه، له ما فى السموات والأرض، لا يملك أحد معه شيئا.. «يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ» لا معقب لحكمه ولا ناقض لأمره! وفى قوله تعالى تعقيبا على هذا الحكم: «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» ما يكشف فضل الله على عباده، ورحمته بهم، وأنها رحمة عامة شاملة، تنال الخلق جميعا، حتى أولئك العصاة المتمردين، وحتى وهم يتقلبون فى العذاب الأليم! فهو عذاب فيه رحمة لهم، وتطهير لما تلطغوا به من أدران الإثم والشرك! الآيات: (130- 136) [سورة آل عمران (3) : الآيات 130 الى 136] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 التفسير: هذه الآيات والآيتان اللتان بعدها، تجىء هكذا بين تلك الأحداث التي يعرضها القرآن عن الصراع الدائر بين المسلمين والمشركين، فى معارك بدر وأحد.. والحديث عن الربا هنا، يبدو وكأنه شىء غريب فى هذا الجوّ، الذي لا نسمع فيه إلا قعقعة السلاح، ولا يرى فيه إلا الدماء والأشلاء! فما شأن الرّبا هنا؟ وما داعيته فى هذا المقام؟ عرفنا فى وقوفنا بين يدى آيات الرّبا فى سورة البقرة، أن الربا كبيرة الكبائر، وأنه لفداحة جرمه لم يدخله الإسلام فى دائرة الجرائم التي يطهّر مقترفوها بإقامة الحدّ عليهم فيها.. ولهذا فإن الذي يبدو لنا- والله أعلم- من وضع الرّبا هنا، وسط المعارك الدائرة بين الإسلام والكفر، أنه خطر كهذا الخطر الذي يتهدد المسلمين من الشرك والمشركين، وأنه إذا كان المسلمون مشتبكين فى معركة ضارية مع المشركين، ليقتلعوا بذور الشرك والضلال من المجتمع الإنسانى، فإن ذلك ينبغى ألا يشغلهم عن معركة أخرى يجب أن يشتبكوا فيها مع عدوّ لا يقل خطرا فى إفساد الكيان الإنسانى، وتدمير معالم الإنسانية فى الإنسان- عن الشرك.. ألا، وهو الربا! وخطاب المؤمنين فى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً» يتضمن أمرين: أولهما: نهى المسلمين مقارفة هذا الإثم، والعمل على محاربته فى أنفسهم، حتى يجلوه عنها، كما أجلوا الشرك من قبل منها. وثانيهما: محاربة هذا الإثم، وجهاده حيث أطلّ برأسه فى أي مكان تناله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 أيديهم، وتصل إليه قوتهم، كما يحاربون الشرك ويجاهدونه.. فإنه- أي الربا- ربيب الشرك، وثمرته البكر فى شجرته الخبيثة! فحيث كان شرك، كان ظلم، والربا هو أشأم وجوه الظلم. وعلى هذا، فإنه كما لا يجتمع إيمان وشرك فى قلب مؤمن، كذلك لا يجتمع إيمان وربا فى حياة المؤمن! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ... (278- 279: البقرة) .. فانظر إلى قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» وما فيها من تشكيك فى إيمان المؤمنين، ونزع تلك الصفة عنهم، والتي خوطبوا بها فى أول الآية، فى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا..» وذلك إذا لم ينزعوا عن الرّبا، ويخلّصوا أنفسهم منه. ثم انظر بعد هذا فى قوله تعالى: «فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» تجد أنها حرب معلنة من الله ورسوله.. فيا للهول، ويا للبلاء!! وعلى من؟ على المؤمنين الذين آمنوا بالله ولكن بقي معهم الربا! إنهم إذن والمشركون سواء! يحاربهم الله ورسوله.. ويجاهدهم المؤمنون كما يجاهدون المشركين. فالمعركة مع الربا والمرابين معركة فى صميمها مع الشرك والمشركين! ولهذا فقد أضيف الربا هنا إلى الشرك، ودخل فى حسابه.. وبهذا صارت معركته وجهاده جزءا من معركة الشرك، وجهاد المشركين. وفى قوله تعالى: «لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً» قد يبدو أن النهى فى تحريم الربا، وفى درجه مع الشرك فى قرن واحد- إنما هو الربا الفاحش، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 الذي يتضاعف فيه رأس المال بمضاعفة المدة التي يبقى فيها المال فى يد المقترض بالربا، ويكون- بمفهوم المخالفة- أن هذا النهى لا يرد على الربا إذا لم يكن على تلك الصورة الفاحشة! ولكن- مع قليل من النظر فى وجه الآية الكريمة- نجد أن قوله تعالى «أَضْعافاً مُضاعَفَةً» وإن يكن حالا من أحوال الربا، مقيدا للربا فى عمومه وإطلاقه.. إلا أن هذا الحال يكاد يكون الحال الشامل لجميع أحوال الربا، الذي كان معروفا شائعا فى هذا الوقت، وهو ربا النسيئة، الذي يتضاعف فيه رأس المال على امتداد الزمن.. وإذن فهذا الوصف بالأضعاف المضاعفة للربا هو تقرير لحقيقة الربا، وكشف لوجهه الكريه، الذي يغتال أموال الناس على تلك الصورة البشعة التي لم تكن تتخلف أبدا عن المعاملات الربوية يومئذ! ويكون معنى الآية: نهى المؤمنين عن أكل الربا، الذي يأكل بدوره أموال الناس، حتى ينتفخ ويتورم، ويصبح أضعاف ما كان عليه، بتلك الأورام الخبيثة التي التصقت به.. فهو زاد تخمر وتعفن، تصدّ عنه النفوس الطيبة، ولو هلكت.. لأن فى تناوله الهلاك المحقق. وقوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» تأكيد لاجتناب الربا، وتحذير من أكله.. لأن آكله لا يفلح أبدا.. لأنه لم يكن على تقوى من الله ومن حرم التقوى والخشية من الله فقد حرم الفلاح، وفى قوله تعالى: «وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ» ما يكشف عن جريمة الربا، وأنها باب من أبواب الكفر، ومدخل من مداخله- كما أشرنا إلى ذلك من قبل- فالنار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 المعدّة للكافرين، هى معدة أيضا لآكلى الربا.. فمن لم يتق الله وينتهى عما نهى الله عنه من أكل الربا فهو مع الكافرين فى نار جهنم، يلقى ما يلقى الكافرون، من عذاب ونكال.. وهذا يلتقى مع قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (278: البقرة) فمن لم يتق الله، ويتجنب الربا فليس بالمؤمن، ولا هو فى المؤمنين! وقوله تعالى: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» التفات إلى المؤمنين، ودعوة لهم إلى الطاعة العامة لله ورسوله، بعد أن أطاعوه فى ترك الربا.. وفى قوله تعالى «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» تذكير لهم بالرحمة التي يجب أن تملأ قلوبهم عطفا وبرّا بالنّاس، فلا يغتالوا أموالهم بالرّبا، ولا يأكلوها ظلما وعدوانا، فإنهم إن رحموا الناس، رحمهم ربّ الناس، وفى الأثر: «الراحمون يرحمهم الرحمن» . قوله تعالى: «وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» . إثارة وإغراء بالمبادرة إلى طلب المغفرة من الله، باجتناب المحرمات، وعلى رأسها الكفر والربا.. فمن بادر بالتوبة، ورجع إلىّ الله من قريب، مستغفرا ربه، وجد ربّا غفورا رحيما يفتح له مع خزائن رحمته أبواب جنته وما فيها من نعيم مقيم. وهذه الجنة التي وعد بها المتقون تسع النّاس، وأضعاف أضعاف الناس.. عرضها السموات والأرض.. يجد فيها المؤمنون والتائبون- مهما كثر عددهم- مكانا فسيحا، لا حدّ له، حيث يسرحون ويمرحون ما شاءوا.. فليخرس إذن أولئك المتنطعون والمتزمّتون، الذين يضيّقون من رحمة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 أو يضيقون بها، حتى لكأنهم يرون أن ما يبسطه الله من رحمة ورضوان لعباده إنما هو مقتطع مما يمنّون أنفسهم به عند الله.. وأنّه كلما كثرت أعداد المقبولين عند الله، والداخلين فى رحمته- تحيّف ذلك من نصيبهم، وأخذ الكثير من حظهم.. وهذا- لا شك- سوء ظن بالله، وعدوان على مشيئته، شأنهم فى هذا شأن بنى إسرائيل، الذين أكل الحسد قلوبهم أن ينال أحد من من الله خيرا غيرهم، كما قال تعالى فيهم: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» (54: النساء) وكما قال فيهم أيضا: «قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ» (100: الإسراء) . وقوله تعالى: «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ» صفة من صفات المتقين.. فمن شان التقوى أن تقيم فى كيان الإنسان عواطف الرحمة والإحسان، فلا يمسك صاحبها خيرا لنفسه خاصة، بل إن كل ما فى يده هو له وللناس.. فهو ينفق منه فى كل حال.. فى يسره وعسره، فى سرّائه وضرّائه، وفى سرّاء الناس وضرائهم، لا يمنع فضله عن طالبه أبدا! وقوله تعالى: «وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» بيان للصفات المكملة للتقوى، المجمّلة للمتقين، فمن اتقى الله، كان رحيما بالناس، حدبا عليهم، يلقى إساءتهم بالصفح والمغفرة، فلا يصل إليهم منه أذى، بيد أو لسان.. والكاظمون الغيظ والعافون عن الناس، هم وإن كانوا فى المتقين المحسنين، إلا أنهما درجتان فى الإحسان والتقوى.. فالكظم درجة، والعفو درجة أعلى من تلك الدرجة.. فالذى تلقّى الإساءة وهو قادر على مقابلتها بمثلها ثم أمسك عن الردّ، وكظم فى نفسه ما أثارته الإساءة فى مشاعره من غيظ ونقمة، هو على درجة من التقوى والإحسان.. أما إذا ذهب إلى أكثر من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 هذا، فمسح ما بصدره من غيظ ونقمة. وأظهر العفو والمغفرة، فهو على حظ أكبر من الإحسان والتقوى.. وأرفع من هذا درجة، وأعلى مقاما فى التقوى والإحسان، من دفع السيئة، لا يكظم الغيظ المتولد منها، ولا بالعفو عن المسيء، بل دفعها بالإحسان إليه.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ» (22: الرعد) . ويقول سبحانه أيضا: «أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» (54: القصص) . ودفع السيئة بالحسنة إنما هو من باب الإنفاق، ولكنه إنفاق من أطيب وأعزّ ما يملك الناس: إنه إنفاق من سعة صدر، ومن كرم خلق، مما لا يرزقه إلا أهل الصبر والتقوى.. وفى هذا يقول الحق جلّ وعلا: «وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» . (34: 35 السجدة) . فيما يروى عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه.. أن جارية له كانت تقوم على وضوئه وفى يدها إبريق، فسقط الإبريق من يدها وانكسر.. ونظر إليها الإمام- كرم الله وجهه- فقالت: «وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ» فقال: كظمت غيظى.. ثم قالت: «وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ» فقال: «ولقد عفوت عنك» قالت: «والله يحب المحسنين» فقال: «أنت حرة لوجه الله» !! قوله تعالى: «وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ» . الفاحشة: المنكر الغليظ من العمل والقول.. وأكثر ما تكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 فى الأعمال السيئة.. وظلم النفس: يقع على كل مكروه ينالها من قبل صاحبها فيما يمسّ خاصة الإنسان من أذى، أو يتجاوزه إلى غيره من الناس.. فالزنا، فاحشة، والكفر ظلم! وكلّ من الأمرين ظلم وفاحشة معا.. فهذا الصنف من الناس إذا أصاب فاحشة أو ارتكب إثما، ذكر الله، وذكر عظمة الله وجلاله، وعلمه به، وفضله عليه، وذكر لقاء ربّه، ومحاسبته بين يديه.. فرجع إلى الله من قريب، تائبا مستغفرا- هذا الصنف من الناس معدود فى المتقين من عباد الله، إذ غسل الحوبة بالتوبة، وبعد عن الله ثم عاد إليه، واقترب منه. وفى قوله تعالى: «وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ» إغراء للعصاة والمذنبين، بالتوبة والقبول إذا هم مدّوا أيديهم إليه، وطلبوا الصفح والمغفرة منه! وقوله تعالى: «وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ» إشارة إلى ما تصحّ عليه توبة التائبين، وهو أنّهم إذا فعلوا المعصية لم يصرّوا على معاودتها، بل أخذتهم خشية الله، واستولى عليهم الندم.. وأقبلوا على الله تائبين مستغفرين.. وقوله تعالى: «وَهُمْ يَعْلَمُونَ» يفسح العذر للذين يأتون الفاحشة عن جهل، أو خطأ، كمن يشرب خمرا وهو يظنها غير الخمر. وقوله تعالى «أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ» الإشارة هنا إلى جميع من ذكروا فى قوله تعالى: «وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ.. إلى قوله سبحانه: «وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ» فهؤلاء الذين جاء ذكرهم فى هذه الآيات الثلاث، هم من المتقين، وهم من الذين يتلقّون هذا الجزاء الحسن من الله.. جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها.. وفى قوله تعالى: «وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ» مدح وتمجيد لهذا الجزاء العظيم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 الذي ناله هؤلاء الذين أنعم الله عليهم، فاتقوه، وأنفقوا فى السّرّاء والضراء، وكظموا الغيظ وعفوا عن الناس.. ومثلهم أولئك الذين إذا فعلوا فاحشة، أو واقعوا المعصية ذكروا جلال الله وعظمته، فرجعوا إليه من قريب، باسطين يد التوبة والمغفرة.. فالجزاء الذي ناله هؤلاء المحسنون المتقون، شىء عظيم رائع.. وهل شىء أعظم من الجنة وأروع؟ .. ثم إن هذا الجزاء- وإن يكن فضلا من الله وإحسانا- هو عن إحسان كان من هؤلاء العاملين، وعن عمل من هؤلاء المحسنين: أجراه الله على أيديهم، ووفقهم إليه.. وفى هذا يقول الحق سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» (13- 14: الأحقاف) . الآيات: (137- 138) [سورة آل عمران (3) : الآيات 137 الى 138] قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) التفسير: كانت موقعة بدر، ثم موقعة أحد بعدها، تجربتين مثيرين فى مسيرة الدعوة الإسلامية، وفى كشف معالم الطريق الذي يسير فيه المسلمون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 تجاه تلك القوى المتربصة بهم، وبالدّين الذي آمنوا به. بدأت دعوة الإسلام هامسة، متخافتة. تمشى على خفوت وخشية بين ظلام الشرك، ووسط معاقل المشركين.. فلما أخذ صوتها يعلو ويبلغ الأسماع. أجلب عليها المشركون بجبروتهم وعتوّهم يلاحقون الجماعة القليلة المستضعفة، حتى كادت تختنق الدعوة فى مهدها، لولا أن ثبت الله أقدام المؤمنين، وربط على قلوبهم، فصبروا على ما أوذوا، وخرجوا عن أموالهم وديارهم وأهليهم، فارّين بدينهم فى وجوه الأرض.. حتى كانت هجرة النبي الكريم إلى المدينة. فتحدّد بذلك خط سير الدعوة، كما تحدد الأفق الذي ستشرق منه شمسها، وتنتشر أضواؤها. وفى المدينة قامت الخمائر الأولى لدولة الإسلام.. فكان المهاجرون والأنصار الكتيبة الأولى التي أمسكت راية الحق لتلقى بها الشرك كلّه، والكفر كلّه، والنفاق كلّه. وفى موقعة بدر كان أول صدام بين الإسلام، والكفر.. الإسلام كله، والشرك كلّه.. ولو أن هذه المعركة انتهت بالقضاء على هذه الجماعة القليلة المسلمة، لما قامت للإسلام بعدها قائمة، ولما كان إسلام ولا مسلمون بعدها.. ولكن الله بالغ أمره. فلقد قضت إرادته سبحانه أن تغلب تلك الفئة القليلة دولة الشرك، وأن تنالها بيد قوية قاهرة، فتقتل وتأسر، كما تشاء! وتشهد الدنيا كلها من تلك المعركة «معجزة، قاهرة متحدية، وأن الإسلام ليس أمرا من أمور هذه الدنيا التي يقتتل الناس عليها، وإنما هو نور من نور الله، لا تطفئه الأفواه، ولا تحجبه الأيدى، وأنه بالغ الذي الذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 أراد الله أن يبلغه: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» (9: الصف) .. (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» (32: التوبة) وتفعل المعجزة فعلها فيمن شهد المعركة، وفيمن سمع أخبارها من المسلمين، والمشركين، والكافرين.. فكثير من المشركين والكافرين، الذين شهدوا المعركة، أو سمعوا أخبارها، قد دارت رءوسهم بها، وأخذوا يراجعون حسابهم مع الإسلام، ويحددون موقفهم من النبىّ، وفى كل يوم يزداد العقلاء قربا من الإسلام، على حين يزداد الحمقى والسفهاء، حمقا وسفاهة وبعدا!! أما المسلمون فقد امتلأت قلوبهم طمأنينة بالدين الذي آمنوا به، وبالنبيّ الذي استجابوا له، واتبعوا سبيله.. ثم نظر ناظرهم إلى آفاق بعيدة، فرأى يد الإسلام تنال ما تشاء.. وتبلغ ما تريد فى كل أفق تتجه إليه.. لا يمتنع عليها شىء، ولا يحول دونها حائل.. إنها تقاتل تحت راية الله، وتضرب أعداءها بيد الله.. فمن يقف لها، أو يردّ ضربتها؟ ألم تشارك ملائكة السماء فى القتال مع المسلمين؟ وهل تهزم جبهة تقاتل معها الملائكة، ولو كانت عدد أصابع اليد أو اليدين؟ لقد كان هذا الشعور مستوليا على المسلمين، بعد أن فرغوا من معركة بدر، وبعد أن عادوا وقد امتلأت أيديهم من الغنائم والأسرى، وبعد أن ملئوا أرض المعركة من أعدائهم، جثثا وأشلاء!! ولكن. ما هكذا تدبير الله وتقديره فيما بين الناس، وفيما بين الحق والباطل!! إنه لا بد من بذل وتضحية، ومن معاناة وابتلاء! وإلا فأين المحقّون وأين المبطلون؟ وأين إحسان المحسنين وإفساد المفسدين؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 وأين ما أعطى صاحب الحق من نفسه وماله، للحق الذي فى يده؟ وكيف تكون إثابة المحسن وجزاء العامل، إن لم يكن عمل وإحسان؟ إن العدل الإلهى يقضى بأن يجازى المحسن، ويعاقب المسيء..! وفى مجال الصراع بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، يمتاز المحقّون من البطلين، وينعزل الأخيار عن الأشرار.. وإذا كانت معركة بدر قد دارت على تلك الصورة الفريدة بين المعارك، ليثبّت الله بها الراية التي ركزها للإسلام، فإن ما يستقبل المسلمون بعد ذلك من معارك لن يكون على تلك الصورة التي شهدوها يوم بدر، وأن عليهم أن يبلوا بلاءهم مع عدوّهم، وأن يستعينوا عليه بالصبر والتقوى. فذلك هو السلاح الذي وضعه الله فى أيديهم، والذي إن حاربوا به عدوّهم كتب الله لهم النصر، وإن قلّ عددهم، وتضاعفت أعداد قوى الشرّ المتصدية لهم!! هكذا ينبغى أن يعرف المسلمون ما يجب أن يكون عليهم أمرهم، وهم مقدمون على لقاء العدو، الذي جاءهم بكل غيظه وحنقه، ليثأر للهزيمة التي نقيها فى معركة بدر!! وها هم أولاء المسلمون يتأهبون للقاء المشركين، الذين جمعوا جموعهم، يريدون أن يقتحموا بها المدينة، ويدمروها على من فيها من المهاجرين والأنصار! ويستشير النبي أصحابه.. ويكثر القول، ويختلف الرأى، ثم يعلو الصوت القائل بلقاء العدو خارج المدينة، ويرى النبي الكريم أن يستجيب للأغلبية، وإن كان يرى خلاف ذلك، فيلبس لباس الحرب، ويضع لامته على رأسه، ويؤذن أصحابه بأنه خارج معهم إلى لقاء المشركين.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 وهنا يستشعر المسلمون الندم، ويرون أنّهم على أمر لم يكن يريده النبىّ.. فأقبلوا عليه يسألونه أن يكون عند رأيه الذي رآه.. فأبى عليهم ذلك، وقال: «ما ينبغى لنبىّ إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل» .. وذلك أنه أقام أمره على عزيمة، وبهذه العزيمة لبس لبوس الحرب.. وما كان له أن يرجع بعد ما عزم.. فإن هذا الرجوع يعنى انحلال العزيمة، إذ ليس ثمّة ما يمنع بعد هذا أن يعزم عزما آخر، ويعود فليبس عدّة الحرب.. وهكذا تستولى عليه حال من التردد بين الإقدام والإحجام.. وليس بعد هذا اجتماع لعزيمة، أو استقامة على رأى.. وفى هذا ما فيه من ضياع وخذلان، لأى أمر، وفى كل عمل، يدخل عليه التردد من أي باب! ولهذا كان أمر الله لنبيّه الكريم: «وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» (159: آل عمران) قاطعا الطريق إلى التردد بعد العزيمة، التي تجىء عن مناصحة ومشاورة! نقول: خرج النبىّ بأصحابه للقاء العدوّ، ومع المسلمين هذا الشعور الذي وقع فى نفوسهم من حملهم النبىّ على هذا الخروج- الشعور بالندم والحسرة- الأمر الذي لو صحبهم إلى المعركة لأفسد عليهم موقفهم من عدوهم، ولاغتال الكثير من عزمهم وقوّتهم! وهنا يتلقّى الرسول الكريم من ربّه، ما يذهب بمرارة هذا الأسى الذي وجده، ووجده معه أصحابه، فى مجلس الشورى، وما انتهى إليه. فجاء قوله تعالى: «وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ» - جاء قوله تعالى فى هذه الآيات. ليذكّر النبي والمسلمين بما كان لله عليهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 من فضل، فى هذا النّصر العظيم، الذي امتلأت به أيديهم يوم بدر.. وفى هذه الصورة التي ترتفع للمسلمين من معركة بدر، تهبّ عليهم ريح الطمأنينة، وتدخل على قلوبهم السكينة والأمن، فيلقون عدوّهم بعزم جميع، وإرادة مصممة على النصر، واثقة من عون الله وتأييده. وفى تلك الحال التي تمتد فيها أبصار المسلمين إلى معركة بدر، وتتعلق عيونهم بالمشاهد الواردة عليهم من ذكرياتها- تمتلىء أسماعهم بما يتلو عليهم الرسول الكريم، مما يتلقى من آيات ربه: «بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ» .. ويستشعر المسلمون من كلمات الله هذه أنهم من الله على حال غير الحال التي كانوا عليها يوم بدر.. إذ قد جاء وعد الله بإمدادهم بالملائكة يوم بدر غير مشروط بشرط، بل هو وعد مطلق، لا بد من تحقيقه.. وقد تحقق. أمّا هذا الوعد الكريم الذي يتلقونه من الله فى هذا اليوم- يوم أحد- فهو مشروط بشرطين: أن يصبروا، وأن يتقوا.. وتحقيق هذين الشرطين، شرط لتحقيق ما وعدوا به من النصر. إذن فهم مطالبون بشىء جديد، من الصبر والتقوى، غير ما كانوا عليه يوم بدر، وغير ما هم عليه اليوم، من صبر وتقوى.. وإنهم لو أعطوا المطلوب من الصبر والتقوى، لوجدوا فى أنفسهم من روح الله، قوة تعدل خمسة آلاف من تلك القوى التي ساندتهم، وقاتلت معهم يوم بدر! ثم يستمع المسلمون بعد هذا إلى قوله تعالى: «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» فيستشعرون أن تلك الأمداد العلويّة، لا تجىء إليهم من بعيد، وإنما هى شرارات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 من الإيمان والصبر، تنطلق من داخل أنفسهم، فتشتعل بنور الله، فإذا هى قوى يبلغ بها الإنسان فى ميدان القتال، ما لا يبلغ خمسة من الرجال، لا يملكون تلك القوى فى هذا الميدان! وهنا يلتفت المسلمون إلى أنفسهم التفاتا قويّا، يفتشون عن مواطن القوة والضعف فى إيمانهم وصبرهم، حتى يكونوا على الشرط الذي اشترطه الله عليهم، ليمدّهم بالقوة، وليمكّن لهم من عدوهم. وتجىء آيات القرآن الكريم، لتلتقى مع هذا الشعور، الذي يفتش فيه المسلمون عن أنفسهم، ولتكون فى مجال البصر وهم يرتادون مواقع الخير الذي يدنيهم من التقوى، ويمكن لهم من الصبر.. وإذا فى الآيات التي يتلوها الرسول عليهم بعد أن تلقاها من ربّه لساعته- إذا فى هذه الآيات الدواء والشفاء، إذ يقول الله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ» فعلى ضوء هذه الآيات الكريمة، يعرض المسلم نفسه، ويطّلع على ما تكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 قد انطوت عليه مما نهى الله، مما لم يكن يراه، وهو فى زحمة الأحداث المتلاحقة، التي كانت تمرّ بالمسلمين فى تلك الفترة الحرجة من حياة الإسلام- فيعمل على تنقيتها، والخلاص منها.. وقد أشرنا من قبل إلى ما فى هذه الآيات الكريمة من معانى الإحسان، وما تحمل من دواء عتيد لسقام النفوس، ومرضى القلوب! ثم يجىء قوله تعالى بعد ذلك: «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» فيذكر المسلمون من الآية الكريمة أن لله سبحانه وتعالى سننا فى خلقه، لن تتخلف أبدا، وأن من هذه السنن وتلك الأحكام والقوانين التي أخذ الله بها النّاس، ما تضمّنه قوله سبحانه «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى» (39- 41: النجم) .. وما جاء به قوله سبحانه: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» (7- 8 الزلزلة) . وبهذا يرى المسلمون أنهم مطالبون بأن يعملوا وأن يحسنوا ما وسعهم العمل، وما أمكنهم الإحسان، وأن يلقوا عدوّهم بالصّبر وتوطين النفس على الجهاد والتضحية والبذل فى سبيل الله، وأن يشروا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله.. وهنا يأذن الله لهم بالنصر، ويريهم فى عدوّهم ما يحبّون، وإلّا فقد رضوا لأنفسهم بالهزيمة، التي اكتسبوها بالقعود عن البذل والتضحية. وينظر المسلمون فى سنن الله التي خلت فى عباده، وما لهذه السنن من آثار فى تقدير مصائر الأمم والأفراد على السواء، وإذا الّذين كذّبوا بآيات الله، وآذوا رسل الله، قد أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.. قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وأصحاب مدين.. هؤلاء جميعا هم ممن كذبوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 الرّسل، فأخذهم الله بذنوبهم، وأوردهم موارد الهلاك فى الدنيا، ولهم فى الآخرة عذاب النار.. وفى هذا بقول الله تعالى: «فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (40: العنكبوت) .. فهذا هو مصير الذين كفروا بآيات الله وكذّبوا رسله، وإلى مثل هذا المصير يصير أولئك الذين كذّبوا رسول الله وآذوه، ووقفوا منه ومن دعوته هذا الموقف العنادىّ المغرق فى العناد والضلال.. وفى هذا تطمين للمسلمين، وتثبيت لأقدامهم، وأنهم على طريق النصر، إذا هم صبروا واتقوا، وأن أعداءهم إلى البوار والهلاك إن أصرّوا على ما هم عليه من شرك وضلال.. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ» (51: غافر) .. ويقول سبحانه: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» (31: المجادلة) ثم تمتلىء أسماع المسلمين وقلوبهم بعد هذا بقوله تعالى: «هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ» .. فيرجعون إلى هذا البيان الذي استقبلتهم به تلك الآيات، وهم على مشارف المعركة والالتحام بعدوّهم، ويرتلون هذا البيان مرة بعد مرة، فيخلص إليهم منه فى كل مرة ما يزيد إيمانهم إيمانا ويقينهم يقينا، وإذا هم يمضون إلى المعركة فى ثقة وطمأنينة، وفى إصرار على كسب المعركة وبلوغ النصر! وتدور المعركة، وتهبّ ريح النصر على المسلمين، وفى لحظة خاطفة يرون أنهم كسبوا المعركة، فألقى كثير منهم السلاح، وأقبل على الغنائم ينتزعها من بين يدى العدو قبل أن يفرّ بها! ولكن سرعان ما تتبدل الأمور، وتسكن ريح النصر، ويقع المسلمون ليد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 أعدائهم، فيقتلون منهم نحو سبعين قتيلا.. وينكشف الرسول، إذ تتناثر الكتيبة التي حوله، بين قتيل، وجريح، ومهزوم.. ويثبت الرسول الكريم مع فئة قليلة من أصحابه، ويخلص إليه من سهام العدوّ أذى كثير، حتى لتشجّ رأسه، وتنكسر ثنيّته، وينادى منادى المشركين: أن محمدا قتل!! وهنا يستبدّ الهول والفزع بالمسلمين، وتكاد تنتهى المعركة بالهزيمة القاصمة، لولا أن نادى منادى الرسول: أن رسول الله هنا فى المعركة، يقاتل المشركين.. فتثوب إلى المسلمين ألبابهم الشاردة، ويجتمعون إلى رسول الله، ويصمدون معه فى ردّ عدوان المعتدين.. وتكتفى قريش بما نالت، وتقف بالمعركة عند هذا الحدّ، خوفا من أن تدور الدائرة عليها، لو أنها مضت بالحرب إلى آخر الشوط! ويعود النبىّ وأصحابه من المعركة، وقد أصيبوا فى أنفسهم، وفى أصحابهم.. وفى القلوب حزن وأسى، وفى النفوس ضيق واختناق، ويهبّ على المدينة إعصار محموم، يلفّ الناس فى جوّ كئيب، ملفف بالسواد، لا يرى فيه الرائي موقع قدميه! وأين بدر ويومها؟ وأين الوجه الذي استقبلت به المدينة أصحاب بدر، من هذا الوجه الذي تستقبل به أصحاب أحد؟ وتدور فى الرءوس، وعلى الشفاه، خواطر، وهمسات، وغمغمات، تكاد لكثرتها أن تكون هديرا كهدير البحر الهائج، أو عواء كعواء الريح العاصف! وتعلو أصوات المنافقين والكافرين، فتقرع أسماع المسلمين، بالتجديف على الإسلام، والتكذيب لرسول الله، والسخرية بالملائكة التي قيل إنها قاتلت مع المسلمين يوم بدر! فأين رب محمد؟ وأين الملائكة التي يقول إن ربّه يمدّه بها؟ لقد قتل أصحابه، وكاد أن يقتل هو.. فما لربّه لا يدفع عنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 وعن أصحابه ما أصابهم؟ وما للملائكة لا تخفّ لنجدته؟ أم ترى هل تفرّ الملائكة كما يفرّ الناس؟ وهل تهزم كما يهزم المحاربون؟ وكم من الملائكة من قتيل وجريح على أرض المعركة؟ .. إن ذلك ليس إلّا ضلالا فى ضلال، وغرورا فى غرور.. لقد «غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ» (49: الأنفال) فأوردهم موارد الهلاك وسوء المصير!! هكذا كان المشركون والمنافقون يرددون تلك المقولات المنكرة، ويلقون بها- فى شماتة وسخرية- إلى أسماع المسلمين، فتزيد من آلام جراحهم، وتثقل من هموم أنفسهم! والمسلمون فى صمت ووحوم، يمسكون أنفسهم على هموم، ويطوون صدورهم على حسرات وغمرات.. لا يدرون ما يقولون، ولا ما يفعلون!! تلك هى بعض المشاهد التي يمكن أن يرصدها الراصد لهذا اليوم، فيما كان يجرى فى المدينة، وما يدور فى محيط الجماعات التي تأوى إليها، من مسلمين، ومنافقين، ومشركين.. إنها مشاهد أرضية، تسبح صورها وخيالها فى غبار المعركة ودخانها، الذي انعقد فوق المدينة، وخيّم فى سمائها لأيام وأيام! ويتطلع الرسول والمؤمنون إلى السّماء، يرقبون ماذا يجىء من جهتها عن هذا الحدث العظيم.. وماذا كان حسابهم عند الله فيما كان منهم، ولما أخذوا أو تركوا فى هذا اليوم؟ وتقول السماء كلماتها، وتتنزل آيات الله بالحق، يقشع ظلام الباطل، ويفضح ضلال المبطلين، وتتلى كلمات الله فتلتئم بها جراحات المؤمنين،، وتمتلىء بها قلوبهم سكينة ورضى، وإيمانا:! وفى هذه الآيات المنزّلة، عزاء ورحمة وشفاء: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 الآيات: (139- 143) [سورة آل عمران (3) : الآيات 139 الى 143] وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) التفسير: ولا تحتاج هذه الآيات الكريمة إلى شرح أو بيان، لمن يعيش هذه المعركة بمشاعره، ويشارك فيها بوجدانه، ويزن فيها الأحداث بالميزان الذي أقامه الله بين عباده، وأجرى أمورهم عليه! فأولا: لقد اختلف أمر المسلمين فى هذه المعركة.. قبل أن يخرجوا إليها.. وهذا الخلاف- أيّا كان- هو عامل ضعف، وداعية فتور ووهن.. وكان من أولى وصايا الإسلام للمسلمين، أن يحذروا هذا الداء، وأن يجتنبوه فى كل ما يأخذون وما يدعون من أمور: «وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ» (46: الأنفال) . وثانيا: لم يقم أمر المسلمين جميعا فى هذه المعركة على ما وصّاهم الله به، ولفتهم إليه، قبل أن يدخلوا المعركة، وذلك فى قوله تعالى: «بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ» (125: آل عمران) . فثبتت قلة وصبرت.. وتواكلت كثرة منهم، فانهزمت وولت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 وثالثا: أضاف كثير من المسلمين يومئذ معركة أحد إلى معركة بدر، وحسبوها بحسابها.. فما أن رأوا ريح النصر تهبّ عليهم، وتكاد تسلم أعداءهم لأيديهم، حتّى أعفوا أنفسهم من مئونة القتال، وتركوا المعركة للملائكة تتمها كما بدأتها!! وذلك تقدير فيه كثير من البعد عن الطريق الذي أقامهم الله عليه فى تلك المعركة، وهو أن يكسبوها بأيديهم، وبصبرهم وتقواهم. وإنه لو جرت الأمور على هذا التقدير الذي قدّروه، لما كان بلاء ولا اختبار.. ومن ثمّ فلا ثواب ولا جزاء.. إذ بم يثابون؟ وعلى أي شىء يجزون؟ وما فضل المجاهدين على القاعدين؟ بل ما فضل المؤمنين على الكافرين؟ «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» ؟ إن بلاء المؤمنين وجهادهم، هو الذي يكشف عن إيمانهم، ويعطى الدليل العملي لهم وللنّاس، أنّهم مؤمنون حقّا، وأنهم أدوا حقّ هذا الإيمان، بلاء وجهادا. وفى قوله تعالى: «وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» لا يتعلق علم الله بجهادهم وصبرهم. فعلم الله واقع على ما كان منهم وما سيكون قبل أن يكون، ولكن المراد بالعلم هنا، علم المعلوم فى حال وقوعه، أي علمه على الصفة التي وقع عليها.. وهذا وإن كان واقعا فى علم الله، إلا أنه علم غيب لما سيقع، والمراد بالعلم هنا علم الشهادة لما وقع. والذي تضمنته هذه الآيات الكريمة، تعقيبا على هذا الحدث- هو عزاء جميل من الله سبحانه وتعالى للنبىّ وللمؤمنين.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 ففى قوله تعالى: «وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ» نفحة من الله، تنزل على النبىّ وعلى المؤمنين معه، بما يهوّن عليهم كل مصاب، ويجلو عن صدورهم كل همّ وحزن! وهل مع قول العزيز الرحيم: «وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا» يكون ما يوهن ويضعف، أو يبقى ما يسوء ويحزن؟ وسبحانك ربى! ما أوسع رحمتك، وما أعظم فضلك، وما أكثر برّك بالمؤمنين، ورعايتك للمجاهدين!! تبتليهم فى أموالهم وأنفسهم، لتضاعف لهم الأجر، وتعظم لهم المثوبة، ثم تعود بفضلك ورحمتك فتعافيهم مما ابتليتهم به، وتملأ قلوبهم سكينة ورضى ومسرة، بما تسوق إليهم من رحمات وبشريات! وفى قوله تعالى: «وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ» حكم من لدن حكيم عليم، حكم به للمؤمنين أن يكونوا دائما فى المنزلة العليا فى هذه الحياة.. لهم العزة والغلب على أعدائهم أبدا، مصداقا لقوله تعالى: «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» (141: النساء) وفى قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» تثبيت للمؤمنين على الإيمان.. وأنهم إذا ثبتوا على إيمانهم، وأعطوا هذا الإيمان حقّه من الصبر والتقوى، فإنهم لن يهنوا ولن يحزنوا أبدا، وأنهم الأعلون أبدا.. وقوله تعالى: «إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ» هو عزاء آخر للمؤمنين لما أصيبوا به فى أنفسهم، ولما أصيبوا به فى أهليهم.. وأنهم إن يكونوا قد أصيبوا اليوم بما يؤلم ويوجع، فقد أصابوا هم أعداءهم بما يؤلم ويوجع! ثم ليعلم المؤمنون من هذا أن طريقهم فى مسيرتهم مع الإسلام ليست كلها يوما واحدا كيوم بدر، بل إنهم سيغلبون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 ويغلبون، ويقتلون ويقتلون، ويصيبون ويصابون.. وهكذا الدنيا.. وتلك سنّة الحياة فيها.. لا تدوم على وجه واحد، بل هى وجوه متقلبة متغيرة! تقبل وتدبر، وتضحك وتبكى.. وذلك هو الذي يعطى الحياة حيوية، وهو الذي يغرى الناس بالسعي والعمل، لينتقلوا من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع.. ولو أخذ الناس بوضع ثابت مستقر- ولو كان ذلك فى أحسن حال، وأمكن وضع- لماتت فى أنفسهم نوازع التطلعات إلى المستقبل، ولخمدت فيهم جذوة الحماس للكفاح والنضال. وقوله تعالى: «وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ» بيان لحكمة الله من هذا الابتلاء.. ففى هذا الابتلاء، وتحت وطأة القتال، ينكشف إيمان المؤمنين، ويعرف ما عندهم من صدق وبلاء.. فيكتب لهم ما كان فى علم الله، وما وقع منهم، وهو أنهم مؤمنون مجاهدون! وفى قوله تعالى: «وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ» إشارة إلى أن جماعة المؤمنين الذين كانوا مع النبىّ فى أحد- كانوا جميعا على درجة عالية من الإيمان، وأنّ أنزلهم درجة فى هذا الإيمان كان مؤهلا لأن يكون فى عداد الشهداء، ولهذا جاء قوله تعالى: «وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ» خطابا لهم جميعا، وكان نسق النظم أن يجىء هكذا: «وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ» ، ولكنّ هذا يعزل بعض المجاهدين عن أن يكونوا فى المؤمنين، الصالحين لأن يتخذ الله منهم شهداء.. وفى قوله تعالى: «وَيَتَّخِذَ» إشارة كريمة إلى هذا المقام الكريم الذي يرتفع إليه الشهداء، وأنهم خيار المؤمنين، والمصطفين منهم، ولهذا اتخذهم الله شهداء.. إذ الاتخاذ أخذ عن اختبار واختيار.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» تحريض للمسلمين على قتال المشركين، واحتمال المكروه فى سبيل إضعافهم أو القضاء عليهم، لأنهم ظالمون لأنفسهم، بصرفها عن الهدى إلى الضلال، وظالمون للإنسانية إذ هم قوى شريرة عاملة على طمس معالم الهدى وصدّ الناس عن الخير.. «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» ومن لا يحبّه الله فهو عدو لله، يجب على أولياء الله أن يعادوه، ويخلّصوه من الذي فى يديه، يرمى به نفسه، ويصيب به الناس. وقوله تعالى: «وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ» أي من تمام حكمة هذا الابتلاء فيما بين المؤمنين والكافرين أن يمحّص الله المؤمنين بهذا الابتلاء، وينقيهم من دخائل الضعف والوهن، بملاقاة الشدائد والصبر عليها، كما أن فى هذا الابتلاء إضعافا لشوكة الكافرين وتوهينا لقوى البغي والعدوان، المتربصة بالإيمان وبالمؤمنين. وقوله تعالى: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» بيان آخر للحكمة من هذا الابتلاء الذي ابتلى الله به المؤمنين، فى قتال الكافرين، وهو أن هذا الابتلاء هو الذي يكشف عن إيمان المؤمنين، وصبرهم على المكروه، واحتمالهم الأذى فى سبيل الله، وذلك هو الذي يميز الخبيث من الطيب، ويجعل لكلّ مكانه عند الله.. فالجنة للمجاهدين الصابرين.. والنار للمشركين المعاندين. وقوله تعالى: «وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» . هو عتاب رقيق للمؤمنين الذين شهدوا القتال فى أحد، ثم تحوّل بعضهم عن موقف الموت، إلى حيث السلامة وجمع الغنائم، بعد أن لاحت بوارق النصر للمؤمنين: كما أن كثيرا منهم ترك القتال بعد أن بانت الهزيمة فى جانب المسلمين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 فلقد كان كثير من المسلمين الذين شهدوا أحدا، ولم يكونوا قد شهدوا بدرا- كانوا يأسفون على أن فاتهم حظّهم من الجهاد فى معركة بدر، وتعرضهم للاستشهاد فى سبيل الله.. فخرجوا إلى أحد على نية الاستشهاد.. فلما كان من هؤلاء وهؤلاء، ما كان فى أحد، من إقبال على الغنائم، أو فرار من المعركة- كان هذا العتاب الرقيق من الله سبحانه وتعالى لهم، ليذكّرهم بأنهم قالوا ولم يفعلوا، وهذا موقف لا يرضاه الله لهم، إذ يقول سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ» (2- 3: الصف) وفى قوله تعالى: «فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» تأسيف وتنديم، لأولئك الذين فاتهم الاستشهاد فى «أحد» وأنهم قد ضنوا بأنفسهم عن هذا المقام الكريم، حتى لقد اكتفوا بأن يروا الموت فى غيرهم وهم ينظرون إليه من بعيد! الآيتان: (144- 145) [سورة آل عمران (3) : الآيات 144 الى 145] وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) التفسير: حين مال المشركون على المسلمين يوم أحد، وأخذوهم بسيوفهم وسهامهم، وسقط شهداؤهم الذين كانوا إلى جوار رسول الله- تنادى المشركون أن محمدا قتل!! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 وكان لهذا الخبر الكاذب وقعه على المسلمين، فاضطربت لذلك صفوفهم، ووقع كثير منهم تحت وطأة الحزن والكمد، فهام على وجهه يطلب الفرار من وجه هذا الهول الصاعق.. إذ كانوا- وهم يعلمون أن محمدا ميت وأنهم ميتون- غير مستعدّين، نفسيا، وهم فى معمعة المعركة، ووجودهم كله مستغرق فيها- كانوا غير مستعدين أن يتلقوا هذه الصدمة المزلزلة، وأن يصدقوها، وإن كانت حقّا، لا يمترون فيه ولا يشكّون! فكان عتاب الله لهم على ما كان منهم فى هذا الموقف، عتابا رقيقا، يحمل فى طياته الرحمة والمغفرة.. فما لقيهم الله بالعتاب إلا بعد أن ردّهم إلى الحق الذي عرفوه وآمنوا به، وإن كان قد غاب عنهم، أو ذهلوا عنه فى هذا الموقف الرهيب! «وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ» .. وما الرّسل إلا ناس من الناس، وبشر من البشر.. يموتون كما يموت سائر الناس، وقد مات الرسل جميعا، ولا بد أن يموت محمّد. «أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ» .. فكيف إذا مات محمد أو قتل تتحولون عن مواقفكم، وتنقلبون على أعقابكم تاركين ما دعاكم إليه، وأقامكم عليه من الجهاد فى سبيل الله؟ إن ذلك غير مستقيم مع منطق أبدا!! «وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً» فهذا حكم الله.. إن من ينقلب على عقبيه فيكفر بالله بعد إيمانه، أو ينكص عن الجهاد بعد موت النبي، فلن يضر الله شيئا.. إن الله غنى عن العالمين. والعدول بالخطاب من الحضور إلى الغيبة، وصرفه عن الماضي إلى المستقبل- فيه ما فيه من لطف الله، ورحمته وإحسانه، بل ورضاه عن المسلمين الذين شهدوا أحدا، وشمولهم جميعا بهذا الصفح الجميل، والرضوان العظيم.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 وفى قوله تعالى: «وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ» لطف فوق هذا اللطف، ورحمة فوق هذه الرحمة، وإحسان فوق هذا الإحسان!! فالمسلمون الذين شهدوا أحدا، قد تلقوا ألطاف الله هذه، بالشكر العظيم، وهم إذ يشكرون الله على رحمته بهم وفضله عليهم مجزئّون جزاء الشاكرين. «فالشاكرون» هنا- وإن صح إطلاقها على كل شاكر- متجهة أولا وقبل كلّ شىء إلى هؤلاء الذين انتظمهم جيش رسول الله، فى معركة أحد! ثم كان قوله تعالى: «وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا» عزءا جميلا للمسلمين، وتسرية عنهم لما أصيبوا به فى أحد. فهؤلاء الذين استشهدوا فى سبيل الله قد ظفروا بالشهادة، دون أن ينقص ذلك من أجلهم ساعة واحدة.. فما تموت نفس على أي وجه من وجوه الموت، دون أن تستوفى أجلها المقدور لها «لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ» (38: الرعد) .. «لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» (49: النحل) فمن أراد ثواب الدنيا واستيفاء حظه منها، ففرّ بنفسه عن مواطن الابتلاء، فله ما أراد، دون أن يزيد ذلك من عمره شيئا.. ومن أراد ثواب الآخرة، مجاهدا فى سبيل الله، يستقبل الموت ولا يستدبره، فله ما أراد، ولن ينقص ذلك من أجله شيئا!! وفى قوله تعالى: «وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ» إشارة إلى المؤمنين الذين عرفوا هذه الحقيقة واستيقنوها، فشكروا الله على ما أقامهم به على طريق الجهاد، ونظمهم فى صفوف الشهداء، ووفاهم أجرهم، دون أن يستقضيهم ذلك ساعة واحدة من آجالهم التي حرص عليها غيرهم، ممن نكص عن الجهاد، وارتدّ على عقبه، فرارا من الموت، الذي هو طالبه حين يستوفى أجله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 الآيات: (146- 148) [سورة آل عمران (3) : الآيات 146 الى 148] وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) التفسير: فى الآيات السابقة كان من الله، هذا العتاب الرفيق، الذي يحمل الإعتاب والرضا، ويسوق الإحسان والرحمة، ويبعث فى صدور المسلمين دفء الأمل بالنصر للإسلام، والإعزاز للمسلمين، فيجدون فى هذا كلّه العزاء الجميل لما أصابهم من جراح، فى أجسامهم، ولما وقع فى نفوسهم من مرارة الهزيمة، وعلوّ يد الكافرين عليهم فى هذه المعركة، معركة أحد.. وهنا، فى قوله تعالى «وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ» صورة اخرى من صور العزاء والتّسرية عن المسلمين، بما تحمل إليهم كلمات الله من مواقف الإيمان والصّبر، للمؤمنين فى الأمم التي خلت، ممن صدّق الرسل وجاهد فى سبيل الله. والربّيون: جمع ربّىّ، وهو من آمن بالله، وأضاف نفسه إلى ربّه، متوكلا عليه، مستقيما على صراطه. فكثير من هؤلاء المؤمنين من أتباع الرسل، كانوا مع الأنبياء مجاهدين فى سبيل الله، لم يهنوا ولم يضعفوا، مهما نزل بهم من شدائد أو وقع عليهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 608 من بلاء. وهؤلاء هم ممّن يحبّهم الله ويوسع لهم فى منازل رضوانه ورحمته: «وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ» وفى قوله تعالى: «وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» إشارة إلى ما ينبغى أن يكون عليه موقف المجاهدين الصابرين، حين يكربهم الكرب، ويشتدّ بهم البلاء.. لا يذكرون غير الله، ولا يلتفتون إلا إليه، طالبين عفوه ومغفرته، وتثبيت أقدامهم فى موطن الجهاد، حتى لا تنزع بهم نفوسهم إلى أن يولوا الأدبار، وأن يطلبوا السلامة والنجاة. وفى طلبهم أن يغفر الله لهم ذنوبهم، وإسرافهم فى أمرهم- أي خروجهم عن سواء السبيل فى بعض أحوالهم- فى طلبهم هذا، وفى جعله مفتتح دعائهم، اعتراف ضمنىّ بأن شيئا ما دخل على إيمانهم، فأدخل الوهن والضعف عليهم- وإن لم يهنوا ولم يضعفوا- وباعد بينهم وبين النصر المرجوّ على عدوهم.. فهم فى هذا الدعاء يضرعون إلى الله أن يغفر لهم ذنوبهم، وأن يتجاوز عن سيئاتهم، فإذا استجاب الله لهم ذلك، طهرت نفوسهم، واستقامت طريقهم إلى الله، واشتد قربهم منه، وكان لهم أن يطلبوا إلى الله أن يثبت أقدامهم، وأن يمسك بهم على هذا الطريق الذي استقاموا عليه.. وهذه الحال التي تنكشف عن موقف المؤمنين من أتباع الرسل تلقى على المؤمنين الذين شهدوا أحدا ظلالا من الاتهام، واللّوم، والعتاب، لما وقع فى نفوس بعضهم، وما جرى على ألسنة بعض آخر.. من وساوس الشك والريبة.. فقال قائل: «أَنَّى هذا؟» (165: آل عمران) وقال آخرون: «لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا» (154: آل عمران) .. لقد نظر هؤلاء وأولئك إلى غير ما كان ينبغى أن ينظروا إليه.. لقد نظروا إلى غيرهم، وألقوا باللائمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 عليه.. ولم ينظروا إلى أنفسهم ليبحثوا عما وقع فيها من خلل، كما كان يفعل المؤمنين قبلهم من أتباع الرسل، حين تنزل بهم الشدائد، وتتوالى عليهم المحن. وفى قوله تعالى: «فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» مشهد كريم، يعرض على أنظار المسلمين، لمن آمن بالله واستقام على طريقة، حتى إذا استشعر أن يد الله قد تراخت عنه، اتّهم نفسه، وأيقن أن خللا وقع فى صلته بالله، فبادر فأصلحه، وصالح الله، فوجد العفو والمغفرة، ثم أصاب النصر والظفر.. وهؤلاء المؤمنون الذين جاهدوا مع رسل الله، وكان شأنهم عند اشتداد المحن، وقسوة البلاء، العودة إلى الله بإصلاح أنفسهم- هؤلاء قد أعزّهم الله فى الدنيا، فكتب لهم النصر على عدوهم، وأجزل لهم المثوبة والرضوان فى الآخرة، لما كان منهم من صبر على البلاء، وثبات فى وجه الموت. الآيات: (149- 150- 151) [سورة آل عمران (3) : الآيات 149 الى 151] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) التفسير: وفى هذه الآيات يرى لله المؤمنين موقفهم من الكافرين، فيحذّرهم من أن يستمعوا إلى ما يتخرّصون به، وما يلقون إلى أسماع الناس من تعليقات خبيثة على معركة أحد، وما أصاب المسلمين فيها.. فإن الاستماع إلى هذه المقولات، والاطمئنان إلى قائليها يوهن إيمان المؤمنين، ويفسد عليهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 610 أمرهم، فلا يلقون إلا الخذلان والخسران! ثم إذا استجاب المسلمون إلى ما دعاهم الله إليه من تجنب الكافرين والحذر منهم.. لفثهم الله سبحانه إليه، ودعاهم إلى الاعتصام به، والاعتزاز بالاعتماد عليه والثقة فى نصره: «بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ» . وفى قوله تعالى: «بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ» دعوة من الله إلى المؤمنين أن يلوذوا به، فإنه سبحانه لم يؤاخذهم بما كسبوا، ولم يبعدهم عن حظيرة محبّته ورضوانه، فهو مولاهم، وهو الذي يثبّت أقدامهم، ويمنحهم النصر على عدوهم «وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ» . أما هؤلاء المشركون، الذين خيل إليهم أنهم كسبوا المعركة، وفرغوا من أمر الإسلام والمسلمين- فإن لهم يوما تتنكس فيه راية الشرك إلى الأبد، فيذلّ المشركون فى هذه الدنيا، والنار مثوى لهم يوم يقوم الناس لرب العالمين.. فهؤلاء المشركون، سيملأ الله قلوبهم رعبا، بما حملوا من شرك، وبما عبدوا من ضلالات.. إذ أن الشرك بقتل فى صاحبه كل معانى الإنسانية، ويقيمه فى هذه الدنيا مقاما قلقا مضطربا، لا يجد ما يستند إليه عند الشدائد والمحن. وما ظنّك بإنسان- إذا كربه الكرب، ونزلت به النوازل- فزع الى حجر يعبده؟ أو إلى حيوان يسجد بين يديه؟ وأين هذا ممن يمدّ يده إلى مالك الملك، ويفزع إلى من بيده ملكوت السموات والأرض؟ وشتّان بين هذا وذاك.. فالمشرك يدعو من لا يملك ضرّا ولا نفعا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 611 ويهتف بمن لا يستجيب له إلى يوم القيامة.. أما المؤمن فيدعو ربّ الأرباب، ومدبّر الأكوان، والآخذ بناصية كل كائن، والقائم على كل موجود. الآية: (152) [سورة آل عمران (3) : آية 152] وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) التفسير: فى أولى الآيات التي استفتح الله بها ذكر تلك المعركة- معركة أحد- جاء قوله تعالى: «بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ» .. وكان هذا وعدا من الله المؤمنين بالمدد العلوىّ، الذي يحمل معه النصر لهم. وقد جاء هذا الوعد مشروطا وأنه لن يحققه الله لهم إلا إذا وفوا بهذا الشرط، وهو أن يصبروا ويتقوا.. وقد صبر المسلمون فى أول القتال، وأعطوا أنفسهم كلها للمعركة.. فصدقهم الله وعده، وأراهم بشائر النصر.. فإنه منذ الساعات الأولى من القتال استولى المسلمون على زمام المعركة، وبدأت طلائع بدر تطل عليهم، فقتلوا مقتلة عظيمة فى المشركين، وأدخلوا فى صفوفهم الخلل والاضطراب، حتى همّوا بالهزيمة والفرار، وأخلوا أيديهم مما معهم من متاع.. وإذ ذاك امتدت أبصار كثير من المسلمين إلى هذا المتاع الذي تخلّى عنه أهله، وكان الأولى بهم أن يلتفتوا إلى رءوس المشركين أولا، فيزيلوها عن مكانها، فهذا هو الأمر الذي ندبهم الله له، وانتظموا فى سبيل المجاهدين من أجله!! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 612 وإذن فقد تخلّى المسلمون عن الشرط الذي اشترطه الله عليهم ليمنحهم نصره.. فكان أن تخلّى عنهم النصر، واستقبلتهم الهزيمة..!! وفى قوله تعالى: «إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ» إشارة إلى ما فعل المسلمون بالمشركين أول الأمر، وأنهم حصدوهم حصدا.. فالحسّ معناه: القتل الذّريع الكثير.. وقوله تعالى: «حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ» يشير إلى ما كان من جماعة الرّماة التي جعلها الرسول الكريم من وراء جيش المسلمين، تحمى ظهورهم من أن يأخذهم كمين من العدو على غرّة، وقد وصّى النبىّ هؤلاء الرماة أن يلزموا أماكنهم، وألا يتحولوا عنها بحال أبدا، سواء انتصر المسلمون أو انهزموا. ولكن الذي كان من الرماة غير هذا.. فإنهم ما كادوا يرون الهزيمة فى المشركين، ويرون الأسلاب والغنائم وقد تخلّى عنها أصحابها، حتى قال قائل منهم: ما موقفنا هنا، وقد ولّى المشركون وانهزموا؟ وقال آخرون: إن الرسول لم يلزمنا أن نكون حيث نحن إلا لنحمى ظهر المسلمين من العدو.. فأين هذا العدوّ؟ وقال رئيس الجماعة، وهو عبد الله بن جبير: «يا قوم.. الزموا أماكنكم كما أمرنا رسول الله، ولا تتحولوا عنها..» فأبى عليه كثيرون، وتركوه فى نفر من أصحابه.. وما هى إلا لحظات حتى رأى خالد بن الوليد، - وكان على فرسان المشركين- رأى موقف الرماة يكاد يكون خلوا فاستدار إليهم بمن معه من فرسان، فاستقبله عبد الله بن جبير، ومن معه، مقاتلين، حتى استشهدوا جميعا، رحمهم الله. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 وفى قوله تعالى: «ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ» إشارة إلى أن تحوّل المعركة من جانب المسلمين إلى المشركين كان عن حكمة أرادها الله، وهى أن يبتلى المؤمنين بهذا البلاء، وأن يضعهم أمام تجربة يواجهون فيها الشدائد والمحن، ليروا ما عندهم من صبر واحتمال، وليسدّوا الخلل الذي يجدونه فى أنفسهم، استعدادا للمعارك المقبلة بينهم وبين المشركين. وفى قوله تعالى: «وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ» إشارة أخرى إلى أن ما كان من المسلمين من تحول عن القتال، وانصراف إلى الغنائم، وإن كان مما كسبته أيديهم- قد عفا الله عنه، وتجاوز عن مقترفيه، لأنهم كانوا مقهورين تحت إرادة غالبة لله، فى هذا الذي كان منهم، ليكون لهم فيه درس نافع فى لقاء المشركين بعد هذا.. وفى توكيد فعل العفو باللام الموطئة للقسم، وبحرف التحقيق قد- «ولقد» - إظهار لسعة رحمة الله، وتمام فضله على عباده، المجاهدين فى سبيله «وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» يغفر لهم، ويتجاوز عن سيئاتهم، ويعيدهم إليه إذا بعدت الطريق بهم عنه. الآيتان: (153- 154) [سورة آل عمران (3) : الآيات 153 الى 154] إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 التفسير: فى قوله تعالى: «إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ» تذكير للمسلمين بما كان منهم فى هذه المعركة- معركة أحد- وغمزة عتاب لهم على أن فرّوا صاعدين الجبل، لا يلوون على أحد، أي غير ملتفتين إلى من وراءهم.. وإن وراءهم إخوانا لهم صمدوا للمشركين، واستقبلوا الموت راضين.. بل وراءهم، نبيّهم يواجه العدوّ وحده فى بضعة رجال من أصحابه.. فكيف يفرّون؟ ثم إذا كانت منهم فرّة أفلا كانت منهم لفتة إلى النبىّ وقد أحاط العدوّ به؟ ثم ألا كانت منهم كرّة إلى العدوّ، يدفعون يده الضاغطة على رسول الله ومن معه؟ وهل شىء أحبّ إلى المسلم وأعزّ عنده من النبىّ.. ولو كانت نفسه التي بين جنبيه؟ إن ذلك خيانة للنفس ذاتها، وتضييع لها، بسلبها هذا الشرف العظيم، شرف الدفاع عن رسول الله، والموت فى موطن الدفاع عنه! وفى قوله تعالى: «وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ» مواجهة صريحة للمسلمين الذين فرّوا صاعدين فى الجبل، وأنهم أمعنوا فى الفرار، وبعدوا عن ميدان المعركة.. حتى لا يكاد صوت الرسول يبلغ مؤخرتهم وهو يهتف بهم: إلىّ عباد الله!! وقوله تعالى: «فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ» . الإثابة من الثواب، وهو الجزاء على عمل الإحسان بالإحسان! وفى التعبير بالإثابة عن الغمّ بالغمّ، إثارة لمشاعر الندم عند هؤلاء المسلمين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 الذين فرّوا، لما فاتهم من الثواب العظيم الذي كان لهم أن يحصلوا عليه فى هذا الموطن، لو أنهم صبروا، وثبتوا. ونعم إنهم أثيبوا.. ولكن لا يكادون يمدون أيديهم إلى هذا الثواب حتى يجدوه غمّا!! فأى ثواب هذا؟ إن ذلك هو ما يمكن أن يجازوا عليه إن كان لهم أن يطلبوا مثوبة على ما كان منهم!! والغم الذي جوزوا عليه بغم.. هو ما كان فى فرارهم الذي رآه النبىّ فاغتمّ له.. وأما الغم الذي كان جزاء لهم.. فهو ما وقع فى نفوسهم من حسرة وألم، حين انكشف لهم موقفهم، وعاينوا الآثار السيئة التي نجمت عن فعلتهم تلك، والتي نفذ منها المشركون إلى المسلمين، وأوقعوا الهزيمة بهم. وهذه الحسرة التي ملأت قلوبهم، وذلك الألم الذي استولى على كيانهم، قد غطّيا على كلّ ما أصيبوا به فى هذا الموطن.. فلم يبالوا بعد هذا بالغنائم التي أفلتت من أيديهم، ولم يهتمّوا لما أصيبوا به فى أنفسهم، وفى إخوانهم، بعد أن استجابوا الرسول، وأقبلوا إليه، يقاتلون معه، ويتلقون عنه، سهام المشركين، وسيوفهم. ولقد كان هذا الغمّ الّذى وجدوه فى أنفسهم حاجزا تتحطم عنده كل واردات الهمّ والحزن لما فاتهم، ولما أصابهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ» .. وفى هذا رحمة بهم، وفضل من الله عليهم.. بل هو ثواب فى مقام العقاب، وجزاء حسن فى معرض الحساب والمؤاخذة! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 616 وهكذا يلقى الله عباده وأولياءه فى كل موطن.. يلقاهم بالخير دائما، وبالفضل والإحسان فى كل متّجه، حتى ولو كانوا على غير ما يحبّ الله منهم.. فإنه إذّاك يعاقبهم، ولكنه عقاب كلّه رحمة، وكلّه خير، إذ يعالج هموما، ويدفع آلاما. وأكثر من هذا.. فإن هذا الغمّ الذي «أثاب» الله به أولئك المؤمنين يومئذ، لم يكن إلا دواء، وفى الدواء مرارة.. شأن كل دواء.. ومع هذا، فإن رحمة الله بهم لم تدع هذه المرارة تسكن فى نفوسهم، وتستقر فى كيانهم.. فما هى إلا أن يفعل الدواء فعله فى تسكين الداء، وفى الذهاب به، حتى تجىء رحمة الله فتنتزع تلك المرارة وتذهب بها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ» فقد ألقى الله على المسلمين وهم فى ذروة المعركة خفقة من نعاس، مرّت بهم مرور النسمة العليلة، فملأت قلوبهم سكينة وأمنا، ومسحت على أجسامهم بيد السلامة والعافية!! وعجب أن يطوف النعاس بجفن المحارب، والرّماح تنوشه، والسّهام والسيوف تتعاوره.. ولكنه القلب حين يستخفّ بالموت، والإيمان حين يرتفع بالإنسان فوق هذا التراب الذي تدبّ فوقه قدماه، فإذا هو محلّق فى السماء، يعلو فوق كل خطر، ويسمو فوق كل شدّة!! والطائفة التي تشير إليها الآية الكريمة، والتي أفرغ الله فى قلوبها هذا الأمن، وساق إليها تلك الخفقة من النعاس، هى الطائفة التي ثبتت مع النبي، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 617 سواء من كان منها الذي ثبت طوال المعركة كلّها، أو من انهزم أو فرّ، ثم عاد إلى مكانه من القتال.. وهناك طائفة أخرى، ممن كانوا مع المسلمين أول الأمر، وعلى رأسهم عبد الله بن أبىّ بن سلول، فإنهم حين أوشك القتال أن يلتحم بين المسلمين وبين المشركين، انحاز بهم صاحبهم جانبا، متذرّعين بتلك الكلمة المنافقة، التي حكاها القرآن الكريم عنهم. فى قوله تعالى: «لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ» (166: آل عمران) وهم يعلمون يقينا أن القتال وشيك بين المسلمين وبين المشركين. ولكنهم لكى يجدوا لأنفسهم عذرا فى النكوص على أعقابهم قالوا تلك القولة الكاذبة التي حكاها القرآن عنهم.. هذه الطائفة لم يكن لها من هذا الأمن الذي سكبه الله فى قلوب المؤمنين، نصيب، وهى التي أشار الله سبحانه وتعالى إليها بقوله: «وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا» . فهذه الطائفة، طائفة ابن سلول، قد أهمتهم أنفسهم، ولم يكن همّهم الإسلام، ولا الدفاع عنه.. بل طلبوا السلامة لأنفسهم أولا، فتجنبوا المعركة، ووقفوا بعيدا ينتظرون من تدور الدائرة عليه، من الفئتين المقاتلتين. وفى قوله تعالى: «يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ» اتهام لهؤلاء الذين أهمّتهم أنفسهم، ومواجهة لهم بالجرم الذي ارتكبوه.. إنهم يظنون بالله ظنّ السّوء، فيكذّبون بما وعدهم الله به، وينظرون إلى الله تلك النظرة الباردة التي كانوا ينظرون بها إلى آلهتهم من الأصنام التي كانوا يعبدونها، فيجعلون حساب الله عندهم كحساب هذه الأصنام، حتى لكأن الإسلام لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 618 يغيّر من حالهم فى جاهليتهم شيئا.. وفى قوله تعالى: «يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ» كشف لبعض ظنونهم السيئة بالله.. فهم يسألون فى استبعاد واتهام «هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ؟» .. والأمر الذي يسألون أو يتساءلون عنه هو أمر النصر والغلب الذي وعد الله به النبىّ والمؤمنين.. وقد أمر الله الرسول أن يجيبهم بقوله تعالى: «قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ» .. فلو كانوا مؤمنين بالله حقّا لما سألوا هذا السؤال، ولعلموا أن كل شىء بيد الله، وليد الله.. ولكان عليهم أن يستقيموا على ما دعاهم الله إليه من الجهاد، معتصمين بالصبر والتقوى.. ثم ليستقبلوا ما يكون بعد ذلك من نصر أو هزيمة، فإن كان النصر، حمدوا الله وشكروا له، وإن كانت الهزيمة أسلموا أمرهم لله، وصبروا على ما أصابهم.. وقالوا قولة المؤمنين عند لقاء الأمور على وجوهها المختلفة: «كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» (78: النساء) وقوله تعالى: «يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ» يكشف للنبىّ عن دخيلة هؤلاء الضعاف الإيمان، وأنهم يقولون فى أنفسهم، أي فيما بين المرء ونفسه، أو فيما بين بعضهم وبعض- يقولون شيئا غير هذا الذي واجهوا به النبي والمسلمين فى قولهم: «هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ؟» فهذا السؤال على ما فيه خبث، وضعف إيمان، يمكن أن يقبل منهم، ويحمل على الجهل وسوء الظن بالله.. ولكن الذي يدور فى أنفسهم، ويجرى فيما بينهم، هو اتهام صريح لله، وتجديف عليه، يكاد يكون ردّة عن الإسلام.. وهذا ما فضحه الله منهم وأعلنه على العالمين، فى قوله سبحانه: «يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا» . إنهم- هنا- يقولونها صريحة، بأن ما وعدهم الله لم يكن إلا غرورا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 619 وأنه لو كان هذا الوعد حقّا، لما كانت هذه الدائرة التي دارت على المسلمين، وذهبت بكثير من النفوس. وفى قولهم: «ما قُتِلْنا هاهُنا» بإضافة القتل إليهم، مع أنهم لم يقتلوا، بل ولم يقاتلوا- فى هذا القول ما يكشف عن مدى إيمانهم بهذا القول المنكر، وأنه هو القول الذي كان ينبغى أن يكون لسان حال المسلمين جميعا، حسب تصويرهم وتقديرهم. وقد ردّ الله عليهم بقوله: «قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ» أي أن هذا القتل الذي وقع فى المسلمين لم يكن يعصمهم منه عاصم، فما هو إلا أجل قد انقضى، وموت أنهى هذا الأجل عند انقضائه، على الصورة التي قضى الله أن ينتهى به عليها.. فهؤلاء الذين استشهدوا فى أحد، قد كتب الله عليهم أن يقتلوا فى هذا الوقت، وفى هذا المكان، وأن يكرموا بالشهادة.. وليس فى الوجود قوة تمنع قضاء الله أن ينفذ على الوجه الذي أراده، وقضى به.. وقوله تعالى: «وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ» معطوف على مفهوم من قوله تعالى: «لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ» .. أي لو لزمتم بيوتكم، وأصررتم على التزامها، لدعا قضاء الله الذي قضاه على هؤلاء الذين قتلوا، أن يخرجوا إلى حيث التقوا بالعدوّ، وإلى حيث دارت المعركة، وسقط القتلى، فذلك أمر قضى الله به فيمن أراد قتله، وليبتلى ما فى قلوبكم أيها المجدفون على الله، من ضعف، وليخرج ما فى صدوركم من نفاق.. فلولا هذه المحنة وما كان فيها، لما ظهر ضعف إيمانكم، ولما استعان نفاقكم للمؤمنين.. وهذا بعض حكمة الابتلاء الذي يبتلى الله به المؤمنين، فيما فرضه عليهم من جهاد الكافرين والمنافقين! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 620 وفى قوله تعالى. «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» بيان لسعة علم الله، ونفوذه إلى كل خفىّ.. فعلم- سبحانه- لا يقف عند ظواهر الأشياء، ولكنه ينفذ إلى كل ذرة من ذراتها، وإلى كل دقيقة من دقائقها. وذات الشيء: حقيقته. وكنهه، وما اشتمل عليه من أسرار وخفايا، وذات الصدور، حقيقتها، وما تلبّس بها من خفايا وأسرار.. فالصدور وما تكنّ، والضمائر وما تجنّ، يعلم منها الله ما لا يعلم صاحبها.. فسبحانه، سبحانه، وسع كل شىء علما!! الآيات: (155- 158) [سورة آل عمران (3) : الآيات 155 الى 158] إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) التفسير: هنا يلتفت الله سبحانه إلى المؤمنين، بعد أن كشف لهم عن موقف المنافقين، الذين يعيشون معهم بهذا الثوب الرقيق الذي يلبسونه من نسيج الإسلام! وفى هذه اللفتة يرى الله المسلمين جماعة منهم ضعفوا عند لقاء العدو، فتحول بعضهم عن مكانه إلى حيث السّلب والغنائم، وانهزم بعضهم وفرّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 621 مصعّدا فى الجبل.. فهؤلاء جميعا كانوا موضع لوم وعتب بين جماعة المسلمين الذين ثبتوا للعدو، وصمدوا لضرباته.. وقد كثر القول فيهم، وتضاربت الآراء فى إيمانهم! وتلك حال جدير بها أن تمزّق وحدة المسلمين، وأن تفتّ فى عضدهم، بل وأن تذهب ببعض نفوسهم همّا وكمدا. وتجىء رحمة الله، فتهب هؤلاء الملومين عفوا ومغفرة. وتنقلهم من هذه العزلة الباردة القاتلة، إلى حيث دفء الطمأنينة، وروح السلامة والعافية.. وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ» . فهؤلاء الذين تولوا يوم القتال، إنما كان ذلك منهم لما مكّنوا للشيطان من أنفسهم، ببعض ما كسبوا من سيئات! وهذا يعنى أن المؤمن الحريص على إيمانه، الحارس له من نزعات الهوى، هو فى حصن حصين من أن ينفذ الشيطان إليه، ويوسوس له، ويستولى على زمام أمره..، إن المعاصي التي يرتكبها المؤمن، هى قذائف مدمرة، تدك حصون إيمانه، فيجد الشيطان طريقه إليه، ثم يرميه الرمية القاتلة. وفى قوله تعالى: «وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ» إعلان كريم، من رب كريم، بالصلح الجميل، والمغفرة الواسعة، التي تصحح إيمان المؤمن، وتعيد بناءه أقوى قوة، وأشدّ صلاية! وفى قوله سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ» إعلان آخر عن سعة رحمة الله ومغفرته، وأنها تسع العصاة كما تسع الطائعين.. فحلمه يستدعى مغفرته أن تغفر للمذنبين، ولا تأخذهم بما اقترفوا، حتى يعذروا بهذا الصفح وتلك المغفرة، مرة، ومرات.. ونجد فيما كان من رحمة الله ومغفرته لهؤلاء الذين استزلّهم الشيطان- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 622 نجد فى هذا، كيف كان علم الله بما فى الإنسان من ضعف، وأنه فى معرض الخطأ والزلل، وذلك مما يقيم له عذره عند الله، فيمنحه عفوه ومغفرته، فإن هفا هفوة، أو زلّ زلة، أقال الله عثرته، وأنهضه من كبوته، وأعاده إلى حظيرة الإسلام، ولو تركه لشرد وضلّ، وهلك.. وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا» . دعوة للمؤمنين أن يتجنبوا وساوس الكافرين الذين لا يؤمنون بقضاء الله، ولا يستسلمون لقدره.. فإذا مات لهم ميت أو قتل لهم قتيل، وهو يجاهد فى سبيل الله- قالوا هذا القول المنكر، الذي حكاه القرآن عنهم: «لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا» .. وهذا ضلال فى الرأى، وكفر بالله، ودفع لقضائه.. فقد مات من مات وقتل من قتل، حين استوفى كل أجله.. وهذا الضلال فى الرأى، إنما هو- فوق أنه كفر بالله- هو مبعث حسرة وندم، تمتلىء بهما قلوب الكافرين كمدا وألما أن ذهب إخوانهم فى هذا الوجه، فكان ذلك سبب موتهم أو قتلهم، ولو أقاموا معهم ما ماتوا وما قتلوا: «لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ» ولو أنهم عقلوا وآمنوا، لعلموا أن الموت والحياة بيد الله، ليس لأحد شأن أو تدبير فيهما: «وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» قد أحاط علمه بكل شىء، ونفذ حكمه فى كل شىء! وهذا من شأنه أن يدعو الإنسان إلى التسليم والرضا بالشر والخير، والضرّ والنفع. والسؤال هنا: كيف يكون منهم قول لأولئك الذين قتلوا أو ماتوا؟ وكيف يسمّون بإخوانهم، وهؤلاء كافرون وأولئك مؤمنون؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 وللإجابة عن الشقّ الثاني من السؤال يتكلف النحاة القول بأن اللام فى «لإخوانهم» بمعنى «عن» والتقدير على هذا: أنهم قالوا عن إخوانهم الذين قتلوا أو ماتوا هذا القول: «لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا» وبهذا التخريج أخذ المفسرون. ونحن لا نقبل أن تخضع كلمات الله لمثل هذا التمحّك الذي يمكن أن يحمل عليه كل كلام.. وننظر فنجد القرآن الكريم يعيد هذا القول مرة أخرى، على لسان هؤلاء القوم.. فيقول تعالى: «الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا» (68: آل عمران) فالتزام القرآن للام التعدية بعد القول فى الموضعين، فيه دلالة على إجراء القول على حقيقته، وهو أن يتعدى إلى مفعوله باللام، تقول: قلت له، وقال لى. وعلى هذا تكون «اللام» فى قوله تعالى: «الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ» - فى الموضعين- هى لام التعدية، وأنهم فعلا قالوا لإخوانهم وتحدّثوا إليهم!! ولكن كيف هذا؟ وهؤلاء أحياء وأولئك أموات؟ والجواب- والله أعلم- أن هؤلاء المنافقين أو الكافرين، حين لم يؤمنوا بالله، ولم يستسلموا لحكمه، ويرضوا بقضائه- قد تلقوا مصرع من مات منهم فى ميدان القتال، أو فى طريقه إليه، قد تلقوه جزعين مذهولين، كأنهم يستقبلون أمرا لم يكن فى حسابهم أن يقع، لأنهم ينكرون الموت الذي يكون فى غير البيت، أو على غير فراش المرض، ويعدّون مثل هذا الموت خيانة لهم ممن مات منهم به، فتشتد حسرتهم، ويتضاعف ألمهم، ويخرج بهم ذلك إلى شىء من الهلوسة والخبل، فيندبون موتاهم هؤلاء، وينادونهم من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 624 قريب نداءآت منكرة محمومة: ألم أقل لك يا فلان لا تذهب إلى القتال؟ إنك لو أطعتنى لما أصابك سوء.. ألم أحذرك يا فلان عاقبة الأمر الذي انطلقت إليه؟ إنك لو استمعت إلى نصحى لما قطعت حبل حياتك وأنت فى ريعان الصّبا، وفتاء الشباب؟؟ وهكذا يظلون أياما وليالى ينادون، ويناجون، ويندبون موتاهم، ويستحضرونهم فى تصوراتهم المريضة، ويرونهم فى مصارعهم تنهشهم السباع وتتخطفهم الطير، فيزداد حزنهم، وتشتد حسرتهم: «لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ» ! أما الجواب عن الشق الثاني من السؤال، وهو: كيف يسمّون إخوانهم، وهؤلاء كافرون وأولئك مؤمنون- فنقول- والله أعلم: أولا: أن هؤلاء الكافرين كانوا فى جماعة المؤمنين أولا، فلما كانت وقعة أحد، ورأوا ما رأوا مما أصاب المسلمين، ساء ظنّهم بالله الذي آمنوا به، ثم بلغ بهم سوء الظن إلى الارتداد عن الإسلام- فتسميتهم إخوانا لهؤلاء المؤمنين تذكير لهم بالدين الذي كانوا عليه، ودعوة مجدّدة من الله إليهم ليدخلوا فيه، بعد أن خرجوا منه. وثانيا: فى هذه التسمية للكافرين بأنهم إخوان لأولئك المؤمنين الذين قتلوا فى سبيل الله- فضح لهم، ومواجهة صريحة بالحكم الذي حكم الله به عليهم وهو أنهم كافرون، وفى هذا ما يجعلهم يتعرفون إلى أنفسهم، ويرون الهاوية التي سقطوا فيها، وهم يقولون هذه المقولات المنكرة- وأنهم إذا كان عند أحدهم شك فى أن هذه المقولات التي يقولها لا تدخل به إلى مداخل الكفر، فليعلم أنه يخدع نفسه، ويضلّلها.. فما هو بعد هذا من المؤمنين.. فإما أن يتوب ويرجع إلى الله، وإما أن يمضى فى طريقه، مع ضلاله وكفره.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 625 وانظر فى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا» . تجد أن الله سبحانه، قد حكم عليهم أولا بأنهم كافرون، ثم أكّد كفرهم هذا بأنهم كانوا إخوانا لأولئك المؤمنين.. وأنهم منذ قالوا هذا القول ليسوا من الإيمان ولا المؤمنين فى شىء. وقوله تعالى: «وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» التفات إلى المؤمنين الذين سيقتلون أو سيموتون فى سبيل الله، وأنهم سيلقون مغفرة من الله ورحمة، وأن هذا الذي يلقونه من مغفرة ورحمة خير مما يجمع هؤلاء الكافرون من مال ومتاع.. قوله تعالى: «وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ» .. هو خطاب عام للناس جميعا.. مؤمنين وكافرين- من قتل منهم ومن مات بغير قتل- بأنهم سيحشرون إلى الله، ويقفون بين يديه للحساب، وسيوفّى كل منهم حسابه عند الله.. إن خيرا فخير، وإن شرا فشرّ.. الآية: (159) [سورة آل عمران (3) : آية 159] فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 626 التفسير: هذه لتتة خاصة من الله سبحانه إلى رسوله الكريم، وأن الله سبحانه وتعالى قد أودع قلب نبيّه الرّحمة بالمؤمنين، ليكون فيهم الأب الودود الرحيم، يرعى أبناءه، ويسدّد خطاهم، ويتقبل من محسنهم، ويعفو عن مسيئهم.. هكذا النبىّ فى مجتمع المسلمين.. إنه أب لهذه الأسرة الكبيرة، يسعها قلبه الكبير، بعطفه، وحلمه، ومودته.. «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» .. على هذا الخلق الكريم صنعه الله وطبعه، وبهذه الرحمة أرسله رحمة وهدى للعالمين. «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ» الباء هنا للسببية، أي بسبب ما أودع الله فيك من رحمة، كان منك هذا اللّين، وذلك العطف على المؤمنين.. «وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» وفى هذا كشف للطبيعة البشرية، وأن الناس إنما يألفون من يتألفهم، ويحسن إليهم، ويلقاهم بالصفح الجميل.. وعلى غير هذا من كان حادّ الطبع، شرس الخلق، غليظ القلب، لا يقيل عثرة، ولا يغفر زلة.. إنه لن يجد من الناس إلّا المقت والنفور.. وأنه إذا صح لإنسان- وهو غير صحيح- أن يسوّى حسابه مع الناس على هذا الوجه، القائم على الغلظة والشدة، والمنتهى به إلى القطيعة والعزلة- فإنه لا يصح أبدا، ولا يستقيم بحال، لمن كان بمكان الرياسة والقيادة لأية جماعة من الجماعات، كثر عددهم أو قلّ.. فإن الخيط الذي يمسك به كيان الجماعة ويشدّها إليه، هو ما يفيض عليها من قلبه، من رحمة، وحدب، ولين، ولطف، وإلّا تقطعت بينه وبينها الأسباب، ولو كانوا أبناءه وخاصة أهله! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 627 وفى قوله تعالى: «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» بيان لبعض الأسس التي يقوم عليها منهج التربية، التي يأخذ بها النبىّ جماعة المؤمنين.. وأول هذه الأسس: العفو عن المسيء.. وفى هذا ما يفتح منافذ قلبه ويصفيه من دواعى الحسرة والألم، وينزع منه وساوس السوء والشر.. وثانى هذه الأسس: الاستغفار لهذا المسيء، وطلب الرحمة والمغفرة له من الله.. وهذا إحسان بعد إحسان.. يزيد قلبه صفاء، ونفسه إشراقا، وولاء. فإذا استوت جماعة المسلمين على تلك الصورة الكريمة، فلم يكن فيها مذموم أو مطرود، ولم ينتظم فى عقدها النظيم معطوب أو مقهور- كانت جميعها قلبا واحدا، ومشاعر واحدة، تتحرّى خير الجماعة، وتنشد أمنها وسلامتها، وهنا يجىء ثالث الأسس فى مكانه الصحيح: «وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» فتعطى المشورة ثمرتها الطيبة، التي هى خلاصة ما فى القلوب من خير، ومنخول ما فى العقول من رأى.. وهنا يتضح الأمر المنظور إليه، ولم يبق إلا انعقاد العزم عليه، وإمضائه على الوجه المرسوم.. وهذا ما أمر الله به فى قوله تعالى: «فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» الذين يعتمدون عليه، ويفوضون أمرهم إليه، بعد أن يعطوا هذا الأمر كل ما عندهم من رأى وعزم. الآية: (160) [سورة آل عمران (3) : آية 160] إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 628 التفسير: هذا تعقيب على قوله تعالى فى الآية السابقة: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» ، فالذين يفوّضون أمرهم إلى الله، ويشدّون عزائمهم إليه، ويعلّقون آمالهم به، هم الذين يحبّهم الله ويتولاهم، لأنهم أحبّوا الله وانتظموا فى مجتمع أوليائه.. وإنهم إذ يلوذون بحمى الله فإنما يستمسكون بالعروة الوثقى، ويعتصمون بأقوى معتصم، وهم بهذا فى ضمان النصر، وعلى طريقه، ولن يغلبهم أحد.. فإن تخلوا عن الله، ووكلوا أمرهم إلى حولهم وحيلتهم، فقد آذنوا الله أن يتخلّى عنهم، وأن يدعهم إلى أنفسهم، وهذا خذلان مبين، ومن خذله الله فلا ناصر له.. وفى قوله تعالى. «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» إشارة مشرقة يرى منها المؤمنون طريقهم فى كل أمورهم، وهى طريق التوكل عليه. «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» (3: الطلاق) . الآية: (161) [سورة آل عمران (3) : آية 161] وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) التفسير: الغلّ: أخذ الشيء خفية.. يقال: غلّ الشيء إغلالا: إذا أخذه خلسة، ويقال: أغلّ الجازر إذا سرق من اللحم شيئا مع الجلد، والغلّ: الحقد الكامن فى الصدور، والغلّ: الخيانة، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من بعثناه على عمل فغلّ شيئا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه» .. وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «هدايا الولاة غلول» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 629 والذي عليه المفسرون فى هذه الآية أنها نزلت فى قطيفة حمراء اختفت من الغنائم يوم بدر، فقال بعض المنافقين لعل النبىّ أخذها! وقيل إنها نزلت فى أحداث أحد، حيث ترك جماعة الرماة مكانهم الذي أقامهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه، وذلك حين رأوا الهزيمة فى المشركين، وقد امتدت أيدى بعض المسلمين إلى ما تركوا من متاع وسلاح، فقال الرماة: لعلّ رسول الله لا يقسم الغنائم بيننا كما فعل فى غنائم بدر، ويقول كما قال يومها: «من أخذ شيئا فهو له» فيذهب إخواننا بالغنائم، وليس لنا منها شىء.. فتركوا مكانهم، واندفعوا نحو الغنائم، يأخذون نصيبهم منها، فكان الذي كان! والرأى الأول بعيد.. إذا كان قد مضى عام على معركة بدر، ولو كان لقولة المشركين يومئذ أثر لما تركت هذه الفرية تعيش فى الناس عاما دون أن ينزل قرآن فى تفنيدها، وتكذيب مفتريها. والخبر الثاني ضعيف، ووجه ضعفه أن المسلمين كانوا يعلمون فى أحد حكم الله فيما يقع لأيديهم من مغانم، حيث كانت سورة الأنفال قد نزلت فى أعقاب بدر، وفيها قوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ..» (41: الأنفال) .. والرأى عندنا- والله أعلم- أن الغلّ هذا من الحقد، واشتمال النفس على البغضاء للناس.. وهذا ما لا يكون من نبىّ أبدا، إذ كانت مهمة الأنبياء نزع ما فى الصدور من عداوات وأحقاد، وغسل ما فى النفوس مما تنطوى عليه بغضاء وضغينة.. إنهم أساة الإنسانية من هذا الداء- داء الحقد الدفين- الذي إن شاع فى جماعة أكلها كما تأكل النار الحطب، أو فشا فى أمة قضى عليها، وحصدها، كما يحصد الوباء النفوس! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 630 والمناسبة هنا قريبة، والموقف داع إلى إلفات النبىّ الكريم إلى هذا الداء، وتحذيره منه. ففى أحداث أحد، وفى أعقابها، فرغ النّاس من المعركة، وشغلوا بالحديث عنها، والتعليق على مواقف الناس منها..! وفى المسلمين من خالف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتخلّف عن القتال فى معركة أحد. وفى المسلمين من تحوّل عن موقفه الذي أمره الرسول بالوقوف عنده، سواء كان للمسلمين النصر، أو كانت عليهم الهزيمة! وفى المسلمين من قاتل، وأبلى فى القتال.. ثم حين استشعر الهزيمة انهزم، وأعطى العدوّ ظهره.. وفى جوانب المعركة، وعلى حواشيها.. كلام يدور، تحرّكه أفواه المنافقين، وتلتوى به ألسنتهم، وتتغامز معه عيونهم.. هذا، والنبىّ الكريم يسمع، ويرى كلّ هذا، ويسوؤه أن يكون فى أصحابه هذا الذي يسمعه ويراه.. فيحزن لذلك ويأسى. وقد صفح الله عن المؤمنين وعفا عنهم، وشملهم جميعا برحمته وغفرانه.. وكان على النبىّ أيضا أن يصفح ويغفر.. فجاء أمر الله سبحانه وتعالى، يدعوه إلى الصفح ويغريه به، بعد أن يرى النبىّ الصورة الكريمة التي له عنده الله، والتي ينبغى أن يكون عليها، وأن يحتفظ بها على هذا الوضع العلوىّ الوضيء.. «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 631 ولقد عفا الرسول عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم فى كل أمر ذى بال يعرض له. ولكن النبىّ- وهو بشر- قد تطلع عليه صور من أحداث أحد، فتحرك أشجانا، وتثير أسى.. فجاء قوله تعالى: «وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ» - ليشنّع على الحقد، وليستبعد وقوعه من أي نبىّ من أنبياء الله، وليجعله جرما من أغلظ الجرائم، حتى ليلتزم صاحبه، ويصحبه إلى يوم القيامة، كما التزمه وصحبه فى صدره، وبين جنبيه! وما أروع هذا العطف الإلهى الذي يفاض على النبىّ الكريم، وهو فى مقام التأديب، والتحذير من أن يحمل قلبه غلا، وحقدا.. فلا يواجهه المولى سبحانه وتعالى بهذا الخطاب، ولا يلقاه به وحده- لطفا وكرما- بل يتجه الأمر إلى الأنبياء جميعا.. «وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ» فما أعظم هذا المقام، وما أكرم تلك المنزلة، التي نزلها محمد من منازل الرضوان والإحسان عند ربّه. الآية: (162) [سورة آل عمران (3) : آية 162] أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) التفسير: هنا مقابلة بين من استجاب لله، وانقاد لما يرضيه، فرجع مزوّدا برحمة الله ورضوانه، وبين من مكر بالله، وكفر بآياته، فانقلب موقرا بسخط الله وغضبه.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 632 وبين الطرفين المتقابلين بعد بعيد، واختلاف شديد.. فالطرف الأول يمثّله الرسول ومن كان معه من المؤمنين.. والطرف الآخر يمثله عبد الله بن أبىّ بن سلول ومن اتبع سبيله من المنافقين.. والطرف الأول من رضى الله، فى رحمة ومغفرة فى الدنيا، وإلى جنات ونعيم فى الآخرة. والطرف الآخر، من سخط الله وغضبه فى غيظ وكمد فى الدنيا، وإلى جهنم وعذاب السعير فى الآخرة.. وفى قوله تعالى: «أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى قد تقبل من النبىّ ما كان منه من استجابته لأمر ربّه، وتلبيته ما دعاه إليه، من الصفح الجميل عن أصحاب الهفوات من أصحابه، وإخلاء نفسه من كل عوارض الغيظ أو الكظم مما كان منهم.. وفى هذا اتباع لما يرضى الله، ويزيد فى مرضاته، وهو ما عبرّ عنه هنا بالرضوان. الآية: (163) [سورة آل عمران (3) : آية 163] هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) التفسير: إنه لا يستوى من اتبع رضوان الله ومن باء بسخطه.. فهم درجات ومنازل عند الله.. فالذين اتبعوا رضوان الله فى رحمة ونعيم.. وهم فى تلك الرحمة، وهذا النعيم درجات، بعضها فوق بعض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 633 والذين مكروا بالله وباءوا بسخطه فى بلاء، وهمّ وجحيم، وهم فى هذا البلاء وذلك الجحيم، درجات، بعضها دون بعض. الآية: (164) [سورة آل عمران (3) : آية 164] لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) التفسير: فى هذه الآية الكريمة ما يزكّى الرأى الذي ذهبنا إليه فى تفسير قوله تعالى: «وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ» وهو أن الغلّ من الحقد، لا من الغلول بمعنى الخيانة.. ففى هذه الآية: أولا: تذكير النبىّ الكريم بأنه رحمة أرسلها الله للناس، ومنّة منّ الله بها عليهم، بما يتلو عليهم من آيات الله، وبما يفتح لهم من طاقات النور، وبما يفيض عليهم من مواطر الهدى، فيطهرهم من أرجاس الكفر والضلال، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويفتح قلوبهم المظلمة إلى حيث مطالع الهدى والنور، ويوقظ عقولهم النائمة الغافية لتتصل بهذا الكون وتطالع فى صفحات الوجود وعلى قسمات الموجودات، بعض ما أبدعت قدرة الخالق العظيم، وما وسع علمه. وهنا يرى الرسول- مع عظم المسئولية التي يحملها- مدى الخير الذي يسوقه الله على يديه إلى الناس، الذين هو منهم وهم منه، فيحمله ذلك على أن يبالغ فى تحرّى الدقة البالغة فى ألا يشوب هذه النعمة العظيمة كدر، أو يعلق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 634 بها أذى، حتى تصل إلى مكانها من الناس صافية، مشرقة، طيبة.. وهذا ما يجعل الرسول الكريم مستعدا لتحمّل الأذى فى سبيل رسالته، متجاوزا عن كل ما يعرض له فى طريقه، من حماقات الحمقى وسفاهات السفهاء، فإذا دعى من ربّه إلى أن يكظم غيظه، ويعفو الناس، ويلين لهم، ويستغفر للمسيئين منهم، وجدت تلك الدعوة الكريمة من قلب الرسول مكانا، ووجد منها الرسول الكريم ما تهفو إليه نفسه، ويناجيه به وجدانه.. وثانيا: فى الآية الكريمة أيضا، يرى المؤمنون ما آتاهم الله من فضله، وما أوسع لهم فى برّه وكرمه، إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم، يعرفون وجهه، ويأنسون إليه، ويتلقون من بين يديه ما يتلّقى هو من ربّه من نفحات ورحمات، يسوقها إليهم، فيعيدهم خلقا جديدا، فإذاهم ناس غير الناس، وقوم غير القوم.. قد أشرقت قلوبهم بنور الحق، واستنارت عقولهم بأضواء المعرفة.. «وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .. وتلك نعم من الله سابغة، وأفضال غامرة، ينبغى أن يذكروها، ويؤدوا شكرها، إيمانا بالله، وجهادا فى سبيل الله، وطاعة وولاء لرسول الله، الذي حمل إليهم هذا الخير، وغرسه فى مغارسه، ورواه من خفقات قلبه، ومسارب وجدانه. الآيات: (165- 168) [سورة آل عمران (3) : الآيات 165 الى 168] أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 635 التفسير: هذه مواجهة أخرى للمؤمنين الذين شهدوا أحدا، ورأوا ما أصيبوا به فى أنفسهم وفى إخوانهم هناك، ثم ما وقع فى نفوسهم من وساوس وظنون، كلّما خبت جذوتها، وبردت نارها، نفخ فيها المنافقون، والكافرون، فازداد ضرامها، وتسعّرت نارها.. وفى هذه المواجهة يجد المؤمنون عتابا رقيقا من الله، وعودا باللائمة عليهم فيما وقع لهم.. كما يجدون فيما بين العتاب واللوم عزاء وتسرية. فإذا كان المسلمون قد أصيبوا يوم أحد، فقد كان لهم فى عدوهم الذي رماهم بما أصيبوا به، نكاية وجراحات فى يوم بدر ضعف ما أصابهم به فى يوم أحد.. «وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ» . وإذن فلا يصح للمسلمين أن يقفوا بنظرهم عند ما أصيبوا به، دون أن يمتد هذا النظر إلى ما كان لهم فى عدوّهم، وهنا يستقيم النظر على الواقع كله، فيرون أنهم أرجح كفّة، وأربح صفقة.. وإذن فما ينبغى لهم أن يعجبوا، وأن ينكروا هذا الذي حدث لهم، ويقولوا: «أنّى هذا؟» تلك القولة التي يكادون يهلكون بها أنفسهم وما اشتملت عليه من إيمان. ثم إنه إذا صح للمسلمين أن يعجبوا ويستنكروا هذا الحدث، فليكن ذلك مقصورا على ذات أنفسهم وحدها، بمعزل عن الدّين الذي آمنوا به وأضيفوا إليه! فإنه إذا كان ثمة خلل فى جماعة المسلمين مكّن لعدوّهم أن ينال منهم ما نال، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 636 فذلك الخلل إنما هو فى ذات أنفسهم، لا فى الدين الذي يجاهدون فى سبيله: «قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ» أي بما أحدثتم فى هذا اليوم من أمور، عزلت كثيرا منكم عن موقف الجهاد، وباعدت بينهم وبين الله! لقد تغيّرتم أنتم أيها المسلمون، وتغيّر ما بأنفسكم، فغيّر الله مكانكم من النصر الذي كان دانيا لكم، قريبا من أيديكم. أمّا الله- سبحانه وتعالى- فحاشا أن يتغيّر أو يتبدّل، فترونه قويّا عزيزا يوم بدر، ولا ترونه على تلك الصفة يوم أحد.. ذلك مما ينزّه الله عنه: «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» قدرة مطلقة دائمة، لا تحول ولا تزول أبدا. وقوله تعالى: «وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ» . هو عزاء ومواساة للمسلمين، لما أصابهم فى تلك المعركة.. وأن يد المشركين ما كانت لتعلوهم إلا بإذن الله، ولأمور قدّرها الله وأرادها. وقوله سبحانه: «وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ» هو كشف لبعض ما أراد الله من هذا المصاب الذي وقع فى المسلمين.. فهو امتحان وبلاء لهم، ليعرفوا ما فى أنفسهم من إيمان وصبر، وليتعاملوا مع الله على قدر ما انكشف من إيمانهم وصبرهم.. وقوله تعالى: «وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ» . هو وجه آخر من وجوه الحكمة التي تنكشف من وراء هذا الذي حدث فى أحد، وهو أن تنكشف وجوه المنافقين للمؤمنين، فيأخذوا حذرهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 637 منهم، ويعزلوهم عنهم، فإنهم- حيث كانوا- مرض خبيث، يغتال قوى الجماعة التي يندس فيها، ويختلط بها. وقولة المنافقين هنا، والتي حكاها القرآن الكريم عنهم فى قوله تعالى: «لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ» قولة منافقة خبيثة، تحمل وجوها من الكيد والتوهين لقوى المسلمين، وهم فى مواجهة العدو. فقد تحمل هذه القولة على أن هذه الجماعة المنافقة لا تعلم أن قتالا سيكون بين المسلمين والمشركين، وأن قريشا، إنما جاءت لتعرض قوّتها، ولتلقى فى قلوب المسلمين الرعب منها، حتى لا يعترضوا تجارتها فى طريقها إلى الشام.. ثم تنصرف بلا قتال.. وقد تحمل هذه القولة أيضا- وهو الوجه الواضح منها- على أن ما بين المسلمين وبين قريش لن يكون حربا بالمعنى المفهوم.. لأن الحرب بهذا المعنى تكون بين قوتين متكافئتين، الأمر الذي لا يراه المنافقون بين المسلمين وبين قريش.. فالمسلمون- كما يرى المنافقون- فى عدد قليل وضعف ظاهر، وقريش فى جموع كثيرة، وأعداد وفيرة، وسلاح وعتاد يملأ السهل والوعر.. فكيف يكون بين هؤلاء وأولئك حرب؟ إنها ليست إلا ضربة واحدة بيد قريش حتى ينتهى كل شىء. فكيف ندعى إلى حرب ولا حرب؟ إنها عملية انتحار أقرب منها إلى الحرب.. هكذا يقول المنافقون.. وقوله تعالى: «هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ» .. إدانة لهم، وحكم عليهم، بهذه الكلمة المنافقة، التي باعدت بينهم وبين الإيمان الذي ينسبون أنفسهم إليه، والتي خطت بهم خطوات سريعة إلى الكفر، فكادوا يكونون كفرا خالصا.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 638 وفى قوله تعالى: «يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ» ما يفضح نفاقهم، ويكشف حقيقة أمرهم.. إنهم لا يريدون أن يكونوا فى المجاهدين، ولا يودّون للمسلمين نصرا، ولا يرجون للدّين انتصارا.. وإنما هم يعذرون لأنفسهم بهذه الكلمات المنافقة ليعيشوا بها فى المؤمنين ولا ينقطعوا بها عن الكافرين والمشركين. وقوله تعالى: «الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» هو عرض لمقولة أخرى من مقولاتهم المنكرة، وقد ذكرها الله عنهم من قبل فى قوله سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا» (156: آل عمران) كما ذكرها القرآن فى قوله تعالى: «وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا» (154: آل عمران) . وقد شرحنا ما أرانا الله فى هاتين الآيتين فى موضعيهما.. الآيات: (169- 170- 171- 172) [سورة آل عمران (3) : الآيات 169 الى 175] وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 639 التفسير: قوله تعالى: «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» .. هو تطمين للمؤمنين، وكبت وحسرة للكافرين والمنافقين.. فهؤلاء الذين قتلوا فى سبيل الله، قد استوفوا آجالهم فى الدنيا، ولم يذهب القتل بساعة من أعمارهم، فما قتل منهم قتيل إلا بعد أن انتهى أجله المقدور له عند الله.. ثم إن هؤلاء القتلى «شهداء» أي حضور، لم يغيبوا، ولم يصيروا إلى عالم الفناء والعدم، وإنما هم أحياء حياة باقية خالدة، لا يذوقون فيها الموت.. وهذا هو الذي يصير إليه كل من يموت من الناس. من مؤمنين وكافرين.. وهذا هو الذي يؤمن به المؤمنون بالله، فلا يرون فى الموت خاتمة الإنسان وانتهاء دوره فى الوجود، وإنما يرون الموت رحلة من عالم إلى عالم، ونقلة من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 640 دار إلى دار.. من دار الفناء والزوال إلى دار البقاء والخلود، ومن عالم التكليف والابتلاء، إلى عالم الحساب والجزاء.. ومن أجل هذا يستخفّ المؤمنون بالموت، ولا يكبر عليهم خطبه، لأنهم ينظرون إلى الحياة الخالدة بعده، ويعملون لها، ليسعدوا فيها، ولينعموا بنعيمها المعدّ لعباده الله الصالحين. أما غير المؤمنين بالله، فإنهم لا يؤمنون باليوم الآخر، ولا يعتقدون أن وراء الحياة الدنيا حياة، وأنهم إذا ماتوا صاروا إلى تراب وعدم.. ولهذا يشتد حرصهم على الحياة، ويعظم جزعهم من الموت، إذ كان العدم- كما يتصورن- هو الذي ينتظرهم بعده.. فتتضاعف حسرتهم على من مات منهم، ويشتد حزنهم عليه، لأنهم- حسب معتقدهم- لا يلتقون به أبدا!! هذه هى الحقيقة.. الأموات جميعا، ليسوا بأموات على الحقيقة، وإنما هم أحياء فى العالم الآخر.. ولكن القرآن الكريم لم يكشف هذه الحقيقة كلها، ولم يظهر منها إلا ما يملأ قلوب الكافرين والمنافقين حسرة وألما، وإلّا ما يبعث فى قلوب المؤمنين العزاء والرضا، إذ ينظر هؤلاء وأولئك جميعا إلى قوله تعالى: «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً، بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» فيجدون هؤلاء القتلى أحياء فى العالم العلوي، يرزقون من نعيمه، ويطعمون من طيباته: «فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» . فهؤلاء القتلى الذين ينظر إليهم المشركون والمنافقون نظر شماتة وتشفّ، على حين ينظر إليهم إخوانهم وأحبابهم نظرة حزن وأسى لهذه الميتة التي ماتوا عليها- هؤلاء القتلى قد أشرفوا على الدنيا من عليائهم، ينعمون بما أتاهم الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 641 من فضله- وإنه لفضل عميم، يملأ القلوب بهجة ومسرة.. فيحزن لذلك المشركون والمنافقون، ويتعزّى به، ويستبشر المؤمنون. قوله تعالى: «وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» . بيان لكمال هذا النعيم الذين ينعم به هؤلاء الشهداء، وأنهم ليسوا مجرد أحياء حياة باهتة، بل هم فى حياة قوية كاملة، بحيث تشمل عالمهم العلوىّ الذي نقلوا إليه، وعالمهم الأرضى الذي انتقلوا منه.. فهم فى هذا العالم العلوىّ. إذ ينظرون إلى أنفسهم فيجدون أنهم فى فضل من الله ونعمة، وأنهم إنما نالوا هذا الفضل وتلك النعمة بجهادهم فى سبيل الله، وباستشهادهم فى هذه السبيل- يعودون فينظرون إلى إخوانهم المؤمنين الذين لم يلحقوا بهم بعد، وأنهم على طريق الجهاد والاستشهاد، فيستبشرون لذلك، وتتضاعف فرحتهم إذ سيلقى إخوانهم هذا الجزاء الذي جوزوا هم به، وينعمون بهذا النعيم الذي هم فيه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ» .. فكما وفّى الله هؤلاء الذين استشهدوا فى سبيل الله، سيوفّى الذين لم يستشهدوا بعد أجرهم، فالله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر المؤمنين، ولا يبخس ثواب المجاهدين. وقوله سبحانه: «الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ» . المراد بهؤلاء الذين الذين استجابوا لله ورسوله، هم المسلمون الذين خرجوا مع النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- بعد عودتهم من أحد، وقد بلغ النبىّ أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 642 قريشا بعد انصرافها من أحد، ندمت على أنها أنهت القتال من قبل أن تستأصل المسلمين، وقد أمكنتها الفرصة فيهم، فبدا لها أن تعود فتدخل عليهم المدينة وتبيدهم جميعا.. وهنا أمر النبي أصحابه أن يخرجوا للقاء العدو، دون أن يكون فيهم أحد ممن لم يشهد معهم القتال.. فخرج المسلمون الذين شهدوا أحد، جميعا، وهم مثخنون بالجراح، لا يكاد أحدهم يمسك نفسه.. فلما علمت قريش أن النبىّ خرج فى أصحابه ظنوا أن النبىّ يطلبهم، ليأخذ للمسلمين بقتلاهم فى أحد.. فرجعوا إلى مكة، ورجع النبىّ وأصحابه إلى المدينة، دون أن يقع قتال. فهؤلاء الذين هم استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح. وقد عدّهم الله جميعا فى الشهداء، من استشهد منهم فيما بعد من ولم يستشهد، لأنهم كانوا فى مواجهة القتل المحقق.. وقوله تعالى: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ» هو شرط لنيل درجة الاستشهاد، إذ لا بد أن يستمسك هؤلاء المؤمنون بما هم عليه يومئذ من إحسان وتقوى، أمّا من انحلّ عزمه، وفتر إيمانه بعد ذلك، فليس أهلا لأن ينال هذه الدرجة العليا، وذلك الأجر العظيم. وفى هذا تحذير للمسلمين الذين ذكرهم الله، ومجّد عملهم، وأعلى منزلتهم- من أن يستنيموا فى ظل هذا الوعد الكريم، دون أن يعملوا ليكونوا أهلا له، وليظلوا محتفظين بهذه المنزلة التي أنزلهم الله أياها، فليتقوا وليحسنوا، وليزدادوا إحسانا وتقوى، فعند الله منازل كثيرة للمتقين المحسنين. وقوله تعالى: «الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 643 هو بيان لهؤلاء الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح، ولموقفهم يومئذ من عدوهم.. فقد ترامت إليهم الأنباء التي أرجف بها المرجفون فيهم، من المشركين والمنافقين، ليزيدوا فى آلامهم، وليدخلوا اليأس عليهم. ولكن ما إن دعاهم الرسول إلى ملاقاة العدو، حتى خفّوا مسرعين، متحاملين على أنفسهم، غير ملتفين إلى جراحهم التي تتفجر دما.. وقيل إن المراد بالذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم، هم المؤمنون الذين استجابوا للنبى، وخرجوا معه للقاء قريش فى بدر الثانية. وذلك أن أبا سفيان كان قد أنذر النبىّ والمسلمين بعد معركة أحد بأنه سيلقاهم فى مثل هذا اليوم، فى بدر.. ذلك أنه فى نشوة هذا النصر الذي ناله كان يرى أن أحدا لم تثأر الثأر الذي ينشده، لما أصاب قريشا فى بدر، فأراد أن يعيد معركة بدر من جديد، ليطلع عليها فى قريش بصورة غير الصورة التي وجدتهم عليها يومئذ. وكان أبو سفيان حين جاء الموعد الذي واعد النبىّ، على غير استعداد لملاقاة النبي والمسلمين فى بدر، إذ كان العام عام جدب.. فأظهر أنه يستعدّ للحرب، ويجمع لها، وبعث إلى النبىّ من يلقى إليه- كذبا- أن قريشا تجمع له أعدادا لا قبل له بها.. أما النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، فقد دعا أصحابه إليه، ونديهم للقاء القوم على الموعد الذي تواعدوا له.. فاستجاب له أصحابه، وتقاعس المنافقون، وأرجفوا بالناس، وأذاعوا الفزع فى المسلمين، وقالوا فيما قالوا لهم: إن قريشا قد فعلت بكم فى أحد ما فعلت وأنتم فى كنف دوركم وبين أهليكم، فكيف يكون حالكم معها وأنتم تلقونها فى بدر؟ وأين المفرّ إذا انتصرت عليكم؟ .. فنزل قوله تعالى: «إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 644 إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» فسكنت لذلك أفئدة المؤمنين واطمأنت، وسار النبي بأصحابه حتى نزل بدرا.. وخرج أبو سفيان فيمن اجتمع له، فلما علم أن النبىّ ينتظره بالمسلمين فى بدر، قفل راجعا.. وانتظر النبىّ هناك بالمسلمين أياما، حتى انفضّت السوق التي كانت تقام هناك كل عام، وباع المسلمون واشتروا، وعادوا سالمين غانمين، وفى هذا يقول الله تعالى: «فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ» . وفى قوله: «الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ» نجد فى التعبير عن المرجفين بهذا القول، والمهوّلين له، بكلمة «الناس» تحقيرا لهم، وبألّا صفة لهم فى الناس إلا أنهم على صورة الآدميين، وأنهم والمشركين من قريش على مستوى واحد من الكفر والشرك، إذ عبّر عنهم القرآن بلفظ «الناس» أيضا.. «إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ» .. وفى قوله تعالى: «إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ» إشارة عامة تشمل هؤلاء الناس، الذين أذاعوا هذا القول وأرجفوا به، فقالوا: «إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ» كما تشمل المشركين من قريش، وهم: الناس الذين جمعوا لاستئصال المسلمين. فهؤلاء وهؤلاء حزب واحد.. هو حزب الشيطان، أو هم الشيطان ذاته، فى إضلاله وإغوائه: «إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ» . والضمير فى «أوليائه» يعود إلى الشيطان، وأولياؤه هم المنافقون، الذين يتولاهم الشيطان، ويتخذ منهم أعوانا على الشر والفساد.. وهو الذي خوفهم الجهاد فى سبيل الله، وأراهم الموت فى صورة بشعة مخيفة، فانعزلوا عن المسلمين، ونكصوا على أعقابهم.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 645 ويجوز أن يكون المفعول به التخويف هم جماعة المؤمنين، ويكون حينئذ لمفعول به الثاني محذوفا، وتقديره: «إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ» .. بمعنى أن هذه الأصوات المتنادية بأن الناس قد جمعوا لكم، هى من فعل الشيطان على ألسنة المنافقين وغيرهم، وهو يريد بهذا أن يخوّفكم أولياءه الكفار والمشركين، ولهذا جاء قوله تعالى: «فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» ردّا على كيد الشيطان، وإفسادا لتدبيره السيء.. ولهذا لم يقع هذا القول من نفوس المسلمين موقعا، بل تلقوه بالعزم والتصميم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» . الآيات: (176، 178) [سورة آل عمران (3) : الآيات 176 الى 178] وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178) التفسير: قوله تعالى: «وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ» عزاء ومواساة للنبى الكريم، لما كان يجد فى نفسه من الحزن والألم، حين يرى بعض من دخلوا فى الإيمان، وحسبوا فى المؤمنين، وظنّ بهم أن خرجوا من ظلام الكفر وضلال الجاهلية إلى نور الإيمان وهدى الإسلام- فإذا بهم وقد عادوا إلى المنحدر، وأزلهم الشيطان عن هذا المقام الكريم.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 646 والرسول الكريم يعلم أن ليس عليه إلا البلاغ، ولكنّ حرصه على هداية الناس، ورغبته الشديدة فى استنقاذهم من الضلال فى الدنيا، والنار فى فى الآخرة، يجعله يفرض على نفسه أن يبالغ فى النصح لقومه، وتعهدهم بتوجيهه وإرشاده، كما يتعهد الأب صغاره.. ولهذا كان صلوات الله وسلامه عليه، يأسى أشد الأسى، إذ يرى هذا العناد الذي يملأ الرءوس من قومه، ويمسكهم على شفير الهاوية، التي تهوى بهم إلى عذاب السعير.. ولهذا أيضا كانت كلمات الله تتنزل عليه حينا بعد حين، تدعوه إلى الرفق بنفسه، وألا يحمله حبّه للخير الذي يريد غرسه فى قلوب الناس إلى ما هو فيه همّ وحسرة وقلق.. «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» (56: القصص) (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» (8: فاطر) . فهؤلاء الذين يسارعون فى الكفر هم الخاسرون، قد ألقوا بأيديهم إلى التهلكة، ولن يضرّوا الله شيئا. وفى التعبير بالظرف «فى» فى قوله تعالى: «يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ» بدلا من «يسارعون إلى الكفر» ما يشير إلى أنهم قد دخلوا فى حوزة الكفر فعلا، حتى لقد صار الكفر ظرفا يحتويهم ويشتمل عليهم، وهم يتحركون فى داخله، ليبلغوا الغاية فى الكفر والضلال. وفى قوله تعالى: «إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً» تهوين لشأنهم وأنه لم يكن لينتفع بهم المسلمون لو كانوا معهم، لما فى قلوبهم من مرض، وما فى كيانهم من فساد، كما أنهم وقد تحوّلوا إلى الجبهة المعادية للمسلمين فإنّهم لن يكون لهم أثر فى مسيرة الدعوة الإسلامية، وفى انطلاقها إلى المدى الذي أراده الله لها، والخسران فى هذه الصفقة واقع عليهم وحدهم.. «ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ» (33: المائدة) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 647 وقوله تعالى: «يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» فى نسبة الإرادة إلى الله هنا إغاظة لهم، بسلب إرادتهم، وسوقهم سوقا إلى الكفر الذي هم أهل له وأنه لا مصير لهم إلا هذا المصير المشئوم.. فتعطيل إرادتهم هنا يحرمهم هذا السلطان الذي يجده المرء فى نفسه، ويعتزّ به، حتى وهو يركب مراكب الهلاك.. إذ أنه هنا يجد كلمة «أنا حرّ» التي يجد فيها وجوده، ويردّ بها على من ينصح أو يلوم.. وهؤلاء الذين دخلوا فى الكفر، دخلوه وكأنهم مكرهون، بلا إرادة، ولا حرية، ولا اختيار.. إنهم ليسوا آدميين، حتى تكون لهم إرادة، وتكون لهم حرية واختيار. وفى قوله تعالى: «يُرِيدُ اللَّهُ» وفى تعليق الفعل بالمستقبل، وقد أراده الله ووقع فعلا- فى هذا ما يقيمهم أبدا بهذا الوضع الذي هم، بلا إرادة ولا اختيار، لأن إرادة فوق إرادتهم قائمة عليهم أبدا.. فليس لهم- والأمر كذلك- أن ينتظروا يوما تعود إليهم فيه حريتهم وإرادتهم، أو أن يكونوا يوما فى وضع الإنسان الحر المريد! قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» تأكيد لضالة شأن هؤلاء الذين باعوا أنفسهم للشيطان، واستحبّوا العمى على الهدى.. وقد توعّدهم الله- سبحانه- فى الآية السابقة بالعذاب العظيم، وتوعدهم فى هذه الآية بالعذاب الأليم، كما توعدهم فى الآية التالية بالعذاب المهين، فجمع لهم أشنع صور العذاب.. العذاب العظيم.. الأليم.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 648 المهين.. العظيم فى صورته، الأليم فى آثاره الحسيّة، المهين فى آلامه النفسية.. وقوله تعالى: «وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» . فيه تكدير لهؤلاء الكافرين، وقطع لتلك اللذات التي يجدونها فيما بين أيديهم من مال وبنين. وأن هذا الذي هم فيه إنما هو أشبه بما يقدّم للحيوان من طعام، كى يكبر، ويكثر لحمه، ثم يذبح!، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» (12، محمد) . فالله سبحانه إنما يملى لأعدائه من الكافرين، والمشركين، والمنافقين، ويمدهم بنعمة وأفضاله، ليقيم الحجة عليهم، ولتحسب عليهم هذه النعم، التي كان من حقها أن يشكروا للمنعم بها، فاتخذوها أدوات لحرب الله، وحرب أولياء الله، فكانت عليهم بلاءا ووبالا.. «أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ؟ بَلْ لا يَشْعُرُونَ» (55- 56: المؤمنون) . هذا، والعرض الذي يعرض فيه الكافرون، وتكشف فيه أحوالهم، إنما يراد به أولا وقبل كل شىء، العبرة والعظة للمؤمنين، وتنفيرهم من هذه الصورة المنكرة التي يرون الكافرين عليها.. وفى هذا ما يثبت إيمانهم، ويقوّى صلتهم بالله، ويزيد فى حمدهم له، أن هداهم إلى الإيمان، وسلك بهم مسالك المؤمنين.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 649 أما الكافرون فقد يستمع مستمعهم إلى آيات الله تلك، التي تعرض الكفر وأهله فى هذا العرض المخيف، ويرى منه المصير الذي ينتظره، فيرجع إلى نفسه، ويعدل عن موقفه، ويصالح ربّه بالإيمان به، والموالاة لأوليائه.. الآية: (179) [سورة آل عمران (3) : آية 179] ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) التفسير: قضت حكمة الله أن يجعل هذه الدنيا دار ابتلاء واختبار للناس، يذوق فيها بعضهم بأس بعض، وفى هذا الاحتكاك الواقع بينهم، تظهر أحوالهم وتنكشف أمورهم، وتعرف معادنهم، ولولا ذلك لكانوا شيئا واحدا.. لا مؤمن ولا كافر، ولا طيب ولا خبيث، ولا محسن ولا مسيىء وقوله تعالى: «ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» هو من مقتضيات هذه الحكمة التي كان من آثارها هذا الاحتكاك الذي يدور بين المسلمين والكافرين، والذي ابتلى فيه المؤمنون بما أصيبوا فى أنفسهم وأهليهم.. فليس الإسلام هو كلمة يقولها الإنسان ليكون مسلما، وإنما هو كلمة وراءها عمل، ووراء العمل تبعات كثيرة، وأعباء ثقال، ولولا ذلك لكان مدخل الإيمان سهلا، لا ثمن له، يستوى فيه من يعمل ومن لا يعمل.. بل إنه لا يجد أحد ما يدفعه إلى العمل وبذل الجهد، إذ كان الأمر على تلك الصفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 650 وفى قوله تعالى: «عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ» التفات للمؤمنين واستحضار لهم، ليكونوا فى مواجهة هذا الحكم، وليؤخذ إقرارهم به، وما عليه المؤمنون هو العافية التي كانوا فيها قبل أن يبتلوا بلقاء الكافرين وجهادهم. وقوله تعالى: «حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» أي حتى يقع هذا الصدام بين المؤمنين والكافرين، وحتى تنكشف أحوالهم، ويعرف الصابرون وغير الصابرين، ومن كان إيمانهم بالله خالصا صادقا، ومن كان إيمانهم على نفاق ودخل.. وعلم الله سبحانه- علم شامل، محيط بما وقع وما لم يقع، فى جميع صوره وأحواله.. وعلمه هنا، الذي يميز به الخبيث من الطيب ليس علما مستحدثا، وإنما هو علم قديم يندرج تحته هذا الحال الذي يكون عليه المؤمنون وهم فى هذا الامتحان الذي يؤدونه بين يدى الله.. وعلى هذا ينبغى أن يفسّر ويفهم ما ورد فى القرآن من علم الله الذي يبدو وكأنه معلق بوقوع الأحداث.. مثل قوله تعالى: «وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا» (65- 66: آل عمران) ومثل قوله سبحانه: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ» (142: آل عمران) .. ونحو هذا.. فعلم الله محيط بكل شىء. وكل ما هو فى علم واقع تحت هذا العلم، فى جميع أحواله المتلبس بها.. فالله سبحانه يعلم أزلا أن هذا الإنسان- مثلا- سيولد من أبوين، هما فلان وفلان.. فى بلد كذا، فى زمن كذا.. وقبل أن يولد هذا الإنسان هو فى علم الله، وبعد أن ولد هو فى علم الله.. ولكن علم الله به قبل أن تحمل به أمه، وقبل أن يولد فى المكان والزمان الواقعين فى علم الله- يكون المعلوم فيه على صور خاصة وصفات خاصة، فإذا ولد، كان المعلوم فى علم الله على صورة غير الصورة السابقة، وعلى صفات غير تلك الصفات التي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 651 كان عليها قبل أن يولد! .. وهكذا تتغير ذوات المعلومات وصفاتها، وعلم الله محيط بها فى جميع أشكالها وأحوالها، فلا يتغيّر ولا يتبدّل. قوله تعالى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ» معطوف على قوله تعالى: «ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ» .. والربط بين الحكمين لازم، لأن عدم اطلاع المؤمنين على الغيب، وما أراد الله لهم وكتب عليهم، يقتضى أن يؤمروا وأن ينهوا وأن يدعوا إلى الامتحان والابتلاء والجهاد فى سبيل الله.. ولو كان الغيب مكشوفا للناس لما كان ثمّة داعية إلى أمر أو نهى، فكلّ يعرف مصيره الذي هو صائر إليه.. ولو عرف الناس مصائرهم مقدما، وانكشف لهم مستقبلهم خطوة خطوة، لما احتملت طبيعتهم البشرية هذا الموقف الذي يرى فيه الإنسان وجوده كله من مبدئه إلى نهايته، ولكانت فتنة فى الأرض وفساد كبير.. ففى حجب المستقبل عنّا رحمة بنا، وإحسان إلينا، واستدعاء لوجودنا كلّه لمواجهة المجهول، ومحاولة كشفه واستخراج ما فى أطوائه، من خير وشر، وحلو ومرّ.. فهو على أي حال ثمرة مجهود، وحصاد معركة!! وانظر.. لو أن إنسانا ما عرف عن يقين من سجّل القدر أنه فى يوم كذا، فى ساعة كذا، ستصدمه سيارة تقضى عليه، أو تشبّ فيه نار فتلتهمه، أو أن أحد أبنائه سيحدث له حادث أليم..ماذا تكون حالة هذا الإنسان، منذ أن يطلع على هذا الغيب إلى أن يقع؟ هل يهنؤه طعام، أو يسوغ له شراب، أو يهدأ له قلب أو يستريح له بال؟ إنه فى همّ دائم، وكرب كارب، وعذاب أليم؟! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 652 وأكثر من هذا.. لو أن هذا الإنسان اطلع الغيب فرأى- وهو الفقير المعدم- أنه بعد كذا من السنين سينال الغنى الواسع والثراء العريض، وأنه سيشبع من جوع، ويكتسى من عرى، وينال ما يشتهى من متع الدنيا، بعد هذا الحرمان الطويل.. ماذا تراه فى يومه هذا، وهو ينتظر ذلك اليوم الموعود؟ إنه يعيش تلك السنين الفاصلة بينه وبين هذا اليوم، فى عذاب، دونه كل عذاب.. إنه يعدّ الأيام لحظة لحظة، ويدفع مسيرة، الزمن بكل ما فى كيانه من قوى ظاهرة وباطنه.. والزمن قائم فى وجهه، جاثم على صدره، كأنه جبال الدنيا كلها مجتمعة عليه.. إنه يودّ أن ينام نومة أهل الكهف فلا يستيقظ إلا على يومه الموعود.. ولكن أنّى له ذلك، وهو مشدود إلى الحياة، مقيد بقيود الزمن الثقيلة العاتية؟ من رحمة الله علينا إذن كان هذا الذي صنعه الله بنا، فحجب عنّا ما أراده لنا، وما قضاه علينا، فنعمل بإرادة، ونمضى بعزم، ونعيش مع أمل.. فقوله تعالى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ» دعوة للمؤمنين إلى العمل حسب ما يأمرهم الله به، وبين تلك الأوامر الجهاد فى سبيل الله، والثبات فى وجه العدوّ، والعمل على انتزاع النصر منه.. ذلك هو المطلوب من المؤمنين فى مثل هذا الموقف.. أما ما يؤول إليه الأمر، وما يسفر عنه القتال، فذلك علمه عند الله.. وعلى المؤمنين أن يرضوا بما يقع، أيّا كان، بعد أن امتثلوا أمر الله، وأعطوه كل جهدهم. يقول جعفر الصادق رضى الله عنه لزرارة: «يا زرارة.. أعطيك جملة فى القضاء والقدر؟ قال: نعم، جعلت فداك، قال: «إذا كان يوم القيامة وجمع الله الخلائق، سألهم عما عهد إليهم، ولم يسألهم عما قضى عليهم» .. وهذه كلمة فيها مقطع القول فى القضاء والقدر، وعلى من يحتجون بالقضاء والقدر.. إنهم مطالبون بما كلّفوا به، وغير مطالبين بما قدّره الله عليهم.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 653 وقوله تعالى: «وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ» استدراك فيه معنى الاستثناء من الحكم الذي تضمنه قوله تعالى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ» .. إذ أن رسل الله الذين يصطفيهم الله لحمل رسالاته إلى عباده، هم ممن أظهرهم الله على بعض ما فى الغيب، وأطلعهم على لمحات منه، ليروا على ضوئها طريقهم الذين يقودون فيه عباد الله إلى الهدى والخير.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً» (26- 27: الجن) ومن جهة أخرى.. فإن الرّسول- وإن لم يطلع على شىء من الغيب. فإنه أشبه بمن اطلع على الغيب فيما يتعلق بالدعوة التي يحملها، والرسالة التي يقوم بتبليغها.. إنها دعوة خير، ورسالة نور وهدى.. وإن السعادة فى الدنيا والآخرة لمن استجاب لدعوته وعمل بها، وإن النّصر والتأييد من الله لمن آمن بالله وجاهد فى سبيله.. هذه حقائق لا تقبل الشك، ووعود محققة كأنها واقعة وإن لم تكن قد وقعت، فهى فى مضمونها من أبناء الغيب، يراها رسل الله والمؤمنون بالله، رأى العين، ويستيقنونها يقين الواقع فى أيديهم.. ففى قوله تعالى: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» (21: المجادلة) وفى قوله: َ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ» (47: الروم) وفى قوله سبحانه: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ» (51: غافر) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 654 وفى قوله سبحانه: (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ» (124: آل عمران) . وفى قوله جل شأنه: «قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ» (15: التوبة) فى هذه الآيات وكثير غيرها يرى رسول الله ويرى المؤمنون معه واقع هذه الوعود ماثلا بين أيديهم، وكأنهم قد اطلعوا الغيب وعاينوا ما سيكون قبل أن يكون! لما نزل قوله تعالى «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ» (45: القمر) استيقن المسلمون أن جمع الكافرين سيهزم بأيديهم وسيولّى الدبر.. هذا ما لم يكن يشكّ فيه مؤمن، حتى لكأنه يراه رأى العين، ولكن الرؤية لم تكن كاملة، حيث لم ينكشف للمسلمين هذا اليوم الذي سيتحقق فيه هذا الوعد الذي وعدهم الله إياه.. فلما كان يوم بدر انكشف ما كان مستورا، ورأى المسلمون الجمع المنهزم، وفى هذا كان يقول عمر بن الخطاب: «ما كنت أدرى أي جمع هذا الذي سيهزم حتى رأيت جمع قريش يوم بدر، وهم منهزمون يولّون الأدبار» . وقوله تعالى: «فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ» دعوة يستجيب لها كل ذى عقل ووعى، حيث كانت تلك الدعوة من عند الله، وكان حاملوها رسلا من عند الله، وكانت مضامينها حقّا مطلقا، ووعودها واقعا محققا، لأنها من أبناء الغيب وقد أطلع الله عليها رسله والمؤمنين به، فيما حملت آياته إليهم من أمر ونهى، ومن خبر او وعد! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 655 وليس الإيمان وحده مجردا من العمل هو الذي يعطى الثمرة المرجوة من الإيمان.. إذ لا بد من أن يصحب الإيمان عمل يدعو إليه الإيمان، ويرسم حدوده، وثمرة هذا العمل هى التقوى، التي يحقق بها المؤمن حقيقة الإيمان.. وبهذا يدرج فى سلك المؤمنين، ويحظى من الله بالجزاء الأوفى، والأجر العظيم. الآية: (180) [سورة آل عمران (3) : آية 180] وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) التفسير: الجهاد فى سبيل الله امتحان وابتلاء، فيه تضحية وبذل.. تضحية بالنفس، إذا دعت دواعيها، وبذل للمال حين يطلب المال! وقد أعطى المجاهدون الصادقون ما يطلب الجهاد من نفس ومال، على حين ضنّ أناس بأرواحهم، أن يبيعوها لله فى سبيل الله، وبخلو بأموالهم أن يقرضوها الله فى سبيل الله.. ثم مع هذا منّتهم أنفسهم أن يكونوا فى المؤمنين، ثم أطالوا حبل الأمانىّ فظنوا أنهم فى عداد المتقين المجاهدين.. والله سبحانه وتعالى يقول: «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» (92: آل عمران) . وفى هذه الآية يكشف الله سبحانه عن هذه الأمانىّ الخادعة، التي يعيش فيها أولئك الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله، من قوة أو مال، فلا ينفقون منها فى وجوه الحقّ الداعية لها.. وإنّهم لهم الخاسرون فى هذا الموقف الذي اتخذوه حيال الحقوق الواجبة عليهم، فى أموالهم وأنفسهم.. حياة قصيرة فى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 656 هذه الدنيا، لأجل محدود، ومتاع قليل بهذا المال الذي استبقوه لاستيفاء حظوظهم من الشهوات واللذات.. ثم ما هى إلا لمحة كلمح البصر، وإذا هم فى موقف الحساب والجزاء.. وإذا هم وأنفسهم التي ضنّوا بها، وأموالهم التي أمسكوا عن الإنفاق منها، خصمان يقتتلان، وإذا هذا المال يتحول إلى أداة عذاب ونكال، يطوّق أعناقهم بأطواق ثقال، ثقل ما جمعوا وكنزوا: «سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ» . الآيتان: (181- 182) [سورة آل عمران (3) : الآيات 181 الى 182] لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) التفسير: فى معرض البخل بالمال والحرص عليه، يمثّل اليهود أسوأ صورة، وأقبح مثل لما يبلغه إنسان فى هذا الباب.. فالمال عند اليهود- كل يهودى- هو كل شىء، فاليهودى إذا سلم ماله فلا عليه إذا تلف كل شىء، وضاع منه أي شىء.. من دين أو خلق. لهذا، جاءت الآية الكريمة- بعد أن كشفت الآية السابقة عن جريمة البخل، والعقوبة التي أعدها الله لمرتكبيها- جاءت لتكشف عن درجة من البخل لم يعرفها الناس إلا فى هذا الصنف المحسوب من الناس.. إنهم لم يجمعوا المال من وجوه الحرام والسحت وحسب، ولم يضنوا عن الإنفاق منه فى سبيل الحق والخير وحسب، بل بلغ بهم السّفه والفجر إلى تحدّى الله به، وإعلان الحرب الوقاح عليه، فكانت قولتهم الآثمة تلك، التي حكاها القرآن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 657 عنهم: «إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ» - كانت تلك القولة المنكرة لسان حالهم، فى كل مشهد يشهدونه للمسلمين وهم يدعون للبذل الإنفاق فى سبيل الله، وينادون فى الناس بقول الله سبحانه: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» . (245: البقرة) .. ولا يقع إلى آذان اليهود من كلمات الله تلك إلا «القرض» الذي يعرفونه، ويتعاملون به ربا فاحشا، يغتال أموال الناس، ويمتصّ ثمرة جهدهم.. والقرض لا يكون إلا من غنىّ إلى فقير، وإذ كان الله يطلب قرضا فهو فقير، وإذ كان اليهود هم أقدر الناس على الإقراض الربوىّ فهم أغنياء.. هكذا منطق المال عند اليهود.. حتى مع الله. وقوله تعالى: «لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ» وعيد لليهود، ونذير بالعذاب الشديد لهم.. إذ كان ما قالوه تجديفا على الله، ومحاربة له.. والله سبحانه وتعالى قد سمع هذا القول المنكر منهم.. والمراد أنه سبحانه وتعالى قد علم ما قالوا.. والتعبير عن العلم بالسّمع أبلغ وأقوى فى حسابنا وتقديرنا نحن.. أما علم الله وسمع الله، وما لله من صفات، فهى جميعا على الكمال المطلق الذي لا يقبل زيادة أو نقصا. وقوله سبحانه: «سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ» . هو مبالغة فى تغليظ هذا الجرم وتهويله، فقد كتبه الله عليهم ووثّقه، كما يكتبون هم ما يستدينه الدائنون منهم ويوثّقونه، فلا سبيل إلى الضياع أو الإنكار.. ولم يسجّل سبحانه عليهم هذا القول الشنيع وحده، بل قرنه إلى جرم آخر لا يقلّ عنه شناعة وإثما، وهو قتلهم الأنبياء بغير حقّ، وهنا تبدو قولتهم المنكرة تلك موازية لقتل الأنبياء بغير حق، ومعادلة لها فى جرمها وإثمها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 658 وهنا سؤال: إن هؤلاء اليهود الذين يخاطبهم القرآن الكريم لم يقتلوا الأنبياء، ولكنّ القتلة هم آباؤهم.. فكيف يكتب القتل عليهم، ويضاف إلى جرائمهم التي أجرموها؟. والجواب على هذا- والله أعلم- أن اليهود طبيعة واحدة، لا يختلف خلفهم عن سلفهم فى شىء مما هم عليه من عناد، وكفر بآيات الله، ومكر بآلائه ونعمه.. فهؤلاء الأبناء الذين يخاطبهم القرآن الكريم، هم اليهود الذين خاطبهم داود، وأيوب، ويوسف، وموسى، ويحيى، وعيسى، وغيرهم من أنبياء الله ورسله، وفيهم كل ما فى آبائهم من عناد وكفر، وأنه لو جاءهم نبىّ لهمّوا بقتله، ولو أمكنتهم الفرصة فيه لقتلوه.. فإضافة هذا الجرم إليهم- وهو قتل الأنبياء- هو إضافة لهم إلى آبائهم القتلة، فما مات هؤلاء الآباء، ولا انقطعت من الأرض جرثومة الشرّ التي كانت فيهم، بموتهم، بل هم أحياء فى هؤلاء الأبناء، بكل ما عرف عنهم من سوء وفساد. وقوله وتعالى: «وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ» هو الجزاء المقابل لقولهم «إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ» . فهم قالوا «إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ» ونحن- أي الله- «نَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ» فهو قول يقابل قولا.. وشتان بين قول الله وقولهم.. هم قالوا زورا وبهتانا، والله يقول حقّا وعدلا.. هم قالوا أصواتا ضائعة فى الهواء، والله يقول نارا تلظّى، وعذابا سعيرا، يأخذهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم. وقوله تعالى: «ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ» ردّ عليهم، وردع لهم إن هم أنكروا هذا العذاب الذي يساق إليهم، أو استفظعوه.. فهذا العذاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 659 قد صنعوه هم بأنفسهم لأنفسهم.. إنه صنعة أيديهم، فكيف ينكرونه، أو يردّونه؟. وفى قوله تعالى: «وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» يجىء التعبير بظلام، فى صيغة المبالغة هذه، للتشنيع عليهم، والتعريض بظلمهم الذي جاوز الحدود، فى أكلهم أموال الناس بالباطل، وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم إن الله فقير ونحن أغنياء، فهم- والأمر كذلك- ليسوا ظلمة وحسب، بل هم ظالمون لعباد الله ولأنفسهم، ولو جازاهم الله حسب ما يعاملون به الناس من ظلم غليظ لضاعف عقابهم، ولظلمهم كما يظلمون الناس، فكال لهم الكيل بأضعافه، ولكن الله لا يظلم الناس، وإنما يحزبهم السيئة بالسيئة، أو يعفو عنها إن شاء، ويجزيهم الحسنة بعشرة أمثالها، ويضاعف ذلك لمن يشاء!. الآية: (183) [سورة آل عمران (3) : آية 183] الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) التفسير: الّذين قالوا إن الله عهد إلينا ألّا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، هم اليهود، الذين تحدث القرآن عنهم فى الآيات السابقة، وأنهم هم «الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ» . «فالذين» هنا، هم «الذين» هم هناك.، وقد سمع الله قولهم هذا، وذاك، وسجّله عليهم ليحاسبهم به، ويجزيهم عليه. وقولهم هنا، هو افتراء من افتراءاتهم، يدفعون به دعوة النبىّ لهم إلى الإيمان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 660 به، والتصديق برسالته، على الصفة التي يجدونها فى التوراة عنه.. فهم ينكرون هذا الذي فى التوراة، ويجيئون بمفتريات من عندهم، ويلقون النبىّ الكريم بقولهم: «إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ» أي إن آية النبىّ التي يريدون أن يعرضها عليهم- كدليل على صدقه- هو أن يقدّم لله قربانا، كبقرة، أو شاة، أو نحوها، ثم يدعوهم إلى أن يشهدوا آية لله فى هذا القربان، وأن نارا من السّماء ستنزل وتأكل هذا القربان، وهم يشهدون.. فإذا جاءهم النبىّ على تلك الصفة آمنوا به، وصدقوه. وإذ كان ما جاء به «محمد» هو على غير تلك الصفة، فهو ليس بنبىّ، أو ليس- على الأقل- هو النبىّ وعدوا به.. وقد جنّب الله النبىّ الكريم أن يلقى هؤلاء القوم بالمراء والجدل، وأن يردّ فريتهم هذه التي افتروها على الله، وأن يدخل معهم فى أخذ وردّ، فذلك طريق يحبّ أن يسلكه اليهود مع النبىّ، ويودّون أن يستجيب للسير معهم فيه، حيث ينتهى الطريق، ولا محصّل له إلّا ضياع الوقت فى المهاترات والسفسطات. الأمر الذي يريد الله أن يجنّبه النبىّ، ليسلك بدعوته الطريق القويم إلى من يتقبّل الخير، ويعطى أذنه وقلبه لدعوة الحق، وكلمة الحق.. لقد نأى الله بالنبيّ الكريم عن هذا الطريق، ودعاء إلى أن يلقى اليهود بما يقطع حجتهم ويخرس ألسنتهم.. فهم يريدون نبيّا يأتيهم بقربان تأكله النّار، ليصدقوه ويؤمنوا به.. وقد جاءهم أنبياء الله بالآيات البينات، كإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وكفرق البحر بالعصا، وتفجير الماء من الحجر الصّلد بها.. فهل آمنوا بهؤلاء الأنبياء واستجابوا لهم؟ وأكثر من هذا.. فقد جاءهم أنبياء بهذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 661 المقترح الذي اقترحوه على النبىّ، وتحدّوه به.. جاءهم من كان يقدّم لله قربانا فتأكله النار.. فهل آمنوا به وصدّقوه؟ وكلّا، فإنه لم يكن منهم إيمان وتصديق.. بل كان التكذيب والكفران، بل والعدوان. فقتلوا من أنبياء الله من جاءوهم بالآيات التي اقترحوها على النبىّ، وبأكثر منها قوة ووضوحا فى مجابهة الحسّ. ولو جاءهم النبىّ بهذا الذي طلبوه.. فهل يصدقونه ويؤمنون به؟؟ ذلك ما لا يكون. فقد كذّبوا رسل الله، وقد جاءوهم بهذه الآيات التي كانت مما اقترحوه على الرسل، وتحدّوهم به.. ولكنه التعلل، والتهرب من مواجهة الحق، بهذا المراء الطفولىّ.. والله سبحانه وتعالى يقول فيهم: «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» (96- 97: يونس) ويقول سبحانه: «وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ» (146: الأعراف) الآية: (184) [سورة آل عمران (3) : آية 184] فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184) التفسير: فى هذه الآية الكريمة عزاء كريم من ربّ كريم، لنبىّ كريم.. فهذا شأن أصحاب الرسالات وحملة الهدى. مع السفهاء، أصحاب الطبائع النكدة، والضمائر الفاسدة.. لا يلقون منهم إلا التطاول الأحمق، والسّفه اللئيم.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 662 وخاصة هذا الصنف من الناس (اليهود) الذين انتظم تاريخهم الأسود، سلسلة مترابطة الحلقات من مواقف الفساد والشر، فى مواجهة كل خير! فإنه ليست أمة من الأمم بعث الله إليها مثل ما بعث فى نبى إسرائيل، من أنبياء ومرسلين، وليس رسول من الرسل حمل إلى قومه ما حمل رسل بنى إسرائيل إليهم من آيات تنطق البكم، وتسمع الصمّ.. فلم ينتفعوا بتلك الآيات، ولم يجدوا فيها شفاء لدائهم الخبيث. وليست كثرة هذه الرسل، ولا توارد هؤلاء الأنبياء، ولا إشراق هذه الآيات التي يحملونها بين أيديهم، إلى هؤلاء القوم- ليست هذه كلها إلّا لأن الداء الذي يكمن فيهم، والمرض المتمكن من عقولهم وقلوبهم، قد استشرى حتى أصبح وباء، فكانت نجدة السماء لهم بهؤلاء الأطباء الأساة، يطلعون عليهم من كل أفق، ويغادونهم ويراوحونهم فى كل وقت.. ولكن الداء لا يزداد على الزمن إلا استيلاء عليهم، وفتكا بهم.. «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ» (10: البقرة) . «والبيّنات» هى الآيات التي جاءهم بها عيسى عليه السّلام، والتي يشير إليها الله سبحانه وتعالى بقوله: «وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ» (77: البقرة) «والزّبر» جمع زبور، وهو القطعة من الشيء.. و «الزّبور» هنا ما أعطى داود عليه السّلام من كلمات الله، التي هى بعض من كتاب الله، الذي نزل على الرّسل، كلّ حسب حظه منه، ثم جاء القرآن الكريم، جامعا للكتاب كلّه، وفى هذا يقول الله تعالى مخاطبا المؤمنين فى مواجهة الذين كفروا من أهل الكتاب: «ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ» (119: آل عمران) وهو القرآن وما سبقه من كتب. والكتاب المنير هنا. هو القرآن الكريم.. وفيه إشارة إلى موقف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 663 اليهود منه، وأنهم كذّبوا بالأنبياء الذين جاءوهم بالبينات- أي عيسى- وبالزبر- أي مجموعات الأنبياء الذين حمل كل منهم بعض كلمات الله إليهم، وبالكتاب المنير، وهو القرآن الذي جاء به «محمد» صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين. الآية: (185) [سورة آل عمران (3) : آية 185] كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185) التفسير: وهذه الآية الكريمة تحمل أيضا عزاء كريما إلى النبىّ الكريم، بما تهوّن عليه من أمر الدنيا، وما يلقى فى تبليغ رسالة ربّه، من عناد وعنت، وما يعرض له نفسه وأصحابه المجاهدين معه من جهد وبلاء، فى ملاقاة الموت، والاستشهاد فى سبيل الله.. فهذا كلّه هيّن فى لقاء الجزاء الحسن، الذي أعدّه الله لرسوله وللمؤمنين، من رضى ونعيم.. أما أمر الموت، فهو حكم واقع على كل حىّ، ونازل بكل نفس.. «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» وإذا كان ذلك هو الشأن، فالحرص على الحياة، والفرار من مواقف الحق والخير، طلبا للأمن والسلامة- أمر لا يكتب الخلود لأحد، فضلا عن أنه لا يمدّ له لحظة واحدة فى أجله المقدور له. وأما الذي ينبغى الحرص عليه، والبذل من أجله، فهو الآخرة، التي هى دار البقاء والخلود.. وإذا كان هذا شأنها وذلك وزنها وقدرها، فإن العقل يقضى بطلب العمل لها، والسلامة فيها.. «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 664 الآية: (186) [سورة آل عمران (3) : آية 186] لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) التفسير: وإذ كانت الحياة الدنيا إلى زوال، وكان متاعها لعبا ولهوا وغرورا، وإذ كان متّجه العقلاء فيها إلى دار خير منها، وإلى متاع أكرم وأهنأ من متاعها- وهى الدار الآخرة- إذ كان ذلك كذلك، فإن للدار الآخرة عملا، وللجزاء الحسن فيها ثمنا.. إنها ليست أمانىّ يتمنّاها النّاس، ولكنها جهد، وبلاء، ومعاناة، فإذا أرادها المريدون وطلبها الطالبون، فليعملوا لها، وليؤدّوا الثمن المطلوب للحصول على نعيمها، ورضوان الله فيها! وقد أرادها المؤمنون، وطلبوا ما عند الله للمؤمنين فيها.. وإذن فليعملوا لها، وليؤدّوا مطلوبها منهم! إنه ابتلاء فى الأموال والأنفس.. الأموال، يبذلونها فى سبيل الله، والأنفس، يبيعونها ابتغاء مرضاة الله.. وإنه تعرّض للأذى فى المشاعر والعواطف، بسماع الكلمات المنافقة، والأكاذيب الملفقة، من الذين كفروا ونافقوا من أهل الكتاب، ومن الذين أشركوا وضلوا من قريش وأحلافها.. إنه أذى مادىّ فى الأموال وفى الأنفس، وأذى روحىّ فى الشعور والوجدان.. أذى يشتمل على المؤمن كلّه، فى مادياته ومعنوياته جميعا. ونعم.. هو أذى بالغ، وألم شديد، وامتحان قاس مرير! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 665 ولكنّ الجزء الحسن أعظم وأشمل، وإنه لأكثر قدرا، وأثقل وزنا.. فى جانب الإحسان والرضوان.. والصبر والتقوى، هما الزاد العتيد الذي يتزود به المؤمنون لاجتياز هذا الامتحان القاسي، واحتمال آلامه وشدائده.. «وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» .. فإن الأمر جدّ ليس بالهزل. الآية: (187) [سورة آل عمران (3) : آية 187] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) التفسير: الذين أوتوا الكتاب هنا، هم اليهود.. وهؤلاء اليهود كان جديرا بهم أن يكونوا فى عداد المؤمنين، بما فى أيديهم من كلمات الله، الداعية إلى الحق، الهادية إلى صراط مستقيم.. ولكنهم لم يصبروا ولم يتّقوا.. الأمر الذي لا يستمسك بدونه إيمان، ولا يبقى بغيره المؤمن فى المؤمنين! لقد نقضوا الميثاق الذي واثقهم الله به، بأن يبيّنوا للنّاس ما فى الكتاب الذي معهم من حق وخير، وألا يكتموا من هذا الحقّ والخير شيئا.. وليتهم إذ أمسكوا هذا الذي معهم من حق وخير، ومنعوه النّاس، وحجبوه عنهم- ليتهم وقفوا عند هذا، فكان لهم فى أنفسهم منه خير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 666 ولكنهم أفسدوا هذا الخير على أنفسهم وعلى الناس، فغيّروا وبدلوا، وقلبوا وجه الحق باطلا، وأحالوا عذبه ملحا أجاجا، فضلّوا وأضلوا.. إنهم- والأمر كذلك- أشبه بمن كان فى صحراء، لا شىء فيها من ماء أو طعام، وفى يديه شىء من ماء وطعام، ومعه رفقة مسافرة، لا شىء معها، وكان فى هذا ما يبلغ به وبها الغاية إلى حيث الماء والطعام، لو أنّه أظهره لها، وأشاعه فيها.. ولكن كزازة طبعه، وشحّ نفسه، وخبث طويته- كل أولئك سوّل له أن يخفى هذا الزاد بل، وأن يفسده، حتى لا ينتفع به أحد.. فهلك، وأهلك الرفقة المسافرة معه! هكذا كان شأن اليهود مع كتاب الله الذي فى أيديهم.. كتموا الحق الذي فيه، وأفسدوا الخير الذي ينطوى عليه، وقالوا للكافرين والمشركين الكذب على رسول الله، وعلى الكتاب الذي بين يديه، لقاء عرض زائل يعيشون فيه، ودنيا فانية يمسكون بها.. فهلكوا وأهلكوا، وضلّوا وأضلّوا.. وفيهم يقول الله تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً» (51- 52: النساء) الآية: (188) [سورة آل عمران (3) : آية 188] لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 667 التفسير: هذه الآية أيضا تعريض باليهود، وفضح لمساويهم، ووعيد بالخزي وسوء المصير لهم. فقد ذكر فى الآيات السابقة قولهم: «إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ» وأنهم بهذا يمسكون المال، ويحادّون الله به.. وهنا- فى هذه الآية- يعرضون فى معرض الفرحين بما أتوا، وهذا الذي أتوه، ليس مما يحمد ويقبل، حتى يفرحوا به.. ولكن الذي فعلوه هو المنكر كلّه، وهو الشرّ كلّه.. إنهم إنما فعلوا الافتراء على الله، ونقض الميثاق الذي واثقهم به، أن يبينوا للناس ما معهم من كلمات الله، وما فيها من هدى ونور، ولم يقفوا عند هذا الحدّ من البخل والشح، فبدّلوا فى كلمات الله وغيروا، لتستجيب لمطالبهم الخسيسة، ودواعيهم الخبيثة.. هذا هو الذي فعلوه، وفرحوا به، وحسبوا أنهم بهذه المنكرات التي أفسدوا بها دينهم وأضلوا بها غيرهم- قد استطاعوا أن يفسدوا على «محمد» دعوته، وأن يغروا المشركين به، ويصرفوهم عنه! «وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ» (26: الأنعام) ولم يقف أمرهم عند هذا المنكر، من تحريفهم لكلمات الله، بل لقد لبسوا النفاق، وظهروا به فى الناس، يظهرون لهم المودة والحب، ويضمرون العداوة والبغضاء، ويرجون لهم النصر بألسنتهم، ويتمنون لهم الهزيمة من قلوبهم.. إنهم يريدون أن ينالوا الحمد والثناء، بما لم يفعلوا مما يستحق الحمد، ويستوجب الثناء.. إنها مجرد كلمات معسولة خادعة، إن انطوت على شىء، فإنما تنطوى على الشر والسوء والفساد.. وقوله تعالى «فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ» هو بدل من قوله سبحانه: «لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا ... » وإعادة الفعل «تحسبن» هنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 668 لتوكيد الحكم الواقع عليهم وتقريره، وإلصاقه بهم، بعد أن طال الفصل بالمفعول الأول ومتعلقاته، بين الفعل حسب ومفعوله الثاني، حيث كان مقتضى النظم أن يجىء هكذا: «ولا تحسبنّ الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا بمفازة من العذاب» . فالذين يفرحون هو المفعول الأول، وبمفازة من العذاب هو المفعول الثاني.. ولكن النظم القرآنى وحده هو الذي يحقّق المعنى الذي أشرنا إليه من قبل، وهو توكيد الحكم الواقع على اليهود وتقريره وإلصاقه بهم.. «فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ» الأمر الذي لا تجده متمكنا على تلك الصورة فى النظم الذي تمثلناه وطرحناه بين يدى النظم القرآنى. وفى قوله تعالى: «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» توكيد للحكم الذي أشار إليه قوله تعالى: «فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ» .. إذ أن الفعل حسب فيه معنى الظنّ، الذي يقع من جهة من ينظر إلى اليهود، فيرى أنهم أصحاب دين وأهل كتاب، وأنهم فى الوقت نفسه منحرفون فى دينهم وكتابهم، وهم من أجل هذا أقرب إلى العطب منهم إلى السلامة، وأدنى إلى النار منهم إلى الجنة.. هذا هو الحكم الذي يقع فى ظن من يراهم ويطلع على أحوالهم، وهو ظنّ أقرب إلى اليقين.. ولكنّه مع هذا حكم غير قاطع، إذ لا يملك هذا الحكم القاطع فى مصائر الناس إلا مالك الملك، وصاحب الأمر.. الله ربّ العالمين.. وقد جاء حكم الله فيهم، لتصدق ظنون الناس بهم.. «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» وليس العذاب وحده هو المصير الذي يصيرون إليه، ولكنه العذاب الأليم.. الآيات: (189- 195) [سورة آل عمران (3) : الآيات 189 الى 195] وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 669 التفسير: فى الآيات السابقة التي بدأت بالحديث عن أحد، والأحداث التي جرت فيها، وما تكشّف فى تلك الأحداث من وجوه المنافقين، وصبر المؤمنين، وكيد الكافرين- فى هذه الآيات طال وقوف المسلمين فى دخان هذه المعركة.. وفى التطلع إلى جوه شهدائهم الذين مثّلت بهم قريش بعد قتلهم، تشفّيا وانتقاما لقتلاهم فى «بدر» ، كما طال الوقوف أيضا فى مواجهة الكافرين والمشركين والمنافقين، الذين عرضهم القرآن الكريم وفضحهم.. وفى هذا الجوّ كانت تهبّ من الله نفحة رحمة وعزاء للمسلمين، فتلقاهم بين الفينة والفينة، وهم فى هذه المسيرة الطويلة مع أحد وأحداثها- فتهدأ أنفسهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 670 وتطيب خواطرهم، وتتجه قلوبهم، وتشخص أبصارهم إلى الله، بالحمد والشكران، لما منّ الله عليهم به من الإيمان، وهداهم إليه، ولكن سرعان ما تنقلهم الآيات القرآنية إلى المعركة وجوّها، فتهتز مشاعرهم تلك المتجهة إلى الله، ثم يعودون إليها بعد أن تلقاهم آية رحمة وعزاء.. وهكذا تظل أنظار المسلمين تتقلب بين الأرض والسماء.. بين معركة أحد وأرضها، وبين رحمة الله ورضوانه.. فكان من تمام رحمة الله بالمسلمين، ورضوانه عليهم، أن ختم هذا الموقف، وأنهى تلك الأحداث، بهذه الآيات التي تتيح للمسلمين لقاء خالصا مع الله، فى آفاق سماوية عالية، بعيدة عن تراب هذه الأرض ودخانها.. ولقاء هنا مع الله، والنفوس مهتاجة، والقلوب مضطربة، من شأنه أن يحدث أثرا مضاعفا فى الاتصال بالله، وملء القلب، والنفس، ولاء وخشية لجلاله وعظمته.. وبهذا يزداد المؤمنون إيمانا بالله، ويقينا بحكمته، ورضى بحكمه، وولاء لأمره ونهيه.. وفى هذه الآيات الكريمة يتحقق هذا اللقاء، الذي يخلص منه إلى نفوس المسلمين وقلوبهم ما أراد الله بهم من خير، أشرنا إلى بعضه، الذي هو قليل من كثير!!. ففى قوله تعالى: «وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً» مواجهة مشرقة بين المسلمين، وبين ملكوت السموات والأرض.. هذا الملكوت الذي هو بعض ما خلق الله، وإشارة إلى بعض مما أبدع وصور!. وفى هذه المواجهة المطلقة، تنطلق مشاعر المؤمنين، وتتفتح قلوبهم وعقولهم، لترتوى من موارد هذا الملكوت الرحيب، وتنغب من رحيقه العذب الكريم!. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 671 وفى قوله تعالى: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ» - نداء رفيق، ينبعث من الأفق الأعلى، ليقود المؤمنين الذين شخصت قلوبهم وعقولهم إلى ما لله فى السموات والأرض، لترتاد مواقع الحق والخير، فتجد فى هذا النداء الرفيق هاديا يهديها، ورفيقا يؤنسها، ويكشف لها معالم الطريق.. ففى خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، آيات مبصرة لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.. وإنه لكى يكون للعقل أثره وثمرته فى هذا المجال، ينبغى أن ينصرف بكل وجوده إلى هذا الملكوت، وأن يعيش فيه وله. فذلك هو الذي يفتح له مغالق الخير فيه، ويطلعه على مطالع الحق منه.. وهذا ما يتفق لأولئك «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» حيث يكون ذكر الله، واستحضار عظمته وجلاله. هو دأبهم، وحيث يكون النظر فى ملكوت السموات والأرض، ومطالعة آيات الخالق، واستجلاء روائع حكمته، هو شغلهم.. فى قيامهم وقعودهم، وفى حركتهم وسكونهم، وفى كل لمحة أو نظرة، وفى كل غدوة أو روحة.. حيث هم أبدا فى ملك الله، وحيثما كانوا أو اتجهوا فهم بين يدى ملكوت الله.. وعندئذ يطلع عليهم من آفاق الوجود هذا اللحن الموسيقى الشجىّ الذي يردّده كل موجود. «رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا..» فيتناغمون معه، بنبضات قلوبهم، وزغردة أرواحهم «رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا..» «سبحانك» ما أعظم عظمتك، وما أقدر قدرتك، وما أحكم حكمتك، وما أسعد من ينعم بنعيمك، وما أهنأ من يحظى برضاك «فَقِنا عَذابَ النَّارِ» حتى لا تنزعج قلوبنا عن موارد ملكوتك ولا تطيش ألبابنا من النظر فى آيات قدرتك، وروائع حكمتك! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 672 وإنه حين يشهد المؤمنون ما يشهدون من جلال ملك الله، وكمال قدرته، وسعة علمه، وروعة حكمته، يتمنّون على الله أن يقيمهم على هذا المورد، لا يتحولون عنه أبدا، فهذا هو النعيم الخالد، الذي ينعم به المؤمنون فى الدنيا والآخرة. ولجهنم أهلها، الذين يحرمون هذا النعيم، ويلقون بدله عذابا ونكالا وشقاء.. وهذا خاطر إذا خطر بقلوب المؤمنين أزعجهم وأكربهم، وزحزح عنهم هذه اللحظات المسعدة التي يعيشون فيها مع الله، ويهنئوون بالنظر فيها إلى ملكوته.. وهنا يتجسد لهم هذا المشهد الكئيب، الذي ينتظم أهل النّار فى النار، فيناجون الله، ويطلبون غوثه: «رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ» فإنه ليس خزى بعد هذا الخزي، ولا خذلان فوق هذا الخذلان.. حيث موارد النعيم دانية، ومنازل الرضوان مفتّحة، ثم هم يذادون عن هذا النعيم، وذلك الرضوان، ثم يساقون إلى جهنّم وعذاب السعير. وفى قلوب واجفة، وأنفاس مبهورة مختنقة، يفرّ المؤمنون من هذه المواجهة لجهنم وأهلها، إلى حيث يلقون الله برحمته ورضوانه: «رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا.. رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ» .. فهذا كل ما بين أيديهم أن يقدموه بين يدى رحمة الله ومغفرته، لينالوا الخلاص من هذا الهول الذي يطبق على المنافقين والكافرين، وليكونوا فى أصحاب الجنّة التي وعد المتقون.. إنهم حين سمعوا منادى الله ينادى بالإيمان ويدعوهم إليه، استجابوا لله، وآمنوا به، وبرسوله.. وهم بهذا الإيمان يطمعون فى رحمته، ويرجون أن تغفر ذنوبهم، وأن تكفّر عنهم سيئاتهم، وأن يموتوا حين يموتون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 673 على البر والتقوى، وأن يحشروا مع الأبرار والأتقياء.. فهم على وعد من الله، وعدوا به على لسان رسله: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (97: النحل) .. وهم يحيون أنفسهم وينعشونها بالحديث عن هذا الموعد الكريم: «رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ.. إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ» .. ومعاذ الله.. إن الله لا يخلف وعده.. «فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ» وفى قوله تعالى: «بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ» إشارة صريحة إلى أن المرأة والرجل على سواء عند الله، فى الجزاء، ثوابا أو عقابا، وأنها ليست فى منزلة دون منزلة الرجل، بل هما على درجة واحدة من الأهلية واحتمال التّبعة، وحمل الأمانة.. وكيف لا يكون هذا وهما- المرأة والرجل- من خلق واحد.. فالمرأة تلد الذكر والأنثى.. والرجل يولد له الذكر والأنثى.. والذكر ولد الأنثى، والأنثى بنت الرجل.. فكيف يكون لأحدهما فضل على الآخر قائما على أصل الخلقة؟ فإن كان ثمة فضل فهو فيما يتفاضل فيه الناس، بالعمل فى مجال الخير والإحسان. وفى قوله تعالى: «ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» إشارة إلى أن هذا الجزاء الذي يجزونه، هو فضل عليهم من الله سبحانه وتعالى، إذ هداهم إلى الإيمان، ووفقهم للعمل الصالح، الذي أنزلهم منازل الرضا والقبول عند الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 674 الآيتان: (196- 197) [سورة آل عمران (3) : الآيات 196 الى 197] لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) التفسير: فى هذه المناجاة التي كانت تسبح فيها أرواح المؤمنين فى رحاب الله، وترفّ بها على مشارف الملأ الأعلى، يؤذّن فيهم بالعودة إلى عالمهم الذي يعيشون فيه، العالم الأرضى، إذ كان لا بدّ من العودة بعد هذه الرحلة المسعدة فى عالم الروح، والحق، والنور، لأن الحياة تدعوهم إليها، ليكونوا مع النّاس، وليعيشوا فى الناس! ومع ما معهم من زاد طيب تزوّدوا به فى تلك الرحلة المسعدة، فإن ما على الأرض من مفاسد وشرور، وما فى النّاس من مفسدين وأشرار، جدير به أن يغتال هذا الزاد الطيب، وأن يحرم أصحابه منه إذا لم يحذروا. ولهذا فقد تلقّاهم الله سبحانه وتعالى بتلك اللفتة الكريمة- تلقاهم وهم يهبطون إلى هذا العالم الأرضى، ليأخذوا حذرهم من العدوّ الراصد لهم بما فى يديه من مفاتن ومفاسد، وليظلوا هكذا محتفظين بما وقع لأيديهم من خير، فى تطوافهم بالعالم العلوي، وسبحهم فيه.. وكان قوله تعالى مخاطبا نبيّه الكريم: «لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ» هو اليد القويّة الرّحيمة، التي تمسك على المؤمنين إيمانهم، وتثبت على طريق الحق والخير خطوهم، فلا يغريهم ما يغدو فيه الكافرون وما يروحون، من متاع الحياة وزخرفها، وما يحصّلون فيها من مال، وما يقع لأيديهم من جاه وسلطان، فذلك كله «مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 675 وفى خطاب النبىّ الكريم بهذا النهى ومواجهته بالتحذير مما فيه.. ما يلقى إلى المؤمنين أن يكونوا على حذر دائم، وإشفاق متصل.. إذ كان النبىّ الكريم، وهو ما هو فى صلته بربه وخشيته منه، وفى رعاية الله له، وعصمته من الزلل- يواجه بهذا التحذير، ويلفت إلى مراقبة نفسه، وحراستها، فإن غير النبىّ من المؤمنين أولى بأن يحذر ويخشى العدوّ المتربص به، إن أراد النجاة والسلامة. الآية: (198) [سورة آل عمران (3) : آية 198] لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198) التفسير: انظر إلى ألطاف الله ورحمته بالمؤمنين.. فإن الله سبحانه وتعالى إذ يواجههم بهذا التحذير الذي لو انفرد بهم وحده لأقام نظرهم على طريق الخوف والمراقبة أبدا، إن هم أرادوا الوفاء به، أو كان فى استطاعتهم أن يفوا به! - إن الله سبحانه إذ يواجههم بهذا التحذير من جهة، يلقاهم من جهة أخرى بما يشرح صدورهم، ويدفىء قلوبهم بالأمل والرجاء، فى حياة طيبة ونعيم مقيم.. وبهذا تتوازن النظرتان: نظرتهم إلى العدوّ المتربص بهم، الذي يدعوهم إلى التفلت من طريق الحق ومجانبته، إلى طريق الضلال والغواية- ثم نظرتهم إلى ربّهم، وما يدعوهم إليه من رضوانه، ونعيم جناته.. وهنا يكون لهم بين النظرتين موقف، وإلى أي الطريقين منزع! «لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 676 فمن محصّل النظرتين، يجد المؤمنون أن ما يدعوهم إليه ربهم هو الخير، وأن ما أعد الله لهم هو الجدير بأن يحرص عليه، ويعمل العاملون له، وأن ما يسوس لهم به الشيطان، هو الضلال المهلك، والخسران المبين. الآية: (199) [سورة آل عمران (3) : آية 199] وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) التفسير: دعوة الحق والخير، دعوة تقوم على الفلاح والرشد، تستجيب لها النفوس الطيبة، وتتفتح لها القلوب السليمة، وتتقبلها العقول المتحررة من تلقيات الغواة والمفسدين. وإذ كان ذلك شأنها، فإنها ميراث الإنسانية كلها، وحظ مشاع فى الأمم والشعوب جميعا. ودعوة الإسلام دعوة خالصة للحق والخير، استقبلتها النفوس الطيبة، وتداعت إليها القلوب السليمة، وعلقت بها العقول المتحررة، وسرعان ما كثر جند الله حولها، وتزاحم عباد الله على مواردها، ودخل الناس فى دين الله أفواجا. ولكن فى حسد قاتل، وفى عداوة عمياء، وقف اليهود من هذه الدعوة موقف الخصام والكيد.. فبهتوا رسول الله وكذّبوه، وافتروا على الله، فبدلوا وغيّروا فى آياته التي بين أيديهم من كتب الله.. ومع هذا، فإن قلّة قليلة منهم، وكثير غيرهم من النصارى قد خرجوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 677 عن موكب هذا الركب الضالّ، فآمنوا بالله، وصدّقوا رسوله، كما كانوا مؤمنين بالله من قبل، ومصدقين برسل الله الذين دعوهم إلى الإيمان. وفى إيمان هؤلاء الذين آمنوا من أهل الكتاب، ما يؤنس الذين آمنوا من المشركين، ويجىء إليهم بشاهد جديد على صحة دينهم وسلامته، إن كان فيهم من يحتاج إلى هذه الشهادة أو يلتفّت إليها، بعد أن شهد ما شهد من آيات الكتاب المبين، ومعجزات كلماته. ثم إن فى هذا الإيمان تسفيها لمن وقف من الإسلام هذا الموقف المعادى له من أهل الكتاب، إذ كان فيهم تلك الطلائع الراشدة التي عرفت الحق فيه، ووجدت الخير معه، فآمنت واهتدت، على حين ظلوا هم فى ضلالهم يعمهون. وفى قوله تعالى: «وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ» إشارة إلى الصلة الوثيقة التي تجمع بين رسالات الرسل ودعوات الأنبياء، وأنها كلها على طريق الحق، والخير. وفى قوله سبحانه: «لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا» تعريض بعلماء اليهود وأحبارهم، وما افتروا على الله، وغيروا وبدلوا فى آياته، لقاء ثمن قليل، ومتاع زهيد! الآية: (200) [سورة آل عمران (3) : آية 200] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) التفسير: بهذه الآية الكريمة تختم سورة «آل عمران» التي كان أبرز ألوانها هذا اللون المصبوغ بدم المجاهدين فى سبيل الله، فى أولى معارك الإسلام، وعلى امتداد الطريق الذي ساروا فيه، من أول يومهم معه، إلى يوم أحد!! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 678 فالمسلمون كانوا إلى يوم أحد فى مواجهة عواصف عاتية، تهبّ عليهم من كل جهة، وتطلع عليهم من كل أفق. كانوا فى مكة قلّة مستضعفين، أخذتهم قريش بالبأساء والضرّاء، ففرّوا بدينهم وانخلعوا عن ديارهم وأهليهم فى غربة موحشة، لا يؤنسهم فيها غير دينهم، ولا يملأ عليهم حياتهم إلا آيات الله يرتلونها، ويسعدون بما تفيض عليهم من رحمة ورضوان.. وكانوا فى المدينة أعدادا قليلة، تتربص بهم قريش، وتعدّ العدة للقضاء عليهم، على حين يمكر بهم اليهود ويؤلّبون الناس على حربهم. ثم إذا كان يوم بدر استروح المسلمون ريح النّصر، وتنفسوا أنفاس الرضا.. فلما جاءت موقعة أحد ألقت على المسلمين هموما ثقالا، وأطمعت فيهم أعداءهم، فأظهروا لهم ما كانوا يخفون من عداوة، وما كانوا يبيتون من عدوان.. وقد رأينا كيف كانت رحمة الله بالمسلمين ومواساته لهم، فيما نزل من آيات، بعد أحداث أحد. والصبر هو زاد المؤمنين وعتادهم فى مسيرتهم إلى الله، وبلوغ مرضاته.. وبغير الصبر، وتوطين النفس على ما تكره، لا يستقيم خطو الإنسان أبدا على طريق الحق والخير، إذ كان ذلك الطريق دائما، موحشا، تعترض سالكه الحواجز والمزالق والعثرات! لهذا كانت تلك الآية الكريمة دعوة خالصة للصبر، تغرى المسلمين به، وتحرضهم عليه، وتفتح لهم طريق النجاح والفلاح بيده! «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.. اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 679 فالصبر، والمصابرة، والمرابطة، وتقوى الله، هنّ اللائي يمكّنّ للمؤمن من أن يضع قدميه على طريق النجاح والفلاح، وأن يقطع هذا الطريق إلى غايته، فيظفر برضا الله، ويفوز برضوانه. والصبر، هو القوة التي يلقى بها المرء المكاره والشدائد، فيحتملها فى إصرار وعزم، وفى غير وهن أو ضعف.. فذلك هو الصبر الذي يدعو إليه الإسلام، ويزكيّه، كما تدعو إليه رسالات السماء، وحكمة الحكماء.. وفى هذا يقول لقمان لابنه فيما يقول القرآن الكريم عنه: «وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» . (17: لقمان) والمصابرة، هى التجربة الحيّة للصبر، والمحكّ الذي يظهر به معدن الصبر عند الصابرين.. فليس الصبر درجة واحدة.. بل هو- شأنه شأن كل فضيله- درجات متفاوتة، تختلف حظوظ الناس منه، كلّ حسب وثاقة إيمانه، وقوة عزيمته. وفى المصابرة مغالبة ومصاولة، بين الإنسان وبين الشدائد والمحن، التي يريد قهرها والغلب عليها، سواء كانت تلك الشدائد والمحن ممّا يعتمل فى نفسه من أهواء ونزعات، أو مما تسوق إليه الحياة من بلاء وامتحان! والمرابطة هى الثمرة المباركة من ثمار الصبر والمصابرة.. فإذا صبر الإنسان على المكروه، ثم صابر هذا المكروه على ثقله وامتداد الزمن به، فلم يضعف ولم يضجر، أسلمه ذلك إلى «المرابطة» التي يذلّ فيها المكروه ويصبح شيئا مألوفا.. وهكذا تتحول المكاره مع الصبر والمصابرة إلى أشياء أقرب إلى نفس الإنسان، وأشكل بطبيعته، وهكذا يصبح معتادا لها، مرتبطا بها.. وبهذا يحصل على الثمرة الكبرى، وهى التقوى، التي لا تكون إلا بقهر شهوات النفس وأهوائها، وذلك هو الفلاح المبين والفوز العظيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 680 4- سورة النساء نزولها: نزلت بالمدينة، فهى مدنية، بلا خلاف بين العلماء. عدد آياتها: مائة وخمس وسبعون آية. عدد كلماتها: ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وأربعون عدد حروفها: ستة عشر ألف حرف وثلاثون حرفا أسماؤها: المشهور أنها سورة النساء، وتسمى: سورة النساء الكبرى وتسمى سورة الطلاق: النساء الصغرى. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الآية الأولى [سورة النساء (4) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) التفسير: تحمل سورة النساء كثيرا من الأحكام التي تنظم العلاقات بين أفراد المجتمع الإنسانى.. بين الرجال والنساء، وبين اليتامى والأوصياء، وبين الورثة والمورّث، كما تضمنت حدودا وأحكاما فى شأن الزواج، والمهر، وقوامة الرجل على المرأة، والجهاد فى سبيل الله.. إلى كثير غير هذا، مما ضمت عليه السورة الكريمة.. والمجتمع الذي لا تتماسك فيه روابط الأخوة الإنسانية، ولا تسرى فى كيانه مشاعر الرحمة والمودة التي تنتظم أفراده، هو مجتمع هزيل العود، متداعى البناء، لا يثبت لأقلّ هزّة تمرّ به، أو يقوم فى وجه أية عاصفة تهبّ عليه!. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 681 ولهذا كان هذا النداء الكريم الذي بدأت به السورة الكريمة دعوتها إلى الناس جميعا- جامعا تلك المشاعر التي تربط الإنسان بالإنسان، وتضمه إليه، وتؤاخى بينه وبينه.. «يا أَيُّهَا النَّاسُ» النّاس جميعا من كلّ جنس ومن كلّ قوم. «اتَّقُوا رَبَّكُمُ» فإن تقوى الله، ومراقبته، وملء القلب خشية له، والولاء لجلاله وعظمته- هى ملاك الأمر كله، فى إقامة الإنسان على طريق الحق والخير، وفى الوصول به إلى درجات عالية، فى منازل الكمال البشرى، المتاح للإنسان أن يصل إليه عالم البشر. «الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» على تلك الصورة الكريمة التي تتجلّى فيها قدرة الله، وحكمته ورحمته.. فالإنسانية كلها ما ظهر منها وما سيظهر، هى ثمرة بذرة واحدة، أنبتها الله بحكمته، ونفخ فيها من روحه، فأعطت هذا الثمر الكثير، المختلف الألوان، المتعدد الطعوم، المبثوث فى كل أفق. «وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها» أي وخلق من هذه النفس، ومن مادتها وطبيعتها زوجا لهذه النفس، مقابلا لها، ومكمّلا لوجودها. والقصّة التي تقول إن «حواء» خلقت من ضلع آدم، هى من واردات الأساطير، وقد أخذ بها معظم المفسّرين، وفهموا هذه الآية الكريمة عليها. والآية الكريمة لا تعين على هذا الفهم، ولا تسانده.. وإنا إذ ننظر فى قوله تعالى: «وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها» لنجد الضمير فى «منها» الذي يشير إلى النفس الواحدة، لا يقصدها باعتبارها كائنا بشريا هو «آدم» وإنما يشير إليها باعتبارها مادّة مهيأة لخلق البشر، ومن هذه المادة كان خلق آدم، ومن هذه المادة أيضا كان خلق زوجه، التي يكتمل بها وجوده، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى- فى آية أخرى- «وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً» (8: النبأ) .. وليس هذا فى خلق الإنسان وحده، بل هو التدبير الذي قدّره الله لخلق الكائنات الحية كلها، من حيوان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 682 ونبات.. ومن يدرى فربّما كان ذلك فى عالم الجماد أيضا، وفى هذا يقول الحق جلّ وعلاء: «وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» (49: الذاريات) ويقول سبحانه: «وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» (7: ق) . فهل كان خلق هذه الموجودات على تلك الصورة التي خلق عليها آدم «وحواء» كما تحدّث الأساطير عنها؟ الذّكر أولا، ثم كان من ضلع الذّكر خلق الأنثى؟ .. ذلك ما لا مفهوم له فى علم، ولا معقول له فى عقل! إن آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن الذكر والأنثى لا تفرق بينهما فى أصل الخلقة، بل تجعلهما طبيعة واحدة، كان منها الذكر والأنثى، وهذا ما فهمنا عليه قوله تعالى: «فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ» (195: آل عمران) وهذا ما نفهم عليه قوله تعالى: «أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى» (36- 39: القيامة) ففى قوله تعالى: «فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى» إشارة صريحة إلى أن الإنسان يحمل فى كيانه طبيعة الذكر والأنثى، أي المادة المخلّق منها الذكر والأنثى، ففى الذّكر، ذكر وأنثى وفى الأنثى أنثى وذكر.. وذلك ما يقرره العلم الحديث، ويزكيّه القرآن العظيم. ولو أردنا أن نأخذ بهذه الأسطورة ونقول فى خلق آدم وحواء بما تقول به الأساطير لكان علينا أن نرتفع بخلق آدم إلى بذرة الحياة الأولى للأحياء.. فى «الإميبيا» حيث يقوم التوالد والتكاثر فيها على الانقسام فى الجرثومة الواحدة! فهل إلى هذه الجرثومة الإيميبية تمتد أنظار المفسّرين الذين قالوا ان حواء وآدم خلقا من جرثومة واحدة كانت آدم أولا ثم انقسمت على نفسها فكانت آدم وحواء ثانيا؟ إن يكن ذلك فلا بأس به عندنا، وهو الذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 683 نقول به، وهو أن آدم وليد دورة طويلة فى سلسلة التطور، وأنّ أول سلسلة للحياة التي تطور منها كانت «الإيميبيا» التي تتوالد بالانقسام!. «وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً» أي من هذين المخلوقين، الزوجين: الذكر والأنثى، تكاثر الناس وانتشروا، فكانوا هذه الأمم وتلك الشعوب بقدرة القادر العظيم، وصنعة العليم الحكيم. فهؤلاء هم الناس الذين دعاهم الله سبحانه وتعالى أن يتّقوه.. أن يتّقوا ربّهم، الذي أنشأهم وربّاهم وصنعهم بقدرته، فى أطوار درجت بهم من عالم التراب والنبات، إلى عالم النطف.. ثم إلى الإنسان المسوّى فى أحسن تقويم. وكلمة «ربّهم» هنا تفيد معنى الرعاية والتربية التي يكون الإنسان أحوج ما يكون إليها وهو فى دور الخلق والتكوين.. «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ» .. وهذا نداء آخر من قبل الحق، يدعو به عباده إلى التّقوى، بعد أن ناداهم بها «ربّهم» وهم عالم الخلق والتكوين.. إنهم هنا بشر سوىّ، يعقل ويفهم، ويدرك.. يعقل أنه لم يولد هكذا إنسانا مكتمل الخلق مرة واحدة، بل تنقّل فى أطوار عديدة، تحت رعاية رحيمة، وبيد حكيمة.. ويفهم أنّه لم يخلق نفسه، كما أن أبويه لم يخلقا نفسيهما، وأن هذا الخلق الخالق عظيم فوق عالم البشر.. ويدرك بعد هذا وذاك أن هذا الخالق هو الذي تنتسب إلى صنعته المخلوقات جميعا، وأنه الإله المستحق للألوهية المنفرد بها، كما أنه الربّ المختصّ بالربوبية، المحمود وحده عليها.. ومن أجل هذا كانت تقوى الله، وخشيته، والولاء له، أمرا لازما، منوطا فى عنق الإنسان، لربّه وإلهه. وهذا نداء الحق جلّ وعلا يذكّره بهذا الواجب، ويدعوه إليه، فإن قصّر أو كفر بهذا الحق، فقد خاب وخسر! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 684 وفى قوله: «الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ» إيقاظ لهذا الشعور الذي يسكن كيان «الإنسان» كلّ إنسان، فيهيج فيه دواعى التطلع إلى الله والبحث عنه، والمساءلة به، فيما بينه وبين نفسه، وفيما بينه وبين الناس، ففى كل إنسان داع يدعوه إلى البحث عن الله، والمساءلة عن ذاته وصفاته. فالبحث عن الله، والسؤال عنه، والمساءلة به، أمر شغل الإنسان- كل إنسان- منذ كانت الإنسانية، ومنذ فتحت عينها على هذا الوجود، وأدارت بصرها فيه، وقلّبت وجهها بين السماء والأرض، وفيما بين السماء والأرض. فالله- سبحانه- يملأ على الإنسان وجوده كله، ويطرق حواسّه كلّها، ويخالط مشاعره ومدركاته جميعها، فيما بثّ الله فى هذا الوجود، من روائع صنعته، وآيات خلقه، الأمر الذي لا يكون معه إنسان من الناس قادرا على الذّهول عنه، أو التفلّت منه، وحبس الحواس، والمشاعر، والمدارك، عن الاشتغال به، فلينظر المرء أىّ إنسان هو؟ إن أراد أن يكون فى الناس، أو أن يكون من الناس. «وَالْأَرْحامَ» .. قرىء قوله تعالى: «وَالْأَرْحامَ» بالنّصب عطفا على قوله تعالى «وَاتَّقُوا اللَّهَ» بمعنى اتقوا الله والأرحام.. وتقوى الأرحام هى من تقوى الله، فكما أن لله حقوقا، ينبغى رعايتها والحرص عليها، فكذلك الأرحام- وهم الأقارب، ومنهم الأبوان- لهم حقوق يجب رعايتها والحرص عليها، إذ كان لهما شأن فى تربية الإنسان ورعايته.. فهذا الواجب الذي يؤديه الإنسان لذوى رحمه، هو وفاء لحقوق لهم عليه، وأداء لدين أقرضوه إياه، وقد آن أوان استقضائه منه، حين قدر وعجزوا، وملك ولم يملكوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 685 وفى الجمع بين اتقاء حقوق الله، وحقوق ذوى الأرحام لفتات.. منها: أولا: التنويه بشأن الصّلة التي تصل الإنسان بأصوله وفروعه، وأنها صلة يجب أن تقوم على التوادّ والتراحم، وأنّ فى رعايتها مرضاة لله، واستكمالا لتقواه. ثانيا: الإلفات إلى حقوق الله، وأنها حقوق عظيمة، لا يستطيع الإنسان الوفاء ببعضها، وأن الغفلة عنها، أو التفريط فيها عدوان على الله، وكفران به وبنعمه، وأنه إذا كان فرضا لازما على الإنسان أن يبرّ أبويه، ويرعى ذوى رحمه، بدواعى الانتساب إليهم، فإن حبّه لله، ورعايته لحقوقه، بالتزام تقواه- أوجب وألزم، إذ كان نسبه إلى خالقه وربّه وإلهه هو النسب الحق الأصيل، وما سواه تبع وإضافىّ. كذلك قرىء قوله تعالى: «وَالْأَرْحامَ» بالجرّ، عطفا على الضمير فى «به» فى قوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ» بمعنى واتقوا الله الذي تساءلون به وبالأرحام، أي الذي هو ملء خواطركم وأفكاركم، كما هو شأنكم مع أهليكم وذوى أرحامكم. فالإنسان أكثر ما يدور على لسانه، ويجرى فى خاطره، هم أهله وقرابته، وربما شغل الإنسان بأهله عن الله، وهذا ما نبّه الله سبحانه وتعالى إليه وحذّر منه فى قوله سبحانه: «قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» (24: التوبة) ويقول تعالى: «فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً» (200: البقرة) .. ومع هذا فإن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 686 والقراءتان- بالنصب والجرّ- يكملان بعضهما- ويكشفان عن وجه من وجوه الإعجاز القرآنى، ويأخذان على الناس السبيل إلى الانحراف عن سواء السبيل، فى الجمع بين تقوى الله، وبرّ ذوى الأرحام.. فمن الناس من يلتفت بوجوده كلّه إلى الله، ويذهل عن حقّ أهله وذوى قرابته، ومن الناس من تشغله أمور أهله وذوى قرابته فيجور على حقّ الله عنده. والطريق القويم هو أن يرعى الأمرين معا، فلله حقوق يجب أن يؤديها، وللأهل حقوق ينبغى أن يرعاها، وهو ملوم إن قصّر فى حق على حساب الحق الآخر. الآية: (2) [سورة النساء (4) : آية 2] وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) التفسير: التطبيق العملي للتقوى بشقّيها- تقوى الله، وتقوى ذوى الأرحام- يكون أكثر ما يكون ظهورا فى رعاية حقوق الضعفاء من ذى الأرحام، وهم اليتامى، حيث يكون اليتم غالبا فى كفالة أحد أقاربه. ولهذا كان أول اختبار عملىّ للتقوى التي دعا الله إليها فى مطلع السورة هو الدعوة إلى رعاية حقوق اليتامى، واتقاء الله فيهم، وفى أموالهم التي هى أمانة فى أيدى الأوصياء، كما أنهم هم أنفسهم أمانة فى ذمة هؤلاء الأوصياء.. فلا تبرأ ذمة الوصىّ حتى يؤدّى تلك الأمانة على وجهها الذي أمر الله أن تؤدّى عليه.. وقد خصّ الأمر الإلهى المال بالذكر، لأن أكثر ما تطمح إليه نفوس الأوصياء وتطمع فيه، هو المال، وما سواه فهو تبع له.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 687 فلو أن الوصىّ عفّ عن مال اليتيم، وراقب الله فيه، وبذل له من الجهد والرأى ما يبذل لماله هو- لو أنه فعل ذلك لا استقام أمره كلّه مع اليتيم، فبذل له من الحبّ والعطف، ما ينعش نفسه، ويطيّب خاطره، ويعدّل سلوكه.. والعكس صحيح، فإنه حين تمتد عين الوصىّ إلى مال اليتيم بالخيانة والغدر، فإنه لا يتحرج أبدا بعد هذا من أن يسوق البغض والكراهية لهذا اليتيم، وأن يسومه الخسف والهوان، وأن يرخى له الحبل فى طريق الضلال والفساد، حتى يخلى له الطريق لأكل ماله الذي استباح أكله، واستمرأه. وفى قوله تعالى: «وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ» أمر قاطع بأداء أموال اليتامى إليهم سليمة كاملة، سواء كان اليتيم لا يزال صغيرا تحت كفالة الوصىّ، أو بلغ رشده واستحق أن يتولىّ أمر نفسه. وعلى هذا، فليذكر الوصىّ دائما أن مال اليتيم هو مال اليتيم، وأنه أمانة فى يده، مطالب بأن يحاسب نفسه عليها فى كل يوم، وأن يدفعها إلى اليتيم عند أي طلب.. وهذا ما يجعله فى مراجعة ومحاسبة مع نفسه أبدا، غير منتظر هذا اليوم البعيد، الذي قد يمتد إلى سنين، حين يبلغ اليتيم رشده، ويحين وقت الحساب!. «وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ» . نهى بعد أمر.. وفى هذا النهى، وبالامتثال له، يتحقق الأمر، ويجىء الوفاء به على وجه مرضى سليم.. والخبيث، هو أكل مال اليتيم، وتضييع حقوقه، وإفساد مصالحه أو تفويتها، إهمالا وتقصيرا.. عن عمد أو غير عمد. والطيب، هو رعاية مال اليتيم، وحسن القيام عليه، وتحرّى أعدل الوجوه لإنمائه وتثميره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 688 وتبدّل الخبيث بالطيّب، أن يسلك الوصىّ بمال اليتيم مسالك التضييع والإهمال، والاغتيال.. فيكون بذلك قد ترك الطيب الذي أمره الله به، وأخذ الخبيث الذي دعته نفسه إليه، ومال به هواه نحوه. «وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ» . هو بيان لبعض المداخل التي يتبدل الأوصياء فيها الخبيث بالطيب، فى شأن اليتامى الذين فى أيديهم، وذلك بأن يضيفوا أموال اليتامى إلى أموالهم، ويحسبوا أنها من بعض ما يملكون، دون أن يكون فى تقديرهم أن مال اليتيم لليتيم وحده، وأنهم أمناء عليه، حرّاس له. «إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً» . الحوب الذنب والإثم.. والضمير فى «إنه» يعود إلى التصرف المعيب الذي يتصرفه الأوصياء فى أموال اليتامى، وإضافتها إلى أموالهم.. وذلك جور غاشم، وعدوان مبين. الآية: (3) [سورة النساء (4) : آية 3] وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3) التفسير: الذي ينظر فى الآية الكريمة نظرة مجرّدة، تقطعها عن سابقها ولاحقها من الآيات، لا ينكشف له وجهها، ولا يستقيم له معناها.. ومن هنا كان اضطراب كثير من المفسّرين حيالها، وتخبطهم فى التوفيق بين شرطها وجوابها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 689 فالشرط المشروط هنا وهو الخوف من ظلم اليتامى، أو بمعنى آخر طلب العدل والتماس الإحسان فى اليتامى- هذا الشرط معلق تحقيقه بنكاح ما طاب للأوصياء من النساء.. والأمر فى ظاهره، على النقيض من هذا الحكم الذي يجمع بين الشرط والجزاء.. فالعدل فى اليتامى لا يقوم أبدا على نكاح ما طاب للأوصياء من النساء مثنى وثلاث ورباع،، إذا أخذ على إطلاقه، بل إن ذلك ربما كان داعية إلى العدوان على اليتيم، والجور على ماله، وفاء لمطالب الزواج والأولاد الكثيرين، الذين يثمرهم هذا الزواج المتعدد. ولكن وصل الآية بما قبلها وما بعدها من آيات، يجعلها بمكانها الصحيح من الصورة العامة التي ترسمها مجموعة الآيات الأولى، من السورة، تلك الصورة التي تدعو إلى تقوى الله فى محارمه، وتقواه فى ذوى الأرحام عامة، وفى الأيتام منهم خاصة.. وقد دعت الآية السابقة على هذه الآية- دعت الأوصياء على اليتامى أن يؤتوهم أموالهم، وأن يؤدوها إليهم كاملة، لا تفريط فيها، ولا عدوان عليها. ثم يجىء بعد هذا قوله تعالى: «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ» - يجىء قول الله هذا، تأسيسا على ما أمر به فى الآية السابقة، وتقريرا له.. فقوله تعالى: «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا.. الآية» هو خطاب لمن استجاب لقوله سبحانه: «وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ» أو لمن ترجى منه الاستجابة لهذا الأمر، أو هو خطاب للمؤمنين جميعا، وإلزام لهم أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 690 يستجيبوا له، إن كانوا مؤمنين حقا، لأنه أصل من أصول الإيمان، ودعامة من دعائمه. وإذا كان الأمر كذلك، وإذا كان من شأن المؤمنين أن يستجيبوا لهذا الأمر وأن يحققوه، فإن هناك أمرا آخر يلحق بهذا الأمر، إذا هم فعلوه، عظم أجرهم، واستقام على التقوى طريقهم، وهذا الأمر هو العدول عن زواج اليتيمات، إلى زواج غيرهن من النساء.. فذلك أبعد للشّبه، وأقطع لنوازع الطمع فى ما لهنّ. وعلى هذا يكون المعنى هكذا.. أما وقد خفتم أيها الأوصياء على اليتامى، أن تأكلوا أموالهم بالباطل، تريدون بهذا مرضاة الله، وتبتغون رضوانه- فإن من تمام هذا الأمر أن تخافوا ظلم اليتيمات فى أنفسهن، بعد أن خفتم ظلمهن فى مالهن.. فإن كنتم على خوف من ظلمهن وتريدون أن تجنبوا أنفسكم هذا الموقف، فدعوهن لشأنهن ولا تتزوجوهنّ وهنّ فى أيديكم، لا يملكون من أمرهن شيئا، وإن لكم فى غيرهن من النساء ما تشاءون.. مثنى وثلاث ورباع، ففى هذه التوسعة لكم فى زواج أكثر من واحدة نعمة من نعم الله عليكم، ومن شكر هذه النعمة ألّا تطمح أعينكم إلى اليتيمات، وما فى الزواج بهن من حرج. وفى قوله تعالى: «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ» ما يشير إلى أن اليتيمات المرغوب عن زواج الأوصياء منهن، هن الصغيرات اللاتي لا يصلحن للزواج، ولهذا كان الأمر الإرشادى بالزواج: من «ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ» أي البالغات، الصالحات للزواج، اللائي تشتهين النفس. وفى قوله تعالى: «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً» دعوة إلى العدل بين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 691 الزوجات، والتسوية بينهن فى الحقوق والواجبات، وفى هذا ضمان لسلامة الأسرة واستقرارها، ورفع كثير من أسباب الخلاف بينها. وإذا كانت التسوية بين الزوجات تسوية مطلقة، والعدل بينهن عدلا كاملا- أمرا غير ممكن، وإن أمكن فى حال فلن يمكن فى جميع الأحوال- إذا كان ذلك كذلك، فقد أشار الإسلام إلى الدواء الناجع لسلامة الإنسان فى دينه، فلا يظلم، وسلامته فى نفسه، فلا يقع بين مهاب العواصف من الشقاق والخلاف- هذا الدواء هو الاقتصار على زوجة واحدة والاكتفاء بها: «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً» . وفى قوله تعالى: «أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» إشارة إلى دواء آخر يتداوى به من يرغب فى التزوج بأكثر من زوجة! فهناك «الإماء» وهن ما ملك المرء من الجواري، فله أن يتمتع بما شاء منهن. وفى قوله سبحانه: «ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا» بيان للحكمة من الاقتصار على زوجة واحدة، أو التسرى بالإماء. والعول: الميل، يقال عال الميزان عولا، أي مال. والعول: الزيادة، وتحمل الزيادة هنا على الزيادة فى الظلم، أو الزيادة فى كثرة الأولاد والنفقات.. وعلى هذا يمكن أن يحمل العول هنا على هذه المعاني كلها.. الزيادة فى الظلم، والزيادة فى العيال والنفقة، ثم الحاجة والفقر! وقد يسأل سائل: أليس فى التسرى بالإماء كثرة فى العيال، وكثرة فى النفقة؟ فكيف تكون الدعوى إلى التسرى بهن، ثم يكون التعليل لذلك ما علل به وهو عدم العول؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 692 والجواب على هذا، هو أن التسرّى بما ملكت اليمين، لا يزيد فى أعباء الحياة على من تسرّى بما ملكت يمينه منهن، إذ كنّ فى كفالته، قبل التسرى وبعده.. وقد أجيب عن كثرة العيال، بأن الإنسان لا يحرص على طلب الولد من أمته، ولا يتحرّج فى العزل عنها، برضاها أو بغير رضاها. ولا بد هنا من كلمة حول تعدد الزوجات، وإباحة الإسلام له، ومقولات الذين يرجمون الإسلام بمفترياتهم عليه، فى شأن هذا التعدد. تعدد الزوجات: ضوابطه، وحكمته إن الذين يشغبون على الإسلام، ويشوشون عليه.. يقولون فيما يقولون عن هذا التعدد: لماذا يباح للرجل أن يتزوج بأكثر من امرأة، وأن يجمع بين أكثر من واحدة إلى أربع، ولا يباح للمرأة أن تتزوج أكثر من رجل، وأن تجمع بين أكثر من رجل إلى أربعة؟ أليس هذا هو العدل والمساواة.. إن كان عدل ومساواة؟ ونقول: إنه لكى ننظر إلى هذه المسألة، نظرا صحيحا مستقيما، ينبغى أن ننظر إليها من جانبيها معا.. جانب المرأة وجانب الرجل، كلّ على حدة، ثم كلّ فى مقابل الآخر: ففى جانب المرأة نجد: أولا: أن الطبيعة قد جعلت مواليدها من الإناث أكثر من الذكور، سواء ذلك فى عالم الإنسان، أو الحيوان والطير.. وحتى فى النبات. وقد يكون هذا التدبير المتصل بأصل الحياة، لكى تتكاثر المواليد، وتعمر هذه الأرض، إذ كانت الإناث هى الوعاء الحامل للمواليد، وعلى قدر هذه الأوعية وكثرتها يكون النسل وكثرته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 693 ثانيا: هذه الحروب- وهى سنّة من سنن الحياة البشرية- تذهب بكثير من الرجال، الأمر الذي إذا أضيف إلى سابقه قلّت به نسبة الرجال إلى النساء، إلى درجة بالغة الخطر، إن لم يكن هناك عامل آخر، يوازن هذا العامل ويقلل من خطره. ونسأل: إذ لم يكن هناك عامل معدّل لهذا التفاوت البعيد، فى النسبة بين أعداد النساء وأعداد الرجال- فأين يذهب هذا العدد العديد من النساء، اللائي لا مقابل لهن من الرجال؟ جواب واحد لا غير لهذا السؤال: هو أن يمتن عانسات إذا تعفّفن- وقليل ما هنّ، أو يحيين حياة بهيمية، مباحات لكل رجل، إذا استجبن لغريزتهن- وما أكثرهن! أفهذا؟ أو أن تسكن المرأة إلى رجل مع أخرى غيرها أو أخريات، متحصنة فى بيت الزوجية، مستظلة تحت جناح رجل يحميها، ويغار عليها، ويخرس قالة السوء فيها؟ ثم لنسأل: وهل مع هذه الإباحة المطلقة، وجد الرجال فرص الحياة وظروفها، مؤاتية لهم، فسكن الواحد منهم إلى أكثر من واحدة؟ إن الواقع يشهد بأن أفرادا قلة- يعدّون فى حكم الشاذ- هم الذين استعملوا حق الإباحة هذا.. أما الغالبية العظمى من الرجال فقد رغبوا عن هذا المباح، واكتفوا بامرأة واحدة، قطعوا الحياة معها.. بل وما أكثر الذين تتوفى زوجاتهم ثم لا يتزوجون بعدهن، وفيهم بقية شباب وصحة! إن التعدد- الذي أباحه الإسلام- لم يمكن على سبيل الإلزام، وإنما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 694 كان بابا من أبواب الرحمة، تفيد منه المرأة- غالبا- أكثر مما يستفيد منه الرجل، حين لا تجد المرأة طريقا تسكن فيه إلى رجل، إلّا مع أخرى أو أخريات، يشاركنها الحياة الزوجية معه.. فهى فى هذه الحياة- على ما بها- خير من حياتها بلا رجل! ثم نسأل أيضا: أهناك- فى هذه الإباحة- ما يرغم المرأة على أن تشارك غيرها فى الزوج، أو يشاركها غيرها فيه؟ إن للمرأة الأولى أن تطلب الطلاق إذا تضررت من المرأة الثانية، كما أن للمرأة التي يراد لها أن تكون ثانية- لها أن ترفض الزواج من هذا الزوج.. وهكذا فى الثالثة والرابعة! ثم إن لأىّ امرأة أن تشترط عند الزواج أن تكون العصمة بيدها.. الأمر الذي يفتح لها الطريق إلى الخلاص من الزواج إذا تضررت منه! وندع المرأة.. وننظر فى جانب الرجل، فنجد: أولا أن الرجل يحتفظ بقوته وحيويته مدة أطول من المرأة، التي تسبقه إلى الوهن والضعف، بما تعانى من الحمل، والولادة، والرضاع، والتربية. وفى هذه الحال، قد يرى بعض الرجال أن يمسكوا بالزوجة- على ما بها- وأن يحصنوا أنفسهم، ويحفظوا دينهم ومروءتهم بزوجة أخرى. وثانيا: قد تصاب المرأة بمرض يعجزها عن الوفاء بحاجة الزوج والقيام على شئون البيت، وهنا تبدو الحاجة إلى امرأة أخرى، تؤدى الوظيفة التي عجزت عنها صاحبتها، وعندئذ يكون من الإعنات والحرج معا أن يحجر على الرجل، فلا يجد سبيلا إلى الخروج من هذا الوضع الأليم! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 695 وفى إباحة الزواج للرجل بامرأة أخرى، ما يتيح له فى تلك الحال أن يفكر تفكيرا هادئا عاقلا، وأن يتخيّر لنفسه أي الأمرين أصلح له.. الزواج بامرأة أخرى أو الصبر على ما هو فيه؟ وكثيرا ما يكون الأمر الأخير هو الرأى الراجح، الذي يميل إليه، ويأخذ به فى أغلب الأحوال، رعاية للعشرة الزوجية، ووفاء لحقّ ما بين الزوجين، من ألفة ومودة.. وذلك حين يكون للرجل- بسبب هذه الإباحة- فضل، يتعزّى به، ويترضّى إنسانيته، بما كان منه من إيثار وتضحية!! بقي أن ننظر إلى هذا الموقف من جانب آخر، وهو أن يغلق فى وجه الرجل باب الخلاص من هذا الضيق، الذي يعيش فيه تحت سلطان الإلزام والقهر، دون أن يكون للإختيار، والشعور بمعاني التضحية والإيثار، مكان هنا، إزاء هذا الإلزام القاهر، الذي يحكم عليه فيه بأن يعيش مع امرأة مريضة، عاجزة، أو عقيم لا تلد! ونسأل: كيف تكون حياة الرجل فى هذا السجن الرهيب المخيف؟ بل كيف تكون حياة المرأة نفسها مع هذا الرجل، الذي يراها فى تلك الحال حكما أبديا عليه بالشقاء والبلاء؟ إن المرأة فى هذه الحال تكون أشقى من الرجل، إذ تجد نفسها أنها لعنة مفروضة على الرجل، وأنه لو كان لها الخيار فى إفساح الطريق له لما ترددت فى حلّ الرباط الذي يربطها به، ولطالبته بذلك قبل أن يطالبها هو به! ثم انظر ماذا يكون من العواطف الإنسانية، التي يوقظها هذا الشعور الذي يسيطر على الزوجين فى ظل التشريع الإسلامى الذي أباح لهما الانفصال، فى تلك الحال، كما أباح للرجل أن يتزوج بأخرى، يضمها إلى زوجه الأولى.. إن كلّا منهما يجد أنه فى سعة من أمره، وأنه يملك وجوده وإرادته، كما أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 696 يحتفظ بمروءته وشخصيته.. فالرجل إذا احتفظ بامرأته فى حالها تلك، ولم يتزوج عليها، أرضى جوانب كثيرة من عواطفه، تعوّضه كثيرا مما يلقى من ضيق وضرر معها.. والمرأة تشعر بأنها غير مفروضة عليه، وأنه أمسك بها بمحض اختياره، وآثر ألا يضارّها بأخرى حسب إرادته وتقديره.. وأن الجانب الإنسانى فيهما هو الذي يمسك برباط الحياة الزوجية بينهما.. وإذن، فهذا التعدّد الذي يشنّع به أعداء الإسلام على الإسلام، وينادون به على الملأ أنه من الموروثات البهيمية التي ورثها الإنسان عن الحيوان- هذا التعدد هو دواء لأدواء كثيرة، فى محيط المرأة خاصة.. فى أغلب الأحيان، كما أنه شفاء لبعض العلل التي تصاب بها الحياة الزوجية فى بعض الأحيان! وهذا الدواء الذي يقدّمه الإسلام هنا ليس مفروضا فرضا لازما على كل إنسان، وفى كل حال، بل إنه- شأنه شأن كل دواء- محكوم بحكم الحاجة، وبحسب الحالة. فمن خرج به عن هذا الحكم- حكم الدواء عند الحاجة- فقد ظلم نفسه، وجاوز حدود الله، وليس على الإسلام، ولا على شريعة الإسلام شىء من عدوانه وظلمه. الآية: (4) [سورة النساء (4) : آية 4] وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4) التفسير: الصّدقات: جمع صدقة، وهى المهر.. لأنها من مادة الصّدق الذي يلزم به المرء نفسه، وينطق به عن اطمئنان ورضى.. والمهر يقدمه الرجل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 697 للمرأة عن رضى وطيب نفس.. ومنها الصّدقة التي يبذلها الإنسان فى مجال الإحسان من غير إلزام. والصدقة بضمّ الدال، والصّدقة بفتحها. وفى استعمال الأولى فى المهر، والثانية فى التصدّق إعجاز من إعجاز القرآن! فالصدقة- بالضم- أثقل نطقا من الصّدقة بالفتح. وكذلك هما على هذا الشأن، فى مجال التطبيق العملي لهما.. فالمهر ثقيل فى قدره، ومادته، قد يتكلف له المرء كثيرا من الجهد حتى يحصل عليه، وقد يقتطع له قدرا كبيرا من ماله، الذي هو بعض نفسه.. ومن هنا كان ثقله على النفس، ثم كان ثقله على اللسان! وليس كذلك الصّدقة، فإن محملها خفيف، يؤديها الإنسان عن سعة، ويجود بها من فضل ماله، فلا يكاد يحسّ بها.. «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» .. فقد تكون الصدقة بشقّ تمرة، كما فى الحديث الشريف: «تصدّقوا ولو بشقّ تمرة» وقد تكون بالكلمة الطيبة، كما فى الحديث أيضا: «الكلمة الطيبة صدقة» . والجامعة بين الصدقة (المهر) والصّدقة (الإحسان) أن كلّا منهما من باب البرّ والخير، وأنهما من موارد مرضاة الله ورضا الناس. وقوله تعالى: (نِحْلَةً) أي فرضا وشريعة. ولأن للرجال على النساء درجة، فقد أوجب الله على الرجال أن يقدّموا بين يدى المرأة عند طلب الزواج منها مهرا، تهيىء به نفسها، وتصلح به من شأنها قبل أن تجتمع إليه، وفى هذا ما يشعرها بمكانة الرجل منها. وأنه هو الذي سيحمل الجانب المادىّ عنها، فى السعى للرزق والنفقة، وهذا ما يشير إليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 698 قوله تعالى: «الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ» (34: النساء) . والمهر حقّ للزوجة، يجب أن يؤديه الرجل إليها، فإن هو صار إلى يدها ثم طابت له نفسها عن شىء منه، فذلك فضل منها، وليس على الرجل من بأس فى أن يقبله، ويتصرف فيه كما يتصرف فيما يملك. وأقل المهر أىّ مال يدخل الفرحة على المرأة وقد يجزى عن المال العمل، كما زوّج شعيب ابنته من موسى، بالخدمة عنده سنوات معدودات. ولا حدّ لأكثره، حسب يسار الرجل وقدرته.. إنه باب من أبواب الإحسان، ومسلك من مسالك الخير، وليس ثمة حرج فى أن يبلغ المهر من الكثرة ما يبلغ، مادام له فى مال الرجل سعة، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً» (20: النساء) . والمكروه فى المهر أن يكون عن مماكسة ومساومة بين الرجل، وزوجه، أو بينه وبين أهلها أو يكون فيه إرهاق للرجل بما لا يحتمله ماله، ولا يتسع له كسبه. ذلك أن «المهر» ليس إلا مدخلا إلى علاقة إنسانية، وطريقا إلى رابطة نفسية، ومن أجل هذا يجب أن يكون النظر إليه من وراء هذه العلاقة وتلك الرابطة.! وفيما قصّ الله سبحانه وتعالى من تلك الصورة الكريمة التي زوّج بها نبىّ الله «شعيب» نبىّ الله «موسى» ابنته- فى هذا ما يكشف عن أدب عال، وحكمة رائعة، ينبغى أن تكون فيها الأسوة فى هذا المقام.. يقول الله تعالى على لسان «شعيب» مخاطبا «موسى» : «إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 699 حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» ويجيبه موسى بقوله: «ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ» (27- 28 القصص) وهكذا يقضى الأمر بينهما.. فلا مساومة ولا مماكسة!! الآية: (5) [سورة النساء (4) : آية 5] وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) التفسير: هذا نهى يتوازن مع الأمر السابق فى قوله تعالى: «وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ» .. ولكلّ من الأمر والنهى موضعه، وكلاهما يحقق مصلحة عامة، ويؤدى حقّا، ويبطل باطلا. وقد أشرنا من قبل إلى ما يحققه قوله تعالى: «وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ» . وهنا ينهى الله سبحانه وتعالى عن أن ندع أموال السفهاء فى أيدى السفهاء، إذ كان ذلك مدعاة لإفسادهم أولا، وتضييع مصالحهم ثانيا، ورسم مثل سيئة للعبث بالمال وإهدار المنافع المنوطة به فى المجتمع، ثالثا. لذلك ألزم الله سبحانه وتعالى المجتمع أن يتصدّى لهذه الظاهرة، وأن يقف لها فى يقظة وحزم، فلا يدع لأيدى السفهاء ما فى أيديهم من أموال يفسدونها، ويفسدون بها فى الأرض.. وفى قوله تعالى: «أَمْوالِكُمْ» بإسناد المال إلى غير أهله، وهم أولو الأمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 700 فى المجتمع- فى هذا ما يعطى المال وصفا غير الوصف الذي يكون له وهو فى حوزة الأيدى التي تعبث به، وتستخف بشأنه. فالمال- فى حقيقته- أداة من أدوات النفع، الخاص، والعام معا.. هو قوة فى يد صاحبه، يدفع به عن نفسه قسوة الحاجة، ولذعة الحرمان، ومطية يمتطيها إلى غايات كثيرة، يجنى منها الخير لنفسه، ولأهله. ثم هو- أي المال- حركة عاملة فى المجتمع، تصبّ فيها جهود أصحاب المال، وتتلاقى على طريقها وجوههم التي يقصدون إليها فى تثمير المال وتنميته! وفى صيانة هذه القوة من عوامل الوهن والضعف، وفى تنظيم هذه الحركة وإقامتها على طريق مستقيم- فى هذا صيانة للفرد، وحياطة له من أن تضطرب حياته وتتعثر خطواته، وفى هذا أيضا، صيانة للمجتمع، وحياطة لمواطن القوة منه، والحياة فيه. فالمال فى يد من لا يحسن التصرف فيه، ولا يرعى قدره وحرمته، هو فى تلك الحال فى يد غير أمينة عليه، وغير مستأهلة له.. ومن حق المجتمع أن ينزع هذا الحق منه، ويضعه فى يد أمينة، تحافظ عليه وترعاه لحساب السفيه حتى يرشد، أو يموت، فيكون لورثته من بعده. وفى قوله تعالى: «الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً» إشارة إلى ما للمال من شأن فى الإسلام، وإلى النظرة التي ينظر بها إليه، وأنه قوام الحياة، وملاك عمرانها، ومبعث سلامة المجتمع وقوته! فالذين يتحدثون باسم الإسلام، مهوّنين من شأن المال، أو مستصغرين خطره، أو مستخفّين به وبأهله، إنما يفترون على الإسلام، وينطقون عنه زورا وبهتانا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 701 وقوله تعالى: «وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً» هو دعوة إلى من بيده مال السفيه، أن يرزقه منه، ويقضى مطالبه، من سكن وطعام وكسوة، وغير ذلك مما يضمن له حياة مستقرة، فى حدود ما يتسع له ما له، إذ أصبح ولا مال بين يديه.. فالعدل يقضى بأنه إذا حرم التصرف فيما يملك، ألا يحرم الانتفاع مما يملك! وفى قوله تعالى: «وَارْزُقُوهُمْ فِيها» ما يشير إلى أن يكون الإنفاق عليهم من صميم مالهم، لا من حواشيه، بمعنى أن ينفق عليهم بالقدر الذي يسمح به ما لهم ويتسع له.. فكلمة «فيها» ظرف يحتوى المال كله، ويشتمل عليه.. ومن هذا المال كله يكون الإنفاق على السفيه.. ولهذا عدل القرآن عن التعبير بكلمة «منها» بدل «فيها» التي جاء عليها النظم القرآنى.. إذ أن «من» تفيد التبعيض بخلاف «فى» التي تفيد الإحاطة والشمول. وقوله تعالى: «وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً» أدب سماوىّ، يوصى به الله سبحانه الأوصياء الذين يقومون على أموال السفهاء، أن يلطفوا بهم، ويوادّوهم، ويلقوهم بالكلمة الطيبة، التي تطيب خواطرهم، وتنزع من صدورهم مرارة الألم الذي وجدوه فى انتزاع ما فى أيديهم من مال.. فالذى أخذ به هؤلاء السفهاء من انتزاع أموالهم من أيديهم، هو عدوان عليهم، اقتضته المصلحة بهم، وبالمجتمع.. وإنه لكى يطبّ الإسلام لهذا الداء، وحتى لا يعالج الداء بالداء، دعا إلى هذا الأدب الرفيع العالي، الذي تطيب به نفوس هؤلاء المرضى، وتسلّ به السخائم من قلوبهم، وذلك طب سماوى تتم به تلك العملية الجراحية فى مشاعر الإنسان ووجدانه. دون ألم! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 702 الآية: (6) [سورة النساء (4) : آية 6] وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) التفسير: فى آية سابقة حذّر الله سبحانه وتعالى من أكل مال اليتامى، أو التهاون فيه، أو التضييع له، وفى هذه الآية، يدعو سبحانه القومة على اليتامى، من أولياء وأوصياء أن يضعوهم دائما تحت التجربة والاختبار، لسياسة أموالهم، وتدبيرها بأنفسهم، وذلك بأن يشركوهم معهم فى بعض التصرفات، ويطلعوهم على طرق الأخذ والعطاء بين الناس، «حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ» أي العمر الذي يصلحون فيه للزواج، وهو سن النضج والبلوغ، واستبان رشدهم، وصلاحيتهم للاستقلال بالتصرف فى أموالهم- دفعوها إليهم كاملة، وأشهدوا على ذلك أهل الثقة والأمانة. وفى قوله تعالى: «وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا» تحذير للأولياء والأوصياء على اليتامى، من أن ينزع بهم الطمع فى مال اليتيم إلى استغلاله والمبادرة باجتناء ثمرته لهم، قبل أن يخرج من أيديهم إلى أصحابه اليتامى، عند رشدهم. وقوله تعالى: «وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ» دعوة للأغنياء من الأوصياء، أن يؤدوا هذا العمل حسبة لله، ليؤجروا عليه، وألا يضيعوا هذا الأجر نظير مال هم فى غنى عنه، إذ كان الله قد آتاهم من فضله ما يغنيهم عن غيرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 703 وليس هذا الأمر للأغنياء على سبيل الوجوب، بل هو للاستحباب والندب.. ولهذا جاء التعبير عنه بقوله تعالى: «فَلْيَسْتَعْفِفْ» ولو كان للإلزام والوجوب لكان النظم هكذا: «فليعفّ» .. لأن فى الاستعفاف تردّد ومعاودة للفعل بعد الترك، والترك بعد الفعل.. وهكذا. الآيتان: (7- 8) [سورة النساء (4) : الآيات 7 الى 8] لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) التفسير: هنا يجىء ذكر الميراث، وأحكامه، بعد ذكر اليتامى، ومالهم على الأوصياء- الذين هم من أقارب المورّث غالبا- من حقوق.. فاليتم لا يكون إلا بعد موت الوالدين، وخاصة الأب، وكذلك الميراث، لا تقوم أحكامه إلا بعد موت المورّث. وفى قوله تعالى: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ.. الآية) حكم عام مجمل للميراث، وستجىء الآيات بعد ذلك بأحكامه مفصلة مخصّصة. وقوله تعالى: «وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً» هو تدبير حكيم، من لدن عليم خبير، يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.. فهذا مال ساقه القدر- على غير انتظار- لجماعة من قرابة المتوفّى، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 704 وهاهم أولاء يقتسمون هذا الميراث فيما بينهم، ويذهب كل واحد منهم بنصيبه منه..! هذا جانب من الصورة التي تبدو للعين بعد موت المورّث، وعند تقسيم تركته، وهو الجانب البارز الواضح منها.. ولكن هناك جانب آخر لتلك الصورة، لا تراه إلا البصائر النافذة، ولا تشعر به إلا القلوب المتفتحة! ويضمّ هذا الجانب من الصورة أشتاتا من الناس.. الأقارب الذين لا نصيب لهم فى الميراث، واليتامى الفقراء، والمساكين.. وهؤلاء جميعا تحدّق عيونهم فى هذا الميراث، وتتلمظ شفاههم به، ويسيل لعابهم إليه.. فإذا انتهى الموقف، وانفضّ الجمع، وذهب كل وارث بنصيبه، دون أن ينال هؤلاء الواقفون على الجانب الآخر شيئا من هذا الميراث، امتلأت نفوسهم غيظا، واحترقت أكبادهم حسدا، وهذا من شأنه أن يثير العداوة والبغضاء فى الجماعة، ويوقع الشرّ بينها. والإسلام حريص على أن يسدّ هذه الثغرات، التي تهبّ منها على المجتمع ريح الفتنة، وعواصف الفرقة! وقد جاء هنا بتدبيره الحكيم، فأعطى كل ذى حقّ حقّه، وأقام موازين العدل والإحسان بين الناس، وجمعهم جميعا على المودة والرحمة. ومن تدبير الإسلام فى هذا أن جعل لهؤلاء الذين يحضرون قسمة الميراث من الأقارب غير الورثة، ومن اليتامى الفقراء، والمساكين- جعل لهم نصيبا من هذا الميراث.. تطيب به خواطرهم، وتسد به مفاقرهم، دون أن يكون فى ذلك ما يضير الورثة، أو يجور على حقهم فى مال مورثهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 705 فهذا المال الذي يبذلونه لمن حضر القسمة من هؤلاء المذكورين فى الآية، هو شىء قليل، متروك تقديره للورثة أنفسهم، ولداعى الخير عندهم، خاصة فى هذا المشهد الذي يذكرهم بالموت، وما وراء الموت.. الأمر الذي من شأنه أن تلين له القلوب القاسية، وتسخو فيه الأبدى الشحيحة! وانظر إلى تدبير الله، وإلى تقديره فى هذا الأمر.. (فأولا) الشرط الذي يستحق به هؤلاء المذكورون فى الآية- شيئا من التركة، هو أن يكونوا بمحضر من قسمة التركة، سواء أكان هذا الحضور واقعا أو حكما، بمعنى أن يكونوا فى مجلس القسمة، أو على علم به، لقربهم منه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ..» (وثانيا) القدر المطلوب لهؤلاء المذكورين من مال المتوفّى هو متروك لتقدير الورثة، وما تفيض به مشاعر الخير فى نفوسهم.. وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه: «فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ» فهذا الرزق الذي يرزقونه هو من بعض هذا المال ومن حواشيه لا من صميمه، حتى لا يتأذّى الورثة بالعدوان الجائر على نصيبهم، وهذا على خلاف ما جاء فى الدعوة إلى الإنفاق على «السفهاء» من مالهم الذي فى أيدى الأوصياء، حيث قال تعالى: «وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ» . وفى قوله تعالى: «وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً» دعوة إلى الإحسان بالقول، بعد الإحسان بالعمل.. فالكلمة الطيبة هنا تسدّ النقص الذي قد يستشعر به من يصيبهم شىء من هذا المال الذي بما يراه بعضهم قليلا إلى جانب ما ذهب به الورثة من الميراث. وبهذا، وذاك تطيب النفوس، وتنقشع سحب العداوة، ودخان الأحقاد، بين جماعة تربطها روابط القرابة والإخاء! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 706 الآيتان: (9- 10) [سورة النساء (4) : الآيات 9 الى 10] وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) التفسير: وفى محضر الموت، وبمشهد من الاستبداد بمال الميت، الذي جمعه، واجتهد فى جمعه، ثم صار إلى يد غيره، وربما إلى يد من كان يبغض أو يعادى من ورثته- يتمثل للحريصين على جمع المال من كل وجه، والمترصدين له بكل سبيل، غير متحرجين ولا متأثمين- يتمثل لهم مصير هذا المال الذي ركبوا له هذه الطرق، وجنوا به تلك المآثم، فيخفّ وزنه عندهم، ويقلّ حرصهم عليه، وإلقاء أنفسهم إلى التهلكة من أجله.. وهنا تصغى الآذان للنصح، وتتفتح القلوب للعظة فيما يتصل بالمال، والتعفف فى كسبه وجمعه!. ولا يدع القرآن هذه الفرصة تمرّ، دون أن ينتهزها، ليبلغ من القلوب الغاية التي يريدها، لحفظ حقوق اليتامى، وصيانة أموالهم، وحراستها من طمع الطامعين، وخيانة الخائنين.. لهذا جاء قوله تعالى: «وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ» - جاء مذكرا الأحياء بهذا الذي هم صائرون إليه هم وأموالهم، عارضا عليهم فى هذا الموقف ما يهزّ مشاعرهم، ويثير أشجانهم.. إنهم سيموتون كما مات هذا الميت الذي تقاسموا تركته، أو تقاسمها ورثته وهم يشهدون.. وإنهم سيتركون من بعدهم أطفالهم، الذين سينضمون إلى موكب الأيتام، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 707 كما ترك هذا الميت أطفاله، وانضموا إلى جماعة الأيتام، ممن مات آباؤهم قبله. فليرعوا حق الله إذن، وليخشوه فى هؤلاء اليتامى الذين فى أيديهم، وليصونوهم ويصونوا أموالهم، وليعاملوهم كما يرجون أن يعامل أبناؤهم من بعدهم. وإنه ليس هناك من صورة مثل هذه الصورة، التي يعرضها القرآن هنا، فى إثارة العواطف، وفى استجلاء العبرة والعظة، حيث يتمثل منها للحى خاتمه مطافه فى هذه الحياة، ومصير هذا المال الذي جمعه، والذي يكاد يذهب بدينه ومروءته جميعا.. وفى قوله تعالى: «فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً» نداء سماوى كريم، يلتقى مع تلك المشاعر التي حركتها الصورة التي يتمثلها من يقرأ الآية الكريمة وينظر فيما يطلع عليه منها، من مشاهد الموت، وما بعد الموت. والقول السديد، الذي تدعو إليه الآية، هو القول الذي يحمل النصح، والتوجيه، والتسديد، لليتامى، وإعدادهم إعدادا صالحا للحياة.. تماما كما يفعل الأب مع أبنائه، وإلا فهو قول غير سديد، وخيانة للأمانة التي اؤتمن الأوصياء عليها.. وقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» تحذير بعد نصح، وتهديد بعد عظة.. فمن لم يفتح عينه على هذا الخطر، ويتجنب الهاوية التي بين يديه، فلا يلومنّ إلا نفسه.. إن مال اليتيم هو «نار» تحرق كل من يمدّ إليه يدا خائنة، أو يدسّه فى بطن شرهة، فمن أكل منه احترق به فى الدنيا، وصلى به عذاب جهنم فى الآخرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 708 الآية: (11) [سورة النساء (4) : آية 11] يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) التفسير: فى هذه الآية والآية التي بعدها بيان، لأحكام الميراث، التي أجملتها الآية (7) من هذه السورة. والوصية التي يوصى بها الله- سبحانه- فى ميراث الأبناء، هى على سبيل الوجوب الإلزام، وإنما جاءت بلفظ «الإيصاء» لأنها تتعلق بأمر يقع بعد الموت، وهو الميراث، فهى وصية من الله، ينبغى نفاذها فى تركة المتوفّى، كما يجب نفاذ وصية الموصى بعد موته! ويؤكد وجوب هذه الوصية قوله تعالى فى خاتمة الآية: «فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ» . وقوله تعالى: «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» بيان لنصيب كل من الولد والبنت فى تركة والدهما المتوفّى.. فللذكر ضعف الأنثى، أو مثل نصيب الأنثيين. وقوله تعالى: «فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ» أي إن كان المتوفّى لم يعقب ذكرا، وكانت ذريته إناثا، فإن كنّ اثنتين فأكثر، فلهما أو لهن الثلثان «وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 709 وقوله تعالى: «وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ» أي ويوصيكم الله أن تفرضوا لأبوى المتوفّى، لكل واحد منهما السّدس من التركة، وذلك «إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ» ذكرا كان أو أنثى.. «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ، فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ» أي إن لم يكن للمتوفّى فرع كاين أو بنت، أو ابن ابن، «وَوَرِثَهُ أَبَواهُ» أي انحصر الميراث فيهما «فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ» وللأب الباقي وهو الثلثان. «فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ» اثنان فأكثر.. أشقاء، أو لأب.. ذكورا أو إناثا، «فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ» أي أن نصيبها مع وجود الإخوة ينتقل من «الثلث» إلى «السّدس» ، وهذا الانتقال لصالح الأب، لأن الأخوة لا يأخذون مع وجود الأب شيئا.. وإنما هم يؤثّرون على نصيب الأم فقط، ويحجبونها حجب نقصان.. والعلة فى هذا أن الأب هو الذي من شأنه أن يرعى إخوة المتوفّى، الذين هم أبناء هذا الأب، فانتقل ما كان يمكن أن يكون لهم إلى أبيهم. وذلك كلّه من بعد أن ينفذ فى مال المتوفّى ما أوصى به، وأن يؤدّى ما عليه من دين، ولو استغرق الدين، كل ما ترك. وأداء الدّين مقدّم على كل شىء، يتصل بتركة المتوفّى، من وصية، أو ميراث. هذا، ويلاحظ أن النظم القرآنى قد التزم تقديم الوصية على الدّين فى الآيات التي تضمنت أحكام المواريث، فكان يختم الحكم هكذا: «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) . ولا بد لهذا التقديم الملتزم من حكمة، فتقديم أمر حقّه التأخير، والتزام هذا التقديم فى كل مرة- أمر لا يكون إلا عن قصد وتدبير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 710 ويرى «الزمخشري» أن تقديم الوصية على الدّين هنا للإلفات إليها، والتحريض على إنفاذها، دون تهاون أو تفريط. ذلك أن «الوصية» تبرع وإحسان بدون عوض، وإذ كانت على تلك الصفة فربما رآها الورثة بعين الاستخفاف، فلم يمضوها كما أرادها الموصى، أو لم يمضوها أصلا.. أما الدّين فهو حق للدائن، إن سكت عنه الورثة لم يسكت عنه صاحبه. فإذا قدمت الوصية على الدين كان ذلك غير مفوّت على الدين مكانته، فى حين أن هذا التقديم يقوّى من شأن الوصية، ويلحقها بالدّين فى القوة والإلزام. الآية: (12) [سورة النساء (4) : آية 12] وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) فى هذه الآية تتمة أحكام المواريث، التي بينتها الآية السابقة.. فللزوج نصف ما تترك زوجته إذا لم يكن لها ولد- ذكرا أو أنثى- منه أو من غيره.. فإن كان لها ولد فله الربع، أما الزوجة فلها ربع ما ترك زوجها، إذا لم يكن له ولد، ذكرا أو أنثى، منها أو من غيرها، فإن كان له ولد فلها الثمن.. وذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 711 كلّه من بعد أن تنفذ الوصية، ويقضى الدين، إن كانت هناك وصية من المتوفّى، أو كان عليه دين. وقد تضمنت الآية حكما آخر غير حكم الزوجين فى التوارث بينهما، وهو حكم «الكلالة» وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ» . وقد اختلف فى «الكلالة..» فى معناها أولا، وفى متجهها ثانيا. فقد رأى بعضهم أنها من الكلال، وهو الضعف إعباء وتعبا.. وقالوا إن صلة الورثة بالمورّث هنا صلة واهية ضعيفة.. ومن هنا حملوا «الكلالة» على من مات ولم يترك وراءه أبا أو ولدا، أو أخوة. ورأى بعضهم أنها من الكلّ وهو الحمل والعبء، وقالوا إن الورثة هنا عبء على التركة، وأنهم أشبه بالفضوليين عليها، إذ كانوا ولا معتبر لهم فى الميراث إلا إذا لم يكن وراء الميت أحد من أصوله أو فروعه، أو فروع أصوله، وفروع فروعه وذلك أمر نادر الحدوث. وعلى حسب اختلاف الآراء فى مفهوم «الكلالة» اختلفت الآراء كذلك فى موصوفها، وهل هو المتوفّى، أو الورثة، أو المال المورّث! وعلى أىّ فقد اتفق الفقهاء على أن «الكلالة» فى الميراث تقع فى الحال التي يتوفّى فيها المرء- ذكرا أو أنثى- من غير أن يترك وراءه أحدا من فروعه أو أصوله أو فروع فروعه، أو فروع أصوله. وهنا يكون لذوى الأرحام نصيب مفروض فى تركة المتوفى، بعد أن كان لهم نصيب مندوب، غير محسوب، فيما يرزقونه إذا حضروا القسمة. وقوله تعالى: «وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ» المراد بالأخ أو الأخت هنا الأخوة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 712 لأم، وهم من ذوى الأرحام، الذين لا نصيب لهم فى الميراث مع وجود أحد من فروع المتوفى أو أصوله، أو فروع أصوله. وقوله سبحانه: «فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ» هو بيان للنصيب المفروض للأخ أو الأخت، من الأم، لكل واحد منهما السدس، لا فرق فى ذلك بين الذكر والأنثى، إذ هما فى الموقف ليسا ذكرا أو أنثى، وإنما هما إنسانان يراد بهما البر والإحسان، ولا فرق فى هذا بين ذكر وأنثى.. وهذا يعنى أن مكان الأخوة لأم فى كيان الأسرة، وفى دعم بنائها الأسرىّ لا معول عليه، بل ولا حساب له، لأنهما فى أسرة المتوفى كلالة- رجلا أو امرأة- أشبه بالغرباء منهما بالأقرباء! وقوله تعالى: «فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ» أي أن الأخوة لأم لا يرثون فى «الكلالة» أكثر من ثلث التركة أيّا كان عددهم.. للذكر مثل حظ الأنثى. وفى الوقوف بنصيب الأخوة لأم عند حد الثلث، لا يتجاوزونه مهما كان عددهم- فى هذا ما يسند الرأى الذي ذهبنا إليه من قبل، من أن الميراث المفروض للأخوة لأم هنا لا يعدو أن يكون ضربا من البر والصدقة، وأنه خرج من ثلث التركة لا يتجاوزها، شأنه فى هذا شأن الوصية، التي لا تتعدى ثلث التركة بحال. وقوله تعالى: «غَيْرَ مُضَارٍّ» هو حال من الضمير فى «يوصى» الذي يعود على المتوفّى. وهذا الحال قيد يقيّد به ما ترك الميت وراءه من وصية أو دين.. بمعنى ألا يكون المتوفى كلالة قد نظر إلى نفسه قبيل وفاته، فرأى أنه لا وارث له من فروعه وأصوله، وعندئذ حدثته نفسه أن يحدث فى تركته حدثا يفسد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 713 به على إخوته لأمه نصيبهم المفروض لهم، كأن يوصى ولا رغبة له فى الوصية ولكن ليدخل الضيم على نصيب هؤلاء الأخوة، وكأن يصطنع على التركة دينا لغير دائن، لهذا الغرض نفسه.. وهذا ما نبه الله سبحانه وتعالى إليه الميت قبل أن يموت، ثم أكد سبحانه وتعالى هذا التنبيه بقوله «وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ» أي هذا فرض فرضه الله للأخوة لأم، وجعله حقا لهم.. فهم- والأمر كذلك- لم يجيئوا إلى هذا الميراث متطفلين. بل هم أصحاب حق فرضه الله لهم، كما فرض لغيرهم من الورثة ما فرض.. ثم أكّد سبحانه وتعالى هذا الأمر مرة أخرى بقوله: «وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ» أنه سبحانه وتعالى «عليم» بما يعمل الظالمون «حليم» لا يعجّل لهم العقاب، ولكن يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار. الآيتان: (13- 14) [سورة النساء (4) : الآيات 13 الى 14] تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14) التفسير: قوله تعالى: «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ» إشارة إلى كل ما بيّن الله سبحانه وتعالى من أحكام وما شرع من حدود، فى صيانة أموال اليتامى، وتسليمها إليهم سليمة، لم تقع فيها خيانة، أو يقع عليها اعتداء، وفى التعفف عن زواج اليتيمات، تجنبا للظلم المحتمل وقوعه عليهن، وفى المواريث وأحكامها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 714 وما لكل وارث من نصيب.. «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ» وهذه أحكامه، أوجب على عباده أن يلتزموها، وأن يقفوا عندها لا يتجاوزونها.. «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» . فهذا الجزاء الحسن، قد أعدّه الله سبحانه لمن أطاعه وأطاع رسوله، الذي حمل إليه ما أمر الله به، وما نهى عنه.. إنه جنّات تجرى من تحتها الأنهار، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وإنه الخلود فى هذه الجنات والعيش الدائم فى نعيمها.. وذلك هو الفوز العظيم، الذي لا يقاس إليه شىء مما يعده أهل الدنيا فوزا، فيما يقع لأيديهم من مال ومتاع، ولو كان حلالا خالصا.. فكيف إذا كان مشوبا بالحرام، أو كان هو الحرام كل الحرام؟ وقوله تعالى: «وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ» .. هو كشف عن الوجه البغيض المقابل لهذا الوجه الطيب الكريم.. إنه وجه أولئك الذين لا يخشون الله، ولا يخافون عقابه، فلا يمتثلون أوامره، ولا يعملون بما يدعوهم الله ورسوله إليه.. وإنها للنار التي أعدت للكافرين، وإنه للخلود فى عذابها وهوانها.. وذلك هو الخزي المبين! وهنا ما ينبغى أن ننظر فيه، ونتأمله: فلقد جاء الخطاب من قبل الحق جلّ وعلا لمن يطيعون الله ورسوله فى صيغة المفرد، حتى إذا دخل الجنة، انتقل الخطاب من المفرد إلى الجمع.. هكذا: «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ.. خالِدِينَ فِيها..» فما وجه هذا؟ وما سره؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 715 ونقول- والله أعلم-: إن إفراد الخطاب فى هذه المراحل: «يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.. يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» فيه مواجهة صريحة كاملة، تضع الإنسان وحده فى مواجهة هذا الخطاب الإلهى، فيلتفت إليه بكيانه كله، حيث لا يقع فى شعوره- والحال كذلك- أن هذا الخطاب العلوي متجه إلى غيره! وهذا من شأنه أن يجعل الإنسان فى وضع يحسن فيه التلقي عن الله، والانتفاع بما تلقى.. وذلك ما يقيمه على طاعة الله، ويصل به إلى مرضاته، ثم إلى الجنة التي أعدت للمتقين.. وليس الشأن كذلك إذا دخل الجنة.. إنه هنا فى حال ينعم فيها بنعيم الله، ويأنس بألطافه.. ومن تمام نعيم الله هنا، ومزيد ألطافه، أن يجد الإنسان نفسه بين لدات وإخوان، يشاركهم هذا النعيم، وتلك الألطاف، وأن ينظر هذا النعيم وتلك الألطاف التي تغمر كيانه، قد تجسدت على وجوه إخوانه، فأصبحت بشرا، وحبورا، فيزداد لذلك بشره وحبوره.. وماذا يأخذ الإنسان أو يعطى، وهو منفرد وحده فى هذه الجنات؟ إن هذا النعيم الطيب كله فيها، والملائكة والحور الذين يشرقون فيها كما تشرق الشموس- إن كل هذا لا يعرف المرء قدره، ولا يتذوق طعومه، على أكمل وجه وأتمه، إلا إذا كان له إخوان من جنسه، يألفهم ويألفونه، ويأخذ معهم ويعطى.. من كؤوس هذا النعيم.. وهذا الشعور الجماعى فى الإنسان قد عرف الله سبحانه وتعالى حاجته إليه، فأسعفه بها، وجعلها من بعض ألطافه على عباده فى جناته.. فجعل أهل الجنة فى حياة جماعية، يتلاقون، ويتعارفون ويتبادلون الطيّب من الحديث، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 716 والكريم الهنيء من النعيم.. فيقول سبحانه فى أصحاب الجنة: «يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ» (23: الطور) ويقول جل شأنه: «وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ» (47: الحجر) ويقول سبحانه: «إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ» (55، 56: يس) . وعن هذا الشعور كان قول أبى العلاء المعرّى: ولو أنّى حبيت الخلد فردا ... لما أحببت فى الخلد انفرادا وانظر إلى أصحاب النار، كيف كان الخطاب من الله- سبحانه وتعالى- مفردا، قبل النار وبعدها. خارجها وداخلها.. حيث يقول جل شأنه: «وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ» . إن الإنسان هنا يواجه وحده بهذا الوعيد من رب العالمين، حتى لكأنه هو الوحيد الذي انفرد من بين الناس بالشرود عن طريق الحق، والعصيان لله ورسوله.. ثم ها هو ذا يلقى مصيره المشئوم وحده «ناراً خالِداً فِيها» حتى لكأن جهنم قد خصصت له، وحتى لكأن عذابها مقصور عليه. وفى هذا ما فيه من مضاعفة العذاب، النفسي، فوق العذاب الحسّى! إن المشاركة فى البلاء تخفف من شدته، وتكسر من حدته، حيث يتأسّى المصاب بغيره من المصابين، ويجد فى مصاب غيره عزاء لمصابه.. وفى هذا تقول الخنساء فى رثاء أخيها صخر: ولولا كثرة الباكين حولى ... على إخوانهم لقتلت نفسى وارجع إلى الآيتين الكريمتين الآن، ورتلهما ترتيلا، مستصحبا معك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 717 هذا المعنى الذي أشرت إليه فيهما، فإنك واجد إلى هذا المعنى معانى كثيرة، أكثر شفافية وصفاء! «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ.. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ» الآيتان: (15- 16) [سورة النساء (4) : الآيات 15 الى 16] وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) التفسير: يجمع المفسرون على أن هاتين الآيتين منسوختان بالآية الثانية من سورة النور.. وهى قوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» وأن حدّ الزنا كان فى أول الإسلام- كما يقولون- هو الإمساك للمرأة الزّانية وحبسها فى البيت، على حين أن الرجل يعنّف ويؤنّب باللسان، أو ينال بالأيدى أو النعال، حسب تقدير ولىّ الأمر! ونحن- على رأينا بألا نسخ فى القرآن- نرى أن هاتين الآيتين محكمتين وأنهما تنشئان أحكاما لمن يأتون الفاحشة- من الرجال والنساء- غير ما تضمنته آية النور من حكم الزانية والزاني. فالآية الأولى هنا: «وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 718 فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» إن هذه الآية خاصة بالنساء، إذ كان النصّ فيها صريحا بهن، وذلك بالإشارة إليهن باسم الاشارة المؤنث: «اللاتي» وبإضافتهن إلى الرجال: «مِنْ نِسائِكُمْ» وبالحديث عنهن بضمير النسوة.. «فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ» .. «فأمسكوهن» .. «يتوفاهنّ» .. «لهنّ» .. وهذا ما يقطع بأن الآية هنا خاصة بالنساء! أما الآية الثانية فهى خاصة بالرجال إذ كانت الإشارة فيها إلى المذكر، «اللذان» والضمير فى «يأتيانها» وكذلك الضمير فى «منكم» .. هذا كله نصّ صريح فى أن المشار إليهما هما من جنس الرجال، الذين يوجّه إليهم الخطاب فى الآية.. واضح إذن أن الآية الأولى فى شأن النساء، كما أن الآية الثانية فى شأن الرجال.. وهذا ما يكاد يجمع عليه المفسرون. إذ لاخلاف بينهم فى هذا، ولكنهم فرقوا بين العقوبة التي تؤخذ بها المرأة الزانية، والعقوبة التي تجرى على الرجل إذا زنا! الأمر الذي لم يقع فى آية «النور» التي جاءت فسوّت بين الرجل والمرأة فى هذه الجريمة، وفى العقوبة المفروضة على كل منهما. وإذ كان كذلك فإن لنا أن نتوقف عند هذه المفارقة بين الناسخ والمنسوخ، فى أمر يوزن بميزانين بالنسبة للرجل والمرأة، ثم يعاد هذا الأمر فيوزن بميزان واحد، تتعادل فيه كفة الرجل والمرأة على السواء! .. ففى آية النور جاء حكم الزاني والزانية مائة جلدة لكل منهما، أما فى هاتين الآيتين: فقد كان للنساء حكم، وللرجال حكم، فى العقوبة المفروضة على الزاني من الرجال، أو الزانية من النساء.. فإذا كان هناك وجه يمكن أن تحمل عليه الآيتان، بحيث ترتفع هذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 719 المفارقة التي تقوم بينهما وبين آية النور، وبحيث تكون بينهما تلك العلاقة التي بين المنسوخ والناسخ له، إذا كان هناك وجه لرفع هذه المفارقة، أفلا نلتمسه، ونذهب إليه، ونأخذ به؟ فكيف وهناك أكثر من وجه؟ فأولا: «الزنا» فى صورته العامة الشائعة، التي يتعامل أهل العربية بها فى لسان اللغة، وفى لسان الشريعة، هو تلك الجريمة التي تقع بين الرجل والمرأة على غير فراش الزوجية.. وقد جاءت آية «النور» صريحة فى حكم هذه الجريمة، فقال تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (2: النور) (وثانيا) : هناك جريمتان هما من قبيل «الزنا» ولكنهما ليستا بالزنا المعروف فى لسان اللغة، أو لسان الشرع.. ولهذا فقد كان لكل منهما اسم خاص به، فى اللغة وفى الشرع أيضا، وهما: السّحاق، والّلواط.. و «السحاق» عملية جنسية، بين المرأة والمرأة. و «اللواط» عملية جنسية، بين الرجل والرجل. و «والزنا» عملية جنسية، بين الرجل والمرأة. وفى هذه الصور الثلاث تكتمل العملية «الجنسية» فى أصلها، وفيما يتفرع عنها. (وثالثا) : إذا قيل إن الآيتين السابقتين متعلقان بأحكام «الزنا» الأصلى الذي يكون بين المرأة والرجل، وأن ذلك كان فى بدء الإسلام، ثم نسختا بآية «النور» - إذا قيل ذلك، كان معناه أن كل ما ورد فى القرآن الكريم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 720 متعلقا بالزنا جاء خاصّا بهذا الزنا الصريح، دون أن يكون فيه شىء عن الجريمتين الأخريين: اللواط، والسحاق! وهذا أمر ما كان للقرآن أن يتركه، بحجة أنه عمل شاذ، خارج على مألوف الفطرة.. لأن الشريعة الإسلامية ما جاءت إلا لعلاج الشذوذ الإنسانى عن الفطرة السليمة، وإلا لتحيد به عن شروده وانحرافه عنها.. وهذا يعنى أنه لا بد- لكمال التشريع- من أن يشرّع القرآن لهاتين الجريمتين، ويفرض عقوبة مناسبة لهما. (ورابعا) : أن الآيتين السابقتين صريحتان، فى أن الأولى منهما فى شأن النساء، وأن الآية الثانية فى شأن الرجال، خاصة. وليس بين النساء والنساء إلا «السحاق» ، كما أنه ليس بين الرجال إلّا «اللواط» . وعلى هذا، فإننا- إذ خالفنا ما كاد ينعقد إجماع الفقهاء والمفسرين- نرى أن قوله تعالى: «وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ.. الآية» هو لبيان الحكم فى جريمة «السحاق» التي تكون بين المرأة والمرأة.. وأن هذا الحكم هو ما بينه الله سبحانه وتعالى فى قوله: «فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ، أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» أي يؤذين بالحبس فى البيوت، بعد أن تثبت عليهن الجريمة بشهادة أربعة من الرجال، دون النساء، كما يتبيّن ذلك فى قوله تعالى: «فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ» أي أربعة منكم أيها الرجال. وأما قوله تعالى: «وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما. الآية» فهو خاص بجريمة اللواط، بين الرجل والرجل.. والحكم هنا هو أخذهما بالأذى، الجسدى، أو النفسي، وذلك بعد أن يشهد عليهما أربع شهود، على نحو ما فى «السحاق» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 721 وإذ أخذنا بهذا الرأى، فإن علينا أن نكشف عن بعض وجوه خافية فيه.. فأولا: هذه التفرقة فى العقوبة بين «السحاق» و «اللواط» ..لماذا لم يسوّ بينهما؟ ولماذا يكون للنساء حكم، وللرجال حكم.. مع أنهما أخذوا جميعا بحكم واحد فى الزنا؟ والجواب على هذا.. هو أن كلّا من السحاق واللواط وإن كانا من باب الزنا، إلا أن لكل منهما موردا غير مورد صاحبه، فكان من الحكمة- وقد اختلف المورد- أن يختلف الحكم. فالمرأة وهى مغرس الرجل، ومنبت النسل، قد تستطيب هذا المنكر فيحملها ذلك على أن تزهد فى الرجل، وعلى ألا تسكن إليه فى بيت، وأن تتحمل أثقال الحمل، والولادة، وتبعة الرضاع والتربية، وهذا من شأنه- إذا شاع وكثر- أن يحوّل النساء إلى رجال، وأن ينقطع النسل، وألا يعمر بيت، أو تقوم أسرة.. ولهذا كانت عقوبة المرأة على هذه الجريمة أن تحبس فى البيت، الذي كان من شأنه أن يعمر بها، وأن تقيم فيه دعائم أسرة، لو أنها اتصلت بالرجل اتصالا شرعيا بالزواج. وقد يعترضنا هنا سؤال.. وهو: هل حبس المرأة فى البيت يمنع وقوع هذه الجريمة منها؟ والجواب: نعم، فإن فرصتها فى البيت، مع الوجوه التي تعرفها لا تتيح لها ما يتيحه الانطلاق إلى هنا وإلى هناك خارج البيت، حيث تلقى من النساء من لا ترى حرجا، ولا استحياء من أن ترتكب هذا المنكر معها، الأمر الذي لا تجده فى البيت الذي تعيش فيه مع أهلها، من أخوات، أو زوجات زوج، أو أب، أو أخ.. فالحبس فى البيت لمرتكبة هذا المنكر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 722 هو أنجح علاج يصرفها عن هذه العادة، بقطع وسائلها إليها. أما الرجل والرجل، فإن عقوبتهما من جنس فعلتهما، لما فيها من تحقير لهما وإذلال لرجولتهما، ومروءتهما، وذلك بأخذهما بالأذى المادي، أو النفسي. (وثانيا) كان حديث القرآن عن النساء بصيغة «الجمع» .. «وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ» وكان حديثه عن الرجال بصيغة المثنى.. «وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ» فما وراء هذه التفرقة؟ ولم كان الجمع فى النساء، وكانت التثنية فى الرجال؟ ولم لم يكن الأمر على عكس هذا؟ والجواب: أن المرأة والمرأة فى جريمة «السحاق» فى وضع متساو، لا فرق فيه بين امرأة وامرأة، حين تلتقى المرأتان على هذا المنكر، فساغ لهذا أن يكون الحديث عن هذه الجريمة حديثا شاملا لجميع مرتكبات هذا المنكر، بلا تفرقة بينهن.. فالمرأة على حال واحدة مع أية امرأة تلتقى بها فى هذه الفعلة. وليس الأمر على هذا الوجه فى «اللواط» بين الرجل والرجل.. فرجل فى وضع وآخر فى وضع.. أحد الرجلين فاعل، والآخر مفعول به.. وفرق بين الفاعل والمفعول.. ولكن بالرجلين تتم هذه الفعلة المنكرة، ومن ثمّ كان الإثم، وكان العقاب على هذا الإثم قسما مشتركا بينهما، كما كان استحضار رجلين لازما كى يمكن تصوّر هذه الجريمة، إذ لا يمكن تصور هذه الجريمة إلا مع وجود رجلين.. ذكر وذكر. (وثالثا) فى قوله تعالى: «حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» .. يسأل عن السبيل الذي جعله الله أو يجعله لأولئك المذنبات اللاتي قضى عليهن بالحبس فى البيوت.. ما هى تلك السبيل؟ وهل جعل الله لهن فيها مخرجا؟ الذين قالوا بالنسخ فى الآيتين، وهم جمهور الفقهاء والمفسرين- كما أشرنا إلى ذلك من قبل- يقولون إن السبيل التي جعلها الله لهن هى الخروج بهن من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 723 هذا الحكم الذي قضى عليهن بالإمساك فى البيوت، وذلك بنسخ هذا الحكم وإحالته إلى الحكم الذي تضمنته آية «النور» وهو قوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ... الآية» .. ويروون لهذا حديثا عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو أنه- صلوات الله وسلامه عليه- حين تلقى آية «النور» من ربه، وزايله ما غشيه من الوحى، قال لمن حضره من أصحابه: «خذوا عنى، خذوا عنى.. قد جعل الله لهنّ سبيلا.. البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» . والسؤال هنا: هل من السبيل التي تنتظر منها هؤلاء المكروبات بابا من أبواب الطمع فى رحمة الله أن ينقلن من الحبس إلى الرجم أو الجلد؟ إن فى قوله تعالى: «أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» يدا علوية رحيمة تمتدّ إليها أيدى أولئك البائسات الشقيّات، فى أمل يدفىء الصدور، ويثلج العيون! فكيف يخلفهن هذا الوعد الكريم من ربّ كريم؟ وحاش لله أن يخلف وعده. ولا نقول فى الحديث المروي أكثر من هذا. وأما الذين لا يقولون بالنسخ لهاتين الآيتين- ونحن منهم- فيقولون: إن السبيل التي جعلها الله لهؤلاء المذنبات، هى أن يفتح الله لهن بابا للخروج من هذا السجن، على يد من يتزوج بهن.. فالزواج هنا ينتقل بهن إلى بيت الزوجية الذي يعشن فيه عيشة غيرهن من المتزوجات، حيث يسقط عنهنّ هذا الحكم الذي وقع عليهن. وهذه الرحمة التي يمسح الله بها دموع هؤلاء المذنبات من عباده، ويردّ بها إليهن اعتبارهن، بعد الذي نالهن من عذاب جسدى، ونفسى- هذه الرحمة هى فى مقابل تلك الرحمة التي أفاضها الله على قرنائهنّ من الرجال، الذين اقترفوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 724 جريمة اللواط.. فقد جاء بعد قوله تعالى: «وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما» - جاء قوله سبحانه: «فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً» فهذا الأمر بالإعراض عن أهل «اللواط» بعد أن يتوبا ويصلحا، وهذه السبيل التي جعلها الله لمرتكبات «السحاق» إن صلح حالهن ورغب الأزواج فيهن- هذا وتلك، هما رحمة من رحمة الله، ولطف من ألطافه، يصحب المقدور، ويخفف البلاء، ويهوّنه.. «وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ؟» فسبحانه وسع كل شىء رحمة وعلما، يجرح ويأسو، ويحكم ويعفو.. آمنت به لا إله غيره، ولا ربّ سواه. ومما يؤيد ما ذهبنا إليه فى فهم هاتين الآيتين، وحملهما على هذا الوجه الذي فهمناهما عليه، ما جاء بعدهما من قوله تعالى: «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ» فذكر التوبة هنا، وأثرها فى محو السيئات، هو توكيد لقوله تعالى: «فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما» أي إن اللذين يأتيان الفاحشة «اللواط» من الرجال لهما مدخل إلى التوبة التي بها يتطهران من هذا الإثم، أما الزّنا فلا يطهر منه مقترفه إلا بإقامة الحدّ عليه، كما فعل «ماعز» حين ارتكب هذا المنكر، فجاء إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «طهّرنى» يا رسول الله.. وما زال يقول طهرنى يا رسول الله، والرسول الكريم يراجعه، حتى شهد على نفسه أربع شهادات. فأمر الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- بإقامة الحدّ عليه، ورجمه، وكذلك كان الأمر مع المرأة الغامدية. الآيتان: (17- 18) [سورة النساء (4) : الآيات 17 الى 18] إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 725 رأينا فى الآيتين السابقتين كيف عادت رحمة الله فمسحت دمعة البائسين من أهل المنكرات، من الرجال والنساء، بعد أن تابوا وأصلحوا.. وهنا فى هاتين الآيتين بيان للتوبة التي يقبلها الله من عباده المذنبين، والتي يلقى بها ذنوبهم بالصفح والمغفرة.. فيقول سبحانه. «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ» . والمراد بالجهالة هنا ما يركب الإنسان من حمق، وطيش، ونزق.. وهو فى مواجهة المنكر، وليس المراد بالجهالة عدم العلم بالمنكر الذي يرتكبه.. فهذا معفوّ عنه، ومحسوب من باب الخطأ. والمراد بالتوبة من قريب، أن يرجع المذنب إلى نفسه باللائمة والندم، وأن ينكر عليها هذا المنكر الذي وقع فيه، وألا يستمرئه، فإذا وقف الإنسان من نفسه هذا الموقف كانت له إلى الله رجعة من قريب.. فإن مثل هذا الشعور يزعج الإنسان عن هذا المورد الوبيل الذي يرده، ويلوى زمامه عنه.. إن لم يكن اليوم فغدا أو بعد غد.. وهذا ما حمده الله سبحانه وتعالى لأصحاب تلك النفوس التي يقلقها الإثم، ويزعجها المنكر إذا هى ألمّت بمنكر، أو واقعت ذنبا، فكان من حمده سبحانه لتلك النفس وتكريمه لها أن أقسم بها، فقال سبحانه: «لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ» (1- 2: القيامة) .. وقال سبحانه: «وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً، أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 726 فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (135: آل عمران) فالعلم هنا مقابل للجهالة فى قوله تعالى: «يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ» ، أي أنهم لم يصرّوا على ما فعلوا من منكر وهم يعلمون أن هذا المنكر يجنى عليهم ويحبط أعمالهم، وإنما هم مغطّى على بصرهم، لما لبسهم حال غشيانهم المنكر من خفّة وطيش، فلما استبان لهم وجه المنكر، وعرفوا عاقبة أمرهم معه، أنكروه، وبرئوا إلى الله منه. وقد مدح الله هؤلاء، الذين ينكرون المنكر حتى بعد أن يواقعوه.. فقال تعالى: «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» . وفى قوله تعالى: «وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ» ردّ وردع لأولئك الذين يستخفّون بمحارم الله، فيهجمون عليها فى غير تحرج ولا تأثم، ويبيتون معها، ويصبحون عليها، دون أن يكون لهم مع أنفسهم حساب أو مراجعة.. وهكذا يقطعون العمر، فى صحبة الفواحش، ظاهرها وباطنها، حتى إذا بلغوا آخر الشوط من الحياة، وأطلّ عليهم الموت، فزعوا وكربوا، وألقوا بهذا الزاد الخبيث من أيديهم، وقالوا: تبنا إلى الله، وندمنا على ما فعلنا من ركوب هذه المنكرات! إنها توبة لم تجىء من قلب مطمئن، وعقل مدرك، يحاسب ويراجع، ويأخذ ويدع، ولكنها توبة اليائس الذي لا يجد أمامه طريقا غير هذا الطريق.. إنه لم يثب وهو فى خيرة من أمره.. فيمسك المنكر أو يدعه، ويقيم على المعصية أو يهجرها.. وإنما هو إذ يتوب فى ساعة الموت، أشبه بالمكره على تلك التوبة، إذ لا وجه أمامه للنجاة غير هذا الوجه.. وقد فعلها فرعون من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 727 قبل حين أدركه الغرق، فردّه الله سبحانه، ولم يقبل منه صرفا ولا عدلا: «حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» (90- 91: يونس) . إن إيمان فرعون هنا لم يكن عن اختيار بين الإيمان والكفر.. بل كان لا بدّ له من أن يؤمن حتى ينجو من الغرق، إن الكفر بالله هو الذي أورده هذا المورد، وإن الإيمان بالله الذي كفر به من قبل هو الذي يردّه عن هذا المورد ويدفعه عنه.. هكذا فكر وقدّر!! وشبيه بهؤلاء الذين لا يرجعون إلى الله، ولا يذكرونه إلا عند حشرجة الموت، أولئك الّذين يغرقون أنفسهم فى الآثام مادامت تواتيهم الظروف، وتسعفهم الأحوال، حتى إذا سدّت فى وجوههم منافذ الطريق إلى مقارفة الإثم، بسبب أو بأكثر من سبب، تعفّفوا وتابوا.. وتلك توبة العاجز المقهور، ورجعة المهزوم المغلوب على أمره. لا يخالطها شىء من الندم، ولا يقوم عليها سلطان من إرادة ومغالبة.. إنها توبة غير مقبولة. الآيات: (19- 21) [سورة النساء (4) : الآيات 19 الى 21] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 728 التفسير: فى مقام التوبة، والتنديم على الذنوب والآثام، والرّغب إلى الله، والهرب من المآثم- فى هذا المقام يذكّر الله سبحانه وتعالى بالنساء وما لهن من حقوق، وما فى اهتضام هذه الحقوق والعدوان عليها من إثم يفسد على المؤمنين إيمانهم، ويعرضهم لنقمة الله، وعذاب الله. فمن ذلك، الالتواء فى معاشرة النساء، وأخذهنّ بالضرّ والأذى، للوصول من وراء ذلك إلى عرض من أعراض الدنيا، بحملهن على شراء الخلاص لأنفسهن بما يريده الأزواج منهن من ثمن. فقد تكون المرأة غير ذات حظوة عند الرجل، وقد يكون الرجل كارها لها وهى كارهة له، ومع هذا فهو يمسكها، ولا يسرّحها بإحسان، كما أمر الله سبحانه وتعالى: «فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» (229: البقرة) .. وهذا الإمساك للمرأة والمضارّة لها إنما يبغى الرجل من ورائهما أن تموت وهى فى عصمته، حتى إذا ماتت ورثها. وهذا ما نهى الله عنه، وعدّه عدوانا على المرأة إذ يقول سبحانه: «لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً» .. وقد ينتظر الرجل من وراء هذا الإمساك بالمرأة على كره، أن تخالعه المرأة على ما فى يدها من مهر كان أمهرها إياه، ولا تزال نفسه متطلعة إليه.. وهذا ما ينهى الله سبحانه وتعالى عنه بقوله: «وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ» .. والعضل الإمساك على الضرّ والأذى. وقوله تعالى «إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ» هو استثناء من الإمساك الذي هو من بعض مفاهيم العضل، ففى هذه الحالة، وهى أن تأتى المرأة بفاحشة قامت عليها بيّنة- يجوز أن يمسك الرجل المرأة، تأديبا لها، فهذا الإمساك وإن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 729 كان عدوانا على المرأة، هو عدوان لردّ عدوان، وهو ما أجازه الله سبحانه وتعالى فى قوله: «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» (194: البقرة) ثم هو- أي العدوان هنا- إمضاء لأمر الله تعالى فى اللائي يأتين الفاحشة من النساء. وذلك فى قوله تعالى: «وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» . وفى قوله تعالى: «وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» دعوة إلى ما ينبغى أن تكون عليه حياة المرأة مع الرجل، وهو أن تعاشر بالمعروف، وأن تعامل بالإحسان، حتى وهى مأخوذة بجريرتها التي قضت عليها بالإمساك فى البيت. وفى قوله تعالى: «فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً» وصية كريمة من الله، بالإحسان إلى المرأة، أيّا كانت نظرة الرجل إليها، وموقعها من قلبه.. فقد لا يجد فى عشرته معها، والسكن إليها، ما يشرح صدره، فيحمله ذلك على الضجر بها، والتبرم منها، فيسىء عشرتها، ويرميها بالأذى، حتى يحملها على أن تترضاه من مالها ليطلقها.. وهنا يلقاه قوله تعالى: «فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً» .. فيتقبل هذا المكروه، ويصبر عليه، ثم ينجلى الموقف عن غير ما كان يحسب ويقدر، وإذا المرأة التي كان يكرهها قد علقت بقلبه، وملأت حياته أنسا ومسرّة.. فإنه ما أكثر أن تجىء الأمور على غير حسابنا وتقديرنا. فما نحسبه خيرا قد يجىء من ورائه الشرّ، وما نراه مكروها قد يجىء بما نحبّ ونرضى! وفى هذه الوصاة الكريمة، تنفير من الطلاق، وتحذير من المبادرة إلى هوى النفس، الذي يدعو إلى الطلاق، على حساب أنه الخير، وقد يكون الشرّ كلّه كامنا وراءه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 730 وقوله تعالى: «وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً» . هو استكمال «للوصاة التي أوصى الله بها الرجال بالنساء.. ألا يرثوهن كرها أو يعضلوهن، وأن يعاشروهن بالمعروف، وأن يصبروا على ما يشعرون به من ضيق أو أذى منهن، فقد يكون من وراء ذلك خير كثير.. ثم إنه إذا لم يكن بد من الفرقة والطلاق، فليكن كما أمر الله: «تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» فلا يعمل الرجل على أن يستردّ مما أعطاها من مهر شيئا، وألا يحملها حملا على أن تخلص من بين يديه، وأن تفتدى نفسها من عشرته بالمال.. وليقف عند أمر الله سبحانه: «وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً» إن ذلك عدوان عليها، وسلب لحق وقع فى يدها.. «أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً» فذلك ما ينكره الله، ويجزى عليه جزاء الآثمين.. والبهتان: هو العدوان، وتبرير هذا العدوان بطلاء زائف من التمويه والخداع. وفى قوله تعالى: «وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً» إنكار بعد إنكار لأن تمتد يد إلى هذا الذي فى يد المرأة، التي أصبحت هى ومالها أمانة فى يد الزوج.. فكيف يخون الرجل أمانة من عاشره، واختلط به، وأصبح فى حال ما، بعضا منه؟ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ» .. والإفضاء إلى الشيء الوصول إليه، والتغلغل فى صميمه. والميثاق الغليظ: هو العهد القوىّ المؤكد، وهو ما أخذه الله على الرجال للنساء فى قوله تعالى: «وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» .. وقد وضع الله هذا الميثاق الغليظ المؤكد فى يد المرأة. ليكون لها أن تقاضى الرجل به عند الله! وفى هذا تغليظ لهذا الميثاق الغليظ! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 731 الآية: (22) [سورة النساء (4) : آية 22] وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22) التفسير: بعد أن بين الله سبحانه وتعالى ما ينبغى أن تقوم عليه الحياة بين الرجل والمرأة من توادّ وتعاطف وتراحم، وأن تصفو من الكيد، وتبرأ من الدّخل وتبييت السوء، حتى تتآلف تلك الخليلة الأولى فى الجسد الاجتماعى، وتتلاحم، وتصبح قوة عاملة فى الحياة لخيرها، ولخير المجتمع كله.. بعد هذا البيان الكاشف للحياة الزوجية، وللأسس السليمة التي ينبغى أن تقوم عليها- جاء بيان سماوى آخر يقيم الحدود بين ما يحلّ وما يحرم على الرجال من النساء، حتى إذا رغب الرجل فى الزواج من امرأة تخيرها من بين من أحل الله له منهن! وقد يبدو- فى ظاهر الأمر- أن الترتيب الطبيعي كان يقضى بأن يجىء البيان الخاص بالحلّ والحرمة أولا، ثم يجىء بعد ذلك ما يوصى به فى المعاشرة بين الزوجين، بعد أن يصبحا زوجين. هكذا يبدو الأمر فى ظاهره! ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يرفع نظرنا فوق هذا المستوي الذي ننظر منه إلى الأمور ونزنها به. فليست مشكلة الحياة الزوجية فى التعرف على من تحلّ ومن تحرم من النساء لمن يرغب فى الزواج، فذلك أمر لا يحتاج إلى أكثر من إشارة، تخطّ خطا فاصلا بين الحلال والحرام.. بل إن الأمر لأهون من هذا.. فالحلال بينّ والحرام بينّ، والمشكلة كلها فى التزام الحلال، وتجنب الحرام.. ومشكلة الحياة الزوجية ليست الزواج، ولكن فيما بعد الزواج، وفى القدرة على الوفاء بالحقوق والواجبات فيها! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 732 من أجل هذا، كان هذا الإلفات الكريم من الله أولا إلى ما بعد الزواج، إذ هو ملاك الأمر كله، وعليه تبنى الحياة الزوجية، ويجنى منها الثمر الطيب المرجو فيها. وإذن فليكن فى حساب الرجل أولا إعداد نفسه إعدادا كاملا لحمل هذه الأمانة العظيمة التي سيحملها، وليروّض نفسه مقدّما على الصبر والاحتمال، والتنازل عن كثير من حياته الخاصة، ليصل بما يقتطع من تلك الحياة حياة جديدة، تقوم بينه وبين شخص آخر، جاء يشاركه حياته، وينازعه وجوده الذاتي الفردىّ. أما ما بعد ذلك- وهو الزواج- فأمره هين.. فالنساء كثيرات وله فيما أحلّ الله له منهن ما لا حصر له.. فليختر منهن من يشاء، ولكن الحذر الحذر كله، والمحظور المحظور جميعه، فيما بعد الزواج! وقوله تعالى: «وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ» بيان لأول ما يحرم على الإنسان التزوج بهن من النساء.. وهى امرأة الأب.. إذ هى بمنزلة الأم، ثم هى من جهة أخرى بمكان الأب من الاحترام والتوقير.. فكيف تقبل نفس كريمة أن تكون امرأة الأب- وهذا شأنها- زوجا بعاشرها، وتكون يده فوق يدها؟ أو حتى تكون يده مع يدها؟ وفى التعبير القرآنى عن زوجات الآباء بكلمة «ما» التي تدل على الإبهام والتنكير- ما يشير إلى أن هؤلاء الزوجات ينبغى أن يكنّ فى نظر الأبناء، وفى شعورهم شيئا مبهما غامضا، لا تتملّاه العين، ولا تتفحصه، ولا تقيم له حسابا فيما يقام من حساب بين الرجل والمرأة! إنهن- بالنسبة للأبناء- شىء محجب وراء ستر كثيفة من التحرج والتأثم، فلا يكاد يقع فى تصور الأبناء صورة سويّة لهنّ كصور النساء اللاتي يريدون الزواج بهن! وقوله تعالى: «إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ» استثناء وارد على ما وقع فى الجاهلية من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 733 رجال دخلوا فى الإسلام، ووقعوا فى هذا المنكر.. فإنه لا إثم عليهم الآن بعد أن صححوا وضعهم، وأخذوا بما جاء الإسلام به. وفى قوله تعالى: «إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا» تشنيع غليظ على هذا المنكر، وإلقاء بكل ما فى الفاحشة والمقت وسوء العاقبة من ثقل وبلاء على من يقارف هذا المنكر، ويركب ذلك الضلال السفيه! الآية: (23) [سورة النساء (4) : آية 23] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) التفسير: فى هذه الآية بيان الأصناف من المحرمات على الرجال التزوج بهن، بعد أن بينت الآية التي قبلها حرمة التزوج ممن تزوج بهن الآباء.. وبيان المحرمات هنا على الوجه الآتي: 1- «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ» .. أي أم الرجل، وأصولها. 2- «وبناتكم» .. أي بنت الرجل، وفروعها. 3- «وأخواتكم» أي الأخت سواء أكانت شقيقة، أم لأب، أم لأم. 4- «وعماتكم» والعمة أخت الأب. 5- «وخالاتكم» والخالة هى أخت الأم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 734 6- «وبنات الأخ» أي ويحرم على الرجل بنات أخيه سواء أكان شقيقا، أم لأب، أم لأم وكذلك فروعهن. 7- «وبنات الأخت» سواء أكانت أختا شقيقة أم لأب، أم لأم، وكذلك فروعهن. 8- «وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ» أي وتحرم على الرجل المرأة التي أرضعته، فهى بالنسبة له أم، لها حرمة أمه التي ولدته، وكذلك لأصولها وفروعها، كما لأصول أمه وفروعها.. وفى الحديث الشريف: «يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب» . 9- «وأخواتكم من الرضاعة» فكل من أرضعتهم المرأة هم أخوة، ولو لم تكن قد ولدتهم.. ويحرم عليهم التزوج من بعض، حرمة الأخوة من الميلاد. 10- «وأمّهات نسائكم» أي أم الزوجة.. سواء أكان معقودا على ابنتها ولم يدخل بها أم مدخولا بها.. فلها حينئذ حرمة الأم، على من تزوج ابنتها، تحرم عليه حرمة مؤبدة. 11- «وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ» والربيبة: الصغيرة المربّاة فى بيت الرجل المتزوج بأمها.. ويراد بها هنا مطلق بنات الزوجة.. فإنهن يحرمن على زوج الأم، سواء تربين فى بيت الزوج أم نشأن بعيدا عنه.. وذلك بشرط أن تكون الأم مدخولا بها، أما العقد عليها فلا يحرّم زواج بناتها ممن عقد عليها ثم طلقها ولم يدخل بها.. والتعبير عن بنات الزوجة بالربائب، لأنهن على صلة مع أمّهن، وهى فى بيت زوجها.. إذ أن من شأن البنات ألا ينقطعن عن أمهن، ولو كنّ فى بيت غير بيت أبيهن.. ومن هنا كان التعبير عنهن بالربائب اللائي فى الحجور، حتى ينظر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 735 إليهن الرجل نظرته إلى بناته الصغيرات، فلا تمتد عينه إلى النظر إليهن نظر شهوة. 12- «وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ» وهن زوجات الأبناء الحقيقيين الرجل، لا الأبناء بالتبني.. فهؤلاء الأبناء بالتبني لا يحرم على مثل هذا الأب زواج من تزوج بهن أبناؤه بالتبنىّ بعد طلاقهن وانقضاء عدتهن. وقد كان العرب فى الجاهلية، يلحقون الابن المتبنّى بالابن من الصلب فى هذا، فلما جاء الإسلام فرق بين الحالين فى قوله تعالى: «وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ..» (4- 5: الأحزاب) . وبهذا وضع الإسلام حدّا لفوضى الأنساب التي كانت شائعة فى الجاهلية، حيث يخلط الرجل من يتبّنى من أبناء الغير بأبنائه، ليكتسب بهم كثرة وقوة! 13- «وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» فلا يحل الرجل أن يجمع بين الأختين فى عصمته، وله أن يتزوج الثانية بعد أن تنقطع علاقته بالأولى، بالطلاق أو الوفاة.. وذلك صيانة للعلاقة بين الأختين أن تفسدها الحياة الزوجية التي تجمعهما تحت سقف واحد، وليد رجل واحد، فتكون المرأة ضرّة أختها، كما يحدث بين زوجتى الرجل أو زوجاته، المتباعدات نسبا وقرابة. ولهذا، فقد ألحق النبىّ الكريم بتحريم الجمع بين الأختين، الجمع بين البنت وعمتها، والبنت وخالتها، فى قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تنكح البنت على عمتها أو خالتها فإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» . وقد عفا الله عما سلف فى الجاهلية من الجمع بين هذه المحارم، قبل أن يجىء أمر الله بتحريم هذا الجمع.. «إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» .. تم الكتاب الثاني ويليه الكتاب الثالث إن شاء الله، ويبدأ بصفحة: 737 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 736 [الجزء الثالث] [تتمة سورة النساء] الآية: (24) [سورة النساء (4) : آية 24] وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) التفسير: فى هذه الآية بيان لآخر المحرمات من النساء، وهنّ ستة عشر صنفا، منهن خمسة عشر فى الآيتين السابقتين، وصنف واحد فى هذه الآية ... وهو: الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ.. والمحصنات هن اللاتي تحصنّ بالزّواج، وصرن فى عصمة الغير، أو تحصنّ فى بيوتهن، وملكن أنفسهن، ولم يتزوجن بعد.. فهؤلاء هنّ فى حصن يحرم على الرجل دخوله عليهن، إلا عن الطريق الشرعي بالزواج منهن، بعد أن تزول الحواجز التي كانت تحول بين الرجل وبين حلّهن له. فإذا طلقت المرأة، المحصنة، أو مات عنها زوجها وانقضت عدتها المقدرة فى الطلاق أو فى الموت أحلّ لها من كان من غير محارمها أن يخطبها إلى نفسه، وأن يمهرها، ويتزوج بها، إذا رضيت أو رضى أهلها به زوجا. وكذلك المرأة غير المتزوجة، هى محرمة على الرجل الذي أحلّ له الزواج منها، حتى يخطبها لنفسه، وترضى به أو يرضى به أهلها زوجا، ثم يمهرها، ويعقد عليها، عقدا صحيحا مستوفيا شروطه. فهؤلاء المحصنات من النساء محرمات حرمة موقوتة بحواجز قائمة، فإذا زالت تلك الحواجز حلّ الزواج بهن.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 737 ولهذا جىء بهذا الصنف من المحرمات فى آخر المحرمات، ملحقا بصنف آخر حرّم حرمة مؤقتة، وهو الزواج من الأختين.. فإن الزواج بالثانية منهما محرم حرمة مؤقتة إلى أن تبين الأولى بطلاق أو موت، وتنقضى عدتها. وقوله تعالى: «إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» هو استثناء وارد على حرمة المحصنات من النساء، فإن هؤلاء المحصنات محرّمات ما دمن فى حراسة الحصانة القائمة عليهن، ولكن هناك حالة ترفع هذه الحراسة عن المرأة، وتجردها من الحصانة التي كانت لها، وهى أن تقع أسيرة حرب، فتصبح ملكا لآسرها، وبهذه الملكية لا يكون لزوجها، ولا لنفسها ولا لأهلها سلطان يدفع يد مالكها عنها، فله أن ينكحها بعد أن يستبرىء رحمها بالعدّة إن كانت متزوجة، وإلا فهى حل له من أول ساعة تقع فيها ليده.. وملك اليمين من النساء كما يكون بالغنيمة فى الحرب، يكون بالشراء بالمال، أو الهبة ونحو هذا. وقوله تعالى: «كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» هو إغراء بالحفاظ على هذه الحدود، والتزامها، كما بينها الله وجعلها عهدا وميثاقا بينه وبين المؤمنين به.. بمعنى احفظوا وارعوا ما كتب الله لكم وافترض عليكم من أحكام الزواج. قوله تعالى: «وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ» . هو إطلاق للقيد الوارد على المحرمات من النساء.. فما وراء هذا القيد الذي ضمّ ستة عشر صنفا من النساء، فهنّ مما أحلّ الله للرجال التزوج بهن، بشرط أن يطلب الرجل الزواج ممن يريدها، وأن يأخذ الرضا منها أو من وليتها، وأن يمهرها من ماله المهر المطلوب لها.. وفى قوله تعالى: «مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ» تنبيه إلى أن يبتغى بهذا المال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 738 الذي يسوقه الرجل إلى المرأة، الإحصان والتعفف بالزواج، لا مجرد الوصول إلى المرأة وقضاء الوطر منها، فذلك مال أنفق فى حرام، واستبيح به مالا يحلّ، وأوقع صاحبه فى محظور، هو السفاح والزنا.. وكان من حق هذا المال، وهو نعمة من نعم الله، أن يصان عن أن يكون مطية لعصيان الله ومحاربته، وألّا يعدل به عن الحلال بالإحصان، إلى مواقعة الحرام وارتكاب هذا المنكر الغليظ، وهو الزنا.. قوله تعالى: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ» . هو أمر إلزامىّ بالمهر الواجب تقديمه من الرجل إلى المرأة التي يرغب فى الزواج بها.. فهو فريضة من الله، فرضها فى مال الزواج للمرأة.. ولم يقف به الإسلام عن حد معينّ، بل تركه، حسب يسار الرجل وإعساره.. إلا أنه على أي حال لا بد من أن يكون شيئا معتبرا عند كل من الزوج والزوجة، له قدره وأثره عندهما معا، وله قيمته فى الحياة. وفى قوله تعالى: «وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ» دعوة إلى المياسرة بين الزوجين فى المهر، فللمرأة بعد أن يعطيها الرجل المهر المناسب لها، أن تنزل عنه أو عن بعضه له، وللرجل بعد أن يعطى المهر المطلوب منه، أن يزيد فيما أعطى، وفى هذا وذاك تبادل لعواطف المودة والمعروف بين الزوجين، الأمر الذي ينتظم به شمل الأسرة، وتقوم عليه سعادتها. والاستمتاع المطلوب إيتاء الأجر عنه هنا، هو ما يحققه الزواج للرجل من سكن نفسى، وأنس روحى، وقرّة عين بالبنين والبنات، إلى ما يجد من إشباع لغريزته الجسدية، مع العفة والتصوّن.. «وما» في قوله تعالى: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ» .. اسم موصول، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 739 لغير العاقل، معدول به عن «من» التي يقع فى حيزها العقلاء، وهن النساء المرغوب فى الزواج منهن. وفى اختيار النظم القرآنى لهذا الأسلوب إعجاز من إعجازه.. فإن ما فى كلمة «ما» من التجهيل والتفخيم، ما يلقى إلى شعور الرجال إحساسا بعظم الأمانة، التي سيحملونها بهذا الزواج الذي هم مقدمون عليه، وبأنه نعمة عظيمة من نعم الله، لمن يعرف كيف يكشف أسرارها، ويتعرف على مواقع الخير فيها.. فالمرأة عالم رحيب، أشبه بالبحر، تكمن فى أعماقه اللآلئ والدرر، كما تضطرب فى كيانه الحيتان والأخطبوطات.. والصيد فى هذا البحر يحتاج إلى مهارة وكياسة، وإلا وقع المحذور وساءت العاقبة.. هذا وقد حمل كثير من المفسرين قوله تعالى: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ» على نكاح «المتعة» وأن قوله تعالى: «فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» هو إشارة إلى الثمن الذي يقدمه الرجل للمرأة فى مقابل الاستمتاع بها! والآية الكريمة فى منطوقها لا تعطى هذا المفهوم، الذي فوق أنه- فى وضعه هذا- عنصر دخيل على القضية التي أمسك القرآن الكريم بجميع أطرافها هنا، وهى قضية «الزواج» وما أحل الله وما حرّم على الرجال من النساء- فوق هذا فإن هذا المفهوم يناقض قوله تعالى «فَرِيضَةً» الذي هو وصف ملازم للمهر الذي أشار إليه سبحانه بقوله: «فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً» .. كما أنه يناقض قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ» (7: المؤمنون) والمرأة المتمتع بها ليست زوجة، لأنها لا تحسب فى الأربع المباح للرجل الإمساك بهن، ولا ترث المتمتع بها ولا يرثها، كما أنها ليست ملك يمين لمن يتمتع بها.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 740 وقد وقع خلاف كبير فى زواج المتعة بين أهل السنّة الذين يقولون بتحريمه، والشيعة الذين يبيحونه، ويتعاملون به.. وهذا عرض موجز لتلك القضية، وآراء المختلفين فيها. زواج المتعة.. والرأى فيه تعلّق إخواننا الشيعة فى حلّ زواج المتعة بقوله تعالى: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» وقد أوّل علماؤهم قوله تعالى «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ» بالمتعة، وهو أن يتمتع الرجل بالمرأة إلى أجل مسمّى، وقالوا فى مدلولها الشرعي: «إنها (أي المتعة) عبارة عن عقد مخصوص، لرابطة زوجية إلى أجل مسمّى وبمهر معلوم، ويشترط فى العقد: الإيجاب والقبول، ويبطل عند عدم ذكر المهر والأجل.. يقول «الطبرسي» - وهو من كبار علماء الشيعة الإمامية، فى تفسيره المعروف «مجمع البيان» عند تفسير قوله تعالى: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً» - يقول: قيل إن المراد به نكاح المتعة، وهو النكاح المنعقد بمهر معيّن إلى أجل معلوم، عن ابن عباس، والسّدىّ، وابن سعيد، وجماعة من التابعين.. وهو مذهب أصحابنا الإمامية، وهو الواضح.. لأن لفظ الاستمتاع والتمتع، وإن كان فى الأصل واقعا على الانتفاع والالتذاذ، فقد صار بعرف الشرع مخصوصا بهذا العقد المعيّن، لا سيما إذا أضيف إلى النساء، وعلى هذا يكون معناه: «فمتى عقدتم عليهن هذا العقد المسمّى متعة فاتوهن أجورهن» . والشيعة إذ يذهبون هذا المذهب فى تأويل الآية الكريمة إنّما يجدون معهم إجماعا يكاد يكون تامّا من المفسرين جميعا- سنّة، ومعتزلة، وشيعة- فى تأويل الآية على هذا الوجه.. ولم نجد من المفسرين من حمل الآية على محمل آخر غير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 741 هذا، إلا النسفي فى تفسيره، إذ يقول فى الآية: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ.» إنها لا تدل على حلّ المتعة، والقول بأنها نزلت فيها، وتفسير البعض لها بذلك، غلط، وهو غير مقبول، لأن نظم القرآن الكريم يأباه، حيث بيّن- سبحانه- أولا المحرمات، ثم قال عزّ شأنه «وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ» وفيه شرط بحسب المعنى، فيبطل تحليل الفرج وإعارته، وبهما قال الشيعة. «ثم قال جل وعلا: «مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ» وفيه إشارة عن كون القصد لا مجرّد قضاء الشهوة، «1» وحبّ استفراغ المنىّ، وعليه تبطل المتعة بهذا القيد، لأن مقصود المتمتع ليس إلّا ذاك، دون التأهل والاستيلاد وحماية النسب، كما أن كلمة الاستمتاع تدل على الوطء والدخول، وليس بمعنى المتعة التي يقول بها الشيعة..» . وعلى هذا، فالخلاف بين الشيعة والسنة ليس فى أصل المتعة وحلّها، فهم متفقون جميعا على أنها كانت موجودة فى عهد النبىّ، ولكن الخلاف يجىء بعد هذا، فيذهب أهل السنة إلى أنها نسخت، على حين لا يقول الشيعة بهذا النسخ، ويردّون كل خبر ورد فى هذا الشأن. وأهل السنة إذ يقولون بنسخ نكاح المتعة إنما يستندون فى هذا إلى أحاديث تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، عند من يقول بنسخ القرآن بالسنة المتواترة، ومنهم يقول إنها منسوخة بالقرآن.. كما سنرى.. فالقائلون بالنسخ بالقرآن، يذكرون هنا أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ (5- 7: المؤمنون) . وفى هذا يقول الفخر الرازي: «وهذه المرأة- أي فى زواج المتعة- لا شك أنها ليست مملوكة، ولا زوجة، ويدل عليه أنها   (1) قوله: «لا مجرد قضاء الشهوة» هو خبر المصدر «كون» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 742 لو كانت زوجة لحصل التوارث بينهما لقوله تعالى: «وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ» وبالاتفاق لا توارث بينهما (وثانيا) لثبت النسب لقوله صلى الله عليه وسلم: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» وبالاتفاق لا يثبت (وثالثا) ولوجبت العدّة عليها، لقوله تعالى: «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً» .. وقد ردّ الشيعة على هذا، بأن الآية التي قيل إنها ناسخة، هى سابقة فى نزولها للآية التي قيل إنها منسوخة، لأن الآية الأولى فى سورة «المؤمنون» وهى مكية، وآية المتعة فى سورة «النساء» وهي مدنية.. ولا يتقدم الناسخ على المنسوخ.. وأما ما استند إليه أهل السنة من الأحاديث التي وردت فى تحريم المتعة فهو كثير، من ذلك ما جاء فى موطأ مالك، عن على بن أبى طالب رضى الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإنسيّة» . ويروى ابن حزم فى كتابه «الناسخ والمنسوخ» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنى كنت أحللت هذه المتعة، وإن الله ورسوله قد حرماها، ألا فليبلغ الشاهد الغائب» . وفى قول الرسول الكريم: «إنى كنت أحللت هذه المتعة» إشارة صريحة إلى أن حلّ هذه المتعة كان بالسنة لا بالقرآن، وأن النبي- صلى الله عليه وسلم- أباح المتعة- وحيا من ربه- لظرف خاص، ثم حرّمها- وحيا من ربّه أيضا- بعد زوال هذا الظرف.. فقد روى البخاري، ومسلم، عن ابن مسعود، قال: «كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لنا نساء، فقلنا ألّا نستخصى؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخض لنا أن ننكح المرأة بالثوب، ثم قرأ علينا: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 743 وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» .. ونكاح المرأة بالثوب أي تقديمه لها، إن كان الرجل لا يملك غيره. وفى صحيح الترمذي: عن ابن عباس رضى الله عنه قال: إنما كانت المتعة فى أول الإسلام.. كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة، فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أن يقيم، فتحفظ له متاعه، وتصلح له شأنه حتى نزلت (الآية) : «إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ» .. قال، قال ابن عباس: «فكل زواج سواهما حرام» . وهذا يعنى أن آية «المؤمنون» هذه نسخت ما كان أبيح بالسنّة فى أول الإسلام، ولم تنسخ آية النساء التي قيل إنها نسخت باية «المؤمنون» والتي اعترض الشيعة على القول بنسخها، لأنها متأخرة نزولا عن آية «المؤمنون» ولا ينسخ المتأخر بالمتقدم. وذكر الفخر الرازي فى تفسيره، أن الناس لما ذكروا الأشعار فى فتيا ابن عباس فى المتعة، قال ابن عباس: قاتلهم الله، إنى ما أفتيت بإباحتها على الإطلاق، لكنى قلت إنها تحلّ للمضطر، كما تحل الميتة والدم، ولحم الخنزير» . وفى صحيح مسلم، عن إياس بن سلمة عن أبيه قال: رخّص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أوطاس فى المتعة ثلاثا، ثم نهى عنها» (وعام أوطاس، هو عام الفتح، وأوطاس واد بديار هوازن) . وهذا الحديث يؤيد ما رواه ابن ماجة فى سننه عن ابن عمر، عن عمر- رضى الله عنهما- أن عمر خطب الناس، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا فى المتعة ثلاثا ثم حرمها، والله لا أعلم أحدا يتمتع وهو محصن إلا رجمته بالحجارة، إلّا أن يأتينى بأربعة يشهدون أن رسول الله أحلّها بعد إذ حرمها» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 744 والشيعة يعارضون هذه الأحاديث بأحاديث أخرى تثبت جواز نكاح المتعة، والعمل به فى عهد الرسول، وفى خلافة أبى بكر، وأن عمر بن الخطاب- الخليفة الثاني- هو الذي أبطله فى الشطر الثاني من خلافته.. فقد أخرج البخاري فى صحيحه عن عمران بن الحصين، قال: نزلت آية المتعة فى كتاب الله، ففعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (أي فى عهده) ولم ينزل قرآن يحرّمها وينهى عنها حتى مات صلى الله عليه وسلم، قال رجل برأيه ما شاء» يريد بالرجل عمر بن الخطاب، رضى الله عنه. وفى صحيح مسلم، عن أبى نضرة قال: كنت عند جابر بن عبد الله، فأتاه آت، فقال: ابن عباس وابن الزبير اختلفا فى المتعتين «1» فقال جابر: فعلناهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نهانا عنهما عمر فلم نعدلهما» . وروى ابن رشد فى كتابه «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» - عن ابن عباس أنه قال: ما كانت المتعة إلا رحمة من الله، رحم بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولولا نهى عمر عنها ما اضطر إلى الزنا إلا شقىّ» . والشيعة إذ تأخذ بهذه الأحاديث التي تضيف إلى عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- أنه هو الذي أبطل نكاح المتعة، وأن ذلك كان عن رأى رآه، واجتهاد اجتهده. فهم والأمر كذلك- غير محجوجين بما صنعه عمر، مادام فى أيديهم كتاب الله الذي أباح المتعة حسب تأويلهم لقوله تعالى: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» وما صح من إجماع المسلمين على أنها كانت جائزة فى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفى خلافة أبى بكر، وبعض خلافة عمر،   (1) يريد متعة الحج بالعمرة، ومتعة النكاح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 745 ثم ما يظاهر ذلك من أحاديث ثبت عندهم صحتها، ولم تثبت عندهم الأحاديث التي قيل إنها حرمتها.. [الآية الكريمة ومفهومها] وقد رأينا تعارض الأحاديث التي جاءت فى المتعة، والذي ذكرناه منها قليل إلى الكثير الذي أجمعت عليه كتب الأحاديث والتفسير. والذي نريد الجواب عليه هو: هل جاء القرآن الكريم بإباحة المتعة حقا؟ وهل الآية الكريمة التي قيل إنها مستند هذه الإباحة، هى نصّ فى هذا الحكم الذي أخذوه منها، والذي يجمع عليه المفسرون، على اختلاف مذاهبهم؟ ثم كيف يكون هذا، ثم يجىء عمر بن الخطاب رضى الله عنه فينقض حكما من أحكام الله، وببطل آية من آيات كتابه؟ وكيف قبل المسلمون هذا منه وأقروه عليه؟ ندع هذا الآن.. ونجيب على الآية الكريمة: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» وما فهم منها من أنها نص فى حل المتعة؟. وننظر فى الآية الكريمة التي جاء فيها هذا المقطع: «وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً» .. ننظر فنجد: أولا: أن هذه الآية هى خاتمة الآيتين اللتين قبلها، والتي ذكر فيهما تحريم أصناف من النساء، لا يحلّ التزوج بهن، وفى هذه الآية تتمة لهذه الأصناف، حيث ذكر فيها صنف واحد منهن، وهن المحصنات من النساء، أي المتزوجات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 746 ثانيا: بعد هذه القيود التي فرضها الله سبحانه على المحرمات من النساء، ورد حكمان: الحكم الأول: ما كان من النساء فى ملك الإنسان من الإماء، فإنهن لا عصمة لهن فى أعراضهن لمن ملك ذواتهن.. وكان الأصل أن يعددن فى المحصنات، إذ لم يقع عليهن زواج، بإيجاب وقبول، ومهر وشاهدين، كما هو الشأن فى عقد الزواج مع الحرائر، ولكن لما كانت تلك حالهن، وهذا وضعهن فى الحياة، فقد جاء الاستثناء هنا، ليقرر هذا الواقع الذي يعشن فيه مع من ملكوا رقابهن، وفى هذا يقول الله تعالى: «وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» . والحكم الثاني: هو إطلاق الإباحة- التي هى الأصل- فى التزوج بين الرجل والمرأة، وذلك بعد تجنب أولئك المحرمات اللاتي ورد ذكرهنّ وفى هذا يقول سبحانه: «وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ» والابتغاء هو طلب الزواج من أي امرأة غير اللاتي سبق ذكرهن.. والابتغاء لا يكون بالرغبة مجردة، ولكن بالرغبة ومعها المال الذي يصلح مهرا للمرأة المراد التزوج منها، والذي يهيىء لها بعد الزواج حياة صالحة تجد فيها السكن والاستقرار هى وما تثمر الزوجية من ذرية.. وبهذا المال الذي هو رزق من رزق الله ينبغى أن تطلب المرأة التي أحل التزوج بها، وأن يصان عن أن يكون أداة لطلب المتعة من المرأة، على غير ما شرع الله فى الزواج.. وثالثا: يجىء بعد هذا قول الله تعالى: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً، وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 747 فالضمير فى «به» يعود إلى المال المشار إليه فى قوله تعالى: «أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ» ، والضمير فى «منهن» يعود إلى من أحل من النساء، وهن لمشار إليهن فى قوله تعالى: «وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ» ويكون معنى الاستمتاع هنا، طلب الزوجة، أي ومن طلبتم بهذا المال الذي فى أيديكم من هؤلاء النساء فآتوهن مهورهن، فريضة فرضها الله عليكم، ولا حرج عليكم فى أن تتياسروا فيما بينكم، بعد أداء هذا الحق، فيكون للمرأة أن تنزل عن شىء من هذا المهر، الذي صار حقا لها فى يدها، ويكون للرجل أن يزيد فى المهر بعد أن أعطى الحق الذي عليه.. فالقضية هنا قضية الزواج فى صميمها، قد جاءت آيات الله لتكشف حلالها وحرامها، وتحدّد حدودها، وتلزم الرجال بأول شىء وأهم شىء مطلوب منهم فيها وهو المهر، بعد أن تتجه رغبة الرجل إلى الزواج من المرأة التي أحلّ الله له الزواج منها، والتي ليست واحدة من أولئك المحرمات.. فليس بمعقول أبدا أن يدخل على هذه القضية، قضية المتعة، التي هى فى حقيقتها أكثر من قضية الزواج تعقيدا، وأشدّ عسرا، وأخطر أثرا- بالإشارة إليها تلك الإشارة الخفية، لو صحّ أنّ الإشارة كانت إليها، ولما عرضها هذا العرض الخاطف، بل لجعلها قضية بذاتها، ولرسم حدودها، وبيّن معالمها، وموقف كل من الرجل والمرأة فيها.. وانظر كيف كان موقف الشريعة من التزوج بالإماء، وهنّ ما هنّ فى الحياة الاجتماعية التي كانت لهنّ. يقول الله تعالى بعد هذا مباشرة: «وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 748 ففى الزواج من الإماء أمور: أولها: أن الزواج بهن لا يصار إليه إلا عند قلّة المال.. على خلاف زواج المتعة، الذي لا يمنع منه كثرة المال ولو كان القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، إذ لا يقصر المحلّون لزواج المتعة إباحته على المعسرين، بل هو- فى الواقع- للأغنياء قبل الفقراء. وثانيها: أنها تتزوج كزواج الحرة، أي زواجا مطلقا زمنه، غير محدود- وذلك على خلاف المتعة التي لا تصح- كما يقول القائلون بها إلا إذا نصّ فيها على زمن معين: ساعة، أو يوما، أو شهرا، أو سنة، أو سنين!. وثالثها: أن الأمة تحصن بالزواج، وتؤخذ بأحكامه، من طلاق، وعدّة، وإقامة حدّ، عند ثبوت الزنا: «فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ» .. وهذا يعنى أنها ذات كيان شخصى، واعتبار إنسانى، بما أضفاه عليها الزواج من مكانة فى المجتمع.. على خلاف المتعة، فإنها لم تشرّع لها الشريعة شيئا، لا فى كتاب الله، ولا فى سنة رسوله، وإنما كل ما تعلق بها من أحكام، هو من عمل القائلين بها، ومن تقديرهم لها. ورابعها: أن الزواج بالإماء- وإن أباحته الشريعة- هو أشبه بالمحظور، لا يصار إليه إلا عند العجز عن زواج الحرائر، وإلّا عند الحاجة التي يخشى معها المسلم الخطر على دينه.. «ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ» . هذا هو الوجه الذي يطلّ علينا من «الإماء» ، ونحن ننظر إليهن كزوجات. فما الوجه الذي تبرز لنا به «الحرائر» ، ونحن نرمى بأبصارنا إليهن وهن فى معرض «المتعة» ؟. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 749 الحقّ أن زواج المتعة- على الرغم مما رسم له أصحابه من حدود، حين قالوا بالعدّة بعد انتهاء الأجل، وحين سمّوا الجعل الذي يجعله المتمتع للمرأة، مهرا، وعلى ما قرروه من نسبة الولد إلى من علقت به المرأة منه- على الرغم من كل هذا، فإنه ينزل بالمرأة إلى أدنى درجات الإنسانية، ولا يجعل منها عند المتمتع بها أكثر من أجيرة، تبيع عرضها لمن يدفع الثمن الذي يرضيها. وما ظنك بامرأة لا تسكن إلى بيت، ولا يكون لها عند الرجل أكثر من هذا القدر من المال الذي جعله لها نظير المتعة، فلا يلزمه لها طعام ولا كساء ولا سكن، وإنما كل الذي لها عند الرجل- على شريعة المتعاملين بها- هو المال الذي يتفق هو وهى عليه، مقابل تمتعه بها.. فأى امرأة هذه؟ وأي رابطة إنسانية بينها وبين الرجل؟ وأين ما يجده الرجل فى المرأة من سكن، ومخالطة روحية ونفسية، قبل المخالطة الجسدية؟ والله سبحانه وتعالى يذكرّ عباده بتلك النعمة الجليلة التي يجدها الرجل فى المرأة، إذ يقول: ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة» .. فأين السّكن وأين المودة؟ وأين الرحمة فى زواج المتعة؟ وأين ما تجده المرأة فى رجل المتعة من قوامة عليها، والله سبحانه وتعالى يقول: «الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ» وكم تعاشر المرأة التي تعيش فى حياة المتعة من رجال؟ وكم تلتقى بوجوه من المتمتعين بها؟ عشرات ومئات! فهل يجد الرجل فى مثل هذه المرأة شيئا من العاطفة الإنسانية التي بين المرأة والرجل؟ وهل يجد إلا صورة من لحم ودم، أو بقية صورة من لحم ودم؟ وأين الحرمة القائمة على صيانة الأنساب وعدم اختلاطها؟ وهل لهذه العدة التي قررها أصحاب المتعة حرمة فى نفس امرأة المتعة التي تعيش مع الرجل ساعة أو ما هو أقل من ساعة؟ ذلك محال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 750 ثم أين البيت الذي يقوم على زواج المتعة؟ وأين الأسرة التي يضمها هذا البيت ويحتويها؟ يقول العاملون بالزواج المتعى: إنه مع إباحة المتعة عندهم، فإن البيوت قائمة، والأسر عامرة.. ولم يحل زواج المتعة بيننا وبين الزواج الدائم الذي شرعته الشريعة الإسلامية.. ونقول: هذا شاهد على أن زواج المتعة غير معتبر عند أصحابه، وأنه إذا أشبع شهوة الجسد، وأرضى مطالبه، فإنه لم يعد منه شىء على جانب القلب والروح، بل إنه ربّما زاد القلب ظمأ، والروح تطلعا إلى «المرأة» التي تسكن إلى الرجل ويسكن إليها.. ونسأل: أكان التسرّى، وامتلاء الدور بالإماء والجواري- قبل إلغاء الرق- أكان مغنيا عن «الزواج» وداعيا إلى الزهد فيه والعزوف عنه؟ إن هذا من ذك.. سواء بسواء. فإذا ذهبنا نسأل عن الحلال والحرام، وسألنا عن قوله تعالى: «وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» لم نجد لهذه الآية المحكمة مكانا بين المسلمين مع القول بإباحة المتعة.. فإنه مع المتعة لا مجال للتعفف حتى يجد الرجال المال الذي يمكنهم من الزواج، إذ كان فى استطاعة أي رجل أن يحصل على المرأة بالمتعة، ولو برغيف، أو مادون الرغيف- كما يقرر ذلك المشرعون للمتعة- بل إن الأمر لأهون من هذا، إذا اتفقت المرأة والرجل على المتعة ولو بتمرة يلتقطها الرجل من الأرض! إن الحياة الزوجية بمعناها الذي تقرر فى الشريعة الإسلامية، هى فطرة فى الإنسان، وما جاءت الشرائع لتقررها، وإنما كل ما جاءت به الشرائع هو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 751 تنظيمها، وتوضيح معالمها، وحمايتها من الأمراض الوافدة عليها، والبدع الملتصقة بها.. بل إن فى كثير من أجناس الحيوان والطير ما يعقد صلته على حياة دائمة متصلة بين الذكر والأنثى، حتى لا يفرقهما إلا الموت، وحتى ليموت أحدهما أسى وحسرة بعد موت رفيقه، وشريك حياته، فلا تهنؤه حياة من بعده! وبعد.. فهل كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه- هو الذي عارض شريعة الله وحرم ما أحلّ الله من متعة؟ ولا نجد ردّا على هذا أبلغ مما ذكره الفخر الرازي فى تفسيره! يقول الرازي: «ذكر- أي عمر- هذا الكلام (أي ما قاله فى تحريم المتعة) فى خطبة، فى مجمع الصحابة، وما أنكر عليه أحد.. فالحال هنا لا يخلو. إمّا أن يقال إنهم كانوا عالمين بحرمة المتعة فسكتوا، أو كانوا عالمين بأنها مباحة، ولكنهم سكتوا على سبيل المداهنة، أو ما عرفوا بإباحتها ولا حرمتها فسكتوا لكونهم متوقّفين فى ذلك.. والأول- وهو علمهم بحرمة المتعة وسكوتهم- هو المطلوب، والثاني- وهو علمهم بإباحة المتعة وسكوتهم عن عمر- يوجب تكفير عمر، وتكفير الصحابة، لأن من علم أن النبىّ صلى الله عليه وسلم حكم بإباحة المتعة، ثم قال: إنها محرمة محظورة، من غير نسخ، فهو كافر بالله، ومن صدقه عليه، مع علمه بكونه مخطئا كافرا، كان كافرا أيضا، وهذا يقتضى تكفير الأمة. وهو على ضدّ قوله تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» .. والثالث: وهو أنهم ما كانوا عالمين بكون المتعة مباحة أو محظورة، فلهذا سكتوا، فهذا أيضا باطل، لأن المتعة بتقدير كونها مباحة تكون كالنكاح. واحتياج الناس إلى معرفة الحال فى كل واحد منهما، عامة فى حق الكل، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 752 ومثل هذا يمتنع أن يبقى خفيا، بل يجب أن يشتهر العلم به، فكما أن الكل كانوا عالمين بأن النكاح مباح، وأن إباحته غير منسوخة، وجب أن يكون الحال فى المتعة كذلك.. ولما بطل هذان القسمان- الثاني والثالث- ثبت أن الصحابة إنما سكتوا عن الإنكار على عمر لأنهم كانوا عالمين أن المتعة صارت منسوخة فى الإسلام» .. وننتهى من هذا إلى حقيقتين، ينبغى أن نقررهما فى هذا المقام: أولاهما: أن القرآن الكريم لم يجر فيه ذكر بإباحة المتعة، وأن الآية الكريمة، التي يستشهدون بها لهذا، وهى قوله تعالى: «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» إنما هى لتقرير حكم من أحكام الزواج الشرعي الدائم، وهذا الحكم، هو المهر الواجب لصحة عقد هذا الزواج. وثانيتهما: أن إباحة المتعة كانت مما أباحه الرسول الكريم- بإذن ربه- فى حال خاصة، حيث كان المجاهدون من المسلمين فى حال غربة، ولم يكونوا قد اصطحبوا نساءهم معهم، فخافوا الفتنة على أنفسهم، حتى أن بعضهم طلب الإذن لهم بالخصاء، كما أشرنا إلى ذلك فى الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود، رضى الله عنه، وهو قوله: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لنا نساء، فقلنا: ألا نستخصى؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب ثم قرأ علينا: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» .. وفى هذا الحديث: أولا: أن المسلمين لم يكونوا إلى تلك الواقعة قد أذنوا بشىء فى المتعة. وثانيا: أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي رخّص لهم، وأنه لم يتل عليهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 753 الآية التي قيل إنها نزلت فى المتعة، بل تلا عليهم، تلك الآية الكريمة التي تدعوهم إلى الإبقاء على العضو الذي يصل الرجل بالمرأة، وألا يحرموا أنفسهم التمتع بالنساء، وهن من الطيبات التي أحل الله لهم أن يتمتعوا بها.. فلو كانت للمتعة آية، لذكرها الرسول الكريم، ولأوضح للمسلمين مفهومها إن كانت فى حاجة إلى توضيح، وإلا لسكت الرسول حتى يأتيه أمر ربه بآية، أو وحي غير قرآنى.. فجاءه الوحى غير القرآنى، الذي أباح فيه الرسول للمسلمين المتعة فى تلك الحال، التي هى خروج على أصل التحريم لنكاح المتعة، بحكم الاضطرار فهى كما قال ابن عباس فيما روى عنه. «إنها تحل للمضطر، كما تحل الميتة والدم ولحم الخنزير» . ومما يستشهد به لإباحة المتعة عن طريق السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنى كنت أحللت هذه المتعة ألا وإن الله ورسوله قد حرّماها، ألا فليبلغ الشاهد الغائب» فقول الرسول الكريم: إنى كنت أحللت هذه المتعة» صريح فى أن هذا كان من السنة ومن عمل الرسول، وليس مما جاء به القرآن الكريم.. وفى قوله صلوات الله عليه «هذه المتعة» وفى الإشارة إليها على هذا الوجه، ما ينبىء عن سقوطها وتقذّرها. ويؤيد هذا، الحديث المروىّ عن رسول الله: «يا أيها الناس إنى أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء، ألا وإن الله قد حرمها إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن فليخلّ سبيلها، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا» فقد أشار الرسول إلى نساء المتعة بقوله: «هذه النساء» ولم يقل هؤلاء النساء لصغار شأنهن، وأنهن فى حكم شىء واحد.. وفى قوله صلى الله عليه وسلم: «فمن كان عنده منهن» ولم يقل من كان عنده امرأة أو أكثر منهن، وذلك للإشارة إلى أن أنهن أشياء.. مجرد أشياء.. وفى قوله «منهن» إشارة ثالثة إلى أنهن صنف له وضع خاص فى المجتمع، وهو وضع مشين، يكنى عنه، ولا يصرّح به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 754 وعلى هذا فإن المتعة أبيحت بالسنّة فى حال خاصة، فى ظرف اضطراري، وأنها قد حرمت بالسنة بعد زوال هذا الظرف، وإن إباحتها كانت لأناس مخصوصين لا يجوز أن يلحق بهم غيرهم إلى يوم القيامة، وأن عمر بن الخطاب إنما كان موقفه منها هو توكيد هذا التحريم، وقطع الطريق على أولئك الذين أرادوا أن يجعلوا تلك الخصوصية التي كانت لهؤلاء الذين أباح لهم النبىّ المتعة- منسحبة إلى غيرهم إذا دعت داعيتها، وهى الاضطرار، بالانقطاع عن الأهل، فى جهاد أو سفر أو نحوهما.. أخرج مسلم فى صحيحه، عن أبى نضرة قال: كان ابن عباس يأمر بالمتعة، وكان ابن الزبير ينهى عنها، فذكرت ذلك لجابر (بن عبد الله) ، فقال: على يدى دار هذا الحديث، تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (أي فى حياته) فلما قام عمر (أي ولى الخلافة) قال: «إن الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء، فأتموّا الحجّ والعمرة، وأبتّوا (أي اقطعوا) نكاح هذه النساء، فلن أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته بالحجارة» أي حكم عليه حكم الزاني المحصن، حيث كان الذين يقعون تحت هذا الحكم هم من المحصنين الذين استطاعوا أن يتزوجوا بامرأة أو أكثر، ثم كانت المتعة عندهم مطلبا آخر، من مطالب المتعة، ولهذا اعتبرها «عمر» زنا صريحا.. وقول عمر: إن الله كان يحلّ لرسوله ما شاء بما شاء، هو صريح فى أن ذلك كان من خصوصيات الرسول، وأن إذنه فى حال خاصة، ولشخص أو أشخاص معينين، بما يأذن به، لا ينسحب إلى غيرهم، كما هو مقرر فى الشريعة باتفاق. وبعد: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 755 فإن الكلام فى نكاح «المتعة» كثير، وهو- على أي حال- باب شرّ سدّه المسلمون، وأجمع أهل السنة جميعا على تحريمه، وإن كان لبعض الشيعة متعلّق به، وحجة عليه، لما ثبت من أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- كان قد أباحه فى ظرف خاص فى إحدى الغزوات التي طالت غربة المجاهدين فيها.. ثم ثبت عند أهل السنة أن الرسول حرّمه، بعد أن زالت الحال الداعية له ... فهو أشبه بالميتة التي يباح للإنسان التناول منها عند الاضطرار، وخوف الموت جوعا!. فلو أن نكاح المتعة كان مباحا على إطلاقه لفسد نظام المجتمع، ولا نحّلت روابط الأسرة، ولما رغب الرجال عنه إلى الزواج واحتمال تبعاته! بل ولما كان من الإسلام تلك العناية البالغة، التي أولاها لقضية الزواج، التي تكاد تكون أبرز وأهم قضية عرض لها التشريع الإسلامى، فوضع الحدود الواضحة المفصلة للزواج، والطلاق، والعدة، والرضاع، والميراث، وعرضها عرضا كاشفا، فى معارض مختلفة من النظم، حتى تتأكد وتتقرر. إن الطبيعة البشرية السليمة تعاف هذا المورد، وتأبى أن تقيم حياتها عليه.. بل إن الحياة الجاهلية لم تعرف نكاح المتعة، ولم تعترف به، وإن عرفت الزنا، وأطلقته، وغشى موردة الرجال والنساء، جهرة.. إلّا أنهم- مع هذا- كانوا يضعون «الزنا» بهذا الموضع الخسيس الذي هو له، ويعزلون النساء اللائي يحترفن هذا المنكر عن مجتمع الحرائر، ويفرضون عليهن أن يقمن على بيوتهن رايات، حتى يعرفن بها. إن نكاح المتعة هو الزنا متسترا بظلال الحلال، وهو أشبه بالنفاق الذي يخفى وجه صاحبه وراء كلمة الإيمان، يقولها المنافق بفمه، ولا يقيمها فى قلبه.. والزّنا الصّراح خير من هذا الزّنا المتخذ اسم المتعة مجازا له.. إذ كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 756 الزاني يزنى وهو يعلم يقينا أنه يأتى فاحشة، ويواقع منكرا.. ومثل هذا قد تكون له توبة إلى الله، واحتجاز عن هذه الفاحشة.. وليس كذلك من يزنى تحت اسم «المتعة» لأنه يحلّ هذا الحرام، ويستبيح تلك الفاحشة، بهذا المدخل الذي يدخل به إليها، ويرفع عن صدره الضيق والأذى، الذي كان يجده لو أتى ما أتى من غير أن يستصحب معه هذه الكلمة المنافقة.. كلمة «المتعة» !! الآية: (25) [سورة النساء (4) : آية 25] وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) التفسير: قوله تعالى: «وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا» . الطول: البلوغ إلى الشيء، والتمكن منه.. يقال: طال الشيء يطوله، إذا قدر عليه. والمراد به هو القدرة على التزوج من الحرائر المحصنات، وطول اليد لمهرهن، والنفقة عليهن. فلقد أباح الله سبحانه لمن قصرت يده عن التزوج من الحرائر، وخشى على نفسه الوقوع فى المعصية، وغشيان المنكر- أن يتزوج من الإماء، حيث مهرهن قليل، ونفقتهن يسيرة، بالنسبة للحرّة.. وذلك بعد إذن أهلهن، ومالكى رقابهن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 757 وفى قوله تعالى: «فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ» لمسة رقيقة رفيقة، من لمسات السماء، لتعطف القلوب على هؤلاء الفتيات، ولتفتح عليهن باب الأمل والرجاء، فى حياة كريمة، يجدنها فى آفاق الحياة الزوجية، ويخرجن بها عن دائرة العبودية، والامتهان!. فالأمة حين تتحول إلى زوجة لرجل حرّ، تصبح فى ضمان رجل يرعاها، ويتعهد شؤونها، ويقوم على أمرها، بعد أن كانت هملا مطلقا، لا ينظر إليها إلا كما ينظر إلى متاع أو حيوان! وانظر إلى رحمة الله، وإلى تدبيره سبحانه، فى مواساة الإماء، وتحرير رقابهن. فأولا: ما وصف به الإماء هنا، من أنهن فتيات، دون وصفهن بالإماء.. ثم إضافتهن إلى المجتمع الإسلامى، المخاطب بهذا الخطاب من رب العزة.. «فتياتكم» .. فهنّ بهذا الوصف من أبناء هذا المجتمع، ومن فتياته، ولسن من عالم غريب عنه. وثانيا: يأتى وصفهن بالمؤمنات، فى مقابل وصف الحرائر المحصنات بهذا الوصف.. «وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ» فهؤلاء وأولئك جميعا- حرائر وإماء- على منزلة واحدة عند الله، فى التعرف إليه، والإيمان به.. وفى هذا المقام يكون التفاضل بين إنسان وإنسان.. فربما تبلغ الأمة بإيمانها منزلة رفيعة عند الله، تتقطع دونها أعناق كثير من الحرائر المؤمنات.. ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك كاشفا عن هذه الحقيقة، ومنوها عنها: «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ» وبهذا الإيمان يفضل بعضكم بعضا، دون حساب للوضع الاجتماعى للحرّة أو الأمة.. ثم جاء قوله تعالى بعد ذلك: «بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ» مؤكدا لهذه الحقيقة، وأن الإيمان بالله، والعمل بمقتضى هذا الإيمان هو الذي يحدّد درجات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 758 الناس عند الله، ويرفع منازلهم، إذ لا حرّ ولا عبد عند الله، الذي خلق الناس جميعا من نفس واحدة، وولّد بعضهم من بعض. وثالثا: فى قوله تعالى: «فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ» وفى إضافة الإماء إلى مالكى رقابهن وإلى من يجتمعن إليه من أقاربه- فى هذا ما يرفع الرقيق عن تلك المنزلة الدنيا التي ينزلها فى المجتمع، إلى منزلة الأهل والولد «أهلهن» . ورابعا: ما يشير إليه قوله تعالى: «وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» من أن الأمة كالحرّة فى أنها تستحق المهر عند الزواج، وأن هذا المهر من شأنه أن يكون لها، ولكن الوضع الاجتماعى جعلها هى وما تملك ملكا لمالكها.. وهذا الوضع يبدو قلقا مضطربا أمام قوله تعالى: «فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» الأمر الذي يحرج مالكها عن أن يتناول حقا هو لها.. وأما وقد أذن الله له أن يتناوله- مع هذا الحرج- فإن الطريق مفتوح لردّ الحق إلى أهله فى مستقبل الأيام! وخامسا: وأكثر من هذا كله، فى صنيع الإسلام للرقيق، وفى العمل على فك رقبته- ما أباحه للأحرار من التزوج بالإماء.. فهذه الإباحة تفتح بابا واسعا لتحرير الإماء، وتخليصهن من الرق.. وذلك أن الرجل إذا تزوج بالأمة، بعد إذن مالكها، تصبح من حرماته التي يغار عليها، ويعمل جاهدا على صونها ودفع أية شائبة تحوم حولها.. والأمة المتزوجة ليست خالصة ليد من تزوج بها.. فما زالت رقبتها ملكا لغيره، له أن يبيعها لغير من تزوج بها، بما تعلق بها من حق الزوج فيها.. وهذا وضع يشين الزوج، ويسوؤه فى زوجه، ويجرح كرامته، وخاصة إذا ولدت له هذه الزوجة، أو حظيت عنده بالمحبة.. ولا سبيل لإصلاح هذا الوضع، وإعطاء الزوج حقه كاملا فى زوجته إلا أن يعتقها من هذا الرق، فيعمل كل ما وسعه العمل للحصول على المال الذي يشتريها به من مالكها.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 759 حتى إذا صارت إلى يده أطلقها، وحرّر رقبتها! ثم إن فى قوله تعالى: «مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ» - إثارة لشعور الرجل الذي تزوج بالأمة، أن يحصنها وأن يبعدها عن التبذل والامتهان، اللذين يغلبان على حياة الإماء.. فالزوجة الأمة، ليست هى الآن أمة فى الحياة الزوجية، وإنما هى زوجة، لها عند الرجل الحرّ ما للزوجة الحرة عند زوجها.. فإذا كان بعض الذين يتزوجون بالإماء يستخفّون بحرمتهنّ، ولا يجدون كبير حرج فى أن يظللن على حياتهن قبل الزواج من التبذل والامتهان- فإن فيما لفتهم الله سبحانه وتعالى إليه فى قوله جل شأنه: «مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ» - ما يوقظ فى نفوسهم نخوة الرجال، وغيرة الأحرار، وبسط أيديهم على أولئك الزوجات، الأمر الذي لا يستقيم إلا إذا تحررت الزوجات من الرّق وخلصت لأيديهم! هذا هو بعض تدبير الإسلام لمحاربة الرقّ، وتخليص هذه الآفة الإنسانية من جسم المجتمع البشرى.. وللإسلام أكثر من تدبير لمحاربة هذه الآفة، وسنعرض لذلك فى بحث خاص، إن شاء الله. وقوله تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ» . بيان لحكم الأمة إذا أحصنت بالزواج، ثم ثبت عليها الزّنا، وهو يقضى بأن يكون حدّها نصف حد المحصنة الحرّة! والمحصنة الحرّة إذا زنت كان حدّها الرّجم، فهل يمكن أن يكون حدّ الأمة نصف هذا الحد، وهو الرّجم؟ والرّجم مراد به الموت رجما بالحجارة، فكيف يقام نصف هذا الحدّ على الأمة؟ وهل ترجم نصف رجم، وتموت نصف موت؟ ذلك غير متصوّر! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 760 والذي أخذ به هنا، واستقرّ عليه العمل إجماعا، هو أن تجلد الأمة خمسين جلدة، إذ كانت الحرّة غير المحصنة تجلد مائة جلدة! وهناك أمران يمكن أن ينظر إليهما، للأخذ بهذا الحكم، والاستناد عليهما، والاستئناس بهما فى قبوله.. وأول الأمرين: أن حدّ الزنا فى القرآن الكريم هو مائة جلدة للحرّة، لا فرق فى هذا بين محصنة، وغير محصنة.. أما الحكم برجم المحصنة فقد ثبت بالسنة المطهرة. وإذا كانت السنة المطهرة قد جاءت بعقوبة الرجم للمحصنة الحرة، ولم تتعرض للمحصنة الأمة، فيبقى الحكم القرآنى مسلطا على الأمة بإطلاقه، أي بالجلد، وبنصف المائة التي هى حد المحصنة. وثانى الأمرين: أن فى قوله تعالى: «فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ» إشارة إلى أن النص العامل فى عقوبة الأمة هو النص القرآنى فى قوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» فإن كلمة «العذاب» فى حدّ الأمة، وكلمة «عذابهما» فى حدّ الحرّين، الزانيين، تجعلان العقوبة هنا من نوع العقوبة هناك، وأنها جلد لا رجم، فيه عذاب، لا موت! وأما الحكمة فى أخذ الأمة بنصف عقوبة الحرّة فى جريمة الزّنا، تلك الجريمة التي لا تختلف آثارها باختلاف الأشخاص، ووصفهم الاجتماعى- فإن الإسلام نظر إلى تلك الجريمة هنا من أفق آخر، غير الأفق الذي نظر منه إليها فى حال تجريمها، وتأثيمها.. فالزّنا هو الزّنا، والسرقة هى السّرقة، ولكن هناك ظروف مخففة للجريمة، كالإكراه، والاضطرار، ونحوهما.. والأمة واقعة تحت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 761 ظروف كثيرة، تجعلها تتعرض لارتكاب هذه الخطيئة أكثر من الحرة.. فهى (أولا) كانت قبل الزواج والإحصان مطلقة، تمارس هذه الجريمة دون تحرّج أو تأثّم، بل إن كثيرا من مالكى رقابهن كانوا يدفعونهنّ دفعا إلى هذا المنكر، ويكرهونهنّ عليه، لما يحصلن عليه من مال يعود آخر الأمر إلى السيد المالك.. ولهذا جاء أمر الله: «وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ» - جاء أمر الله هنا ناهيا عن الإكراه وحده.. وهذا لا يلزم الأمة أن تتعفف إذا هى لم ترد التعفف.. وهذا الوضع الذي كان للأمة قبل الزواج من التبذل والامتهان، يصطحبها إلى ما بعد الزواج، ويجعلها بمعرض الزلل، وفى مواجهة الخطيئة، بما كان لها من أصحاب وأخدان.. الأمر الذي من شأنه أن يكون عاملا مخففا للجريمة المقترفة منها فى هذا المجال.. أي بعد الزواج ومن جهة أخرى فإن يد الزوج على الأمة يد غير مطلقة، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، وأنه إذا كان الزوج قد المنفعة، فإن سيدها لا زال يملك الرقبة.. وهو بهذا الوضع فى الجانب الأقوى بالنسبة للأمة، ولسلطانه عليها.. وهذا من شأنه أن يرخى يد الرجل عنها، وأن يقبلها على علاتها- الأمر الذي من شأنه أن يقيم للأمة المحصنة عاملا آخر للتخفيف فى العقوبة الواردة على الزنا.. وقوله تعالى: «ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ» إشارة إلى أن التزوج من الإماء لا يصار إليه إلا عند الضرورة، وتوقع الرجل عدم القدرة على مغالبة شهوته.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 762 فالعنت والإعنات: الإرهاق والضيق من أمر لا تتسع النفس لاحتماله، ولا تقدر العزيمة على الإمساك به. فمن خشى من الرجال غير المحصنين، الذين لا يجدون فى أيديهم من المال ما ينالون به التزوج من الحرائر- من خشى منهم العنت وعدم احتمال التعفف، فإنه لا بأس من أن يتزوج من الإماء، بعد رضا مالكهن، وإيتاء المهر المطلوب لهن، مع مراقبتهن والعمل على صيانتهن من التبذل والاتصال بأخدانهنّ، حتى لا تشيع الفاحشة فى المجتمع. وفى قوله تعالى: «وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ» دعوة إلى الصبر واحتمال بعض العنت فى العزوبية، وترجيح جانب الإمساك عن التزوج بالإماء، على التزوج بهنّ، لما يثرن فى الحياة الزوجية، التي ينبغى أن تظللها العفة، ويحرسها التصون والشرف- من غبار الريبة، ودخان التبذل، وريح الفاحشة! وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» إماءة من طرف خفى إلى تجنب التزوج بالإماء، والصبر على العزوبية، وإن لقى منها صاحبها العنت فى الحفاظ على دينه ومروءته، وإن جرّه ذلك الموقف إلى أن يلمّ ببعض اللمم، بحيث لا يدنو من الفاحشة، ولا يحوّم حولها.. فإن لم يأمن ذلك فالزواج بالإماء خير، إذ يدفع شرّا بما هو أهون منه شرا.. والله سبحانه وتعالى يقول: «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ» (31- 32: النجم) ذلك، والقرآن الكريم إنما يخاطب هنا إنسانا مؤمنا، حريصا على دينه، متحرّيا النصح لنفسه، فى الحفاظ عليها مما يغضب ربه، ويفسد عليه دينه.. وليس الخطاب لإنسان يمكر بآيات الله، ويريد أن يتخذ من رحمة الله ولطفه بعباده، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 763 طريقا إلى تزيين الحرام، وإلباسه زىّ الحلال المباح، فذلك تمويه على النفس، وخداع لها.. وإن الحلال بيّن والحرام بيّن.. وإن إغماض العين عن الحرام، وأخذه مأخذ الحلال، لن يغير من صفته، ولن يقيم للإنسان عذرا عند الله، بل إن ذلك نفاق مع الله، ونفاق مع النفس، وهو أشد من الكفر.. ضلالا، وبلاء.. إن دين المرء أمانة بينه وبين ربه.. ليس لأحد سلطان عليه فى حفظ هذه الأمانة أو تضييعها، فله أن يحفظ أو يضيّع، وحسابه بعد ذلك على الله، وهو خير الحاسبين.. الآيات: (26- 28) [سورة النساء (4) : الآيات 26 الى 28] يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28) التفسير: فى هذه الآيات الثلاث التي جاءت تعقيبا على تلك الأحكام التي شرعها الله للمسلمين، ووضع بها الحدود لما حرّم وأحلّ من النساء، ولما أباح من التزوج بالإماء لمن عجز عن التزوج بالحرائر، وخشى العنت- فى هذه الآيات الثلاث يكشف الله سبحانه وتعالى عن رحمته بالناس، فيما شرع لهم، وفضله عليهم فيما أباح لهم من طيبات، وفى هذا وذاك خير الناس وسعادتهم، إذا هم استقاموا على شرع الله، ووقفوا عند حدوده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 764 وقد صدّرت الآيات الثلاث بقوله سبحانه: «يُرِيدُ اللَّهُ» ، وفى ذلك ما يلفت النظر، ويدعو إلى التوقف والتأمل.. فإرادة الله سبحانه وتعالى، نافذة، لا مردّ لها، ولا معوق لنفاذها وإمضائها على الوجه الذي أراده.. «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (82: يس) وقد تعلقت بإرادة الله هنا أمور، تضمنتها الآيات الثلاث هى: أولا: بيان الأحكام، ووضع الحدود للمسلمين بين الحلال والحرام: «يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ» . ثانيا: أخذ المسلمين بالسنن التي أخذ الله بها الأمم من قبلهم، يبيّنها الله لهم ويهديهم إليها: «وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» . ثالثا: التوبة على المسلمين، مما ارتكبوا من آثام وخطايا.. «وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ» . رابعا: التوبة التي يريدها الله للمسلمين، يعارضها من جانب آخر، المفسدون وأصحاب الأهواء، إذ يريدون لهم الميل عن الصراط المستقيم الذي دعاهم الله إليه، وانحرافهم انحرافا حادا عنه. «وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً» خامسا: التخفيف عن المسلمين فيما أخذهم الله به من أحكام، حيث أنه سبحانه وتعالى يعلم ما فى الإنسان من ضعف، وما فى كيانه من قوى تنزع به إلى التخفف من أوامر الله، والتحلل من نواهيه.. «يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً» . والسؤال هنا: ماذا عن هذه المتعلقات التي تعلقت بإرادة الله؟ وهل هى ماضية نافذة؟. وهل لو كانت قد مضت ونفذت، أكان فى المسلمين المخاطبين بكلمات الله هذه، منحرف أو ضال؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 765 وكيف وهذه أحكام الله بيّنة، وحدوده واضحة؟ وكيف وإرادته متجهة إلى هدايتهم والتوبة عليهم؟ والذي نحبّ أن نفهم عليه إرادة الله سبحانه وتعالى هنا، وفى غيرها من المواضع المشابهة- هو «الطلب» غير الملزم، حتى يكون للإنسان مجال للاختيار بين الاستجابة للطلب، أو التأتّى عليه، وبهذا يشعر الإنسان بوجوده الذاتي، وبالمسئولية الملقاة عليه.. وعلى هذا يكون حسابه وجزاؤه، بالخير خيرا، وبالشر شرا.. وذلك فى كل أمر للإنسان فيه إرادة وعمل.. أما حين لا يكون لما يريده الله متعلّق بعمل العبد، فهى إرادة مطلقة نافذة.. فالإرادة فى قوله سبحانه: «يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» .. إرادة خالصة لله، لا متعلّق للعباد بها، لأنها تتعلق بشرع الله الذي يشرعه للمسلمين، كما شرعه لعباده من قبل على يد أنبيائه ورسله.. وعلى هذا فهى إرادة نافذة.. لأنه لا متعلّق للعباد بشرع الأحكام، وإقامة حدودها. أما الإرادة فى قوله تعالى: «وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً» فهى إرادة طلب، ودعوة، متجهة إلى العباد، ولهم أن يستجيبوا لهذا الطلب وأن يلبّوا تلك الدعوة، أو يتوقّفوا. فالله سبحانه، قد دعا عباده إلى التوبة، فى آيات كثيرة.. فقال تعالى: «وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (31: النور) وقال سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» (8: التحريم) . فمطلوب من العباد أن يتقدموا إلى الله بالتوبة، فإذا تابوا تاب الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 766 عليهم.. كما يقول سبحانه: «وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ» (25: الشورى) ويقول جل شأنه: «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى» (82: طه) . وفى الإنسان نوازع تنزع به إلى الهوى، وتدفعه إلى الخروج على الطريق المستقيم، الذي دعاه الله إليه.. وفى محيط الإنسان شياطين من الإنس والجن، توحى إليه بالشر، وتوسوس له بالسوء، فيلتقى ذلك مع أهوائه ونوازعه، وهنا يقع الصراع بين ما فى قلبه من إيمان وتقوى، وبين هذه القوى المسلطة على إيمانه وتقواه.. فيكسب المعركة أو يخسرها، حسب بلائه فيها، وبذله لها. وبهذا يكون النصر محسوبا له، على حين تكون الهزيمة محمولة عليه.. وفى هذا يتفاوت الناس، ويختلفون منازل ودرجات عند الله، كلّ حسب عمله وبلائه. وأمّا إرادة التخفيف عن المسلمين، فيما أخذهم الله به من أحكام، فهى من حكمة الله، ورحمته، ليس لأحد أن ينازع الله فى حكمته، أو يمسك عن عباده مواطر رحمته.. لأنه لا متعلق لأحد بهذه الإرادة، ولا مطلوب فيها لأحد.. إنها خالصة من الله، لعباد الله. فالإرادة الإلهية، تكون تارة بمعنى الطلب، وهو أن يطلب الله سبحانه وتعالى من عباده أمرا، يدعوهم إلى تلبيته، والاستجابة له، لما فيه من خيرهم، وإسعادهم.. وهذا الطلب من الله، لا إلزام فيه، ولا قهر معه.. «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» (29: الكهف) . وتارة تكون الإرادة الإلهية بمعنى القضاء والحكم، وتلك إرادة نافذة لا تردّ.. «سُبْحانَهُ، إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (35: مريم) .. «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» (22: التوبة) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 767 هذا، وينبغى أن نذكر هنا، ونحن ننظر فى صفات الله وأفعاله أنها صفات وأفعال تغاير مغايرة مطلقة كل ما يقع فى تصوراتنا لها.. إنها ذات الله، وكما لا يمكن تصور ذات الله كذلك لا يمكن تصور صفاته وأفعاله! وأما ما جاء فى القرآن من صفات الله، من سمع، وبصر، وإرادة، وعلم، وقوة، وعزة، وغيرها، وما ورد من أفعاله، كالخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، والتكلّم، وغيرها- فكل ذلك محمول على طبيعة مدركاتنا وتصوراتنا، وعلى مدى ما تبلغ من إدراك وتصوّر.. وإذا كان لا بد أن يكون للإله الذي نعبده مفهوم عندنا- كان لا بدّ أن يكون له عندنا متصوّر لذاته وصفاته وأفعاله.. ولكن أي متصور نتصوره فالله سبحانه وتعالى وصفاته وأفعاله على خلافه.. فنحن نتصور الله سميعا، بصيرا، عالما، حكيما، قديرا.. ولكن لا بجوارح، ولا بأجهزة يعمل كل جهاز منها فى محيطه.. ونتصور الله سبحانه وتعالى، يخلق، ويرزق، ويتكلم، ويحيى، ويميت، ولكن لا يمكن تصوّر كنه هذه العمليات التي تتم بها أفعاله تلك، ولا الوجوه لله تكون عليها، ولو وقع ذلك وأمكن، لكان الله محدودا يمكن ضبط صورة لذاته وصفاته وأفعاله، وتعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. الآيتان: (29- 30) [سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 30] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 768 التفسير: هذه دعوة من الله إلى عباده، ومطلوب من مطلوباته إليهم، بل قل إرادة يريدها الله منهم.. وتلك الإرادة، هى ألا يأكلوا أموالهم بينهم بالباطل!. وإذ كان «المال» هو مبتغى الناس، ورغيبتهم، فيه يتنافسون، وله يعملون ويكدحون، ومن أجله، وفى سبيله تتصادم رغباتهم، ويقع الشرّ والعدوان بينهم، فيبغى بعضهم على بعض، ويغمط بعضهم حقّ بعض، فى صور وأشكال مختلفة.. من السرقة والاغتصاب، والاحتيال، والغش والخداع، والاحتكار، إلى غير ذلك مما هو واقع فى معترك الحياة بين الناس- إذ كان ذلك كذلك فقد كثرت وصايا الإسلام إلى الناس فى «المال» وفى رسم الحدود التي تمسك به فى دائرة النفع العام والخاص، ليؤدى وظيفته كنعمة من أجلّ النعم التي أنعم الله بها على عباده.. ولم تقف نظرة الإسلام إلى المال عند أفق واحد.. بل امتدت نظرته إليه فشملت جميع الآفاق التي يكون للمال مكان فيها.. فى كسب المال وفى إنفاقه.. فى يد من يملك ومن لا يملك.. فى الميراث والورثة.. فى ملك اليتامى والسفهاء، وفى يد الأولياء والأوصياء عليهم.. إلى غير ذلك من الوجوه التي يرى فيها المال واقعا فى يد فرد أو جماعة. وفى قوله تعالى: «لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ» إشارة إلى أن المال مائدة ممدودة من الله سبحانه لعباده، يأكلون منها، وأن لكل إنسان حظّه من هذا المال، وأن من وقع إلى يده قدر منه على حين خلت أيدى الجماعة التي حوله، أو قصرت عن أن تنال شيئا منه، كان واجبا عليه أن يعطى مما فى يده لمن حوله، إذ من غير المستساغ أن يأكل والناس المشتركون معه على المائدة، لا يأكلون.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 769 وفى كلمة «أموالكم» المضافة إلى المؤمنين جميعا، وكلمة «بينكم» - الظرف المكانىّ الجامع لهم جميعا- فى هذا ما يشير إلى وحدة الملكية للمال، ووحدة الاجتماع فى المكان.. وفى هذا وذاك ما يجعل الوحدة الشعورية بالتكافل بين هذه الجماعة، أمرا واجبا، إن لم تقض به شريعة السماء، ولم يدع إليه دين الله، قضت به المروءة، ودعت إليه!. وهذا هو البرّ الذي دعا إليه القرآن.. فقال تعالى: «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» (92: آل عمران) .. وقال سبحانه: «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ» (177: البقرة) ومن تدبير القرآن الكريم فى هذا، أنه لم يجعل هذه المائدة المشاعة بين الناس قائمة على قانون مادىّ قهرى، إذ لا سبيل إلى قانون يحمى بنصوصه ومواده، العدوان والبغي، وتسلط الأقوياء على الضعفاء، وإلا كان عليه أن يقيم وازعا من سلطانه على رأس كل إنسان.. يمسك بيده، ويدفع بغيه وعدوانه، وذلك أمر محال، وإنما جعل الإسلام ذلك إلى مشاعر الجماعة ووجدانها، بما أيقظ فيها من نوازع الخير، ودوافع الإحسان، وبما غذّاها به من فضله وإحسانه، وبما وعدها من حسن المثوبة، وعظيم الجزاء، فى الدنيا، وفى الآخرة جميعا.. «وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» . وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ» (39: الروم) .. فتلك المشاعر الحيّة، وهذه الوجدانات المتفتحة لرحمة الله، الراغبة فى حسن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 770 الجزاء عنده، هى الحارس الذي لا يغفل، وهى الوازع الذي يقوم حجازا بين ظلم الناس للناس، وبغى الناس على الناس. وقوله تعالى: «إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ» هو استثناء متصل، وليس استثناء منفصلا كما ذهب إلى ذلك الزمخشري، وأكثر المفسّرين.. فالتجارة: هى من تلك المائدة الممدودة بين الناس «أموالكم» ، بل هى الوجه الواضح من هذه المائدة، إذ كانت أكثر الأموال دائرة فى فلك التجارة، متداولة بين أيدى الناس عن طريقها.. وفى عمليات التجارة، ربح وخسارة. وفى جانب الربح قد يحصل كثير من الناس على أموال طائلة..! وهذه الأموال التي ربحها الرابحون هى خسارة قد خسرها آخرون! والصورة فى جانب الرّبح تبدو وكأنها أكل لأموال الناس بالباطل، ذلك الأكل الذي ورد صدر الآية الكريمة بالنهى عنه! فهل هذا المال- مال الربح فى التجارة أيا كان من الكثرة- هل هو داخل فى هذا المال المنهي عن أكله بالباطل؟ وهل يتناوله الحكم الواقع عليه؟ هذا ما استثناه الله تعالى فى قوله: «إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ» . فهذا المال ليس من الباطل فى شىء.. هو مال حلال، إذ جاء عن عمليات بيع وشراء، لا قهر فيها، ولا تدليس أو غشّ، بين البائعين والمشترين. وفى قوله تعالى: «وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً» دعوة إلى صيانة الأنفس وحفظها، بعد الدعوة إلى صيانة الأموال وحفظها.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 771 وقدمت الدعوة إلى صيانة المال على الدعوة إلى صيانة الأنفس، لأن المال هو قوام الحياة للأنفس، ولا حياة لها بغيره، فكانت صيانته مقدمة على صيانتها! ويقع قتل النفس على صور كثيرة. فقد يقتل الإنسان نفسه بنفسه.. وذلك بأن يعرضها للتهلكة عن عمد فى غير إحقاق حق أو إبطال باطل. أو بأن يصرفها عن الإيمان إلى الكفر. ويحارب الله ورسوله والمؤمنين. أو بأن يعتدى على حرمات الغير، ويستبيح أموالهم ويأكلها بالباطل، أو يستبيح دماءهم، ويزهق أرواحهم بغير حق. فكل هذه من بعض الوجوه التي يقتل بها الإنسان نفسه. وقد توعّد الله سبحانه من يرتكب هذا الفعل المنكر بالعذاب الأليم فى قوله سبحانه: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً» فما جزاء هذا العدوان وذلك الظلم إلا هذا العقاب الأليم، فإن من لا يرحم نفسه، ولا يرحم الناس، لا تناله رحمة الله، الذي أطمعنا فى رحمته، وبسط لنا يده بها.. «إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً» . الآية: (31) [سورة النساء (4) : آية 31] إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31) التفسير: هذا تعقيب على مطلوبات الله من عباده، وما دعاهم إليه أو نهاهم عنه فى الآيات السابقة، فى شأن اليتامى، والنساء، وفى حفظ الأموال والدماء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 772 وفى هذا التعقيب رحمة واسعة من رحمات الله بالناس، وفضل كبير من أفضاله على عباده.. ففى النّاس ضعف يعلمه الله الذي خلقهم، وقليل منهم أولئك الذين يستقيم خطوهم على طريق الله استقامة كاملة، لا يضطرب فيها خطوه، أو تزل فيها قدمه! ولو يأخذ الله النّاس على كلّ انحرافة ينحرفونها، أو زلة يزلّونها لما نجا منهم أحد، ولا دخل عند الله مداخل الإحسان والرضوان.. إنسان. وقد جاء هذا التعقيب الكريم، من ربّ كريم، ليفتح لعباده أبواب إحسانه ورضوانه، فيدخلوا فى سعة من رحمته ورضوانه، إذا هم اجتنبوا الكبائر، وعصموا أنفسهم منها، وخافوا الله فيها.. والكبائر أولها الكفر بالله، والشرك به. ثم يتبع ذلك أعمال الجوارح، كالقتل، والزنا، وشرب الخمر. فإذا تجنب العبد هذه الكبائر، ثم كانت منه زلة أو سقطة فيما وراءها، كانت رحمة الله قريبة منه، تمحو ما ارتكب من صغائر، بما اجتنب من كبائر! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى بعد ذلك: «نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً» .. وهذا ما أشار إليه سبحانه فى قوله: «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ» (32: النجم) فما أوسع رحمة الله وما أعظم فضله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 773 الآية: (32) [سورة النساء (4) : آية 32] وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32) التفسير: فى الآية قبل السابقة، دعا الله سبحانه وتعالى إلى صيانة الأموال، وإلى قتل الأهواء، التي تنزع بالنّاس إلى أكل أموال بعضهم بعضا بالباطل. وإذ كان المال- كما أشرنا إلى ذلك من قبل- هو القوة المحركة، للناس، كما أنه هو القوة الدافعة إلى عدوان بعضهم على بعض، فإن الإسلام قد أولى المال عناية خاصة، وحرسه وحرس الناس، من دواعى الفساد التي تدبّ إليه وإليهم، فينقلب هو إلى نقمة بعد أن كان نعمة، ويتحول الناس إلى وحوش ضاربة، بعد أن كانوا بشرا سويا، أرادهم الله لعمران الحياة، وخلافته على هذه الأرض. وفى هذه الآية وجه آخر من الوجوه التي يكشفها الإسلام للمال، ويكشف منه الداء الذي لو لم يتنبه الناس إليه، لأفسد حياتهم، واغتال أمنهم واستقرارهم. وهذا الوجه هو تفاوت الناس فيما يقع لأيديهم من مال، هذا التفاوت الذي قد تبعد مسافاته من بين يملك القناطير منه، ومن لا يملك شيئا.. فيكون فى الناس الغنىّ الواسع الغنى، الذي يكاد يموت كظّة وتخمة، والفقير الذي يوشك أن يموت جوعا ومسغبة. ولا شك أن هذا وضع من شأنه أن يثير فى النفوس- نفوس الفقراء والمحرومين- مشاعر الحسرة والألم، ونوازع الضغينة والحسد، على أولئك الذين يملكون ولا يعطون، ويموتون تخمة ويضنون بلقيمات تمسك رمق أولئك الذين يموتون جوعا- الأمر الذي إذا استشرى فى الجماعة، وتسلط على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 774 تفكيرها وشعورها، أثار فيها عواصف الفرقة، التي قد تصل إلى التناحر والقتال! وقد جاء الإسلام إلى الأغنياء بوصاياه التي تجعل من أموالهم التي فى أيديهم حقوقا لإخوانهم الفقراء، إن قصّروا عن الوفاء بها كانوا بمعرض من نقمته وبلائه فى الدنيا، وعذابه الأليم لهم فى الآخرة.. وكان من نقم الله عليهم فى الدنيا أن يسلط عليهم الفقراء، فيفسدوا حياتهم، ولا يقيموهم فيها على جناح أمن وطمأنينة! ثم جاء الإسلام من جهة أخرى إلى الفقراء، فكانت وصاته لهم ألّا ينفسوا على الأغنياء ما فى أيديهم، وألا يحسدوهم على هذا الذي نالوه من حظوظ الدنيا، وأن يروّضوا أنفسهم على الصبر على ما قسم الله لهم، بعد أن يعملوا فى كل وجه متاح لهم من وجوه العمل، وأن يأخذا بما دعا الله عباده إليه من السّعي والجدّ لتحصيل الرزق: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ» (15 الملك) . فإذا أخذ الأغنياء بما وصّاهم الله به من رعاية حقوق الفقراء، وأخذ الفقراء، بما دعاهم الله إليه من غض أبصارهم عما فى أيدى غيرهم، مما لم تنله أيديهم- إذا أخذ هؤلاء وهؤلاء بما وصاهم الله به، التقوا جميعا لقاء الأخوة، لقاء المودة والحبّ، وصلح أمرهم جميعا، فلا يذهب الغنىّ بغناه، ولا يستبدّ به، ولا ينطوى الفقير مع فقره، ويموت به! هذا هو الوجه الذي نفهم عليه قوله تعالى: «وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ» . وإن كان للآية وجوه أخرى كثيرة بعيدة عن جوّ الآية، قد فهمها عليه أكثر المفسرين. وفى قوله تعالى: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ» ما يكمل الصورة التي فهمنا عليها صدر الآية.. ففى قول الله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 775 «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ» هذا، دعوة إلى الكسب، وإلى السعى الجادّ فى وجوه الرزق. دعوة للرجال وللنساء معا.. فالعمل، والعمل وحده، هو وسيلة الرزق الطبيعية، ومن لا يعمل، فقد تمنّى على الله الأمانى، وفرض على الناس أن يعملوا، وهو متدثر بثوب الكسل والخمول، لينال من ثمرة عملهم، ويعيش من عرق جبينهم، وهذا عدوان على المجتمع، كما هو عدوان على نفسه وظلم لها، إذ رضى أن يكون عالة على الناس، وكائنا غريبا يعيش فيهم، كما تعيش الحشرات.. وفى ذلك إهدار لآدميته، وتضييع لكرامته!! وليس أبرّ بالإنسانية، وأرعى لكرامتها، من دعوة الإسلام تلك، إلى العمل والكسب، حتى المرأة، لم يعفها الإسلام من العمل إذا لم يكن من ورائها زوج، أو ولد، أو أخ.. يقوم بمطالبها، ويسد حاجتها.. وفى قوله تعالى: «وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ» تأكيد للدعوة إلى العمل، والسعى فى طلب الرزق، والأخذ بأسبابه من وجوهه المشروعة، فإذا كان ذلك، كان للإنسان أن يسأل الله العون والتوفيق، فما الرزق الذي يرزقه العاملون إلّا من فضل الله.. أما أن ينصرف الإنسان عن العمل، ولا يأخذ بأسباب الرزق، ثم يدعو الله أن يرزقه، فقد ضلّ الطريق إلى الله، وقطع بينه وبين ربّه الأسباب. ولمحة مشرقة نلمحها فى قوله تعالى: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ» وهذه اللمحة تكشف لنا عما فى كلمة «نصيب» من معطيات، تملأ القلب جلالا وروعة. فقد جاءت كلمة «نصيب» مخالفة لما نتوقع فى هذا المقام.. حيث يأخذ الإنسان كلّ ما اكسب، لا نصيبا مما اكسب، إذ أنه كسبه كله ليده.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 776 فكيف تجىء كلمة «نصيب» هنا؟ وما حكمة مجيئها؟ والجواب، وهو بعض ما نستلهمه منها.. هو: أولا: أنه إذا كان العامل يأخذه ليده كل ثمرة عمله، فذلك هو حقّه.. ولكن إذا صار هذا الحق ملكا له، فإن ملكيته له غير خالصة، إذ أن فى هذه الثمرة، أو فى هذا المال حقوقا للغير.. لذوى القربى، واليتامى، والمساكين وابن السبيل.. ثم قبل هذا كلّه حق الله، وهو الزكاة! فما يكسبه المرء من عمله ليس خالصا له، وإنما له نصيب فيه، كما لله ولعباد الله نصيب فيه أيضا، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» (24- 25: المعارج) وهذا ما ينبغى أن يقع فى شعور صاحب المال، وأن يتصرف فى ماله بمقتضى هذا الشعور.. وإلا كان معتديا على حقّ الله، وحق عباد الله.. وثانيا: أنه إذا أدى صاحب المال حق الله وحق الفقراء والمساكين فى ما له، كان له الحق فى أن ينفرد بنصيبه هو، وأن ينال به ما أحل الله من طيبات.. وهذا شعور ينبغى أن يستشعره الفقراء حيال الأغنياء، الذين يؤدون ما فى أموالهم من حقوق، وعلى هذا، يجب ألا ينظر الفقراء إلى الأغنياء، وما ينالون من نعم الله، نظرة حسد، أو حنق.. وإلا كانوا ظالمين معتدين!! فإن من حق العامل أن يذوق ثمرة عمله، وألا يحول بينه وبينها من لا ثمرة لهم، ممن لا يعملون، والله سبحانه يقول: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» . وما العلم إلا ثمرة من ثمار العمل. ذلك هو حكم الله فى عباده، يأخذهم به فى الدنيا، وينزلهم عليه فى الآخرة!. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 777 الآية: (33) [سورة النساء (4) : آية 33] وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33) التفسير: بيّن الله سبحانه وتعالى فى الآية السابقة: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ» - ما للعامل من حق فى أن يجنى ثمرة عمله، وأن ينعم بنصيبه منها، بعد أن يؤدى ما لله وما للعباد عليها من حقوق، وذلك ليستحثّ الذين لا يعملون على العمل، وعلى ألّا ينظروا إلى ما فى يد العاملين من ثمرات أعمالهم. ولم يقف القرآن الكريم عند هذا، من إقرار حق العامل فى ثمرة عمله، بل جعل لقرابة هذا العامل، وذوى رحمه، متعلّقا بهذه الثمرة، يرثونها بعد موته.. فهم أولى الناس به، وهو أحرص الناس على نفعهم، وسوق الخير إليهم.. ولهذا جاء قوله تعالى فى هذه الآية: «وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ» مقررا هذا الحق للورثة فى قريبهم الذي ترك خيرا من بعده. والمعنى: ولكل من الرجال والنساء الذين أشار إليهم سبحانه وتعالى بقوله: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ» .. لكل من هؤلاء الرجال والنساء جعلنا لهم موالى- أي ورثة- يرثونهم، فيما خلّفوا وراءهم من مال ومتاع، وهذا ما أشار إليه سبحانه فى آيات المواريث أول هذه السورة: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً» . والمولى يطلق على معان كثيرة، منها: القريب، والناصر، والمعين، والسيد، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 778 والعبد.. والمراد به هنا أقارب المرء وعصبته الذين يرثونه. وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ» إشارة إلى من تربطهم بالمرء رابطة غير رابطة القرابة والدم، ممن يتبناهم الإنسان، أو يدخلهم فى حياته مدخل الأهل والأقارب، إذ شدّ يمينه بهم، واحتسبهم بعضا منه فى خيره وشرّه- هؤلاء قد يرون أن لهم حقّا فيما ترك المورّث، الذي كانوا منه، وكان منهم، وقد جاء صدر الآية الكريمة قاصرا ما ترك المورّث على قرابته، وهم مواليه: «وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ» - وفى هذا ما يصدم مشاعرهم، ويفجعهم فى آمالهم، التي كانوا يعيشون بها مع هذا الذي عقدت أيمانهم معه. ولهذا جاء قوله تعالى: «وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ» وما نصيبهم وقد ذهب الورثة بالميراث كلّه؟ وإنهم لا بد أن يكون لهم نصيب فيما ترك صاحبهم.. وتقدير هذا النصيب متروك للورثة، يؤدونه لهم، على أي وجه، وعلى أية صورة! ليكن مالا يطيبون به خاطرهم.. أو ليكن مودّة، وحبّا، ومخالطة.. أو ليكن مناصرة، ومعاونة فى الشدائد.. أو غير ذلك مما كان الميت يعاشرهم عليه ويؤثرهم به.. ولهذا جاء قوله تعالى: «فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ» خطابا للموالى، الذي ورثوا مال مورثهم، بأن يعطوا هؤلاء الذين أضافهم مورّثهم إليه- شيئا مما كان يعود عليهم به هذا المورث، من مال، أو مودة، أو نحو هذا.. ولنا فى هذا المقام أن نستحضر قوله تعالى: «وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 779 الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً (8: النساء) ، ففى هذا تطييب لتلك النفوس التي حضرت القسمة.. وهؤلاء الذين خالطهم المورث واختلط بهم، هم ممن حضروا القسمة، فإن لم يحسبوا فى حساب الورثة، فليكونوا فى حساب ذوى القربى ممن لا ميراث لهم. هذا ما أجمع عليه المفسّرون فى تفسير قوله تعالى: «وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ» ولكن الفهم الذي أستريح إليه، هو أن المراد بالذين عقدت أيمانكم، هم الأزواج والزوجات، إذ كان لهم نصيب مفروض فى الميراث، مثل ما فرض لموالى الإنسان وعصبته، ولكن كلمة «الموالي» لم تشملهن، فكان قوله تعالى «وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ» بيانا لحقّ الزوجين فى ميراث كل منهما لصاحبه.. وليس هناك عقد يمين أوثق من العقد الذي عقده الله بين الزوجين.. الآيتان: (34- 35) [سورة النساء (4) : الآيات 34 الى 35] الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) التفسير: كما فضل الله النّاس بعضهم على بعض، لحكمة أرادها وتقدير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 780 قدّره، كذلك فضل الله الرجال على النساء.. إذ كانوا فرعى شجرة الإنسانية.. فرع الذكورة، وفرع الأنوثة.. وهذا الفضل لا يعطى للرجال حقّ التسلط والقهر للنساه.. فهما معا يكملان الكائن الإنسانى الصالح للحياة، وواحد منهما لا حياة له، ولا بقاء، فى هذه الدنيا.. فكل منهما يناظر الآخر ويكمله.. وهذا لا يمنع من أن يكون أحدهما أولا، والآخر ثانيا، كما كان أحدهما ذكرا والآخر أنثى.. ولو كانا على درجة واحدة، لكانا كائنا واحدا.. ذكرا، أو أنثى! وهذا- كما قلنا- ما لا تقوم عليه حياة الكائنات الحية، ومنها- بل ومن أولها- الإنسان! وليس بعيب المرأة أو يذرى من قدرها أن تكون العدد الثاني فى العددين: واحد، وواحد، ليكون مجموعهما اثنين، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً» (8: النبأ) . فقوامة الرجل على المرأة فى قوله تعالى: «الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ، هى قوامة وظيفية، يقتضيها نظام الحياة، الذي جمع بينهما، ولو لم يكن للرجل حقّ القوامة، للزم أن يكون للمرأة هذا الحق.. إذ أنه لا بد أن يكون أحدهما أولا والآخر ثانيا.. وقوله تعالى: «بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ» يكشف عن المزايا التي من أجلها كان الرجل قوّاما على المرأة، ولم تكن المرأة قوّامه على الرجل.. فقد خصّ الله الرجل بمزايا تجعله أقدر على قيادة الركب الذي ينتظمه والمرأة معا، وينتظم معهما ما يثمران من بنين وبنات. وهذه المزايا التي أعطت الرجل حقّ القوامة على المرأة- لم تقررها الشريعة إلا بعد أن نضجت فى بوتقة التجربة الإنسانية، على مدى الحياة التي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 781 اجتمع فيها الرجل والمرأة، منذ كان الناس، وكان الرجال والنساء! وما قررته الشريعة ليس إلا اعترافا بواقع، وتصويرا لأمر مشهود، وليس إنشاء لوضع جديد بين الرجل والمرأة. فالرجل أقوى من المرأة عموما، وأقدر على السعى فى وجوه الحياة، وكفالة حاجات المرأة والأولاد.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ» فالرجل- فى أي زمان ومكان- مطالب عرفا ووضعا وشرعا بالإنفاق على زوجه وولده.. فإذا أخلت المرأة للرجل مكان القوامة، وأسلمته زمامها، فما ذلك إلا لأن يد الرجل أقوى على الإمساك بهذا الزمام، وأقدر على الوفاء بما تقتضيه تلك القوامة من أعباء! وكما أن بين الرجال والنساء درجة فى التفاضل، كذلك بين النساء درجة أو درجات فى الفضل، فليس كل النساء على سواء، فى الخلق وحسن العشرة. «فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ» . فهذا هو الوجه الطيب المشرق من النساء.. صالحات، قانتات، حافظات للغيب بما حفظ الله.. وهذا ما يشير إليه النبي الكريم فى قوله: «خير النساء امرأت إذا نظرت إليها سرّتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك فى نفسها ومالك» . وهناك الوجه الآخر من النساء.. مكفهرّ.. غائم، يرمى بالرعد والبرق. ومثل هذا الجوّ المضطرب، يفسد حياة الرجل، وحياة الأسرة كلها معه. ومن حكمة الحكيم العليم ألّا يعجل بالعقوبة حتى يأخذ صاحبها بالنصح، وبالوعد، وبالوعيد، فإن ارعوى الغاوىء عن غيّه، ورجع الضالّ عن ضلاله، فلنفسه ابتغى الخير، وليده جمع ما جمع منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 782 ولهذا دعا الله سبحانه وتعالى الرجال الذين يبتلون بالمرأة المعوجّة، ألا يعجلوا بالخلاص منها، فقد يكون داؤها عارضا، وقد يكون فى بعض الدواء ما يذهب بدائها.. «وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ..» .. إنها مراحل ثلاث، يقطعها الرجل مع المرأة التي لا يتّسق خطوها مع خطوه، ولا ينتظم شأنها مع شأنه.. العظة أولا، وإسداء النصح، بالكلمة اللينة.. وقد تقبل المرأة هذا الدواء، ويكون فيه شفاؤها، وإصلاح أمرها.. وهذا علاج نفسىّ. ثم تجىء المرحلة الثانية لمن لم تنفعها الموعظة، ولم تؤثّر فيها الكلمة الطيبة.. وهى الهجر فى المضاجع!. وهذا عقاب بدني ونفسى معا.. فإذا كان فى ذلك شفاؤها من دائها، عاد إليها الزوج بصفحه ومودته ورحمته.. وإلا كانت المرحلة الثالثة.. وهى الضرب! وهو عقاب بدني خالص.. وينبغى أن يكون هذا الضرب أولا وأخيرا تحت شعور التأديب والإصلاح، كما يؤدّب الأب صغاره.. فإن مال إلى التشفّي والانتقام كان عدوانا «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» . وفى قوله تعالى: «فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا» رسم للطريق القويم لهذه المرحلة، وضبط لحدودها.. وفى قوله سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً» تذكير للرجال بما لله من سلطان، فى علوّه وكبريائه، وأنهم إذا بسطوا أيديهم بالبغي ومجاوزة الحدّ، كانت يد الله مبسوطة عليهم بالعقاب والانتقام! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 783 وفى قوله تعالى: «وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها» .. هو بيان للمرحلة الرابعة، التي يقطعها الزوج مع الزوجة المستعصية على العلاج. وذلك أنه إذا انتهت المراحل الثلاث، دون أن ينصلح أمر المرأة، أصبح الأمر بين الزوجين مؤذنا بالفراق، الذي يحسم ما نشأ بينهما من اختلاف وفرقة.. ويجىء التدبير السماوي قبل عملية البتر هذه، فيستدعى اثنين من أهل الخير، أحدهما من قبل الزوجة، والآخر من جهة الزوج، ليكون لهما نظر وراء نظر كل من المرأة والرجل، وليدرسا أسباب الخلاف بينهما، وليتعرفا على موطن الداء لهذا الخلاف.. وقد يريان الداء، ويجدان له الدواء.. وبهذا يعدل عن عملية البتر هذه، ويعود للحياة الزوجية صفاؤها وإشراقها.. وإلا كان البتر هو الدواء لهذا الداء.. وفى قوله تعالى: «إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما» إيقاظ لمشاعر الخير والإحسان فى الحكمين، ليكونا رسولى سلام، فى هذه السفارة التي ندبهما الله سبحانه وتعالى لها.. فإنهما إن ابتغيا الخير، وأرادا الإصلاح، كان لهما من الله عون وتوفيق، فيلتقيان على ما يصلح أمر الزوجين ويمسك عليهما ذلك الرباط الوثيق الذي وثقه الله بينهما. وانظر فى رعاية الله سبحانه وتعالى لرباط الزوجية، وتقديره لها.. وكيف جاءت الشريعة الإسلامية بأكثر من دواء، لما يدبّ بين الزوجين من خلاف.. حتى فى الأحوال التي يستفحل فيها الداء، ويكون اليأس أقرب من الأمل فى شفائه! وانظر كيف يقع «الطلاق» بعد هذه المرحلة الطويلة، من احتمال الداء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 784 واستنفاد كل وسائل العلاج.. إنه لم يقع إلا حين لم يكن من وقوعه بدّ، وإلا حين كانت الحياة الزوجية بعد هذا نقمة وبلاء، على الرجل والمرأة معا. فالذين يحسمون الحياة الزوجية ويقطعون حبلها، لأول بادرة، وبكلمة واحدة.. لم يلتزموا شرع الله، ولم يأخذوا به.. بل هم معتدون آثمون. والذين يأخذون على الإسلام هذه الظواهر المريضة التي يرونها فيما يقع من صور الطلاق، على هذا الوجه المجافى للشرع.. ظلمة مفترون! الآيات: (36- 39) [سورة النساء (4) : الآيات 36 الى 39] وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39) التفسير: الآيات السابقة كانت حديثا إلى الناس، فيما يتصل بذات أنفسهم، من شئون المال، والزواج، وما يقع بين الناس من ظلم وعدوان، حين تتعارض مصالحهم، وتختلف آراؤهم، وأرزاقهم.. فيكون فيهم الغنىّ والفقير، ومن يملك الكثير مما يتجاوز حدود حاجته، ومن يملك القليل الذي لا يشبع جوعته.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 785 وإذ لفت الله النّاس فى تلك الآيات إلى الطريق القويم، الذي ينبغى أن يلتزموه، ويقيموا خطوهم عليه، حتى لا يقع بينهم صدام، ينتهى إلى تقطيع الأرحام، وسفك الدماء- فكان من تدبير الحكيم العليم، أن يدعوهم إليه، وأن يستحثهم إلى عبادته وطاعته. حتى تمتلىء قلوبهم إيمانا به، وخشية له، وتوقيرا لأوامره ونواهيه، وبهذا يكون لما وصّاهم به سبحانه من البر بأنفسهم، والعدل فيما بينهم، والتراحم بين أغنيائهم وفقرائهم، وأقويائهم وضعفائهم- يكون لهذا مكانه من قلوبهم، وأثره فى تصرفاتهم، وفى سلامة نوازعهم، واستقامة سلوكهم. «وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» . فإذا أخذ العبد نفسه بطاعة الله ووجه إليه وجهه خالصا، قانتا، خاشعا، غير ملتفت إلى سواه، ولا ناظر إلى غيره- وجد لخشية الله سطوة تملك عليه أهواءه، ولجلاله خشية يستحى معها أن يصرف وجهه عن الله، ويسلم يده لنزواته ونزعاته.. وبهذا يجد لوصايا الله مكانا متمكنا من نفسه، يعصمه من أن ينحرف، أو يزلّ. والدعوة إلى عبادة الله دعوة عامة، تتوجه إلى عباده جميعا،. فهم جميعا مدعوّون إلى رحابه، لينالوا رضاه، وينعموا برحمته.. وليس لأحد أن يحجز أحدا عن الله، أو يصدّه عن سبيله، بحجّة أن دعوة الله قاصرة عليه، أو على قومه، وبنى جنسه.. فذلك عدوان على الله، وكفر به، فوق أنه عدوان على الناس ومصادرة لحق مشروع لهم.. فالطريق إلى الله مفتوح لكل إنسان، يفتح قلبه لله، ويوجه وجهه إليه.. وأنه إذا كان لأحد أن يحول بين إنسان وبين غاياته التي يتغيّاها فى الحياة، أو أن يسلبه شيئا ملكه واستحوذ عليه، فليس فى مستطاع أحد أن يحول بين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 786 الإنسان وربّه، أو أن يمدّ يده إلى الإيمان الذي سكن قلبه فينتزعه منه، فذلك لا سلطان لأحد عليه، وإنما أمر ذلك كله إلى الإنسان نفسه، وإلى ما فى قلبه من إيمان.. إن شاء أمسك هذا الإيمان، وإن شاء أرسله! فإذا آمن الإنسان بالله، وتعبّد لله.. كان عبدا ربّانيا، يجيب دعوته، ويمتثل أمره.. وفى قوله تعالى: «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» أمر من أمر الله، ووصاة من وصاياه، بل هو الأمر الأول، والوصاة الأولى، بعد الأمر بالإيمان به، والوصاة بعبادته وطاعته.. فالإحسان إلى الوالدين حقّ من حقوقهما على المولودين، إذ كان لهما أثر فى وجود الأبناء، وفى البلوغ بهم مبلغ الحياة. وقوله سبحانه: «وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» . يبين به الله سبحانه أصحاب الحقوق الواجبة على الإنسان نحوهم، إمّا لصلة قرابة تجمعهم إليه، وتجعلهم بعضا منه، أو تجعله بعضا منهم.. وإما لصلة إنسانية عامة، تلك الصلة التي تقوم على أساس أن الفرد عضو فى الجسد الاجتماعى كلّه، وأن كل عضو سليم فى هذا الجسد من واجبه أن يحمل بعض أعباء الأعضاء المريضة فيه، شأن الجسد حين تضعف فيه حاسة، أو تعجز عن العمل، فتتولى أقرب الحواس إليها، وأشكلها بها، أداء وظيفتها بوجه أو بآخر حتى يستقيم للجسد أمره.. فذوو القربى.. هم من الإنسان وهو منهم.. ولهم على الإنسان أكثر من حق.. حق القرابة، وحق الإنسانية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 787 واليتامى والمساكين.. أعضاء ضعيفة فى الجسد الاجتماعى.. ولهم على الإنسان حق، هو حقّ بعض الجسد على بعض. والجار ذو القربى، له حق القرابة، وحق الجوار، وحق الإنسان على الإنسان. والجار الجنب له حقان: حق الجوار، وحق الإنسانية.. والصاحب بالجنب، هو الصديق المرافق، الذي يجده الإنسان إلى جنبه فى شدته ورخائه.. وهذا له حق الصداقة مع حق الإنسانية. وابن السبيل.. هو المسافر الذي يقطع الطريق بغير مركب أو زاد.. وسمّى ابن السبيل، وأضيف إليه، لأنه لا أهل له، ولا رفيق، غير الطريق الذي ركبه فى سفره.. فهو غريب، ضعيف.. له حق الضعيف على القوى، وحق الإنسان على الإنسان!. وما ملكت أيمانكم.. وهم الأرقاء، الذين ملك غيرهم وجودهم كله، فهم أضعف الضعفاء.. وحقهم على أصحابهم أولا، ثم حقهم على المجتمع كله ثانيا.. فهؤلاء جميعا هم أصحاب حقوق على الإنسانية كلها.. يتقاضونها أولا ممن هم أقرب إليهم، وأولى بهم، من أهل، وأقارب، وجيران، وأصحاب، وسادة. فكل إنسان فى المجتمع الإنسانى مدعوّ- فى شريعة الإسلام- إلى أداء حقوق لمجتمعه، يبدأ فيها بأبويه، ثم بذوي قرابته، ثم باليتامى والمساكين، ثم بالجيران من ذوى قرابته، ثم بالجيران ممن لا قرابة لهم، ثم الأصدقاء، ثم أبناء السبيل، ثم الأرقاء.. فإن فضل عنده فضل من عطاء، فليضعه حيث يشاء، فيما ينفع الناس ويعينهم. وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً» تعقيب على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 788 هذه الدعوة إلى البر والإحسان، والتواصل بين الناس.. وفى هذا التعقيب إشارة إلى أنه لا يتقبل هذه الدعوة الكريمة، ولا يفى بها إلّا من استشعر قلبه الأخوة، فوصل نفسه بالناس، واختلط بهم، وتحسس مواقع الآلام، ومواطن العلل فيهم.. وذلك لا يكون إلا من إنسان آمن بأنه ابن هذه الإنسانية، وأن الناس جميعا شركاء له فى هذا النسب.. أما من عزل نفسه عن الناس، وغرّه بذاته الغرور، وملكه العجب، واستبدّ به الكبر، بما آتاه الله، من مال، أو صحة، أو علم، فرأى أنه من عالم غير عالم الناس، ومن طينة غير طينتهم- فإنه لا يأخذ منهم ولا يعطى، ولا يمدّ إلى أحد يدا، ولا يقبل أن يمد إليه أحد يدا.. إن المسافة بينهم وبينه بعيدة.. إنهم أرض وهو سماء.. وأين الأرض وأين السماء؟ ولهذا كان قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً» كاشفا عن هذا الصنف المتعالي المتغطرس من الناس، ذلك الصنف الذي لو وجد إنسانا تتعلق حياته على قطرة ماء لما التفت إليه، ولما مد يده نحوه بتلك القطرة، ولو كانت الأنهار تجرى من تحته! وفى هذا التعقيب إشارة إلى اليهود، إذ هم الذين عزلوا أنفسهم عن المجتمع الإنسانى، وعدّوا أنفسهم خلقا آخر غير خلق الناس- ونسبوا أنفسهم إلى الله نسبة لا يشاركهم فيها غيرهم، فقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، وسمّوا شعبهم شعب الله المختار! وفى قوله تعالى: «الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» ما يكشف عن تلك الإشارة التي ضمّت عليها كلمات الله فى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً» .. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 789 فهؤلاء المختالون الفخورون، الذين يبغضهم الله، هم الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل. فقد بخل اليهود بما عندهم من علم الكتاب، وضنّوا به، فلم يقم منهم داعية يدعو إلى دين الله، ويبشر به بين العباد، من غير اليهود.. فكتموا دين الله، وبخلوا به، مع أنه يزداد على الإنفاق والإعطاء نورا إلى نور، وألقا إلى ألق! بل وأكثر من هذا، فإنهم تواصوا بالبخل، ودعا بعضهم بعضا إليه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ» (76: البقرة) . وكما بخلوا بما عندهم من علم الكتاب، بخلوا بما فى أيديهم من مال، بل إن بخلهم بالمال كان مضرب المثل فى الدنيا كلها، إذ لا يعرف شعب من الشعوب استبدّ به هذا الداء مثل اليهود.. وفى قوله تعالى: يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» إشارة صريحة بعد تلك الإشارتين المضمرتين إلى اليهود، وما بخلوا به.. فقد كتموا ما أتاهم الله من فضله من كتاب، فيه هدى ورحمة للعالمين.. ولم يقفوا عند هذا، بل كتموا الدلائل والبشريات التي عرفوها فى كتابهم هذا، عن النبي محمد، وقد كانت تلك الدلائل وهذه البشريات مصباحا يضىء لهم الطريق إلى الدّين الجديد، قبل أن تلوح شعاعات فجره الوليد.. ولكنهم آثروا أن يمسكوا هذه الدلائل بين أيديهم، وأن يكتموا النّاس أمرها، وأن يترصّدوا مطلع النبيّ الجديد، ليسبقوا إليه، ويستحوزوا عليه، ويستخلصوه لهم من دون الناس.. فكان أن حرمهم الله هذا الخير، وأورد الناس جميعا موارده. غير اليهود!! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 790 وهكذا كان الجزاء عدلا وفاقا. مكروا فمكر الله بهم، وأرادوا حرمان الناس، فحرمهم الله. وفى قوله تعالى: «وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً» خطاب عام بالجزاء الذي سيلقاه كل كافر، وهو العذاب المهين، وأول من يقع عليه هذا الجزاء هم اليهود، الذين كفروا بمحمد وبما فى يده من كتاب الله الذي فى أيديهم خبره.. فهم المواجهون بهذا الخطاب، الذي يتناولهم أولا، ويمتد إلى غيرهم من الكافرين ثانيا.. وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً» .. هو عطف على قوله تعالى: «الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ» .. فهذا الصنف من الناس كصنف اليهود الذين غضب الله عليهم وأعدّ لهم عذابا مهينا. فإذا كان اليهود قد بخلوا أثرة وشحّا، فهؤلاء أنفقوا مباهاة ورياء. وإذا كان اليهود كفروا بالله واليوم الآخر عن علم، فهؤلاء كفروا بالله واليوم الآخر عن كبر وحمق.. وهؤلاء وأولئك قد استقادوا للشيطان ووضعوا أيديهم فى يده، وصحبوه إلى حيث يريد، ولن يريد لهم الشيطان إلا الضلال، ولن يوقعهم إلا فى الهلاك. وقوله تعالى: «وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً» هو استنكار لموقفهم الذي وقفوه من الهدى والخير، ودعوة مجدّدة لهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر والإنفاق مما رزقهم الله.. فالله من ورائهم محيط، يحصى عليهم أعمالهم من خير أو شر، ويجزيهم على الخير خيرا وزيادة، وبالشر شرا، ويعفو عن كثير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 791 الآيات: (40- 42) [سورة النساء (4) : الآيات 40 الى 42] إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42) التفسير: هذا حكم الله بين عباده، لا يظلمهم مثقال ذرة، بل يوفّون حسابهم عليها، فإن كانت سيئة حوسبوا بقدرها، وإن كانت حسنة جوزوا بأضعافها.. فهذا من فضل الله ورحمته بعباده، السيئة سيئة، والحسنة حسنات.. عشرة أو عشرات، أو مئات.. والله يضاعف لمن يشاء: «وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً» . وفى قوله تعالى: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» عرض ليوم القيامة، وما يلقى الناس فيه، جزاء ما عملوا من خير أو شر. والشهيد: هو الشاهد الذي تطلب شهادته فى أمر هو عليم به. والأنبياء هم شهداء على أقوامهم، فيما كان منهم من قبول أو إعراض- والنبي الكريم هو شهيد على أمته.. يؤدى الشهادة فيهم بين يدى الله، ثم يكون حكم الله فيهم، بمقتضى ما شهد به النبىّ، والذي لا يشهد إلا بالحق الذي يعلمه الله. وفى هذا اليوم، الذي يدعى فيه الشهداء، وتسمع فيه شهادتهم.. يخزى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 792 الكافرون، ويبلسون، بما قدمت أيديهم، ويودّون لو كانوا ترابا فى التراب.. ولكن لا مفر لهم، وقد أحاطت بهم خطيئاتهم، وجاءت شهادة الرسل مسجلة عليهم آثامهم، ثم استنطقهم الله فنطقوا، وشهدت عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.. الآية: (43) [سورة النساء (4) : آية 43] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43) [الصلاة وشارب الخمر] يكاد يجمع المفسّرون والفقهاء، على أن قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» من المنسوخ، وأن بقية الآية محكم لم ينسخ! ونحن على رأينا من أنه ليس فى القرآن نسخ، وأن كلّ آية متلوّة فيه، عاملة غير معطلة.. ولكن ماذا يقول القائلون بالنسخ فى آية متماسكة النظم، متلاحمة البناء كهذه الآية: ينسخ بعضها، ويبقى بعضها من غير نسخ؟ ثم ماذا يقولون فى فعل مسلط على أمرين بحكم واحد، ثم يسقط أحد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 793 الأمرين ويبقى الآخر؟ فأية قوة خارقة تدخل على هذا الفعل، فتفلت من سلطانه أحد الأمرين وتستبقى الآخر..؟ استمع إلى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ.. وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ» . فإن النهى عن مقاربة الصلاة تسلّط على حالين، حال السكر، وحال الجنابة.. وقد نصب قوله تعالى: «وَلا جُنُباً» بالعطف على قوله سبحانه: «وَأَنْتُمْ سُكارى» الذي هو جملة حالية فى محل نصب. فكيف ينسخ النهى عن مقاربة الصلاة حال السكر، ولا ينسخ النهى عن مقاربتها حال الجنابة، والفعل مسلط عليهما معا؟ وندع هذا، ففيه مجال للقول والجدل.. ونسأل: هل إذا أمر المسلمون بأمر إلهى، استجابوا له، واستقاموا عليه والتزموه؟ .. المفروض هو هذا، والمطلوب هو هذا أيضا.. ولكن المفروض شىء، والواقع شىء.. والمطلوب شىء، والوفاء به شىء آخر.. إن من شأن الناس ألا يكونوا على حال واحدة أبدا.. ففيهم المطيع، وفيهم العاصي، ومنهم المستقيم، وكثير منهم المعوجّ.. «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (2: التغابن) .. «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» (103: يوسف) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 794 هكذا هم الناس.. بل هكذا هو الإنسان.. يستقيم وينحرف، ويطيع ويعصى. ومن أجل هذا قام شرع الله، وقامت حدود الله، وكان الثواب، وكان العقاب! فالمسلمون إذا نهوا عن الخمر، مثلا، كان واجبا عليهم أن يمتثلوا أمر الله، وأن ينتهوا عما نهوا عنه.. ولكن الواجب- كما قلنا- شىء، والوفاء به شىء آخر.. وقد شرب كثير من المسلمين الخمر، حتى فى الصدر الأول للإسلام، وفى عهد الخلافة الراشدة.. وقصة أبى محجن الثقفي المجاهد فى جيش سعد بن أبى وقاص معروفة.. فقد ضبط متلبسا بشربها، وأقام عليه سعد الحدّ أكثر من مرة.. ثم حبسه، ووضع القيد فى رجله.. ثم التحم المسلمون مع الروم فى معركة كاد يهزم فيها المسلمون، وعند ما رأى أبو محجن من محبسه أن الدائرة ستدور على المسلمين، احتال حتى خرج من محبسه وفك من قيوده، وركب فرس سعد، وقاتل قتالا مستبسلا عرفه له كل من شهد المعركة، وإن لم يعرف شخصه.. وانتهت الموقعة بانتصار المسلمين، كما انتهت بانتهاء أبى محجن عن شرب الخمر!! والأمر لا يحتاج فى هذا إلى شواهد.. فإن هذا المنكر- أي الخمر- لم يعتزله المسلمون جميعا، بل كان منهم فى كل عصر، وفى كل بلد، من يشرب الخمر وتأخذه سكرتها، ويغشاه خمارها، حتى لا يكاد يفيق! ونعم، الخمر كبيرة، بل وكبيرة الكبائر.. آثم من يلمّ بها، أو يعاقرها! هذا حكم لا خلاف فيه بين المسلمين.. ولكن ما حكم من يشرب الخمر من المسلمين، ثم يريد أن يؤدّى «الصلاة» ؟ أتحرم عليه الصلاة، ويحال بينه وبينها! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 795 إن القول بنسخ الآية- أو صدر الآية- لا يسقط عنه فريضة الصلاة، ولا يحول بينه وبينها. فالآية الناسخة لهذه الآية هى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» (90- 91: المائدة) - هذا النسخ للآية السابقة- إذا أخذ به- لا يحول بين المسلم الذي شرب الخمر وبين أن يؤدى الصلاة. فالخمر جريمة، والصلاة قربة لله.. تلك سيئة، وهذه حسنة، ولا يمنع اقتراف السيئات من فعل الحسنات، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ» (114: هود) . وكيف يحال بين المسلم العاصي، وبين أن يفعل القربات، التي تكفّر سيئاته، وتصحح إيمانه؟ وكيف بالصلاة، وهى عماد الإسلام وملاك أمره؟ وأنّى للمسلم العاصي أن يدخل مداخل الطاعة، ويحسب فى الطائعين، بغير الصلاة، التي يقول الله سبحانه وتعالى فيها: «وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» (45: العنكبوت) ؟ وإذ ننظر فى قوله سبحانه: «وَأَقِمِ الصَّلاةَ.. إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» نجد أنه دعوة عامة للمسلمين جميعا أن يقيموا الصلاة. وأن حظ المسيئين منها أكثر من حظ المحسنين.. إذ كان المحسنون بإحسانهم، على الصحة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 796 والسلامة، لا تزيدهم الصلاة إلا إيمانا على إيمان، وهدى إلى هدى.. أما المسيئون.. فهم مرضى.. أصحاب آفات وعلل، ومرتكبو فواحش وآثام.. فهم أشد الناس حاجة إلى الدواء الذي يذهب بدائهم هذا، ويطهرهم من الآثام التي أحاطت بهم.. وليس غير الصلاة، مطهرة للآثام، مغفرة للذنوب، مدعاة إلى الاستقامة والتقوى: «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» . إن الآية الناسخة إذن لا تنهى المسلم العاصي عن إتيان الصلاة، إذا كان مبتلى بشرب الخمر.. ولكن كيف يؤدّى الصلاة وهو معاقر الخمر، مصاب بخمارها لا يدرى ما يقول؟ هنا يأتى قوله تعالى: «لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» وهنا تعطى الآية حكمها فى هذه الحال.. وبهذا تكون عاملة غير منسوخة، فإن القول بنسخها- حكما لا تلاوة- يدعو إلى القول بأن شارب الخمر لا يصلى أبدا، سواء أكان يدرى ما يقول، أم لا يدرى.. وهذا مالا يقول به أحد! ونسأل: ما داعية القول بنسخ هذه الآية؟ وما الحكمة فى ضرب بعض القرآن ببعض؟ خاصة إذا كانت الآية تعطى حكما مطلوبا، لا نجده فى الآية التي يقال إنها ناسخة لها؟ إذن فإن ذلك القول بالنسخ هنا لا مفهوم له أبدا.. بل إنه ليبدو لنا أشبه بالقتل العمد لنفس حرم الله قتلها!! فالمسلم.. الذي يتأثّم بشرب الخمر.. منهى عن إتيان الصلاة حتى يفيق إفاقة تامة من السكر، ليعلم ما يقول، ولينتفع بهذا الموقف الذي يقفه بين يدى الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 797 وهذا الانتقال السريع من الإثم إلى الطاعة، والانخلاع من متابعة الشيطان إلى ملاقاة الله- هذا الانتقال من شأنه أن يحدث فى النفس هزّة مزلزلة، وأن يثير فى كيان الإنسان انقلابا عاصفا، حين يرى تلك المفارقة العجيبة البعيدة بين الموقفين اللذين وقفهما، والذي لا يبعد أحدهما عن الآخر غير خطوة.. إنه فى هذا الموقف- أكثر من غيره- يدرك فرق ما بين الضلال والهدى، والظلام والنور، ومتابعة الشيطان، ولقاء وجه الرحمن.. إن هذا الموقف جدير به أن يحمل الإنسان- فى قوة- على مخالفة هواه، والرجوع إلى الله، رجوعا لا يلتفت بعده إلى وراء أبدا!! قوله تعالى: «وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا» هو عطف على قوله سبحانه: «وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» وهما- أي المتعاطفان- واقعان تحت حكم النهى فى قوله تعالى «لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ..» فكما لا يقرب شارب الخمر الصلاة حتى يفيق ويعلم ما يقول، كذلك لا يقرب الجنب الصلاة حتى يتطهر بالاغتسال..! أي لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها وأنتم جنب حتى تغتسلوا. إن شأن الصلاة عظيم، وأمرها جليل، وإذ كان هذا شأنها وذلك أمرها، فإنه يجب ألا يدخل حماها، ولا يتلبّس بها إلّا من كان أهلا لأن يلقاها، وبأنس بها، ويتجاوب معها، ويستشعر جلال الله على سنا أضوائها.. والمخمور غير أهل لهذا اللقاء.. حتى يفيق ويتخلص خماره، ويعود إليه عازب عقله ويستردّ إنسانيته التي افتقدها مع سكرته- والجنب غير أهل هذا اللقاء أيضا.. حتى يغتسل ويتطهر، وينزع عنه بهذا الاغتسال ما تلبّس به من مشاعر الحيوانية، ليعود إنسانا، كما كان من قبل أن يتلبس بما تلبس به! والجنب، والجنابة: كناية عن مباشرة النساء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 798 وقوله تعالى: «إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ» هو استثناء من الحكم الوارد على الجنب بألا يقرب الصّلاة حتى يغتسل.. فإن كان عابر سبيل، لا يجد ماء.. فله حكم غير هذا الحكم، ستشير إليه الآية فيما بعد. قوله تعالى: «وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ» . هذا استثناء من حكم عام، وهو الوضوء للصلاة قبل الدخول فى الصلاة.. والمستثنون من هذا الحكم هم أصحاب معاذير: افتضت رحمة الله بهم التخفيف عنهم، وأخذهم بحكم خاص، غير هذا الحكم العام الذي يجرى على من لا عذر لهم.. وأصحاب المعاذير هنا هم: 1- من كان مريضا.. أي المريض الذي يعجزه مرضه عن استعمال الماء. 2- أو من كان على سفر.. سواء أكان السفر طويلا أم قصيرا، مادام قد بعد عن أهله وبلده. 3- من انتقض وضوؤه، بخروج شىء من أحد السبيلين.. ولو كان صحيحا سليما- إذا لم يجد الماء، أو وجده وأضرّ به استعماله، وهو المشار إليه بقوله تعالى: «أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ» .. والغائط هو المكان المنخفض، وهو كناية عن قضاء الحاجة، حيث تقضى فى مكان لا يقع تحت أعين الناس. 4- من كان جنبا.. ولو كان سليما معافى لا يضره استعمال الماء، ولكنه لا يجده. فهؤلاء.. إذا لم يجدوا الماء أو وجدوه وأضرّ بهم استعماله، كان التيمم بديلا لهم من الماء، فى أداء الصلاة.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 799 فالمريض، الذي يمنعه مرضه من استعمال الماء، له التيمم مع وجود الماء، وكذلك شأن المسافر، إذا كان معه من الماء مالا يفيض عن حاجته فى طعامه وشرابه.. والتيمم معناه القصد، والاتجاه، والصعيد ما ارتفع من الأرض، وصعد. والمراد بقوله تعالى: «فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» اختيار مكان طاهر من الأرض، ليمسح منه على الوجه واليدين، قبل الدخول فى الصلاة.. والإشارة إلى الصعيد، لمظنّة أنه بمنأى من الخبث والقذر، حيث يعلو عن استعمال الناس، والتلوث بالقذارات.. فليس المراد مجرّد العلوّ لاختيار المكان الذي يمسح منه، وإنما القصد أن يكون طيبا طاهرا، ولهذا جاء قوله تعالى: «صَعِيداً طَيِّباً» قيدا للصفة التي يكون عليها هذا الصعيد، وهو أن يكون طيبا، إذ قد يكون صعيدا، ولكنه ملوث بالخبث والقذر. وهنا أمر نحبّ أن يشير إليه، وهو ما فى قوله تعالى: «وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا» حيث أطلق الجنابة، ولم يقيدها. إن كانت عن حلال أو حرام! وهذا يعنى أن «الزاني» جنب، وأنه حين يريد الصلاة ينبغى أن يتطهر بالاغتسال، أو التيمم، حسب الحكم الذي يقتضيه حاله، شأنه فى ذلك شأن «الجنب» الذي واقع زوجه! أما جريمة «الزنا» التي اقترفها، فلها حكمها الخاص بها.. ولا متعلق لها بفريضة الصلاة المفروضة عليه. نقول هذا، لنشير به إلى ما سبق أن قررناه فى شأن شارب الخمر، الذي إذا أراد أن يؤدى فريضة الصلاة، فإن له أن يؤديها، ولكن بعد أن. يفيق من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 800 سكره ويعلم ما يقول.. تماما، كما يغتسل «الزاني» ويتطهر من الجنابة قبل الدخول فى الصلاة. وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً» نجد دعوة كريمة، من رب كريم، عفوّ غفور، يدعو هؤلاء المذنبين إليه.. من شاربى خمر، أو زناة، ليدخلوا فى رحابه، وليرفعوا وجوههم إليه وليخبتوا له، ساجدين راكعين.. عسى الله أن يتوب عليهم، ويغفر لهم.. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً» .. وما أوسع رحمة الله، وما أعظم فضله، إذ بسط يده بالعفو وبالمغفرة، قبل أن يسعى إليها الساعون، ويطلبها العصاة المذنبون. هذا، ونودّ أن نلتقى بالآية الكريمة لقاء خاصّا، نستشفّ منه بعض أسرارها التي تلوّح بها من بعيد، ليكون فيها تبصرة وذكرى لأولى الألباب! ففى قوله تعالى: «وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ» - ما يسأل عنه، وهو هذا القيد الوارد على إباحة التيمم، عند عدم وجود الماء- هل هو منسحب إلى جميع أصحاب هذه الأعذار.. وهم المرضى، ومن كان على سفر، ومن جاء من الغائط، ومن لامس النساء؟ وكلّا.. فإن المريض سواء وجد الماء أو لم يجده، قد رخّص له فى التيمم، وقام مرضه فى دفع الحرج عنه مقام عدم وجود الماء.. وإلا لما كان لذكره هنا وجه.. فإن عدم وجود الماء هو عذر للصحيح أيضا، فلا وضوء عليه الصلاة، بل يجزيه التيمم، الذي هو طهارة له، والتي هى شرط للدخول فى الصلاة.. وسؤال آخر، وهو: أيلحق المسافر فى الحكم بالمريض، فيباح له التيمم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 801 سواء وجد الماء أم لم يجده، أم أنه يلحق بمن ذكر بعده، وهو من جاء من الغائط أو لامس النساء.. حيث لا يباح لهما التيمم إلا عند فقدان الماء؟ هنا يطالعنا وجه من وجوه الإعجاز القرآنى، نلمحه فى ترتيب أصحاب هذه الأعذار المبيحة للتيمم، حيث بدأ بالأقوى عذرا، فمن دونه، وهكذا.. فالمريض.. صاحب عذر واضح فى إباحة التيمم له، بحيث لا ينتقض هذا العذر بوجود الماء. أما المسافر.. فهو على حال دون المريض، ولكنه شبيه بالمريض فى بعض ما يحيط به من أحوال.. فهو ضعيف لانقطاعه عن أهله، ولسوء تغذيته، ولمكابدته مشاق السفر.. فهو- والحال كذلك- فى حكم المريض، وإن لم يكن مريضا، ولهذا جاء تاليا للمريض فى ترتيبه بين أصحاب الأعذار.. وعلى هذا، فإن له أن يأخذ بحكم المريض، فينتفع برخصة التيمم، مع وجود الماء، وهذا هو سرّ ذكره بين أصحاب الأعذار، ليكون السفر عذرا له، كما يكون فقدان الماء عذرا لغير المسافر.. كمن جاء من الغائط أو لامس النساء. هذا، ولا نستطيع أن نرفع أبصارنا عن هذه الآية الكريمة دون أن نملا العين من هذا النظم العجيب الذي جاءت عليه، وهى تقرر أحكاما، وتصدر تشريعا.. الأمر الذي لا يلتفت معه كثيرا إلى الصياغة البلاغية، التي كثيرا ما تجوز على التحديد والتقنين المطلوبين لتقرير الأحكام.. ولكنه القرآن الكريم، وكلام ربّ العالمين، يجمع الحسن كلّه، ويستوفى الكمال جميعه. والذي شدّ أبصارنا وبصائرنا من نظم هذه الآية الكريمة هو قوله تعالى: «أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ» فقد جاء هذا المقطع من الآية الكريمة مخالفا لنسق النظم الذي جاءت عليه الآية، فيما سبقه، أو لحقه منها- فالآية تخاطب المؤمنين فى صيغة الجمع.. «وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 802 أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً..» وينفرد هذا المقطع: «أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ» بأنه حديث عن الغائب المفرد.. ولو جاء على نسق النظم فى الآية كلها لجاء هكذا: «أو جئتم من الغائط» . فما سرّ هذا؟ وأكاد أنصرف عن بيان هذا السرّ، الذي يكاد لا يكون سرّا، بعد أن يواجهه المقطع المعدول عنه، والذي كان من المتوقع أن يحلّ محلّه.. هكذا: «أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ» .. «أو جئتم من الغائط» . ولكن لا بأس من أن نكشف هذا السرّ بعد أن انكشف، إذ لا تزال وراءه أسرار كثيرة لم تنكشف لنا، ولعلها تنكشف لمن يطلبها ويمعن النظر فيها.. ففى قوله تعالى: «أَوْ جاءَ أَحَدٌ» تنكير وإخفاء وستر لهذا الذي جاء من الغائط، بعد أن كان عريانا، يباشر عملا يحبّ أن يستره ولا يطلع أحد عليه. ثم هو من جهة أخرى احترام لحياء المخاطبين، حتى لكأنهم لا يفعلون هذا الفعل الذي هو ضرورة ملزمة لكل حىّ.. والذي هو عمل يأتيه كلّ إنسان.. ولكنه أدب الحديث، الذي يؤدّبنا الله سبحانه وتعالى به، ويطلعنا من كلماته على ما لم تعرف الحياة فى أعلى مستوياتها من أدب كهذا الأدب السماوي الكريم! الآيات: (44- 46) [سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 46] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 803 التفسير: الذين أوتوا نصيبا من الكتاب هم اليهود. والمراد بالنصيب من الكتاب، بعضه، أي بعض التوراة، التي جاءهم بها موسى عليه السلام. فكيف يكون اليهود قد أوتوا نصيبا من الكتاب مع أن الكتاب كله بين أيديهم؟ والله سبحانه وتعالى يقول فيهم: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ (20: الأنعام) ، (146: البقرة) ؟ ويقول سبحانه: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ (121: البقرة) . كيف يكون هذا؟ والجواب: أولا: أن الكتاب- وهو التوراة- الذي بين أيدى اليهود، قد حرّف وبدّل، بما أحدثوا فيه من منكرات، وبما ألقوا إليه من أهواءهم، ومختلقاتهم.. فالذى بقي فى أيديهم من التوراة، هو بعض التوراة، لا التوراة كما أنزلت عليهم. وثانيا: أن ما بقي فى أيديهم من التوراة لم يستقيموا عليه، فما صادف من أحكامها هوى فى أنفسهم أخذوا به، وما كان على غير ما يحبّون تأوّلوا له، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 804 وحرفوه عن وجهه إلى الوجه الذي يريدون.. وقد نعى الله ذلك عليهم بقوله سبحانه: «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» (58: البقرة) . فالذى يمسك به اليهود من التوراة هو بعض التوراة، لا التوراة.. وفى التعبير بلفظ «أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ» بدلا من «آتيناهم الكتاب» إبعاد لهم عن هذا المقام الكريم، مقام الخطاب من الله رب العالمين، لأنهم- وقد فعلوا ما فعلوا من منكرات- ليسوا أهلا لأن يوجّه إليهم خطاب من الله رب العالمين.. فوجّه إليهم الخطاب مجهول الجهة التي تخاطبهم، حتى لكأنهم فى مواجهة الوجود كلّه، يطلع عليهم من كل أفق منه من يستنكر ما هم فيه من ضلال، ويحمّق موقفهم من رسل الله وكتبه.. «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ» . فكأنّ ألسنة الخلق كلّها تتنادى مشيرة إلى هذا الضلال والسّفه الذي يركب هؤلاء الحمقى السفهاء من الناس، إذ يشترون الضلالة بالهدى، والباطل بالحق، والشر بالخير.. «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ» (28: إبراهيم) وفى قوله تعالى: «وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ» خطاب للمسلمين، بعد أن كان الخطاب موجها إلى النبىّ الكريم، وفى هذا، تكريم للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- ورفع لمقامه الكريم، من أن يكون لهؤلاء الضالين، ومفترياتهم، أثر فى سلامة دينه، وصحة معتقدة، ووثاقة إيمانه بربّه، وإن كان فى ذلك ما يخشى منه على المسلمين، فى التشويش عليهم، والوسوسة بالباطل لهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 805 قوله تعالى: «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً» - فضح لليهود، ولما فى قلوبهم من بغضة وشنآن للمسلمين، وأنهم هم العدوّ، الذين يكيدون لدين الله، ولرسول الله، وللمؤمنين بالله.. وفيهم يقول الله سبحانه: «وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ.. هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ.. قاتَلَهُمُ اللَّهُ.. أَنَّى يُؤْفَكُونَ» (4: المنافقون) .. وفيهم يقول سبحانه أيضا: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا» (82: المائدة) . وفى قوله تعالى: «وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً» حماية ربّانية وحراسة رحمانية للمؤمنين، مما يكيد لهم اليهود، وما يدبرّون من سوء.. فالله سبحانه وتعالى، هو ولىّ المؤمنين، يدفع عنهم هذا الكيد، ويفسده.. «وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً» وإن الله سبحانه ليتولّى المؤمنين وينصرهم، إذا هم أخذوا حذرهم، وتنبهوا إلى عدوّهم، وتحصنوا من كيده ومكره، بإيمانهم بالله، واحترازهم من عدوّهم: «هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ..! وقوله تعالى: «مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا.. لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ» يكشف عن تلبيسات اليهود، وموارد نفاقهم.. إنهم ينافقون بالكلمة وبالعمل معا، تلتوى ألسنتهم بالكلمات فتزيلها عن معانيها التي لها، وتعبث أيديهم بالعمل فتموّهه وتزيفه، وتجعل ظاهره غير باطنه، كما يطلى المعدن الخسيس بسراب خادع من معدن كريم. يقولون للنبىّ بأفواههم: «سمعنا» ويقولون بقلوبهم: «وعصينا» ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 806 ويقولون «اسمع» بصوت مسموع، ويتبعون ذلك بصوت خافت: «غير مسمع» يدعون على النبىّ بالصم.. ويقولون: «راعنا» أي انظر إلينا.. يقولونها فى تخابث تضطرب به ألسنتهم فتخرج الكلمة مشوّهة، عليها شبهة الضلال الذي يجده السامع لكلمة «راعنا» بالتنوين، صفة من الرعونة والطيش.. وهكذا يلقون النبي والمسلمين بتلك الكلمات المنافقة، التي تلبس أثوابا من الزيف والخداع! «وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ» ! خيرا يصيبونه فى أنفسهم، إذ يستقيم بهم على طريق الخير، ويهديهم إلى سواء السبيل.. ولكن طبيعة القوم لا تعطى غير هذا الباطل، ولا تنضح إلا بهذا الزّيف المنكر من القول.. إذ «لعنهم الله بكفرهم» .. «وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً» يستنقذه من هذا الضلال الذي يتخبط فيه، ويلقى به فى لجج الهلاك، وسوء المصير.. وفى قوله تعالى: «فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» .. ما يفضح هذا الإيمان الذي هم عليه.. فهم أهل كتاب.. ومن شأن أهل الكتاب أن يكونوا مؤمنين.. وهم مؤمنون، ولكن إيمانهم مشوب بالضلال، متلبّس بالكفر، فهم مؤمنون وكافرون، ولا يجتمع الإيمان والكفر إلا فى قلب منافق.. فالنفاق هو الوصف الذي هو أولى بهم، وهم أحقّ به.. ولهذا كان النفاق والمنافقون، من الصفات والسمات التي غلبت عليهم، فيما تحدث به القرآن عن هذا الحق اللئيم وأهله.. وفى القرآن الكريم يوصف اليهود بأنهم كافرون.. هكذا، وصفا مطلقا.. كما يقول سبحانه: «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ» (1: البينة) وكما يقول سبحانه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 807 «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ» (6: البيّنة) وفى القرآن الكريم آيات تصف اليهود بأنهم مؤمنون، ولكنّ هذا الوصف يقيّد دائما بأنه إيمان سطحى، لا يمسك من بالإيمان إلا بظاهره، كما يقول سبحانه فى هذه الآية: «فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» .. وكما يقول سبحانه: «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» (155: النساء) . فهم كافرون كفرا قاطعا، وهم مؤمنون إيمانا ظاهرا.. وذلك هو النفاق فى أسوأ صورة وأبشعها. الآيتان: (47- 48) [سورة النساء (4) : الآيات 47 الى 48] يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48) التفسير: بعد أن فضح الله اليهود، الذين أوتو الكتاب، فمكروا بآيات الله، بما حرّفوا وبدّلوا فيه- دعاهم الله إلى ترك ما هم فيه من ضلال وزيغ.. وأن يؤمنوا بالله وبالكتاب الذي فى أيديهم إيمانا خالصا، فإنهم إن فعلوا ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 808 لم يكن بينهم وبين الإيمان بالكتاب الذي نزله الله على «محمد» حجاز يفصل بينهم وبين الإيمان بهذا الكتاب.. لأنه من عند الله، كما أن كتابهم من عند الله، وهو مصدق لما معهم فيما جاء به من شرائع وأحكام.. فإذا آمنوا بكتابهم، ولم يؤمنوا بالكتاب الذي نزل على محمد، فهم غير مؤمنين، لأن الكتابين فى حكم كتاب واحد.. والإيمان بأحد الكتابين والكفر بالآخر ينقض هذا الإيمان.. وقد أنكر الله عليهم دعوى الإيمان التي يدّعونها، حين يقولون، إنهم على كتابهم الذي فى أيديهم.. فقال تعالى: «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ؟ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ» . (85: البقرة) . وقال سبحانه وتعالى فيهم أيضا: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً» (150- 151: النساء) وفيهم يقول سبحانه وتعالى أيضا: «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» . (91: البقرة) وفى قوله تعالى: «مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ» وعيد لليهود، ونذير راصد لهم باللعنة من عند الله، إن لم يؤمنوا بمحمد، وبما أنزل الله عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 809 وهذه اللعنة حين تقع عليهم، فإنها لا تبقى على شىء من آدميتهم.. بل إنها ستقلب كيانهم البشرى، وتحيلهم خلقا آخر، يكون مثلة، بين المخلوقات، فإذا كان كل مخلوق له وجه وظهر، فهؤلاء سيكون وجههم وظهرهم سواء! وانظر إلى إنسان استدارت رأسه، فكان الوجه من خلف، والقفا من أمام!! كيف تبدو صورته؟ وكيف يستقيم حاله؟ وكيف يمشى إذا أراد المشي؟ وكيف يأكل إذا أراد الأكل؟ بل كيف ينام إذا أراد أن ينام؟ ما أشقى مثل هذا الكائن الذي تخالفت أعضاؤه، وتضاربت جوارحه! وهذه العقوبة هى الجزاء الوفاق لما ارتكبوا من جرائم وآثام. إنهم أعطوا الناس وجها، وعاشوا فيما بينهم وبين أنفسهم بوجه.. والوجه الذي تعاملوا به مع الناس هو هذا الوجه الظاهر الذي يراهم الناس عليه، أما الوجه الآخر، فقد أخفوا أمره عن الناس، وحجبوه عن أن يواجهوهم به- فكان أن توعدهم الله بكشف هذا الوجه المنافق، وفضحه للناس، فلا يبقى لهم إلا هذا الوجه الذي جعلوه وراءهم، فى هذا الوضع المقلوب! هذا هو الجزاء الذي ينتظرهم، إن لم يستقيموا على طريق الحق، ويؤمنوا كما آمن الناس، إيمانا خالصا من النفاق! فإن لم يكن فى هذا الجزاء ما يردعهم، ويردّ إليهم شارد عقولهم.. فهناك جزاء آخر أقسى وأشد.. وإنه لجزاء يعرفونه فى آبائهم وأجدادهم، الذين اعتدوا فى السبت، فمسخهم الله، وجعلهم قردة فى أجساد بشر! أو بشرا فى طباع قردة! وفى هذا يقول الله تعالى: «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ» (65: البقرة) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 810 وقوله تعالى: «أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ» هو نذير بالعقوبة الثانية، بعد النذير بالعقوبة الأولى. وما أصاب أصحاب السبت معروف لهم! فماذا ينتظرون بعد هذا؟ أيظنون أن الله مخلف وعيده لهم.. لأنهم- كما زعموا- أبناء الله وأحباؤه؟ وكيف وقد وقع هذا العقاب بآبائهم، وأخذهم الله به؟ أم يظنون أن الله إذا أراد أمرا بهم، وساق شرا إليهم- أهناك من يدفع ما أراده الله بهم؟ فلينتظروا، وسوف يرون ما الله فاعل بهم.. «وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا» وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» . - ما يسأل عنه.. وهو: هل أهل الكتاب هؤلاء مشركون، حتى تجىء هذه الآية فى سياق الحديث عنهم، وفضح نفاقهم؟ إنهم- كما وصفهم، القرآن فى كثير من آياته- كافرون، ومنافقون، ومؤمنون.. يجمعون بين الإيمان والكفر.. أما الشرك فهو الصفة الغالبة التي أطلقها القرآن على كفار قريش، الذين لم ينكروا وجود الله، ولكنهم عبدوا أصناما لهم من دون الله، وقالوا: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» (3: الزمر) ومع هذا، فإن بين الكافرين من أهل الكتاب، والمشركين من العرب صلة جامعة، هى الخروج عن سواء السبيل، والتنكّب عن طريق الحق! وإذ جرى ذكر الكافرين المنافقين من أهل الكتاب، وما توعدهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 811 الله به إن لم يؤمنوا، إيمانا كاملا- حسن أن يجرى ذكر قرنائهم من مشركى العرب، وأن يلتقى بعضهم ببعض، ويواجه بعضهم بعضا، بهذه الوجوه المنكرة وما بأيديهم من آثام.. وفى ذلك ما فيه من إثارة الذعر والفزع، فيما يرى كل واحد من الفريقين فى وجه صاحبه، من وبال ونكال.. إنها حال أشبه بتلك الحال التي يثيرها اجتماع المجرمين- على اختلاف جرائمهم- فى ساحة العدل والقصاص، من صور الإيلام، والأسى، والفزع، التي تشتمل على أصحاب هذا الموقف جميعا! والشرك عدوان على الله، وإنزال بقدره، حين يسوّى بينه وبين المعبودين، من جماد، وحيوان، وإنسان! ولهذا كان الشرك أعظم من الكفر، إذ الكافر- مع إنكاره لله- حين يتعرف على الله لا يراه على تلك الصورة التي يراه عليها المشرك، ولا ينزل بقدره إلى هذا المستوي المهين! «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» . فالشرك كبيرة الكبائر، لا يغفر الله لمرتكيها، ولا يدخله مدخل عباده، الداخلين فى رحمته ومغفرته. «وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً» .. (48: النساء) «إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» (72: المائدة) الآيتان: (49- 50) [سورة النساء (4) : الآيات 49 الى 50] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 812 عادت الآيات مرة أخرى، لتفضح اليهود، فضيحة بعد فضيحة، فما أكثر مآثمهم، وما أوسع دائرة مخازيهم.. وهنا جريمة أخرى من جرائمهم.. إنهم غارقون فى الضلال إلى أذقانهم، ومع هذا فإنهم يرون فى أنفسهم أنهم أولى الناس بالله، وأقربهم إليه، وأحقهم بفضله ورحمته، فقالوا فيما كانوا يقولون: «نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ» .. وقالوا: «لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ» . لقد زكّوا أنفسهم بغير حق ورفعوا منزلتهم إلى مكان ليسوا أهلا له. وهذا تألّ على الله، وافتراء عليه.. وإنه ليس لاحد أن يتخيرّ عند الله المكان الذي يمليه عليه هواه.. فذلك أمر إلى الله وحده، ينزل عباده منازلهم، حسب علمه بهم، وبما هم أهل له.. دون أن يظلم أحدا شيئا.. وقوله تعالى: «انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً» شجب لمدّعيات هؤلاء القوم، وتكذيب لمفترياتهم، وفضح لهم على رؤوس الأشهاد، ودعوة للناس جميعا أن ينظروا إليهم وهم فى هذا الثوب الكاذب المفضوح!! الآيات: (51- 52- 53- 54- 55- 56- 57) [سورة النساء (4) : الآيات 51 الى 57] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 813 التفسير: فضيحة أخرى من فضائح اليهود، ومخزاة إلى ما عرف من مخازيهم، التي يرى منها الناس ما يثير العجب والدّهش، وما يحمل على السخط عليهم، واللعنة لهم.. إنهم وهم أهل كتاب، إن يكن قد فاتهم الخير الكثير الذي كان فى هذا الكتاب، فإن بين أيديهم أثارة منه، تجعلهم أقرب إلى المؤمنين، وأعرف بما جاء به محمد من عند ربّه، وأنه إذا أنكره المشركون وكذبوا به، لم يكن لليهود- أهل الكتاب- أن يقفوا هذا الموقف اللئيم منه! والعجب هنا، أن اليهود لم يقفوا عند هذا الحدّ من الضلال، والعناد، والمكابرة فى وجه الحق، بل انحدروا إلى حضيض السفاهات والضلالات، فآمنوا بالجبت والطاغوت، واتبعوا ما تمليه عليهم أهواؤهم من أباطيل وخرافات.. والجبت: هو الهوى الذي يفيض من عقل مظلم ووجدان سقيم.. والطاغوت: هو الهوى الذي يمليه ذكاء خبيث، وشيطان مريد.. فالقوم عبدة هذا الهوى، الجامع بين تلك الأخلاط. من البلادة والذكاء، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 814 البلادة الحيوانية، والذكاء الشيطاني.. فهم حيوانات بهيمية، يعيش فيها شيطان رجيم.. وفى قوله تعالى: «وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا» إشارة إلى فعلة من أفعالهم اللئيمة، وجريمة من جرائمهم المنكرة.. ذلك أنهم يرون فى الكافرين أنهم أهدى سبيلا من المؤمنين.. ولهذا كانوا حلفا مع مشركى قريش على النبىّ وأصحابه! .. وهكذا يقتل الحسد من نفوسهم كل واردة من واردات الخير، حين.. بعمى أبصارهم، ويطمس على قلوبهم، فيرون الحق باطلا، والباطل حقّا.. «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» (41: المائدة) وفى عطف القول ومقوله، على إيمانهم بالجبت والطاغوت، تغليظ لهذا القول الذي قالوه، وتجريم له، وجعله هو وعبادة الجبت والطاغوت على درجة سواء، من الكفر والضلال! وفى إسناد القول للذين كفروا، ثم الإشارة بمقول القول إليهم- ما يسأل عنه: إذ كيف يقولون للذين كفروا، ثم يشيرون إلى هؤلاء الذين كفروا بمقول القول هذا، وهم يخاطبونهم، ويتجهون بالقول إليهم؟ إن الذي يقتضيه النظم أن يكون مقول القول للكافرين.. هكذا: أنتم أهدى من الذين آمنوا سبيلا! فكيف هذا؟ والجواب- والله أعلم- أن اليهود- لم يتجهوا بهذا القول إلى جميع الكافرين.. وإنما كانت مقولتهم تلك لرءوس الكافرين، وأصحاب الرأى فيهم، ثم كانت الإشارة إلى الكافرين فى عمومهم. وفى هذا ما فيه من مبالغة فى كفر القوم، وضلالهم، حتى إنهم لا يرون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 815 المؤمنين فى درجة تسمح بالمفاضلة بينهم وبين كبار الكافرين وسادتهم، وإنما الذي يمكن أن يسمح به فى المفاضلة بين المؤمنين والمشركين، هو هذا المستوي الذي عليه عامة الكافرين، لا خاصتهم.. فاليهود إذ يتحدثون إلى رءوس الكافرين لا يقولون لهم أنتم أهدى سبيلا من المؤمنين، بل يشيرون إلى عامة الكافرين، خارج هذه المجموعة، ويقولون لهم: «هؤلاء» أي جماعتكم جميعا.. «أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا» أما أنتم، فشتان ما بينكم وبينهم! وإذ استباح القوم الزور، واستمرءوا الحياة معه.. فهيهات أن يقف بهم عند حدّ! وقوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً» . هو إشارة لليهود الذين شهدوا تلك الشهادة الباطلة، ونطقوا بها زورا وبهتانا، وهو فى مقابل مقولة اليهود عن الكافرين: «هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا» حيث أشاروا إلى الكافرين، وحكموا لهم بهذا الحكم المبنىّ على الزور والبهتان.. فأشار الله إليهم، بهذا الحكم القائم على العدل والردع، لهذا الجرم الذي اقترفوه، وهذا الضلال الذي غرقوا فيه، وأغرقوا غيرهم معه.. «أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً» . واللعنة دائما حيث كانت، فهى لليهود، وعلى اليهود..! وقوله تعالى: «أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً» هو إعلان عن هذا الطبع اللئيم الذي يغلب على اليهود، وهذا الداء الخبيث الذي يغتال كل معالم الإنسانية فيهم.. فالشحّ هو الطبع الغالب عليهم، لا تندّ من أيديهم ذرة خير لأحد، لما انطوت عليه نفوسهم من كراهية للناس جميعا.. حيث يجدون الراحة والرضا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 816 فيما ينزل بالناس من كوارث ومحن، فكيف يكون منهم عمل يخفف عن الناس لما، أو يسوق إليهم عافية؟ إنهم لو كان إلى أيديهم شىء من رحمة الله وفضله، لحرموا الناس أن ينالوا ذرة من هذه الرحمة وذلك الفضل! والنقير هو النقرة فى ظهر النواة.. وهو شىء غاية فى الصغر والضآلة، ومثله الفتيل والقطمير. وقوله تعالى: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» هو إعلان عن ذلك الداء الذي يولّده الشحّ الذي طبع عليه القوم، وهو داء الحسد.. فالقوم تتّقد فى قلوبهم نار الحسد والكمد، إذا رأوا نعمة من نعم الله تصيب عبدا من عباد الله! فهم يتحرقون غيظا وكمدا أن ساق الله إلى «محمد» هذا الفضل العظيم، ووضع فى يده تلك النعمة السابغة، حين اصطفاه لرسالته، وأنزل عليه كتابه الكريم. فما لهم- قاتلهم الله- يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، وقد وسّع الله عليهم وآتاهم من فضله، وأنزل عليهم من نعمه، ما لو استقاموا عليه، وانتفعوا به لسعدوا، وأسعدوا الناس معهم؟ «فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً» فمن آل إبراهيم كان أنبياء بنى إسرائيل: إسحاق، ويعقوب، ويوسف، وموسى، وداود، وسليمان، وزكريا، ويحيى، وعيسى. فما أكثر الخير الذي ساقه الله إليهم على يد أنبيائه ورسله، ولكن القوم استقبلوا هذا الخير بالجحود والكفران: «فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ» وقليل منهم أولئك الذين آمنوا، وكثير منهم أولئك الذين كفروا وجحدوا.. «وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً» فهى الجزاء العادل لمن مكر بآيات الله، وبدل نعمة الله كفرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 817 «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً» . ففى جهنم التي هى مثوى هؤلاء المكذبين بآيات الله، ألوان من العذاب لا تنتهى.. «كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها» ليعيشوا هكذا فى عذاب دائم.. والجلد هو حاسة الإحساس فى الإنسان، ولذا كان العذاب الأخروىّ واقعا عليه، وكانت النار التي تتصل به أشبه بثوب من النار ذاتها، كلما بلى هذا الثوب، تجدّد لأصحاب النار ثوب آخر مكانه!. وفى مقابل هذا العذاب الذي يصلاه الكافرون، تقوم الجنّة التي ينعم فيها المؤمنون، بما أعد الله لهم، من نعيم مقيم، لا ينفد أبدا.. وفى مواجهة أصحاب الجحيم لأهل النعيم وما يلقون من كرامة وتكريم، وفى اطلاع أهل النعيم على أهوال الجحيم، وما يلقى المعذبون فى نار جهنم، من نكال وبلاء- فى هذا ما يضاعف لأهل النار ما هم فيه من محن وأهوال! كما يضاعف لأهل الجنة ما هم فيه من نعيم ورضوان. الآيتان: (58- 59) [سورة النساء (4) : الآيات 58 الى 59] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 818 التفسير: الأمانات التي يأمر الله سبحانه وتعالى بأدائها إلى أهلها، كثيرة، متنوعة، وأهلها كثيرون مختلفون! فهناك أمانة عامة حملها أبناء آدم جميعا، هى أمانة التكليف، التي أبت عوالم السماء والأرض أن تحملها، وأشفقت من حملها، والقدرة على الوفاء بها.. وأمانة التكليف هذه، هى التي أفردت الإنسان عن سائر المخلوقات، بالعقل، الذي به أصبح الإنسان سيد نفسه، بما له من قوى التفكير، والتقدير، والإرادة.. فإن شاء تقدم، وإن شاء تأخر، حسب ما يرى ويقدّر! ولهذا كان عالم الناس مجموعة عوالم، بعدد أفراد الناس، فردا، فردا.. فكل إنسان عالم وحده، فى تفكيره، وتقديره، وعواطفه، ومنازعه، وسلوكه، حتى لا يكاد يتساوى إنسان وإنسان بحال أبدا.. على خلاف الكائنات الأخرى، علويّها وسفليّها.. كل عالم منها ينتظم جميع أفراده، التي لا يختلف. فيها واحد عن آخر، حتى لكأنها عدد مكرر من أعداد الحساب! وهذا التفرد الذي كان للإنسان، هو طموح جامح، منّته به نفسه الغرور، فارتفع إلى المستوي الرفيع الذي إن زلّت به قدمه فيه، سقط من علو شاهق، وهوى إلى أسفل سافلين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» (4- 5- 6: التين) فالإنسان إذ حمل هذه الأمانة- أمانة التكليف- أصبح سيّد الكائنات كلها، لا سيّد فوقه إلا الله سبحانه وتعالى، فهو بهذا الخلق القويم الكريم ظلّ الله فى هذا الوجود، تتخايل فيه لمحات من علم الله، وقدرته، وإرادته، وكثير من صفاته، سبحانه وتعالى علوّا كبيرا عن الشبيه والمثيل! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 819 وعلى هذا يمكن أن يفهم ما تحدّث به التوراة عن الله تعالى: «وقال الله: نعمل الإنسان على صورتنا، كشبهنا.. فخلق الله الإنسان على صورته.. على صورة الله خلقه، ذكرا وأنثى خلقهم الله.» «1» وإذ حمل الإنسان هذه الأمانة، وتحدّى الموجودات كلها، التي أشفقت من حملها، فإنّ من البر بنفسه، والكرامة لإنسانيته، أن يرتفع إلى هذا المستوي الكريم، وأن يرعى هذه الأمانة حق رعايتها، وأن يؤديها إلى أهلها، وهو الله سبحانه وتعالى، وذلك بالتعرف على الله والإيمان به أولا، ثم الاستقامة على طريق الحق والخير على ما شرعه الله ورسمه. وأداء هذه الأمانة على وجهها، هو ضمان وثيق لأداء الأمانات كلها، لأن كل أمانة بعد هذا هى بعض من تلك الأمانة الكبرى، وأثر من آثارها.. فما بين الناس والناس من أمانات ماديّة، وعقود، وعهود.. هو مما يندرج تحت هذه الأمانة وينضوى إليها.. وقوله تعالى: «وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» هو استنجاز لأداء بعض الأمانة التي حملها الناس.. وهى الحكم بالعدل بين الناس.. لأن العدل صفة من صفات الله، وفى الإنسان لمحة من هذه الصفة.. وفى خروجه عن العدل، خيانة للأمانة التي حملها، وجناية على نفسه، وردّة لها إلى أسفل سافلين. وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ» تحريض قوي على امتثال هذا الأمر الكريم، وتلك الموعظة الحسنة، لأنها دعوة من الله إلى خير، ولا يدعو الله إلا إلى الخير ولا يأمر إلا بالخير..   (1) التوراة: سفر التكوين- الإصحاح الأول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 820 «ونعمّا» هى فعل مدح، أصله «نعم» و «ما» التي هى نكرة بمعنى شىء، ليفيد هذا التنكير التعميم والشمول.. فكل ما يعظنا به الله، ويدعونا إليه هو خير، وخير مطلق. وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» هو استنجاز آخر لأداء بعض ما يتعلق بالأمانة الكبرى التي حملها الإنسان، وهو طاعة الله والرسول، وأولى الأمر.. فالانقياد لله هو المظهر العملىّ الواضح لأداء هذه الأمانة، وغير هذا الانقياد هو التضييع للأمانة، والعدوان عليها.. والانقياد لله يتبعه الانقياد لرسول الله.. إذ كان هو السفير بين الله وبين عباده، وهو الحامل لكلمة الله إليهم، والمؤذّن بها فيهم.. فلا انقياد لله لمن لا ينقاد لرسول الله.. وأولو الأمر.. هم من يلون أمر الإنسان، ويقومون على رعاية مصالحه، من آباء، وقادة، وحكام.. وغيرهم، ممن لهم على الإنسان سلطان أدبى أو مادىّ. والانقياد لأولى الأمر ليس انقيادا مطلقا، بل هو انقياد محكوم بحدود العدل، والخير، والإحسان.. ولهذا كانت طاعة الوالدين- وهما فى المقام الأول من أولى الأمر- قائمة على سنن المعروف، فإن دعوا إلى منكر، فلا طاعة لهما، وفى هذا يقول الله تعالى: «وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً» (15: لقمان) . فالولاية إذا لم تكن ولاية راشدة حكيمة، مستقيمة مع العدل والإحسان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 821 كان لمن تحت ولايتها أن يراجعوها، وأن ينصحوا لها، وأن يعملوا على تبصرتها بالطريق القويم، الذي فيه خير الجماعة كلها.. فإن كان خلاف بين أولى الأمر، وبين من فى ولايتهم، ولم يلتقوا عنده على كلمة سواء.. كان الحكم بينهم فى هذا، كتاب الله وسنّة رسول الله، فذلك هو الميزان العدل، الذي توزن به الأمور، وما يقضى به هنا كان هو الحق والخير، وكان التزامة أمرا واجبا.. من أباه، وخرج عليه، كان متعديّا حدود الله، آثما ظالما.. تجرى عليه أحكام الآثمين الظالمين.. وفى قوله تعالى: «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» ما يشير إلى احتمالات النزاع المتوقعة بين أولى الأمر ومن فى ولايتهم، وأن ذلك أمر غير مستبعد، بين الناس والناس. فإذا وقع نزاع فى أمر ما، كان ردّه إلى حكم الله ورسوله أمرا واجبا على المؤمنين، وكان الله سبحانه وتعالى هو وليّهم جميعا، وكانت شريعته لهم، هى الدستور الواجب اتباعه، والاحتكام إليه فيما يقع بينهم من خلاف.. فمن كان مؤمنا بالله واليوم الآخر، استقام على شرع الله، ووقف عند حدوده، وخضع لحكمه. وفى قوله تعالى: «ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا» إشارة إلى أن الرجوع عند الخلاف إلى ما قضى به كتاب الله وسنة رسوله، هو الطريق المأمون، الذي يسلم المختلفين إلى يد الوفاق والسلام، حيث كان احتكامهم إلى أحكم الحاكمين، الذي يحكم بين عباده بالحق، فلا ميل مع هوى، ولا محاباة لكبير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 822 أو عظيم، لأن الخلق خلقه، والناس عبيده، لا تفاضل بينهم عنده إلا بالتقوى! الآيات: (60- 61- 62- 63) [سورة النساء (4) : الآيات 60 الى 63] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) التفسير: ما تكاد الآيات القرآنية الكريمة ترفع يدها الآخذة بمخانق اليهود، وما يكاد اليهود يلتقطون أنفاسهم اللاهثة من تلك المطاردة العنيفة التي تلهب فيها آيات الكتاب الكريم ظهورهم بسياط ملتهبة من الفضيحة والخزي- ما كان ذلك يحدث حتى تعود إليهم الآيات الكريمة مرة أخرى، فتعيد معهم سيرتها الأولى، حتى تتقطع أنفاسهم.. إنها تلقاهم بعذاب أشبه بعذاب الآخرة، الذي يتبدل فيه المعذّبون جلودهم بجلود غيرها، كلما نضجت.. كما يقول الله تعالى: «كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 823 وهنا فى هذه الآيات، يفضح الله اليهود ونفاقهم، إذ يجيئون إلى النبىّ فى صورة المؤمنين به، كما أنهم مؤمنون بما فى أيديهم من الكتب السماوية.. ثم هم مع هذا لا يرضون بالاحتكام إلى القرآن أو التوراة والإنجيل، وإنما يحتكمون إلى ما عندهم من ضلالات ومفتريات.. «يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ» وهو مجمع الباطل والضلال.. «وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ» إذ لا يجتمع إيمان بالله وبكتبه، مع الاطمئنان إلى الطاغوت والولاء له..! إن هؤلاء المنافقين إنما يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم.. وإنه إذا كانت أفواههم تردد كلمات الإيمان بالله، والولاء لرسوله، فإن قلوبهم منطوية على إيمان غير هذا الإيمان، وسرائرهم منعقدة على ولاء غير هذا الولاء.. إيمان بالجبت، وولاء للطاغوت: «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً» حيث يتصادم ظاهرهم مع باطنهم، ويغلب نفاقهم على إيمانهم، فيفرون من بين يدى هذه الدعوة التي يدعون فيها إلى الاحتكام إلى ما أنزل الله، وإلى ما يقضى به الرسول. وقوله تعالى: «فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً» تنديم لهؤلاء المنافقين بما يجرّ عليهم النفاق من شر وشؤم. وأن عاقبة هذا الالتواء الذي تجرى عليه حياتهم إنما هو الخزي والخذلان.. وأنهم حين يحيق بهم مكرهم السيء، واحتكامهم إلى غير كتاب الله ورسول الله، يفزعون إلى الرسول بوجوه وقاح لا حياء فيها، ويحلفون- كذبا- ما أردنا فيما فعلنا من الاحتكام إلى غيرك إلّا معالجة الأمر على الوجه الذي نبغى به حسم الخلاف، والصلح بين المتخاصمين! وهذا عذر غير مقبول منهم، لأنهم لم يأخذوا طريقهم الذي سلكوه عن اجتهاد، وإنما كان عن خلاف متعمّد للرسول، ومنابذة له. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 824 وقوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ» إشارة فاضحة لهؤلاء المنافقين، ممسكة بهم وهم متلبسون بنفاقهم.. وهذه الإشارة تكاد تكون يدا آخذة بناصية كل منافق من هؤلاء المنافقين، يجد كل منافق مسّها، ويستشعر اشتمالها على وجوده. وقوله تعالى: «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ» دعوة للنبى الكريم بالإغضاء عنهم، وترك مماراتهم والجدل معهم.. وذلك هو سبيل النبىّ فى موقفه من أهل الجدل والمراء، فى كل حال يلتقى فيها مع أصحاب النفوس المريضة، والطبائع السقيمة، حيث ينصح له الله سبحانه بقوله: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» (199: الأعراف) . وقوله تعالى: «وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً» استيفاء لرسالة الرسول، واستكمال لكمالها.. حيث لا تترك هؤلاء المرضى الذين يأبون أن يستطيّوا لدائهم، وأن يتناولوا ما يقدم لهم من دواء، بل إن واجب الرسالة أن تبالغ فى النصح لهم، وألا يحجزها هذا الضلال الذي يتخبطون فيه عن أن تسمعهم كلمات الله، وأن تشقّ طريقها إليهم من خلال هذا الضباب الكثيف المنعقد على بصائرهم، وبهذا تقوم الحجة عليهم، وتنقطع أسباب معاذيرهم.. «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» (42: الأنفال) وفى هذا ما فيه من رحمة الله، وما تحمل رسالة الإسلام من خير عميم للناس، تسوقه إليهم من كل وجه، وتلقاهم به فى كل سبيل، حتى ولو كانوا على طريق الضالين، المعاندين.. إنها رحمة الله، تتلمس طريقها إلى كل قلب، وترسل شعاعها إلى كل إنسان.. «فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها» (104: الأنعام) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 825 الآيتان: (64- 65) [سورة النساء (4) : الآيات 64 الى 65] وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) التفسير: وإذ يغضى الرسول عن مهاترات المهاترين، ونفاق المنافقين، وإذ يمدّ إليهم يده بالهدى والنور، فإن ذلك هو مبلغ جهده، وغاية رسالته، ولا عليه أن يقيم الكافرون على كفرهم، ويعيش المنافقون مع نفاقهم: «ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ» (99: المائدة) . والله سبحانه وتعالى قد ندب الرسول ليبلغ رسالة ربّه، فإذا بلّغها فقد أدّى رسالته، وكان على الناس أن يستمعوا له، ويؤمنوا بما جاءهم به.. ولكن أكثر الناس لا يلقون هذه الدعوة الراشدة الكريمة إلّا بالعناد والالتواء.. وقوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً» التفات إلى هؤلاء المعاندين، الذين ركبوا مركب الضلال، ليكون لهم رجعة إلى الله، ولينتهوا عما هم فيه قبل أن يهلكوا، إنهم إن راجعوا أنفسهم، وأقبلوا على الله، واستغفروه، واستجابوا لرسوله، لوجدوا ربا غفورا، يتقبل توبتهم، ويقبلهم فيمن قبل من عباده المؤمنين.. فما أوسع رحمة الله بعباده، وما أعظم فضله عليهم.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 826 يدعوهم إليه وهم شاردون، ويمدّ إليهم يده وهم معرضون.. «إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» (34: إبراهيم) وقوله تعالى: «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» . هو بيان للإيمان الذي يقبل من هؤلاء الضالين الذين يريدون العودة إلى الله، فإنهم لا يحسبون فى المؤمنين، حتى ينزلوا على حكم الله، فيما يكون بينهم من خلاف، فذلك هو الدستور الذي لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يستقيم عليه، ويتقبل حكمه فيه، بقلب مطمئن، ونفس راضية، ولو كان ذلك مخالفا لهواه، مفوّتا لمصلحة خاصة له.. أما أن يأخذ من حكم الله ما يرضيه، ويدع ما لا يستجيب لهواه، ويلتقى مع رغباته، فذلك هو النفاق مع الله، ومع الرسول! إن الإيمان هو التسليم المطلق لأحكام الله، والولاء المطلق لرسوله، وما يقضى به.. وبغير هذا لا يكون إيمان، ولا يعتدّ بدعوى من يدعيه! وفى إضافة النبي الكريم إلى الله فى قوله تعالى: «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ» تشريف للنبى، واستدعاء له إلى الحضرة العلية ليشهد هذا القسم العظيم، وليكون شاهدا على هؤلاء الضالين المنافقين.. و «لا» النافية فى قوله تعالى: «فَلا يُؤْمِنُونَ» هى توكيد للنفى السابق للقسم فى قوله سبحانه: «فَلا وَرَبِّكَ» .. وقد فصل القسم بينهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 827 الآيات: (66- 67- 68) [سورة النساء (4) : الآيات 66 الى 68] وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68) التفسير: السّمة الواضحة فى الشريعة الإسلامية أنها قائمة على السماحة واليسر، ليس فيها ما يعنت أو يرهق، وليس فيما شرع الله فيها ما يراد به العقاب والتنكيل، كما فعل الله باليهود وغيرهم ممن حادّوا الله ورسله.. كما يقول الله تعالى فيهم: «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ» (160: النساء) .. فقد حرّم الله عليهم ما كان قد أحلّ لهم من الطيبات، وابتلاهم بهذا البلاء، ليقيمهم أبدا على خطيئة، حيث لا صبر لهم على الحرمان مما أحلّ الله لعباده من طيبات.. حرمها عليهم. وأكثر من هذا، فإنهم- أي اليهود- حين اتخذوا العجل إلها من دون الله، بعد أن نجّاهم الله من فرعون، وفرق بهم البحر، وأنزل عليهم المنّ والسلوى- حين فعلوا ذلك أمرهم الله بأن يقتلوا أنفسهم بأنفسهم، فليس غير إراقة دمائهم شىء يقبله الله منهم، إن أرادون التكفير عن خطيئتهم، والرجوع إلى رتبهم. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ» (54: البقرة) وفى قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ» إشارة إلى ما فى شريعة الإسلام من يسر، وأن ما شرعه الله فيها، وهو مما تتقبله النفوس، وتتجاوب معه! وأن هذه الشريعة لم تحمل إلى الناس ما حملت الشرائع قبلها من الأحكام الشاقة الرادعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 828 فليذكر أتباع هذه الشريعة فضل الله عليهم، إذ عافاهم مما ابتلى به الأمم من قبلهم، وليستقيموا على شريعة الإسلام، وليتقبلوا أحكامها برضى وحمد.. وأنهم إذا ضعفوا عن حمل هذه التكاليف السمحة السهلة، وتفلتوا منها، أو ضاقوا بها- فكيف كان يكون شأنهم لو أن الله أمرهم- فيما أمرهم به- أن يقتلوا أنفسهم أو يخرجوا من ديارهم؟ إن قلة قليلة منهم هى التي كانت تستجيب لهذا الأمر، وتتقبله، أما أكثرهم فلا يمتثلونه، ولا يأخذون به! وقد جمع القرآن بين قتل النفس والخروج من الديار، لأن إلف الإنسان للدار التي يسكنها، وللوطن الذي يعيش أشبه بإلف الروح للجسد، والقتل تفرقه بين الروح والجسد، وكذلك الخروج من الوطن، تفرقة بين الإنسان الكائن الحىّ، الذي يشبه الروح، وبين الوطن والدار، وهما أشبه بالجسد لهذا الإنسان. قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً» إلفات إلى ما تدعوهم إليه الشريعة الإسلامية مما لا مشقة فيه، ولا عنت معه، وأنه إذا ووزن بما حملت بعض الشرائع السابقة من أحكام مرهقة معنتة، لوجد رحمة راحمة، ونعمة سابغة ... فلو أن هؤلاء المعاندين الضالين امتثلوا أوامر الله، وفعلوا ما وعظوا به لكان فى ذلك خيرهم وسعادتهم، لأنه يقيم طريقهم على الحق والإحسان، وبثمر لهم أطيب الثمر فى الدنيا والآخرة جميعا. ولو أنهم تقبلوا شرع الله، واستقاموا عليه، لوجدوا له روحا فى أنفسهم، وتجاوبا مع مشاعرهم، وكانوا كلما مضت الأيام بهم وهم على شريعة الله ازدادوا إيمانا بها، وتثبتا من خيرها وفضلها.. ولو أنهم فعلوا هذا، وعاشوا به، واطمأنوا إليه، لأثابهم الله ثوابا عظيما، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 829 وأدخلهم مدخلا كريما، ولأمسك بهم على طريق الحق، وعصمهم من الزيغ والضلال.. الآيتان: (69- 70) [سورة النساء (4) : الآيات 69 الى 70] وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) التفسير: تجىء الدعوة إلى طاعة الله ورسوله، هنا، بعد هذا العرض الكاشف لضلال الضّالّين، ونفاق المنافقين، وبعد تلك الموازنة بين الشريعة الإسلامية ويسرها، وما تحمل إلى الناس من خير ورحمة، وبين الشرائع السابقة وما كانت تحمل إلى الناس من نكال، وبلاء، جزاء كفرهم ومكرهم بآيات الله.. وفى هذا العرض تصحو المشاعر الطيبة فى الإنسان، لتلتقى بتلك الدعوة الكريمة، التي يوجهها الله إلى عباده، أن يستجيبوا لله وللرسول، وأن يمتثلوا أوامر الله، وأن يحتكموا إلى كتاب الله، وإلى رسول الله.. فإن هم فعلوا ذلك كانوا فى عداد الصالحين، الذين رضى الله عنهم، وأجزل المثوبة لهم.. من النبيّين، والصدّيقين، والشهداء والصالحين.. ففى هذا المنزل الكريم ينزل ذلك الذي يطيع الله ورسوله، ومع هؤلاء النفر الكرام من عباد الله المقربين المكرمين ينعم بما ينعمون، ويسعد بما يسعدون: «وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً» . فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده، الذين رضى عنهم، وسلك بهم مسالك الهدى والإيمان. وكفى بالله عليما بعباده، وما هم أهل له، من جنة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 830 أو نار، حيث يوفّون أجورهم يوم القيامة: «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» . الآية: (71- 72- 73) [سورة النساء (4) : الآيات 71 الى 73] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) التفسير: من أقوى دعامات الإيمان، الجهاد فى سبيل الله، إذ كان أكثر التكاليف مشقة على النفس، وأنهكها للبدن والمال! ومن هنا كانت منزلة الجهاد فى الإسلام، ومقام المجاهدين عند الله، كما كان الجهاد مطلبا أول للمؤمنين، الذين صدقوا الله ما عاهدوه عليه. ومن هنا أيضا كانت عناية الله بالمجاهدين، ورسم معالم الطريق لهم، وحراستهم من أن يغرّر بهم، أو يبيتوا.. فكانت وصاة الله سبحانه وتعالى للمجاهدين دستورا متكاملا، لمعاناة الحرب، والتهيؤ لها، والحذر من المكيدة، والأخذ بها.. فمن ذلك، الإعداد للحرب، والأخذ بوسائل القوة والغلب، وفى هذا يقول الله تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ» (60: الأنفال) ومن ذلك أيضا، الحذر من مباغتة العدوّ عند انتهاز الغفلة من المؤمنين.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 831 وفى هذا يقول سبحانه: «وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ..» (102: النساء) ومن ذلك أيضا الثبات فى المعركة، ومساندة المجاهدين بعضهم بعضا، حتى لكأنهم جسد واحد، وكلهم أعضاء فى هذا الجسد، فلا يطلب أحدهم السلامة لنفسه، كما لا يطلب السلامة لعضو من أعضائه بتعريض الجسد كله للتلف.. وفى هذا يقول سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ» (4: الصف) ويقول جل شأنه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (15: الأنفال) وهنا فى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ» لفتة من لفتات السماء للمجاهدين أن يأخذوا حذرهم من عدوهم، فيكونوا دائما على تأهب واستعداد، فهى دعوة عامة إلى الحيطة والحذر، واليقظة الدائمة لملاقاة العدوّ بالقوة الرادعة، واليد المتمكنة الباطشة. وقوله: «فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً» هو مظهر من مظاهر الحذر، حيث يتخير المجاهدون الأسلوب المناسب للقاء عدوّهم، فتارة يلقونه جماعة جماعة، وطورا يلقونه بقوتهم جميعا، حسب تقديرهم لقوة العدوّ، وللأسلوب الذي تمليه الحكمة، ويقتضيه النظر.، ويستدعيه الموقف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 832 والثّبات: جمع ثبة وهى الجماعة، والعصبة من الفرسان. والنّفر، والنّفرة: التحرك للقتال، والفراغ له. وفى قوله تعالى: «وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ» إشارة فاضحة لجبن الجبناء، ونفاق المنافقين، من الذين يحشرون أنفسهم فى زمرة المجاهدين، ويضافون إليهم.. فهناك أفراد يغلبهم الحرص على أنفسهم، كما يغلب عليهم الطمع فيما يقع لأيدى المجاهدين من غنائم.. فإذ جاء النفير إلى الجهاد، تلبّثوا، وتعللوا بالعلل والمعاذير، حتى يفوتهم الركب المجاهد، وهم لا يزالون فى موقف من يتأهب للقتال، ويتجهز للّحاق بالمجاهدين.. ثم لا يزالون على هذا الموقف حتى تنتهى المعركة، وينفضّ سوقها.. وهنا ينكشف أمر هؤلاء الجبناء، ويفتضح نفاقهم حتى مع أنفسهم.. فإذا كانت الهزيمة فى المجاهدين، أظهروا الفرحة، وحمدوا لأنفسهم هذا الموقف المتخاذل الذي كان منهم، وقال قائلهم: «قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً» .. لقد نجا بنفسه، وسلم من التلف، ومادرى أنه من الخاسرين، حيث فاته ثواب الشهداء، وأجر المجاهدين.. وإن كانت الغلبة للمجاهدين، نظر إلى ما فى أيديهم من أسلاب ومغانم، فامتلأت نفسه حسرة وأسى وندما، وتمنّى أن لو كان فى هذا الركب الظافر الغانم، وقال ونفسه تتقطع كمدا وحسرة: «يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً» . وفى قوله تعالى: «كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ» تنديد بهذه الخسّة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 833 وذلك الجبن، الذي قطع أواصر الأخوّة والتناصر بينه وبين أصحابه.. فما على هذا الأسلوب الخسيس تقوم الصحبة بين الجماعة، التي من شأنها أن تتقاسم السرّاء والضرّاء، وأن تذوق الحلو والمرّ.. أمّا أن تقف لتتحيّن الفرصة لتشارك فى السّرّاء، ولا تشارك فى الضراء، فذلك هو اللؤم الدنيء الذي تترفع عنه أدنى الحيوانات، التي إذا هاجمها عدوّ، لقيته يدا واحدة، وقوة مجتمعة! الآية: (74) [سورة النساء (4) : آية 74] فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) التفسير: ذلك هو القتال فى سبيل الله، لا يخفّ إليه، ولا يندرج به فى جماعة المجاهدين، إلا من وطّن نفسه على احتمال تبعاته، وقدّر الموت قبل أن يقدر الحياة، وشرى الحياة الدنيا بالآخرة.. فذلك هو الذي يحتسب له أجر المجاهدين عند الله، إن سلم، أو عطب، لأنه بايع الله، ووفّى بما عاهد الله عليه، ووقع أجره على الله، وهو نيّة الجهاد، وعلى طريق المجاهدين، وإن لم يلتحم فى معركة، أو يشارك فى قتال.. إن ذلك المجاهد هو الذي يدعى للجهاد، ويقبل فى صفوف المجاهدين.. أما أولئك المترددون، الذين يأخذون الجانب الهيّن اللّين من كل أمر، فلا مكان لهم فى هذا المقام الكريم، الذي هو مقام الرجال!! قوله تعالى: «وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» بيان كاشف لموقف المجاهد، ومكانته عند الله.. فهو فى إحدى منزلتين: إما أن يقتل، فيحسب فى عداد الشهداء، وإما أن يغلب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 834 وينتصر، ويغنم.. وهو فى كلا الأمرين محمود عند الله، له أجر الشهداء ومنزلة المستشهدين.. وفى قوله تعالى: «فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ» إشارة إلى أن المجاهدين فى سبيل لهم العاقبة والنصر أبدا.. وأن الذين استشهدوا قد كتبوا بدمائهم الزكية الطاهرة وثيقة النصر للجبهة المقاتلين فيها.. فالمجاهدون إما شهداء، وإما منتصرون.. ومعنى هذا ألا يتحول المجاهدون عن الجهاد، وألا يتركوا المعركة إلّا ومعهم النصر الذي وعدهم الله، وجعله جزاء معجلا لهم.. ولهذا جاءت القسمة هكذا: «فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ» ولم تجىء كما يقضى به ظاهر الأمر.. «فيقتل» أو يسلم! الآية: (75) [سورة النساء (4) : آية 75] وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) التفسير: وماذا يقعد بالمؤمنين عن الجهاد، ويصرف وجوههم عنه، وبين أيديهم أسبابه قائمة، ودواعيه مجتمعة؟ فهؤلاء البغاة الطغاة يتسلطون على المستضعفين، من الرجال والنساء والولدان، الذين لا يستطيعون دفع العدوان، ولا يقدرون على الإفلات من هذا العذاب المسلط عليهم، وليس لهم إلا الضراعة إلى الله والّلجأ إليه أن يخلصهم من هذا البلاء، وأن يسوق إليهم من رحمته جندا من جنده، وعبادا من عباده، ينتصرون لهم، ويدفعون يد العدوان عنهم! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 835 إن المروءة- قبل الدّين- تقضى بأن يخفّ أهل النجدة والنخوة، إلى استنفاذ هؤلاء المستضعفين، الذين تسلطت عليهم الذئاب، وعلقت بهم شباك الضّالين الظالمين.. فكيف إذا كان هؤلاء الضعاف المستضعفون، إنما يلقون ما يلقون من عنت وإرهاق، لأنهم آمنوا بالله، واستجابوا لرسول الله؟ إن كل مسلم مطالب- ديانة ومروءة- أن يجاهد لخلاصهم، وأن يستشهد فى سبيل الحق الذي استمسكوا به، وأوذوا بسببه، فهم- والأمر كذلك- فى الجبهة المقاتلة مع المؤمنين، ولزام على كل مؤمن أن يدفع الضرّ عنهم، وأن يردّ يد البغي المتسلطة عليهم.. وفى قوله تعالى: «وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً» إشارة مضيئة، تكشف عن جماعة المجاهدين الذين ندبهم الله لاستنفاذ هؤلاء المستضعفين.. إن هؤلاء المجاهدين هم جند الله الذين بعثهم من لدنه، ليكونوا أولياء ونصراء لهؤلاء الضعفاء.. إنهم استجابة لدعوة هؤلاء المظلومين، حين وجهوا وجوههم إلى الله ضارعين قائلين: «رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً» . الآية: (76) [سورة النساء (4) : آية 76] الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) التفسير: وإذ ندب الله سبحانه من عباده من يتولّون الدفاع عن المستضعفين، ويجاهدون فى سبيل الله من أجل خلاصهم من يد البغي والعدوان، وإذ استجاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 836 المجاهدون لما ندبهم الله له- فإنهم بهذا قد حققوا معنى الإيمان الذي رضوا به، واتخذوه دينا.. فالمؤمن- إن صحّ إيمانه- كان دائما أبدا فى جبهة الحق، ينتصر له، ويقاتل فى سبيله: «الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» .. لأنهم أعطوا ولاءهم كلّه لله. وليس كذلك سبيل الكافرين.. إنهم أولياء الباطل، وأتباع الضلال.. ولذلك فهم يقاتلون- حين يقاتلون- لحساب الباطل، وتحت راية الطاغوت.. والطاغوت.. هو مجمع كل شر، وملتقى كل فساد.. إنه الشيطان، كما فسّرته الآية فى قوله تعالى: «فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ» .. وفى قوله تعالى: «إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً» تثبيت لأقدام المجاهدين فى سبيل الله، وتطمين لقلوبهم، وتلويح لهم ببشائر النصر على عدوّهم.. لأنهم على الحق، وفى سبيل الحق يقاتلون، والعدو على طريق الباطل، وتحت راية الباطل يقاتل.. والله سبحانه هو الحقّ، وهو مع الحق، وجند الحق، فالنصر لا يتخلف أبدا عمن يقاتلون فى سبيل الله.. «فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ» (22: الحديد) . الآية: (77) [سورة النساء (4) : آية 77] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 837 التفسير: قبل أن يكتب الله القتال على المؤمنين- جهادا فى سبيل الله، وحماية لدعوة الحق التي فى أيديهم- كانت تكاليف الإسلام محدودة، ليس فيها ما يشق على النفس، إذ لم تكن دعوة الله لهم تتجاوز اجتناب المحرمات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، كما يقول تعالى: «كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ» .. وإنه حين كتب الله القتال على المؤمنين، استقبله المؤمنون الذين صدق إيمانهم بصدور منشرحة، ونفوس راضية، وعدّوا ذلك نعمة من نعم الله بهم، وفضلا من أفضاله عليهم، إذ أتاح لهم فرصة مسعدة للعمل على مرضاته، والفوز بمنزلة المجاهدين، والشهداء عنده.. أما الذين فى قلوبهم ضعف أو مرض.. فقد فزعوا لهذا الأمر، وطلع عليهم من جهته شبح الموت يمدّ يديه الرهيبتين لانتزاع أرواحهم! إن حرصهم على الحياة، وحبّهم للدنيا، قد مثّل لهم الموت شيئا مهولا فظيعا، لأنه يقطعهم عن الحياة التي تعّلقوا بها، وسكروا من خمرها.. ورأوا فيما فرض الله عليهم من قتال أمرا لا يطاق، فقالوا- وكأنهم ينكرون على الله أن يكلفهم ما كلفهم به-: «رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ؟» . إنهم يهربون من حمل تلك المسئولية، ويدافعون الأيام بالتسويف.. إنهم يتمنّون على الله أن يؤخر هذا الأمر- أمر القتال- إلى غد.. وذلك الغد لن يلتقوا به أبدا.. إنه كلما جاء حسبوه يومهم، وانتظروا ما بعده غدا لهم.. وهكذا.. لا يلتقون بالغد أبدا، ولهذا جاء قوله تعالى: «قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا» ناعيا عليهم هذا التعلّق الشديد بالحياة الدنيا، والحرص القوىّ على متاعها.. ولو أنهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 838 عقلوا لعرفوا أن متاع هذه الحياة الدنيا قليل، وإلى زوال، وأن الآخرة خير وأبقى، فمن ربح الدنيا وخسر الآخرة فذلك هو الخسران، المبين، ومن خسر الدنيا وربح الآخرة، فذلك هو الفوز العظيم. وفى قوله تعالى «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ» تعجّب واستنكار معا، من هؤلاء الذين وقفوا هذا الموقف المتخاذل من الدعوة إلى القتال.. إنهم- وتلك حالهم- مثار للعجب والتعجب، وفيهم عبرة لمن يعتبر! وقد ذكر الله سبحانه هذا الموقف المتخاذل، من بعض النفوس المريضة، وشنّع عليه، وأخذ باللائمة أهله.. فقال تعالى: «وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ» (20: محمد) . الآيات: (78- 79- 80) [سورة النساء (4) : الآيات 78 الى 80] أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 839 التفسير: هؤلاء الذين يفزعون من الموت، ويخشون التعرض له فى مواقف الجهاد فى سبيل الله- ماذا يعصمهم من الموت؟ وإلى أين تمضى بهم الحياة؟ أليس الموت هو خاتمة المطاف لكل حىّ وإن طال أجله وامتدّ عمره؟ إذن فالموت الذي يهرب منهم هؤلاء الجبناء هو ملاقيهم يوما، أينما كانوا.. ولو كانوا فى بروج مشيدة.. فهم إن لم يموتوا بضربة سيف أو طعنة رمح فى ميدان القتال، ماتوا حتف أنوفهم وهم فى بيوتهم وبين أهليهم.. فإن فرّوا من الموت، فإنما يفرّون إلى الموت!! وقوله تعالى: «وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ» هو تنديد لهؤلاء الجبناء الفارّين من وجه الموت، وفضح لموقفهم المنحرف من الرسول. «وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» .. وتلك قوله حق «وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ» وتلك رمية باطل وضلال، فما فيما جاءهم به الرسول ودعاهم إليه، إلّا الخير الخالص، لو أنهم استقاموا على الطريق الذي أقامهم عليه. وقوله تعالى: «قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» هو الردّ المفحم على تلك التهمة الظالمة التي توجّه بها هؤلاء السفهاء إلى النبىّ.. إنه لا يملك شيئا، الأمر كله بيد الله.. فما أصابهم من خير أو شرّ فذلك بقدر مقدور قدّره الله، وأجراه على عباده.. وما كان لأحد أن يغيّر أو يبدل شيئا مما قضى الله به! وقوله تعالى: «فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً» تسفيه لتلك العقول الضالة التي يعيش بها هؤلاء المنحرفون الضالون.. إنهم لا يكادون يفقهون حديثا.. ولو كان لهم شىء من فقه الحديث، لكان لهم فيما جاءهم به النبي من كلمات الله، تبصرة وهدى، ولكن أنّى للعمى أن يبصروا، وللصم أن يسمعوا؟ «إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 840 وقوله تعالى: «ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ» هو استكمال للصورة التي يتحدّد بها موقف الإنسان من الكسب، ومدى مسئوليته فيما يعمل من خير أو شر، ومن حسن أو قبيح.. فقد بيّن الله فى قوله سبحانه: «قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» أن كل شىء يقع فى هذا الوجود هو بتقديره، وعن علمه، وبإرادته.. «وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» (59: الأنعام) . وهذا- على إطلاقه- يعنى أن الإنسان لا كسب له، وإنما هو وما يقع منه من أعمال، ليس إلا مظهرا لإرادة الله، وإعلانا لما قضت به مشيئته! وهذا يعنى أيضا أن الإنسان غير مسئول عن غيّه أو رشاده، وكفره، أو إيمانه، إذ لا إرادة له، مع تلك الإرادة الإلهية الغالبة، ولا مشيئة مع تلك المشيئة العلوية القاهرة! ولكن واقع الإنسان ينبىء عن أنه ذو إرادة، وذو مشيئة، وأنه يريد، ويشاء.. وأنه يقف بين طريقى الخير والشر، فيريد هذا الطريق أو ذاك، حسب تقديره، ويرتضى الكفر أو الإيمان، حسب مشيئته.. ليس هناك قوة ظاهرة تحمله على أي الأمرين، وإنما ذلك إلى إرادته ومشيئته. وإذن فهناك معادلتان يراد التوفيق بينهما: معادلة تقول: الخير والشر جميعا من عند الله.. «قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» .. والمعادلة الأخرى تقول: الخير من عند الله، والشر من عمل الإنسان.. «ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ» والحق أنه مع النظر والتأمل نجد أنه ليس هناك معادلتان، بل هما معادلة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 841 واحدة، وأن قوله تعالى: «ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ» هى نفس ما تضمنه قوله تعالى: «قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» وأنه إذا كان الله تعالى قد أضاف الخير إلى نفسه، وأضاف الشرّ إلى الإنسان، فما ذلك إلا إعمالا لإرادة الإنسان، وإيقاظا لوجوده، وإلا فإن الأمر كله لله، وليس للإنسان منه شىء، وأن على الإنسان فى مواجهته للحياة، أن يستقلّ بإرادته، وألا يضيفها إلى الله.. فإن حصّل بتلك الإرادة خيرا حمد الله عليه، وشكر له أن وفقه وهداه، وإن حصّل شرّا نظر إلى نفسه، فألقى باللائمة عليها، وصحح موقفه الذي أورده موارد الشر.. وذلك على الأقل- وإن لم يزحزح الإنسان عما أراد الله له- يجعل الشرّ أمرا بغيضا حتى عند أهله الذين ساقهم قدرهم إليه.. وذلك أضعف الإيمان فى مواجهة الشرّ.. وبهذا يستقيم للإنسانية فى مجموعها رأى فى الخير وفى الشر، فتحتفى بالخير وترضى عنه، وتبغض الشر وتنفر منه.. وبهذا يتوازن ميزان الحياة.. فيكون فيها الخير والشر، والأخيار والأشرار.. الأمر الذي لا تكون الحياة حياة إلا بهما، ولا يكون الناس ناسا إلّا معهما جميعا!! وإذا استقام فى الإنسانية أن الخير طيّب محبوب، وأن الشرّ خبيث مكره، فإنه مطلوب من الإنسان- كل إنسان- أن يسعى جاهدا إلى تحصيل الخير والاستزادة منه، وأن ينفر جاهدا من الشرّ والتخفف منه.. وألا يستولى عليه فى حاليه هذين أي شعور بأنه مهما جدّ وجهد فلن يبلغ من جدّه واجتهاده إلا ما قدّره الله له..، وكتبه عليه.. فذلك- وإن يكن الحقّ كلّ الحق- أمر غير مكشوف له، وأن عليه أن يعمل للخير، وأن يجدّ فى تحصيله، وأن يدع المصير الذي هو صائر إليه، لتقدير الله وحكمه.. «أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ» . وقوله تعالى: «وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا» تحديد لمهمة الرسول، وأنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 842 ليس مسئولا عن ضلال الضالّين، وعناد المعاندين، إن عليه إلا البلاغ.. «وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» يشهد بما كان من الرسول من تبليغ رسالة ربه، فمن قبلها، فقد نجا وسعد، ومن أعرض عنها، فقد هلك وشقى.. إن دعوة الرسول ليست لحسابه، وإنما هى لله، فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله، ومن تولى، فما على الرسول شىء من تولّيه، وإنما حسابه على الله! الآيات: (81- 83) [سورة النساء (4) : الآيات 81 الى 83] وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83) التفسير: هؤلاء الذين يقفون هذا الموقف المتخاذل، من التكاليف التي تقتضيهم بذلا وتضحية، هم منافقون قولا، كما هم منافقون عملا.. ذلك أنهم إذا كانوا يظهرون فى وقت النفير للجهاد، أنهم ماضون مع المجاهدين، وأنهم يهيئون أنفسهم للجهاد ويعدّون العدة له، ثم ينكشف الأمر عن أنهم كانوا يدافعون الأيام بالتسويف والمماطلة، حتى تنتهى المعركة، ويعود المجاهدون! - فإذا كان ذلك شأنهم فى العمل، فكذلك كان أمرهم فى القول.. إذا سمعوا دعوة إلى الجهاد قالوا: «طاعة» ، وأظهروا للرسول الاستجابة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 843 والامتثال، لما يدعوا إليه.. فإذا زايلوا مجلس الرسول، وخلوا إلى أنفسهم «بيّت طائفة منهم غير الذي تقول» وأنكروا على أنفسهم هذا القول الذي قالوه من قبل، وأقاموا أمرهم على خلافه.. فلا استجابة ولا طاعة.. ولكن عصيان ومخالفة.. وفى قوله تعالى: «وَيَقُولُونَ طاعَةٌ» ازدراء لهؤلاء القوم، وتحقير لهم، وذلك بالحديث عنهم بضمير الغائب، لأنهم ليسوا أهلا لأن يشرفوا بخطاب ربّ العالمين.. ثم كان الحديث عنهم بالضمير المبهم، دون ذكرهم والكشف عن ذواتهم، امتهانا لهم، واستخفافا بشأنهم، حتى لكأنهم أهون من أن يتعرف عليهم، وأضأل من أن تظهر لهم ذاتية مميزة لهم.. وفى قوله تعالى: «فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ» إشارة أخرى إلى ضمور ذواتهم، وضئولة شأنهم.. وأنهم فى مجلس الرسول، وبين أهل هذا المجلس، شخوص ضامرة، وشخصيات باهتة، يندسون بين الناس، فى حذر، وفى خفية، حتى لا تأخذهم العيون، ولا تفضح مستورهم النظرات.. هكذا شأن المنافقين، يعيشون دائما وراء ستار من الحذر، والتلصص، ولا يغشون المجالس إلّا فى حرص شديد على ألا تأخذهم العيون، ولا ترتقع إليهم الأبصار.. وفى التعبير بقوله تعالى: «بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ» تصوير معجز لحال هؤلاء المنافقين، الذين كانوا فى مجلس الرسول أشباحا لا تكاد ترى، حتى إذا خرجوا من مجلس الرسول، تطاولت أعناقهم، وشمخت أنوفهم، وانتفضت أجسامهم، فإذا هم أشبه بالطواويس خيلاء وإعجابا! يستعرضون الناس، ويعرضون على أنظارهم هذا الوجه الجديد منهم، وكأنهم بذلك يستوفون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 844 حظهم من بروز الشخصية، ذلك الحظ الذي فاتهم، وهم يلبسون الوجه الآخر، وجه الضمور والانزواء، الذي يعيشون به أكثر مما يعيشون.. وقوله تعالى: «وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ» تهديد لجماعة المنافقين، ووعيد لهم بالحساب العسير والعذاب الأليم، إذ سجل الله عليهم كل ما عملوا من سوء، وهو سبحانه الذي سيتولى حسابهم، ومجازاتهم.. قوله تعالى: «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ» إلفات لجماعات المنافقين والضالين إلى مافاتهم من خير عظيم، حين لم يقفوا عند آيات الله، ولم يتدبّروها، ويصححوا موقفهم منها، وذلك بالنظر فيها، نظرا يرتاد مواقع الخير، وينشد مطالع الهدى.. إنهم لو فعلوا ذلك، وأخلوا أنفسهم من تلك المشاعر الخبيثة المستولية عليهم، لرأوا وجه الحق سافرا فى آيات الله وكلماته، ولأحذوا طريقهم إلى الله مستقيما، فآمنوا بالله، وبرسوله، وبهذا الكتاب الذي أنزل على رسوله.. فإن نظرة مخلصة إلى كتاب الله، تصل العقول به، وتفتح القلوب له، لما فى كل آية وكل كلمة منه، من أمارات مشرقة، تحدّث بأن هذا الكلام هو كلام الله، وأن هذا الكتاب هو كتاب الله!! وأقرب تلك الأمارات وأظهرها أن هذا الكتاب قائم على أسلوب واحد، ومنهج واحد، ومستوى واحد.. وذلك أنه على امتداده، وسعته، وتشعّب الموضوعات التي تناولها، والقضايا التي عرضها، والأحكام التي أصدرها- هو فى ذلك كلّه على درجة واحدة من البلاغة والبيان، وعلى كلمة سواء فيما يأمر به وينهى عنه.. ولو كان هذا القرآن من عند غير الله، لاختلف أسلوبه، وتناقضت أحكامه، وتضاربت قضاياه.. شأن كل عمل بشرىّ، لا يسلم أبدا من مواطن القوة والضعف فيه.. قوله تعالى: «وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 845 هو جانب من جوانب الصورة التي عرض الله فيها هؤلاء المنافقين، وإنهم لأصحاب ثرثرة ولغو، كلما وقعت لآذانهم كلمة طاروا بها، وألقوا بها إلى كل أذن، دون أن يتبينوا ما يسمعون، أو يعرفوا وجهه.. إن اللغو وتقليب وجوه الكلام هو تجارتهم الرابحة، وبضاعتهم الرابحة.. لا يتكلفون له جهدا، ولا يخشون من ورائه سوءا.. فما هو إلا أحاديث تروى، وأخبار تتناقل، لا يدرى أحد مصدرها، ولا يعرف من هو صاحبها.. وعلى هذا الغذاء الخبيث يعيش المنافقون، ومن هذا الجوّ المغبّر يتنفسون.. فهم يثرثرون بكل ما يسمعون من خير أو شر: «إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ» أي نطقوا به، وصحبوه معهم إلى كل مكان.. فليس يرضيهم أن يذيعوا هذه الأحاديث فى الناس، وإنما هم وراء هذه الأحاديث المذاعة يدفعونها بين أيديهم، ويشهدون آثارها فى الناس.. وهذه ما يشير إليه النظم فى قوله تعالى «أَذاعُوا بِهِ» وهو غير ما يراد بالفعل «أذاعوه» الذي يضيف إليهم إذاعة الأحاديث وتنقلها بعد أن يدفعوا بها الدفعة الأولى.. أما قوله تعالى: «أَذاعُوا بِهِ» فإنه يجعلهم يدورون مع هذه الأحاديث حيثما دارت. وقوله تعالى: «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» هو توبيخ لهم على هذه الخفّة وذلك الطيش اللذين يحملانهم على هذا الجري اللاهث بكل كلمة يسمعونها، أو وراء كل كلمة أو شائعة، تقال هنا أو هناك.. إنهم لو عقلوا، أو كانوا على بصيرة من أمرهم، لراجعوا أنفسهم عند كل خبر يلقى إليهم، وعند كل شائعة ترد على أسماعهم، فإن التبس عليهم شىء، أو اختلط عليهم أمر، ردّوه إلى الرسول، فكشف لهم وجه الحق منه، ووقف بهم على موارده الصحيحة، وأراهم الطريق القويم الذي يلقونه فيه.. فإن لم يكن لهم إلى الرسول سبيل، كان فى أولى الأمر منهم، وفى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 846 القادة والراشدين بينهم، من يضبط موارد هذه الأخبار ومصادرها، ويعزل غثّها عن ثمينها، وباطلها عن حقها- إنهم لو فعلوا ذلك لكان خيرا لهم وأقوم، ولأراحوا أنفسهم وأراحوا الناس من هذا الهرج والمرج، الذي يثيرونه فيهم بهذه الأخبار المشوشة المضطربة! وهذا لا شك دستور قويم لاستقرار المجتمع، وضمان أمنه وسلامته، من كلمات السوء التي تتدسس إليه من أفواه ثرثارة، ترمى بالكلام بلا حساب ولا تقدير.. إن الكلمة ليست مجرد لفظة يلفظها الإنسان من فمه، ولكنها أشباح متنقلة فى الناس.. تتجسد، وتتشكل، وتظهر فى صور مختلفة، من تصورات الناس وأعمالهم، وخاصة فى أوقات الشدائد والأزمات التي تمر بالمجتمع، حيث الهياج والقلق والاضطراب، الذي يغشى الناس، ويطلع عليهم فى يقظتهم ونومهم على السواء. وقوله تعالى: «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا» تنبيه للمسلمين إلى الخطر الذي يتهددهم من وراء هذه الوسوسات التي تندسّ إليهم، من مفتريات الأحاديث وأباطيلها، وأن ذلك جميعه من واردات الشيطان، الذي يسوّل لتلك النفوس المريضة باللغو، ويغريها بالثرثرة، ويركب بها مركب السوء، فتذيع فى الناس، البلبلة والاضطراب، وتفتح لهم أبواب الفتنة والضلال.. ولولا فضل الله وما يحرس به المؤمنين من عظاته، وتنبيهاته لهم، وتحذيرهم من المزالق والعثرات، لضلّوا وغووا، إلا قليلا منهم، ممن استعصم بعقله، واحتكم إلى رأيه، واستصفى لنفسه المورد الطيب الذي يرده.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 847 فهؤلاء القليلون هم الأمناء على أنفسهم، وهم أوتاد المجتمع، والحراس على فطرة الإنسان وكرامته.. الآية: (84) [سورة النساء (4) : آية 84] فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84) التفسير: وإنه ليس بعد هذا التنديد بالمنافقين، والمرجفين بالناس، وتحذير المؤمنين منهم، وإجلاء هذا الدخان المنعقد فى سماء المجتمع من شائعات السوء- إلا أن يأخذ النبي طريقه الذي هو سائر فيه، بعد تلك الوقفة، التي نظّم فيها صفوفه، وعزل عنها هذا المرض المندسّ بينها، من المنافقين والمثبطين.. «فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ» فهذا هو طريق النبىّ.. القتال فى سبيل الله والاتجاه إليه بكل قوته، والعمل فيه جهد طاقته.. ولا عليه أن يتخاذل المتخاذلون، ويبطّىء المبطّئون.. إنه لا يكلّف إلا ما يملك، وهو لا يملك إلّا نفسه. وقوله تعالى: «حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ» هو استدعاء سماوىّ للمؤمنين الذين صدقوا إيمانهم أن يكونوا مع النبىّ، وأن يأخذوا طريقه الذي أخذه.. وفى هذا ما فيه من تكريم لهم، ورفع لقدرهم. وقوله سبحانه: «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا» هو رجاء يتعلق به النبىّ والمجاهدون معه.. فالنبىّ والمؤمنون الذين يجاهدون معه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 848 على رجاء من عون الله لهم، ونصرهم على أعدائهم.. وأن هؤلاء الأعداء إن كانوا أولى قوة وأولى بأس شديد، فالنبىّ والمسلمون يشدّون رجاءهم إلى قوة فوق هذه القوة، وإلى بأس أعظم من هذا البأس.. قوة الله، وبأس الله.. «وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا» . الآية: (85) [سورة النساء (4) : آية 85] مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85) التفسير: فى الآيات السابقة كان الحديث عن الجماعة الإسلامية، وعن أعراض النفاق التي تظهر فى بعض منها، ممن دخلوا فى الإسلام، واتخذوه جنّة لهم، وقد كشف الله مواقف هؤلاء المنافقين، ورصد حركاتهم، وأرى النبىّ والمسلمين ما كانوا يخفونه فيما بينهم. وفى هذه الآية يلتقى المؤمنون والمنافقون فى موقف الحساب، حيث يواجه بعضهم بعضا، وحيث يذهب كل منهم بما استحق من جزاء. وقوله تعالى: «مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها» هو عرض لفريق المؤمنين، الذين سيسوّى حسابهم على حسب ما عملوا من خير، وما قدموا من إحسان. والتعبير عن العمل «بالشفاعة» هنا للدلالة على أنه عمل من نوع خاص، عمل يتصل بالإنسان وبما يقع بينه وبين غيره من الناس، من تصرفات، حسنة أو سيئة.. فلا يدخل فى هذا العمل ما كان خاصا بذات الإنسان، وما يأخذ به (م 54- التفسير القرآنى- ج 5) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 849 نفسه من طاعات وعبادات، محسنا أو مقصّرا، أو بما بينه وبين الله من معتقد، صالحا أو فاسدا.. فالشفع فى اللغة: الزوج من كل شىء، وفى كل شىء.. وهو يقابل الوتر الذي هو الفرد.. والشفاعة الحسنة، هى الإحسان إلى الغير، بالقول أو بالعمل.. والشفاعة السيئة، هى الإساءة إلى الغير بالقول أو بالعمل.. وصاحب الشفاعة الحسنة له «نصيب منها» أي أنه حين يبذل من نفسه للغير، ما يبذل من خير وإحسان، فإنه له نصيبا من هذا الخير وذلك الإحسان.. فهو وإن يكن ما بذله قد خرج من سلطانه، وصار إلى غيره، فإنه سيعود إليه شىء منه، بصورة ما، من صور الخير والإحسان.. فقد يلقاه صاحبه الذي أحسن إليه بإحسان كإحسانه، وإن اختلف شكلا وقدرا.. فإن حرم المحسن العوض ممن أحسن إليه لم يحرم لذّة الإحسان، التي تشيع فى نفسه الرضا، وفى قلبه الفرحة.. فإن حرم هذه اللذة- وهيهات- فإنه لن يحرم أبدا ثواب الله الذي أعدّه للمحسنين، إذ يقول سبحانه: «وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» (56: يوسف) . من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والنّاس كذلك صاحب الشفاعة السيئة، له «كفل منها» أي نصيب يعود إليه مما عمل من سوء.. يجىء إليه ممن أساء إليهم، أو من نخسة ضميره، فى حال من أحوال صحوه ويقظته.. فإن لم يكن لضميره صحوة أو يقظة- وهيهات- فهناك القصاص العادل، يأخذه الله به، يوم الفصل بين العباد.. وقد فرّق القرآن بين عائد الشفاعة الحسنة، وعائد الشفاعة السيئة.. فسمّى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 850 عائد الشفاعة الحسنة «نصيبا» وسمى عائد الشفاعة السيئة «كفلا» . فما السرّ فى هذا؟ نقول- والله أعلم- إن عائد الشفاعة الحسنة هو خير وبركة، يصيب صاحبها، وأنه إذ يقدّمها إحسانا وبرّا، فإن له من هذا البرّ والإحسان نصيبا. وكذلك صاحب الشفاعة السيئة، إنه إذ يقدم الشرّ والسوء، سيجنى من ثمر ما زرع شرّا وسوءا! والتعبير عن عائد الخير بالنصيب هو التعبير المطلوب لغة وواقعا، لأن النصيب هنا، فى اللغة: الحظ والقدر المتاح للإنسان من أي شىء، خيرا، كان أو شرا. وقد عدل القرآن عن استعمال كلمة «النصيب، فى عائد الشفاعة السيئة هنا، إلى كلمة «كفل» التي تأتى بمعنى الضامن، والكفيل، الذي يضمن المدين الغارم، ويكفل الوفاء بالدّين، إذا عجز المدين عنه. فالشفاعة السيئة دين ثقيل، يستنفد كل ما يملك صاحب هذه الشفاعة من خير، وهو والحال كذلك فى حاجة إلى ضامن أو كفيل.. ولا ضامن أو كفيل يجرؤ على كفالة هذا المفلس وضماته.. وإذ كان لا بد من ضامن أو كفيل، فكافله وضامنه، هو عائد هذا الشر الذي غرس.. فإذا طولب بقضاء دينه وهو مفلس عاجز عن قضائه، أخذ هذا العائد وفاء لبعض ما عليه، وإذا هو شر إلى شرّ، وبلاء إلى بلاء!! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 851 الآية: (86- 87) [سورة النساء (4) : الآيات 86 الى 87] وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) التفسير: التحيّة التي يتبادلها الناس فيما بينهم، هى مفتاح يفتح مغالق القلوب فيهم، وأشعة دافئة تذيب الثلج وتدفع الضباب الذي بينهم.. ولهذا كانت عرفا ملتزما فى مختلف الأمم، والشعوب، على مدى الأزمان.. وهى فى الإسلام، خير يتهاداه الناس، وبرّ يلقى به بعضهم بعضا.. من قبض يده عن بذله، أو كفّها عن أخذه، فقد فاته حظه من هذا الخير، وحرم نصيبه من هذا البرّ.. وقد أخذ الإسلام المسلمين بهذا الأدب الإنسانى، وجعله شعيرة من شعائر الإسلام، وأوجب على من بدأه أحد يتحية، أن يتقبلها بقبول حسن، وأن يردّها بتحية مثلها، أو خير منها.. إذ كان الذي بدأ بالتحية، قد بدأ بفضل وإحسان، ورد التحية بمثلها قضاء لقرض حسن، فلا حمد لمن أدّى ما اقترض.. والحق يقتضيه أن يشكر لمقرضه، ويثنى عليه.. ومن حق البادئ بالتحية أن يردّ عليه بأحسن مما بدأ به.. والله سبحانه وتعالى يقول: «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ» .. ومقابلة الإحسان بالإحسان ليست جزاء له، وإنما هى وفاء له، والجزاء يكون بمقابلة الإحسان بما هو أحسن من هذا الإحسان.. والتحية الطيبة بين المسلمين هى من الشفاعة الحسنة التي أشارت إليها الآية السابقة.. وهى وجه من وجوه تلك الشفاعة.. وتحية الإسلام، هى كلمة: «السّلام» مشتقة من الإسلام، يلقى بها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 852 الإنسان أخاه قائلا: «السلام عليكم» فيلقاه أخوه بها قائلا: «وعليكم السلام ورحمة الله» .. وفى هذا الجوّ الذي تتردد فى جنباته كلمات السلام، تفىء النفوس إلى السّلم، وتهفو إلى العافية، وتستروح روح المودة والإخاء.. وإذ يأخذ المسلمون أنفسهم بهذا الأدب الإسلامى، وإذ تشيع بينهم هذه الكلمة الطيبة الرائعة، وإذ ينطق بها من نطق عن وعى ويقظة، وإذ يتلقاها من تلقّى عن إدراك وفهم، فإنك لن تجد فى مجتمع يتخذ هذه الكلمة شعارا ودثارا- قلبا يحمل بغضة، أو صدرا ينطوى على عداوة، وإنه لا شى إلا المودة والحب والسلام.. وإذا كان الإسلام قد آثر كلمة «السّلام» لما يشعّ منها من المعاني الكريمة الطيبة، التي تقتل جراثيم العداوة والبغضة، فإنه- مع هذا- يتقبل أية تحية طيبة يتبادلها الناس، ويتوسمون فيها سمات الخير والإحسان.. ولهذا جاء قوله تعالى: «وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها» غير مقيد التحية بقيد مخصوص، ولا واقف بها على صورة خاصة، ليتيح للناس من التحايا ما يغذى عواطف الأخوة والمودة بينهم، سواء أكانت تلك التحية لفظة ملفوظة، أو حركة معبّرة، أو إشارة دالة، أو إماءة موحية.. إذ لا يعنى الإسلام من هذا إلا الأثر المترتب عليه، ولا يعنيه شىء ممّا يظهر فيه من صور وأشكال. وإن كانت كلمة السلام هى تحية الإسلام، وشارة المسلمين. وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً» إشارة إلى أن هذه التحية حق من الحقوق الواجب بذلها، كما أنها حق من الحقوق الواجب أداؤها إلى أصحابها.. وأداؤها يكون بقبولها، وردّها بأحسن منها! وأن الله سبحانه حسيب على كل شىء.. يضبطه، ويجازى عليه! ومع أن التحية مجرد كلمات قليلة متبادلة بين الناس والناس، لا يتكلف لها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 853 الناس جهدا، ولا ينفقون فى سبيلها مالا إلّا أن كثيرا من الناس يضنّون بها، ويمسكون ألسنتهم عنها، ولا يعدّونها معاملة كريمة يتعاملون مع الناس بها، أخذا أو إعطاء!! وذلك لا يكون إلا عن نفس مريضة، وطبع لئيم.. إذ أنه ليس فى باب الإحسان مثل التحيّة، فى خفّة محملها، وقلة مئونتها، مع كثرة محصولها، وطيب ثمرها.. وليس فى الناس أخسر صفقة، وأنكد حظّا ممن لا يحصّل هذا الخير الكثير، الذي يجىء إليه صفوا عفوا.. من غير ثمن!! وقوله تعالى: «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً» هو تعقيب على تلك الدعوة الكريمة التي دعا الله المسلمين إليها، وهى تبادل الإحسان والمعروف بينهم، ولو بالكلمة الطيبة، وهى التحية.. وفى هذا التعقيب، يتجلّى الله سبحانه وتعالى متفردا بألوهيته، لا يملك أحد مع الله شىء.. وهو بهذا التفرد قائم على عباده، يجمعهم إليه يوم القيامة، ليجزى كل نفس بما كسبت.. ذلك أمر لا شك فيه، قد أخبرنا الله به فى كتبه، وعلى لسان أنبيائه.. «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً» .. الآية: (88) [سورة النساء (4) : آية 88] فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) التفسير: النفاق أخبث نبتة وأشأمها، تنبت فى كيان المجتمع، وتغتال أيّة رقعة من أرضه.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 854 والمنافقون هم أخبث داء وأقتله، إذا تسلّطوا على مجتمع، وأوجدوا لأنفسهم مكانا فيه.. ولقد ابتلى المسلمون- شأنهم شأن كل مجتمع- بالنفاق وبالمنافقين، الذين كانوا عدوا خفيا، يظاهر العدوّ الظاهر، الذي يلقاه المسلمون فى ميدان القتال! وإذا كانت سيوف المسلمين قد عرفت طريقها إلى رقاب المشركين والكافرين، وأخذت بحقّها منهم، فإن أمر المسلمين مع المنافقين كان على خلاف.. حيث يظهر فيهم المنافق بأكثر من وجه، فلا يدرون على أي وجه يتعاملون معه، ولا على أي وجه يأخذونه.. فهو مسلم فى ظاهره.. مشرك، أو كافر، فى باطنه..! وإذا أتيح للمسلمين أن يروا من المنافق هذا الظاهر الذي يعيش فيه معهم، فمن لهم بأن يروا منه هذا الباطن الذي لا يعلمه إلا علام الغيوب؟ وهنا موطن الحدس، والتأويل، ومكمن الخطر والحرج!! وفى عهد النبوة كشف الله سبحانه للنبى وللمسلمين عن كثير من المنافقين، وفضح لهم باطنهم، وعرضهم على الملأ عرضا فاضحا، بأعيانهم، وأسمائهم.. فلم يكن أمرهم بعد هذا خافيا على أحد.. ولكن مع هذا ظل بعض المسلمين مترددا فى كثير منهم، لما يبدو على ظاهرهم من سراب خادع، من الصلاح الزائف، والتقوى، الكاذبة.. فجاء قوله تعالى: «فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ» ؟ قاضيا على هذا التردد، قاطعا كل شك.. فلا ينبغى بعد هذا أن يكون المؤمنون على رأيين فى المنافقين، وإنما هو رأى واحد لا خلاف عليه.. وهو أن هؤلاء المنافقين، منافقون، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 855 قولا واحدا، وأن على المسلمين جميعا أن يعاملوهم معاملة المشركين والكافرين، وأن يحذروهم حذر المنافقين والمشركين.. وقوله تعالى: «فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ» هو استفهام إنكارى، أن يكون المسلمون فريقين فى أمر المنافقين، فريقا يحذرهم ويتخذهم عدوا، وفريقا آخر يقف منهم موقف التردد والترقب، تمحيصا لما فى قلوبهم، واختبارا لما فى صدورهم.. وذلك ما ينكره الله سبحانه على هذا الفريق، الذي وقف من هؤلاء المنافقين هذا الموقف المتردد.. وقوله تعالى: «وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا» هو توكيد قاطع لما حكم الله به هو على هؤلاء المنافقين، وأنهم أهل ضلال وفساد، لا يرجى لهم صلاح أبدا.. فقد أقامهم الله على هذا النفاق، ودمغهم به، بسبب ما كان منهم من مكر بآيات الله، والتواء على صراطه المستقيم، وتلاعب بشرعه القويم! وقوله تعالى: «أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ» استفهام إنكارى أيضا، على تلك الفئة من المسلمين التي لا تزال تحت تأثير هذا الخداع الذي يلوح لهم من قبل المنافقين، ويتوقعون من جهتهم الخير والصلاح.. وكلا، فقد أضلّهم الله.. فهل فى الناس من هو قادر على أن يهدى من أضله الله؟ «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا» .. فإنه لا سبيل له غير هذا السبيل الذي سلكه، سبيل النفاق، الذي سيمضى فيه إلى غايته، التي تنتهى به إلى جهنم وبئس المهاد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 856 الآيتان: (89- 90) [سورة النساء (4) : الآيات 89 الى 91] وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91) التفسير: يعيش المنافق فى صحبة شعور مزعج، وهو أنه يحمل جريمة، يحاول إخفاءها عن الناس، ولكن عيون الناس تتبعه حيث كان، تبحث عن هذا الشيء الذي يخفيه، ويبالغ هو فى ألا يراه أحد.. هكذا هو أبدا مع هذا الشعور المتسلط عليه.. وقد يكون الناس فى غفلة عنه، وفى غير التفات إليه، ولا مراقبة له، ومع هذا فإن الجريمة التي يحملها معه، لا تدع له سبيلا إلى الاطمئنان والهدوء، بل تراه دائما على حذر، يرصد الناس، ويسترق النظر إليهم، بل يكاد يسألهم: عمّ يبحثون؟ وماذا يريدون؟ وما هى الجريمة؟ ومن المجرم؟ .. وفيه يصدق المثل الذي يقول: «يكاد المريب يقول: خذونى» ! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 857 إن المنافق أشبه بمجرم فى قفص الاتهام.. والمجتمع الذي يعيش فيه هو الذي يحاكمه، ويحاصره، ويأخذ عليه كل سبيل للإفلات من تلك النظرات المتهمة له، الفاضحة لجرمه. ومن هنا يقوم فى كيان المنافق شعور آخر، يواجه به شعور الخوف والقلق الذي يستولى عليه، من إحساسه بمراقبة الناس له، واطلاعهم على خبيئة أمره، وفضحهم لخفىّ نفاقه- هذا الشعور الآخر، هو الرغبة فى أن يرى الناس جميعا من حوله، صورة منه.. فلا يلقون أنظارهم إليه، ولا يلتفت هو إليهم، ولا يحاول أن يستر فعلته عنهم، إذ كانوا جميعا على شاكلته.. فإن المجرم بين المجرمين، لا يستحى أن يكشف عن جرائمه، بل وربما بالغ فيها، ليرى أصحابه منه أنه عريق فى الإجرام، يستأهل مكان الصدارة فى المجرمين! ومن هنا كان المنافقون يسعون دائما إلى إفساد المؤمنين وإغوائهم، وتزيين النفاق لهم، وتحبيب الكفر إليهم، ليكونوا معهم فى هذا البلاء، وليقتسموا المحنة التي يعيشون بين المجتمع فيها! وفى قوله تعالى: «وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً» - ما يكشف عن هذا الشعور الذي يحرك المنافقين إلى إفساد المؤمنين، ليؤنسوا وحشتهم، وليفكوا قيدهم الذي يمسك بهم فى محيط محدود لا يتجاوزونه! حتى إذا امتلأت الأرض نفاقا، كان لهم أن يسرحوا ويمرحوا كيف يشاءون، وأن يظهروا ما ستره النفاق منهم، من كفر وإلحاد.. ولهذا جاء التعبير القرآنى: «وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا» بديلا مما يقضى به الظاهر وهو: «ودوا لو تنافقون كما نافقوا» ، لأن النفاق يستر وراءه الكفر.. فجاء التعبير القرآنى فاضحا هذا الكفر المستتر وراء النفاق.. وقوله تعالى: «فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» هو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 858 تحذير من الله للمؤمنين أن يوالوا هؤلاء المنافقين، وأن يأمنوا جانبهم، ماداموا فى موقفهم الذي اتخذوه من المؤمنين.. فإن تحوّلوا عن هذا الموقف، وانحازوا إلى جماعة المؤمنين، وخالطوهم، وأخذوا مأخذهم فى الحياة، واستقاموا على طريقهم، وهاجروا وجاهدوا فى سبيل الله- إن هم فعلوا ذلك كان لهم ما للمؤمنين، وعليهم ما عليهم، وكان على المؤمنين ضمّهم إليهم، وجمعهم معهم.. فإن أبوا إلا أن يظلوا فى هذا الموقع المنحرف بين المؤمنين والكافرين، وجب على المؤمنين أن يعاملوهم معاملة العدوّ الراصد.. إذا وقعوا لأيديهم فى معركة كان جزاؤهم القتل، وإن لم تصل إليهم يد المؤمنين بالقتل، كان على المؤمنين أن يتجنبوهم، وأن يحذروهم، فلا يقبلوا منهم قولا، ولو جاء فى صورة النصح، ولا يستنصروا بهم فى حرب، ولو أحاط بهم العدوّ.. وقوله تعالى «إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ» هو استثناء من تلك المقاطعة التي أوجبها الإسلام على المسلمين فى مواجهة المنافقين.. فإنه إذا انحاز هؤلاء المنافقون إلى جماعة- غير مؤمنة- بينها وبين المؤمنين ميثاق، بالموادعة والمسالمة- لم يكن للمؤمنين أن يمدّوا أيديهم بأذى إلى هؤلاء المنافقين، لأنهم صاروا فى ذمة تلك الجماعة التي وادعها المسلمون وسالموها! وفى العدوان عليهم عدوان على تلك الجماعة، ونقض للميثاق الذي عقده المسلمون معهم، ووجب عليهم الوفاء به! وقوله تعالى: «أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ» هو عطف على المستثنى السابق.. يبيّن حكم جماعة أخرى من المنافقين جاءوا إلى المسلمين يطلبون الموادعة والمسالمة، وهم مقيمون حيث هم فى قومهم الذين لم يدخلوا فى الإسلام.. فهؤلاء المنافقون، قد كفّوا أيديهم عن المسلمين طلبوا الأمان منهم، وانحازوا جانبا.. لا يقاتلون المسلمين مع قومهم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 859 ولا يقاتلون قومهم مع المسلمين.. فهم- والأمر كذلك- فتنة نائمة، وشر ساكن.. ومن مصلحة المسلمين- وهم فى وجه عداوة وحرب- ألّا يحركوا هذا الشرّ، وألا يوقظوا تلك الفتنة.. وقوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ» يبيّن الحكمة من موادعة هؤلاء المنافقين ومسالمتهم.. إذ كان من المتوقع أن يكونوا حربا على المسلمين مع قومهم، وأما وقد كفّوا أيديهم واعتزلوا الحرب، فلم يكونوا هنا أو هناك، فإن موادعتهم كسب للمسلمين، وإضعاف لقوة عدوّهم، وفتح ثغرة فى صفوفهم.. ربما كانت مدخلا يدخل منه كثيرون، ممن يعتزلون حرب المسلمين ويكفون أيديهم عنهم.. وقوله تعالى: «فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا» هو تنبيه للمسلمين إلى أخذ الحذر والحيطة من هؤلاء المنافين، الذين قد يغلب عليهم طبعهم، فلا يمسكون بالعهد الذي عاهدوا المسلمين عليه، والذين ربما لو رأوا كفة قومهم هى الراجحة مالوا إليهم، وقاتلوا معهم، غير ملتفتين إلى عهد أو ميثاق.. ومن هنا كان على المسلمين أن يقيموا عهدهم معهم على هذا المفهوم، وأنه عهد غير مطلق، وإنما يوثقه أو ينقضه ما يكشف عنه واقع الحال من هؤلاء المنافقين، فإن استقاموا استقام لهم المسلمون، وإن نكثوا فلا عهد لهم عند المسلمين ولا ذمّة.. وقوله تعالى: «سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها» بيان لما تكشف عنه التجربة من أمر هؤلاء المنافقين، وأن جماعة منهم، ركبها النفاق، وغلب عليها حكمه، فلم تكن موادعتها للمسلمين إلا ضربا من ضروب النفاق، تريد به أن تضمن السلامة والعافية، وأنه إذا انتصر المسلمون على قومهم، كانوا هم بمأمن مما يجرى على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 860 قومهم من حكم الإسلام فيهم، من قتل، وسبى، ومغنم.. وإذا انتصر قومهم، كان لهم من صلتهم بهم وقرابتهم لهم، ما يدفع عنهم بأسهم، وضرهم.. فهذه الجماعة من المنافقين إن لم تتحرر من نفاقها، وإن لم تقم أمرها على وجه واحد مع المسلمين، كان على المسلمين أن يأخذوهم بما يأخذون به أعداءهم، لأنهم مخادعون، مضللون، يتخذون من خداعهم وتضليلهم جنّة يدفعون بها ما يتوقع من المسلمين من نصر، وما وراء هذا النصر من بأساء وضراء تحيط بهم! الآية: (92) [سورة النساء (4) : آية 92] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) التفسير: الدماء، والأموال، والأعراض، من الحرمات التي قامت رسالة الإسلام على حمايتها من كل عدوان، وحياطتها من كل بغى.. إذ كانت ملاك أمر الإنسان كله، وقوام وجوده، وضمان حياته.. فلا حياة لإنسان مهدر الدم، مستباح المال، مهتوك العرض.. وكيف يحيا من حياته فى يد غيره؟ وكيف يعيش من ماله ليد السلب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 861 والنهب والاغتصاب؟ وكيف يصحّ من تعرّض عرضه للبغى والعدوان؟ وماذا يبقى للإنسان إن أريق دمه، وأزهقت روحه؟ وماذا يبقى من الإنسان إن سلب ماله، أو هتك عرضه؟ لهذا جاءت شريعة السماء، وقامت قوانين الأرض، لتحمى هذه الحرمات، وتصونها، وتأخذ من الإنسان ما تشاء أن تأخذ، لتحتفظ له بتلك المقدسات، وتحمى له هذه الحرمات، التي إن تهدمت تهدم الإنسان، وانهار المجتمع، وتحول إلى عالم الحيوان، تحكمه شريعة الغاب، وتتحكم فيه غريزة الوحوش.. ودم الإنسان- أي إنسان- فى الإسلام، كريم عزيز، لا تستباح قطرة منه بغير حق، ولا تزهق روح بغير قصاص.. ودم المؤمن أعز وأكرم عند الله من كل دم عزيز كريم، لأن المؤمن أقرب إلى الله، وأدخل فى حماه، ممن كفر بالله أو أشرك به! وقوله تعالى: «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً» استبعاد لقتل المؤمن، واستنكار للعدوان عليه، من مؤمن مثله، يأخذ مأخذه فى الولاء لله، وفى الإيمان به، والاعتصام بحبله! فإذا عمد المؤمن إلى قتل مؤمن، فإنه- مع عدوانه على الأخوّة الإنسانية- قد اعتدى على ولىّ من أولياء الله، واستباح دم جندى من جنوده! أمّا أن يقتل مؤمن مؤمنا خطأ، فذلك مما تجاوز الله عنه، إذ كان أمرا لم يؤامر المؤمن نفسه عليه، ولم يستدع إرادته له.. ومع هذا، فإن دم مؤمن قد أريق، وروح مؤمن قد أزهقت! ولن يضيع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 862 هذا الدم هدرا، ولن تذهب تلك الروح هباء!! «وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ.. إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا» . فهذا هو الرأب للصدع الذي حدث، والقصاص للدم الذي أريق بغير قصد! إن لهذا الدم وليّين: الله سبحانه وتعالى، وأهل القتيل.. فالله سبحانه، ولىّ تلك النفس المؤمنة.. وأهل القتيل هم أولياء هذا الدم المراق.. وحقّ الله على القاتل أن يحيى هذه النفس الميتة..! وإذ كان ذلك أمرا غير مستطاع من القاتل، فإنه يحال إلى أمر مستطاع، وهو أن يحرّر رقبة مؤمنة، وأن يحيى نفسا أماتتها العبودية، وأزهق روحها الاستعباد! وفى هذا حياة نفس مؤمنة بنفس مؤمنة.. وكأنّ القتيل قد عاد فى شخص هذا الإنسان المستعبد، الذي ولد ميلادا جديدا، بعتقه وتحرير رقبته! وأولياء دم القتيل من أهله، لا يرضيهم إلا أن يقتل هذا القاتل، أو يغرم من ماله ما هو أشبه فى الغرم بقتله! وإذ كان القاتل لم تتجه نيته إلى القتل، ولم يحمله على القتل حقد أو ضغينة، فقد كان من الحكة والعدل ألا يقتل بيد النقمة والضغينة.. وليكن فى الدية التي يقدّمها لولىّ الدم عزاء عن مصيبة جاءت قضاء وقدرا.. وقوله تعالى: «إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا» دعوة كريمة من ربّ كريم، إلى أولياء الدم أن يعفوا ويصفحوا، وأن يتصدقوا بهذا الحق الذي لهم فى مال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 863 القاتل على القاتل.. وحسبه ما وقع فى نفسه من ألم وحسرة، لما جنت يده المخطئة عليه، بقتل نفس مؤمنة لم يرد بها شرّا، ولم يضمر لها سوءا. وقوله تعالى: «فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ» أي أن جبر دم القتيل المؤمن بيد الخطأ، هو تحرير رقبة مؤمنة، ولا دية لأولياء الدم، لأنهم فى حرب مع المؤمنين، وفى أخذ هذا المال من المسلمين تقوية لأعدائهم وإضعاف للمؤمنين.. وحسب المؤمنين أن فقدوا عضوا منهم بهذا القتيل المؤمن، فلا يجمع عليهم بين قتله، وتوجيه ديته إلى الجبهة المحاربة للمؤمنين.. وقوله تعالى: «وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ» ذلك أن الوفاء بالعهد الذي بين المؤمنين، ومن عقدوا العهد معهم، أمر أوجبه الإسلام على المسلمين، ولم يحلّهم منه لأى سبب، حتى ولو كان العهد مع من لم يدخلوا فى دين الله! ولهذا قدم تقديم الدّية هنا على تحرير الرقبة، لأن العهد فى ذمة المسلمين جميعا، لا تبرأ ذمتهم إلا بالوفاء به، إن لم يسعه مال القاتل خرج من بيت مال المسلمين.. أما تحرير الرقبة، فهو فى ذمة القاتل وحده، له فيه فسحة من الوقت ونظرة إلى ميسرة! وقوله تعالى: «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ» أي فإن كان القاتل معسرا، لا يستطيع أن يحرر رقبة، أو يقدم دية، فليصم شهرين متتابعين، حتى يغسل من نفسه مشاعر الحسرة والألم لهذا الدم المسفوك! وقوله تعالى: «تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً» أي أن صيام هذين الشهرين لأجل التوبة المتنزلة على القاتل من الله، والرحمة به، من أن يقتل نفسه أسفا وندما.. إذ علم الله أنه لم يعمد إلى القتل، فاقتضت حكمته تعالى، أن يرحم هذا القاتل، ويجعل له من همه فرجا، ومن ضيقه مخرجا.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 864 وهنا نسأل: ماذا عن قوله تعالى: «وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» (5: الأحزاب) . - هذا القول الذي يرفع اللوم والمؤاخذة عن الأفعال التي تقع من الإنسان عن غير قصد وعمد؟ ثم ماذا عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رفع عن أمّتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» .. وقد جاء مقررا هذا المعنى الذي تضمنته الآية الكريمة، ومؤكدا له؟ ما تأويل هذا؟ مع ما أوجبه الله سبحانه وتعالى على القاتل خطأ، من تحرير رقبة مؤمنة ودية مسلّمة إلى أهل القتيل.. فإن لم يجد ما يحرر به رقبة، ويقدّم به دية، فصيام شهرين متتابعين؟ أليس فى هذا مؤاخذة وقصاصا؟ فكيف التوفيق بين هذين الحكمين، اللذين يدفع أحدهما المؤاخذة عن فعل الخطأ، بينما يوجّه الآخر المؤاخذة إليه؟ والجواب على هذا- والله أعلم- هو أن هناك روحا أزهقت، ونفسا قتلت، وأن من شأن هذا الحدث أن يثير هياجا فى المشاعر، واضطرابا فى العواطف، وألما فى النفوس.. يبدأ ذلك من خاصة أهل القتيل، من آباء، وأبناء، وإخوة، وأعمام، وأبناء أعمام.. ثم يمتد إلى أصهار القتيل، وإلى ذوى قرابته من بعيد، وإلى أصدقائه، وأحبّائه ثم إلى المجتمع الذي يعيش فيه، ويتبادل المنافع مع أفراده! إن حادث القتل من أشبع الحوادث التي تقع فى محيط الحياة الإنسانية.. والقتل الخطأ، وإن كان يخفف من وقع المصيبة على أهلها، إلا أن ما يبقى منه مع ذلك، هو همّ ثقيل، وبلاء عظيم.. (م 55- التفسير القرآنى- ج 5) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 865 وهل يعيد القتل الخطأ لأهل القتيل صاحبهم إلى الحياة؟ وهل يرى أهله فى قتيلهم هذا، غير ما يرونه فيه لو أنه قتل عن عمد وقصد؟ كلا.. فهو فى كلا الحالين جثة هامدة بين أيديهم.. كان إلى لحظات قليلة مضت ملء أسماعهم وأبصارهم.. وهو الآن فى عالم الأموات، وهو عما قليل صائر إلى حيث يوضع فى حفرة، تم يهال عليه التراب.. والنظرة المختلفة هنا، هى التي ينظر بها أهل القتيل إلى القاتل، لا إلى القتيل، الذي لا يختلف نظرهم فيه على أي حال.. فالقاتل خطأ ليس فى وجه عداوة ونقمة من أهل القتيل، كالقاتل عن عمد وقصد.. ولكنه مع ذلك بغيض إلى نفوسهم، ينظرون إليه بعيون ملؤها الضيق والألم، إن لم يكن ملؤها الشنآن والنّقمة.. بهذه النظرة الفاحصة الحكيمة الشاملة، نظر القرآن إلى هذا الحدث المروّع، نظرة جمعت كل أطرافه، وأمسكت بجميع موارده ومصادره، ونفذت إلى ما يعتمل فى المشاعر، وما يضطرب فى الصدور منه، ثم جاءت إلى كل أولئك بما يصلح أمرهم، ويقيمهم على نهج قاصد، وطريق سواء! فأهل القتيل، لا بد لهم من مواساة وعزاء فى هذا المصاب.. وعزاؤهم ومواساتهم هو فى أن يترضّاهم القاتل، ويعتذر إليهم بهذه الدّية التي يقدمها لهم، ويريهم منها أنه ملوم يستحق المؤاخذة- وإن كانت حقيقة الأمر ألّا لوم عليه ولا مؤاخذة- إذ كان منطق النفوس المهتاجة فى تلك الحال غير منطقها المعتاد، فى الظروف الطبيعية.. فهذه الدّية- فى حقيقتها- رمز لسلامة نية القاتل.. ولهذا التفت القرآن الكريم إلى أولياء القتيل، فدعاهم فى رفق إلى التصدّق بهذه الدية على القاتل نفسه.. رحمة به، وتجاوزا عن فعلة جاءت على غير إرادته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 866 هذا هو الطرف الأول والمهمّ فى هذه الواقعة.. وقد أرضاه حكم الإسلام، وطيّب خاطره، وقدم له جميل العزاء، وكرم المواساة.. وهم أولياء القتيل. أما الطرف الثاني، وهو القاتل.. فإنه- وقد قتل نفسا مؤمنة، بغير حق- يكاد يختنق ضيقا، ويحترق حسرة وألما.. يؤرّقه هذا الدّم لذى أراقه، وتفزّعه هذه الروح التي أزهقها، والتي تصيح به: لم فعلت بي هذا؟ وأي جناية جنيتها عليك حتى تفعل بي ما فعلت؟ .. وهكذا يعيش القاتل مع ضمير مؤرّق، ونفس معذبة، ووساوس مزعجة، لا تدع له سبيلا إلى السكن والقرار! وهنا يجىء التشريع الإسلامى إلى هذا القاتل، بما فيه العزاء لمصابه، والمواساة فى مصيبته! لقد قتل نفسا مؤمنة خطأ، فليحى نفسا مؤمنة- عمدا!! وبهذا تنقشع من نفسه تلك الغيوم السود المتراكمة، من مشاعر الحرج والإثم..! ومن جهة أخرى، فإن هذا القاتل يرى أهل القتيل وقد جنى عليهم بما جنى، وأن فى قلوبهم بغضا له، وفى عيونهم ازورارا عنه- وهذا بلاء إلى البلاء الذي يجده بمعزل عن أهل القتيل، وذلك فى مواجهة النفس التي قتلها، وفى جنايته عليها.. وإنه لكى يذهب ببعض ما فى نفوس أهل القتيل عليه من موجدة وبغضه- كانت الدية التي أوجبتها الشريعة عليه، والتي عرفنا شأنها وأثرها عند أولياء الدم! ومن هذا يتضح: أن ما فرض على القاتل من تحرير رقبة، وتقديم دية، كان لحسابه هو، ولعلاج ما أصابه من فعلته، فى حياته الروحية والماديّة معا.. وأنه بهذا الذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 867 قدّمه، قد تقاضى به الثمن عاجلا.. فوجد السكينة والأمن مع نفسه المضطربة، كما وجد السلام، والوئام مع المجتمع، ومع أولياء الدم بوجه خاص.. فواقع الأمر- كما ترى- هو أن القتل الخطأ فى ذاته معفوّ عنه، وأن القاتل لم يؤخذ بجرمه، وأن ما وقع عليه من غرم كان أشبه بعملية غسل لهذا الدم البريء الذي أراقه، والذي أصابه من رشاشه ما لطّخ يده وثيابه!! وكان من تمام العلاج لهذا الأمر، أن القاتل إذا لم يجد ما يحرر به رقبة مؤمنة، وما يدفع به الدّية إلى أهل القتيل- كان عليه صيام شهرين متتابعين.. وحكمة الشهرين، وحكمة اتصال الصوم فيهما.. أن تلك المدة- مدة الشهرين- التي يفرض فيها القاتل على نفسه هذا الحرمان، هى بمثابة عقاب له، يأخذ به نفسه.. وفى هذا العقاب ما يخفّف من ألوان تلك الصورة القاتمة التي تحوم فوقه، من خيالات القتيل، وأشباحه.. ثم إن فى اتصال هذا الموقف، دون أن يدخل عليه شىء من التغيير، إحكاما للتمكين لشعور جديد يقوم مكان هذا الشعور المستولى على القاتل، والمزعج له.. ولو ترك القاتل وشأنه بعد أن أدّى هذا المفروض عليه لاستراحت نفسه، وهدأ باله، وسكن وسواسه.. ومع هذا فقد أراد الله أن يعود بفضله عليه، وأن يذهب بكل ما بقي فى نفسه من أثر لهذه التجربة القاسية التي مرّ بها.. فجاء قوله تعالى: «تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ» ليعفّى على كل أثر لهذه المأساة، ويعيد إلى هذا الإنسان وجوده، على ما كان عليه من صحة وسلامة.. الآية: (93) [سورة النساء (4) : آية 93] وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 868 التفسير: هذا هو حكم قاتل المؤمن عمدا.. لا يقبل منه تحرير رقبة مؤمنة، ولا دية مسلّمة إلى أهل القتيل، ولا صيام شهرين متتابعين.. إنه فعلته تلك أكبر من أن يكون فى هذه الدنيا ما يقوم لها، ويسوّى حسابها. وليس غير العذاب، والخلود فى هذا العذاب، مصحوبا بغضب الله ولعنته- ليس غير هذا جزاء وفاقا لهذا الجرم العظيم.. وعلى قدر ما كانت رحمة الله وعفوه عن القاتل خطأ، بقدر ما كانت نقمة الله، وغضبه، ولعنته، على القاتل عمدا! ولهذا كان إهلاك هذه النفس المجرمة، والقصاص منها فى الدنيا، هو الحكم الذي يؤخذ به قاتل النفس المؤمنة عمدا، وإنه لا وجه لاستبقائه فى هذه الحياة، ولا داعية لاستصلاحه، فقد وقع عليه غضب الله ولعنته، منذ أول قطرة دم سفكها من دم هذا المؤمن البريء.. «وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً» (52: النساء) الآية: (94) [سورة النساء (4) : آية 94] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) التفسير: الضرب فى سبيل الله، هو السعى إلى الجهاد، بقوة وعزم، والضرب فى الأرض، السعى فى وجوهها المختلفة ابتغاء الرزق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 869 وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا» هو دعوة للمؤمنين، الذين خرجوا من ديارهم يبتغون المثوبة والرضوان من الله- دعوة لهم أن يتبيّنوا طريقهم، وأن يتثبّتوا من كل ما يأتون وما يذرون، حتى يتجنبوا الزلل والعثار، وهم فى طريقهم إلى الله.. فإن لم يفعلوا، فقد تنحرف أقدامهم عن جادّة الطريق، ويعودون بالإثم من حيث يرجون الثواب. وأكثر ما ينبغى الالتفات إليه هنا هو الدماء، حتى لا تسفك قطرة منها بغير حق.. وقد بينت الآيات السابقة ما للدماء من حرمة عند الله، وما لمستبيحها من جزاء أليم فى الدنيا والآخرة.. وهنا- فى هذه الآية- دعوة للمؤمنين، المجاهدين فى سبيل، أن يتحرّوا مواقع سيوفهم، فلا تقع إلا حيث ينبغى لها أن تقع، ولا تريق دما إلا ما استحق أن يراق.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا» . ففى مواطن الحرب- والنفوس مهتاجة، والأعصاب متوترة- تقع هنا وهناك رميات طائشة، تأخذ البريء بذنب المسيء.. كما قد يستتر بعض الناس بثوب الخديعة، حين يرى الموت دانيا منه، فى ضربة سيف أو طعنة رمح، فيدفع ذلك بإظهار الإيمان، وبكلمة لا إله إلا الله، يقولها بفمه.. أو يلقى بتحيّة الإسلام إلى المسلمين، ليريهم أنه منهم.. فهذه وأمثالها صور تقع فى مواطن الحرب، وهى فى ظاهرها تقيم لصاحبها حرمة يعصم بها دمه من سيوف المسلمين، أما الباطن فلا يعلمه إلا علّام الغيوب.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 870 ومن أجل هذا، كان على المسلمين ألا يتسرعوا فى الحكم على باطن هؤلاء الذين يظهرون الإسلام، ويحملون بعض شاراته.. فقد يكون باطنهم كظاهرهم، وقتلهم فى تلك الحال جرم عظيم، لأنه قتل نفس مؤمنة.. أما إن كان باطنهم على خلاف ظاهرهم- وهذا ما لا يعلمه إلا الله- فإن على المسلمين أن يقبلوا هذا الظاهر، وأن يعاملوا أصحابه عليه، وأن يكلوا باطنهم إلى الله.. ومن يدرى؟ فقد ينصلح أمر كثير من هؤلاء الذين وجدوا فى الإسلام- على نفاقهم معه- يدا رحيمة.. دفعت عنهم الموت الذي كاد يختطفهم! إذ لا يمكن أن ينجلى هذا الموقف دون أن يراجع كثير منهم نفسه، ويصحح موقفه من الإسلام.. وفى هذا استنقاذ لهم من الهلاك، وانتفاع بقوة جديدة، تضاف إلى الإسلام، وتعمل من أجله.. وفى قوله تعالى: «تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا» تبغيض للمسلمين من التسرّع فى الحكم على من جاءهم فى زىّ المسلمين وعلى سمتهم- بأنه ليس مسلما، وبهذا يستباح دمه وماله.. وكأنه لأجل المال- وهو عرض زائل- قد كان هذا الحكم الذي حكم به على هذا الإنسان، وكأن دمه الذي أريق كان من أجل الحصول على ما معه من سلاح أو مال! وقوله تعالى: «كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ» هو تذكير للمؤمنين بنعمة الله عليهم، إذ أخرجهم من منطقة الظلّ التي كانت تلقى على إسلامهم شيئا من الشّبه، حتى ليختلط أمرهم على المسلمين، فلا يتحقق أحد من إيمانهم، وذلك حين كانوا مستضعفين فى مكة، لم يستطيعوا أن يجهروا بإسلامهم، ولم يقدروا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 871 أن يهاجرون بدينهم- وها هم أولاء الآن قد صاروا إلى جماعة المسلمين، وظهر وجههم واضحا فى الإسلام. فليذكروا هذا الذي هم فيه الآن، وما كانوا فيه من قبل، وليجعلوا فى حسابهم لهؤلاء الذين يلقونهم فى مواطن الكفر بشارات الإسلام، وبلسان المسلمين- أنهم كانوا فى حال مثل حالهم.. وفى هذا ما يغيّر نظرتهم إليهم، ويوسع لهم فى باب التسامح والقبول.. وقوله تعالى: «فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» دعوة أخرى، مؤكّدة للتثبث من أمر هؤلاء الذين لم يتضح أمرهم من الإسلام وضوحا كاملا، وأن على المؤمنين أن يحذروا أن يصيبوا قوما بجهالة، فتكون عاقبتهم الحسرة والندامة.. والله سبحانه وتعالى مطلع على الدواقع الخفية التي تدفع إلى التسرع فى هذا المقام، وأهمها هو الرغبة فى مال القتيل وسلبه.. فإذا عزل المسلم هذا الشعور عن نفسه عزلا تامّا، كان فى ذلك وقاية له من أن يأخذ هذا الإنسان، ويستبيح دمه، إلا إذا قامت بين يديه الدلائل القوية على أنه ليس من الإسلام فى شىء أبدا. الآيتان: (95- 96) [سورة النساء (4) : الآيات 95 الى 96] لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96) التفسير: وإذ ذكر القتل والقتال، فقد استدعى ذلك ذكر الجهاد فى سبيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 872 الله، إذ كان أكثر ما يكون القتل وإراقة الدماء فى هذا الوطن، حيث يصطدم الحق بالباطل، ويلتقى المسلمون والكافرون بسيوفهم! والجهاد أكرم الطرق إلى الله، وأوسعها إلى مرضاته ورحماته.. ومنازل المسلمين تختلف باختلاف حظوظهم من البذل والتضحية فى هذا الموطن.. موطن الجهاد فى سبيل الله.. فهناك مجاهدون بأموالهم وأنفسهم. وهناك قاعدون لم يجاهدوا بأموالهم أو أنفسهم. وهناك- بين هؤلاء وأولئك- مؤمنون لهم أعذار تحول بينهم وبين الجهاد بالمال أو بالنفس.. بأن كانوا فقراء، أو كانوا ذوى عاهات، تحجزهم عن حمل السيف، ولقاء العدو.. وفى قوله تعالى: «لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ» بيان لما بين المجاهدين فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وبين الذين لم يجاهدون بأموالهم وأنفسهم من ذوى الأعذار- من تفاوت فى الفضل والمنزلة عند الله.. فهؤلاء الذين أعطاهم الله المال، وعافاهم فى أنفسهم، فلم يفقدوا جارحة من جوارحهم العاملة، ولم يصابوا بمرض مقعد- هؤلاء إذا أدوا حقّ الله فى هذه النعم التي أنعم بها عليهم فى المال وفى النفس، فبذلوا المال فى سبيل الله، وقدموا أنفسهم للاستشهاد فى سبيل الله- فقد استحقوا جزاء المحسنين، واستوفوه كاملا! أما هؤلاء الذين لم يكن لهم مال ينفقونه فى سبيل الله، أو قدرة بدنية على الجهاد بأنفسهم فى سبيل الله، فهم- وإن كانوا ولا لوم عليهم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 873 ولا مؤاخذة- لم يكسبوا ما كسبه المجاهدون بأموالهم وأنفسهم، وبهذا سبقهم هؤلاء المجاهدون بأموالهم وأنفسهم، فى ميدان الفضل والإحسان، وكانوا أعلى درجة عند الله منهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى» . فهؤلاء، وأولئك، قد وعدهم الله الحسنى، وإن كان المجاهدون بأموالهم وأنفسهم أعلى درجة منهم فى مقام الإحسان، الذي هو حظ مقسوم بين المسلمين الذين آمنوا بالله، وأدوا لله ما أمرهم به، جهد طاقتهم، وما وسعت أنفسهم. أما الذين آمنوا، ولم يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، وبين أيديهم المال، ومعهم الصحة والعافية، ولكنهم آثروا السلامة والدّعة، وبخلوا بما آتاهم الله من فضله- هؤلاء قد بخسوا دينهم حقّه، ونزلوا عن درجات المؤمنين، على حين ارتفع المجاهدون بأموالهم وأنفسهم درجات.. وبهذا كان البون بين الفريقين شاسعا، والمدى بعيدا.. وهذا ما تضمنه قوله سبحانه. «وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» .. فهذا الأجر العظيم الذي فضّل الله به المجاهدين على القاعدين، هو درجات كثيرة فى مقام الإحسان، ومغفرة من الله ورحمة، تشتمل هؤلاء المجاهدين، وتبدل سيئاتهم حسنات: «أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ» . ولنا مع هذه الآية الكريمة وقفة لا بد منها: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 874 فقد أجمع المفسّرون، والفقهاء، وأصحاب الحديث، على أن متنزّل هذه الآية الكريمة، لم يكن على هذه الصورة، أوّل ما نزلت..! يقولون: إن الآية نزلت أولا هكذا: «لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» . والذي يتلو الآية الكريمة على هذا الوجه، يجد أنّ بين أولها وآخرها تناقضا لا يمكن رفعه بأى تأويل.. ففى أولها: «فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ درجة..» وفى آخرها: «وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً.. دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً..» . فكيف يستقيم هذا مع ذاك؟ وكيف يكون فضل المجاهدين على القاعدين درجة، ثم يكون فضل المجاهدين على القاعدين درجات ومغفرة ورحمة..؟ كيف يقع حكمان مختلفان على أمر واحد، فى حال واحدة؟ فإذا تليت الآية الكريمة على ما هى عليه.. هكذا: «لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً» - إذا تليت الآية على ما هى عليه، كان لها هذا المفهوم الواضح الذي فهمناها عليه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 875 وكان الحكمان المختلفان واقعين على فريقين من المتخلّفين عن الجهاد: الفريق الأول الذي تخلّف بعذر، ولم ينفق لعذر، والفريق الآخر الذي تخلّف عن الجهاد لا لعذر، ولم ينفق فى سبيل الله لا لضيق ذات يد.. بل إيثارا للسلامة، وبخلا بالمال، وضنّا به فى هذا الوجه الكريم.. فقوله تعالى: «غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ» ركن متين من أركان هذا البناء العظيم الذي للآية الكريمة، وأن هذا البناء لا يقوم أبدا بغير هذا الركن.. وتسأل: لم جاءت الآية الكريمة أولا دون ذكر لقوله تعالى: «غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ» ثم جاء بعد ذلك قوله تعالى: «غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ» ملحقا بالآية، آخذا مكانه بين نظمها الذي قامت عليه أول أمرها؟ لم هذا؟ بل كيف هذا؟ والجواب الذي يقدمه المفسرون، والفقهاء والمحدّثون.. هو: أن الرسول صلى الله عليه وسلم، حين تلقى الآية الكريمة، دعا من كتّاب الوحى من يكتبها، وكان عبد الله بن أم مكتوم- وهو أعمى- ممن حضر مجلس رسول الله، هذا، فسأل رسول الله عن موقفه هو وأمثاله ممن لا سبيل لهم إلى الجهاد فى سبيل الله! قالوا: فما إن سأل عبد الله بن أم مكتوم هذا السؤال، حتى أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يأخذه من الوحى، فلما سرّى عنه، قال لكاتب وحيه: اكتب: «غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ» .: فكتبها كاتب الوحى، فى موضعها من الآية، كما تلقّاها الرسول الكريم وحيا من ربّه!! إنها قصة.. تنقصها الحبكة..!! ولو استقام للآية وجه على هذا النظم الذي خلا من قوله تعالى: «غَيْرُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 876 أُولِي الضَّرَرِ» كان من المستساغ- مع شىء غير قليل من الضيق والحرج- قبول هذه الرواية، أو الروايات.. أما ولا يستقيم للآية الكريمة مفهوم بغير قوله تعالى: «غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ» فإنه لا حرج من رفض هذه الرواية أو الروايات رفضا باتا، دون التفات إلى تلك الروايات فى جملتها وتفصيلها.. إذ كانت قداسة القرآن الكريم فوق كل اعتبار، وفوق كل مقام!! ولعلّ اهتمام القوم بالبحث عن أسباب النزول، والتعرّف عليها، واعتبارها علما من علوم القرآن- لعل ذلك هو الذي فتح الطريق إلى مثل هذا القول فى الآية الكريمة.. والله أعلم. آية: (97- 99) [سورة النساء (4) : الآيات 97 الى 99] إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) التفسير: فى هذه الآيات دعوة مشدّدة إلى محاربة الظلم والبغي والعدوان، بأسلوب غير أسلوب القوة، ولقاء العدوان بالعدوان، والشر بالشر، حين يكون الإنسان فى وجه قوة عاتية متسلطة، ولا قدرة له على دفعها.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 877 إن كرامة الإنسان تفرض عليه أن يدفع عن وجوده الضيم والذل، بكل ما يملك من وسائل مادية وغير مادية، وإلا فقد باع إنسانيّته بثمن بخس، ودرج نفسه فى قائمة الخسيس من الحيوان. ولن يقيم على ضيم يراد به ... إلا الأذلّان: غير الحىّ والوتد هذا على الخسف مربوط برمّته ... وذا يشج فلا يرثى له أحد وحين لا يجد الإنسان بين يديه القوة التي يدفع بها يد الظلم المسلّطة عليه، كان إمساك نفسه على هذا المرعى الخبيث وعدم التحول عنه، إقرارا بقبول الظلم، ونزولا على حكم الظالمين. لهذا أوجب الإسلام على المسلم أن يحرك فى نفسه كل قواه، لإنكار هذا الظلم، والتصدّى له: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ» .. فحيث أمكنت المسلم القوة التي يدفع بها يد الظلم والبغي، وجب عليه أن يستعمل حقه، فى الدفاع عن نفسه، وصيانة كرامته وإنسانيته.. وسلاح آخر، وضعه الإسلام فى يد المسلم حين تخلو يده من سلاح القوة، وهو الهجرة من ديار الظالمين، إلى أرض الله الواسعة، حيث يجد الإنسان وجوده وإنسانيته.. وبهذا يستنقذ نفسه، ويفوّت على الظالمين إشباع شهوة الظلم والتسلط، فيه، وفى غيره من المستضعفين، حيث فتح لهم الطريق إلى الخلاص مما هم فيه من بلاء، بالهجرة والفرار من وجه الظالمين! وفى هذا الحديث الذي يدور بين الملائكة، وبين أولئك المستضعفين الذي أبوا أن يتحولوا عن مواطن الظلم- إيثارا لديارهم وأهليهم على كرامتهم وإنسانيتهم، ومعتقدهم- فى هذا الحديث مساءلة لهؤلاء الذين استضعفوا فقبلوا هذا الاستضعاف ورضوا به، واتهام لهم بتلك الجناية التي جنوها على أنفسهم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 878 وأذلّوا بها آدميّتهم، ومحاكمة تنتهى بهم إلى عذاب السعير فى الآخرة، حيث ضاع إيمانهم فيما ضاع من آدميتهم، تحت سياط الظلم والعسف! وهذا يعنى أن المؤمن لا يصبر أبدا على الظلم، ولا يقبله، وأنه إن قبله، وصبر عليه، لم يكن فى المؤمنين.. لأن المؤمن عزيز بالله، كريم على الله.. وطاعم الظلم ومستسيغه لا عزّة له ولا كرامة! فمن وجد القدرة على الهجرة والفرار من وجه الظلم والبغي، ولم يهاجر فهو آثم عند الله.. لأنه فى معرض الفتنة فى دينه، وهيهات أن يسلم له دين، وهو فى هذا الموطن، الذي تنطلق منه شرارات البغي، فتحرق مادياته ومعنوياته جميعا.. وليست الهجرة هنا مقصورة على زمن معين، أو مكان معين.. بل الهجرة مفتوحة فى كل زمان، وإلى كل مكان، يجد فيه المؤمن متنّفسا لمشاعره، ومنطلقا للسانه، ووجوها لسعيه! وقوله تعالى: «إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا» استثناء وارد على الحكم العام الذي حكم به الله تعالى على المستضعفين الذين سكنوا إلى الظالمين، ولم يهاجروا.. فهؤلاء المستضعفون من الرجال والنساء، والولدان، لا حيلة لهم ولا قدرة معهم على الهجرة، فهم معذرون إذا لم يهاجروا، وقد أعفاهم الله من هذا العقاب الذي أخذ به القادرين على الهجرة، وقعدوا عنها. وقوله تعالى: «فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ» تحريض لهؤلاء المستضعفين أن يكونوا على نيّة الهجرة دائما، وأن يعملوا لها، وأن يرصدوا أسباب القدرة عليها، فإن أمكنتهم الهجرة هاجروا.. وإلا فإن الله كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 879 غفورا رحيما، يغفر لهم ما يكون منهم من ضعف يمسّ عقيدتهم، رحمة بهم من رب رحيم. الآية: (100) [سورة النساء (4) : آية 100] وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) التفسير: الجهاد فى سبيل الله نية وعمل، أو عزيمة وسلوك.. فمن صحّت نيته على الجهاد فى سبيل الله، فقد قطع نصف الطريق إلى الله، فإذا تحركت هذه النية فى صورة إعداد للجهاد، ثم استقامة على طريق الجهاد، فقد قطع النصف الآخر، واستوفى أجر المجاهدين كاملا.. سواء بلغ ميدان القتال، أو أدركه الموت قبل أن يبلغه. وقوله تعالى: «وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً..» بيان لما فى طريق المجاهدين من أحوال تعرض للمجاهد، وأنه طريق غير قائم على وجه واحد.. ففيه ضيق، وفيه سعة، وفيه بلاء وفيه عافية.. وأن على المجاهد أن يوطّن نفسه على هذا وذاك، وأن يحتمل البأساء والضراء، كما يجنى الغنائم والأسلاب، وينال الأجر والثواب.. والمراغم: كناية عن الشدة والضرّ، لأنه مشتق من الرّغام، وهو التراب.. والتراب يكنى به عن الفقر والحاجة، كما يقال فى الفقير المعدم: «يده والتراب» كما يكنى به عن الذّلة والخضوع، فيقال: «أرغم الله أنف فلان» أي جعله فى الرغام، و «فعل فلان هذا الأمر وأنفه فى ارغام» أي مكرها ذليلا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 880 وفى قوله تعالى: «وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» إشارة إلى أن هذا الأجر- أجر المجاهد- لا يفوته أبدا، ولا يخطئه أبدا، لأنه أجر مضاف إلى الله، بالوعد الذي وعده سبحانه للمجاهدين، ولن يخلف الله وعده! الآية: (101) [سورة النساء (4) : آية 101] وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101) التفسير: الضرب فى الأرض هو السعى فيها بعزم وقوة، سواء أكان للجهاد فى سبيل الله، أم للسعى فى طلب الرزق. والمراد بالضرب فى الأرض هنا هو الجهاد فى سبيل الله، حيث قيّد القصر من الصلاة. بالخوف من العدوّ «إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا..» وقد أذن الله للمجاهدين فى سبيل الله من الرخص ما لم يأذن به لغير المجاهدين.. إذ كان الجهاد عب ءا لا يحتمل المجاهد فوقه كثيرا من الأعباء، وإلّا ضعف، وعجز، عن أداء المطلوب منه فى هذا المطن، الذي يقف فيه المجاهد مواجها للموت، فى غير خوف أو مبالاة.. ولهذا جاء قوله تعالى: «وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا» .. جاء قوله تعالى هنا مبيحا للمجاهدين فى سبيل الله أن يقصروا من الصّلاة، إذا رأوا أنهم (م 56- التفسير القرآنى ج 5) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 881 فى وجه عدوّ يتربص بهم غفلة، أو يترقب فيهم خللا، ليضرب ضربته، وليبلغ مأربه! والقصر من الصلاة هنا غير القصر فى الصلاة الذي أباحه الله فى السفر عامة، سواء أكان للسعى فى الرزق، أو للجهاد فى سبيل الله.. القصر من الصلاة هنا هو التخفيف منها، حسب الحال التي يكون عليها المجاهدون من عدوهم، بحيث لا تسقط الصلاة أبدا فى أي حال كان فيها المجاهدون مع عدوّهم.. فقد تكون بإشارة أو إيماءة، وقد تكون وقوفا من غير ركوع أو سجود، وقد تكون على ظهر فرس أو نحوه.. والأمر فى هذا كله متروك لتقدير المجاهد، وموقفه من العدوّ!. وفى النظم القرآنى فى قوله تعالى: «أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ» بدلا من أن تقصر والصلاة، ما يشير إلى قصر أجزاء غير محدودة من الصلاة.. تبدأ من أدائها كاملة فى صورتها التي تؤدى عليها فى قصر صلاة السفر، إلى الإيماءة والإشارة.. فإن لفظ «من» هنا يفيد التبعيض، كما يفيد الابتداء. وقوله تعالى: «إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً» تنبيه للمؤمنين إلى الخطر الذي يواجههم من أعدائهم، وأن عليهم أن يأخذوا حذرهم منهم، فهم العدوّ الذي لا تخفى عداوته.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 882 الآية: (102) [سورة النساء (4) : آية 102] وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) . التفسير: يبين الله سبحانه وتعالى فى هذه الآية حكم الصلاة مع النبىّ فى ميدان القتال.. وإنها لصلاة مراعى فيها الحذر والحيطة من مباغتة العدو، وانتهاز الفرصة فى المسلمين، وهم بين يدى الله فى الصّلاة.. فتلك فرصة للعدوّ، لا يدعها تمر، خاصة إذا ألقى المسلمون أسلحتهم، وفرغوا للصلاة، يؤدونها كاملة، بركوعها وسجودها، وعدد ركعاتها.. وإذا علم المشركون أن المسلمين يؤدون صلاتهم فى الحرب كما يؤدونها فى السلم، فإنهم سيرصدون الوقت الملائم للهجوم عليهم، وهم فى تلك الحال التي أخلو فيها أنفسهم من الحرب، واتجهوا لله بقلوبهم وأجسامهم! لهذا شرع الله للنبىّ أن يصلّى بالمسلمين على هذا الوجه الذي بيّنته الآية الكريمة، وهو أن يقيم النبىّ الصلاة، وأن تجىء طائفة من المؤمنين لتصلى مع النبي، ومعها أسلحتها، وتبقى طائفة أخرى ترصد العدوّ، وتتلقى صدمته الأولى إن هو حاول الهجوم، وعندها تكون الجماعة التي تصلى مع النبىّ قد وضعت يدها على سلاحها وخفّت لنجدة إخوانهم المشتبكين فى الحرب، وبهذا لا يأخذ العدو فرصته! فإذا صلّت الجماعة الأولى الركعة الأولى من الصلاة سلّمت ومضت، لتأخذ مكان الجماعة التي لم تصلّ، ثم لتأت هذه الجماعة وتأخذ مكانها فى الصلاة خلف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 883 النبىّ، آخذة حذرها وأسلحتها، وليصلّوا الركعة الثانية، التي بها يختم النبىّ بها صلاة السفر. وقوله تعالى: «وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ» تنويه بشأن المؤمنين المجاهدين فى سبيل الله، حيث تشير كلمة «فيهم» إلى إحاطة المسلمين بالنبيّ، والتفافهم حوله، حتى كأنهم الظرف الزمانى والمكانىّ له، وحتى كأن مشاعر النبىّ الكريم ونفحاته تملأ هذا الظرف، زمانا ومكانا، بأضوائها، وأنوارها.. وقوله تعالى: «وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ» هو استثناء من الأمر الوارد فى قوله تعالى: «وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ» .. فهذا الأمر ليس على إطلاقه، وليس على سبيل الوجوب، وإنما هو للنصح والإرشاد، وأن للمجاهدين أن يتحلّلوا منه، وأن يضعوا أسلحتهم، إذا كان بهم أذى من مطر، أو كانوا فى حال ضعف.. فإن وضع الأسلحة فى تلك الحال فرصة لهم لتجديد نشاطهم وقوّتهم.. والأمر فى هذا كله متروك للحال التي عليها المجاهدون، ولتقديرهم للموقف، وأن لهم أن يأخذوا منه ما يرون، وأن يدعوا ما يرون، والمهمّ فى هذا كله أن يكونوا على حذر، وأن يقدّروا الموقف بهذا الاعتبار، وأنهم فى وجه عدوّ لا يتورع أن يبغتهم وهم بين يدى الله، ولهذا جاء قوله تعالى: «وَخُذُوا حِذْرَكُمْ» مختتما هذا التوجيه، الذي يقوم أولا وآخرا على أخذ الحيطة والحذر من هذا العدوّ الراصد المتربص! وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً» تعزية للمسلمين، وتسلية لهم من هذه الأحوال التي يلبسونها من هذا العدوّ، الذي لا يوقّر حرمات الله، ولا يرعى للمسلمين حرمة فيها، بل إنه يتخذها ذريعة للنيل من المجاهدين، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 884 والتنكيل بهم.. فليحتمل المجاهدون هذا الموقف، الذي يجمعون فيه بين أداء الصلاة، والجهاد فى سبيل الله.. فإن الله قد أعدّ لهم الكرامة والرضوان، على حين أعد لعدوّهم العذاب والهوان.. هذا، وللقائد الذي يقوم على أمر المسلمين فى الجهاد ما للنبىّ فى هذا الموقف، حيث يصلى بالمسلمين الصلاة لله، على هذا الوجه الذي شرعه للنبىّ صلوات الله وسلامه عليه. الآية: (103) [سورة النساء (4) : آية 103] فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) التفسير: فإذا أمن المجاهدون هجمة العدوّ عليهم، وبعدت يده عن أن تنالهم، رجع المجاهدون إلى حالهم الأولى من إقامة الصلاة على وجهها، وعلى إعطاء كل جوارحهم لله، وذكر الله.. فيذكرونه قائمين، وعلى جنوبهم، ذكرا متدبرا متفكرا، فليس هناك شىء يشغلهم عن الله، وعن التفكر والتدبّر فى ملكوت الله، وملء قلوبهم خشية لجلاله، وعظمته. وقوله تعالى: «إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً» هو تنويه بشأن الصلاة، وأنها فرض لازم، لا يتحلل منه المسلم بحال أبدا.. فهى كتاب موقوت، كتبه الله على المؤمنين، أي فرضه، وحدّد لكل صلاة وقتها، الذي هو الظرف الحاوي لكل صلاة.. ومن هنا كان رأى بعض الفقهاء أن الصلاة إذا لم تصلّ فى وقتها، لا يمكن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 885 جبرها بإعادتها فى وقت آخر.. كالحج الذي لا يؤدّى إلا فى وقت معلوم، وكالصوم فى رمضان.. وأنه إذا كان للمفطر فى رمضان بعذر مشروع أن يجبر الأيام التي أفطرها بصوم مثلها، أو بإطعام مسكين، على حسب ما هو مبين فى أحكام الصوم- فانه ليس للمصلّى مثل هذا الذي للصائم، إذ كان للصائم المفطر عذر يقوم له، على حين أنه ليس للمصلّى أي عذر يبيح له أن يدع الصلاة حتى يفوت وقتها، فقد جعل الله الصلاة كتابا موقوتا، وقطع المعاذير فيها على كل ذى عذر.. وعذر واحد هو الذي تسقط فيه الصلاة، وهو ما تكون عليه المرأة فى حال الحيض والنفاس، وهو عذر مسقط للصلاة عنها فى هذه المدة إسقاطا كاملا، فلا تعيد مافاتها من صلاة!! الآية: (104) [سورة النساء (4) : آية 104] وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) التفسير: وحيث لا يزال المؤمنون هنا فى مواقع الجهاد، فقد جاء قول الله تعالى: «وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ» دعوة من الله، تستحثّ عزائم المسلمين، وتوقظ مشاعرهم للجهاد فى سبيل الله، بعد أن طال وقوفهم فى هذا المقام، وما واجهوا فيه من شدائد وأهوال.. وابتغاء القوم: هو طلبهم، ولقاؤهم فى ميدان القتال.. والوهن الضعف، أي ولا تضعفوا ولا تفتروا فى طلب العدو الذي يطلبكم للقتال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 886 ونعم.. إن أعباء الجهاد ثقيلة، ولكنها على نفس المؤمن أخفّ وأهون مما هى على غير المؤمنين.. فالكافرون يجدون من أهوال الحرب، وشدائدها ما يجد المؤمنون، ولكن المؤمنين يستعذبون هذا المورد، الذي يفتح لهم طريق الرحمة، وينزلهم عند الله منازل الرضوان.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ» . فالمؤمنون فى قتالهم العدو يقاتلون وهم على شعور بأنهم إن كتب لهم النصر رجعوا بالسلامة والغنيمة، وإن كتب لهم الاستشهاد ظفروا بما عند الله للشهداء من رضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم.. إنها إحدى الحسنيين للمجاهدين: النصر أو الاستشهاد.. وليس للعدو إلّا واحدة منهما.. وهى النصر، أو الموت على الكفر! وقد يقال: إن الكافرين يقاتلون ومعهم هذا الشعور بأنهم على الحقّ، وأنهم إنما ينتصرون لمبدأ، وأنهم إذا فاتهم النصر لم يفتهم الموت فى سبيل المبدأ! والجواب على هذا، هو أن الخطاب هنا للمسلمين، وأنهم على يقين من أمرهم وأمر عدوّهم، وأنه يكفى هنا أن يدرك المؤمنون هذه الحقيقة وأن يستحضروها، وأن يقاتلوا عدوّهم عليها، ولا عليهم ما يعتقده عدوهم فيهم أو فى نفسه! وإن أي حال يكون عليها العدوّ لن تبلغ الحال التي يكونون هم عليها، من وثاقة الإيمان بالله، والثقة فيما عنده لهم عن حسن الجزاء، وعظيم الثواب! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 887 الآيتان: (106- 105) [سورة النساء (4) : الآيات 105 الى 106] إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) التفسير: قوله تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ» هو بلاغ مبين لما بين يدى النبىّ من آيات الله، وما فيها من حق، وأن هذا الحق الذي بين يديه، هو رحمة وهدى للناس، وما كان هذا شأنه فلا يكون سببا فى ضر أو أذى.. شأن الطبيب الذي يحمل إلى الأجسام الدواء، يبغى سلامتها وعافيتها..! وفى الناس الظالمون، الخائنون، الذين يمدون أيديهم إلى الناس بالبغي والعدوان، ثم إذا جىء بهم إلى ساحة القصاص رموا بما فى أيديهم من ظلم وبغى على غيرهم من الأبرياء، وجاءوا إلى ذلك بالزور والبهتان، وبشهود الزور والبهتان.. وموقف النبىّ الكريم مع هؤلاء المبطلين، هو أن يحكم فيهم بما أراه الله، وبما فى يديه من كتاب الله، وأن يستمع إلى طرفى الخصومة، دون أن يكون خصيما، أي معاديا لأىّ من الطرفين، حتى ولو استبانت خيانة الخائن، وظهر بهتانه.. إنه- مهما كان جرمه- لا يؤخذ بغير الجزاء الراصد لجريمته، عند ما تثبت إدانته.. فلا يقف منه القاضي موقف العداء، الذي قد يميل به إلى الجور على هذا المتهم، وتجاوز الحدّ فى العقاب الذي يستحقه! وانظر كيف تدبير الإسلام فى حمايته للإنسان، ودفع الظلم عنه، حتى وهو الظالم الأثيم.. ذلك أن الظلم لا يدفع بالظلم، وإنما الذي يدفعه هو تحقيق العدل، وأخذ الظالم بظلمه، دون مجاوزة حدود الله فيه.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 888 وإذ كان الظالم المفترى على الله وعلى الناس الكذب- فى وجه البغضة والكراهية من الناس، وخاصة عند من يقومون على العدل، ورفع المظالم، الأمر الذي قد يحمل ولىّ الأمر على التنكيل به، والمبادرة إلى إلقاء ثقل التهمة كلها عليه، دون مراعاة للظروف المخففة، التي لو نظر فيها ولىّ الأمر نظرة لا تحمل العداوة والشنآن، فربما كان ذلك مما يمسك به عن الجور ومجاوزة الحد، - نقول: إذ كان الظالم الخائن لأمانة الله ورسوله والمؤمنين، فى وجه هذه العداوة- فقد كان من تدبير الشريعة الإسلامية، وحكمتها، أن تحمى هذا المجرم من الجور، وأن تأخذه بحكم الله فيه.. ولهذا جاء قوله تعالى للنبى الكريم: «إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً» - جاء هذا القول من ربّ العالمين، لرسوله الكريم، دستورا فى القضاء بين الناس، والفصل فى المنازعات التي تحدث بينهم.. وهو أمر يلتزم به ولىّ الأمر، القائم على القضاء بين المتخاصمين- جانب الحيدة المطلقة، وأن يخلى نفسه من كل ما يندسّ إليها من مشاعر البغضة والعداوة للمذنب، الذي ينتظر جزاء ذنبه.. وأنه إذا كان لولى الأمر أن ينكر المنكر وأن يأخذ أهله بالقصاص، فإنه ليس له أن يكون خصما للمجرم، المذنب، وهو قاضيه، والحاكم عليه.. إذ لا يتفق أن يكون الإنسان خصما وحكما فى وقت معا.. والشاعر العربي يقول: يا أعدل الناس إلا فى معاملتى ... كيف الخصام وأنت الخصم والحكم؟ إن ذلك لا يتفق أبدا! حتى فى مقام النبوة، وبين يدى النبىّ..! «وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً» فكيف بغير النبي من عباد الله؟ وقوله تعالى: «وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» .. هو دعوة إلى طلب المغفرة من الله، لما يكون قد طاف بالنفس من مشاعر العداوة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 889 والشنآن لأهل السوء الذين أخذوا بذنبهم، وربما كان لذلك أثره فى الشدة عليهم، وسدّ كل منافذ التسامح دونهم، فيما كان يمكن أن يحمل على التسامح! وهذا الأدب السماوي للنبى الكريم تأديب لنا، وتحذير من الجور فى القضاء، وحراسة للنفس من الدوافع التي تدفع بها إلى الانحياز إلى جانب أحد المتخاصمين، وهو المعتدى عليه، والشدة المجاوزة للحدّ على المعتدى. الآيات: (107- 109) [سورة النساء (4) : الآيات 107 الى 109] وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) التفسير: فى الآيات السابقة كان التوجيه السماوي إلى النبىّ- ومن ورائه المسلمون جميعا- ألّا يكون خصيما وعدوا لمن تظهر خيانتهم، وينكشف جرمهم، فى مجلس الفصل فى الخصومات، وفى هذه الآيات، يجىء التوجيه السماوي متمما لتلك الصورة، ضابطا الوجه المقابل لها.. وهو ألا يقف من الخائنين وأولى التّهم موقف الدفاع، الذي يجادل عنهم ويلتمس المعاذير لهم..! فإذا كان العدوان من ولىّ الأمر على الظالم الآثم أمرا تنكره الشريعة، فتفرض حماية على الظالم المعتدى، حتى لا يجاوز بعقابه الحدّ المرصود لجريمته- فإن الميل مع الظالم الآثم، والتماس المعاذير لجريمته، ابتغاء التخفيف عنه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 890 لا يقلّ فى نظر الشريعة نكرا عن الأمر الأول، لأن فى هذا عدوانا على حق الله، وتعطيلا لحدوده! وقوله تعالى: «يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ» هو تهديد ووعيد لهؤلاء الذين يدبرون السوء، ويؤامرون أنفسهم وأصحابهم على المنكر، فى خفاء، وحذر، بعيدا عن أعين الناس، حتى لا ينكشف أمرهم، وينفضح حالهم، ويفسد تدبيرهم.. ولكن أين يذهب هؤلاء الذين أخفوا مكرهم السيّء عن الناس؟ إنهم إن استخفوا من الناس فلن يستخفوا من الله، الذي لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء.. فهو- سبحانه- «يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ» .. وهو سبحانه: «مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ» ! إنهم فى سكرة يعمهون.. يحسبون أنهم- وقد استخفوا عن الناس- قد غاب أمرهم عن الله، وأنهم وقد أفلتوا من يد الناس- لن تمسك بهم يد الله! وكلّا، فإن عين الله لا تغفل، وإن ما بيّتوه من سوء قد سجله الله عليهم، وسيأخذهم به.. «وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً» . وقوله تعالى: «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا» هو استدعاء لأولئك الذين يتولّون الظالمين، ويمكنون لهم من إمضاء مكرهم السيّء، وتغطية ما ينكشف عنه، وذلك بالدفاع عنهم، وتبرير أعمالهم المنكرة، والتماس التأويلات الكاذبة لها.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 891 فهؤلاء الذين يقومون وراء الظالمين هم شركاء لهم فى هذا الجرم.. وهم مدعوّون معهم إلى ساحة المحاكمة والقصاص بين يدى أحكم الحاكمين! وفى هذا الموقف تخرس ألسنة هؤلاء الأولياء المدافعين عن الظلم والظالمين.. ويتعرّى أولئك الظالمون من كل قوة تدفع عنهم سوء ما عملوا. الآيات: (110- 112) [سورة النساء (4) : الآيات 110 الى 112] وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) التفسير: وإذ يحذّر الله الظالمين وأولياء الظالمين، ويتوعدهم بالعقاب الراصد لهم يوم القيامة، فإنه سبحانه وتعالى لا يسدّ منافذ الخلاص على هؤلاء وأولئك، بل يفتح لهم أبواب التوبة والإنابة، ويدعوهم إلى الرجوع إليه من قريب.. فإنهم إن فعلوا، وأخلوا أيديهم من الإثم، وأنابوا إلى ربهم، وجدوا القبول والرحمة، من رب غفور رحيم. وعمل السوء قد يتعدّى الإنسان إلى غيره، ففيه ظلم للغير، وظلم له.. كالسرقة، والغش، وشهادة الزور.. ففى هذه الأمور السيئة ونحوها ظلم للغير، وظلم للنفس، بما جنى عليها صاحبها من هذه المنكرات، التي تبعد مرتكبها عن ربه، وتعرضه لسخطه، ونقمته، وعذابه. وقد يكون عمل السوء مقصورا أثره على مرتكبه، كالذى يشرب الخمر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 892 أو يفطر فى رمضان لغير عذر.. فهذا العمل السيّء واقع عليه وحده، واثره لا يتعدّاه إلى غيره.. ولهذا جاء قوله تعالى: «وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ» جامعا لأفعال السوء كلها، ما كان منها متعديا أثره إلى الغير، وما كان مقصورا على النفس وحدها. وفى قوله تعالى: «ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً» استحضار لجلال الله وعظمته، وتلويح بغفرانه ورحمته، حيث أنه سبحانه وتعالى يدعو المذنبين إليه، وينتظر استجابتهم له، وإقبالهم عليه، فمن استجاب لله، وسعى نحوه، فطريقه إلى الله مفتوح، لا تقوم دونه الحجب، ولا يرده عنه الحجّاب.. بل «يجد الله» فى انتظاره، مادّا يده له بالقبول والمغفرة. وقوله تعالى: «وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً» تحديد للمسئولية، حيث لا يؤخذ أحد بجرم غيره ... «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» .. ولن يخشى البريء أن يلقى عليه جرم المجرم، فإن أمر القضاء إلى عليم حكيم، يعلم عمل كل عامل من خير أو شر، فيجزى بالخير خيرا، وبالشر شرا، كما يقضى بذلك عدله، وحكمته. وقوله تعالى: «وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً» تهديد ووعيد لأولئك الذين يكسبون الخطايا والآثام، ثم يلقون بها على الأبرياء، ويحمّلونهم تبعاتها، وذلك فى هذه الحياة الدنيا، حيث لا يرى الناس منهم ما يرى الله، فيجدون فى ذلك سبيلا إلى التخلص من جرائمهم.. وكلّا، فإن جرمهم قد سجله الله عليهم، وهو آخذهم به، ومجازيهم عليه، وهم إذا رموا بهذا الجرم غيرهم فقد اكتسبوا جرما آخر إلى جرمهم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 893 إذ أصابوا بريئا، وجنوا على غير ذى ذنب! وبهذا صار جرمهم «مبينا» أي عظيما، ظاهرا لا يحتاج إلى من يكشف عنه. والخطيئة: الوقوع فى المعصية. والإثم: البغي، والعدوان، وهو الطريق إلى الوقوع فى الخطيئة. والبهتان: هو الزور. الآية: (113) [سورة النساء (4) : آية 113] وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113) التفسير: المنافقون بما يزيّنون من الباطل، وما يموهون من الحجج، لضلالاتهم، وما يلفقون من الأدلة لأباطيلهم- يفسدون على كثير من الناس وجه الحق، ويختلونهم عن طريق الهدى، حين يخيّلون إليهم الباطل حقا، والضلال هدى.. وهم إذ يضلون الناس بهذا، إنما يضلون أنفسهم، ويوردونها موارد الهلاك، إذ جنوا على أنفسهم، أولا، بركوب الضلال، ثم جنوا على غيرهم، ثانيا، باستدعائهم إلى ركوب هذا الضلال معهم، وتزيينه لهم.. وقد كان من فضل الله سبحانه وتعالى على النبىّ أن عصمه من كيد هؤلاء المنافقين، ففضحهم، وفضح أساليبهم، وبهذا حرس الله النبىّ وحماه من هذا الكيد الذي كانوا يكيدون له! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 894 وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ» . والطائفة، هى الجماعة من هؤلاء المنافقين، وهى تمثّل رءوس المنافقين، وأصحاب الرأى والتدبير فيهم.. وفى قوله تعالى: «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ» ما يشعر بأن هؤلاء المنافقين لم يهمّوا بالسوء، إذ كان فضل الله علي النبي ورحمته به، وحراسته له، ممّا يحجز هؤلاء المنافقين عن أن يهمّوا، فضلا أن يبلغوا من النبي ما همّوا به، وما حدثتهم به أنفسهم من شر وعدوان! والواقع أنه كان من المنافقين هم وعزم على ركوب هذا المنكر نحو النبي، بل وقد خرج هذا الهمّ أحيانا إلى حيّز التنفيذ والعمل، فجاء منهم من يقول للنبىّ فى غزوة الخندق: «إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ» .. وما هى بعورة إن يريدون إلا فرارا» (13 الأحزاب) وجاء منهم من يقول للنبىّ فى غزوة تبوك: «ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي» (49: التوبة) وقد أذن النبي لمن استأذنه منهم، فكان من الله هذا العتاب الرفيق للنبى الكريم: «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ» (43: التوبة) فما تأويل هذا؟ والجواب: هو أن هذا الهمّ الذي كان من المنافقين، وما تبعه من تدبير وعمل، لم يؤثّر أأثره فى النبيّ، ولم يخرج به عن طريق الحق والعدل الذي أقامه الله عليه، وأن ما جنى المنافقون من نفاقهم هذا كان حسرة ووبالا عليهم فى الدنيا والآخرة، إذ فضحهم الله على الملأ، وفضح نفاقهم، وعرضهم للأعين عراة يجلّلهم الخزي والعار، وأنهم ودّوا لو لم يهمّوا ولم يفعلوا.. فكان همّهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 895 هذا الذي همّوه، وفعلهم ذلك الذي فعلوه، جناية على أنفسهم.. أما النبىّ فلم يخلص إليه من هذا الهمّ شىء! وعلى هذا، كان الهمّ الذي همّوه بالنبيّ كأنه لا شىء بالنسبة له، إذا أفسده الله عليهم، وردّه إلى صدورهم.. فكأنهم همّوا ولم يهمّوا!! وفى هذا ما يشير إلى علوّ مقام النبىّ الكريم، وإلى قوة هذا الحصن الحصين الذي أقامه الله عليه فى وجه المنافقين، بحيث لا يجرؤ أحد منهم أن تحدّثه نفسه- لو عرف مكانة هذا النبىّ، ومكانه هو منه- أن يهجس فى نفسه- مجرد هاجس- بمحاولة إنزاله ولو قيد شعرة من هذا المقام الكريم الذي رفعه الله إليه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ» أي، أىّ شىء من الضرر، فيما يتصل بدينك، أو مكانك من هذا الدّين!. وفى قوله تعالى: «وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ» وفى عطف هذا الفعل على الفعل قبله: «وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ» .. فى هذا كبت للمنافقين، وضربة قاصمة من ضربات الحسرة والكمد لهم.. فإنهم وقد أرادوا أن يفسدوا على النبىّ أمره، قد أفسدوا أنفسهم، ولم ينالوا من النبىّ شيئا، بل وأنزل الله عليه الكتاب والحكمة وعلمه ما لم يكن يعلم، حتى لكأن إنزال الكتاب والحكمة على النبىّ وتعليمه من الله ما لم يكن يعلم، قد جاء فى أعقاب هذا المكر السيّء الذي مكروه بالنبيّ- زيادة فى تكريم النبىّ، ومضاعفة لفضل الله عليه، وإمعانا فى خزى المنافقين وكبتهم، وملء قلوبهم حسرة وندما، من حيث أرادوا الشرّ بالنبي، فكان أن أضعف الله فضله عليه، وغمره بإحسانه.. وهذا ما تشير إليه خاتمة الآية: «وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً» .. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 896 الآيتان: (114- 115) [سورة النساء (4) : الآيات 114 الى 115] لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115) التفسير: أكثر ما يجتمع عليه المنافقون هو الشرّ، وأكثر ما يتناجون به، هو السوء.. والنجوة، والمناجاة، هى المسارّة بالحديث، والتخافت به، بعيدا عمن يسمع أو يرى.. وأصل «النجوة» المكان المرتفع، ينجو به الإنسان والحيوان، ويعتصم فيه من أن تناله يد العدوّ. وقوله تعالى: «إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ» هو استثناء للجانب الطيب من النجوى، إذ ليس كلّ ما يسارّ به الناس بعضهم بعضا من حديث، وما يحجزونه عن أسماع غيرهم وأبصارهم هو من قبيل الشرّ، الذي يحرص الناس على كتمانه، وإخفاء وجهه عن غيرهم. فقد يكون فى هذا الحديث الخفىّ، ما يراد به الخير والإحسان، وقد يكون فى كشفه والمعالنة به تفويت للخير الذي ينطوى عليه، وتضييع للإحسان المراد منه.. فمن اجتمع إلى غيره، وتناجى معه فيما هو خير له وللناس.. كدعوة إلى صدقة، أو توجيه إلى معروف، أو إصلاح بين الناس- (م 57- القصص القرآنى ج 5) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 897 فلا حرج عليه فى هذه النجوى، متحدّثا أو مستمعا.. وإذ كانت «النجوى» غالبا ما تحمل على الرّيب والظنون بأهلها، كان على الإنسان أن يحرس نفسه من أن يكون مظنّة تهمة أو ريبة، وألا يدخل مداخلها إلا إذا كانت غايته منها تحصيل الخير له أو لغيره، وألا يكون وراءها شر يدبّر للناس، أو كيد يكاد لهم به.. وقوله تعالى: «وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» . الإشارة هنا بقوله تعالى: «وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ» متوجهة إلى الأمر بالصدقة أو المعروف أو الإصلاح بين الناس.. أي ومن فعل ذلك فى مناجاته، لا يريد به إلا وجه الله، فله أجر عظيم عند الله، وثواب كريم لما فعل. وقوله تعالى: «وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً» الشقاق: المخالفة والمنابذة.. وشقاق الرسول: مخالفة أمره، والخروج عن طاعته.. والذين تبيّن لهم الهدى هنا، هم المنافقون، الذين دخلوا فى الإسلام، وعرفوا كثيرا من حقائقه، ولكن غلبت عليهم شقوقهم، فلم يستقيموا على طريق الحق، بل اضطربوا وتخبطوا.. فهؤلاء المنافقون أكثر ما تكون لقاءاتهم ومناجاتهم لتدبير الشرّ، وتبييت السوء، والعمل على مشاقّة الرسول ومخالفته، واتخاذ سبيل لهم غير سبيل المؤمنين، وطريقهم.. وقد توعّد الله سبحانه وتعالى من يكون على تلك الحال بقوله: «نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً» أي نقيمه على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 898 هذا الوجه الذي اتخذه لنفسه، مخالفا به الطريق المستقيم، طريق المؤمنين، وندعه لهواء الذي غلب عليه، وساقه إلى هذا المساق.. وهذا يعنى أن الله سبحانه وتعالى يخلى هذا المنافق لنفسه، ويتركه فى ضلاله، فلا يمدّ إليه يد العون والتوفيق. «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً» (10: البقرة) . الآيات: (116- 121) [سورة النساء (4) : الآيات 116 الى 121] إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) التفسير: الشرك بالله، ضرب من ضروب الكفر به.. فإذا كان الكفر جحودا بالله، وإنكارا لوجوده، فإن الشرك ضلال عن طريق الله، ورؤية غير واضحة لجلال الله وعظمته، الأمر الذي يجعل الإنسان ينظر إلى الله فى هذا المستوي الذي لا يرتفع فيه كثيرا عن بعض مخلوقاته.. وهذا إنكار ضمنى لوجود الله، ذلك الوجود الحق، الذي ينفرد فيه سبحانه بالربوبية المطلقة، ويدين له فيه جميع المخلوقات بالعبودية والولاء.. «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» (93: مريم) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 899 والقرآن الكريم يتحدث عن المشركين باعتبار أنهم طائفة من طوائف الكافرين، وفرقة من فرقهم.. فالمشرك كافر، لا جدال. فأهل مكة- قبل الإسلام- كانوا مشركين، يعرفون الله معرفة باهتة، ويرونه من خلال آلهتهم، وكأنه واحد منهم، أشبه بشيخ القبيلة فى قبيلته!! وقد سماهم القرآن الكريم كافرين، كما سماهم مشركين، وقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» (6: البقرة) من مراده بعض مشركى مكة. كما أشرنا إلى ذلك فى تفسير هذه الآية.. ومثل ذلك قوله تعالى: «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ» (12: الأنفال) فإن هذه الآية نزلت فى غزوة بدر، وفيما كان فيها من إمداد الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالملائكة فى هذه المعركة.. وقد وصف المشركون هنا بالكفر وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ» . هو بيان لما قضى به سبحانه وتعالى فيمن يشرك به أو ينكر ألوهيته، وهو أنه سبحانه لا يغفر لمرتكب هذا الإثم إثمه، ولا يناله برحمته، إذ أن هذا المشرك أو المنكر، قد استخفّ بالله، فلم يولّ وجهه إليه، ولم يخلص قلبه له، فكان جزاؤه أن يستخفّ به الله، ولا يقيم له يوم القيامة وزنا، كما يقول سبحانه وتعالى: «أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 900 لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً» (102- 106: الكهف) . وقوله تعالى: «وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ» هو استدعاء من الله سبحانه وتعالى للعصاة والمذنبين من عباده الذين آمنوا به، ليتعرضوا لواسع رحمته، وعظيم فضله، فإنهم وقد آمنوا به، وأحلوا قلوبهم ومشاعرهم من كل معبود سواه، فقد دخلوا فى محتوى هذا النداء الكريم، الذي نادى الله به عباده المؤمنين فى قوله سبحانه «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ» (53- 54: الزمر) . فما كان من الذنوب دون الشرك والكفر، فهو فى ساحة رحمة الله، وفى معرض غفرانه. وليس فى قوله تعالى: «لِمَنْ يَشاءُ» قيدا يحدّ من رحمة الله، أو يحجز من غفرانه، ولكن المراد به وضع الرحمة والمغفرة تحت مشيئة الله، يضعهما حيث يشاء، ويفضل بهما على من يشاء، فضلا وكرما، وليس لأحد أن يتألّى على الله، أو أن يلزمه شيئا من هذا العطاء المتفضّل به.. وبهذا تعظم المنّة، ويتضاعف الإحسان، إذ كان ذلك من غير مقابل، ودون استيفاء لجزاء على عمل، فصاحب العمل له جزاء عمله، كما يقول سبحانه: «نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» (56: يوسف) فرحمة الله واقعة حيث يشاء لمن يشاء.. أما المحسن، فقد كتب الله على نفسه أن يوفيه أجره، بل ويوفيه هذا الأجر أضعافا مضاعفة، كما يقول سبحانه: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 901 وقوله تعالى: «وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً» كشف للطريق المهلك الذي ركبه المشرك بشركه، وأنه قد بعد عن طريق النجاة والسلامة، ولن يزيده المضىّ فيه إلا إمعانا فى الضلال، وبعدا عن طريق الحق، وشرودا عن مظانّ النجاة! وقوله تعالى: «إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً» . الضمير فى قوله تعالى: «مِنْ دُونِهِ» يعود إلى الله سبحانه وتعالى، و «إن» بمعنى حرف النفي «ما» أي ما يدعو هؤلاء المشركون من المعبودين الذين يعبدونهم من دون الله، إلّا إناثا. والشيطان المريد. هو إبليس الذي تمرّد على الله، وجرؤ على عصيانه والخروج عن طاعته.. والمعنى: أن هؤلاء الذين أشركوا بالله، وعبدوا من عبدوا من دونه، لم يكن تقديرهم لهؤلاء المعبودين، إلا عن نظر سقيم، وقلب مريض، وعقل سفيه. فما هؤلاء المعبودون الذين اتخذهم المشركون أربابا لهم من دون الله- إلا أحد شيئين: أولهما: إناث.. أي معبودات من المصنوعات، يعملونها بأيديهم، فى صورة أوثان وأصنام، ثم يزينونها بالملابس والحلىّ، كما تتزين النساء! وعبادة مثل هذه المصنوعات سفه ليس وراءه سفه، وضلال ليس بعده ضلال.. لأنها (أولا) أشياء ميتة، لا تسمع، ولا تبصر، ولا تملك من أمر وجودها شيئا.. فكيف يراد منها الخير لغيرها، أو يرجى منها العون لمن يقوم على أمرها، ويحفظ وجودها.. ولأنها (ثانيا) لم تتّخذ من صور الأشياء الجانب القوى منها، وهو جانب الذكورة، بل أضفى عليها صانعوها مظهر الأنوثة، فزادها ذلك ضعفا إلى ضعفها.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 902 وفى الكشف عن هذا الجانب الضعيف من هذه الأوثان والأصنام، وعرضها لنظر عابديها فى هذه الصورة- صورة الإناث- إمعان فى تسفيه هؤلاء السفهاء الذين عبدوها، وتخاضعوا بين يديها.. إذ كيف يستقيم هذا مع تفكيرهم، وما أخذوا به أنفسهم من امتهان الأنثى، ونظرتهم إليها تلك النظرة المنكرة المتكرهة؟ وكيف يكون موقفهم مع الأنثى هذا الموقف الذي ذكره القرآن الكريم عنهم فى قوله تعالى: «وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ؟» (58- 59: النحل) - كيف يكون هذا موقفهم من الإناث وهنّ خلق سوىّ، وفلذة من فلذات أكبادهم، ثم يكون هذا شأنهم مع تلك الصور التي يتخذونها من الحجر، والخشب، والمعدن، ويلبسونها زيّ الإناث، ويغرقونها بالحلى والزينة؟ أهذا مما يستقيم مع منطق، أو يصح فى عقل؟ هذه صورة من الصورتين، اللتين يعبدهما المشركون من دون الله! .. وهى صورة حسيّة، يتعامل معها المشركون بحواسّهم ومشاعرهم.. أما الصورة الأخرى، فهى «الشيطان المريد» .. وهو وإن كان شيئا غير محسوس، فإنّه يتمثل فى الأهواء المتسلطة على النفس، وفى تلك الوسوسات الضالّة التي تزيّن للإنسان الشرّ، وتغزيه بالضلال! وليست تلك المعبودات، التي يعبدها المشركون بالله، ويتخذون لها تلك الصور والأشكال إلّا إملاء من وساوس الشيطان لهم، وإلا مظهرا من مظاهر إغرائه وإغوائه.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 903 فهؤلاء الذين يعبدون الأوثان من دون الله، هم عابدون للشيطان أيضا.. فما هذه الصور المعبودة إلّا بنات وسوساته فى صدورهم، ونفثاته فى تفكيرهم.. وقوله تعالى: «لَعَنَهُ اللَّهُ» صفة لهذا الشيطان المريد، الذي اتخذه هؤلاء المشركون وليا من دون الله.. وفى هذا ضلال إلى ضلال، وسفه إلى سفه.. إذ أنهم أعطوا ولاءهم لمن كان عدوّا لله، واقعا تحت لعنته.. فهم- والأمر كذلك- أعداء لله، واقعون تحت لعنته. وقوله سبحانه: «وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً» عرض فاضح لهذا الشيطان المتمرد على الله، المأخوذ بلعنة الله. وفى عطف قوله تعالى: «وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً» على قوله سبحانه: «لَعَنَهُ اللَّهُ» ما يشير إلى أن هذا القول الآثم من هذا الشيطان المريد هو لعنة أخرى من لعنات الله عليه، لما فيه من تحدّ لله، ومحاربة له فى عباده! وفى قوله تعالى: «مِنْ عِبادِكَ» إشارة أخرى إلى تمرد هذا الشيطان المريد، وإمعانه فى محادّة الله ومحاربته.. إذ كيف تسوّل له نفسه أن يدخل حمى الله، وأن يفسد عباد الله، الذين خلقهم بيده، وأضافهم إلى ذاته؟ ومن جهة أخرى، فإن هؤلاء الذين خلقهم الله بيده، وأضافهم إلى ذاته، هم الذين كانوا حربا على الله فى جبهة الشيطان، فتفلتوا من هذا الحمى الكريم، الذي أقامهم الله فيه.. ومدوا أيديهم إلى هذا الشيطان المريد، وأعطوه الفرصة فيهم، ليفسد عليهم هذه الفطرة السليمة التي أودعها الله كيانهم، وليضلّ عقولهم عن هذا الطريق الذي أراه الله لهم، غير ملتفتين إلى تلك الوصاة التي وصّاهم الله بها، فى شأن هذا العدوّ الراصد لهم، والمتربص بهم، حيث كان قول الله لهم: «إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 904 وفى هذا الموضع الذي وضع الله الإنسان فيه، تكريم لهذا الإنسان، وإشعار له بأنه أهل لأن يحرس نفسه من هذه الآفة المتسلطة عليه، وأن يحتفظ بتلك الهبات العظيمة التي منحها الله إياه، تلك الهبات التي لو التفت إليها، وأحسن استخدامها، والقيام عليها، لكانت قوة حارسة له من الشيطان وخداعه، ولكان له منها حمى لا تناله وساوسه ومغوياته.. ولكن غفل كثير من الناس عن هذا العدوّ، بل وسالمه وأسلم زمامه له، فكان ضياعه وهلاكه جزاء وفاقا له. وفى قوله تعالى: «نَصِيباً مَفْرُوضاً» إشارة إلى أن هؤلاء الذين أوقعهم الشيطان فى حبالته، واصطادهم فى شباكه، هم من أراد الله لهم أن يكونوا فى أصحاب النار، كما يقول سبحانه وتعالى: «فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» (7: الشورى) وكما يقول جلّ شأنه: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» (119: هود) .. وكما يقول الرسول الكريم فيما يروى عن على بن أبى طالب، قال «كنّا فى جنازة فى بقيع الفرقد، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد ومعه مخصرة، فنكّس رأسه وجعل ينكت بمخصرته، فقال: «ما منكم من نفس منفوسة إلا وقد كتب مكانها من الجنة أو النار، وإلّا قد كتبت شقية أو سعيدة» فقال له رجل: يا رسول الله: أفلا نتّكل على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان منّا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان منامن أهل الشقاء فسيصير إلى عمل أهل الشقاء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «اعملوا فكل ميسّر.. أما أهل السعادة فميسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فميسّرون لعمل أهل الشقاوة.. ثم قرأ: «فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 905 ووصف النصيب بأنه نصيب مفروض يكشف عن أنه قدر محدّد، أي أن أولياء الشيطان هؤلاء، هم فريق محصور بعدده وصفته، لا يزيد ولا ينقص، كما أن أولياء الله، هم فريق آخر مقابل لهذا الفريق، معروف بعدده وصفته.. ومجموع الفريقين هم الناس جميعا.. الشقىّ منهم والسعيد، وأصحاب النار وأصحاب الجنة.. أولياء الشيطان، وأولياء الرحمن! وقوله تعالى: «وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ» هو بيان لقولة الشيطان: «لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً» فهذا النصيب المفروض هم الذين سيتخذهم الشيطان أولياء له، وسيتعاطى معهم كئوس المودة والصفاء، وهى كئوس تدور برءوس شاربيها، وتفسد عليهم عقولهم، وتحوّلهم دمى فى يد الشيطان، يعبث بها كيف يشاء.. ولهذا كان واثقا من أنه قادر على نفاذ أمره وإمضاء مشيئته فيهم.. ولهذا جاء أمره إليهم جازما مؤكدا: «ولأضلّنّهم» أي يلقى بهم فى مهاوى الضلال، والظلام.. بعيدا عن الهدى والنور! «ولأمنّينّهم» أي يمدّ لهم فى حبال الأمانى والغرور، بما يزيّن لهم من الشرور والآثام.. وبما يخيّل لهم من الأوهام والأباطيل.. فيرون الشر خيرا، والقبيح حسنا، والبعيد قريبا. «وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ» وذلك شىء من السّخف والضلال، الذي زينه لهم الشيطان وأغواهم به، وهو أنهم كانوا إذا ولدت الناقة خمسة بطون، وكان آخرها ذكرا احتفوا بها وأكرموها، وكان مظهر ذلك أن يقطعوا أذنيها أو يشقّوهما «فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ» ثم يرسلونها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 906 فلا يركب ظهرها، ولا يحمل عليه شىء!! أفليس ذلك هو غاية السفه، ومنتهى الضلال؟. «وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ» وذلك بتقطيع آذان الأنعام هذه، ونحو هذا من المراسم التي تصوّرها لهم الأوهام والأباطيل. وقوله تعالى: «وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً» عرض للصورة الشنعاء التي ينتهى إليها أمر هؤلاء الذين استذلهم الشيطان، واستبدّ بهم.. فليس بعد خسرانهم خسران، ولا وراء ضياعهم ضياع. وقوله تعالى: «يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً» هو كشف لهذا المحصول الذي يجنيه أتباع الشيطان.. إنها ليست إلا أمانىّ باطلة، وسرابا خادعا. «أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً» فتلك هى عاقبة الظالمين الغاوين.. مصيرهم جهنم وساءت مصيرا، لا متحوّل لهم عنها، ولا إفلات لهم منها. وهنا سؤال، أو أسئلة، عن هذه التفرقة بين الناس، إذ كانوا فريقين: سعداء وأشقياء. أولياء الله وأولياء الشيطان.. «فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» ؟ فلم هذه التفرقة بين الناس، وهم جميعا عباد الله وصنعة يده؟ وما فضل هؤلاء الذين كتبت لهم الجنة، وما جناية هؤلاء الذين كتبوا فى أصحاب النار.. هكذا قدرا مقدورا، وقضاء لازما من الأزل؟ وما قيمة إحسان المحسن وإساءة المسيء، إذا كان قد تحدد المصير المحتوم لكل إنسان؟ هذه خواطر تتوارد على الإنسان، وهو يستمع إلى حكم الله هذا فى عباده.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 907 وإذا كان من تمام إيمان المؤمن أن يتلقى أوامر الله وأحكامه بالتسليم. وأن يتقبلها بالرضا والحمد- فإنه من غير المستطاع أن يمنع المؤمن مثل هذه الخواطر من أن تطوف بعقله حينا بعد حين، وأن تتصاعد منها أدخنة وغيوم، قد تنحسر مريعا، أو تتلبث وتتسكع قليلا أو كثيرا.. بل إنه- والأمر كذلك- لمن الخير أنه يواجه الإنسان هذه الخواطر، وأن يقّلبها بين يديه، حتى يعرف مصادرها ومواردها، فإنها كثيرا ما تكون مداخل لخداع الشيطان وضلالاته. وهذا ما سنعرض له فى بحث خاص.. إن شاء الله. الآيات: (122- 123- 124) [سورة النساء (4) : الآيات 122 الى 124] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122) لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) التفسير: الفريق الآخر المقابل لأولياء الشيطان، هم المؤمنون، أولياء الله، الذين أعطوا هذه الولاية حقها، فامتثلوا أوامر ربهم، واجتنبوا نواهيه.. وإذا كان أولياء الشيطان مأواهم جهنم، فإن أولياء الله مأواهم الجنة، خالدين فيها أبدا.. فذلك وعد الله لهم، فيما أخبرهم به من كلماته على لسان رسله.. «ومن أصدق من الله قيلا» - أي قولا- وحاش لله أن يخلف وعده، فإن خلف الوعد لا يكون إلا عن عجز وضعف، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 908 وقوله تعالى: «لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ» ردّ على أولئك الذين يتمنون على الله الأمانىّ، دون عمل..! والأمانىّ التي لا ترتبط بعمل، ولا تتجه إلى هدف، هى أباطيل وأضاليل وأوهام وأضغاث أحلام، لا يمسك منها صاحبها إلا سرابا، ولا يجنى منها إلا حسرة وندما على ما كان من تفريط وتقصير.. وإذن فليس الإيمان مجرد كلمة يتلفظ بها الإنسان، ليدخل بها فى جماعة المؤمنين، وليتخذ منها زيّا يندسّ به بينهم، وينال ما ينالون، ويطعم بما يطعمون، مما أعد الله لهم من رضوان، وجنات لهم فيها نعيم مقيم.. هكذا من غير أن يكون منه عمل صالح! بل الإيمان فى حقيقته، قول وعمل، معتقد وسلوك.. فمن لم يحقق الإيمان على هذا الوجه فليس مؤمنا، وليس له أن ينال شيئا مما أعد الله للمؤمنين.. ولهذا جاء قوله تعالى: «مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» ليقرر هذا المضمون الذي احتواه قوله سبحانه «لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ» فى جانب الذين يتمنون الأمانى الباطلة، فلا يكون منهم عمل صالح.. فهؤلاء سيجزون سوء ما عملوا، وليس لهم من يدفع عنهم أخذ الله لهم.. وقوله تعالى: «وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً» هو تقرير لمصير الجانب الآخر، المقابل لأولياء الشيطان، وهو جانب أولياء الله، الذين لم يفتنهم الشيطان، ولم يغرقهم فى الأمانىّ الباطلة.. فهؤلاء آمنوا وعملوا الصالحات، أي أنهم آمنوا بالله، ثم حوّلوا هذا الإيمان إلى سلوك وعمل، فغرسوا فى مغارس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 909 الخير ومهّدوا ما غرسوا، وحرسوه من الآفات، فكان لهم من الله هذا الجزاء الحسن: «يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً» . وفى تقديم دخولهم الجنة هنا على استيفاء حقهم كاملا- فى هذا تطمين لقلوب المؤمنين، وأنهم سيدخلون الجنة على أي حال، فضلا وكرما من الله عليهم.. أما مناقشتهم الحساب، فإنه لكى يروا ما عملوا من خير، وكيف نمّاه الله لهم، وأجزل لهم الثواب عليه.. والنقير: النّقرة تكون فى ظهر النّواة، ومنها ينبت أصل النخلة! وفى قوله تعالى: «مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى» تسوية بين الرجل والمرأة فى التكاليف الشرعية، وفى الجزاء. وفى قوله تعالى: «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» قيد لازم لقبول العمل الصالح والجزاء الحسن عليه، فإنه بغير الإيمان لا يزكو عمل عند الله، ولا يقبل.. الآيتان: (125- 126) [سورة النساء (4) : الآيات 125 الى 126] وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126) التفسير: «أسلم وجهه لله» : أي وجّه وجهه إلى الله، دون التفات إلى معبود سواه.. فالإيمان الحق، هو الذي يقوم على إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبوديّة، والبراءة من الشركاء الذين يتخذهم المشركون أولياء من دون الله. والاستفهام فى قوله تعالى: «وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً» لا يراد به حقيقته، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 910 وإنما المراد به هو استبعاد أن يكون أحد أحسن دينا من هذا الذي أسلم وجهه لله وهو محسن. والاستفهام هنا أبلغ فى تقرير هذا الحكم، من أن يجىء هكذا فى صورة الخبر المباشر، كأن يقال مثلا: لا أحد أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن. ذلك أن الاستفهام يقتضى اختبارا عمليا لهذا الحكم، بمعنى أنه حين يرد هذا الاستفهام على السامع، يتلفت هنا وهناك باحثا عن الجواب على هذا الاستفهام، طالبا من هو أحسن دينا من دين هذا الذي أسلم وجهه لله.. ولكن هيهات أن يجد المطلوب، وبذلك يتقرر عنده الحكم بأنه لا أحد أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن. وقوله تعالى: «وَهُوَ مُحْسِنٌ» جملة حالية يراد بها قيد الإيمان بالعمل، بل والعمل الحسن.. إذ ليس الإيمان- كما قلنا- مجرد تصور حقيقى للألوهية، وإيمان بالله على هذا التصور لا يعدّ إيمانا، وإنما الإيمان معتقد وعمل، ولاء لله، وسلوك بمقتضى هذا الولاء. وفى قوله تعالى: «وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً» ، عطف على الجملة الحالية السابقة، وقيد آخر للإيمان، الذي وصف بأنه أحسن دين وأكمل إيمان.. إذ لا يتحقق هذا الوصف إلا بشرطين: أولهما: أن يصحبه عمل، وعمل حسن، بمقتضى توجيهات الشريعة وآدابها.. وثانيهما: أن يكون متابعة لدين إبراهيم عليه السلام، إذ كان إبراهيم أبا لأتباع الديانات الثلاث، المتجه إليها هذا الخطاب، وهى اليهودية، والنصرانية، والإسلام.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 911 «والملّة» هى الدّين. «والحنيف» المائل عن طرق الضلال إلى الهدى.. وهذا يعنى أن المجتمع الذي كان فيه إبراهيم عليه السلام- كان مجتمعا ضالا منحرفا، وأنه وحده- وقليل معه من ذريته- هو الذي مال عن هذا الاتجاه العام، الذي كان يتجه إليه قومه، وأبناء مجتمعه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (120: النحل) . قوله تعالى: «وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا» جملة استثنائية، تقرر ما لإبراهيم عند الله من منزلة، تلك المنزلة التي تجعل اتّباع ملتّه، وموالاته، مما يرضى الله عنه، ويحمده. والخليل هو الصاحب الذي يسدّ خلل صاحبه، ويكمل وجوده، أو يتخلّل مشاعره، ويخلص إلى مواطن سرّه.. واتخاذ الله- سبحانه- إبراهيم خليلا، يراد به لازم هذه المخالّة، وهى إضفاء الإحسان، والرحمة، من جانب الله تعالى على إبراهيم، وهذا لطف من الله، وتكريم لهذا النبي الكريم، وتلك منزلة عليا من منازل القرب من الله.. لا تكاد تدانيها منزلة. وقوله تعالى: «وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً» استعراض لعظمة الله وسعة ملكه، ومقدار سلطانه، الذي يشمل كل شىء، وينفذ إلى كل شىء! ومن كان هذا شأنه، وتلك صفته، فإن من السفه والضلال أن يولّى الإنسان وجهه إلى غيره، أو يعبد معبودا سواه.. وإذا استقام فى تفكير الإنسان أن يرى الله على هذا الوجه، وأراد أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 912 يتخذ سبيله إلى الله.. فهناك ملّة، إبراهيم، فليستقم عليها، وليؤمن بالله إيمان إبراهيم، ذلك الإيمان المبرأ من كل شرك، المجانب لكل ضلال. الآيات: (127- 130) [سورة النساء (4) : الآيات 127 الى 130] وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130) التفسير: الاستفتاء هو طلب الفتيا فى أمر خفى على المستفتى، يريد التعرف عليه. وكثيرا ما كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبون الرأى من النبىّ، فيما يعرض لهم من أمور، وفيما يقع من أحداث.. إذ كان النبىّ صلى الله عليه وسلم هو حامل الشريعة إليهم، والقائم عليها، والشارح لها.. (م 58- التفسير القرآنى- ج 5) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 913 وهنا فى هذه الآية، يسأل المسلمون النبىّ فى أمور تتعلق بالنساء.. من زواج، وطلاق، ومتعة، ورضاع، وغير ذلك مما يعنى الرجال من أمر النساء! وقد أعطى الله سبحانه النبىّ الكريم الجواب عما يسألون عنه، فقال تعالى: «قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ» أي أن الله سبحانه وتعالى هو الذي سيتولى بيان ما تسألون عنه. وقوله تعالى: «وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ» هو عطف على قوله تعالى: «قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ» أي الله يفتيكم فى النساء، ويفتيكم فيما «يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ» . ويكون معنى الإفتاء هنا، هو الإشارة إلى أن ما نزل عليهم من آيات الله فى شأن اليتامى، ولم يمتثلوه امتثالا كاملا، ولم يرعوا ما وصّاهم الله به فى شأنهن فى قوله تعالى: «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا» وفى هذا إلفات لأولئك الذين لم يرعوا أمر الله فى شأن هؤلاء اليتيمات اللاتي هنّ تحت أيديهم، وهو فى الوقت نفسه توبيخ لهم إذ يستفتون النبىّ فى شأن النساء، وبين أيديهم أمر من أمر الله فى شأنهن ولم يعملوا به، وكان الأولى بهم ألا يسألوا شيئا عن النساء إلا بعد أن يمتثلوا ما أمروا به من قبل فى شأنهن! وفى قوله تعالى: «يَتامَى النِّساءِ» إشارة إلى أن هؤلاء اليتيمات اللاتي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 914 تحت أيدى الأوصياء عليهن، هنّ من النساء اللاتي يستفتون النبىّ فيهن، وصغرهن لا يخرجهن عن أن يكنّ من النساء. وقوله تعالى: «اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ» هو مواجهة صريحة لأولئك الذين لا يزال الوضع السيّء لليتيمات عندهن كما كان من قبل أن يوصى الله بهن بما أوصى فى أول سورة النساء، وهو أنهم كانوا ينكحونهن من غير أن يؤدوا ما فرض الله لهن من مهر، أو يمسكونهن عند الزواج إذا لم يكن لهم فيهن رغبة، ليحتفظوا فى أيديهم بالمال الذي لهن، وقد نهاهم الله سبحانه وتعالى عن هذا. قوله تعالى: «وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ» عطف على قوله تعالى: «فِي يَتامَى النِّساءِ» أي والله سبحانه وتعالى يفتيكم فى النساء، وفيما يتلى عليكم فى الكتاب فى يتامى النساء وفى المستضعفين من الولدان» .. وقد أوصى الله تعالى باليتامى فى قوله سبحانه: «وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ، فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» (9- 10: النساء) . وإعادة الفتيا فى المستضعفين من الولدان، وهم اليتامى- هو تذكير لهؤلاء الذين لم يمتثلوا بعد، ما أمر الله فيهم من الرفق بهم، والإحسان إليهم، وحسن القيام عليهم.. قوله تعالى: «وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ» هو دعوة عامة جامعة لليتامى من بنين وبنات، بعد أن ذكرهم الله تعالى ذكرا مفصلا- حيث ذكر يتامى النساء، ثم ذكر المستضعفين من الولدان، وهؤلاء وأولئك جميعا من اليتامى.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 915 قوله تعالى: «وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً» حثّ على فعل الخير، والإحسان عامة، وفى اليتامى خاصة.. والله سبحانه وتعالى يعلم ما نفعل من خير أو شر، ولكنه قصر العلم على الخير هنا، تنبيها إلى أن المؤمن ينبغى أن يكون فعله كله خيرا، وأنه يجب أن يعقد قلبه على فعل الخير، وأن يفعله ما استطاع، وأن يخلى قلبه من وساوس الشر، وأن يتجنبه ما استطاع!. وفى التعبير عن علم الله تعالى بلفظ الماضي «كان» إشارة إلى أن علم الله لا يتعلق بوقوع الأفعال، وإنما هو علم قديم أزلىّ، قد أحاط سبحانه بكل شى علما.. قوله تعالى: «وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً» . النشوز: النفور عن المألوف، والنشز من الأرض: الصلب.. والفتيا هنا فى شأن من شئون النساء اللائي وعد الله سبحانه بالإفتاء فيهن.. ومما يسأل عنه من أمر النساء، أن تجد المرأة فى زوجها من سوء العشرة ما تخشى معه قطع الحياة الزوجية، إذا لم يدخل عليها عنصر جديد يغذيها بشىء من المودة والإحسان. والحياة الزوجية لا تستقيم أبدا، ولا تؤتى ثمارها طيبة مباركة إلا إذا سكن كل من الزوجين إلى الآخر، وامتزج به، واختلط بمشاعره، وتنفس معه أنفاس المودة والرحمة، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» (21: الروم) . وفى قوله تعالى: «وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً» إشارة إلى هذا العارض الذي يعرض للحياة الزوجية، فيثير فيها مشاعر القلق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 916 والاضطراب، وذلك بأن تجد المرأة من زوجها نشوزا، أي تعاليا عنها، حيث ينظر إليها نظرة باهتة غير عابىء بها، لا نظرة الشريك إلى شريكه، والصديق إلى صديقه.. أو تشعر بجفوة منه نحوها، وبإعراض عنها وإهمال لها.. وفى التعبير بالخوف عن هذه المشاعر وتلك الأحاسيس التي تجدها المرأة فى زوجها- ما يكشف عما يقع فى نفس المرأة من إشفاق على مستقبل حياتها الزوجية مع هذا الزوج الذي يحمل لها تلك المشاعر، التي قد تنمو مع الأيام، وتصبح داءا لا دواء له إلا فصم العلاقة الزوجية بين الزوجين. وفى قوله تعالى: «فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً» إشارة إلى الدواء، الذي يمكن أن يقدّم فى مثل هذه الحالة لهذا الصدع الذي وقع بين الزوجين، وذلك الدواء هو أن يحدث الزوجان بينهما مصالحة، وأن يعملا تسوية، يلتقيان فيها على ما يحقق لكل منهما بعض ما يطلب من صاحبه.. فقد يكون فى يد المرأة ما يمكن أن تترضّى به الزوج من مال، وإنه لا بأس فى هذه الحالة أن تقدم المرأة للزوج بعض ما كان يطمع فيه من مالها، الذي ربما كان حرمانه منه سببا فى إعراضه عنها.. كما يمكن المرأة أن تنزل للزوج عن بعض حقوقها الزوجية.. كالتسوية فى القسمة بينها وبين بعض زوجاته اللائي يؤثرهن عليها بحبّه ومودته.. فترضى منه ببعض هذا الحق!. وقد يكون فى هذا الموقف الذي تقفه المرأة من زوجها، ما يعطفه عليها، ويقرّبه منها، ويصلح ما بينه وبينها، وبهذا تبقى العلاقة الزوجية موصولة بينهما، وتظل المرأة فى حماية الزوج ورعايته.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَالصُّلْحُ خَيْرٌ» .. أي أنه خير على أي حال لكلّ من المرأة والرجل.. إذ أبقيا به على رابطة مقدسة بينهما، كان فى قطعها قطع لما أمر الله به أن يوصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 917 وفى قوله تعالى: «فَلا جُناحَ عَلَيْهِما» رفع لمظنّة الحرج التي قد تكون متصوّرة فى هذا الموقف.. إذ أن المرأة تنزل للزوج عن بعض حقها، أو تقدم إليه شيئا من مالها، تحت ظروف قاهرة.. لا عن رضى واختيار.. وفى هذا عدوان على المرأة، وإكراه لها.. ولكن أباح الإسلام هذا، ليدفع به عن المرأة ضررا أكبر من هذا الضرر الذي يلحقها من التنازل عن بعض حقوقها الزوجية، أو الغرم فى بعض مالها.. وذلك لتحفظ حياتها الزوجية من أن تتصدع وتنهار! فالشر الذي يدفع به شرّ أعظم منه، هو خير! ومع هذا، فإنه ليس من المفروض فرضا لازما على المرأة أن تقف هذا الموقف، وإنما ذلك متروك لتقديرها، ووزنها لأحوالها وظروفها.. فلها أن تطلب الطلاق من زوجها إذا كانت غير محتملة للضرر الواقع عليها من نشوزه أو إعراضه عنها.. ثم إن لها فى الوقت نفسه أن تصلح هذا الأمر بما تقدر عليه، إذا هى رأت فى مصلحتها أن تبقى على زوجها، وأن تشترى رضاه ومودته بالتنازل عن بعض حقوقها.. وقوله تعالى: «وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ» أي أشهدت الأنفس الشحّ، بمعنى أريته وعاينته فى هذا الموقف، والشحّ هو البخل.. والذي أرى الأنفس الشحّ فى هذا الموقف، هو مواجهتها لذاتها وهى تستقبل من الغير هجوما عليها، ومحاولة للانتقاص مما فى يدها. ففى مثل تلك الحال تتحرك فى النفس دوافع حبّ الذات، الذي من شأنه أن يبرز غريزة الشحّ، التي هى سلاح من أسلحة الدفاع عن الذات. وجملة «وأحضرت الأنفس الشحّ» جملة اعتراضية، يراد بها التنبيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 918 إلى تلك الصفة الذميمة التي تطلّ برأسها فى هذا الموقف، الذي يواجه فيه كلّ من الزوج والزوجة صاحبه مواجهة صريحة.. مواجهة الغريم لغريمه فى استقضاء حق له عليه. ومن شأن هذا التنبيه أن يقيم فى كيان كل من الزوجين، وازعا يزع هذا الوسواس، الذي يدفع فى صدر كل منهما بمشاعر الشحّ والحرص، ومن شأن هذا الوازع- إذا استند إلى دين وخلق- أن ينهى هذا الموقف الحادّ بين الزوجين، وأن يجمعها على التسامح، والصفح، والوفاق.. وقوله تعالى: «وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» هو دعوة إلى الإحسان والتقوى فى هذا الموقف، الذي إن لم تتحرك فيه مشاعر الإحسان لتؤدى دورها فى ظلّ من تقوى الله والعمل على مرضاته- لم يكن سبيل إلى إصلاح هذا الخلل، ورأب ذلك الصدع، بل ربما زادته المواجهة بين الزوجين اتساعا وعمقا. وانظر فى هذا الاختلاف الذي وقع فى فاصلة هذه الآية، وفى فاصلة الآية التي قبلها.. فقد جاءت فاصلة هذه الآية: «فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» حيث أن ما يعمل هنا، هو مما تمليه القلوب، وتتناجى به الضمائر.. فهو- والأمر كذلك- محتاج إلى خبرة تطّلع على ما فى القلوب، وتكشف ما استقر فى الضمائر، وليس ذلك إلا لله الخبير العليم.. أما فاصلة الآية التي سبقت هذه الآية، فقد جاءت هكذا: «وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً» حيث كان الحديث عن أفعال محسوسة، يكفى فى كشفها العلم بها على الصورة التي وقعت، وذلك مما لا يغيب عن علم العليم الخبير!. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 919 قوله تعالى: «وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» . فى هذه الآية أمور: أولا: ضياع أمانة «العدل» فى القسمة بين الزوجات، التي حملها الزوج، ودعى من الله إلى الوفاء بها، وهو- وإن يكن أمرا قد تجاوز الله سبحانه وتعالى عنه فى تلك الحال- هو تضييع لتلك الأمانة، وعدوان عليها.. وهذا أقل ما فيه أنه يدعو الإنسان أن يفكر طويلا قبل أن يدخل فى هذه التجربة، ويعرّض نفسه لأن يكون فى عداد الظالمين المعتدين.. وهذا أقلّ ما فيه أيضا أن يزهّد الإنسان فى التزوج بأكثر من وحدة. وثانيا: قوله تعالى: «وَلَوْ حَرَصْتُمْ» يقطع كل أمل عند من تحدثه نفسه بأنه- إذا جمع أكثر من امرأة فى عصمته- قادر على أن يحقق العدل بينهما.. فذلك أمر فوق مقدور البشر، إذ كان الحكم فيه للقلب، ولا سلطان للإنسان على قلبه.. ولهذا كان النبىّ صلى الله عليه وسلم يقول متوجها إلى ربه فى قسمته وعدله بين نسائه: «هذا قسمى فيما أملك، فلا تلمنى فيما لا أملك وتملك» . وثالثا: من ابتلى بهذه التجربة- تجربة الجمع بين أكثر من زوجة- فعليه أن يستشعر دائما أن ميزان العدل الممسك به بين زوجاته لن يستقيم أبدا، فهو قلق مضطرب، يميل هنا مرة، ويميل هناك مرة.. وهكذا.. والمطلوب منه فى تلك الحال أن يحفظ توازن هذا الميزان فى يده، مع ميله واضطرابه، وإلا شالت إحدى كفتيه فكانت فى السماء، على حين هوت الأخرى فلصقت بالأرض.. وبهذا يفقد الميزان أثره وفاعليته.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 920 ورابعا: قوله تعالى: «فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ» .. الضمير هنا للمرأة التي جار عليها زوجها، فلم يعطها من حقوق الزوجية شيئا.. فهى زوج وليست زوجا.. وإطلاقها فى تلك الحال خير من إمساكها.. وخامسا: قوله تعالى: «وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» إيذان من الله سبحانه وتعالى بالتجاوز عن الاضطراب الذي يقع فى ميزان العدل بين الزوجات إذا اتّقى الزوج ربّه فى النساء اللائي فى يده، وأعطى كل واحدة منهن حقها قدر المستطاع.. وإلا فهو آثم ظالم، لا تناله مغفرة الله ورحمته. وقوله تعالى: «وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً» هو دعوة إلى إطلاق سراح المرأة التي لا تنال حظوة عند زوجها، ولا ينظر إليها نظرة الرجل إلى المرأة، وما لها من حقوق مادية ومعنوية عنده.. فإطلاقها فى تلك الحال خير لها من إمساكها، الذي هو إيذاء لها، وإهدار لوجودها.. والمرأة التي يمسك بها الرجل، وهى فى هذا الوضع الجائر.. إمّا أن تكون ذات مال، يريدها الرجل لمالها.. فليتركها، وليطلق سراحها.. والله سبحانه وتعالى يغنيه من فضله، وأول هذا الغنى هو أن يحفظ كرامته، ويحترم رجولته، فلا يكون طعامه وشرابه من هذا المال الذي يسلبه من يد ضعيفة، دون مقابل له. وإما أن تكون فقيرة مستضعفة، لا تجد من يكفلها، فهى مقيمة على هذا الضيم، لقاء لقمة عيش، أو كسوة بدن.. فلتخلّص نفسها من هذا القيد، ولتحرّر روحها، وتصحح إنسانيتها، فتلك هى الحياة، ولا حياة مع الذلة والمسكنة، ومع شبع البطن وجوع الروح، وكسوة الجسد، وعرى الإنسانية! والله سبحانه وتعالى هو الرزّاق ذو القوة المتين.. قد كفل لها رزقها، كما كفل لكل كائن حىّ رزقه: «وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً» ! فمن سعة فضله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 921 يقوت الأحياء، ومن بالغ حكمته أن يدعو الإنسان إلى السموّ بروحه، والاستعلاء بذاته.. فذلك هو الإنسان.. أما ماوراء ذلك من ماديات الإنسان فهى تبع، وليست أصلا، وهى ثان وليست أولا. الآيات: (131- 134) [سورة النساء (4) : الآيات 131 الى 134] وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) التفسير: فى الآيات السابقة استعرض القرآن الكريم وجوه الناس: من مؤمنين، ومنافقين، وكافرين، وأقام كل فريق منهم بالمكان الذي هو أهل له، من قرب أو بعد من الله، وما أعدّ له من ثواب أو عقاب.. وقد ختمت هذه الآيات باستعراض لقدرة الله سبحانه، وسعة ملكه، وبسطة نفوذه، وذلك فى قوله تعالى: «وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً» .. ثم تلا ذلك وقفة مع المؤمنين فيما يعنيهم من أمر دينهم، وكان ذلك فى أمور تتصل بالنساء وعلاقة الرجال بهن، وقد جاءهم من الله فى هذا البلاغ المبين.. وهنا فى هذه الآيات استدعاء للناس جميعا، من مؤمنين، وكافرين، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 922 ومنافقين، ليشهدوا جلال الله وعظمته، فيما صوّر وخلق مما فى السموات والأرض، وكلها صنعة يده، وحوزة ملكه: «وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ! وفى تقديم الخبر على المبتدأ فى قوله تعالى: «وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ما يفيد اختصاص الله سبحانه وتعالى وحده بالملكية لما فى السموات والأرض.. لا يشاركه فى ذلك شريك.. وفى قوله تعالى: «وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ» بعد هذا الاستعراض لقدرة الله وسلطانه المتفرد على هذا الوجود- فى هذا جلاء لغشاوات الضلال التي انعقدت على كثير من البصائر فحجبت عنها الرؤية الواضحة لله. فلم تره إلا فى ضباب هذه الضلالات.. ربّا مع أرباب، وإلها فى مجمع من الآلهة..! فإذا نظر الإنسان إلى ما فى ملكوت السموات والأرض من آثار رحمة الله، وقدرته، وعلمه وحكمته، ثم استمع لدعوة الحق سبحانه وتعالى التي يدعو بها عباده إليه: «أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ» - كان خليقا به، لو أمعن النظر، وأحسن التفكير- أن يستجيب لدعوة الله، وأن يؤمن به، ويتّقى حرماته.. فتلك هى الصلة السليمة التي ينبغى أن تقوم بين الإنسان وخالقه، وتلك هى الوصاة التي يوصّى الله بها عباده، ويحملها إليهم رسله! «وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ» .. والمراد بالذين أوتوا الكتاب من قبلنا، هم اليهود والنصارى، حيث هم الذين التقوا بالمسلمين من أهل الكتاب، وإن كان هناك كثيرون من المؤمنين أصحاب كتاب سماوى، غير اليهود والنصارى، ولكن ذهبوا وذهبت كتبهم، ولهذا كان ذكر أهل الكتاب فى القرآن دائما، مقصودا به اليهود والنصارى وحدهم. قوله تعالى: «وَإِنْ تَكْفُرُوا» هو مقابل لقوله سبحانه: «أَنِ اتَّقُوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 923 اللَّهَ» .. فالمراد بتقوى الله هنا، هو الإيمان به إيمانا صحيحا، غير مشوب بشرك أو ضلال. وقوله تعالى: «فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» إشارة إلى أن إيمان المؤمنين وشرك المشركين، ونفاق المنافقين، وكفر الكافرين، كل ذلك لا متعلّق له بالله، إذ لا يؤثر ذلك فى قدرة الله، ولا يزيد أو ينقص من سلطانه شيئا.. فهو المالك لكل شىء والقائم على كل شىء.. ولهذا جاءت خاتمة الآية هكذا: «وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً» أي أنه سبحانه فى غنى عن خلقه، لا ينفعه إيمان المؤمنين، ولا يضرّه كفر الكافرين، وإنما يعود نفع الإيمان أولا وآخرا إلى صاحبه، كما يعود ضرر الكفر أولا وآخرا إلى صاحبه.. والله سبحانه وتعالى يقول: «مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ» (44: الروم) أي فلأنفسهم يصلحون الطريق الذين يصلهم بالله، ويوصلهم إلى مرضاته ونعيم جنّاته. والحميد، هو المستأهل للحمد، المستحق له من جميع مخلوقاته، إذ أوجدهم من عدم، وألبسهم نعمة الوجود.. فالحمد لله، هو تسبيحة المخلوقات جميعا، من آمن منهم بالله ومن لم يؤمن، وفى هذا يقول الله تعالى: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» (44: الإسراء) . وقد يقال: كيف يسبّح الكافر بحمد الله، وهو ينكره ولا يعترف بوجوده؟ والجواب على هذا، أن الكافر إنما هو صنعة الله، وهو يعيش فى ملك، الله ويتقلب فى نعمه، وأنه منقاد لمشيئة الله فى كل نفس يتنفسه، وفى كل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 924 عمل يعمله، ثم هو آخر أمره صائر إلى الله.. إنه لم يخلق نفسه، ثم إنه لن يميت نفسه.. بل الله سبحانه هو الذي أوجده، وهو الذي يميته.. ثم هو الذي تولّاه منذ أوجده إلى أن أماته.. فهو وإن اشتمل باطنه على الكفر بالله، وبفضله عليه، فإن وجوده كلّه وما يحيط به هو صوت جهورىّ، يؤذّن بحمد الله، ويسبّح بآلائه ونعمائه. قوله تعالى: «وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» تسبيحة أخرى من تسبيحات الحمد لله، والإقرار بألوهيته، والولاء له من مخلوقاته جميعا، وكفى به- سبحانه وتعالى- وكيلا، يدبّر أمر هذه المخلوقات، ويقيمها على ما تقضى به حكمته. وقوله سبحانه: «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ، وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً» هو تذكير بقدرة الله، كما هو إشارة إلى ضآلة شأن الإنسان الذي يخيّل له من جهله وغروره أنه سيّد هذا الوجود، ثم يمتد به حبل هذا الجهل والغرور، فيحسب أنه هو الذي يخلق، ويرزق، وأنه ليس له خالق أو رازق! وهذا سفه وضلال، فلو شاء الله أن يردّ الناس إلى عدم، كما أنشأهم من عدم، لكان ذلك على الله يسيرا.. «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (82: يس) . وفى قوله تعالى: «وَيَأْتِ بِآخَرِينَ» إثارة لغريزة حب البقاء فى الإنسان، ودعوة له إلى التشبث بوجوده، وفى ذلك ما يحمله على اللّجأ إلى الله، والولاء له، والتعلق بذاته، حتى لا يقع تحت هذا الحكم الذي يكاد يذهب به مذهب الضياع والفناء. وهؤلاء الآخرون.. على أية صفة يكونون؟ أهم ناس كهؤلاء الناس، أم مخلوقات من أجناس أخرى من غير جنسهم؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 925 وإذا كان هؤلاء الآخرون هم صورة أخرى لهؤلاء الناس، فما الحكمة من إذهاب هؤلاء والإتيان بأولئك؟ والجواب- والله أعلم- هو أن يكون هؤلاء الآخرون من عالم الناس.. فهذا هو الذي يحرك مشاعر الغيرة فى هؤلاء الذين يراد بهم التحول عن مكانهم ليشغله غيرهم من بنى جنسهم، حيث لا تكون الغيرة والتنافس إلا بين أفراد الجنس، وبين جماعاته. ثم إن الناس ليسوا على حال واحدة- وإن كانوا جنسا واحدا- فمنهم المؤمنون ومنهم الكافرون، وفيهم المهتدون وفيهم الضالون.. وعلى هذا يمكن أن يكون الإذهاب للضالين الكافرين، والإتيان للمؤمنين المهتدين، أو لمن يغلب فيهم الإيمان والهدى على الكفر والضلال. وقوله تعالى: «مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» هو دعوة لأولئك الذين يقيمون وجودهم كله على هذه الحياة الدنيا، فلا يلتفتون إلى أمر الآخرة، ولا يعملون لها، وبهذا يضيّقون على أنفسهم، ويحجزونها فى هذه الدائرة المحدودة، مع أنهم- لو عقلوا- لملئوا أيديهم من خير الدنيا والآخرة جميعا.. إذ ليس بين الدنيا والآخرة تعارض وتنافر.. فالدنيا- فى حقيقتها- مزرعة للآخرة، وإحسان العمل فى الدنيا، وإقامته على وجه صحيح مثمر، هو فى ذاته عمل للآخرة. قوله تعالى: «وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً» أي أنه سبحانه وتعالى مطّلع على أعمال العباد، يسمع ما يقولون، ويبصر ما يعملون، فما كان من أعمالهم وأقوالهم خالصا للدنيا وحدها، فقد استوفوا حظهم منه، ولا نصيب لهم فى الآخرة.. وما كان منها للدنيا والآخرة معا، كان لهم منه نصيب فى الدنيا وفى الآخرة.. أما نصيب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 926 الدنيا فقد استوفوه وهم فيها، وأما ما كان للآخرة فهو مدّخر لهم عند الله يجزون به يوم لقائه. الآية: (135) [سورة النساء (4) : آية 135] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) التفسير: المؤمنون هم أمناء الله بين الناس على دينه، وهم ميزان العدل لشريعته، فإذا اضطرب ميزان العدل فى أيديهم، فقد خانوا دين الله، واعتدوا على شريعته، ولم يصبحوا- لذلك- أهلا لأن يكونوا أولياء الله، ولا أن يحسبوا فى المؤمنين به. وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ» هو أمر ملزم للمؤمنين جميعا.. فردا فردا، وجماعة جماعة، وأمة أمة.. والقسط هو العدل. والقسطاس: الميزان، وأقسط القاضي: عدل، وقسط جار وظلم.. والقوّام: كثير القيام، فى مبالغة واهتمام. وفى قوله تعالى: «كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ» ما يشعر بأن حمل أمانة العدل ليس أمرا هينا، وإنما هو حمل ثقيل، لا يقوى عليه إلّا من وثق إيمانه بالله، وأخلى نفسه من نوازع الضعف المادية والمعنوية، فلا يجعل لنفسه أو لمخلوق حسابا فى أداء هذه الأمانة وإقامة ميزانها مستقيما على ما أمر الله به.. وكلمة «قوامين» غير كلمة «قائمين» .. لأنها تشعر بالشدّ والجذب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 927 والمعاناة، فى لفظها، وفى معناها، المستدلّ عليه من هذا اللفظ: «قوامين» ! والشهداء، هم الشهود، الذين يحضرون مجلس القضاء، ويشهدون الفصل فى الخصومة، ويدلون بما شهدوه وأشهدوا عليه بين المتخاصمين.. فميزان العدل لا يقيمه القاضي وحده، وإنما يد الشهود ممسكة بهذا الميزان، مشتركة مع القاضي فى إقامته معتدلا أو مائلا.. ولهذا كان أمر الله هنا بإقامة ميزان العدل، متجها إلى القاضي، وإلى الشهود معا: «كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ» .. وفى إضافة الشهادة إلى الله تكريم لها، واحتفاء بها، ورفع لقدرها، إذ كانت محسوبة على الله، لأنها تقيم شرعه، وتحق الحقّ الذي هو حرمة الله. فالذى يؤدى الشهادة على وجهها إنما يؤديها لله، وينصر بها حق الله، والذي ينحرف بها، ويشوّه وجهها، إنما هو معتد على الله، خائن لأمانته. قوله تعالى: «وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» أي ولو كانت الشهادة تدين أنفسكم، وتلحق الضرر بكم.. فحق الله عليكم أوجب من حق أنفسكم إن كنتم تؤمنون بالله، وتؤثرون مرضاته! وقوله سبحانه: «أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ» معطوف على قوله تعالى: «وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» أي كونوا قوامين بالقسط شهداء لله، ولو كان فى ذلك إدانة لكم أو لوالديكم، أو للأقربين منكم. وقوله تعالى: «إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما» أي أدّوا الشهادة على وجهها، وأقيموا ميزان العدل منها، دون حيف على الفقير لفقره وضعفه، ودون عدوان على الغنى لصالح الفقير ودفع الضرر عنه.. فالحق هو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 928 الحق، وفى ساحته يتساوى الناس جميعا، دون نظر إلى ما يتلبّس بهم من ظروف وأحوال.. والضمير فى قوله تعالى «إِنْ يَكُنْ» يرجع إلى المشهود له والمحكوم لصالحه من المتنازعين، ممن كان غناه أو فقره محل تقدير الشاهد، وانحراف شهادته، أو كان محل نظر القاضي وموضع عطفه.. والمعنى: إن يكن المشهود له أو المحكوم لصالحه غنيا أو فقيرا، فليس من شأنكم أيها الشهود ولا من حقكم أيها القضاة أن تدخلوا هذا فى حسابكم، وأن تترضّوا عواطفكم على حساب الحق والعدل.. لأن الله سبحانه وتعالى هو أولى منكم بتقدير حال كل من الغنى والفقير، إذ لو شاء لأفقر الغنىّ وأغنى الفقير، أو شاء لأعناهما جميعا أو لأفقرهما معا.. وقوله تعالى: «فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا» هو تحذير من تلك الأهواء والعواطف التي يجدها القاضي أو الشاهد، لذوى قرابته، وأصدقائه، أو لأصحاب الجاه والسلطان، أو لأهل الحاجة والضر.. فهذه العواطف من شأنها أن تنحرف بالشاهد عن أن يؤدى الشهادة على وجهها، كما أنها تمسك يد القاضي أن يقيم ميزان العدل فى مجلس القضاء، إن لم يقم عليها وازع من دين وخلق. وقوله تعالى: «أَنْ تَعْدِلُوا» فى تأويل مصدر، مجرور بلام التعليل، والتقدير: فلا تتبعوا الهوى لتعدلوا، أي لإقامة العدل لا تتبعوا الهوى. قوله تعالى: «وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» اللّيّ: الميل والانحراف، والمراد به تغيير وجه الشهادة، يقال: لوى فلان وجهه عن الشيء يلويه ليا إذا نظر إليه مزورا أو منحرفا، ومنه قوله تعالى فى اليهود وفى تحريفهم الكلم عن مواضعه: «مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ» (46: النساء) (59- التفسير القرآنى ج 5) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 929 وفى الآية الكريمة تحذير من الانحراف بالشهادة، أو الإعراض عنها، أو كتمانها، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا» (282: البقرة) . الآية: (136) [سورة النساء (4) : آية 136] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) التفسير: الإيمان.. كلّ لا يتجزأ.. وحقيقة كبرى تندرج تحتها حقائق.. فمن آمن ببعض وكفر ببعض فليس مؤمنا، وإلا لو كان مؤمنا حقا بهذا الذي آمن به، لأسلمه إيمانه هذا، إلى الإيمان بما لم يؤمن به من جزئيات الحقيقة الكبرى. وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» هو نداء لمن دخلوا فى الإيمان، وحسبوا فى المؤمنين.. وإنه لكى يكونوا مؤمنين حقّا ينبغى أن يكون إيمانهم قائما على الحقائق الآتية: أولها: الإيمان بالله.. فهو ركيزة الإيمان، ودعامته.. وثانيها: الإيمان برسول الله، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وبالكتاب الذي بين يديه، وهو القرآن. وثالثها: الإيمان بالكتب السماوية المنزلة من قبل، وبرسل الله جميعا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 930 ورابعها: الإيمان بالملائكة، وأنهم خلق من خلق الله، وجند من جنده. وخامسها: الإيمان باليوم الآخر.. أي بالبعث والجزاء والجنة والنار.. فمن آمن على هذا الإيمان، فهو مؤمن حقّا، وعليه أن يعمل عمل المؤمنين، وله أن يجازى جزاء المحسنين. ومن كفر ببعض تلك الحقائق وآمن ببعض، فهو- كما قلنا- ليس من الإيمان فى شىء، لأن ما يبنيه أولا يهدمه ثانيا.. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً» (150- 151: النساء) الآيات: (137- 139) [سورة النساء (4) : الآيات 137 الى 139] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 931 التفسير: النفاق أقتل داء يصيب المجتمع الإنسانى.. فإذا تفشّى هذا الداء الخبيث فى جماعة من الجماعات فسد وجودها، وضل سعيها، وغشيتها أمواج الفتن، واشتملت عليها عواصف العداوة والبغضاء! وماذا يرجى من جماعة تتعامل فيها بينها بالرياء والنفاق، فيضيع فى محيطها المفهوم الحقيقي للّغة، وتصبح الكلمات لديها عملة زائفة، يتداولها الناس كما يتداولون الأشياء المسروقة؟ وكيف الحياة لمجتمع يعيش على الختل والخداع، ويغتذى من مادة الكذب والزور.. فلا يثق أحد فى أحد، ولا يأمن أحدا أحدا، ولا يفرق أحد بين ما هو حق أو باطل.. إن حياة النفاق تقتل فى الإنسان كل معانى الشرف والفضيلة. وتحلّه من كل ارتباط مع مبدأ أو خلق.. فهو أنانىّ، انتهازىّ.. يضحى بالناس جميعا فى سبيل مصلحته وسلامته.. من أجل هذا، وكثير غيره مما ينضح به النفاق من شر وبلاء- حارب الإسلام النفاق والمنافقين، وعمل على تطهير المجتمع الإسلامى وحمايته من هذا الداء الخبيث، الذي هو شر ما يبتلى به إنسان أو مجتمع. وقد فضح القرآن الكريم المنافقين، الذين اندسوا فى المجتمع الإسلامى، فأغرى المسلمين بهم، ليخرجوهم من بينهم، وليتجنبوا الاتصال بهم، والتعامل معهم.. وفى قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا، ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً..» - ما يكشف عن الأسلوب الذي يتّبعه المنافقون فى الحياة، مع كل أمر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 932 وفى كل موقف.. إنهم لا يستقيمون مع حال أبدا، وإنما حوّل قلب، حسب ما تمليه أهواؤهم، وتدعوهم إليه مصلحتهم.. فتراهم يأخذون بالأمر غدوة، ثم يرفضونه عشيّة، ثم يعودون فيأخذون به.. ثم يعرضون عنه.. وهكذا.. لأنهم لا يقيمون حكمهم على الأشياء لذاتها، وما تحمل فى كيانها من خير أو شر، وإنما يحكمون عليها حسب ما تمليه أهواؤهم، وتقتضيه حاجاتهم العاجلة منها.. وفى العقيدة، التي من شأنها أن تقوم فى كيان الإنسان مقاما راسخا، لا يتحول، ولا يهتزّ- تراهم يتعاملون بها وكأنها سلعة فى أيديهم، لا معتقد فى قلوبهم.. فيعرضونها للبيع، ويضعونها فى يد من يدفع ثمنا أكثر.. وانظر ما كان منهم مع دعوة الإسلام.. كانوا كافرين، فرأوا الناس يردون شرعة الإيمان، فآمنوا.. ثم رأوا سانحة تسنح لهم وراء حدود الإيمان، فتسللوا من بين صفوف المؤمنين، وخلعوا رداء الإيمان.. فكفروا. ثم لاح لهم فى مستقبل الإيمان مغنم يغنمونه.. فآمنوا. ثم لما أن حصلوا على ما أرادوا، ولمع لهم سراب وراء أفق الإيمان، أقبلوا إليه، وخلّفوا الإيمان وراءهم.. فكفروا. ثم.. ثم ازدادوا كفرا.. إذ لم يبق هذا الجري اللّاهث فى ترددهم بين الإيمان والكفر- لم يبق لهم بقيّة من جهد يعودون به إلى الإيمان مرة أخرى.. وبهذا ينتهى أمرهم فى آخر المطاف بهم، إلى الارتماء فى أحضان الكفر.. الذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 933 يموتون عليه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا» . فهذا تيئيس من مغفرة الله لهم، لأنهم لن يؤمنوا أبدا.. فهم بهذا واقعون تحت قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ» ! ثم إنهم إذ لم ينالوا مغفرة الله، ولم يتعرضوا لها، متركون لشأنهم وما اختاروا، وقد اختاروا الضلال، واستحبّوا العمى، واتخذوا الشيطان وليّا من دون الله. «وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً» (119: النساء) .. فهم بهذا واقعون تحت قول الله تعالى: «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (257: البقرة) .. إنّهم أولياء الطاغوت. هذا، وفى الآية الكريمة ما يكشف عن طبيعة الصراع بين الخير والشر، وأن داعى الشرّ فى الإنسان أكثر إلحاحا من داعى الخير، إذ كان مع الشر قوى خفيّة فى الإنسان تميل إليه، وتنتصر له، وهى أهواء النفس، ووساوس الشيطان.. فإذا لم ينتبه الإنسان إلى هذا الخطر الكامن فى كيانه، وإذا لم يقم على أهوائه حارسا من عقله وإرادته، ووازعا من دينه وخلقه، تسلّط الشر عليه، واستبدّ به، وملك أمره.. ولو أن هؤلاء الذين آمنوا ثم كفروا، ثم آمنوا ثم كفروا- لو أنهم وقفوا وقفة حازمة من أول الأمر فى وجه تلك الأهواء المسلطة عليهم، لما جرفهم هذا التيار الذي ألقى بهم فى غمرات الكفر والضلال، بحيث لا أمل لهم بعد هذا فى نجاة أو خلاص!. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 934 وقوله تعالى: «بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» هو كشف صريح لوجه هؤلاء الذين تردّدوا بين الإيمان والكفر.. فهم منافقون، وليس للمنافقين إلا العذاب الأليم.. وفى سوق العذاب الأليم إلى المنافقين بين يدى من يبشرهم به، ما يشير إلى شناعة موقف هؤلاء المنافقين وشؤم مصيرهم، وأنه إذا كان لهم ما يبشرون به فى الآخرة فهو هذا العذاب الأليم! فكيف ما يساءون به من ألوان المساءات، وهو شىء كثير شنيع.؟ وقوله تعالى: «الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ» هو صفة كاشفة لوجه من وجوه المنافقين، ذلك الوجه الذي يلقون به الكافرين فى ولاء ومودة.. وهذا يعنى أنهم على عداوة للمؤمنين، إذ أقاموا مع عدوّهم حلفا عليهم، يتمثل فى هذا اللقاء الودىّ بينهم وبين الكافرين.. والله سبحانه وتعالى يقول: «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ» (22: المجادلة) . ولكن هكذا المنافق، لا يمسكه مبدأ من خلق أو دين، وإنما تحركه أهواؤه، وتدفعه نزواته إلى الاتجاه الذي يتظنّى أن يجد فيه لقمة سائغة له! وفى قوله تعالى: «أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ» ما يكشف عن الغاية التي يتغيّونها من تعلقهم بحبال الكافرين، واستظلالهم بظلهم.. إنهم يريدون أن يستندوا إليهم، ويحتموا بجبهتهم، إذ خيّل إليهم أن جانب الكافرين هو القوىّ، بما فيهم من كثرة عدد، ومن سعة غنى، على حين كان المسلمون فى قلة من الرجال والأموال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 935 والاستفهام هنا إنكارى تهديدى، يكشف للمنافقين سوء تقديرهم، وخسارة صفقتهم التي عقدوها مع الكافرين.. «فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً» .. وإن أخسر الناس صفقة، من أراد العزة فاتخذ غير الله طريقا إليها، وغير المؤمنين أولياء له فى طلبها.. إن العزة لله جميعا، وإن العزة لأولياء الله، ولمن والى أولياء الله.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ» (8: المنافقون) . الآية: (140) [سورة النساء (4) : آية 140] وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) التفسير: للنفاق مداخل كثيرة إلى القلوب، فهو يتدسّس إلى الإنسان فى خفاء، ويتحسس مواطن الضعف منه فينفذ إليها، حتى يتمكن منها، وإذا المرء وقد عشش فيه النفاق، ثم باض وأفرخ، وإذا هو فى المنافقين، لا يملك دفع هذا الداء الذي جثم على صدره. لهذا كان الإسلام حريصا على أن ينبّه المسلمين إلى هذا الخطر، ويحذّرهم من أن يلمّوا به، أو يحوموا حوله، حتى لا تصيبهم عدواه، فيتعذر شفاؤهم منه.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 936 وفى طبّ الأجسام، أنّ الوقاية خير من العلاج، وهى فى طبّ الأرواح أوجب وألزم. وقوله تعالى: «وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ» - هو تنبيه للمسلمين من داء النفاق أن ينفذ إليهم إذا هم جلسوا مجلسا مع أعداء الله من المنافقين الكافرين، ثم ذكرت فى هذا المجلس آيات الله على لسان هؤلاء المنافقين الكافرين، فى معرض الاستهزاء والسخرية، ثم لم يكن من المسلمين إنكار لهذا المنكر ودفع له باليد أو اللسان- وذلك بأن يكونوا فى حال ضعف لا يقدرون معه على مواجهة هؤلاء المجتمعين على المنكر.! والموقف الذي يجب أن يتخذه المؤمن فى تلك الحال هو أن يخلص بنفسه من هذا المجلس الآثم، وألّا يستمع لهذا المنكر الذي يدور فيه.. فإنه إن لم يفعل، وسكت على ما يسمع- وهو مغلوب على أمره- كان صمته هذا- ولو فى ظاهره- دليلا على رضاه، ومظاهرة لأهل المنكر على منكرهم، وليس- والحال كذلك- من شفيع يشفع له بأنه ليس من أهل هذا المجلس، يقتسم معهم الإثم الذي يدور بينهم، ويحمل نصيبه منه.. وفى قوله تعالى: «وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ» إشارة إلى ما نزل قبل هذا من قرآن فى مثل هذا الموقف، وهو قوله تعالى: «وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ» (68: الأنعام) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 937 فهذه الآية هى توكيد لهذا التنبيه الذي سبق نزول القرآن به من قبل، وتحذير جديد لأولئك الذين لم ينتهوا عمّا نهوا عنه، والخطاب فى الآية موجّه إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم، هو أمر ملزم لأتباع النبىّ، إذ كان النبيّ إمامهم وقدوتهم. وقوله تعالى: «يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها» هو حال كاشفة للصفة التي تدور بها آيات الله على ألسنة الكافرين والمنافقين.. وهى أنها تدور للسخرية والعبث. وقوله تعالى: «فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ» هو نهى للمسلمين عن الجلوس فى هذا المجلس القائم على تلك الصفة، وليس نهيا عاما مطلقا على تجنب الجلوس مع المنافقين والكافرين، ففى ذلك إعنات للمؤمنين، فقد تستدعى أحوالهم أن يكونوا بحيث لا منصرف لهم عن الحياة مع هذه الجماعة، وتبادل المنافع معها! على أن من السلامة لدين المؤمن أن يتجنب مجالس هؤلاء القوم ما استطاع، فإذا مسّت هذه المجالس دينه بما يسوء، كان أمرا لازما عليه أن يتحول عن هذه المجالس فى الحال، ولا يخلط نفسه بها، وإلّا حمل وزره من الإثم الذي يتعاطاه فيها أهل النفاق والكفر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ» أي لا فرق بينكم أيها المؤمنون وبين هؤلاء الأثمة، الذين يهزءون بآيات الله ويسخرون منها، إذا أنتم استمتعتم إلى هذا المنكر ولم تنكروه.. وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً» تهديد ووعيد بهذا المصير المشئوم الذي ينتظر الكافرين والمنافقين، ومن يلوذ بالكافرين والمنافقين، ويركن إليهم، ويستمع للزور الذي يدور بينهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 938 الآية: (141) [سورة النساء (4) : آية 141] الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141) التفسير: وجه آخر من وجوه النفاق.. وما أكثرها.. فإنه حين يكون بين المؤمنين والكافرين قتال، يأخذ المنافقون موقفا بين هؤلاء وهؤلاء.. ولو استطاع الواحد منهم أن يقسم نفسه شطرين لفعل، فكان شطرا مع المؤمنين، وشطرا مع الكافرين.. فإذا انتصر المؤمنون عدّ نفسه فيهم، وأخذ نصيبه من الغنائم معهم.. وإذا كانت الدولة للكافرين حسب نفسه منهم، وجنى من ثمرة النصر ما يجنون! ولكن ثوب النفاق يفضح أهله، حيث يخيّل للابسه أنه مستور، ولكنه فى أعين الناس متجرد عار، مكشوف السوأة. وقوله تعالى: «الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ» إشارة كاشفة لموقف المنافقين، وهو موقف التربص والانتظار لما ينجلى عنه الموقف فيما يدور بين المؤمنين والكافرين من صراع. وقوله تعالى: «فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ» هو فضح لهذا الوجه الوقاح الذي يستقبل به المنافقون المؤمنين بعد النصر والغلب.. فلقد كانوا فى المؤمنين بأجسادهم، يمشون بها فى تثاقل وانحراف، والحرب دائرة، والقتال مستعر، وها هم أولاء يضيفون أنفسهم إليهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 939 وفى إضافة الفتح إلى الله، تذكير للمؤمنين بأن ما كان لهم من نصر فهو من عند الله، بتأييده للمؤمنين، وإلقاء الرعب فى قلوب الكافرين. وفى تسمية انتصار المؤمنين فتحا إشارة إلى أن هذا النصر هو فتح لمغالق الخير، وطرق الهدى. وقوله تعالى: «وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» كشف عن وجه آخر من وجوه المنافقين حين يلقون به الكافرين، وقد كانت لهم جولة على المسلمين.. يقولون لهم: «أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ» أي ألم نستول عليكم فى المعركة ونملك أمركم؟ ولكنا تخاذلنا، وأرخينا أيدينا عنكم، فتخاذل المسلمون وانهزموا؟ ولولا أننا لم نفعل ذلك لدارت الدائرة عليكم.. فنحن شركاؤكم فى هذا النصر الذي كان لكم، بل الذي نحن صانعوه لكم! والاستحواز على الشيء، وعلى الأمر: التمكن منه، والتسلط عليه.. وقوله تعالى: «فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» .. الضمير فى بينكم يعود إلى المؤمنين، المخاطبين بهذه الآية، وقد يكون مرادا به المؤمنون والكافرون والمنافقون، والتقدير: فالله يحكم بينكم جميعا.. أو يكون مقصورا على المؤمنين وحدهم، والتقدير: فالله يحكم بينكم وبينهم. ولم يذكر المنافقون والكافرون هنا فى هذا المقام إشعارا بأنهم ليسوا أهلا لأن يكون لهم وزن فى هذا الشأن، الذي هو شأن المؤمنين وحدهم، وقضيتهم التي يراد لهم الفصل فيها، لأنهم هم أصحاب هذا اليوم- يوم الفصل- حيث يجنون أطيب ما فيه من ثمرات! وقوله تعالى: «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا» هو وعد من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين- إذا صدق إيمانهم- ألا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 940 تكون للكافرين يد عليهم، بل إن يد المؤمنين هى العليا دائما، ويد الكافرين السفلى أبدا.. الآيتان: (142- 143) [سورة النساء (4) : الآيات 142 الى 143] إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) التفسير: جناية المنافقين على أنفسهم جناية فادحة.. إذ يعيشون بهذا الداء، ولا يجدون له فى أنفسهم ألما، ولا يحسون له فى ضمائرهم وخزا، ومن ثمّ كان داؤهم هذا داء عصىّ الدواء، إذ كيف يطلب الدواء من لا يعرف الداء ولا يجد له ألما؟ ذلك أخبث داء وأقتل علّة.. حيث يأخذ هذا الداء من كيان صاحبه كل يوم بضعة، وتغتال هذه العلة من وجوده جانبا، دون أن يحسّ أو يشعر حتى إذا جاء يوم استفاق فيه من سكرته، وجد الداء مستوليا عليه، ولا مكان للإنسان فيه!. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ» إذ هم يحسبون أنهم بهذه الأثواب التنكرية التي يلبسونها فى أحوالهم المختلفة- قد خدعوا الله وخدعوا الناس.. وفى الحقيقة أنهم قد خدعوا أنفسهم، وأضلّوها عن سواء السبيل، وركبوا بها هذا المركب الذي يقذف بهم فى قرار الجحيم.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 941 وفى المنافقين يقول الله سبحانه: «يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ» (9: البقرة) وخداع الله سبحانه للمنافقين هو أن يفسد عليهم تدبيرهم، وأن يردّ كيدهم إليهم، وأن يخلّيهم لأنفسهم، ويأخذهم بجريرتهم.. «وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ» (43: فاطر) وقوله تعالى: «وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى» هو مثل لمخادعتهم لله.. يقومون إلى الصلاة فى تكرّه وتخاذل، لأنهم لا يريدون الصلاة للصلاة، ولا يؤدونها أداء لحق الله، وشكرا لنعمائه، وإنما هم يؤدونها حتى يدفعوا بهذا الأداء الآلىّ تهمة الكفر، وحتى تكون أشبه بذرّ الرماد فى العيون. وهذا ما بيّنه قوله تعالى: «يُراؤُنَ النَّاسَ» أي لا يذكرون الله إلا حيث يرون الناس ويراهم الناس.. فالمراءات، رؤبة متبادلة بين طرفين، كل منهما يرى الآخر.. وهذا يعنى أن المنافقين لا يصلّون إلّا حين يرون الناس، وإلا حين يراهم الناس وهم فى الصلاة، فإن كان فى الناس غفلة عنهم، لفتوهم إليهم بحركة أو إشارة، أو رفع صوت، أو نحو هذا. وقوله تعالى: «وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا» إشارة إلى خلوّ أنفسهم من مشاعر الإيمان بالله واستحضار عظمته وجلاله..! والذكر القليل الذين يذكرون الله به، هو ما يكون منهم حين تلمّ بهم الأحداث، أو تكربهم الكروب، فإذا انجلى عنهم هذا الذي نزل بهم، عادوا إلى ما كانوا فيه من غفلة عن الله، وذهول عن ذكره، بما هم فيه من شغل بأنفسهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 942 وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ» (8: الزمر) . وقوله تعالى: «مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ» هو بيان كاشف للحياة التي يحياها المنافقون، وأنها حياة قلقة مضطربة، لا تقوم على مبدأ، ولا تستقيم على طريق.. والذبذبة الاضطراب، والتردد، بين موقفين أو أكثر.. وكأنها مشتقة من الذّبّ، وهو الدفع والطرد، ومنه سمّى الذباب، لأنه يطرد، ثم يعود، ثم يطرد، ثم يعود، وهكذا.. وقوله تعالى: «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا» هو تيئيس لهؤلاء المنافقين، الذين تقلّبوا فى وجوه النفاق، ففسد وجودهم كلّه، ولم يعودوا صالحين للعودة إلى الطبيعة البشرية السليمة.. فلا سبيل لهم- والأمر كذلك- إلى الخلاص من هذا الداء الذي تمكن منهم! ثم إن هذا الحكم هو تنبيه إلى هؤلاء الذين هم على شاطىء النفاق، وفى أول الطريق إليه.. وأنهم إذا لم يلتفتوا إلى أنفسهم، ويحذروا الخطر الذي هم بين يديه، اشتمل عليهم واحتوى وجودهم، ولحقوا بمن سبقهم من المنافقين! وإضلال الله للمنافقين، إنما كانت نسبته إلى الله، لأنه أشبه بتصديق على حكم أصدروه هم على أنفسهم، وصنعوا بأيديهم حيثياته وأدلّته..َ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (33: النحل) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 943 الآيات: (144- 147) [سورة النساء (4) : الآيات 144 الى 147] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147) التفسير: وإنه بعد أن كشف الله سبحانه وتعالى للمؤمنين هذه الوجوه المنكرة للمنافقين وأطلعهم على هذا المصير المشئوم الذي هم صائرون إليه.. فقد جاء سبحانه وتعالى إلى المؤمنين يحذّرهم هؤلاء المنافقين، حتى لا يصيبهم ما أصابهم وسيصيبهم من ذلة وهوان فى الدنيا، وعذاب ونكال فى الآخرة. وموالاة المنافقين، والميل إليهم، هو فى الواقع معاداة للمؤمنين ومجافاة لهم.. وهذا من شأنه أن يخلط المؤمنين الذين يوالون المنافقين بأهل النفاق، ويضيفهم إليهم، وهذا من شأنه أيضا أن يعرضّهم لما تعرض له المنافقون من سخط الله ونقمته، دون أن تكون لهم عند الله حجة، أو يقوم لهم بين يدى عذابه ونقمته عذر يعتذرون به! وقوله تعالى: «إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً» هو كشف للمؤمنين عن هول هذا العذاب الذي يلاقيه المنافقون، وأنهم فى الدرك لأسفل من النار، ينزلون منها للنزل الدّون، الذي بعده منزلة، الأئمة والكافرين! وقوله تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ» هو استثناء يفتح به باب الأمل والرجاء فى النجاة من هذا المصير، لمن بقيت منه فى كيان المنافقين بقية من خير، يستطيع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 944 بها أن يفتح له طاقة من نور يهتدى بها إلى طريق الله، فيرجع إليه، ويؤمن به، ويخلص دينه له، فلا يرجع إلى ما كان فيه مرة أخرى.. فإنه إن فعل كان فى المؤمنين، وكان له ما للمؤمنين من الأجر العظيم الذي وعدهم الله به: «وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً» . وقوله تعالى: «ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ» إشارة إلى ما للناس عند الله من واسع الرحمة وعظيم المغفرة، وأنه سبحانه وتعالى ليس إلها متسلطا جبارا يتشفىّ بعذاب عباده.. وكيف هذا وهم صنعة يده، وزرع مشيئته، وغذىّ فضله وإحسانه؟ إنه- سبحانه- يدعو عباده إليه، وييسر لهم سبل الاتصال به، والقرب منه، ولكن من غلبت عليه شقوته منهم- يأبى إلا أن يشرد عن الله، ثم يتمادى فى هذا الشرود، فيحارب الله، ويحارب أولياءه، ويقطع ما أمر الله به أن يوصل! فإذا أخذ هؤلاء الشاردون عن الله، المحاربون له، بذنوبهم، وسيقوا إلى عذاب جهنم- فهل ذلك إلا لأنهم أساءوا فوقعوا تحت حكم المسيئين؟ .. ولو أنهم أحسنوا لكان لهم جزاء المحسنين.. والله سبحانه وتعالى يقول: «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» (31: النجم) وفى تقديم الشكر على الإيمان هنا.. «إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ» إشعار بأن الإيمان لا يقوم إلا على مشاعر الولاء لله، ذلك الولاء الذي يتخلّق من النظر فى ملكوت السموات والأرض، ومن التدبر فى آيات الله المبثوثة فى كل ذرة من ذرات الوجود.. وهنا يجد العبد نفسه وقد صار لسانا شاكرا لله مسبحا بحمده. فالشكر هو المدخل الذي يجد فيه الإنسان طريقه إلى الله، والتعرف إليه.. ومن هنا كانت دعوة الإسلام إلى الله قائمة أولا على النظر إلى هذا الوجود، (م 60- التفسير القرآنى ج 6) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 945 وإلى ما فيه من موجودات، ينتظمها نظام، وتمسك بها قدرة، ويدبرها علم.. ثم نسبة هذا الوجود وما اشتمل عليه، إلى الصانع الذي صنعه، فأبدع صنعته، وأحكم وجوده.. وبهذا تتفتح الطرق إلى الله، حيث يسلكها الإنسان، متجها إلى الله فى خشوع وولاء، وفى لهج بالحمد والثناء.. ومن هنا قام الشكر مقام الإيمان، واعتبر فى ذاته إيمانا كاملا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ» (7: الزمر) أي وإن تؤمنوا يرضه- أي يرضى الإيمان- لكم، ويتقبله منكم. قوله تعالى: «وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً» . وشكر الله، هو رضاه عن الأعمال الصالحة التي يقدمها عباده له، فيقبلها منهم، ويحسن لهم المثوبة، ويضاعف لهم الجزاء عليها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 946 الآيتان: (148- 149) [سورة النساء (4) : الآيات 148 الى 149] لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149) التفسير: ليس داء أقتل للمجتمعات، ولا وباء أفسد لكيانها، وأفعل فى تقويض بنيانها- من الفاحشة، تنجم فيها، ثم تتردد أصداؤها فى آفاقها، وتنطلق أشباحها بين ربوعها، دون أن تجد فى الناس من يتصدّى لها، ويقف فى وجهها، ويدمدم على تلك الينابيع العفنة التي تتدفق منها.. فكلمة السوء تنطلق من فم سفيه، ثم تجد المرعى الخطيب فى آذان تستقبلها وقلوب تتفتّح لها، وأفواه ترددها- هذه الكلمة هى لعنة تلبس كل من أخذها، وتعامل بها.. وفعلة السوء.. هى كلمة السوء مجسّدة.. يلقاها الناس بعيونهم، على حين يلقون الكلمة بآذانهم.. والناس هم الذين يفسحون لكلمات السوء، وفعلات السوء مكانا بينهم، فتتوالد فيهم وتتكائر، وتصبح بعض وجودهم، وقد تستولى يوما على وجودهم كله.. ذلك حين يستقبلونها، ولا ينكرون ولا يضربون على أيدى المتعاملين بها. والناس- كذلك- هم الذين يئدون كلمات السوء فى مهدها، ويخنقونها قبل أن تتنفس أنفاس الحياة فى أجوائهم.. إذا هم أنكروها، وأنكروا أصحابها فيهم، وأخذوهم بالأدب الذي يردعهم ويردّهم عما هم فيه من ضلال! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 947 وفى أثر القدوة الحسنة، والقدوة السيئة، فى بناء المجتمع، أو هدمه، يذيع النبىّ الكريم هذا الهدى الرباني، ليكون دستورا يعيش فيه الناس، وميزانا يضبطون عليه مناهجهم فى القول والعمل.. يقول الرسول الكريم: «من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» .. وصدق رسول الله، الذي حلّاه ربه بهذا الوصف الكريم: «ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى» (2- 3: النجم) . فكم كلمة سوء، يرمى بها- عن قصد أو غفلة- فإذا هى شرر متطاير، بين يدى ريح عاصفة، يعلق بأذيال حصيد هشيم، ثم لا تلبث حتى تصير لهيبا يلتهم كل شىء، ويأتى على كل شىء! أتريد شاهدا لهذا؟ إليك إذن هذه الكلمة: «لا حكم إلا لله» . إنها من الكلمات القليلة التي دارت فى الحياة دورة كانت أشبه بإعصار مجنون، لفّ الناس تحت جناحه، ثم ألقى بهم من حالق، فإذا هم فى وجه فتنة عمياء، أهلكت الحرث والنسل.. وليس فى الكلمة علوّ فى البلاغة، ولا بدع فى الصياغة، ولا طرافة فى الأداء، بل هى فى تركيبها أقرب إلى المألوف الدارج من الكلام، منها إلى الطريف النادر! ثم إنها من جهة أخرى- ليست من الكلمات التي تخدش الحياء، أو تمسّ الدين.. بل هى- فى ظاهرها- كلمة حق، يمكن أن تكون على لسان العابدين المسبّحين! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 948 ومع هذا، فإن تلك الكلمة كانت أشأم كلمة ولدت فى الإسلام، وجرت على ألسنة المسلمين.! والتاريخ المعروف لميلاد تلك الكلمة، هو السنة السابعة والثلاثون من الهجرة، حين تمّ التصالح بين علىّ ومعاوية على التحكيم، بعد أن ذهبت الحرب بينهما فى صفّين بألوف الأرواح من المسلمين.. وقد تكون هذه الكلمة جرت على ألسنة كثيرة قبل هذا التاريخ، ولكنها لم تكن تعيش طويلا، أو تتحرك فى مجال أكثر من دائرة الشخص الذي نطق بها. أما ظهورها فى هذه المرة، وفى هذا الوقت الذي سمعت فيه، فقد كان- كما قلنا- ظهورا مدويّا، ملأ الأسماع، وهزّ المشاعر، وأثار البلبلة والاضطراب.. ثم الحرب والقتال! والسرّ فى هذا، هو أنها جاءت فى وقتها، وظهرت فى الحال الداعية إليها، فوقعت من كثير من النفوس موقع الغريق يتعلق بأى شىء يقع ليده، ولو كان مخلب أسد، أو ناب ثعبان! هكذا الكلمات والعبارات، تكبر قيمتها ويعظم خطرها، حين تكون الحاجة إليها داعية، والنفوس لها طالبة، دون نظر أو اعتبار لها فى ذاتها، وفى حلاوة جرسها، وبراعة تركيبها، وغزارة معانيها.. إن لقمة، خشنة، جافة، تجىء على جوع، هى أشهى وأغلى من، مائدة جمعت ليّن الطعام وطيّبه، تجىء على شبع وامتلاء! وقد جاءت هذه الكلمة «لا حكم إلا لله» إلى نفوس حائرة، فكانت دليلها، وقلوب مضطربة، فكانت أمنها وسكنها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 949 كان هناك مئات وألوف من أصحاب «علىّ» كرم الله وجهه، حاربوا معه ابتغاء مرضاة الله، وهيئوا أنفسهم للاستشهاد فى سبيل الله، ولردّ الفئة الباغية إلى طريق الحق الذي شردت عنه. ثم ها هم أولاء يرون دعوة إلى وقف القتال، وإلى الاحتكام إلى كتاب الله! ففيم كان القتال إذن؟ وما ثمن هذه الأرواح التي ذهبت؟ وتلك الدماء الغزيرة التي أريقت؟ كان كثير من أصحاب علىّ فى حيرة من أمرهم فى هذا الموقف، لا يدرون كيف يجدون الجواب على تلك الأسئلة المحيّرة التي تدور فى صدورهم.. وقد خطبهم الإمام «على» وأرضى الكثير منهم بمنطقه وبلاغته، ولكن كثيرا منهم كان داء الحيرة عندهم أكبر من أن تذهب به بلاغة، الإمام ومنطقه! ولهذا، فإنه ما إن هتف الهاتف بهذه الكلمة العابرة الطائرة: (لا حكم إلا لله) ، حتى لقفتها الآذان، وتنادت بها الألسنة، وإذا هى راية يجتمع عليها جيش كان قد سقطت رايته، ووقع الاضطراب فى صفوفه! لقد كانت هذه الكلمة هى «المبدأ» الذي اجتمع عليه الخوارج، وهى الراية التي قاتلوا تحتها، وهى السّمة التي كانت حجازا بينهم وبين الجماعة الإسلامية.. وأحسب أنه لولا هذه الكلمة ما استمسك أمر الخوارج، ولا انتظم شملهم، ولا اجتمعت أشتاتهم المتفرقة.. بل لظلّوا هكذا أفرادا، كلّ فرد منهم يحمل همّه فى نفسه، ويعالج حيرته بالأسلوب الذي يتهيأ له.. ولكن هذه الكلمة كانت أشبه بشعلة من نار ارتفعت فى الصحراء، فى ليلة حالكة السواد، فاجتمع عليها كل ضال، وجاء إليها كل تائه.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 950 إن الكلمة ليست مجرد صوت ينطلق من فم، ثم يذوب صداه فى أمواج الأثير..! بل إن الكلمة رسول مبين إلى الناس، يهتف بهم إلى العمل، ويدعوهم إلى الوجه الذي يريدهم عليه.. وما رسالات السماء، وما دعوات الرسل.. إلا كلمات.. تحمل الخير والهدى، فتثمر ما شاء الله أن تثمر من خير وهدى.. والله سبحانه وتعالى يقول: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ» (24- 27: إبراهيم) وفى قوله تعالى: «لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ» - أمور.. منها: أولا: «لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ» . ما دلالة نفى حبّ الله سبحانه وتعالى للشىء؟ أهو كراهة هذا الشيء أم تحريمه؟ ظاهر نفى الحب- بمفهوم المخالفة- هو الكره، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى يكره الجهر بالسوء من القول وكره الشيء أقل درجة من تحريمه.. فقد يكره الإنسان الأمر، ثم يريد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 951 نفسه عليه، فتقبله وهى غير مقبلة عليه، وليس كذلك إذا كان شعوره نحو هذا الشيء هو شعور تحريم.. إنه لا يقبل عليه إلا مكرها أو مضطرا! والسوء من القول، قد يبلغ مبلغ الفاحشة، والله سبحانه وتعالى قد حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.. إذ يقول سبحانه: «قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ..» (23: الأعراف) فكيف يجىء النهى عن الجهر بالسوء من القول فى صورة الكره له، ووضعه موضع الشيء غير المحبوب؟ والمتوقع أن يجىء النهي عنه، فى صورة جازمة قاطعة.. فكيف هذا؟ وما تأويله.. والجواب: هو أن نفى حب الله عن الشيء، يكفى فى تجريم هذا الشيء وتحريمه.. وقد حرّم الله سبحانه وتعالى المنكرات، بأن سلبها حبه لها، ورضاه عنها.. فقال سبحانه وتعالى فى تحريم الفساد «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ» 205: البقرة) . وقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ» (58: الأنفال) وقال: «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ» (45: الروم) وقال تعالى: «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» (40: الشورى) .. فهذه المنكرات، من الفساد، والخيانة، والكفر، والظلم، هى مما لا يحبها الله، ولا يحبّ مرتكبها. فسلب حبّ الله سبحانه للشىء، ورضاه عنه، يضعه موضع المنكر، المعزول عن ألطاف الله، وعن مواقع رضوانه.. وهذا يكفى فى تجنب هذا الشيء، ومحاذرة التلبّس به، واعتباره من المنكر المحرّم. ومن جهة أخرى، فإن القول نعمة من النعم الكبرى، التي فضل الله بها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 952 على الإنسان، فهو أشبه بالهواء والماء، لا يستغنى عنه فرد أو جماعة، فى حال أبدا.. ومن شأن هذه النعمة العامة الشاملة أن تكون مطلقة، مباحة، إطلاق الهواء والماء وإباحتهما.. فلو أنه أقيم على هذه النعمة قيود محكمة، وحواجز مصمتة، لكان فى ذلك ما يذهب بكثير من خير هذه النعمة، ويكدّر مواردها الصافية أو يعطلها.. لهذا، كان من حكمة الحكيم العليم، أن يقيم على تلك النعمة العظمى- نعمة الكلام- إشارة تنبيه، تحذّر الناس وهم يستقون من موارد القول ويتنفسون فى أجوائه، أن يأخذوا حاجتهم، وأن يمسكوا عما لا حاجة لهم به، ولا خير لهم فيه، وإلا كان الخطر، والضرر.. فما أكثر الذين يموتون بالماء، غصصا أو غرقا.. وما أكثر الذين يموتون بالهواء صعقا أو خنقّا.. وثانيا قوله تعالى: «الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ» لم كان الكره واقعا على الجهر بالسوء؟ .. فهل السرّ بالسوء مباح؟ وهل له حساب غير حساب الجهر..؟ والجواب على هذا، هو أن الجهر بالسوء من القول هو الذي له كيان ظاهر، يؤثّر فى الناس، ويتأثر به الناس.. ومن هنا كان خطره، وكان الحظر المتسلّط عليه وحده دون السرّ به.. فالسرّ بالسوء من القول- وإن كان شيئا كريها قبيحا- إلا أنه عورة مستورة، يمسكها الإنسان، على خوف أو استحياء.. وهذا من شأنه أن يعزل شرّ هذا الشرّ عن الناس.. ثم إنه من جهة أخرى لا يقوم فى كيان الإنسان إلا مقاما قلقا مضطربا، وفى هذا ما يؤذن بانصراف الإنسان عنه، والتخلّص منه.. وليس كذلك شأن السوء حين يفلت من كيان الإنسان، فيطلقه صريحا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 953 عريانا بين الناس.. حيث لا سبيل إلى إمساكه ودفع خطره بعد هذا.. لهذا كان «الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ» هو الداء الذي يخشى خطره، ومن ثمّ كان التنبيه إليه، والتحذير منه. وثالثا: قوله تعالى: «مِنَ الْقَوْلِ» . والسؤال هنا: لم كان التحذير موجها إلى خطر السوء.. «مِنَ الْقَوْلِ» دون «السوء من الفعل» ؟ وهل المعالنة بالأفعال السيئة، والجهر بالفواحش أقل خطرا من المعالنة بكلمة السوء والجهر بها؟ والجواب: أن السوء من القول أكثر دورانا على الألسنة، وأخف مئونة على الحياء، وأقل حرجا على الخلق والدين.. هكذا.. يبدو الأمر الواقع.. فالإنسان الذي لا يتحرج من كلمة السوء يقولها، ولا يستحى من كلمة الفحش ينطق بها- هذا الإنسان ما أكثر ما يغلبه حياؤه، وتمنعه مروءته أو دينه من يحوّل كلمة السوء إلى فعل، ويجسد كلمة الفحش إلى عمل.. ثم يجاهر بهذا الفعل، ويعالن بهذا السوء. ومن هنا كان الحظر الذي فرضه الإسلام على الجهر بكلمة السوء هو حجر ضمنى على فعلة السوء، وسدّ للذرائع إليها..! ورابعا: قوله تعالى: «إِلَّا مَنْ ظُلِمَ» .. هو رفع لهذا الحظر المضروب على الجهر بالسوء.. فالمظلوم مقهور مغلوب على أمره، بهذا السلطان المتسلط عليه من ظالمه.. وقد أذن الله للمظلوم أن ينتصف من ظالمه بما يقدر عليه، فى حدود العدل والإحسان.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ» (41: الشورى) .. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 954 فإذا رأى المظلوم أن التشنيع على الظالم، وكشف مساوئه للناس مما يعينه عليه، ويأخذ له بحقه منه- فذلك له، ولا حرج عليه فيه، وقد أذن الله للمسلمين بالقتال ليدفعوا الظلم الذي كان يساق إليهم، إذ يقول سبحانه: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ» وقد روى أن رجلا أنى النبىّ صلى الله عليه وسلم، فقال: إن لى جارا يؤذينى، فقال له: «أخرج متاعك فضعه على الطريق» ! فأخذ الرجل متاعه فطرحه على الطريق، فكلّ من مرّ به قال: مالك؟ قال: جارى يؤذينى.. فيقول: اللهم العنه، اللهم أخزه. فقال الرجل- أي الجار-: ارجع إلى منزلك، والله لا أوذيك أبدا» . وخامسا: قوله تعالى: «وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً» هو دعوة للمظلوم إلى التخفف من الجهر بالسوء من القول، وإلى القصد فيه، والوقوف به عند أضيق الحدود من الجهر.. فالله سبحانه وتعالى «سميع» أي قد سمع شكاة المظلوم، وسينتصر له.. فلا حاجة إلى هذا الصراخ بهذا القول السيّء. لأنه- على أي حال- موسوم بسمة السوء، ومن الخير تجنّبه، أو القصد فيه، إن لم يكن من المستطاع تجنبه.. وهو سبحانه وتعالى: «بصير» لا تخفى عليه خافية.. مما صرح به الإنسان أو أمسكه فى ضميره، عالم بما فعله من سوء فرآه الناس، أو غاب عنهم.. وقوله تعالى: «إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً» - تفرقة بين الخير والشر- وأن الخير هو الخير، على أي وجه جاء عليه.. سرّا أو جهرا، أبداه فاعله أو أخفاه.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 955 «إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» (271: البقرة) . وفى عطف قوله تعالى: «أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ» على ما قبله، من فعل الخير- إشارة إلى أن العفو عن سيئات المسيئين هو من باب الخير، يجزى الله عليه كما يجزى على الإحسان وقوله تعالى: «فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً» هو دعوة إلى التسامح والعفو عمن أساء واعتدى.. فذلك هو الذي يخمد نار الفتن، ويقتلع جذور العداوة والشحناء بين الناس.. «وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى» (237: البقرة) «وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» (43: الشورى) فالله سبحانه وتعالى مع قدرته على أخذ المسيئين بإساءاتهم.. يعفو، ويحلم، ويغفر.. هذا وليس تسلط العفو والمغفرة فى قوله تعالى: «فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً» على العفو عن السوء فى قوله سبحانه: «أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ» - ليس فى هذا ما يحجز فعل الخير فى قوله سبحانه: «إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ» - عن نصيبه من عائد عفو الله وقدرته.. فإن عفوه سبحانه يعود إلى أهل الخير فيجاوز عن سيئاتهم، ويغفر لهم من ذنوبهم، جزاء ما فعلوا من خير فى سر أو جهر.. وقدرة الله لا يعجزها شىء فهو- سبحانه- قادر على أن يبدل سيئات المسيئين حسنات، إذا هم أحسنوا، وكانوا مؤمنين. الآيتان: (150- 151) [سورة النساء (4) : الآيات 150 الى 151] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 956 التفسير: مناسبة هاتين الآيتين للآيتين اللتين قبلهما، هو أن هذا الذي يدعو إليه الكافرون، من الكفر بالله ورسله، والتفرقة بين الله ورسله، هو مما يدخل فى باب الجهر بالسوء من القول.. وأن قولهم. «نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ» هو من المنكر من القول، ومن شأن التحدّث به وإذاعته فى الناس أن يشيع الفتنة والفساد! وفى تصدير الآية الكريمة بهذا الوصف للذين يقولون: «نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ» ما يشير إلى أن الإيمان كلّ لا يتجزأ.. وأن الكفر ببعض رسل الله هو كفر برسل الله جميعا، وأن الكفر برسل الله هو كفر بالله.. وإذن فإن إيمان هؤلاء الذين يؤمنون بالله، مع كفرهم برسله أو ببعض رسله، هو إيمان غير مقبول، لأنه قائم على الشك فى الله، إذ لو خلا من هذا الشك، لا نسحب إيمانهم بالله إلى إيمانهم برسل الله، وكتب الله، وبملائكة الله، وبالبعث والجزاء والجنة والنار.. وكل ما أخبر به الرسل من غيبيّات. وقوله تعالى: «وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا» هو إشارة إلى هذا لأسلوب المنافق من أساليب الإيمان.. حيث يأخذون من الإيمان شيئا، ومن الكفر شيئا. والأمر هنا: إنما هو حق أو باطل، وإيمان أو كفر.. ولا ثالث بينهما.. وقوله تعالى: «أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا» هو حكم بكفر هؤلاء الذين يلبسون الحق بالباطل، ويجمعون بين الإيمان والكفر.. إنهم على الكفر الصّراح، ولو ستروا كفرهم بهذا الإيمان الزائف.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 957 وقوله تعالى: «وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً» هو الجزاء الذي يؤخذ به هؤلاء الكافرون المنافقون.. إنه العذاب المهين، المعدّ لهم يوم الفصل والجزاء. الآية: (152) [سورة النساء (4) : آية 152] وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) التفسير: وفى مقابل هذا العذاب المهين الذي يصلاه الكافرون والمنافقون، يتقلّب المؤمنون، الذين آمنوا بالله إيمانا خالصا، فصدّقوا رسله، وآمنوا بهم جميعا، ولم يفرقوا بين أحد منهم كما فعل هؤلاء المنافقون الكافرون- يتقلب هؤلاء المؤمنون فى رضوان الله، ويلقون من رحمته ومغفرته، ما يغسل أدرانهم، ويمحو سيئاتهم، ويفتح لهم أبواب الجنات، يلقّون فيها تحية وسرورا.. الآيتان: (153- 154) [سورة النساء (4) : الآيات 153 الى 155] يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 958 التفسير: ومما هو من قبيل الجهر بالسوء من القول، تلك الأسئلة الخبيثة الفاجرة، التي يسألها أهل الكتاب- والمراد بهم اليهود- ويلقون بها بين يدى النبي الكريم، فى تحدّ وقاح! وسؤالهم هنا، هو أن ينزل النبي عليهم كتابا من السّماء.. يرونه رأى العين، كما رأوا تلك المائدة التي أنزلها الله على عيسى عليه السلام، حين اقترحوا عليه ذلك، ولكنهم- مع هذا- لم يؤمنوا به، ولم يصدقوا رسالته.. ومن قبل كان اليهود يلقون إلى مشركى مكة بمثل هذه المقترحات، ليعنتوا بها النبىّ، وليقيموا لهم حجة عليه.. فكان من ذلك ما كشفه القرآن الكريم فى قوله تعالى. «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 959 فلما التقى اليهود بالنبي فى المدينة، وواجهوه بكفرهم وعنادهم، أعادوا هذا السؤال الذي كانوا قد صاغوه من قبل لمشركى مكة.. وفى قوله تعالى: «فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً» هو ردّ مفحم على هؤلاء الكافرين المعاندين.. إنهم لم يسألوا ليعلموا، أو يؤمنوا، ولكن ليشتفوا من داء اللّجاج المتمكن فيهم.. ولو أنهم كانوا يؤمنون بآيات الله، لآمنوا بما بين أيديهم من آيات مادية محسوسة، تجبه كل معاند، وتخزى كل متحدّ.. ولكنهم لا يريدون إلا اللجاج والعناد، والتطاول والسّفه.. فلقد سألوا موسى أكبر من هذا السؤال، وأبعدوا فى الوقاحة والتحدي، فقالوا أرنا الله جهرة!! وقد عاقبهم الله سبحانه على هذا العناد الفاجر.. فتجلّى لهم فى جلال جبروته ونقمته.. فأخذتهم الصاعقة بظلمهم.. ولكن لم تكن هذه الضربة القاصمة لتمسك بهم على طريق الاستقامة والهدى، بل لجوّا فى غيّهم وضلالهم، وعادوا سيرتهم الأولى فى الكفر والعناد.. فاتخذوا العجل إلها لهم يعبدونه من دون الله، ولم تنفعهم الآيات المشرقة التي جاءهم بها موسى، من ربّه.. إذ نجاهم من آل فرعون، وفرق بهم البحر، وأنزل عليهم المنّ والسلوى، وفجّر لهم من الصخر عيونا، حيث لا ماء ولا زرع، فشربوا، وزرعوا.. ولكنها القلوب القاسية، والنفوس المريضة، والطباع النكدة، لا تقبل على خير ولا تحتفظ بخير.. والله سبحانه وتعالى ويقول: «وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً» (58: الأعراف) . وفى توجيه الخطاب إلى جماعة اليهود عامة، سواء منهم من سألوا موسى أن يريهم الله جهرة، ومن لم يسألوه، ومن عبد العجل منهم ومن لم يعبده- فى هذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 960 ما يشير إلى أنهم جميعا من طبيعة واحدة، وعلى وجه واحد من وجوه الكفر والضلال، وأن قديمهم وحديثهم سواء، وأن الأبناء والآباء على طريق واحد، هو طريق اللجاج فى الباطل، والإغراق فى العناد.. وأن آباءهم الذين أعنتوا موسى، وكفروا بآيات الله ومكروا بها، لا يختلفون كثيرا عن هؤلاء الأبناء الذين التقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فعادوا سيرة آبائهم فى أنبياء لله، مع هذا النبىّ الكريم، يلقونه بالأسئلة الماكرة المتحدّية، لا يبغون بها إلا العنت والضلال.. وفى قوله تعالى: «فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ» أي تجاوزنا عن ذلك، وأفسحنا لهم المقام فى هذه الحياة، لعلّهم يصلحون ما أفسدوا، ولتتظاهر الحجة عليهم، فيما يأخذهم الله به من عقاب، وفيما يصبّ عليهم من لعنات. وفى قوله تعالى: «وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً» كبت لهم، وحسرات عليهم، إذ فاتهم ما أرادوا بموسى من مكر، وما دبّروا من كيد.. ثم هو كبت وحسرة لهؤلاء الذين يلقون «محمدا» صلوات الله وسلامه عليه بمكرهم وكيدهم، وأنهم هم الخاسرون، ولن يصيبهم إلا ما أصاب آباءهم من نقمة وبلاء، وما ينال محمدا إلا ما نال موسى من فضل وإحسان.. قوله تعالى: «وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً» . هو بيان لما أخذ الله سبحانه وتعالى على آبائهم من عهود ومواثيق، وأنهم لم يرعوا عهود الله، ولم يحفظوا مواثيقه، بل ضيّعوا، ونقضوا ما عاهدوا الله عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 961 فقد رفع الله فوقهم الطور، أي جبل الطور، وأقامه ظلّة عليهم ليظلّهم ويكنّهم فى هذا التيه الذي غرقوا فيه أربعين سنة.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ» (171: الأعراف) فلم يثقوا فى هذا البناء الذي أقامه الله عليهم، ودخلوا تحته دخول الخائفين، حتى لكأن يد الله لا تقوى على الإمساك به!! ثم حين أخرجهم الله من التّيه، وساقهم إلى العمران، ووجههم إلى إحدى القرى، دعاهم سبحانه إلى أن يدخلوا باب هذه القرية سجّدا، شكرا لله على هذه النعمة، وأن يقولوا وهم فى هذا السجود «حطّة» أي غفرانا لذنوبنا.. فبدّلوا وغيروا، ولم يحترموا كلمات الله، ولم ينزلوا عند وصاته لهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى.. «وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» (58- 59: البقرة) ثم ألزمهم الله سبحانه ألّا يعدوا فى السبت، وألا يعملوا فيه عملا، عقابا لهم ونكالا، حيث خرجوا عن طاعة الله، ونقضوا مواثيقه.. فاعتدوا فى السبت، وباشروا فيه كل عمل.. وفى هذا يقول سبحانه وتعالى: «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ» (65: البقرة) . وانظر إلى هذا التكرار فى قوله تعالى: «قُلْنا لَهُمُ» .. إذ يقول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 962 سبحانه: «وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً، وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ» . ففى هذا التكرار ما يؤذن بأن القوم بما هم، عليه من جفاء طباع، وقسوة قلوب، وبلادة مشاعر، وعمى بصيرة، لا يخاطبون إلّا بمناخس حادة، لتوقظ هذه المشاعر الهامدة، وتلك الطباع المتبلّدة.. تماما كما تنخس الدوابّ كلما ونت أو حرنت. وقوله تعالى: «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» . فى هذه الآية والآيات التي بعدها يحصى الله سبحانه وتعالى على اليهود ما ارتكبوا من خطايا، وما اقترفوا من آثام، حتى كان لهم من الله هذا العقاب الأليم الذي أخذهم به فى الدنيا، وجعله ميراثا يقتسمه أبناؤهم من بعدهم، إذ كانت جرائمهم من الشناعة والهول بحيث لا يستقلّ بحملها جيل أو عدة أجيال.. بل إنها لو قسمت عليهم فى أجيالهم السابقة واللاحقة لأحاطت بهم جميعا، ثم كان من فائضها ما يتسع لأمثالهم.. فقد نقضوا مواثيق الله، وكفروا بآياته. وقتلوا رسله.. عدوانا وبغيا، حيث لا شبهة ولا مظنّة شبهة يقتل بها رسول من رسل الله، إذا قتل غيرهم من الناس، بحق أو بغير حق.. فما رسل الله إلّا رحمة من رحمته، وفضل من فضله، ونعمة من نعمه.. فالذى يدفع الرحمة، ويأبى الفضل، ويكفر بالنعمة، هو إنسان مبتلى فى عقله، متّهم فى إنسانيته فإذا تجاوز ذلك إلى أن يكون حربا على الرحمة والفضل والنعمة، فقل أي كائن هو.. ولكن لا تنسبه إلى عالم الإنسان أبدا! على أن الأمر لا يحتاج إلى بحث أو نظر، فقد حكم القوم على أنفسهم، ونطقوا بما ينطق به فى شأنهم الوجود كله، ويدينهم به.. وهذا ما أشار إليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 963 قوله تعالى: «وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ» أي مغلفة، مغلّقة، لا ينفذ إليها شىء من الحق والخير.. وهم إنما يقولون هذا القول فى مجال الاستهزاء والسخرية، كما يقول من يتعالم: إنى جاهل..! والمغرور بماله، المدلّ بثروته: إنى فقير! بل إن أمرهم لأكثر من هذا، إذ ليس ما بقلوبهم مجرد غطاء يحجبها عن كل خير، كما ادعوا على أنفسهم استهزاء وتعاظما، ولو كان ذلك هو الذي بهم لكان لدائهم طب، ولعلتهم دواء! ولكنّ الذي بهم هو شىء لو عقلوه لبكوا كثيرا، ولضحكوا قليلا، بل لكانت حياتهم كلها بكاء موصولا، ودمعا جاريا، لما رماهم الله به من داء قتل كل معانى الإنسانية فيهم.. فإذا هم ناس وليسوا ناسا، أحياء وليسوا بالأحياء! انظر إلى قلوب هؤلاء القوم.. فهل تجد ما بها، هو حجاب كثيف مضروب عليها؟ أو غلاف صفيق اشتمل عليها واحتواها؟ وكلا.. «بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها» . وإذن فداء هذه القلوب هو فى كيانها ذاتها، وليس مادة غريبة غشيتها واحتوتها، بل هو الختم المحكم الذي ختمه الله عليها، فلا يخرج ما فيها من خبث ولا يدخل إليها ما فى الحياة من حق وخير.. إنها ستظل هكذا مغلقة على ما فيها.. أشبه بالبركة الراكدة العفنة، لا تزداد مع الأيام إلا ركودا وعفنا، ولا تلد مع الزمن إلا العفن، والوباء! وقوله تعالى: «فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» هو وصف لمن أفلت منهم من تلك اللعنة، استثناء من هذا الأصل الذي ينتسب إليه القوم جميعا.. وهو عدد قليل، لا يشفع لهذه الجماعة بالخروج من هذا الحكم المضروب عليها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 964 الآيات: (156- 158) [سورة النساء (4) : الآيات 156 الى 158] وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) التفسير: ومما أحصاه الله من شناعات هؤلاء القوم- اليهود- كفرهم بالمسيح، وتكذيبهم له، وقولهم فيه وفى أمّه تلك الأقوال الشنيعة، التي هى محض بهتان وزور، فقد رموا مريم البتول بالفحش، واتهموها بالفاحشة ونسبوا ابنها إلى أنه ابن سفاح، جاء على غير رشدة. كذلك مما أحصاه الله عليهم من المآثم، هذه الفعلة الشنيعة التي أصبحوا على إيمان بها، فلم يتأثمّوا، ولم يندموا، بل كان ذلك نغما مسعدا، ونشيدا مرفّها، يرددونه صباح مساء، ليغذّوا داء الانتقام والتشفّي الكامن فيهم.. «قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ» !! هكذا يملئون بها أفواههم، ويضربون بها على آذانهم! .. قتلنا المسيح.. عيسى بن مريم.. رسول الله.. فلم يكفهم أنهم قتلوا نفسا، بغيا وعدوانا.. كما كان ذلك معتقدهم.. ولم يكفهم أن تكون هذه النفس نفس إنسان لم يقل كلمة سوء، ولم يمدّ يده إلى أحد بسوء.. بل كان فمه مشرق نور ومطلع حكمة.. وكانت يده ملاك برّ ورحمة.. تهدى الشفاء إلى كل مريض، وتمسح بالعافية على كل ذى علة.. لم يكفهم هذا.. بل راحوا يعلنون هذا النبأ السارّ المسعد، يبشرون به فى آفاقهم، ويرفعونه إلى الله دعوات وصلوات، فى وقاحة واجتراء على الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 965 ولم يكفهم هذا، فعرضوا قتيلهم هذا العرض الطويل الممتد.. حتى لكأنهم وقد مزّقوه أشلاء، أو قتلوه.. مرة، بعد مرة، بعد أخرى.. قتلنا..! .. يا للإثم العظيم! المسيح..! .. ويا للهول المهول! عيسى.. ويا للعنة السماء لمن يقولها! ابن مريم.. ويا لشؤم القوم الذين يردّدونها! رسول الله. ويا لسيف الله لمن يحارب رسل الله! ومع هذا، فإن القوم يهنؤهم الطعام والشراب.. بل إنهم ليأتدمون بهذا الدّم، ويغمسون به كل لقمة يأكلونها! وقولهم «المسيح» ليس اعترافا منهم بأنه المسيح، وإنما يقولون ذلك استهزاء به.. وكذلك قولهم: «رسول الله» فهم لم يعترفوا بالمسيح رسولا، ولم يقبلوه مسيحا. وقوله تعالى: «وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ» هو كبت لليهود، وخزى لهم، إذ يفجؤهم القرآن الكريم بهذا الخبر، ويقطع لهم عنه الشك باليقين.. ذلك أنه كان قد وقع فى نفوسهم شك فى أن الذي قتلوه وصلبوه ليس هو المسيح، فإن هذا الشك قد أصبح يقينا بهذا الذي جاءهم به القرآن الكريم، وهم يعلمون صدقه، ويستيقنون أنه من عند الله، وإن جحدوه استكبارا، وعنادا.. وفى هذا يقول الله تعالى: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (146: البقرة.) والضمير فى يعرفونه يعود إلى القرآن. وقوله تعالى: «بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» هو كبت وخزى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 966 لليهود، بهذا الفضل الذي فضل الله به على المسيح، بعد كبتهم وخزيهم، بإبطال كيدهم فيه، وإفساد مكرهم به.. لقد أرادوا موته وصلبه.. فلم تنله أيديهم، ونجاه الله منهم، بعد أن أخذهم بهذا الذنب العظيم، الذي عقدوا نيّتهم عليه، وشرعوا فى تنفيذه، بل ونفذوه.. ولكن لا فى المسيح كما قدروا، بل فى شخص آخر شبّه لهم أنه المسيح.. ولقد أرادوا يصلب المسيح أن يوقعوه تحت اللعنة، التي قضت بها شريعة موسى، والتي جاء فيها: «ملعون من علّق على خشبة» .. فما كان يقع تحت هذا الحكم من اليهود إلا من جدّف على الله، وكفر به.. فمن فعل هذا حكم عليه بالصلب، ثم الطرد من ملكوت الله! لقد أراد اليهود هذا بالمسيح، فرفعه الله إليه، وأعلى منزلته عنده، وأحلّه فى مقام كريم، مع المصطفين من عباده. وقوله تعالى: «وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» هو تعقيب على تلك الأحكام التي أجراها سبحانه وتعالى، والتي جاءت على غير ما أراد أهل الشر والسوء.. فبعزّته سبحانه أفسد كيد هؤلاء المضلّين المفسدين، وبحكمته وضع الأمور فى مواضعها، فجاءت على أتم صورة وأكملها.. هذا، ولما كانت قضية صلب المسيح.. من القضايا التي أثارت ولا تزال تثير كثيرا من الجدل والخلاف بين المسلمين والنصارى واليهود.. فقد رأينا أن نقف وقفة، ننظر بها نظرا أرحب وأوسع، فى هذه القضية، وفى رأى القرآن فيها، وفى مقولات المسيحيين واليهود عنها.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 967 القرآن و المسيح المصلوب المسيح بين الألوهية والبشرية: لم يلتفت القرآن الكريم إلى المسيح وإلى المعتقدات التي يعتقدها أولياؤه وأعداؤه إلّا من جانب واحد، هو شخصيته، وتحديد هذه الشخصية على الوجه الذي يراه له، وهو أنه إنسان بشر، وليس إلها ولا ابن إله، على الرغم من الأسلوب الفريد الذي ولد به! ففى الوقت الذي نزل فيه القرآن كان قد مضى على ظهور المسيح نحو ستة قرون، دارت فيها الأحداث التي صحبت حياته، منذ دخوله فى هذا العالم، إلى خروجه منه- دارت تلك الأحداث فيها دورات كثيرة، والتقت بأنماط مختلفة لا حصر لها من العقول، وكاد الأمر يستقر فى معتقد الناس، فى المسيح وفى الأحداث التي اتصلت به! فأتباعه كان قد انتهى بهم الرأى فيه إلى أنه «الله» ممثّلا أقنوم الابن من الأقانيم الثلاثة التي جعلوها لله، وهى: الأب، والابن، وروح القدس. وأعداؤه- اليهود- لم يتغير رأيهم فيه منذ وقع فى أنفسهم أنهم صلبوه بتهمة الشعوذة والتجديف على الله. وكان على القرآن أن يكشف عن شخص المسيح، وأن يضعه بالموضع الذي له فى حساب العقيدة.. أهو ابن الله؟ أم هو إله مع الله؟ أم هو الله وحده؟ أم هو بشر.. رسول من الله، إلى عباد الله؟ وقد حرص القرآن على أن يجلّى عن شخصية المسيح، وأن يدفع عنه كل شبهة تلبس على الناس أمره، وتجعل له إلى الألوهية مدخلا من أية جهة، وعلى أية صفة! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 968 هذه هى قضية المسيح فى القرآن: أهو إله؟ .. أم هو إنسان من الناس وخلق من خلق الله؟ وإذ فصل القرآن فى هذه القضية فصلا قاطعا، وأنزل المسيح من سماء الألوهية إلى أرض البشر- إذ فعل القرآن هذا لم يلتفت من أمر المسيح إلى شىء وراءه، مما يجرى على البشر، وينزل بهم من أحداث، ويقع فى حياتهم من شئون.! فإذا مات المسيح- على هذا الاعتبار- أو قتل فليس ذلك بالأمر الذي يجعل له حسابا خاصا دون الحساب الذي يجرى على الناس، حين يموتون أو يقتلون. وإذا صلب المسيح، فهو واحد من كثيرين ماتوا بتلك الميته، وكما مضى المصلوبون إلى ما هم صائرون إليه، كذلك يمضى المسيح إلى مصيره! وإذا كان هناك من شىء يلتفت إليه فى هذا الأمر العارض، فهو هذا الحمق وذلك الضلال، اللذان يركبان الناس فيغريانهم بالتطاول على تلك الأيدى الكريمة الممدودة إليهم بالخير، والمبسوطة إليهم بالهدى، وأن يطفئوا بأفواههم هذا النور المتوهج فى ظلام ليلهم البهيم، وأن يمثّلوا بهذا الإنسان الطاهر البريء! إنه لا أكثر من الشعور بالحسرة والأسى، تندلع نارهما فى صدور الأخيار الأبرار من الناس، حين يصابون فى مثلهم الفاضلة، ويفجعون فى أسوتهم الحسنة، وحين يرون الشرّ يأكل منابت الخير ويفسد ثمارها! إنها وقفة.. قد تطول أو تقصر.. ثم تمضى الحياة ويمضى الناس معها فى هذا الصراع المتصل بين الحق والباطل والخير والشر، وفى هذا التدافع الدائم بين المحقّين والمبطلين، وبين الأخيار والأشرار! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 969 المسيح المصلوب: فليس بمستنكر على الحياة إذن أن يصلب المسيح! وليس بدعا أن تمتد إليه يد البغي، وأن تتمكن منه وتبلغ ما تريد فيه! فما أكثر الأنبياء الذين أصابتهم أيدى البغاة، وسلّطت عليهم قوى الشر والعدوان، فذاقوا الموت فى أمرّ كئوسه، وواجهوه فى أبشع صوره! وما أكثر الصدّيقين والأبرار الذين وقعوا صرعى فى ميادين الجهاد فى سبيل الله، فمزّقوا إربا إربا، ومثّل بهم أحياء وأمواتا! فليكن المسيح بن مريم رسول الله، واحدا من هؤلاء! فما أحد من الناس قد أخذ على الله عهدا ألا يموت، وما أحد من البشر تخيّر لنفسه الميتة التي يموت عليها! وقد حرص القرآن على أن يخلى شعور أتباعه المسلمين من كل خاطرة تخطر لهم أن «محمدا» رسول الله، بمعزل عن هذا الحكم، الذي ينزل عليه الناس جميعا، ويردون موارده.. فقال تعالى: «وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ (144: آل عمران) إن الرسل يموتون أو يقتلون كما يموت الناس وكما يقتلون، ومحمد رسول الله واحد من الرسل وإنسان من الناس.. فليس بدعا أن يموت أو يقتل.. «قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ (9: الأحقاف) (إنك ميّت وإنهم ميتون (30: الزمر) ومن أجل هذا لم يلتفت القرآن فى موقفه من أهل الكتاب، وفى تسويته لحساب المسيح عندهم- لم يلتفت إلى حادثة «الصلب» ولم يجعل منها قضية يناقشها معهم، ويفصل فيها بحكمه بينهم! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 970 وقد يبدو هذا الموقف الذي وقفه القرآن الكريم من أمر «الصلب» وإغفاله له، تسليما به، وبالمعتقد الذي قام عليه، وهذا يعطى لأصحاب هذا المعتقد القائم على صلب المسيح حجة على القرآن بأنه لم يواجههم مواجهة صريحة فى هذه القضية، ولم يأخذ عليهم معتقدهم فى أن المسيح قد صلب! ونقول- كما قلنا من قبل- إن القرآن لا يعنيه كثيرا أن يكشف حقيقة هذا الحدث، وأن يقيم الناس على رأى فى أن المسيح صلب، أو أنه لم يصلب، فذلك الأمر على أي وجهيه وقع- لا يقدم ولا يؤخر فى أصل القضية التي ينازع فيها القرآن، أولئك الذين يعتقدون فى بنوّة المسيح لله، أو ألوهيته! فالمسيح إله، أو ابن إله.. كما يقولون ويعتقدون. والمسيح ليس إلها ولا ابن إله، وإنما هو عبد من عباد الله ورسول من رسل الله.. كما ينطق الحق، ويحدّث القرآن! .. هذا هو أصل القضية.. فإذا فصل فيها القرآن على هذا الوجه الذي ارتضاه فى المسيح، فقد فصل ضمنا فى هذه الجزئية العارضة من حياة المسيح، وهى الصلب، ومن ثمّ يكون القول بصلب المسيح أو عدم صلبه سيان.. فهو إنسان من الناس وليس موته على أية ميتة كانت، بالذي يحدث له وضعا جديدا فى الحياة، أو بالذي ينشىء له فى النفوس مكانا يقوم عليه دين وتستند إليه عقيدة. إن القرآن إذ يواجه أتباع المسيح، لم ير فى حديثه إليهم عن حادثة الصلب التي يؤمنون بها ويقيمون معتقدهم عليها- لم ير فى هذا الحديث جدوى، لأن هذا الحديث لا يعنى فى نظر الدعوة الإسلامية أكثر من أنه خبر من أخبار التاريخ، لا يتعلق بوقوعه أو عدم وقوعه شىء يتصل بالعقيدة فى ذات الله.. إنه مثل الحديث عن أصحاب الكهف، وعن ذى القرنين، واختلاف الناس فى شأنهم وفيما يروى من أخبارهم.. فإذا قال القرآن فى مثل هذه الأخبار قولا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 971 فهو امتحان للقرآن ذاتة.. فى أنه متلقّى من عند الله، أو مستوحّى من الأساطير وتكهنات الكهان.! فى حياة المسيح عليه السلام أكثر من حدث، أثار تضارب الآراء فيه واختلاف الناس عليه.. فأولا: ميلاده من عذراء: كان هذا الميلاد مشكلة ضخمة.. إذ أن هذا الميلاد غير طبيعى. وغير جار على مألوف الحياة.. وذلك مما يدير الرؤوس نحوه، ويلفت العقول إليه، ويفتح للناس طرائق شتى، للقول فيه والتقوّل عليه. فاليهود مثلا- لم يعترفوا بهذا الميلاد- ولم يقبلوه.. بل اعتبروه ولادة غير شرعية، جاءت على غير رشدة.. من اتصال محرّم، بين مريم ويوسف النجار الذي أضافوا نسبة المسيح إليه، حيث كان يخدم مع مريم فى المعبد. وبهذا وضعوا المسيح وأمّه هذا الوضع الذي يصمهما بالدنس.. والعار. وثانيا: صلبه.. ووقوعه بهذا الصّلب تحت حكم الناموس الذي يقضى بلعن كل من علّق على خشبة! حسب ما جاء فى التوراة. وثالثا: ألوهيته.. وخروجه بهذه الألوهية عن وجوده البشرى، الذي رآه الناس عليه، والقضاء على شخصيته وإفنائها. فهذه ثلاث شبه أو تهم تحوم حول شخص المسيح، وتفسد الرأى فيه وتجعل منه شخصية أسطورية، أكثر منها شخصية حقيقية.. والقرآن الكريم هو وحده الذي تولّى الدفاع عن المسيح وكشف الشبه عن شخصه الكريم، ووضعه بالمقام المحمود الجدير به كإنسان يأخذ مكان الذروة بين الناس. يقول الله تعالى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 972 «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ» (171: النساء) «إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59: الزخرف) «مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ» (75: المائدة) . إن الأخذ بما يقول القرآن فى المسيح هو الذي يرفع هذه الشّبهة التي كانت ولا تزال داعية لسوء القالة فيه عند أعدائه اليهود، أو باعثة للاضطراب والقلق النفسىّ والروحىّ والعقلي، عند أتباعه.. إذ يرونه إنسانا فى شخص إله، أو إلها فى جسد إنسان! كان المسيح قد تنبّأ لهذا الخلاف الذي يكون فى شأنه، ولهذه المقولات التي قيلت أو تقال فيه.. وقد أشفق على نفسه منها، إذ كان بعضها يطعنه فى شرف مولده، وفى طهارة أمه وعفافها، على حين كان بعضها الآخر يسلخه من بشريته ويخرجه عن إنسانيته، إلى صورة مختلطة، تجمع الإله والإنسان فى ذات واحدة وفى جسد واحد.. كان المسيح قد تنبأ لهذا، وأشفق منه بل وتألم له! ولكن الله طمأنه وأذهب مخاوفه إذ أوحى إليه أن هناك من سيتولّى الدفاع عنه، ورفع الشبهات التي ستدخل على الناس من أمره.. فى حال حياته، وبعد أن فارق الحياة.. يقول السيد المسيح فيما روت الأناجيل على لسانه مخاطبا تلاميذه وحوارييّه: «ولكنى أقول لكم: الحق إنه خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزّى ولكن إن ذهبت أرسله إليكم، ومتى جاء ذلك، يبكّت العالم على خطيّة، وعلى برّ، وعلى دينونة.. أما على خطية، فإنهم لا يؤمنون بي، وأما على برّ، فإنى ذاهب إلى أبى ولا تروننى، أيضا، وأما على دينونة، فلأن رئيس هذا العالم قد دين! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 973 «إن لى أمورا كثيرة أقولها لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية، ذاك يمجدنى لأنه يأخذ مما لى ويخبركم، كل ما للأب هو لى، لهذا قلت إنه يأخذ مما لى ويخبركم. بعد قليل لا تبصروننى، ثم بعد قليل أيضا تروننى، لأنى ذاهب إلى الأب (إنجيل يوحنا) . يتحدث المسيح إلى أتباعه هنا عن شخص سيجيئ بعده، وقد ترك هو مقامه فيهم وفارق هذه الدنيا. وصفات هذا الشخص كما يحدّدها السيد المسيح هى: أولا: أنه المعزّى الذي يجىء مواسيا ومعزّيا فيما أصيب به المسيح فى شخصه، وما رمى به من تهم.. وكلمة المعزى هى إحدى المعاني التي فسّرت بها كلمة «بارقليت» اليونانية، والتي فسرت أيضا بمعنى المحامى أو مستشار الدفاع. ثانيا: إنه سيبكّت العالم على أمور ثلاثة: 1- على خطيّة: هى أنهم لم يؤمنوا بالمسيح على الوجه الذي جاءهم عليه. 2- على برّ: وهو أنه ذاهب إلى الله لينزل المنزل الكريم الذي أعده له، ولكن هم أنزلوه فى غير هذه المنزلة حيث رفعه أتباعه إلى مقام الإله ذاته، على حين أنزله اليهود منازل الضالين. 3- على دينونة: وهى هذا الحكم الظالم الذي حكم به اليهود على المسيح، وعلى الثوب الإلهى الذي ألبسه أتباعه إياه. ثالثا: أن هذا المعزّى سيرشد أتباع المسيح إلى الحقيقة كلها، ومعنى هذا أن هناك أشياء لم يكشف عنها المسيح، ومعنى هذا أيضا أن هذه الأشياء هى مما جدّ بعد المسيح، من أمور، اختلط على الناس وجه الحق فيها.. وهذا هو موضوع القضية الذي سيكون من عمل محامى الدفاع عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 974 رابعا: أن هذا المحامى لا يتكلّم من عند نفسه، بل بما قد سمع.. ومعنى هذا أنه إنما يأخذ دفاعه تلقّيا من جهة غير جهته، هى التي تلقّنه المقولات والحجج التي يلقيها على الشبه المتلبسة بتلك القضية. خامسا: أن هذا المحامى سيمجد المسيح. سادسا: أن هذا التمجيد الذي يقدمه المحامى فى شأن المسيح، ليس مديحا تستجلب به صفات لم يكن متصفا بها، وإنما هو تمجيد يكشف حقيقته للناس، ويزيل ما علق بذاته من شبه وضلالات. وهذا ما تنطق به كلمات الإنجيل على لسان السيد المسيح فى أوصاف المحامى أو المعزّى الذي سيجيئ بعده! ولكن أتباع السيد المسيح خرّجوا هذه الكلمات تخريجا على غير هذا الوجه على ما سنرى: يقول أحد علماء المسيحية وشرّاح أناجيلها: «وقد بلغ الأمر بيسوع، من حيث ثقته واقتناعه من مكانه الرئيسىّ فى قصد الله- بلغ به حدّا جعله يأخذ على عاتقه أن يرسل شخصا ليحلّ محله بعد صعوده إلى السماء، ألا وهو الروح القدس، وقد دعاه (المعزى) (باراكليت) وهى تسمية مشروعة، ومعناها المحامى أو مستشار الدفاع. «وبذلك يكون عمل «الروح القدس» الدفاع عن قضية يسوع أمام العالم، وقال عنه يسوع «هو يشهد لى» (يوحنا 15: 26) ثم «ذاك يمجّدنى لأنه يأخذ ممالى ويخبركم (يوحنا 16: 14) «1» . ومفهوم هذا القول أن الشخص الذي سيرسله المسيح هو «روح القدس» .   (1) المسيحية الأصلية ص 27- 28. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 975 وإذا علمنا أن معتقد المسيحية، هو أن المسيح هو «الله» وأن «روح القدس» هو الله، بمعنى أن كلّا منهما هو الله فى أقتوم من أقانيمه الثلاثة، إذا علمنا ذلك كان عجبا أن يكون «المعزى» شخصا وأن يكون هذا الشخص هو الله، ثم أن يكون المسيح وهو الله هو الذي يرسل «روح القدس» وهو الله!! الله يذهب فى صورة المسيح «الابن» ، ويحىء فى صورة الله «روح القدس» ! ثم من جهة أخرى.. ما معنى أن المحامى- إذا كان هو روح القدس، الذي هو الله ذاته- ما معنى أنه لا يتكلم من عند نفسه.. «بل يتكلم بما يكون قد سمع، ويخبركم؟» .. أروح القدس أو الله ينتظر من يلقنه ما يقول، وبأذن له به؟ فيتكلم بما يكون قد سمع؟ هذا من حيث الشكل- كما يقال فى لغة القضاء- أما من حيث الموضوع، فإذ ننظر نجد: أولا: أن «روح القدس» الذي يقال إن المسيح وعد بإرساله بعد أن يمضى، لم ير له أحد وجها، لا من أتباع المسيح ولا من غيرهم. ثانيا: أن روح القدس هذا، وهو المحامى أو مستشار الدفاع، لم يعرف له أحد موقفا، ولم يكن له قول مأثور فى شأن المسيح وفى تمجيده.. فأين إذن هو روح القدس؟ وأين أعماله أو أقواله التي واجه بها الناس لتمجيد المسيح؟ ولسنا نجد جوابا لهذا إلا إذا نظرنا فى القرآن الكريم ووقفنا عند ما جاء فيه من دفاع مشرق مفحم، عن السيد المسيح.. هذا الدفاع المشرق المفحم، هو تمجيد وتعزية للسيد المسيح، لما أصابه فى شخصه وفى شخص أمّه من ضرّ وأذى! جاءت بعثة «محمد» صلوات الله وسلامه عليه- وقد مض على الدعوة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 976 المسيحية نحو ستة قرون، وكان هذا الزمن الممتد كافيا لأن يفسح للدعوة مجال الحركة فى الحياة، وأن يبلغ بها أقصى ما تبلغه فى عقول الناس وقلوبهم، من أولياء الدعوة وأعدائها على السواء.. إذ استنفد أعداؤها كل ما لديهم من مقولات يقولونها فى المسيح ودعوته.. كما استنفد أولياؤها كل ما عندهم من مقولات فى تصويرها، وتقرير حقائقها والاحتجاج لها.. ومن هذا الشدّ والجذب، والهجوم والدفاع، تشكّلت للمسيح «قضية» من أشد ما عرف الناس من القضايا غموضا وتعقيدا.. والمسيح هو «القضية» التي تنوشها رميات المتنازعين فيه والمختلفين عليه.. من أعدائه وأوليائه جميعا! وهنا تبرز الحكمة فى الحاجة إلى محام، أو مستشار للدفاع، ليقول فى هذه القضية لا شيئا من عند نفسه، بل بما يكون قد سمع، ويخبر به! وليس ثمة شك فى أن هذا المحامى أو مستشار الدفاع أو المعزّى هو «محمد» عليه الصلاة والسلام. فهو كما تنطق كلمات السيد المسيح: أولا: هو المحامى الذي كان له دور معروف فى قضية المسيح وكان بمشهد وبمسمع من الناس جميعا. وثانيا: هو الذي دافع فى هذه القضية دفاعه المعروف عن شخص المسيح وعن أمه، وكان دفاعه هذا تمجيدا وعزاء لهما مما أصابهما من رميات وطعنات. وثالثا: لم يقل هذا المحامى كلمة من عند نفسه، بل كل ما قاله هو مما تلقاه وحيا من ربه، «لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلّم به» . ورابعا: أن هذا الذي سمعه وحيا من ربه لم يحتفظ به لنفسه، بل أخبر به وبلغه للناس كما أمره ربه: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 977 لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» .. وفى هذا يقول السيد المسيح «بل يتكلم بما يكون قد سمع ويخبركم» . لقد كان «محمد» بما تلقى من كلمات الله، هو المحامى الذي ردّ للمسيح ولأمه اعتبارهما، وهو الذي مجدهما ورفع قدرهما فى العالمين، وكان فى ذلك العزاء الجميل لهما، والمواساة الكريمة لما أصابهما من بلاء عظيم، وفى هذا يقول القرآن الكريم: «يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ» (42: آل عمران ويقول سبحانه: «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ» .. ويقول: «مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ» (75: النساء) . وننظر فى كلمات المسيح مرة أخرى.. ونقف من كلمات السيد المسيح عند هذه الكلمات. 1- «إن فى انطلاقي لخيرا لكم» .. فهذا الخير هو ما ينكشف لهم من أمر المسيح على لسان «المحامى» الذي يتولى الدفاع عن قضيته، ويعرضها لهم فى المعرض الذي يجلّي حقيقته، ويكشف شخصه الكريم. 2- «فإنى أرسله إليكم» . وهذه القولة توحى بأن المسيح هو الذي يرسل هذا المحامى، أو بمعنى آخر هو الذي يملك إرسال الرسل، أو بمعنى ثالث هو الإله المتصرف فى هذا الوجود. وهى مقولة إن حملت على ظاهرها هذا كانت إقرارا من الله تعالى- الذي هو المسيح- بالعجز عن الدفاع عن نفسه فيقيم محاميا يتولى الدفاع عنه.. وعلى هذا، فإن هذه القولة إما أن تكون قد حرّفت ليستقيم عليها الفهم الذي وقع لأتباع المسيح من أنه هو الله، وإما أن تحمل على غير ظاهرها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 978 ويكون قول المسيح «إنى أرسله إليكم» محمولا على المجاز السببى، إذ لمّا كان وجود المسيح مانعا من وجود المحامى الذي يتولى الدفاع فى قضيته، إذ القضية لا تتشكل بصورتها الكاملة إلا بعد أن يذهب المسيح، وتكثر المقولات فيه وفى صلبه وقيامته، فإن ذهاب المسيح هو الذي يهيىء للمحامى سبيلا إلى الظهور، وبهذا يمكن القول بأن المسيح هو الذي أرسله، بمعنى أنه كان سببا من أسباب إرساله! 3- فى قوله «ويخبركم بما يأتى» فيه إشارة إلى تلك المقولات التي ستقال فى المسيح بعد ذهابه، والتي ستشكّل منها تلك القضية التي تولّى القرآن الكريم الكشف عن وجه الحق فيها. 4- قوله «يأخذ مما لى ويخبركم» إشارة إلى أن ما يقوله المحامى الذي يتولى الدفاع عن المسيح ليس شيئا غريبا عن المسيح، بل هو ممّا له أي مما اشتملت عليه ذاته، سواء أكان ذلك عن مولده، أو عن بشرّيته كما نطق بذلك القرآن الكريم. ثم لماذا أخبر القرآن عن الصلب؟ إنه مجرد خبر.. لا أكثر ولا أقلّ!. خبر يبهت اليهود، ويفجعهم، ويملأ قلوبهم حسرة وكمدا!. إن اليهود على يقين من أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم، الذي عرفوه وعرفهم وسمع منهم وسمعوا منه. ولم يكن قتلهم له لأنه جدّف على الله كما ادّعوا عليه.. وإنما كان لأنه جاءهم بأنه «المسيح» الذي وعدوا به، وطال انتظارهم له!. والمسيح الذي رأوه فى شخص «عيسى» ليس هو المسيح الذي عاشوا فى أجيالهم يحلمون به، ويتوقعون الخلاص على يديه!. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 979 كان اليهود يحلمون بالخلاص من هذه الفواجع والمآسى التي كانوا يتقلّبون على جمرها، بين الأسر والتشريد.. ولقد كانت الضربات القاسية المدمرة تنزل بهم متلاحتة متعاقبة كما يتعاقب الليل والنهار.. فما يكادون يخلصون من محنة، حتى تستقبلهم أكثر من محنة- ولهذا استبدّ بهم اليأس واستولى عليهم الجزع من توقعات الفواجع المباغتة وطلوع النوازل المهلكة.. فلم يكن لهم- والأمر كذلك- من أمل فى الخلاص، إلا أن تتعلق آمالهم وأحلامهم بربّ الجنود «يهوه» . وقد امتلأت أسفار التوراة بالرّؤى والأحلام والتنبؤات التي تلقى إليهم من عالم الأوهام بحبال النجاة، فيمدّون أيديهم إليها، وهم يضطربون فى هذا البحر اللجىّ المتلاطم الأمواج، فلا يجدون إلا سرابا، لا تمسك أيديهم بشىء منه. وكانوا كلما تطاول بهم الزمن- وهم فيما هم فيه من بلاء وهوان- أفسحت لهم الأسفار فى الآمال، ووسعت لهم فى آفاق المستقبل المشرق المسعد فأرتهم الخلاص القريب، وأطلّت عليهم بوجه المخلّص مقبلا بين عشية وضحاها!. ولهذا باتوا يحلمون أحلاما ملحّة بأن عهد الشر هذا الذي خيّم على ربوعهم قد آن له أن يزول، وأن عهدا جديدا سيشرق عليهم بصبحه، وبهذا يقضى على عهد الشر والألم، إما يتدخل الله نفسه، وإما بإرسال ابنه أو ممثله المسيح إلى الأرض.. أو لم ينبىء به أشعيا قبل ذلك العهد- أي عهد المسيح عيسى- بمائة عام، إذ يقول: «لأنه يولد لنا ولد ونعطى ابنا وتكون الرياسة على كتفه ويدعى اسمه عجيبا مشيرا إلها قديرا، أبا أبديا، رئيس السلام؟» (التوراة: سفر أشعياء) وكان كثير من اليهود يتفقون مع «أشعياء» فيما وصف به المسيح من أنه ملك دنيوى يولد من بيت داود الملكي، ومنهم من يسمونه باسم «ابن الإنسان» كأخنوخ ودانيال ويصورونه بأنه سينزل من السماء!. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 980 أما صاحب سفر الأمثال، وصاحب حكمة سليمان، فلعلهما قد تأثرا بأفكار أفلاطون أو بروح الأرض التي يقول بها الرواقيون- فقد تصوّراه الحكمة مجسّدة، التي هى أول شىء «قناها» الربّ، وهى الكلمة أو العقل!!. ويكاد مؤلفو سفر الرؤيا كلهم يجمعون على أن المسيح سينتصر انتصارا سريعا، ويتفقون جميعا على أن المسيح سيخضع الكفار آخر الأمر ويحرّر إسرائيل، يتّخذ إسرائيل عاصمة له، يضم إليه الناس جميعا ليؤمنوا بيهوه والشريعة الموسوية.. ويسود بعد ذلك عصر طيب تسعد به الدنيا بأجمعها، فتكون الأرض كلها خصبة، وتحمل كل حبّة قدر ما كانت تحمله ألف مرة، ويصير الخمر موفورا، ويزول الفقر ويصبح الناس أصحّاء متمسكين بالفضيلة، وتسود العدالة والصداقة والسلام فى الأرض!!. هذا هو بعض جوانب الصورة التي يتصورها اليهود عن المسيح والتي عاشوا الأزمان الطويلة يحلمون بها.. فلما التقوا بالمسيح فى شخص عيسى ابن مريم- كما قلنا- ولم يطلع عليهم بتأويل هذه الأحلام التي طال انتظارهم لها وتطلعهم إليها أنكروا وجه المسيح، وتنكروا له، وأبوا أن يفتحوا أعينهم على هذه الحقيقة، وآثروا أن يظلوا مغمضين أعينهم على تلك الأحلام حتى يجىء «المسيح» الذي يقع على يديه تأويلها على الوجه الذي يتصورون ويتوقعون! من أجل هذا عجّل اليهود بالقضاء على المسيح عيسى بن مريم وإجلائه من بينهم، لأنه ليس «المسيح» الذي ينتظرون، وما زالوا إلى اليوم على انتظار لهذا المسيح.. وقد أشار المعرّى إلى هذا بقوله: يا آل إسرال.. هل يرجى مسيحكم ... هيهات.. قد ميّز الأشياء من خلبا! قلنا أتانا ولم يصلب، وقولكم ... ما جاء بعد، وقالت أمة صلبا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 981 فإذا دخل القرآن فى أمر «الصلب» فإنما يدخل فيه من هذه الجهة التي التي تطلع منها أحلام اليهود بالمسيح، الذي ينتظرون الخلاص والحياة المستقرة الطيبة على يديه. وقد جاءهم القرآن بما لم يكونوا يحتسبون، فكشف لهم عن هذا الضّلال الذي عاشوا أزمانا متطاولة فيه، ورفع لهم عن ستر الغيب ليروا أن «المسيح» الذي طال انتظارهم لهم وتعلقت آمالهم به، هو «عيسى» بن مريم!! وألّا «مسيح» يرجى لهم بعده! وأنهم وقد فاتهم حظهم منه، فقد أفلت من أيديهم الخير الذي توقعوه وانتظروه ... أفلت إلى الأبد! ولن يعود! هذه واحدة! وأخرى.. هى أنهم ارتكبوا بجهالاتهم وحماقاتهم وغرورهم أبشع جريمة، إذ قتلوا بأيديهم أملا عاشوا له وأضاعوا بأيديهم الشحيحة الممسكة، خيرهم المدخر لهم، وبدّدوا- مع بخلهم القاتل- ثروة طائلة لا تنفد على الإنفاق أبدا. وثالثة.. هى أنهم وقد حملوا دم المسيح دنيا، وديانة، فإنهم لم يقتلوا المسيح، ولم يصلبوه! إنها حسرة، وحسرة، وحسرات، تملأ قلوب اليهود حزنا وكمدا حين يكشف لهم القرآن عن «المسيح» الذي حسبوا أنهم صلبوه! هذا، ولم يعرض القرآن لهذا الأمر إلا عرضا، فى سياق الزّراية على اليهود، وفضح طواياهم وما اشتملت عليه من سوء! وفى هذا يقول القرآن الكريم: «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 982 وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً» . (155- 160: النساء) هذه هى المرة الوحيدة التي ذكر فيها القرآن حادثة الصلب، وهو إنما يواجه بهذا اليهود، لا أتباع المسيح الذين يؤمنون بالصلب ويقيمون معتقدهم الديني عليه.. وننظر فى هذه الآيات فنرى: أولا: يقرن القرآن مقولة اليهود بأنهم قتلوا المسيح- يقرنها بعملين من أعمال اليهود، بحيث- تبدو هذه الفعلة وإن لم تقع- ممكنة الوقوع منهم، وذلك: (1) أن لهم تاريخا أسود مع أنبياء الله ورسله، يؤذونهم بألسنتهم وبأيديهم، وربما بلغ بهم الشر إلى جريمة القتل- «وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ» وقد قتلوا نبىّ الله يحيى «يوحنّا» المعمدان، وذلك بمرأى من المسيح ومسمع!! (2) ثم إنهم مع المسيح خاصة، قد اتّصل أذاهم له، وامتد عدوانهم عليه، فتطاولوا على أمه البتول الطاهرة، ورموها بالفاحشة «وقولهم على مريم بهتانا عظيما» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 983 فإذا ادّعوا أو ادّعى عليهم أنهم قتلوا المسيح، فتلك الدعوى أشبه بحالهم، وأقرب إلى طبيعتهم.. إنها على الطريق الذي ساروا فيه مع أنبيائهم.. وكم قتلوا من أنبياء وأبرياء! ثانيا: يسجل القرآن على اليهود اعترافهم بألسنتهم بأنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم رسول الله.. فهذا الاعتراف منهم يقضى عليهم بتبعة هذه الجريمة المنكرة.! وليس يدفع عنهم وزرها أن يكون الذي قتلوه شخصا آخر غير المسيح، أو أن يكون المسيح قد دفع عن نفسه سلطان الموت، فقام من بين الأموات كما يعتقد أتباعه.. ذلك أن الجريمة وقعت على شخص عيسى بن مريم حسب اعتقادهم وتقديرهم، وأنهم لم يتركوه حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، ولفّ فى الكفن وأودع القبر. فإذا وقع بعد هذا ما ليس فى تقديرهم، فكان المصلوب شخصا آخر غير عيسى، أو كان عيسى لم يمت كما يموت الناس، فذلك مالا دخل له بحال أبدا كعنصر من عناصر التخفيف لجنايتهم أو حمل وزرها عنهم! ثالثا: أخذ القرآن شهادتهم على أنفسهم بأنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم رسول الله، أخذها من أفواههم وجعل ذلك اعترافا منهم بالجريمة، الأمر الذي لا يحتاج إلى استدعاء شهود غيرهم، بعد أن وصفوا الشخص الذي قتلوه وصفا كاشفا.. فهذه ثلاث صفات يصفون بها الشخص الذي قتلوه.. فهو: 1- المسيح.. 2- عيسى بن مريم.. 3- رسول الله.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 984 وظاهر حالهم تنبىء عن أنهم ينكرون على «عيسى بن مريم» أنه المسيح وأنه رسول الله.. فهم إنما قتلوا حين قتلوا ذلك الشخص الذي يدعى «يسوع» والمعروف بعيسى بن مريم! ولو عرفوا أنه «المسيح» لما قتلوه، أو لو عرفوا أنه رسول الله لما صلبوه! ولكن القرآن ينفذ إلى الصميم من أعماقهم، ويضبط الشوارد من عقولهم، وإذا حصيلة هذا، هو أنهم يعرفون أن عيسى بن مريم رسول الله، وأنه المسيح، ومع هذا فإنهم قتلوه وصلبوه! ذلك أنهم- كما قلنا- كانوا ينتظرون مسيحا يحقق لهم تلك الرؤى- وهذه الأحلام التي انتظروا تأويلها على يد المسيح الموعود الذي حدثهم عنه أنبياؤهم، وتنبأوا لهم بقرب مجيئه وبالخلاص المنتظر على يديه! وإذ طلع عليهم «يسوع» بأنه المسيح أنكروا أن يكون هو المسيح ثم لا يكون بين يديه هذا الخلاص الذي انتظروه.. فليكن «يسوع» مسيحا ولكنهم ليس مسيحهم.. وإلا فيا لخيبة الآمال ويا لطول الشقاء.! ثم إنهم لكى يقضوا على هذا «الكابوس» المزعج الذي جاء فطرد أحلامهم المسعدة، كان لا بد من أن يقتلوا هذا المسيح، وأن يعجّلوا بقتله وأن يمثّلوا به، شفاء لما امتلأت به صدورهم من خيبة أمل وسوء مصير، فكان أن صلبوا المسيح، لا لأنه جدّف على الله، بل لأنه قضى على أحلامهم، وجاءهم باليأس القاتل.. لما سمع يوحنا المعمدان وهو فى السجن بأعمال المسيح أرسل إليه اثنين من تلاميذه ليقولا له: أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟ «من 11: 3» أما يوحنا فقد أيقن أنه هو المسيح.. وأما اليهود فقد أنكروا أنه هو مسيحهم الموعودون به، لأن مسيحهم كما خيل إليهم يفتح لهم خزائن الأرض ويقيمهم منها مقام المالك المطلق فيها! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 985 إنهم كانوا يستعجلون مجىء المسيح، وها هو ذا يقول إنه قد جاء.. ولكنهم لا يجدون عنده ما يتمنون ويشتهون.. ولهذا كانوا معه على حال من الحيرة القاتلة، والشك المؤرّق! «كان عيد التجديد فى أورشليم.. وكان شتاء.. وكان يسوع يتمشّى فى الهيكل فى رواق سليمان فأحاط به اليهود وقالوا له: إلى متى تلعق أنفسنا؟ إن كنت أنت المسيح فقل لنا جهرا! أجابهم يسوع: إنى قلت لكم ولستم تؤمنون.. الأعمال التي أنا أعملها باسم أبى هى تشهد لى، ولكنكم ولستم تؤمنون، لأنكم لستم من خرافى كما قلت لكم: خرافى تسمع صوتى وأنا أعرفها فتتبعنى. (يوحنا 10: 22- 28) مصيبة اليهود مع دعوات الحق التي يدعوهم رسل الله إليها، أنهم لا يفتحون لها قلوبهم، ولا يتعاملون معها بعواطفهم ووجدانهم، وإنما ينظرون إلى هذه الدعوات من جانب عملىّ واقعي، يقاس بمقياس المادة، ويحسب بحسابها، ويوزن بميزان النقد المعجّل المقبوض! وليس بهذا المقياس تقاس الأمور العقائدية، ولا بهذا الحساب تحسب مسائل الإيمان..! ذلك أن الإيمان بمعناه الصحيح إنما يقوم على أشواق ومواجد تولّدها العاطفة المنقدحة من الوجدان! وبغير هذا لا يكون إيمان، وإن كان، فهو إيمان قائم على خواء، لا يلبث حتى يضمر ويموت! إن الإيمان استجابة لدعوة من دعوات الفن الرفيع الجميل.. فإذا لم يكن المدعوّ إلى الإيمان على حظ من سلامة الوجدان ورفاهة الحس، لم تبلغ الدعوة موطن الإيمان منه! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 986 وهؤلاء هم اليهود.. لقد شهدوا على أنفسهم بأنهم أصحاب طبيعة جفّت منها موارد العاطفة، فقالوا ما أخذه القرآن من أفواههم: «قُلُوبُنا غُلْفٌ» أي لا تتأثر كثيرا لهذه المعجزات، ولا تنبهر بتلك الآيات، فكان ردّ الله عليهم وحكمه على قلوبهم «بل طبع الله عليها» وكانت نتيجة هذا التبلد الغبىّ أنهم لا يخطون إلى الإيمان إلا خطوات بطيئة متخاذلة.. «فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» أي إيمانا ضعيفا مترددا، قائما على شفا جرف هار من الريبة والشك! ولهذا كان إيمانهم بالمسيح عيسى بن مريم إيمانا من هذا القبيل، إيمانا متلبسا بالكفر، ويقينا محوطا بالشك! وهكذا ظل حالهم معه حتى غلب الكفر إيمانهم، وقهر الشكّ يقينهم، فجدّفوا عليه، وحاكموه، وأسلموه إلى الصلب! إنهم كانوا يعرفون عن يسوع أنه المسيح وأنه رسول الله، ولكن غلب عليهم طبعهم المشئوم فحجزهم عن الخير، وقصّر بهم عن السعى إليه، وما زال بهم حتى أراهم الصبح ليلا، والحق باطلا، فأنكروه على علم، وجحدوه على معرفة.. «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ، يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» .. هكذا شأن اليهود دائما مع آيات الله ومع رسل الله. رابعا: كشف القرآن الكريم لليهود عن تلك الواقعة التي خيل إليهم أنهم طمسوا معالمها وعاشوا على زيفها واطمأنوا إلى باطلها.. ولقد خيّل إليهم الوهم الذي أدخلوه على أنفسهم وألبسوه لباس الحقيقة أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم!. ووقر فى أنفسهم أنه لو كان هو المسيح المنتظر لما استطاعوا أن يصلوا إليه، لأنه سماوى لا يخلص إليه أذى من الناس!. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 987 فجاءهم القرآن- وهم يعرفون أنه الحق- جاءهم ليوقظهم من هذه النومة التي نعموا بها، وليزعجهم عن هذا المواطن الذي اطمأنوا إليه فى شأن المسيح: فقال تعالى: «وَما قَتَلُوهُ، وَما صَلَبُوهُ» . هكذا يعلنهم القرآن بهذا الحكم القاطع الجازم!. يعلنهم دون أن يقيم له حيثيات، أو يأتى له بأدلة وبراهين!. وحسب القرآن أن يقول قولا وأن يحكم حكما، فيقوم الوجود كله شاهدا له وبرهانا عليه، وهذا الحكم- كما قلنا- يقطع اليهود عن أحلامهم بالمسيح المنتظر، ويملأ قلوبهم حسرة وكمدا، لأنهم تركوا الخير الذي كان بين أيديهم، وتعّلقوا بأوهام وخيالات لا تقع أبدا.. وهذا بعض ما يشير إليه القرآن فى قوله تعالى: «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ» . فقد ظلموا أنفسهم وخسروا خسرانا مبينا بتطاولهم على المسيح وبتكذيبهم له، فكان أن حرمهم الله هذا الخير الطيب الذي مدّ إليهم من يد كريمة طاهرة، وكان أن أصبح هذا الخير محرّما عليهم إلى الأبد، لا ينالون منه شيئا!. «وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ» وهنا نقف أمام حقيقة تاريخية لا سبيل إلى إنكارها وهى أن هناك شخصا صلب تحت اسم «يسوع» بن مريم.. فمن هو ذلك الشخص؟. اليهود على زعم أنه هو «يسوع» بن مريم الذي كان يدّعى أنه المسيح ابن الله، أو هو المسيح «الله» . والقرآن يقول إن المسيح عيسى بن مريم هذا لم يقتل ولم يصلب؟. وإذ يقول القرآن هذا القول، فهو إنما يقول الحق الذي لالبس فيه، ويبقى بعد ذلك أن تقوم الأدلة على نقض هذا القول.. ونقض هذا القول بالبرهان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 988 القاطع حكم على القرآن كله بالبطلان، وأنه ليس من عند الله، وإنما هو من قول بشر، يجىء بالصدق وبالكذب، وينطق بالحق وبالباطل!. والقرآن وإن يكن قد واجه اليهود بهذا الحكم فإنه قد ألزم به أتباع المسيح، وأدخلهم ضمنا فيه.. وقد كشفنا من قبل عن العلة التي من أجلها لم يواجه القرآن أصحاب المسيح بهذا الحكم، الذي هو أصل معتقدهم الديني، وقلنا: إن صلب المسيح فى ذاته لا يقدم ولا يؤخر فى موضوع العقيدة متى عرفت حقيقة المسيح، أهو إنسان من الناس وعبد من عباد الله أم هو الله أو ابن الله؟ .. وهذا هو ما التفت القرآن إليه، واهتمّ له، وفصل فيه!. ونعود إلى حديثنا عن شخص المصلوب.. ومن هو؟. شخص مصلوب.. هذا ما لا شك فيه بشهادة الأخبار التاريخية المتواترة، وبشهادة القرآن نفسه إذ يقول «وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ» أي خيل إليهم أن المقتول المصلوب هو «المسيح» !. والأناجيل هى المصدر التأريخي الذي سجل حياة المسيح، وروى الأحداث التي وقعت له، ومنها حادثة الصلب التي كانت أبرز تلك الأحداث وأهمها. وقد اختلفت الأناجيل فى رسم صورة الحادثة اختلافا يقيم كثيرا من الشكوك والشبه حول شخصية «المصلوب» بحيث لا يرى المتأمل فى الصورة أنه على يقين من أن المصلوب هو المسيح بعينه!. وشواهد هذا كثيرة يراها من يطالع ما تحدّث به الأناجيل، فى هذه الواقعة.. ولا نرى بأسا من أن نجعلها فيما بلى: فأولا: الأناجيل الثلاثة- مرقس ومتى ولوقا- تحدّث بأن السيد المسيح وقد جاهره اليهود بالشرّ وتوعدوه بالقتل، فزع إلى الله يناجيه ويبّثه ما به الجزء: 3 ¦ الصفحة: 989 وقد أعلن تلاميذه أنه قد لا يلقاهم.. وفيما هو فى تلك الحال تغيّرت هيأته وظهر له موسى وإيليا!. وفى هذا تقول الأناجيل: «وفيما هو يصلّى على انفراد كان التلاميذ معه، فسألهم قائلا: من تقول الجموع أنى أنا؟ فأجابوا وقالوا: يوحنا المعمدان! قال لهم: وأنتم من تقولون أنى أنا؟ فأجاب بطرس وقال: مسيح الله! فانتهرهم وأوصى ألا يقولوا ذلك لأحد.. إنه ينبغى أن ابن الإنسان يتألم كثيرا ويرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة وفى اليوم الثالث يقوم!. «وقال للجميع: إن أراد أحد أن يأتى ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعنى ... «وبعد هذا الكلام بنحو ثمانية أيام أخذ بطرس ويوحنا ويعقوب، وصعد إلى جبل ليصلّى، وفيما هو يصلّى صارت هيئة وجهه متغيرة ولباسه مبيضّا لامعا، وإذا رجلان يتكلمان معه وهما موسى وإيليا اللذان ظهرا بمجد وتكلما عن خروجه الذي كان عتيدا أن يكمله فى أورشليم وأما بطرس واللذان معه فكانوا قد تثقلوا بالنوم فلما استيقظوا رأوا مجده والرجلين الواقفين معه وفيما هما يفارقانه قال بطرس ليسوع، يا معلم: جيّد أن تكون هاهنا فنصنع ثلاث يمظال، لك واحدة ولموسى واحدة ولإيلياء واحدة وهو لا يعلم ما يقول وفيما هو يقول ذلك كانت سحابة تظلّلهم فخافوا- أي التلاميذ- عند ما دخلوا السحابة- أي المسيح وصاحباه- وصار صوت من السحابة قائلا: هذا هو ابني الحبيب، له اسمعو. «ولما كان الصوت وجد يسوع وحده.» لوقا (9: 18- 37) . ونجد فى هذا الخبر أمورا تستلفت النظر: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 990 فمنها، أن شعورا كان متسلطا على اليهود يومذاك بأن القديسيين والأنبياء يمكن أن يقوموا من الأموات، وأن يصلوا من حياتهم ما انقطع بسبب الموت.. ولهذا كان معتقد كثير من اليهود أن المسيح هو يوحنا المعمدان قام من الأموات! ومنها أيضا أن بطرس حين قال للمسيح: أنت مسيح الله، انتهره، وأوصى تلاميذه ألا يقولوا ذلك لأحد.. وعلل ذلك بأن ابن الإنسان- أي المسيح- ينبغى أن يتألم كثيرا، وأن يرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة، وفى اليوم الثالث يقوم. ولا ندرى- إذا كان المسيح هو المسيح-لماذا ينكر نفسه؟ ولماذا لا يلقى الناس على الصفة التي جاء بها؟ إن ذلك هو أول ما ينبغى أن يتحدث به إلى الناس، حتى يعرفوا شخص من يتعاملون معه، والصفة التي له وإلا تقطعت بينه وبينهم الأسباب، وكانت دواعى التناكر والتنابذ أشد وأقوى من دواعى التعارف والتآلف! فكيف ينكر المسيح صفته؟ وكيف للناس أن يعرفوه، وهو يأبى إلا أن يستر حاله عنهم، ويقيم بينهم وبينه حجبا وأستارا، ويكلمهم من وراء حجاب؟ فبأى وجه يلقاهم؟ ومن هو؟ وما صفته التي يخاطبهم بها؟ ندع هذا. وننظر فيما يتكشف من هذا الخبر من ملابسات تتصل بشخصية المسيح قبل حادثة الصلب.. فها نحن أولا نرى السيد المسيح يكشف لتلاميذه عن شخصيته، وأنه المسيح.. مسيح الله..! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 991 ونراه يدعوهم إلى التمسك برسالته واحتمال الأذى فى سبيلها.. فهو مزمع أن يرحل، ومن أراد أن يلحق به فى الملكوت الأعلى فلينكر نفسه، وليحمل صليبه كل يوم ويتبعه. ثم نرى السيد المسيح كذلك وقد انفرد بثلاثة من خاصة تلاميذه: بطرس، ويوحنا، ويعقوب.. وصعد بهم إلى جبل ثم أخذ يصلى.. إنه هنا على موعد مع ربه.. ولقد تغيرت هيئته وصار لباسه مبيضّا لامعا، وظهر له موسى، وإيليا، وأخذت تلاميذه سنة من النوم، فلما استيقظوا رأوا هذا المشهد العجيب الرائع.. ثم رأوا المسيح وصاحبيه قد أظلتهم سحابة، وصار صوت من السحابة يقول: هذا هو ابني الحبيب له اسمعوا..» . ثم تعقّب الأناجيل على هذا الخبر بقولها «ولما كان الصوت، وجد يسوع وحده» ! ونقول: ألا يحق لنا أن نفترض- مجرد افتراض- أن المسيح قد صعد مع صاحبيه موسى وإيليا؟ ثم ألا يقوّى هذا الافتراض أن يقوم إلى جانبه زعم آخر، وهو أن موسى وإيليا إنما ظهرا ليسوع فى الوقت الذي قطع فيه الشوط إلى آخره من رسالته، ليصحباه وليؤنساه فى طريقه إلى العالم العلوي؟. ويعترضنا هنا قول الأناجيل «ولما كان الصوت وجد المسيح وحده» ! ونقول إنه كان لا بد أن يوجد المسيح أو أن يحتفظ له بهذا الوجود! .. إنه لا بد أن يملأ هذا الفراغ بأية صورة!! وإلا فكيف يكون موقف هؤلاء التلاميذ الثلاثة الذين صحبوه، إذا هم عادوا بغيره؟ ثم كيف يكون موقف تلاميذه وأتباعه إذا رآهم الناس ولم يروا المسيح معهم؟ أيقولون مثلا: إن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 992 المسيح قد رفع إلى السماء؟ فمن يشهد لهم بهذا؟ ومن يقبل هذا القول منهم، ويصدّقه؟ لقد أنكر اليهود على المسيح أنه المسيح، وأنكروا عليه أنه رسول من عند الله.. وها هم أولاء يتوعدونه ويعدّون العدة للإيقاع به، والقضاء عليه، ثم ها هو ذا يختفى من الميدان.. أفيقبل بعد هذا من أحد أن يقول إن المسيح قد رفع إلى السماء؟ إن هذا القول لأشد نكرا عند اليهود من كل ما تحدّث به المسيح إليهم، وكان داعية لثورتهم عليه، وتربّصهم به؟ لا بدّ إذن أن يظل المسيح قائما فى الميدان! وأين المسيح؟ بل أين من يأخذ مكان المسيح؟ تلك هى المشكلة! ولا سبيل إلى حلّ هذه المشكلة إلا إذا تخففنا كثيرا من منطق العقل- خاصة وأن القضية كلها خارجة عن سلطان العقل- وإلا إذا سمحنا للخيال القصصى والأسطورى أن يقوم بدوره هنا لحلّ هذه المشكلة! عندئذ يتغير وجه الصورة التي تمثلت لنا فى حادثة الصلب، كما ترويها الأناجيل، فنرى مثلا يهوذا الأسخريوطي، وهو أحد الحواريّين الاثنى عشر الذين اختارهم المسيح وربّاهم على يديه- نراه وقد اتّجه إلى اليهود الذين كانوا يتربصون بالمسيح، فيدخل عليهم الهيكل ويهتف بهم أن الفرصة قد سنحت لهم ليأخذوا المسيح ويفعلوا به ما يشاءون. وكان ذلك على علم من أصحابه الذين بعثوا به، ليتمّ ما دبروه. وكان تدبير التلاميذ قد سبق هذا العمل، فتخيّروا واحدا من أتباع المسيح فيه بعض مشابه منه، ليكون هو البديل عن المسيح، ويتقبل المصير الذي كان اليهود مزمعين أن يصيروا بالمسيح إليه! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 993 وكان من التدبير أيضا أن تخيّر «يهوذا» الوقت الذي يقبض فيه على «المسيح» المدّعى، وهو الليل، كما كان من التدبير أيضا أن يكون المكان بستانا، لا بيتا ولاخلاء.. وفى هذا الزمان وذلك المكان تختلط أشباح الناس، بالأشجار والأغصان التي تتراقص وتضطرب فى ضوء الشموع والمشاعل والمصابيح، التي حملها القوم معهم، ليروا طريقهم فى هذا الليل البهيم!. وقد كان! فجاء القوم وخرج إليهم «المسيح» البديل يسألهم: من تطلبون؟ فيقولون: يسوع! فيقول: ها أنا ذا!. وفى هذا يقول يوحنّا: «وخرج- المسيح- مع تلاميذه عبر وادي قدرون حيث كان بستان دخله هو وتلاميذه، وكان يهوذا مسلمه، يعرف الموضع، لأن يسوع اجتمع هناك كثيرا مع تلاميذه، فأخذ يهوذا الجند وخداما من عند رؤساء الكهنة والفرّيسيين وجاء إلى هناك بمشاعل ومصابيح وسلاح، فخرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتى عليه، وقال: من تطلبون؟ أجابوه: يسوع الناصري. قال لهم يسوع: أنا هو!! وكان يهوذا مسلمه أيضا واقفا معهم، فلما قال لهم: إنى أنا هو، رجعوا إلى الوراء، وسقطوا على الأرض.. فسألهم أيضا: من تطلبون؟ فقالوا: يسوع الناصري!! أجاب يسوع: قد قلت لكم أنا هو..؟ (إنجيل يوحنا: 18: 1- 9) . إنهم كانوا بلا شك يعرفون شخص المسيح الذي تعلقت الأنظار به فى أكثر من موقف من مواقفه الرائعة المذهلة.. ولكنهم فى هذا الظلام أو فى هذا النّور المظلم، لم يكن فى مقدورهم أن يتبينوا شخوص الناس، وأن يتحققوا من ذواتهم.. ولهذا كان سؤال وكان جواب! وقد وضع القوم يدهم على هذا الذي دعاهم إليه وقال: إنه يسوع!. ثم إنهم ما كانوا يضعون أيديهم عليه حتى أخذته الأيدى والأرجل، صفعا وركلا، حتى لتتغيّر لذلك هيأته، وتكاد تذهب كل معالم شخصيته!. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 994 وفى صورة هذا المسيح «البديل» نستطيع أن نفسّر كثيرا من تلك المواقف الغامضة، التي كانت تبدو متأبّية على كل تفسير وتأويل.. فهذا يهوذا الأسخريوطي الذي بدا لنا من قبل خائنا ساقط المروءة، يبيع أستاذه ومعلمه بدراهم معدودة، وهو الذي كان إلى يده بيت مال المسيح وأتباعه- ها هو ذا يبدو لنا فى هذا التصور حواريّا قائما على العهد الذي بينه وبين المسيح، محتفظا بمكانه بين الاثنى عشر حواريا الذين يقول المسيح عنهم مخاطبا ربه- كما تروى الأناجيل- «إن الذي أعطيتنى لم أفقد منهم أحدا» ثم هاهوذا بطرس الذي تبع «المسيح» وأنكره ثلاث مرات لم يكتف بهذا بل سبّه ولعنه- وهو فى هذا الموقف أسوأ حالا من يهوذا- نراه هنا لم يكذب حين أنكر معرفته بهذا الرجل، كما أنه لم يأت كبيرة حين سبّ ولعن! لأنه لم يسب المسيح ولم يلعنه، وإنما أنكر البديل، وسبّه ولعنه! ثم هذا الذي كنا نستغربه، ونعجب له من صمت المسيح ومن عيّه عن ردّ الجواب.. أمام رئيس الكهنة (قيافا) وأمام الوالي بيلاطس.. ثم هذا العجز الظاهر وهذه- الشخصية الباهتة التي رآها فيه «هيرودس» .. ثم هذا الجزع وهذا الضعف وهذا الصراخ اليائس الذي كنّا نسمعه من المصلوب، ونعجب له «1» كل هذا يبدو مقبولا يقوم على مألوف الحياة، وعلى مستوى الطبيعة البشرية، على حين كان- يبدو غريبا ممعنا فى الغرابة أن يصدر من مسيح الله، ومن أحد حوارييه وتلاميذه الذين وطّنوا أنفسهم على الموت فى سبيل الله! فهل رأيت إلى هذا الفرض الذي افترضناه وكيف حلّ كثيرا من المشكلات وقضى على كثير من المتناقضات التي كانت تصادفنا فى قصّة صلب المسيح، كما ترويها الأناجيل؟ لقد استقرت أجزاء هذه الصورة وثبتت ملامحها، بعد أن كانت تبدو مهزوزة مضطربة تجمع المتناقضات.! ثم ألا ترى   (1) تحدثت الأناجيل عن كل هذه الأحداث على هذا النحو الذي ذكرناه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 995 أن قبول هذا الفرض أولى من الأخذ بتلك الأخبار المتنافرة عن صلب المسيح، واعتبار أن المسيح نفسه هو الذي صلب؟ ألا يعفينا هذا الفرض من كثير من المشكلات التي واجهها العقل- واضطرب فيها حين وجد نفسه بين يدى «الله» أو ابن الله.. مصلوبا معلقا على خشبة، يصرخ فى رعب وفزع واضطراب؟ فإذا جاء بعد هذا شاهد يشهد بأن المسيح لم يصلب، ولم يقتل، أفلا يلفتنا هذا الشاهد إليه، وإلى كل كلمة يقولها فى هذه القضية؟ ثم ألا تقوّى هذه الشهادة من الفرض الذي افترضناه وتدنيه من الواقع وتدفع به إليه؟ فكيف إذا كان هذا الشاهد منزّها عن الكذب، لا يشهد إلا بالحق، ولا يقول غير الحق؟ ثم كيف إذا كان الشاهد هو القرآن الكريم، والقول هو قول رب العالمين؟ .. وكيف إذا قال هذا الشاهد فى صلب المسيح: «وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ» ؟ هذا، وقد حاول كثير من مفسرى القرآن الكريم من علماء المسلمين أن يقولوا بآرائهم فيما أجمله القرآن ولم يفصّله ويكشف عن وجهه.! ومثل هذه المقولات إنما هى لحساب أصحابها، وليس على القرآن شىء منها، إذ لا تعدو أن تكون أنظارا متجهة إلى آية من آيات الله.. قد تتهدّى إلى بعض أسرارها، وقد تضلّ الطريق فلا تعرف شيئا! وللإمام الرازي قصب السبق فى هذا المجال، فهو أكثر مفسرى القرآن تقليبا لوجوه الرأى، وجلبا للآراء والأخبار من كل واد، شرحا لمجملات القرآن، وإشاراته.. وفى قوله تعالى «وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ» مثل لهذا المنهج فى تفسير القرآن: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 996 يقول الرازي فى تفسيره لهذا المقطع من الآية الكريمة: «اختلفت مذاهب العلماء فى هذا الموضوع، وذكروا طرقا: (الأول) قال كثير من المتكلمين: إن اليهود لمّا قصدوا قتله رفعه الله تعالى إلى السماء، فخاف رؤساء اليهود من وقوع الفتنة من عوامهم فأخذوا إنسانا وقتلوه وصلبوه وشهدوا على الناس أنه المسيح! (الثاني) أنه تعالى ألقى شبهه على إنسان آخر.. ثم فى هذا وجوه: 1- دخل طيطاوس اليهودي المكان الذي فيه المسيح فلم يجده، فألقى شبهه عليه، فلما خرج ظنّ أنه عيسى، فأخذ وصلب! 2- وكلوا بعيسى رجلا يحرسه، فرفع عيسى إلى السماء وألقى الله شبهه على ذلك الرقيب.. فقتلوه وهو يقول: لست بعيسى!. 3- تطوّع أحد أصحابه، فألقى الله شبه عيسى عليه، فأخرج وقتل، ورفع عيسى. 4- نافق أحد تابعيه، ودلّهم على عيسى ليقتلوه، فلما دخل اليهود لأخذه ألقى الله شبهه عليه، فقتل وصلب! «وهذه الوجوه متعارضة متدافعة! والله أعلم بحقائق الأمور!! ثم يثير الرازي مناقشة حول هذه المقولات فيجرّحها جميعا، ولا يرتضى واحدة منها.. فيقول. «فكيفما كان، ففى إلقاء شبهه على الغير إشكالات: (الإشكال الأول) : أنه إن جاز أن يقال إن الله يلقى شبه إنسان على إنسان آخر، فهذا يفتح باب السفسطة. وأيضا يفضى إلى القدح فى التواتر.. ففتح هذا الباب، أوله سفسطة وآخره إبطال النبوات بالكلية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 997 (الإشكال الثاني) أن الله أيده بروح القدس جبريل، فهل عجز هنا عن تأييده؟ وهو- المسيح- كان قادرا على إحياء الموتى.. فهل عجز عن حماية نفسه!؟ (الإشكال الثالث) أنه تعالى كان قادرا على تخليصه برفعه إلى السماء، فما الفائدة فى إلقاء شبهه على غيره؟ وهل فيه إلّا إلقاء مسكين فى القتل من غير فائدة إليه؟ (الإشكال الرابع) بإلقاء شبهه على غيره اعتقد اليهود أن هذا الغير هو عيسى، مع أنه ما كان عيسى، فهذا إلقاء لهم فى الجهل والتلبيس، وهذا لا يليق بحكمة الله! (الإشكال الخامس) أن النصارى على كثرتهم فى مشارق الأرض ومغاربها، وشدة محبتهم للمسيح، وغلوّهم فى أمره، أخبروا أنهم شاهدوه مقتولا مصلوبا، فلو أنكرنا ذلك طعنّا فيما ثبت بالتواتر.. والطعن فى التواتر يوجب الطعن فى نبوة محمد وعيسى وسائر الأنبياء. (الإشكال السادس) ألا يقدر المشبوه به أن يدافع عن نفسه أنّه ليس بعيسى؟ والمتواتر أنه ما فعل، ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق هذا المعنى، فلما لم يوجد شىء من هذا علمنا أن الأمر ليس على ما ذكرتم!» . هذه هى الإشكالات التي أثارها «الرازي» على القول بأن المصلوب شخص آخر ألقى شبه المسيح عليه.! وقد عرضنا من قبل رأيا افترضناه فرضا، وهو أن الشخص المصلوب شخصية قدّمها أتباع المسيح- لا اليهود- لتحاكم وتقتل، وذلك بعد أن رفع المسيح إلى السماء مع موسى وإيليا. وذلك لكى يسدّوا هذا الفراغ الهائل الذي تركه المسيح! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 998 وهذا الفرض لا يثير إلا إشكالا واحدا.. وهو أن اليهود قتلوا شخصا هو المسيح بن مريم فى اعتقادهم، على حين أن المقتول شخص آخر غيره.. وهذا- كما يقول الرازي- إلقاء لهم فى الجهل والتلبيس، وهذا لا يليق بحكمة الله! وقلنا إن ذلك كان عقوبة لليهود، إذ حملوا دم المسيح دون أن يقتلوه! وفى ذلك ما فيه من الكبت والحسرة لهم! وبعد، فإن «قضية صلب المسيح» ينبغى أن يعاد النظر فيها، وأن تحقّق تحقيقا علميا، وأن تفنّد الحجج التي تؤيدها والتي تنكرها.. بل إن هذا هو الذي ينبغى أن يقوم له العلماء والدارسون على اختلاف عقائدهم منذ نزل القرآن الكريم وأعلن هذا النبأ العظيم: «وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ، وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ.. وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ، ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً.. بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» . ولو أن البحث فى قضية الصلب انتهى بالباحثين إلى تلك الحقيقة التي قرّرها القرآن- وهو لا بد منته بهم إليها- لا التقت الديانات السماوية الثلاث على سواء.. فأولا: كاد اليهود يقطعون الشك باليقين فى أمر مسيحهم المنتظر الذي يعدّون العدة لاستقباله، الأمر الذي يملأ صدورهم شعورا بالعزلة عن الناس والتعالي عن العالمين، باعتبارهم شعب الله المختار، ولنظروا إلى أنفسهم من جديد فرأوا أنهم قد فاتهم خير كثير كان يمكن أن يصل إليهم من هذا الميراث العظيم من تعاليم المسيح وأدبه، وبهذا يلتقون بتلك التعاليم السمحة الكريمة التي تذهب بالكثير من أدوائهم وعللهم، التي تنشر الشر والبلاء فى العالم كله. وثانيا: كان أتباع المسيح يعيشون مع تعاليم المسيح على هذه الأرض، ويغرسون مغارس الرحمة والحب والأخوة فى كل مكان، فلا تظل عيونهم معلقة به فى ملكوته، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 999 بينما تخلو قلوبهم وتصفر أيديهم من هذا الثمر الكريم الذي غرسته يداه فى هذه الأرض! وثالثا: كان المسلمون لا يرون هذه الحواجز القائمة بينهم وبين أتباع المسيح فى دراسة الأناجيل والتأدّب بآدابها والانتفاع بتعاليمها.. فالمسلمون وإن كانوا على يقين بأن المسيح لم يصلب ولم يكن إلها ولا ابن إله، فإن اعتقاد أتباع المسيح بهذا كله يدخل على المسلمين شعورا خفيا بالحذر من مخالطة الأناجيل، والتلقّى عنها، لما فيها من هذه المقولات التي تخالف معتقدهم الديني وتأخذ طريقا غير طريقه! ونسأل: ترى أتكشف الأيام عن جديد فى قضية الصلب والقيامة؟ وهل تجىء الأيام بتأويل ما نطق به القرآن الكريم فى هذه القضية؟ ذلك ما لا نشك فيه.. إن لم يكن اليوم فغدا!. وأحسب أن كثيرا من إخواننا المسيحيين قد يسوؤهم أن يقع هذا وأن يقول قائلهم- كما يقال- وأين المسيحية التي ندين بها، إذا لم يكن المسيح قد صلب وقام من بين الأموات؟ أمسيحية بغير المسيح مصلوبا ومقاما من بين الأموات؟ ثم أمسيحية بغير الإله يصلب فى شخص المسيح، لتكفير الخطايا وغفران الذنوب؟ ونقول لأولئك الذين يجزعون من القول بأن المسيح لم يصلب، ولم يقم من بين الأموات، ولم يكن إلها ولا ابن إله، وإنما كان عبدا من عباد الله ورسولا من رسل الله، كما يقول هو عن نفسه، وكما يصرح الإنجيل على لسانه بأنه نبىّ من أنبياء الله.. إذ جاء فى إنجيل لوقا: «فى ذلك اليوم تقدّم إليه بعض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1000 الفرّيسيين قائلين: اخرج واذهب من هنا، لأن هيرودس- وكان حاكم منطقة الجليل- يريد أن يقتلك، فقال لهم امضوا وقولوا لهذا الثعلب: ها أنا أخرج شياطين وأشفى اليوم وغدا وفى اليوم الثالث أكمل، بل ينبغى أن أسير اليوم وغدا وما يليه، لأنه لا يمكن أن يهلك نبىّ خارج أورشليم» (لوقا: 13: 31- 34 ) .. فالمسيح عند نفسه أنه نبىّ، إذا كان هذا كلامه.. وهو عند أتباعه كذلك.. نبىّ إذا كان هذا مما تصوره كاتب الإنجيل.. نعم- نقول لهؤلاء الذين يجزعون من القول بنفي صلب المسيح وألوهيته- لا عليكم.. فإنكم لو أقمتم نظركم على المسيح إنسانا رسولا، والتقيتم به على هذا الوجه وتعاملتم به على تلك الصفة، لتضاعف هذا الخير الذي تركه المسيح وراءه ... فى كلماته المشرقة وآياته الوضيئة، وكان لكم من هذا الزاد الطيب غذاء صالح تحيا به النفوس، وتطهر به الأرواح وتعمر القلوب.. بالحب والمودة والإخاء.. ولكان لكم فى المسيح الإنسان المثل الأعلى والقدوة الصالحة، لما تنزع إليه النفوس من حق وخير وكمال فى عالم البشر.. لا تجده الحياة على تمامه وكماله إلا فى رسل الله وأنبيائه، وفى الصفّ الأول منهم المسيح.. الإنسان.. ابن الإنسان! الآية: (159) [سورة النساء (4) : آية 159] وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) التفسير: المعنى الحرفىّ لهذه الآية هو: ما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ بالمسيح قبل أن يموت المسيح، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1001 ثم يكون المسيح يوم القيامة شهيدا على أهل الكتاب هؤلاء.. أي شاهدا عليهم بما كان منهم معه.. وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى.. فما تأويل هذا؟ وكيف يؤمن أهل الكتاب جميعا بالمسيح، وقد أنكره اليهود، وما زالوا، وهم من أهل الكتاب؟ ثم إن الأمر لأكثر من هذا.. فقد جاء الخبر مؤكّدا، مستغرقا جميع أهل الكتاب، فردا فردا.. وهذا يعنى أن الخبر على حقيقته، وأنه لا مجال فيه للمجاز.. وأنه حكم جازم قاطع بأن كل أحد من أهل الكتاب لا يموت إلا وهو مؤمن بالمسيح! فما تأويل هذا؟ قيل إن المراد من إيمان أهل الكتاب- من اليهود والنصارى- بالمسيح، هو تصحيح إيمانهم به ومعتقدهم فيه.. إذ كان اليهود قد نسبوه إلى أمّ زانية، واتهموه بالسحر والشعوذة والتجديف على الله، وحكموا عليه بالموت صلبا.. على حين أن النصارى رفعوه إلى مقام الألوهية، وجعلوه هو الله سبحانه وتعالى، تجسّد فى عذراء، وبشّر بالإنجيل، ثم صلب- مختارا- ليفتدى بدمه خطيئة آدم، وليطهّر البشر منها. ثم قام من بين الأموات بعد ثلاثة أيام..! وتصحيح إيمان هؤلاء وأولئك بالمسيح، هو رؤيته على الصورة التي هى له، وأنه عبد من عباد الله، وأنه ولد من أمّ دون أب، كما ولد آدم من غير أب ولا أم، وأنه نبىّ اصطفاه الله لهداية الناس، والتبشير بالحق، والعدل، والسلام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1002 فيهم، وأنه لم يصلب ولم يقتل، ولم يقم من بين الموتى.. وأنه ليس إلها ولا ابن إله.. أما تصحيح هذا الإيمان، فإنه يكون فى سكرة الموت، حيث تشهد الروح قبل أن تفارق البدن شعاع الحق يكشف لها كل ما كانت عليه من ضلال.. وفى لمحة خاطفة، أشبه بلمحة البرق ترى الروح كلّ شىء، وتعلم كل شىء..! ومن بين ما تعلمه فساد معتقدها أو سلامته، وسوء مصيرها أو حسنه! وهذا الذي تشهده الروح فى هذه اللمحة من معالم الحق لا يغيّر من وضعها الذي كانت عليه.. فهذا إيمان كإيمان فرعون حين أدركه الغرق، «حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» (90: يونس) وقد ردّ الله إيمانه ولم يقبله بقوله تعالى: «آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» (91: يونس) . الآيتان: (160- 161) [سورة النساء (4) : الآيات 160 الى 161] فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) التفسير: من العقوبات التي عجّلها الله سبحانه وتعالى لليهود فى هذه الدنيا، أن حرّم عليهم طيبات كانت أحلت لهم، فلما مكروا بآيات الله أخذهم الله بذنوبهم، فأعنتهم وأوقعهم فى الحرج، كما أعنتوا هم رسله وأخرجوهم.. فمن طيبات الطعام التي حرمها الله على اليهود، ما جاء فى قوله تعالى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1003 «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ» (146: الأنعام) وقوله تعالى: «فَبِظُلْمٍ» أي بسبب ما كان من الذي هادوا من ظلم.. وقوله تعالى: «وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً» هو سبب آخر لتلك العقوبة التي أخذوا بها، وهى أنهم صدّوا عن سبيل الله وأعرضوا عنها، كما صدّوا غيرهم عن سبيل الله، وأضلوهم عنه. وقوله تعالى: «وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ» هو بيان لبعض مآثم هؤلاء القوم، التي كانت سببا فى أن سلط الله عليه لعنته وأخذهم بهذا العقاب الأليم.. فقد استحلّوا الرّبا، وقد نهاهم الله عنه.. وقد بلغ من جرأتهم على الله أن حرّفوا التوراة، وأقاموا نصوصها على الوجه الذي يرضون.. فجعلوا الربا محرما إذا كان بين يهودى ويهودى، ومباحا حلالا إذا كان بين يهودى وأممىّ، أي غير يهودى.. وفى هذا تقول التوراة، كما أرادوا لها أن تقول: «لا تقرض أخاك بربا فضة، أو ربا طعام، أو ربا شىء مما يقرض بربا.. للأجنبى تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا!!» (تثنية 33: 19) .. أفهذا شرع الله بين عباده؟ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. وفى قوله تعالى: «وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا» ما يجعلنا نأنس إلى الرأى الذي رأيناه فى تفسير قوله تعالى: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1004 الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ» فقد قلنا إن المراد بآكلى الربا هنا هم المقترضون، لا المقرضون.. ولهذا جاء قوله تعالى هنا: «وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا» مرادا به المقرضون، وأصحاب الأموال، التي يتعاملون فيها بالربا، ولم يجىء هكذا: «وأكلهم الربوا» لأن اليهود يقرضون ولا يقترضون.. وقوله تعالى: «وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ» هو أعمّ من الربا، وهو كل مال جاء من طريق غير مشروع، كالسلب والسرقة، وكالقمار، والخداع، والغش، والرشوة، ونحو هذا.. واليهود يتزاحمون دائما على كل مورد من هذه الموارد، حتى لا يكادون يدعون مكانا لغيرهم من الناس! قوله تعالى: «وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً» .. هو نذير لليهود بالعذاب الأليم فى الآخرة، بعد أن لبسوا البلاء المهين فى الدنيا.. وفى وصفهم بالكفر، والاتجاه بالخطاب إليهم بهذا الوصف، هو لغلبة الكفر عليهم، كما يقول الله تعالى فيهم: «مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ» (110: آل عمران) .. وفى قوله تعالى: «مِنْهُمْ» استنقاذ لمن خلص بجلده من هذه الجماعة، وخرج عن محيطها، فآمن بالله، وأخلص دينه لله! الآية: (162) [سورة النساء (4) : آية 162] لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1005 التفسير: الراسخون فى العلم: هم أهل العلم القائم على النظر السليم، والفهم الذكىّ.. وهؤلاء الراسخون فى العلم من أحبار اليهود وعلمائهم- ليسوا على شاكلة قومهم من الكفر والعناد، وقساوة القلب.. بل هم إذ يرون الحق يعرفونه ويؤمنون به، وقد آمنوا بما فى أيديهم من كتاب، كما آمنوا بما نزل على محمد من كلام الله- فهم حيث وجدوا الحق، عرفوه، وانقادوا له، وأسلموا إليه زمامهم.. لا يعنيهم على أىّ يد جاءهم، ولا من أي جهة طلع عليهم.. وهكذا حكم العقل السليم على أهله.. يقودهم إلى الحق، ويجمعهم عليه.. وقوله تعالى «وَالْمُؤْمِنُونَ» هو عطف على قوله تعالى: «لكِنِ الرَّاسِخُونَ» .. فهؤلاء الراسخون هم والمؤمنون سواء، إذ يلتقون جميعا على الحق: «يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ» . وهؤلاء المؤمنون قد يكونون من مؤمنى اليهود، الذين آمنوا عن استجابة لدعوة الحق، ولم يتّبعوا أهواء أهل الضلال فيهم، فظلوا متمسكين بالعقيدة السليمة التي جاء بها موسى.. فهم مؤمنون.. وهؤلاء لا يرون فى إيمانهم تعارضا مع ما جاء به محمد صلوات الله وسلامه عليه، فهم والراسخون فى العلم سواء فى مواجهة الدعوة الإسلامية، إذ يرونها هى والحق الذي فى أيديهم على طريق واحد.. وقد يكون المراد بهؤلاء المؤمنين، المسلمون.. فهم إذ آمنوا بمحمد مدعوون إلى الإيمان برسل الله جميعا، وبالكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء.. قوله تعالى: «وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ» هو استئناف لتقرير حكم جديد، لمن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1006 آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة، ذلك، الحكم هو أن الله سيؤتيهم أجرا عظيما.. ومناسبة هذا الحكم لما قبله، هو أنه لما ذكر الله سبحانه وتعالى الراسخين فى العلم والمؤمنين وأنهم يؤمنون بما أنزل على محمد، وما أنزل من قبل- ناسب أن يذكر لهؤلاء آمنوا، أن وراء الإيمان عملا، وأن هذا العمل هو الذي يتمم الإيمان، ويعطى الثمرة الطيبة التي له.. وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة هما أبرز عملين من أعمال المؤمنين، وأن الاستقامة عليهما سبب لمرضاة الله، وللأجر العظيم عنده. وفى عطف قوله تعالى: «وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ على قوله سبحانه: «وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ» مع الاختلاف فى الصورة الإعرابية بين العطوف والمعطوف عليه- فى هذا ما يدعو إلى التوقف والنظر.. فلم لم يكن المتعاطفون نسقا واحدا، على أية صورة.. بالرفع مثلا، هكذا: «والمقيمون الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر؟ وقد كثرت فى هذا آراء المفسرين والنحاة.. ولم نر فيما قاله هؤلاء وهؤلاء وجها نستريح له، ونرضى به، ونطمئن إليه.. إذ كلها محاولات لتسوية هذا التخالف، الذي يبدو وكأنه تناقض وخروج على أساليب العرب، ومألوف كلامهم.. وكأنهم- أي المفسرون والنحاة- يلتمسون المعاذير للقرآن، لهذا الخلل الذي ظهر فيه هنا.!! وللقرآن الكريم، أن يكون متفقا مع قواعد النحاة أو مخالفا لها، جاريا ما عرف من أساليب العرب أو خارجا عنها.. وعلى النحاة أن يصححوا نحوهم عليه، وعلى الأساليب العربية أن تستقيم على ما طلع عليه بها القرآن من أساليب جديدة، وأن تجعلها من مذخورها الذي تحرص عليه، وتثرى باقتنائه، وتعتزّبه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1007 فلنتحرر إذن من قواعد النحو، وأساليب العرب، حينما نستقبل جديدا من أساليب القرآن وإعجازه، ولنلقه بقلوبنا، لقاءنا لمعجزة قاهرة متحدية.. ونعم، فإننا بين يدى كل آية من آيات الكتاب الكريم، فى مواجهة معجزة متحدية، لا تكشف لنا عن وجهها إلا بعد توقف ونظر.. ولكنا حين نكون بين يدى آية تطلع علينا بأسلوب غير مألوف من أساليب العربية، وغير جار على مقررات النحاة وقواعد النحو- فإننا نكون حينئذ فى مواجهة آية تكشف لنا عن وجه من وجوه إعجازها، وتدعونا إليها، وتحملنا حملا على النظر فى وجهها. فهنا فى هذه الآية.. دعوة صريحة، وإشارة مضيئة، إلى كلّ من يلتقى بهذه الآية الكريمة أن يقف عندها، وأن يدبر النظر فيها، وأن يسأل نفسه كل تلك الأسئلة التي سألها المفسرون والنحاة، عند ما التقوا أو يلتقون بكلمة: «وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ» . لماذا خالفت نسق ما قبلها؟ ولماذا تخالف نسق ما بعدها؟ ولعلنا لا نقف طويلا عند الإجابة عن السؤال الأول.. إذ نجد الجواب حاضرا قريبا، وهو أنه ليس بين هذه الكلمة وما قبلها صلة عطف، وأن «الواو» التي تسبقها ليست واو عطف، وإنما هى للاستئناف.. إذ قد تمّ الكلام قبلها، واستؤنف بها كلام جديد، لتقرير حكم جديد.. ويبقى بعد ذلك الجواب عن السؤال الثاني.. وهو الذي يحتاج إلى طول نظر، وكثير تأمل! وأقلّ ما تخرج من بعد هذا النظر الطويل، وهذا التأمل الكثير هو: (أولا) : قطع ما بعد الواو فى قوله تعالى: «وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ» عما قبلها.. إذ كان لما قبلها شأن، ولما بعدها شأن آخر.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1008 ولو لم يلقنا هذا التخالف فى نظم الآية لما وقفنا عند تلك الكلمة، ولربّما داخلنا شعور- من حيث لا ندرى- أن الآية الكريمة نسق واحد، تنتهى إلى حكم واحد، هو ما ختمت به الآية فى قوله تعالى: «أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً» . (وثانيا) ترديد كلمة «وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ» والدوران حولها، والبحث عن الوجه الذي تنتظم فيه بما قبلها أو بعدها.. وفى هذا الترديد لتلك الكلمة، والتحديق الطويل فيها- ما يربط الشعور بها، ويشدّ العقل إليها، ويشغل التفكير بها.. وذلك من شأنه أن يقيم الصلاة مقاما مكينا فى كيان المؤمنين، الأمر الذي يجب أن يكون للصلاة، إذ هى عمود الدّين، وركنه الركين.. من أقامها فقد أقام الدين، ومن ضيعها فقد ضيّع الدين.. والسؤال هنا.. ما الوجه النحوي الذي يستقيم عليه الرأى فى هذه الكلمة؟ وهل هى منصوبة على الاختصاص.. أو معطوفة على معمول الباء فى قوله تعالى: «يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» أي ويؤمنون بالمقيمين الصلاة.. رفعا لشأن الذين يقيمونها، وأنهم معلم من معالم الإيمان..؟ أما نحن فإنا لا نورد هذا السؤال.. ولا نتصدّى للإجابة عليه.. وإنما نتقبّل الأسلوب القرآنى، دون أن نجد فيه علة تدعو إلى كشف، أو غموضا يحتاج إلى بيان!! وغاية ما يمكن أن نقوله هو: أن هذا هو أسلوب القرآن.. وعلى النحو أن يصحح قواعده عليه، وعلى البلاغة أن تضبط موازينها به! الآيات: (163- 165) [سورة النساء (4) : الآيات 163 الى 165] إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1009 التفسير: ما حجّة هؤلاء الذين يفرّقون بين رسل الله، ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض؟ ما حجتهم؟ وما عذرهم؟ ورسل الله جميعا هم بعثة الهدى والرحمة المرسلة من الله إلى عباد الله.. لا يحملون فى أيديهم إلا الخير، ولا يمدّونها بغير الهدى! .. فكيف يقبل الناس على بعضهم ويعرضون عن بعض؟ وكيف يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض؟ إن ذلك هو كفر، وإن الإيمان المتلبس به لا معتبر له.. لأنه إيمان قائم على التعصب والهوى، لا على الحق والهدى.. ولو كان إيمانا صحيحا لا استقام على كل طريق يقوم على الإيمان ويدعو إليه.. وقوله تعالى: «إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ..» هو بيان لهذا المنزّل على «محمد» صلوات الله وسلامه عليه، وأنه عليه الصلاة والسلام.. ليس بدعا من الرسل.. والأسباط، هم أبناء يعقوب.. وعدتهم اثنا عشر ومنهم، يوسف- عليه السلام-. وفى قوله تعالى: «وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً» - ما يسأل عنه.. وهو: لم انفرد داود عليه السلام بقوله تعالى: «وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً» ؟ ولم لم يدرج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1010 مع الأنبياء الذين أوحى الله إليهم، وكان لهم ذكر قبله؟. والجواب على هذا، هو أن «الزبور» لم يكن من كلمات الله الموحى بها، وإنما كان إلهامات ومشاعر فاض بها قلب داود، فى مقام الولاء والخشوع لله، فكانت ترانيم جرت على لسانه، يمجّد الله بها، ويرفعها إليه فى صلوات خاشعة، أشبه بالمأثور من دعاء النبىّ صلوات الله وسلامه عليه، فى مواقف صلواته لله، وتسبيحه له.. ولهذا أضيفت إليه فسميت «مزامير داود» . وقد نوّه الله سبحانه وتعالى، بهذه التسابيح التي فاض بها قلب داود، وأطلقتها مشاعره. وردّدها لسانه- لما فيها من صدق الإيمان، وإخلاص الحبّ والولاء لله، وجعلها سبحانه، مما يتقرب بها إليه المؤمنون، ويسبّحه بها المسبّحون! وقوله تعالى: «وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً» إشارة إلى أن ما تلقّى موسى من كلمات ربّه لم يكن عن وحي ينقل إليه كلمات الله، كما كان يفعل جبريل مع أنبياء الله، وإنما كان تلقيا مباشرا من الله سبحانه: «وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً» وفى تأكيد هذا الخبر ما يدفع أي احتمال لمجاز، بل إنّ هذا الذي تلقاه موسى من ربّه، كان مما كلّمه الله به، وكتبه له فى الألواح.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ» (145: الأعراف) وكان ذلك فى أربعين ليلة هى التي انعزل فيها موسى عن قومه، ليستقبل ما تلقاه من ربّه.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» (142: الأعراف) . وقوله تعالى: «رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ» أي أرسلنا رسلا إلى الناس، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1011 مبشرين ومنذرين، يبشرونهم بمغفرة ورضوان إذا هم استجابوا لرسل الله، وآمنوا بالله، وينذرونهم بما يلقون من سخط الله وعذابه، إذا هم كذّبوا رسل الله وكفروا بالله.. وقوله سبحانه: «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» هو إشارة إلى ألطاف الله، ورحمته بعباده، حيث لم يدعهم إلى عقولهم ليتعرفوا إليه، ويستقيموا على سبيله، بل رفد هذه العقول بذلك النور الهادي الذي حمله إليهم رسل الله، لتكون رؤيتهم لآيات الله واضحة، وطريقهم إليه مشرقا.. فمن كفر بالله وحاد عن طريقه، فليس ذلك عن علّة، إلا العناد، واتباع الهوى، والانقياد للشيطان.. فإذا أخذ الكافر بكفره، فذلك هو الحكم الذي حكم به الكافر على نفسه، ورضيه لها. فلا عذر لمعتذر، ولا حجة لكافر. وقوله تعالى: «وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» هو بيان للصفة الإلهية المتجلية على العباد فى هذا المقام. فهو سبحانه وتعالى عزيز، يخضع لعزته كل موجود.. ولو شاء لأخذ الناس بغير حجّة عليهم، ولعذبهم من غير أن يبعث فيهم رسله مبشرين ومنذرين- إذ ليس لأحد أن يراجع الله، ولا أن يعترض على ما يريد.. ولكنه- سبحانه- مع هذه العزة المتمكنة الغالبة «حكيم» لا يفعل إلا ما تقضى به حكمته، فى إشراقها وعدلها. الآيات: (166- 169) [سورة النساء (4) : الآيات 166 الى 169] لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1012 التفسير: قوله تعالى: «لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ» هو رد على المكذبين برسول الله، الذين يتهمونه- كذبا- وبهتانا- أنه يدّعى على الله هذا الكتاب الذي يقول فيه إنه من عند الله.. وقد ردّ الله سبحانه وتعالى عليهم بتلك الشهادة القاطعة، بأن هذا الكتاب هو من عند الله.. فهو كتاب الله، وقد شهد الله سبحانه أنه كتابه، وأنه هو الذي أنزله. وإذ يكون الكتاب المكذّب به، هو الذي يحمل تلك الشهادة التي تشهد له بأنه من عند الله، الأمر الذي لا يجرؤ عليه أحد، يقف مثل هذا الموقف، ويواجه بمثل هذا الاتهام- فإن هذا فى ذاته دليل على أن الكتاب هو كتاب الله، وأن الله هو الذي يشهد لكتابه، ولو أن القرآن كان من عمل محمد، لما كان من التدبير الحكيم أن يحمّل هذا القرآن شهادة تشهد له أنه من عند الله!! إذ من يصدق هذا، أو يقبله، ممن يدفعون الكتاب جملة، ويتهمون حامله إليهم بالكذب والافتراء!؟ ولكن حين يكون الكتاب هو كتاب الله، والرسول هو رسول الله، فإنه مأمور بأن يبلغ ما ما يتلقّى من ربّه، وأن يحمل هذه الشهادة ويبلّغها، غير عابىء بما يلقاه به المكذبون من تشنيع وشغب! وهذا أبلغ دليل على أن الكتاب هو من عند الله، وليس محمد إلا رسولا مبلّغا له. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1013 وقوله تعالى: «أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ» أي أنزل الله هذا الكتاب الذي أنزل إليك، بعلمه وتقديره، حيث تخيّر له الرّسول الذي هو أهل لحمله وأداء الرسالة المشتمل عليها.. وفى هذا يقول الله سبحانه: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» (124: الأنعام) وقوله سبحانه: «وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ» أي والملائكة يشهدون أن هذا الكتاب هو من عند الله، وأنك الرسول المتخيّر. وشهادة الملائكة قائمة على الحق، لأنهم لا يعرفون الكذب، ولا يتعاملون به.. فهم إذا شهدوا على شىء كان حجة على الناس أن يأخذوا بهذه الشهادة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (18: آل عمران) أي والملائكة وأولوا العلم يشهدون بأن الله لا إله إلّا هو قائما بالقسط. وقوله تعالى: «وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» هو دفع لشبهة من يقع فى وهمه أن شهادة الملائكة تزكية لشهادة الله وتقوية لها.. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وإنما شهادة الملائكة هى إقرار بالحق الذي يجب أن يشهد به الوجود كله، وبخاصة أصحاب العقول، وأولوا العلم! وإذا كانت تلك هى شهادة الله سبحانه للقرآن الكريم، وهى شهادة الملائكة أيضا له.. فإن الذين لا يأخذون بهذه الشهادة، ويظلّون على ما هم فيه من كفر وعناد، لا يستقيم لهم طريق على الحق أبدا، وأنهم إذ كفروا وظلموا أنفسهم بهذا الكفر، فليس لهم فى رحمة الله نصيب: «لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً» . وقوله تعالى: «إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ» هو كشف عن هذا المصير الذي سيصير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1014 إليه هؤلاء الذين كذّبوا بآيات الله، ودفعوا شهادة الله، وشهادة ملائكته.. فإن طريق الضلال الذي ركبوه هو منته بهم إلى جهنّم، التي سيصلون سعيرها، «خالِدِينَ فِيها أَبَداً..» وقوله تعالى: «وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً» أي أن سوق هؤلاء الكافرين إلى عذاب جهنم، وخلودهم فيها، هو هيّن عند الله، وأنّ أخذ هؤلاء الجبابرة العتاة ليس بالأمر الذي يقف دون قدرة الله، كما يتصور الذين لا يعرفون الله حق معرفته، والذين يرون فى رؤسائهم وقادتهم، أنهم فى مقام عزيز لا ينال.. وهذا هو بعض السرّ فى الإشارة إلى صنيع الله بهؤلاء الظلمة الكافرين، الذين هم شىء عظيم فى أعين أتباعهم والمستضعفين لهم.. وإلا فإن كلّ شىء هيّن يسير على الله.. لا يعجزه شىء، ولا يقف لقدرته شىء! (الآية: 170) [سورة النساء (4) : آية 170] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) التفسير: بعد أن كشف الله سبحانه وتعالى عن هذا المصير المشئوم، الذي سيصير إليه أولئك الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله، ووقفوا من الرسول هذا الموقف العنادىّ الآثم- جاءت دعوة الله للناس جميعا أن يلتقوا بهذا الرسول، الذي جاءهم بالحق من ربهم، وليؤمنوا به، فإن آمنوا فقد كسبوا أنفسهم، واختاروا الخير لها، وإن كفروا، فقد خسروا أنفسهم، وأوردوها موارد الهلاك.. ولن يضرّ كفرهم إلا أنفسهم، فالله غنىّ عن إيمان المؤمنين، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1015 وكفر الكافرين.. له ما فى السماوات والأرض.. «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» (93: مريم) . وقوله تعالى: «وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً» أي يعلم المفسد من المصلح، وما تخفى الصدور من نفاق وكفر، وما تحمل القلوب من هدى وإيمان.. وهو حكيم اقتضت حكمته أن يجزى كلّ عامل بما عمل.. من خير أو شر. الآيات: (171- 173) [سورة النساء (4) : الآيات 171 الى 173] يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173) التفسير: الغلوّ: المبالغة فى الشيء، ومجاوزة الحدّ به، والخروج حدّ الاعتدال فيه.. سواء كان ذلك فى الدين، أو فى غيره. والاستنكاف: الاستكبار، واستنكف أن يفعل كذا: أي أبى أن يفعله استكبارا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1016 وهاتان الآيتان تخاطبان أتباع المسيح من أهل الكتاب، وتكشفان لهم عن موقفهم الخاطئ منه، وفهمهم المغلوط له.. وقوله تعالى: «يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ» أي لا تميلوا بدينكم إلى جانب الغلوّ والمبالغة فى نظرتكم إلى الأشياء، وتقديركم لها، والمراد بهذا هو موقف أتباع المسيح منه، وتأليههم له، على حين أن اليهود قد غالوا من جانب آخر فنزلوا بالمسيح إلى درجة المشعوذين، والمجدفين على الله، والواقعين تحت لعنته! وقوله سبحانه: «وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ» أي لا تقولوا فى الله، وفيما ينبغى له من صفات الكمال، إلا الحقّ.. وإنه ليس من الحق فى شىء أن يلبس الله سبحانه وتعالى هذا الثوب البشرى الذي كان عليه المسيح، وأن يولد من رحم امرأة، ثم يساق قسرا إلى الصلب، ثم يدفن مع الموتى! «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ» فهو (أولا) رسول الله.. ورسول الله غير الله. وهو (ثانيا) كلمة الله ألقاها إلى مريم.. وكلمة الله غير الله.. فكل شىء خلقه الله بكلمته «كن» فكان.. كما يقول سبحانه: «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (40: النحل) وهو (ثالثا) روح من عند الله.. ونفخة منه.. كالنفخة التي كان منها آدم، وكالروح التي كان منها الملائكة. ومن كان هذا شأنه فهو ليس إلها.. لأنه من صنعة إله.. إذ هو مضاف إلى الله.. رسول الله.. وكلمة الله.. وروح من الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1017 وقوله تعالى: «فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ» أي فآمنوا بالله إيمانا قائما على تنزيه الله أن يكون على صورة خلق من خلقه.. وآمنوا برسله، ومنهم عيسى.. فالله هو الله ربّ العالمين، وعيسى هو رسول الله رب العالمين.. فآمنوا بالله، وآمنوا برسل الله..! قوله تعالى: «وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ» هو تخطئة لهذه الكلمة الخاطئة التي يقولها من يرى الله ثلاثة آلهه: الآب، والابن، وروح القدس.. أو هو الأب، والابن، والأمّ.. وقوله سبحانه: «انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ» هو توجيه إلى قولة الحق، وإلى طريق الحق، بعد العدول عن قولة الزور، وطريق الضلال.. وقوله تعالى: «إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ» . هذا هو الوصف الحق لله تعالى: «إِلهٌ واحِدٌ» تنزّه أن يكون له ولد، لأنه سبحانه غنى عن العالمين «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» .. فما حاجته إلى الولد إذا احتاج الناس إلى الأولاد؟ وقوله سبحانه: «وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» إشارة إلى أن التوجه إلى الله وحده، هو المعتصم الذي ينبغى أن يعتصم به الإنسان.. فليس بعد قدرة الله قدرة، ولا مع سلطان الله سلطان.. «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» (3: الطلاق) . وقوله سبحانه: َنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ» هو بيان لما بين الله وبين عباده من حدود.. فالله هو الله، والعباد هم العباد.. ولن يستنكف أي مخلوق من مخلوقات الله أن يدين له بالعبودية والولاء.. لا المسيح ولا غير المسيح.. وإذا كان المسيح هو روح من الله. فإنه قد تلبّس بالجسد.. أما الملائكة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1018 فإنهم روح من الله لم يتلبس بجسد.. فهم- والحال كذلك- أولى من المسيح بأن ينازعوا الله فى ألوهيته.. ولكنهم هم خلق من خلق الله، وعباد من عباده.. لا يستكبرون عن عبادته! فالقول بألوهية المسيح- من هذه الجهة- منقوض، إذ كان الملائكة أعلى درجة منه، وأبعد مدى فى هذا الباب الذي دخل منه المسيح إلها مع الله، أو إلها من دون الله! وقوله تعالى: َ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً» أي ومن يستكبر عن عبادة الله، ويتأبّى أن يكون عبدا له، فإنه سيحشر مع من يحشرهم الله يوم القيامة، وسيلقى الجزاء المناسب له! (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» . الآيات: (174- 175) [سورة النساء (4) : الآيات 174 الى 175] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175) التفسير: بعد أن كشف الله سبحانه وتعالى ما عليه أهل الكتاب من عمى وضلال، ومن غلوّ فى جانب، وتقصير من جوانب أخرى- جاء هذا النداء الكريم، من قبل الحق، دعوة عامة للناس جميعا، أن ينظروا فى أنفسهم، وأن يدعوا هذا الضلال الذي هم فيه، وأن يتلفتوا إلى هذا الرسول الكريم، الذي هو برهان مبين، وحجة مشرقة لا يزبغ عنها إلّا ضالّ، ولا يجحد بها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1019 إلا هالك، فإنها تحمل بين يديها، هذا النور السماوي، الذي فيه تبصرة لأولى الألباب، وهدى للمتقين! ووصف الرسول الكريم بأنه برهان من عند الله، لما يحمل من الأمارات الدالة على أنه رسول رب العالمين- تحدثت به التوراة وتحدث به الإنجيل، وعرف أهل الكتاب من اليهود والنصارى صفته، فجاء على الوصف الذي يعرفونه.. ثم جحدوه وأنكروه.. فهو حجة قائمة عليهم، ودينونة معلقة فى أعناقهم. وقوله تعالى: «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ..» هو بيان للآثار المترتبة على هذه الدعوة الكريمة من ربّ كريم.. فمن استجاب لها، وأقبل على الله مؤمنا، مخلصا له الإيمان به وحده، فهو فى رحمته وفضله، وهو على نور من ربّه وهدى، لا يضلّ ولا يزيغ.. ومن كان هذا شأنه، وتلك سبيله، فالجنة مأواه، والنعيم نزله.. ومن صدّ عن سبيل الله، وحادّ الله ورسوله، فهو بعيد من رحمة الله، بعيد عن طريقه.. ومن كانت تلك صفته، فالجحيم مستقرّه، والنار مثواه! وقد ذكر القرآن الكريم الجانب المثمر من تلك الدعوة الكريمة، وعرض أهل الإيمان، وما يلقون من فضل وإحسان.. تشويقا للنفوس إلى هذا المتّجه الكريم، وبعثا للهمم والعزائم إلى أخذ حظها من هذا الخير المبسوط.. فتلك هى سبيل العقلاء، وهذا هو مبتغى الراشدين من عباد الله. أما السبيل الآخر- سبيل الغواة والضالين- فلم يذكره القرآن هنا، ولم يجعله وجها مقابلا لتلك الصورة المشرقة، إزراء به وبأهله، وحجبا للعيون أن تصطدم بهذه الصورة الكريهة، التي ينبغى أن ينصرف عنها كل عاقل، وأن يتجنبها كل رشيد! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1020 الآية: (176) [سورة النساء (4) : آية 176] يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) التفسير: هذه الآية مكملة لآيات المواريث التي وردت فى أوائل هذه السورة.. وقد جاء فى هذه الآيات شىء عن توريث «الكلالة» ! وهو من لا عصبة له تتلّقى ميراثه.. فقال تعالى: «وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ» ! والمراد بالأخوة هنا، الأخوة لأم! وفى هذه الآية التي نحن بين يديها، بيان لموقف الأخت، أو الأختين، من أبى المورث وأمه، أو من أبيه.. فإن كان للمورّث الكلالة. «أخت» فلها نصف ما ترك.. وإن كان له أختان أو أكثر فلهما أو لهن الثلثان.. وفى قوله تعالى: «وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ» أي انها إذ كانت لا ولد لها ولا والد.. فالأخ فى تلك الحال هو عصبتها، وهو يتلقى ميراثها بعد أن يأخذ الزوج- إن كان لها زوج- فرضه وهو النصف. وقوله تعالى: «وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1021 أي فإن كان ورثة المرأة التي لا ولد لها ولا والد إخوة من رجال، ونساء، اقتسموا ميراثها بينهم، للذكر مثل حظ الأنثيين، وذلك بعد الفرض المفروض للزوج، إن كان لها زوج. وواضح من هذا أن «الكلالة» فى الآية الكريمة لا تتناول هنا إلا الرجل فى صورة الأخ الشقيق أو لأب- حين يتوفى وليس له ولد أو والد. أما المرأة فى صورة الأخت الشقيقة أو لأب، فهى ليست كلالة، لأن لها عاصب يرثها وهو الأخ، وقد ذكرت هنا استكمالا للصورة التي تقع بينها وبين إخوتها، حين تكون وارثة، ثم حين تكون موروثة! وقوله تعالى «يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا» هذا البيان الذي بينه الله لكم فى هذه الآية، وفى غيرها من آيات القرآن الكريم، هو إرشاد وهداية لكم من الضلال، حين ترجعون إلى ما تقضون به إلى غير بيان من الله! وقوله سبحانه «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» هو بيان لسعة علم الله، وأن ما يقضى به هو الحق، وما بيّنه هو البيان الحق، الذي ليس وراءه بيان! فالتزموه، واستقيموا عليه، ليكون فى ذلك خيركم ورشدكم، وصلاح أمركم! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1022 5- سورة المائدة نزولها: هى مدنيّة بالإجماع، إلا قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» فإنها نزلت يوم عرفة فى الموقف، فى حجة الوداع، ورسول الله صلى الله عليه وسلم راكب على ناقته «العضباء» فسقطت الناقة على ركبتها من ثقل الوحى. عدد آياتها: مائة وعشرون آية.. وقيل مائة واثنتان وعشرون آية.. عدد كلماتها: ألفان وثمان مائة وأربع آيات. عدد حروفها: أحد عشر ألفا وتسع مائة وثلاثة وثلاثون حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم الآية: (1) [سورة المائدة (5) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1) التفسير: «أوفوا بالعقود» يقال: وفى بالعقد، وأوفى به، إذا أداه على الوجه الذي التزم به. و «العقود» جمع عقد، وهى المواثيق التي تبرم بين طرفين، على خلاف العهد الذي قد يكون من الإنسان، بالعهد يقطعه على نفسه! و «البهيمة» الحيوان من ذوات الأربع، برّيّا أو بحريّا.. وقيل هى كل ذى روح غير الإنسان، حيث تبهم عليها الأمور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1023 و «الأنعام» : البهائم التي يتألفها الإنسان، وينتفع بها فى وجوه كثيرة بيّن الله بعضها فى قوله: «وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ» (5- 6- 7: النحل) وبدء السورة بهذه الآية الكريمة التي تدعو إلى الوفاء بالعقود هو مناسب للسورة التي قبلها «سورة النساء» ، لما تضمنته من أحكام اليتامى، والمواريث، والزّواج، والتيمم، والجهاد، وغيرها، وكلها عقود ومواثيق بين الله وبين عباده الذين آمنوا به.. ثم إن هذا البدء مناسب لما سيجيئ بعد هذا- فى هذه السورة- من أحكام، بدئت بتلك التي تتصل ببهيمة الأنعام، وما أحلّ من لحومها.. وقوله تعالى: «أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ» هو بيان لحلّ الأنعام، من بين البهائم.. ثم إن هذه الأنعام ليست كلها مما أحلت لحومها.. ولهذا جاء قوله تعالى: «إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ» استثناء مقيّدا لهذا الإطلاق الذي تضمنه قوله تعالى: «أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ» . وقوله سبحانه: «غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ» هو قيد على هذا القيد وهو أن جميع الأنعام حرّم صيدها، على الحاج وهو محرم بالحج. ومن هذه الأنعام الظباء، وبقر الوحش، وغيرها مما يصاد للأكل، كالأرانب، والطيور.. فالمحرم لا يحلّ له صيد أي حيوان، سواء للأكل أو لغيره، وذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1024 صيانة لنفسه من العدوان، على إنسان أو حيوان، فى تلك الحال التي دخل بها- محرما- إلى حمى الله، ملتمسا العافية لنفسه.. ولن تكمل له هذه العافية فى نفسه، حتى يكون هو نفسه سلاما خالصا مع الناس والحيوان السارح فى ملكوت الله! وقوله سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ» هو دفع لكل اعتراض يقوم فى نفس لم تأخذ حظها كاملا من الإيمان.. فالله- سبحانه- له الخلق والأمر.. يحكم لا معقّب لحكمه.. «قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ» (73: الأنعام) . فهذا هو حكم الله، والله يحكم ما يريد. الآية: (2) [سورة المائدة (5) : آية 2] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2) التفسير: وإذ ذكرت الآية السابقة المحرم للحجّ، وحرمة الصيد عليه، وهو فى فترة الإحرام، ناسب أن يذكر مع هذا ما ينبغى على المحرم أن يلتزمه من حدود الله، والوفاء بالعقود والمواثيق التي أوجبها عليه إيمانه بالله.. وقوله تعالى: «لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1025 وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ..» هو بيان لهذه الحدود التي ينبغى للمحرم أن يلتزمها، ويقف عندها.. ومنها ألا يتحلل من شعائر الله.. والشعائر جمع شعيرة، وهى ما جعل شعارا، ومعلما من معالم الحج، من مواقف الحج، ومرامى الجمار، والمطاف، والمسعى وكذلك ما كان منها فعلا من أفعال الحج كالإحرام والطواف والسعى، والوقوف بعرفة، ورمى الجمار، والحلق، والنحر.. فهذه حدود يجب أن يلتزمها الحاجّ، ويؤديها على وجهها، ولا يغيّر من مكانها، أو صفتها.. وإلا كان محلّا لشعائر الله، مخالفا حكمه فيها.. ومنها: الشهر الحرام، ورعاية حرمته.. ومنها الهدى، وهو ما يساق إلى البيت، ويهدى إليه من شاء، أو بقر، أو إبل.. تقربا إلى الله.. فهذا الهدى له حرمته، وعلى الحاج أن يرعى له هذه الحرمة، وألا يمدّ إليه يدا بأذى، أو عدوان.. لأنه موجّه إلى الله، ومساق إلى بيت الله، والعدوان عليه عدوان على الله! ومنها: القلائد: جمع قلادة، وهى ما يقلّد به الهدى، كعلامة له، تدل على أنه مهدى إلى الله.. وفى تحريم العدوان على قلادة الهدى، مبالغة فى تأثيم العدوان على الهدى نفسه! ومنها: الذين يؤمّون البيت الحرام، ويقصدونه، فهم ضيوف الله، وعمّار بيته، والعدوان عليهم اجتراء على الله، وعدوان على حماه، ومن هم فى حماه. فهذه حرمات، هى مواثيق موثّقة مع الله، والعدوان عليها نقض لتلك المواثيق، وتحلّل منها.. وليس لأحد حرمة إذا تحلل من مواثيق الله، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1026 وعمل على نقضها. فلينتظر انتقام الله لحرماته! وقوله تعالى: «وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا» هو إطلاق لهذا القيد الذي قيّد به الحاج وهو فى إحرام الحج.. فإذا أتم الحجّ، وتحلل من إحرامه أبيح له ما كان مباحا من قبل، وهو إطلاق يده فى صيد ما يشاء من حيوان أو طير! وقوله تعالى: «وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا» هو تذكير للمسلمين.. وهم فى تلك الحال التي راضوا فيها أنفسهم على التزام حدود الله والوفاء بمواثيقه- تذكير لهم بالاستقامة على هذا الطريق القويم الذي ساروا عليه، وهو أن يلتزموا العدل مع من كان إليهم عدوان منهم.. فالتزام العدل هو ميثاق أخذه الله على المؤمنين، يلتزمونه مع أوليائهم وأعدائهم جميعا.. وقوله تعالى «وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ» أي ولا يحملنكم على ارتكاب الجرم، وهو الظلم.. والشنآن: البغض والعداوة.. والمعنى: ولا يدعوكم ما بينكم وبين غيركم من عداوة وبغضاء، إذ صدوكم عن المسجد الحرام، وحالوا بينكم وبينه- لا يدعوكم هذا إلى أن تركبوا ما ركبوا من ظلم وعدوان، بل خذوهم بالعدل، وخذوا حقكم منهم دون ظلم أو بغى! وقوله تعالى: «اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى» أي العدل هو الذي ينبغى أن يكون سبيلكم مع هذا الذي حملكم بفعله على بغضكم له، لأنكم بهذا إنما تقيمون ميزان الحق، وتحفظون ميثاق الله معكم، وذلك هو الذي يدخلكم مداخل التقوى، ويقيمكم مقام المتقين. وقوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» هو تأكيد للاستقامة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1027 على العدل الذي أمر الله به، وتحذير من انتقامه ممن تعدّى حدوده، ونقض مواثيقه. الآية: (3) [سورة المائدة (5) : آية 3] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) التفسير: هذه الآية هى بيان لما جاء فى قوله تعالى فى الآية الأولى: «أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ» فهذا الذي يتلى على المؤمنين فى هذه الآية، هو البيان الشارح لهذا الاستثناء! فهذه المحرمات هى استثناء من قوله تعالى: «أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ» وهى: الميتة، والدم، ولحم الخنزير. فالميتة مما تعافه النفوس، حتى إن بعض الحيوانات لا تأكل الميتة ولو هلكت جوعا، كالأسد مثلا.. وكذلك الدم الذي تستقذره النفوس الطيبة، وكذلك الشأن فى لحم الخنزير، الذي حرّمته الشرائع السماوية كلها، للشبه الكبير الذي بينه وبين السباع، والكلاب!. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1028 والتوراة التي هى شريعة اليهود- كما هى شريعة المسيحيين- تحرّم الخنزير، وقد التزم اليهود بهذا التحريم، وكذلك أتباع المسيح مدة حياته معهم، وشطرا كبيرا من عهد الحواريين بعده.. ولكن حين انتقلت الدعوة المسيحية إلى الوثنيين فى أوربّا، وكان لحم الخنزير من طعامهم، واقتناؤه وتربيته مصدر ثروة لهم- أباح لهم المبشرون بدعوة المسيح أن يأكلوا لحم الخنزير، حتى يقرّبوهم من دعوة المسيح، ويجذبوهم إليها.. ففى التوراة: «والخنزير لا تأكل.. يشقّ الظلف لكنه لا يجترّ.. فهو نجس لكم» (تثنية 14: 8) . فهذا حكم ملزم لأتباع هذه الشريعة، والتوراة هى شريعة اليهود والمسيحيين، كما قلنا، ولكن هكذا تلعب الأهواء حتى بشرائع السماء!! ولا ندرى كيف يخالف المسيحيون نصّا صريحا من كتابهم المقدس، يقرءونه ويتعبدون به؟ ولا ندرى كيف يظلّ هذا النصّ الصريح فى الكتاب المقدس قائما بين أعينهم، ثم يخالفونه عن عمد وإصرار!. وأكثر من هذا.. عملية الختان.. إنها شريعة التوراة، حيث تقول: «قال الله لإبراهيم: هذا هو عهدى الذي تحفظونه بينى وبينك وبين نسلك من بعدك: يختن منكم كل ذكر، فتختنون فى لحم غرلتكم، فيكون علامة عهد بينى وبينكم ... وأما الذكر الأغلف الذي لا يختن فى لحم غرلته فقطع تلك النفس من شعبها.. إنه نكث عهدى» (تكوين 17: 9) . ولقد ختن المسيح نفسه، عملا بتلك الشريعة، ولكن حين انتقلت الدعوة المسيحية إلى الوثنيين من الرومان واليونان الذين لم يقبلوا الختان رفع عنهم هذا الحكم، كما رفع عن المسيحيين جميعا.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1029 يقول «لوقا» صاحب الإنجيل المعروف باسمه، فى رسالة بعث بها الرسل المبشرون بالمسيحية إلى أهل أنطاكية وسورية وكيليكية، الذين دخلوا فى المسيحية، ثم رجعوا عنها، حين قيل لهم إنكم لن تقبلوا عند الله إذا لم تخنتوا- فى هذه الرسالة يقول لوقا: «قد سمعنا أن أناسا خارجين من عندنا أزعجوكم بأقوال، مقلقين أنفسكم، وقائلين أن تختنوا وتحفظوا الناموس، الذين نحن لم نأمرهم- رأينا وقد صرنا بنفس واحدة أن نختار رجلين ونرسلهما إليكم مع حبيبنا برنابا بولس.. رجلين قد بذلا أنفسهما لأجل ربنا المسيح، فقد أرسلنا يهوذا وسيلا «1» ، وهما يخبرانكم بنفس الأمور شفاها، لأنه قد رأى الروح القدس، ونحن، لا نضع عليكم ثقلا أكثر من هذه الأشياء الواجبة: أن تمتنعوا عن الذبح للأصنام، وعن الدم، والمخنوق والزنا» (أعمال الرسل 15: 24- 28) . وهكذا سقط «الختان» من الشريعة المسيحية، بل لقد أصبح الختان سبّة يعرّض بها دعاة المسيحية فى مواجهة المختونين، ويقولون: إنهم غير مختونى القلوب، وإن ختنوا بالأجسام!!. ومما حرمه الله تعالى على المسلمين: «ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ» أي ما ذكر عند ذبحه اسم غير اسم الله، فهو- والحال كذلك- متلبس بالرجس، مشوب بالخبث.. وما كان لمؤمن أن يدخل إلى معدته رجسا أو خبثا، كما لا يدخل إلى معتقده شركا أو كفرا.. «والمنخنقة» وهى التي تموت خنقا من الحيوان.. إنها فى حكم التي تموت حتف أنفها، فى تعفف النفس الطيبة عنها.. «والموقوذة» وهى التي ضربت ضربا قضى عليها.. هى فى حكم الميتة كذلك   (1) يهوذا وسيلا هما الرجلان اللذان اختارهما الرسل لهذه المهمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1030 «والمتردّية» وهى التي ماتت نتيجة سقوطها من علوّ.. «والنطيحة» وهى التي ماتت بنطح حيوان آخر لها.. «وما أكل السبع» أي ما وقع فريسة لحيوان مفترس.. وقوله تعالى: «إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ» أي هذه الحيوانات التي وقعت تحت هذه الأحداث من خنق، أو وقذ، أو تردّ، أو نطح، أو افتراس سبع- هذه الحيوانات محرم طعامها والأكل منها إذا هى ماتت قبل أن يلحقها من يذكيها، أي يطهرها بالذبح، وهى حية بعد، تجرى الحياة فى كيانها كله.. وإلا كان ذبحها غير مطهر لها، وغير مبيح للأكل منها.. قوله تعالى: «وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ» . والنّصب: الحجارة المنصوبة للذبح عليها تقربا للأوثان.. فالحيوان المذبوح هذه الذّبحة قد تدنس لحمه بهذا الرجس، فكان حراما على المؤمن أن يطعم منه. وقوله تعالى: «وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ» وهو بيان لنوع آخر مما حرم على المسلمين أكل لحمه من الحيوان.. وهو الحيوان الذي يذبح، ثم يقسّم لحمه بالأزلام، وهى القداح، يقتسم بها الجماعة الحيوان المذبوح بينهم، وهذا ضرب من ضروب الميسر، وإذ حرم الله الميسر فقد حرّم ما يثمره الميسر من ثمر خبيث.. وقد وصفه الله سبحانه بقوله: «ذلِكُمْ فِسْقٌ» أي هذا العمل فى اقتسام لحم الحيوان، فسق، وخروج عن أمر الله، وعدوان على حرماته. قوله تعالى: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1031 يبدو هذا المقطع من الآية الكريمة، وكأنه غريب عنها، إذ هو معترض بين أولها وآخرها، حيث يقول الله تعالى بعد هذا المقطع: «فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» :. وبالنظر فى وجه الآية الكريمة يبدو التجانس واضحا بين مقاطعها جميعا، بحيث تتلاحم معانيها، كما تتناغم كلماتها، فتؤلف صورة، هى آية من آيات الله، ومعجزة من معجزات كتابه الكريم. ففى قوله تعالى: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ..» الآية.. تذكير للمؤمنين بفضل الله عليهم فيما بيّن لهم من أمر دينهم، وفيما شرع لهم من أحكام، هى دستور لحياة كريمة طيبة، ومنهج لتربية أمة أراد الله لها الكرامة والعزة، وجعلها خير أمة أخرجت للناس.. فإذا ذكر المسلمون ذلك، وهم يتلقون أحكام هذا الدستور، ومادّة ذلك المنهج، كان ذك أشرح لصدورهم، وأرضى لنفوسهم، وأدعى إلى تمسكهم بدين الله، واستقامتهم على شريعته.. ومن تمام نعمة الله على المؤمنين أن يسوق إليهم هذه البشريات، وهو يزودهم بهذا الزاد الطيب من أحكام دينهم، وأصول شريعتهم.. فقد أصبحوا بمأمن من الكفار والمشركين والمنافقين من أن يفسدوا عليهم دينهم، وأن يفتنوهم فيه، إذ بلغ الإسلام غايته، وأخذ مكانه من القلوب، وانضوى إلى رايته من ينصره ويحمى حماه، «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ» .. هكذا صار موقف الكافرين من الإسلام.. اليأس من أن يقفوا له، أو يصرفوا الناس عن طريقه.. وعلى هذا فليقف المسلمون للكافرين وقفة التحدّى والرّدع إن هم حاولوا أن ينالوا منهم نيلا.. «فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ» وفى قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1032 وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» هو نشيد النصر الأكبر، والفتح المبين للمسلمين، بعد هذا الجهاد المضنى، والبلاء العظيم، الذي احتملوه فى مسيرتهم على طريق الدعوة الإسلامية، منذ فجرها، إلى استواء شمسها.. فقد كمل الدين، وتمت النعمة، ولبس المسلمون ثوب الإسلام الذي رضيه الله لهم دينا.. قال الإمام أبو بكر محمد بن الحسين الآجرىّ فى كتابه «الشريعة» : «إن الله عز وجل بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة ليقروا بتوحيده، فيقولوا: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» فكان من قال، هذا مؤمنا من قلبه ناطقا بلسانه، أجزأه أي (كفاه) ومن مات على هذا، فإلى الجنة.. فلما آمنوا بذلك وأخلصوا توحيدهم، فرض عليهم الصلاة بمكّة، فصدقوا بذلك، وآمنوا، وصلّوا. «ثم فرض عليهم الهجرة، فهاجروا وفارقوا الأهل والأوطان. «ثم فرض عليهم بالمدينة الصيام، فآمنوا، وصدقوا، وصاموا شهر رمضان. «ثم فرض عليهم الزكاة، فآمنوا، وصدقوا، وأدوا ذلك كما أمروا. «ثم فرض عليهم الجهاد، فجاهدوا البعيد والقريب، وصبروا وصدّقوا. «ثم فرض عليهم الحج فحجّوا وآمنوا به. «فلما آمنوا بهذه الفرائض، وعملوا بها تصديقا بقلوبهم وقولا بألسنتهم، وعملا بجوارحهم، قال الله عز وجل: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» .. «فإن احتج محتج بالأحاديث التي رويت: «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة» .. قيل له: إن هذا كان قبل نزول الفرائض» . وعن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: كان المشركون والمسلمون يحجّون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1033 جميعا.. فلما نزلت «براءة» نفى المشركون عن البيت الحرام، وحج المسلمون لا يشاركهم فى البيت الحرام أحد من المشركين، وكان ذلك من تمام النعمة- لمّا كان ذلك- نزل قوله تعالى: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» . وفى إضافة الدين إلى المسلمين «دينكم» وهو فى الحقيقة دين الله- إذ يقول سبحانه: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» - فى هذا ما يشعر بأن الأمة التي اختارها الله تعالى لحمل هذا الدين، وتبليغ رسالته، هى أهل لحمل هذه الأمانة العظيمة، كما أنها مستحقة لتكون فى هذا المقام الكريم التي تقوم فيه مقام الأنبياء والمرسلين فى القيام على دين الله.. وقوله تعالى: «فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» هو رفع لهذا الحظر الذي ضربه الله سبحانه وتعالى على هذه المحرمات، وذلك فى حال المخمصة والاضطرار.. والمخمصة: هى الجوع المتّصل، الذي قد يؤدى إلى التلف.. فإنّ حفظ النفس من التلف، من الأمور التي جاءت الشرائع السماوية لتقريرها، والوصاة بها.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» (195: البقرة) . وقوله تعالى: «غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ» أي غير مائل إلى إثم وراغب فيه.. والمراد بالإثم هنا، هو عين هذه المحرمات، لأن أكلها فى غير اضطرار هو إثم، فعبّر عنها القرآن بالإثم تقبيحا لها وتنفيرا منها. والمعنى: أن من وقع فى مخمصة، أي جوع شديد، وخاف على نفسه أن يهلك جوعا، ولم يكن ثمة سبيل إلى طعام غير هذا الطعام الخبيث، فليأخذ منه بقدر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1034 ما يحفظ عليه حياته، وألا يقبل عليه إقبال المشتهى له، المستطيب لأكله.. وفى قوله تعالى: «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» إشارة مضيئة تكشف عن أن إباحة هذه المحرمات فى حال الاضطرار لا ينفى عنها خبثها، ولا يرفع الإثم المتلبس بها.. ولكن رحمة الله ومغفرته هما اللتان تمحوان عن المضطر خبثها، وإثمها.. وفى هذا ما فيه من صرف النفس عن هذه الخبائث، وتجنبها، ومحاذرة إلفها.. إذ كان إثمها يعلق بكل من يدخل فى جوفه شيئا منها، مضطرا، أو غير مضطر.. إلا أن المضطر يعود إليه الله سبحانه وتعالى برحمته ومغفرته، فيغسل ما علق به من درن! الآية: (4) [سورة المائدة (5) : آية 4] يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4) التفسير: السّائلون هنا هم المؤمنون.. والمراد بهم جماعات منهم، قد سألوا النبىّ تلميحا أو تصريحا: «ماذا أُحِلَّ لَهُمْ؟» وكأنه قد وقع فى نفوسهم من عرض هذه المحرمات فى صورة مفصّلة أن فى ذلك تضييقا عليهم، وأن ما حرّم عليهم أكثر مما أحلّ لهم.. فجاء قوله تعالى عن هذا السؤال المسئول، أو الذي سيسأل- جاء قوله تعالى: «قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ» جوابا شافيا لكل وسواس، كاشفا لكل شبهة، فى إيجاز معجز، تخشع القلوب لجلاله، وتخضع الأعناق لروعته.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1035 فما أحلّ الله هو كل طيب، وما حرّمه فهو كلّ خبيث- هذا هو مناط الحكم فى الحلّ والحرمة. وهذا هو فيصل ما بين الحلال والحرام.. فكل طيب هو حلّ مباح، وكل خبيث، هو حرام محظور.. فليست العبرة بكثرة هذا أو ذاك، فى الكمّ والعدد، وإنما العبرة بالكيف الذي عليه هذا وذاك.. فما اتصف بأنه طيب، تقبله النفوس الطيبة، وترضاه، فهو حلال، وما اتصف بأنه خبيث، تعافه النفوس الطيبة، وتنفر منه، فهو حرام.. والواقع يحدّث بأن الطيبات كثيرة لا حصر لها، وأن الخبائث قليلة يمكن حصرها، والإشارة إليها، ولهذا أطلق الله الطيبات، وجعلها شاملة عامة، وقيد الخبائث، وحصرها فى تلك الدائرة الضيقة، وأباح كل ما وراءها.. والله سبحانه وتعالى يقول: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ» (22: الأعراف) ويقول سبحانه فيما حرّم من خبائث ومنكرات: «إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» (33: الأعراف) . وقوله تعالى: «وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» هو بيان لأمر تشوبه شبهة الحرام، وهو الصيد الذي يصاد بالحيوانات التي يدرّبها أصحابها على الصّيد، كالكلاب والنسور ونحوها..! والشبهة فيها، هى أن حيوان الصيد قد يدميها بنابه أو مخلبه، أو منقاره، وربما تموت قبل أن تصل إلى يد صاحب الحيوان الصائد لها.. وقد جاء قوله تعالى هنا مبيحا لهذا الأسلوب من الصيد، ولكن قيّدّه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1036 بقيود، وهى أن يكون الحيوان المرسل للصيد معلما، ومدربا على صيد الحيوان، وحمله إلى صاحبه، دون أن يتسلط عليه بأنيابه أو مخالبه، لينال منه، كما ينال الحيوان المفترس من فريسته.. وفى قوله تعالى: «تُعَلِّمُونَهُنَّ» وقوله سبحانه: «مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ» إشارة إلى أن هذه الحيوانات المدرّبة على الصيد هى من الحيوانات القابلة للتعليم والتدريب، والواعية لما تتلقى على يد مدربها من خطط الصيد، والمحافظة على ما يصاد سليما، وحمله إلى صاحبه.. ولهذا خاطبها الله سبحانه وتعالى خطاب العقلاء بقوله «تعلمونهن» و «أمسكن عليكم» ولم يقل «تعلمونها» و «أمسكت» كما هو الشأن فى خطاب غير العاقل.. وذلك لأنها حين درّبت، واستجابت لما درّبت عليه كانت أهلا لأن تتّسم بسمة أصحاب العقول. وقوله تعالى: «وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» أي اذكروا اسم الله على الصّيد الذي يحمل إليكم من كلاب الصيد هذه، وذلك بذبحها وذكاتها وذكر اسم الله عليها بقولكم: «باسم الله.. الله أكبر» ! وكذلك ينبغى أن يذكر اسم الله على الصيد الذي يصاد بالسّهام، وترسل الكلاب المعلّمة للإتيان به بعد أن يصيبه السهم، حيّا أو ميتا.. فذلك هو ذكاة له. وفى قوله تعالى: «مُكَلِّبِينَ» إشارة إلى أن الكلاب هى أصل الحيوانات المعلمة للصيد، وأقربها إلى تلقى التدريب والتعليم. ومن ثمّ كان اسم كلب الصّيد جامعا لكل حيوان أو طير يدرب على هذا العمل.. وقوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» تنبيه إلى أن تقوى الله، هى ملاك الأمر فى الرقابة على تنفيذ أحكام الحلال والحرام، ووضع الحدود الفاصلة بين الطيب والخبيث، إذ كان ذلك أمانة بين العبد وربّه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1037 لا رقيب عليه إلا دينه، ولا وازع له إلا تقواه.. فمن خان الله، واستحلّ محارمه فحسابه على الله، وهو حساب لا يفلت منه أحد: «إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» . الآية: (5) [سورة المائدة (5) : آية 5] الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5) التفسير: فى قوله تعالى: «الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ» - ما يسأل عنه.. وهو: ما هو هذا اليوم الذي أحلّت للمسلمين فيه الطيبات؟ ولم كانت مظروفية هذا اليوم هى ابتداء هذا الحكم؟ ثم ماذا كان شأن المسلمين قبل هذا اليوم.. ألم تكن قد أحلت لهم الطيبات؟ والجواب: (أولا) أن هذا اليوم هو اليوم الذي تمت فيه أحكام الشريعة، واستوفت غايتها، وهو اليوم الذي نزل فيه قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» . (وثانيا) ومنذ هذا اليوم الذي كملت فيه أحكام الشريعة تمّ إحكام الحدود بين الحلال والحرام، والطيب والخبيث.. فكانت مظروفية هذا اليوم هى الحجاز الفاصل فصلا تامّا بين الحلال والحرام، والطيب والخبيث. (وثالثا) كان المسلمون قبل استكمال الشريعة متلبسين بكثير من العادات والأعمال التي كانت لهم فى الجاهلية.. وقد تعقبها الإسلام، عادة عادة، وعملا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1038 عملا، فى مدى ثلاثة وعشرين عاما، هى مدة البعثة النبوية، حتى إذا كانت آخر آية نزلت من القرآن كانت الشريعة قد تمت، وكان كل ما لا ترضاه الشريعة ولا تقبله من أتباعها، قد بيّنت حكمها فيه.. وبهذا لم يكن لأحد بعد هذا اليوم أن يحلّ أو يحرّم غير ما أحلت الشريعة وغير ما حرمت! وقوله تعالى: «الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ» إشارة إلى أن كل ما أحل للمسلمين هو الطيب الكريم، وأن ما حرم عليهم هو الخبيث الكريه ... قوله تعالى: «وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ» هو من الطيب الذي أبيح للمسلمين تناوله من طعام، وهو طعام أهل الكتاب.. وكذلك لا حرج على المسلمين من أن يطعموا أهل الكتاب من طعامهم! كذلك من الطيبات التي أباحها الله للمسلمين «الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ» وهنّ اللائي تنعقد رابطة لزواج بهنّ انعقادا صحيحا بألا تكون المرأة المؤمنة من المحارم، ولا أن تكون فى عصمة الغير، ولا فى عدتها منه، ولا أن تكون مع وجود أربع زوجات غيرها.. والشأن فى المحصنات من المؤمنات، المحصنات من الكتابيات.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ» .. وقد أشرنا إلى هذا عند تفسير قوله تعالى: «وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ» (221: البقرة) . وقوله تعالى: «إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» هو شرط فى زواج المحصنات من المؤمنات والكتابيات.. وهو إتيانهن مهورهن.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1039 وقوله تعالى: «مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ» هو حال بعد حال، بعد حال، كشرط لحلّ المرأة، وإضافتها إلى الطيبات التي أحلها الله، وذلك بأن يكون المراد بالاتصال بها الإحصان، والحماية من الفساد، لا أن يكون الاتصال بها لإشباع الشهوة، والزنا بها، لقاء أجر معلوم، أو اتخاذها خليلة، لا زوجا.. للمتعة، مع التحلل من رابطة الزوجية. قوله تعالى: «وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ» بيان لأن الإيمان من أطيب الطيبات التي دعا الله عباده إليها.. فمن تحلل من الإيمان، وكفر بالله فقد حرم من كل طيب، وطعم من كل خبيث.. لا يقبل منه عمل، «وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ» يلقى الله وقد صفرت يداه من كل خير، وأثقل ظهره بكل سوء!. الآية: (6) [سورة المائدة (5) : آية 6] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) التفسير: القيام للصلاة: اتجاه النية إلى أدائها، والتعبير بلفظ القيام للدلالة على عظم قدر الصلاة، ورفعة شأنها، وأنها بحيث تستدعى حضور الوجود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1040 الإنسانى كلّه، وقيامه ظاهرا وباطنا للتوجه إليها، ولقائها، بكيان جميع لا يتخلّف منه شىء عن الانتظام فى موكب الاحتفاء بهذه الفريضة الكريمة.. وهذه بعض المشاعر التي يثيرها قوله تعالى: «إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ» عند من يستصحب معه هذه الدعوة الإلهية، وهو يتهيأ للصلاة، ويأخذ لها وسائلها، الموصلة إليها.. والوضوء إنما يكون بعد طهارة الجسد، والثوب، كالاغتسال من الجنابة ونحوها.. وهو- أي الوضوء- كما بينه الله سبحانه فى هذه الآية.. «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ» فهذان عضوان يجب غسلهما فى الوضوء.. الوجه واليدان إلى المرفقين.. والمرفق هو من منقطع الأظفار إلى آخر الزندا عند مفصل العضد. وقوله تعالى: «وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ» هو بيان لتتمة المفروض فى الوضوء.. وهو خاص بالرأس، والرجلين.. أما الرأس، فالمفروض هو مسحه باليد، بماء جديد، أي بأن تغمس اليد فى ماء الوضوء، ثم يمسح بها على الرأس.. وأىّ ما مسّ الرأس من اليد بالمسح فهن مجز، سواء شمل المسح الرأس كلها، أو معظمها، أو بعضها، قلّ أو كثر هذا البعض! ذلك أن المسح فى ذاته لا أثر له فى نظافة الرأس، فهو لا يعدو- والأمر كذلك- أن يكون إشارة إلى أن الرأس من الأعضاء المطلوب نظافتها، والالتفات إليها فى هذا الشأن.. ولكن لرحمة الله بنا، ويسر شريعته علينا، كان الاكتفاء بتلك الإشارة، دون الأمر بغسل الرأس عند كل وضوء، ففى ذلك ما فيه من حرج وإعنات.. وقد عافانا الله فى ديننا من كل أمر يحرج أو يعنت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1041 أما الرّجلان.. فقد اختلف فى قراءتهما، ولهذا اختلف فى الحكم الواقع عليهما.. إذ قرىء: «وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ» بالنصب بعطف أرجلكم على «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ» كما قرىء بالجرّ، بعطف أرجلكم على رءوسكم. التي هى أقرب معطوف إليها. فالذين قرءوا «وَأَرْجُلَكُمْ» بالنصب، قالوا إن غسل الرجلين إلى الكعبين فرض، شأنهما فى هذا شأن الوجه واليدين إلى المرافق.. والذين قرءوا وأرجلكم «بالجرّ» .. قالوا: إن حكم الأرجل هنا هو حكم الرءوس، وهو المسح.. أي فامسحوا برءوسكم وامسحوا بأرجلكم إلى الكعبين. ولكنّ هذا الحكم منسوخ بالسنّة، لما روى البخارىّ عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: «تخلّف النبىّ صلى الله عليه وسلم فى سفر، فأدركنا وقد أرهقنا العصر- أي كاد يفلت منا وقته- فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا، فنادى- أي رسول الله- بأعلى صوته: «ويل للأعقاب من النار» مرتين، أو ثلاثا. وروى هذا الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن طريق آخر، قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، حتى إذا كنا بماء بالطريق، تعجّل قوم عند العصر، فتوضئوا وهم عجال، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسسها الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء» . يقول ابن حزم فى التعليق على هذا الخبر: «فكان هذا الخبر زائدا على ما فى الآية ... وناسخا لما فيها.. ولما فى الآية (أي من أحكام) والأخذ بالزائد (أي ما جاءت به السنة هنا) واجب.» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1042 أي أنه يؤخذ بما فى الآية، وبما جاءت به السنة، مكملا لها زائدا عليها، وهذا وذاك واجب فى الوضوء.. فكان غسل الرجلين (الذي هو زائد على المسح) واجبا.. فابن «حزم» يأخذ الحكم بوجوب غسل الرجلين من هذا الخبر الذي يروى عن عبد الله بن عمرو بن العاص، ويجعل هذا الخبر ناسخا لحكم المسح الذي فهم الآية الكريمة عليه. وكان الأولى من هذا، ألا يضع الآية تحت حكم النسخ، بل أن يجعل هذا الخبر شارحا لمعناها على الوجه الذي فهمها عليه أكثر المفسرين والفقهاء والنحاة، وهو أن قوله تعالى: «وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ» حكم مستقل، معترض بين ما سبقه وما تقدمه، وأن قوله سبحانه: «وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ» معطوف على قوله سبحانه: «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ» ... وفى هذا صيانة للكتاب من تسليط خبر لم يبلغ حدّ التواتر فى نقض حكم من أحكام القرآن. ثم ماذا لو نظرنا فى الآية الكريمة نظرا لا يخضعها لأحكام النحو، ولا يقيمها على موازين قواعده؟ وماذا لو أخذنا من الآية الكريمة لمحة من لمحات إعجازها، فقلنا إن فى هذا الوضع الذي اتخذه حكم «الرّجلين» فى الوضوء ما يسمح بأن يعطى الرجلين حكما وسطا، يجمع بين المسح والغسل؟ .. بمعنى أن يكون المسح عاما شاملا من باطن وظاهر.. إلى الكعبين، وأن يسيل الماء منهما حتى لكأنه الغسل، وأن يكون الغسل شيئا قريبا من المسح، بلا تدليك، ولا تخيل أصابع.. فهو مسح كالغسل، وغسل كالمسح.. وفى هذا ما يتفق مع يسر الشريعة، وتخفيفها على العباد، وخاصة فى الأحوال التي يشتد فيها البرد، أو يقل فيها الماء.. وذلك مما يدخل الطمأنينة فى شعور المتوضئ أنه أدّى الواجب إذا غسل رجليه هذا الغسل الخفيف، وأنه يدخل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1043 الصلاة وقد استوفى حقّ الدخول فيها.. ثم إنه ليس يعنى هذا أن يلتزم المتوضئ هذه الصورة فى غسل رجليه.. بل إن له أن يجرى عليهما الماء ما شاء، وأن ينظفهما ما أراد وما استطاع، إذ لا حرج عليه فى هذا، وإنما الحرج فى ألا يدفع عنه هذا الحرج إذا هو غسل رجليه وكأنه يمسحهما، أو مسحهما وكأنه يغسلهما.. ذلك والله أعلم. قوله تعالى: «وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا» هو إشارة إلى ما ينبغى أن يكون عليه المسلم قبل الوضوء، وهو أن يكون على طهارة من الجنابة.. بالاغتسال، أو التيمم فى المرض أو السفر، أو عند فقد الماء. وفى قوله تعالى «فَاطَّهَّرُوا» إشارة إلى أن المطلوب هو التطهر.. ولم يحدّد اللفظ القرآنى أسلوب التطهر.. أهو بالاغتسال أو بالتيمم.. وذلك لأنه سبحانه قد خفف على عباده، فلم يجعل التطهر بالاغتسال أمرا لازما فى جميع الأحوال.. فالمريض، والمسافر، قد أبيح لهما التطهر من الجنابة بالتيمم، وكذلك الصحيح المقيم إذا فقد الماء.. فإذا تيمم أحدهم طهر من الجنابة، وإذا قام للصلاة وجب أن يتيمم للصلاة، وهو على طهارته بتيمم الطهارة من الجنابة. فانظر إلى هذا الإعجاز القرآنى فى قوله تعالى: «فَاطَّهَّرُوا» وإلى توافق هذا الأمر الإلهى مع قوله تعالى بعد هذا: «وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ» .. ولو كان اللفظ القرآنى: «فاغتسلوا» بدل قوله تعالى: «فَاطَّهَّرُوا» لوقع تصادم بين هذا اللفظ وبين الحكم الوارد بعده فى هذه الآية، والذي جاء مثله فى سورة النساء فى قوله تعالى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1044 «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً» (43: النساء) .. وقد سبق أن شرحناه فى موضعه! ولكن كيف يقع التصادم والتخالف فى كتاب منزل من رب العالمين، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.. «وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» وفى قوله تعالى: «ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» ما يكشف عن جوانب كثيرة من رحمة الله بنا، وفضله علينا، وأنه أقامنا على شريعة، لا حرج فيها ولا إعنات، وأن كل ما جاءت به هو تصحيح لإنسانيتنا، وتكريم لآدميتنا، وحماية لنا من دواعى الفساد والعطب.. وفى هذا الذي يلبسنا من نعم الله وأفضاله، ما يستوجب الحمد والشكر، وذلك بأن نتلقى أحكام الله بالقبول والرضا، وأن نأنس بالحياة معها، والعيش فيها، وأن نستوحش من البعد عنها، أو التفريط فى الإمساك بها.. الآية: (7) [سورة المائدة (5) : آية 7] وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) التفسير: عطف هذه الآية على ما قبلها هو توكيد للشكر الواجب علينا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1045 أن نعيش فيه مع الله الذي تحفّ بنا ألطافه، وتشتمل علينا نعمه.. ففى كل نفس يتنفسه الإنسان نعم ظاهرة تحدّث بها كل جارحة فيه.. فضلا عن النعم التي تساق إليه من هذا الوجود الذي يتحرك فى رحابه ويتقلب بين أرضه وسمائه.. قوله تعالى: وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ» هو عطف على قوله تعالى: «نِعْمَةَ اللَّهِ» أي اذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الّذى واثقكم به.. والميثاق الذي واثقنا الله به هو ما أشار إليه سبحانه فى قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا» (172: الأعراف) فهذا إقرار من الناس جميعا- قبل أن يخلقوا وقبل أن يكونوا أناسا- بالولاء لله، والاعتراف بربوبيته.. وهو إقرار ضمن الإقرار العام للوجود كلّه بالانقياد لله، والولاء له.. وإذ يذكر الإنسان أنه كان على عهد مع الله وهو فى مضمر الغيب، قبل أن يكون له وجود، وقبل أن يستكمل وجوده، ويصبح كائنا، عاقلا رشيدا- إذ يذكر الإنسان هذا من أمر نفسه، ويذكر ما ينبغى أن يكون موقفه من الله، وهو الإنسان العاقل الرشيد- وجد من السفاهة والضلال أن يكون على غير هذا الطريق القويم الذي انتظم فيه مع الوجود كله يوم أن لم يكن شيئا.. فكيف يسفه ويحمق، ويشرد عن هذا الطريق، ويتخذ لنفسه طرقا لا معلم فيها، ولا أنيس له فى مجاهلها إلا من كان على شاكلته من التأئهين والضالين وإخوان الشياطين؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1046 هذا، ويمكن أن يكون هذا الميثاق الذي واثق الله به الذين آمنوا هو ذلك الميثاق الذي بايع به المسلمون رسول الله إذ دخلوا فى الإسلام، فقد كانت بيعتهم لرسول الله قائمة على: «السمع والطاعة فى المكره والمنشط» أي فى الضرّاء والسّرّاء. والعقد الذي وثّقه النبىّ صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين، هو عقد لله، ومن ثمّ كانت إضافته إلى الله تعالى، تكريما للنبىّ، وتوثيقا بعد توثيق لهذا الميثاق العظيم.. «إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ» (10: الفتح) . فكل من دخل الإسلام، دخل بهذا الميثاق، سواء شهده أو لم يشهده.. فلا إيمان بغير استجابة، ولا استجابة بغير طاعة وامتثال. الآية: (8- 10) [سورة المائدة (5) : الآيات 8 الى 10] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10) التفسير: مما يدخل فى الميثاق الذي واثق الله به المؤمنين أن يكونوا «قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ» والقيام لله هو الانتصار لشريعته والرعاية لأحكامه.. سواء فى محيط الإنسان فى ذاته، أو فى دائرة الجماعة الإسلامية كلها.. فحيثما كان لله أمر أو نهى فى شأن من الشئون أو موقف من المواقف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1047 كان على الإنسان أن يستحضر له وجوده كله، وأن يلقاه بوجوده كلّه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قَوَّامِينَ لِلَّهِ» حيث يحمل هذا الفعل معنيين، يكمل أحدهما الآخر: القيام، ثم المبالغة فى هذا القيام إلى أقصى حد يستطاع. وهذه الدعوة بالقيام بأمر الله ونهيه، والمبالغة فى هذا القيام، هو أمر ملزم للمؤمن فى ذاته، كما هو ملزم للمؤمنين جميعا.. الإنسان فيما هو له وعليه، والجماعة كلها فيما هو لها أو عليها.. فليس يكفى لسلامة الإنسان أن يسلم فى نفسه، وإنما أن تسلم الجماعة معه، ففى سلامتها سلامة له، وفى عطبها عطب ضمنى له! وقد شرحنا هذه الآية عند وقوفنا بين يدى الآية الكريمة: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» (135: النساء) ويلاحظ أن صورة النظم قد اختلفت هنا عن صورتها هناك، فقد سلّط كل من الفعلين على ما سلط عليه صاحبه: «كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ» .. «كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ» وهذا يعنى أن القوامة بالقسط هى قوامة لله، وأن الشهادة لله هى شهادة بالقسط.. ذلك أن القسط هو العدل، والعدل صفة من صفات الحق جلّ وعلا.. ومجموع الصورتين يعطينا صورة مؤكّدة للمأمور به فيهما، هكذا: كونى قوامين لله.. شهداء لله. كونوا قوامين بالقسط.. شهداء بالقسط. ولكنّ النظم القرآنى جاء بهما على هذا النمط الذي صانهما من هذا التكرار، كما فوّت الجمع بين الله سبحانه وتعالى وبين صفته. وكلاهما نحن مدعوون إلى توقيره، مأمورون بالاحتفاء به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1048 وبين يدى الدعوة إلى رعاية أوامر الله، واجتناب نواهيه، والتزام حدود العدل والحق- تنتصب صورتان، إحداهما لمن آمن واهتدى، واستقام على طريق الله، فأحل الحلال، وحرّم الحرام، والأخرى لمن كفر بالله، واتبع هواه، وركب طرق الغواية والضلال.. وفى الصورة الأولى يرى المؤمنون ما أعد الله لهم من واسع رحمته، وعظيم فضله، وفى الصورة الثانية يرى الكافرون ما أعد لهم من جهنم وقد فغرت فاها، ومدت ألسنتها لتصطادهم من بعيد وقريب: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» . الآية: (11) [سورة المائدة (5) : آية 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) التفسير: الهمّ بالأمر.. هو العزم عليه، دون تنفيذه لأمر ما، من داخل النفس أو خارجها.. «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ» (24: يوسف) . وبسط فلان إلى فلان يده: مدّها إليه بالشر والأذى.. «لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ» (28: المائدة) . وقد اختلف المفسّرون فى هؤلاء القوم الذين همّوا أن يبسطوا أيديهم إلى المؤمنين بالأذى فكف الله أيديهم عنهم.. والصورة التي ترتسم لمن يقرأ الآية الكريمة، مستعرضا أحداث الإسلام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1049 الأولى، يرى أنها تشير إلى ما وقع فى غزوة الخندق، المسماة غزوة الأحزاب كذلك- فقد جاءت قريش بجموعها، وبجموع أحلافها، تريد أن تقتلع الدعوة الإسلامية من أصولها، فعسكرت حول المدينة، ووقفت أمام الخندق الذي أقامه الرسول والمسلمون حولها.. وكان من تدبير الله سبحانه أن أوقع الخلاف بين هؤلاء الأحلاف، بعد أن طال بهم المقام فى مواجهة المدينة دون أن يصلوا إليها.. ثم أرسل الله عليهم ريحا عاصفة فى ليلة مظلمة باردة.. فأطفأت نارهم، وقلبت قدورهم، وهدمت خيامهم.. حتى إذا انكشف وجه الصباح كانوا هشيما مبعثرا على كل طريق.. إلا الطريق إلا المدينة، وهكذا كان فضل الله، وكانت رحمته التي ينبغى أن تكون مما يذكره المسلمون من نعم الله ورحماته! وفى هذا يقول الله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (9- 10: الأحزاب) .. ويقول سبحانه: «وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً» (25: الأحزاب) فهل نعمة أعظم من هذه النعمة؟ وفضل أكبر من هذا الفضل؟. ومن عجب ألا أجد أحدا من المفسرين يقول بهذا الرأى.. فيما بين يدىّ من كتب التفسير! وفى قوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ» وفى عطفه على قوله سبحانه «وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» ما يشير إلى أن المراد بذكر نعم الله، ومراجعة أفضاله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1050 على الإنسان، ليس هو مجرد لذكر باللسان، والتسبيح به، وإنما الذي يحقق لهذا الذكر أثره هو أن يكون مبعثا لخشية الله، واستحضارا لجلاله وعظمته، وذلك مما يبعث إلى التقوى، التي تقوم على مراقبة الله، وحراسة جوارح الإنسان من معصيته. الآية: (12) [سورة المائدة (5) : آية 12] وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) التفسير: فى مواجهة النعم التي أنعم الله بها على المسلمين، ودعاهم إلى تذكرها، وملء مشاعرهم بها، لتفتح قلوبهم بخشية الله، وتملأها بتقواه- فى مواجهة هذا يذكر الله سبحانه ما كان له من نعم وأفضال على بنى إسرائيل ثم ما كان منهم من جحودها، والتنكر لها، واتخاذها ذرائع للإفساد والطغيان.. ثم ما كان من عقاب الله لهم، وأخذهم بالبأساء والضراء، ودمغهم باللعنة والغضب.. وتلك هى عاقبة من حادّ الله، وكفر به، ومكر بآياته، وجحد أفضاله ونعمه.. «وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً» . فهذا الميثاق الذي أخذه الله على بنى إسرائيل قد حمله إليهم أنبياء الله، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1051 وعزّرهم النقباء الذين كان كل نقيب منهم على رأس جماعة من جماعاتهم، حتى يكون ذلك أقرب إلى لقائهم معه، واستجابتهم له، لأنه منهم أشبه بالأب من أبنائه، قرابة ومودة.. وهؤلاء النقباء هم رسل الله إليهم، ولهذا جاء قول الله عنهم. «وبعثنا» حيث يغلب مجىء هذا اللفظ فى بعث الرسل من عند الله إلى عباد الله.. وقوله تعالى: «وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ» - هو الميثاق الذي أخذه الله عليهم، ووثقه معهم. فهو- سبحانه- معهم، إن أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وآمنوا بما يبعث إليهم من رسل الله، وعزروهم، أي نصروهم، وبذلوا مما فى أيديهم فى وجوه الخير، أي أقرضوا الله قرضا حسنا، بلا منّ ولا أذى، ولا ربا.. إنهم إن فعلوا هذا كفّر الله عنهم سيئاتهم وأدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار.. وإن كفروا فقد ضلوا سواء السبيل، وركبوا الطريق المؤدى بهم إلى جهنم.. وبئس المصير.. فماذا كان من القوم مع هذا الميثاق العظيم؟ ذلك ما نجده فى قوله تعالى، فى الآية التالية: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1052 الآية: (13) [سورة المائدة (5) : آية 13] فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) التفسير: لقد نقض بنو إسرائيل الميثاق الذي أخذه الله عليهم، فكفروا بآيات الله، ومكروا بها وجحدووا نعمه وأفضاله، وكذبّوا رسله، وأخذوهم بالأذى الذي بلغ فى كثير من الأحيان حدّ القتل. فبسبب هذا لعنهم الله.. وكفى بهذا العقاب عقابا ونكالا.. إنه الهلاك الأبدى، والضياع لمعالم الإنسانية كلها، والخسران فى الدنيا والآخرة.. «أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً» (52: النساء) قوله تعالى: «وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً» هو مسخ لهذه القلوب، وقلب لطبيعتها، وتحول بها من قلوب بشرية إلى قلوب لا تمتّ إلى عالم البشر بصلة.. وهذا ما يشير إليه اللفظ القرآنى: «وجعلنا» الذي يدلّ على خلق جديد لهذه القلوب، وتصويرها فى صورة غير الصورة التي كانت.. ولهذا استباحت تلك القلوب كل منكر، وتقبّلت كل خبيث، دون أن تتأثّم أو تتحرج، حتى بلغ بها ذلك أن عبثت بكلمات الله، وغيرت معالمها، وبدّلت أوضاعها، وخلطتها بأهوائها ونزعاتها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ» .. وقد ضبط القرآن الكريم الجيل الذي عاصر نزوله من أجيال اليهود- ضبطهم متلبسين بهذا المنكر الذي كان عليه آباؤهم مع كتاب الله الذي بين أيديهم.. فقد جرت على ألسنة هؤلاء الأبناء الذين عاصروا نزول القرآن، صور من صور التحريف والتبديل لكلمات الله، فقال تعالى: «مِنَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1053 الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ..» (46: النساء) . وهذا شاهد يشهد بلسان الواقع أن الأبناء والآباء على سواء، فى قسوة القلوب، وجرأتها على الله، وتبديلها لكلماته! قوله سبحانه: «وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ» .. الضمير هنا راجع إلى آباء اليهود، وأنهم لم يقفوا عند حدّ التحريف والتبديل لكلمات الله، بل لم يعملوا بما ظل سليما من تحريفهم فى الكتاب الذي بين أيديهم.. ذلك أنه بعد أن استقرت التوراة على ما فيها من تحريف، وتداولتها الأيدى، لم يكن من سبيل إلى إدخال تحريف عليها- فكان تحللهم من الأخذ بما لا يرضون من أحكام التوراة الباقية عندهم، هو الطريق البديل لهم من التحريف، لو كان ذلك التحريف مستطاعا لهم.. فعملهم هذا هو تحريف بصورة أخرى، بما يتأولون به النصوص، ويخرّجونها عليه، حسب ما تمليه أهواؤهم.. وقوله تعالى: «وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ» هو خطاب للنبى الكريم، وأنه يجد بين يديه من خيانات اليهود لأمانة الكلمة، وشرف العهد ما يصل حاضر اليهود بماضيهم، وأنهم أبدا على خيانة لله، ولرسول الله، ولعباد الله! وفى التعبير عن الخيانة بالخائنة ما يكشف عن هذا الأسلوب الخبيث الذي يتخذه اليهود فى خياناتهم، وأنه أسلوب قائم على المداهنة والنفاق.. حيث يخرج اليهود خيانتهم فى خبث ودهاء ومواربة، فلا يلقون بها إلا حيث لا ترصدهم العيون، ولا تواجههم الوجوه! وقوله تعالى: «إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ» هو استثناء لجماعة قليلة من اليهود، قد سلمت من هذا الداء الخبيث الذي اشتمل على القوم، ولم يبق على شىء منهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1054 إلا كما يبقى الحريق على بعض ما اشتمل عليه، وكما يبقى البحر على بقايا سفينة غارقة! وقوله تعالى: «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» هو توجيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبل هذه الجماعة القليلة التي سلمت وأسلمت من اليهود، وألا يأخذها بجريرة الكثرة الكثيرة منهم! وألا ينظر إليها من خلال موقفها من النبي أول الدعوة، فقد كان اليهود جميعا على عداوة وحسد للنبى.. الآية: (14) [سورة المائدة (5) : آية 14] وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14) التفسير: قوله تعالى: «وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ» ، هو معطوف على قوله سبحانه فى الآية (13) «لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ» . وبين المعطوف والمعطوف عليه صلة: إذ كانت دعوة المسيح خاصة باليهود، كما يقول المسيح عن نفسه فيما تروى عنه الأناجيل: «أنا لم أرسل إلّا إلى خراف إسرائيل الضالة» ولهذا كان حواريوه كلهم من اليهود، كما كانت معجزاته لليهود، وفى اليهود، حتى إنه- عليه السلام- أبى على المرأة الأمميّة- أي من غير اليهود- أن يشفى ابنتها مما كانت تعانى من داء، وقال لها تلك القولة التي روتها الأناجيل عنه: «ثم خرج يسوع من هناك وانصرف إلى نواحى صور وصيداء، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1055 وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة: ارحمني يا سيد يا ابن داود.. ابنتي مجنونة جدا، فلم يجبها بكلمة، فتقدم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين: اصرفها لأنها تصيح وراءنا، فأجاب وقال: «لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضآلة» (متى: 15) . وفى قوله تعالى: «وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا» به إشارة إلى أن هؤلاء النصارى الذين أخذ الله عليهم الميثاق كانوا من اليهود، الذين اتبعوا المسيح.. والمعنى: «ومن اليهود الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم «فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ» وفى هذا تشنيع على اليهود أيضا، إذ كانوا دائما على هذا الخلق اللئيم فى المكر بآيات الله، ونقض المواثيق التي واثقهم الله بها.. فهم فى ثوب النصرانية كما هم مسلاخ اليهودية، وهم فى اتّباعهم لعيسى كما هم فى أخذهم لشريعة موسى.. كفر مع كفر، وضلال إلى ضلال. وفى قوله تعالى: «نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ» إشارة إلى أن أتباع المسيح قد تأولوا دعوته على غير مدلولها الذي أقامهم عليه، وعاش فيهم به.. فلم يكن فيهم إلها ولا ابن إله، ولم يؤمن به الذين عاشوا معه على أنه إله أو ابن إله، ولم يقل أصحاب الأناجيل الأربعة- وفيهم اثنان من الحواريين- أنه إله ولا ابن إله، وإنما كانوا- كما تحدث الأناجيل- ينادونه: يا معلم، يا سيد، وأن أعظم صورة تصوروها له: أنه يوحنّا المعمدان، بعث إليهم من جديد! فنسيان حظهم مما ذكّروا به هو هذا التأويل الفاسد لما فى الأناجيل، ولو أنهم استقاموا عليها لما وقع لأحد من أتباعه أن المسيح إله، أو ابن إله! وقد عرضنا هذه القضية من قبل، عند تفسير الآيات الأخيرة من سورة النساء. قوله تعالى: «فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» هو بيان لثمرة هذا النسيان المتعمد، وذلك التأويل الفاسد لكلمات المسيح وتعاليمه، من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1056 أتباعه من اليهود. فقد أشاع اليهود من أتباع المسيح أنهم هم الذين وجّهوا دعوته تلك الوجهة فأخرجوها على هذه الصورة التي لبس المسيح فيها ثوب الألوهية، وقام فيها مقام الله.. ولعلنا نذكر هنا دور «بولس الرسول» وهو يهودى، ومن أتباع المسيح، وحامل لواء التبشير بالمسيحية خارج دائرة اليهود. فقد كان هو الذي أباح ما حرمته الشريعة من حلّ لحم الخنزير، والتحلل من الختان، بل وحرمته، دون أن يلتفت إلى أن المسيح نفسه قد ختن، حسب الناموس! وثمرة هذا النسيان المتعمد هى هذا الخلاف الشديد بين أتباع المسيح.. ذلك الخلاف الذي لا تزيده الأيام إلا عمقا واتساعا، إذ أباح هذا التأويل الفاسد حرمة الأناجيل، وجعل لكل ذى نظر أن يتأول ما يشاء، ويقول ما يريد، بعد أن أهدرت معانى الكلمات المقيدة بألفاظها، وأصبحت الألفاظ رموزا وإشارات، وأحلاما وأضغاث أحلام، يتأولها كل حسب رأيه واجتهاده، غير مقيد بقيد، ولا محتكم إلى لغة. وهذه العداوة ليست عداوة ترجع إلى اجتهاد فى فهم النصّ، بقدر ما هى عداوة ترجع إلى تضارب الأهواء، واختلاف المنازع، ومن هنا لم تكن مجرد عداوة بين علم وجهل، بل كانت عداوة محملة بشحنات ثقيلة من البغض والكراهية، لأنها عداوة بين هوى وهوى ومشرب ومشرب! ثم إن هذه العداوة المحملة بأثقال البغضاء ليست عداوة موقوتة بوقت، ولا محدودة بزمن.. وإنما هى عداوة موصولة، متجددة، لا تنقطع أبدا: «إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» . قوله تعالى: وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» أي سيعلمون يوم القيامة فساد هذا الذي صنعوه، وغيرّوا به وجه رسالة المسيح ودعوته.. وفى لفظ «يصنعون» دلالة على أن أسلوبهم هذا الذي جروا عليه مع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1057 كلمات المسيح وتعاليمه- لا ينقطع أبدا، وأن هذه الكلمات وتلك التعاليم، ستلد كل يوم مواليد جديدة من التأويل والتخريج.. فما يكون حلالا اليوم قد يصبح حراما غدا، وما هو حرام غدا يكون حلالا بعد غد.. وهكذا.. وصدق الله العظيم، وصدقت كلماته وآياته، المنزلة على النبي الكريم، الصادق الأمين. فلقد رأينا كيف كان للمجمع المقدس، الذي انعقد فى «روما» فى هذه الأيام «1» أن يخرج على العالم المسيحي بهذا الرأى الذي يجبه معتقدا عاشت فيه المسيحية، واعتنقه المسيحيون قرابة ألفى عام- وهو أن اليهود قد صلبوا المسيح، وحملوا تبعة دمه، هم وأبناؤهم من بعدهم.. إذ قالوا حين قدموه للصلب، كما روت الأناجيل «دمه علينا وعلى أبنائنا» فجاء المجمع المقدس يبرىء اليهود من دم المسيح، ويقول: «إذا كان اليهود الأولون هم الذين صلبوا المسيح واحتملوا دمه.. فما ذنب أبنائهم من بعدهم؟» . وهذه قضية لا دخل للإسلام بها، إذ ينكرها من أصلها.. ولكن الذي نريد أن نقوله هنا- لحساب العقل والمنطق-: ما هو الحكم الذي يحكم به المجمع المقدس على أتباعه الذين عاشوا خلال الألفى عام يتعبدون بلعن اليهود، ويتقربون إلى المسيح بهذه اللعنات التي يسبّحون بها صباح مساء؟ ثم على من تقع تبعة هذه الدماء الغزيرة التي أراقها أتباع المسيح فى مدى هذه الأزمان المتطاولة- من اليهود، انتقاما للمسيح، وتشفيّا ممن تطاولت أيديهم إلى إلههم المعبود، حتى علقوه على خشبة الصليب وسقوه المرّ المذاب؟ ثم ألا يحقّ لليهود اليوم أن يطالبوا القائمين على أمر المسيحية بديت ملابين القتلى منهم؟   (1) كان انعقاد هذا المجمع فى خريف عام 1964. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1058 إن ذلك هو العدل الذي يستقيم مع منطق المجمع المقدس الذي أصدر هذا الحكم، وأفتى بتلك الفتوى! «وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» لا بما صنعوا، وحسب.. فإنهم كل يوم يصنعون جديدا، ويستولدون أحكاما وشرائع. (الآيتان: 15- 16) [سورة المائدة (5) : الآيات 15 الى 16] يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) التفسير: «يا أَهْلَ الْكِتابِ» هى دعوة عامة إلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى. «قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» هو بيان لما يحمله الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- إلى أهل الكتاب من حق يصححون به ما أخفوا من أحكام الكتاب الذي فى أيديهم، وما غيّروا وبدّلوا.. وأن كثيرا مما أخفوه وحرّفوه قد تجاوز القرآن الكريم عنه، وترك الخوض معهم فيه، حتى لا يدخل معهم فى طريق طويل من الخلاف والجدل، وإنما كان الذي اهتم له القرآن الكريم، ووقف عنده، هو ما كان من الأصول العامة فى العقيدة، وهو ما يتصل بالألوهية، وعزلها عن كل ما دخل على مفهومها من ضلال وبهتان.. هذه هى قضية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1059 الإسلام الأولى، فإذا استقامت استقام كل شىء بعدها. وقوله تعالى، «قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ» هو وصف لهذا الكتاب الكريم، وما يحمل إلى الناس من «نور» هو نور الحق، المهدى من السماء، لينير للناس سبلهم إلى الله، وليبدّد الظلام الذي يحجبهم عن الرؤية الصحيحة للحق والهدى.. ووصف الكتاب بأنه نور، ثم وصفه بأنه كتاب مبين، هو غاية ما يمكن أن تكون عليه دعوة الحق فى جلالها، ووضوحها، وإشراق شمسها، وأن من لا يرى الحق فى وجه هذه الدعوة، ولا يتناوله منها، هو أعمى أو متعام، ليس لدائه دواء، «وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ» (81: النمل) . وقوله سبحانه: «يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ» سبل السلام هى طرق الحق، التي يأمن سالكها من كل عطب، ويسلم من كل سوء.. وهى مفعول به لقوله تعالى: «يَهْدِي» . و «مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ» مفعول ثان له.. والمعنى أن الله سبحانه يهدى بهذا الكتاب إلى سبل السلام من اتبع رضوان الله، وابتغى مرضاته، فجاء إليه مستشفيا من دائه، مستطبّا لعلته، مستهديا لبصره وبصيرته.. أما من أعرض مستكبرا، ولوى وجهه جاحدا، فهو وما اختار لنفسه: «وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» (17: فصلت) . قوله تعالى: «وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» . هو بيان لفضل الله ولطفه بعباده الذين يوجهون وجوههم إليه.. إذ كانت عناية الله إلى جوارهم، تمسك بهم على الطريق، وتسدد خطاهم إلى الغاية التي يجدون عندها الأمن والسلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1060 وفى قوله تعالى: «قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا» وفى إضافة الرسول إلى الله بضمير المتكلم، تكريم للرسول الكريم، وتمجيد له، وتعظيم لشأنه، ولشأن ما يحمل بين يديه من ربّه، من هدى ونور. الآية: (17) [سورة المائدة (5) : آية 17] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) التفسير: وإذا كان النصارى- من أهل الكتاب- لم يعرفوا الداء الذي يكمن فيهم، وما يحمل إليهم القرآن من شفاء- فها هو ذا القرآن يضع يده على موضع الداء منهم.. إن جعلهم الله هو المسيح بن مريم، هو أصل الداء.. فما كان لله أن يولد من رحم امرأة، وأن تكون نسبته إليها.. إن الإله الذي يتصور على تلك الصورة، هو إله هزيل، لا تلده إلا عقول لا تعرف جلال الله وعظمته، وقدرته.. وأين المسيح الإله وقوته وقدرته، أمام قوة الله وقدرته؟ إن أراد الله أن يهلك المسيح بن مريم وأمه ومن فى الأرض جميعا.. فمن يقف لهذه الإرادة، أو يردّ عليها ما أرادت، أو بعض ما أرادت؟ ألم تمت أمّ المسيح؟ وإذا كان فى المسيح شك أنه لم يمت بعد، فهل من شك فى أنه سيموت؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1061 لقد مات الأصل، وهو أمّه. فهل يبقى الفرع، وهو المسيح ابنها؟ وقوله تعالى: «يَخْلُقُ ما يَشاءُ» دفع لاعتراض قد يقيم شبهة عند من يرفعون المسيح عن مستوى البشرية إلى مرتبة الألوهية، فإن ميلاده من غير أب- هذا الميلاد الذي يثير فى النفس تساؤلات وتصورات- ليس الصورة الفريدة فيما خلق الله وأبدع من مخلوقات.. من ملائكة وجنّ وشياطين، وكواكب.. فأى إنسان مهما عظم هو ضئيل بالنسبة لأى مخلوق من تلك المخلوقات.. فإذا نظرنا إلى المسيح فى صورته، وجدناه كائنا بشريا، فى خلقته وفى سلوكه.. كان جنينا، ثم طفلا، ثم صبيا، ثم شابا، ثم رجلا. وأكثر من هذا، فإن أتباعه أماتوه صلبا، ثم دفنوه بأيديهم فى التراب بعد أن حملوه على أيديهم جثة هامدة! ثم لقد كان له ما للناس فى هذه الحياة.. يأكل، ويشرب، وينام، ويصحو، ويبول ويغوط، ويفرح، ويحزن.. إلى غير ذلك مما يجرى على الناس! فأىّ شىء يخرج المسيح من الإنسانية إلى مقام الألوهية؟ ألأنه ولد من غير أب؟ إنه ليس أول من ولد من غير أب؟ إن الذي خلق الأب وخلق الأم لا يعجزه أن يخلق خلقا من غير أب ولا أم.. «يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» . إن غرابة المخلوق فى ميلاده، أو فى شكله، ولونه، وطوله، وعرضه.. إن دلّت على شىء فإنما تدل على قدرة الخالق، لا أن تكون مزلقا إلى الكفر بالله، والتعلق بالغريب العجيب مما صنعت يداه! فإن ذلك هو الضلال والسّفه، إذ كيف يتشابه الخالق والمخلوق، ويختلط الصانع بالمصنوع!؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1062 الآية: (18) [سورة المائدة (5) : آية 18] وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) التفسير: مما يفسح لأهل الضلال فى ضلالهم، ويمدّ لهم فى حبل الغواية، أن يتمنوا على الله الأمانىّ، وأن يجدوا فى هذه الأمانى الباطلة، تعلّة يتعللون بها، وسرابا خادعا يجرون وراءه.. ولقد قامت لكل من اليهود والنصارى دعوى على الله، بأنهم أبناؤه وأحباؤه. فاليهود يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه.. والحق أنهم ما كانوا إلا أبناء لأهوائهم، وإلا أحباء لشهواتهم.. أمّا الله الذين يدّعون عليه هذه الدعوى، فهم أعداؤه وحرب عليه.. إن اليهود قد بدلوا كلمات الله وحرفوها، فآذوا رسله، وقتلوا أنبياءه فكيف تستقيم مع هذا دعواهم بأنهم أبناؤه وأحباؤه؟ والنصارى قد ألبسوا الله هذا الثوب البشرىّ، وداروا به فى الأرض دورة قاسية، يتلقى بها اللطمات واللعنات، ثم ينتهى به الأمر معلقا على خشبة بين لصّين! وقد ردّ الله عليهم هذا الادعاء الكاذب، وسلكهم جميعا- اليهود والنصارى- مسلكا واحدا، إذ كان طريقهم على الضلال واحدا.. فقال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1063 تعالى: «فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ؟» أي إن كنتم أبناء الله حقا وأحباءه صدقا، فلم تغرقون فى الإثم، وتموجون فى الخطيئة، وتلقون فى النار؟ إن أبناء الله وأحباءه، لا يخرجون عن طاعته، ولا يمكرون بآياته! وفى قوله تعالى: «يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ» ما يقطع بأنهم معذبون، وأن هذا العذاب إنما استحقوه بما كسبت أيديهم، شأنهم فى هذا شأن كل من يكذب بالله ويخرج عن طاعته! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ» فلا محاباة لأحد عند الله، ولا كرامة لإنسان عنده، إلا بالعمل الصالح. وفى قوله تعالى: «يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ» إشارة إلى أن الله عبادا أرادهم للجنة فعملوا لها، واستحقوا مغفرته ورضوانه، وعبادا أرادهم للنار فعملوا لها، فوقعوا تحت نقمته وعذابه.. يروى عن عمر بن الخطاب وقد سئل عن قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا» فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال: «إن الله عز وجل لمّا خلق آدم، مسح على ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته، فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح على ظهره واستخرج منه ذريته فقال: هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون» . الآية: (19) [سورة المائدة (5) : آية 19] يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1064 التفسير: ومرة أخرى يدعو الله سبحانه أهل الكتاب- اليهود والنصارى- أن ينظروا فى أنفسهم، وأن يتدبروا أمرهم فى موقفهم من هذا الرسول الكريم، الذي جاءهم على فترة من الرسل- أي بعد زمن انقطعت فيه رسالة الرسل- وأن يلتقوا به، ويتعاملوا معه، ويصححوا معتقدهم فى الله على ما جاء به، فتلك هى فرصتهم، إن اهتبلوها غنموا ونجوا، وإن ضيعوها ضاعوا وهلكوا، ثم لم يكن لهم على الله حجة بعد هذا البلاغ المبين! وفى قوله تعالى: «أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ» هو قطع لكل علّة يعتلّون بها، فى ركوبهم الباطل، وخوضهم فى الضّلال.. فليس لقائل منهم أن يقول: «ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ» أي رسول من عند الله، يكشف لنا معالم الطريق، ويرفع منارات الهدى. وقوله سبحانه: «فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ» هو حجة الله عليهم، بما حمل إليهم هذا البشير النذير من حق وهدى. وفى مواجهة أهل الكتاب- اليهود والنصارى- بهذا الخطاب، من الله،، دليل على عموم رسالة «محمد» صلوات الله وسلامه عليه، وأنه رسول إليهم كما هو رسول إلى الناس كافّة: «فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ» هو «محمد» عليه الصلاة والسلام، وهذا ما يشير إليه أيضا قوله تعالى: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ» (85: آل عمران) . وفى قوله تعالى. «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» وعيد لأهل الكتاب إذا هم لم يستجيبوا لهذا النبىّ، ولم يصححوا معتقدهم على ما جاء به من عند الله، وأنهم إذا لم يفعلوا فلن يفلتوا من عذاب الله، وأنهم لن يعجزوا الله فى الأرض، ولن يعجزوه هربا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1065 الآيات: (20- 26) [سورة المائدة (5) : الآيات 20 الى 26] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26) التفسير: هذا موقف من مواقف بنى إسرائيل العناديّة مع أنبياء الله، وحملة النور والخير إليهم، وإن فى ذلك لعزاء وسلوى، للنبىّ الكريم لما استقبل به اليهود دعوته، من كيد وتضليل.. إذ ليس هذا شأن اليهود مع النبىّ وحده، بل هو شأنهم مع كل نبى من أنبيائهم.. فهذا موسى عليه السلام، الذي بعثه الله إليهم، لينقذهم من الذلة والهوان، وليطلق سراحهم من يد الأسر المضروب عليهم من فرعون- موسى عليه السلام، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1066 الذي أطلق بين أيديهم معجزات آمن بها كهنة مصر وسحرتها، وفلق بهم البحر، ونجاهم من فرعون، وفجّر لهم من الصخر عيونا.. موسى وهذه بعض آياته ومعجزاته، قد أعنتوه والتووا عليه، وخرجوا من يده فى أكثر من موقف.. فها هو ذا يدعوهم إلى خير ساقه الله إليهم، ويوجههم إلى دار أمن وقرار وعدهم الله بها، وهو- عليه السلام- يقدم بين يدى دعوته استعراضا لنعم لله عليهم، ورحمته بهم.. «يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ» .. فقد جعل الله فيهم أنبياء وملوكا، وملوكا أنبياء، يجمعون بين سلطان الدنيا والدين، كما كان ذلك لداود وسليمان عليهما السلام، الأمر الذي لم يكن لأنبياء من قبل، ولا لملوك فى الأرض.. فما هو إلا سلطان واحد.. نبوّة أو ملك.. ولكن جمع الله لأنبياء بنى إسرائيل النبوة والملك معا.. وقوله تعالى: «وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ» أي من هذه النعم التي تحملها السماء إليهم فى صورة معجزات: كالمنّ والسلوى، وكالجمع لأنبيائهم وملوكهم بين النبوة والملك- وهذا من شأنه يقوّى صلتهم بالله، ويوثق إيمانهم به.. ولكن كانت هذه النعم أسلحة يحاربون بها الله، ومعاول يهدمون بها معالم الحق، ومنارات الهدى! والله سبحانه وتعالى يقول: «وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ» (51 فصلت) . وقوله تعالى: «يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ» هو دعوة موسى لهم، إلى نعمة جديدة، بعد تذكيرهم بما لله فيهم من نعم سابقة سابغة.. فهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1067 لم يدعهم إلّا إلى ما فيه خير عاجل لهم، وهو أن يخرجوا من الصحراء، وأن ينتقلوا من حياة الرعي والخيام، إلى حياة المدينة، والاستقرار! ثم هو- عليه السلام- لم يدعهم إلا إلى أرض مقدسة، تحفّها رحمات الله، وتبارك أرضها.. ثم هو- عليه السلام- لم يدعهم إلا ليمدّوا أيديهم إلى ما وعدهم الله به، وكتبه لهم.. إنها ثمرة طيبة دانية القطوف، لا يحتاج من يريد أن يطعم منها إلى أكثر من أن يمدّ يدّه إليها! ومع هذا فقد أبى القوم أن يتقبلوا دعوة موسى، وأن يصدّقوا وعد الله لهم، بل غلب عليهم سوء طبعهم، فخيّل إليهم أن فى الأمر شيئا، وأن وراء هذه الدعوة ما وراءها! وموسى عليه السلام، خبير بالقوم، عليم بما ينطوى عليه كيانهم من خبث وفساد.. ولهذا لم يرسل الدعوة إليهم بدخول الأرض المقدسة مطلقة، بل أتبعها بهذا التحذير الذي كان لا بد منه فى مواجهة قوم كهؤلاء القوم.. «وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ» إذ لا ينتظر من هذه الجماعة إلا أن تصطدم مع هذه الدعوة، كما تصطدم الكرة بجدار فترتدّ إلى وراء! وفى التعبير بارتداد القوم على أدبارهم، إشارة إلى أنهم إنما يرتدون إلى الوراء وعيونهم معلقة بالمتجه الذي تتجه إليه الدعوة، وكأن هذا المتجه حيوان مفترس يتحفز للوثوب عليهم.. فهم يسيرون إلى الوراء، على أقفيتهم، وأبصارهم شاخصة إلى هذا الأمر المخيف الذي دعاهم إليه! فهم- والحال كذلك- بين خطر يقع عليهم من تصوراتهم لهذا الأمر الذي يدعون إليه، وخطر يترصدهم، وهم يتدافعون إلى الوراء نحو مجهول لا يرون لهم منه مهربا.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1068 وانظر كيف كانت سفاهة القوم مع موسى عليه السلام.. يدعوهم إلى خير، فيكذّبونه ويمكرون به، ويتخابثون عليه.. ويناديهم متلطفا مترفقا، «يا قوم» «يا قوم» ويردّون عليه فى غلظة، وجفاء، واستعلاء: «يا موسى» .. «يا موسى» !! وقاحة، وجبن، ونذالة.. «قالُوا يا مُوسى: إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ» .. هكذا كان ردهم على تلك الدعوة الكريمة المترفقة، المحمّلة بالخير والأمن.. إنهم- وذلك دأبهم أبدا- يأخذون دون أن يعطوا، ويجنون مالم يزرعوا.. يأكلون ثمرة الزارعين، ويسرقون جهد العاملين. فلا يريدون أن يدخلوا الأرض المقدسة إلا أن يخليها لهم أصحابها، ويهتفوا بهم: أن أقبلوا.. ولو وقع هذا لوقع فى أنفسهم أن يطلبوا إلى موسى أن يهيىء لهم مراكب سماوية تقلهم إلى حيث هم ذاهبون!! إنها طبائع أطفال، وتعلّات صبيان، وأمانىّ جبناء. ومع هذا الردّ الوقح، فإن موسى لم يعتزلهم، ولم ينه الموقف معهم على هذا اليأس القاطع منهم.. وفى هذا يقول الله تعالى: «قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ. وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» . وقد اختلف المفسرون فى هذين الرجلين، وأكثروا من مذاهب القول فيهما، وذهب بعضهم إلى الإدلاء باسميهما.. إلّا أن الأمر الذي أجمع عليه المفسرون هو أن هذين الرجلين لم يكونا موسى وهرون! والذي نقول به ونطمئن إليه، هو أن هذين الرجلين، هما موسى وهرون!! وشاهدنا على هذا، ما توحى به الآيات الكريمة، بل وتكاد تصرح به! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1069 فأولا: الردّ الذي ردّ به القوم على هذه الدعوة، وهو ما جاء فى قوله تعالى: «قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» .. فلو أن هذين اللذين دعواهما بقولهما: «ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ» - لو أنهما كانا غير موسى وهرون لما كان ردهم موجها إلى موسى.. بل كان يكفى أن يقولوا: «لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها» .. وأمّا أنهم واجهوا موسى بهذا الردّ، ولم يوجهوه إلى موسى وهرون معا، فلأن موسى كان هو رجل الموقف، وهرون كان ظهيرا له.. وثانيا: ما جاء فى قوله تعالى على لسان موسى: «قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ» .. وهذا القول من موسى قاطع بأنه لم يكن فى القوم من استجاب له غير أخيه هرون.. وإذن فهو وهرون جبهة، والقوم جميعهم جبهة أخرى.. ولو أنه كان هناك فى جبهة موسى وهرون غيرهما لما قال هذا القول: «لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي» إذ هو يملك- غير نفسه وغير أخيه- هذين الرجلين اللذين قيل عنهما إنهما قالا هذا القول. وثالثا: فى قوله تعالى: «قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ» - أكثر من إشارة: فالذين يخافون هم القوم كلهم، وبلا استثناء أحد.. والمعنى على هذا هو كهذا: قال رجلان من القوم الخائفين، وهذان الرجلان قد أنعم الله عليهما فعافاهما من هذا الخوف: اللذى لبس القوم واستولى عليهم.. وفى هذا تعبير للقوم، واحتقار لهم، وإزراء عليهم، ووصمهم جميعا بهذا الداء الذي لا يزايلهم أبدا.. داء الجبن والخوف من كل شىء. ثم إن فى قوله تعالى: «فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ» هو وعد مؤكد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1070 بدخول القوم هذه الأرض المقدسة لو أنهم جرءوا واتجهوا إلى العدو ودخلوا عليه الباب.. وهذا الوعد لا يكون إلا عن علم سماوى.. الأمر الذي لم يكن لأحد من القوم أن يقول به، غير موسى وهرون، اللذين هما على صلة بالوحى الإلهى. هذا، وقد انتهى الأمر بين موسى وتلك الجماعة الشاردة، إلى اليأس، فكان أن اعتذر موسى إلى ربه بقوله: «رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ (أي احكم) بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ» أي الذين فسقوا وخرجوا عن طاعة الله، وامتثال أمره إليهم.. وقد قبل الله من موسى ما اعتذر به إليه، واستجاب له ما دعاه به، فحكم بينه وبين هؤلاء القوم الفاسقين.. فكان هذا حكم الله فيهم: «فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ» .. إذ ضرب عليهم التيه والضلال فى الصحراء أربعين سنة، يضطربون فى هذا القبر المطبق عليهم، لا يعرفون لهم وجها للخلاص منه. ولعل الحكمة فى توقيت التّيه بأربعين سنة، هى أن يموت أبناء هذا الجيل الذي كان منه هذا العناد والضلال، فلا يرى أحد منهم الأرض المقدسة، ومن رآها منهم ممن امتد عمره، فإنه يراها فى شيخوخة واهية، فلا ينتفع بخيراتها، ولا ينشىء له حياة فيها.. إن هؤلاء الشيوخ الذين يدخلون الأرض المقدسة بعد هذا التيه هم أشبه بالأطفال وبمن لم يبلغوا الحلم من أبنائهم الذين شهدوا موقف آبائهم من موسى ودعوته إليهم.. وهكذا يستدير الزمن بهذه الجماعة بعد تلك السنين الأربعين، فإذا أطفالها رجال، وإذا رجالها أطفال ... ! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1071 الآيات: (27- 29) [سورة المائدة (5) : الآيات 27 الى 29] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) التفسير: مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أن الصورة التي عرضتها الآيات السابقة لبنى إسرائيل كانت صورة معتمة للإنسان، فاضحة لمساوئه ومخازيه، حين تفسد فطرته، وتضيع معالم إنسانيته، فيدفع بكلتا يديه الخير المسوق إليه، وينفخ بفمه فى شعلة النور المنصوبة لهدايته.. مؤثرا أن يظل هكذا فى الظلام والضلال. ولأنّ الإنسانية ليست كلها على هذه الصورة الكئيبة المعتمة، التي تتمثل فى بنى إسرائيل، إذ أن فى الإنسانية خيرا كثيرا، وفى الناس أخيار كما فى الناس أشرار وفجار- فكان من تمام العرض للإنسانية أن يعرض جانبها الطيب كما عرض جانبها الخبيث. وقوله تعالى: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ» هو عرض للإنسانية كلها، من جانبيها: الطيب والخبيث، وعلى وجهيها: المشرق والمظلم. وفى مثليها: الملائكى والشيطاني. وذلك، لكى تهتز هذه الصورة التي تتمثلها الخواطر للإنسانية المريضة، وهى تنظر إلى الإنسان من خلال آيات الكتاب الكريم، وما عرضت من ضلال هذه الجماعة وسفهها- ثم لتقوم مقام تلك الصورة صورة أخرى للإنسان حين يعلو بإنسانيته، ويرتفع بوجوده عن تراب هذه الأرض، وما اختلط به من ضباب ودخان، حيث يرى وجه الحق سافرا مشرقا، فيأنس به، ويحيا معه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1072 وقد اتفق المفسرون قولا واحدا فى ابني آدم هذين، على أنهما هما قابيل وهابيل، وأن آدم كان قد أمر ولديه هذين أن يتزوج كل منهما توأم أخيه، وألا يتزوج الأخت التي ولدت معه.. ثم يقولون: إن توأم قابيل كانت أجمل من توأم هابيل، فأباها على أخيه، وأصر على أن يمسكها لنفسه، على حين أبى هابيل أن يعصى أمر أبيه، الذي هو وحي سماوى.. ثم اتفقا على أن يحتكما إلى الله، وذلك بأن يقدم كل منهما قربانا إلى الله، فمن قبل الله قربانه كان على الآخر أن ينزل على مشيئته! وقدّم كل منهما قربانه.. فتقبل الله من هابيل، ولم يتقبل من قابيل. ولكن قابيل لم يرض بحكم السماء، وأصر على موقفه العنادىّ من أخيه، ومن أمر أبيه، ووصاة ربه.. وإنه لكى يخلو لقابيل الطريق، ويبلغ ما يريد، هداه شيطان الهوى إلى أن يقتل أخاه، وبذلك يقطع تلك اليد التي تنازعه المرأة التي يريدها.. ثم لا يكون- بهذا- قد خالف أمر ربّه أو وصاة أبيه.. فهكذا خيّل إليه أنه بهذا يضع حكم الله وشرعه أمام أمر واقع. وهكذا المفتونون وأصحاب الأهواء.. يتأولون فى شرع الله، فيبدلون ويغيّرون، حسب ما يميله عليهم الهوى، وتدعوهم إليه الشهوة! .. هذا ما قاله المفسرون فى هذه الآيات، معتمدين فى أكثر ما قالوا على ما يحدّث به اليهود من أخبار الماضين. ونحن نرى- والله أعلم- أن حصر مضمون هذا الخبر القرآنى، فى هذا المحتوى الضيق المحدود، يذهب بكثير من معطياته، ويطلع بأضوائه من أفق محدود، لا تطلع شمسه إلا على صاحبى هذه القصة، فإن تجاوزهما إلى غيرهما، فلا أكثر من امتداد ظلهما، فى طوله أو قصره! والذي يعطى هذه القصة، بعض مالها من امتداد، وبعض ما فيها من حكمة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1073 هو أن يكون الأخوان إنسانين من الناس. أي من بنى آدم.. وأن أحدهما مؤمن بالله، مستقيم على طاعة أوامره واجتناب نواهيه، وأن الآخر، لا يرعى لله حرمة، ولا يحفظ له عهدا.. وهذا واقع لا تنكره الحياة.. ففى كل مجتمع أخيار وأشرار، وفى الإخوة: المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي.. وبنو إسرائيل، وإن كانوا من أبناء آدم، فإن انحرافهم عن الحق، وركوبهم طرق الضلّال، لا يعنى أنهم كلّ الإنسانية، ولا أنهم فى مركز القيادة فى سفينة الحياة.. فما هم إلا وجه من وجوه الإنسانية، وفى الإنسانية وجوه مشرقة، تفيض خيرا وبرا ورحمة، إذا هبّت من تلقاء بنى إسرائيل سمائم الشر، وأعاصير الفتن. والحسد هو العلّة المتمكنة القاتلة فى بنى إسرائيل.. لا يرون أحدا تلبسه نعمة من نعم الله، حتى يطير صوابهم، وتطيش أحلامهم، فيضربون رءوسهم حتى تدمى، أسفا وحزنا، أن ينال أحد غيرهم خيرا.. وما جرى بين ابني آدم من هذا الصراع الدامي ما هو إلا شرارة من شرارات الحسد، اندلعت فى صدر أحد الأخوين، ثم لم تلبث أن شبّ ضرامها.. فكانت فتنة، وكان دم، وكانت خطيئة، وكان هلاك!. ففى قوله تعالى: «إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ» مشهد من مشاهد هذه القصة. فهذان أخوان يقدّم كلّ منهما قربانا إلى الله، يريدان بهذا القربان أن ينالا رضى الله، ومغفرته، ورحمته.. والقربان ما يتقرب به إلى الله من ذبائح ونحوها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1074 وكان أن تقبّل الله من أحدهما ولم يتقبل من الآخر. لما يعلم- سبحانه- من أمر كل منهما، وما هو أهل له عنده.. وهنا تتحرك الغيرة، وتتحول إلى حسد، ويستغلظ الحسد فيكون عدوانا وانتقاما.. وإذا الأخ يتوعد أخاه، ثم تمتد إليه يد الإثم فتقتله، ولا تعطفه عليه عاطفة الأخوة، ولا لحمة الإنسانية، ولا وداعة الأخ وبره بأخيه، وحرصه على سلامته.. وفى هذا يقول الله تعالى: «قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» .. فهذا يتهدّد أخاه بالقتل، وذك يدعوه إلى الهدى، ويكشف له معالم الطريق إلى الله، ليكون فى المقبولين عند الله مثله: «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» فاتق الله، واستقم على طريقه، يكن لك من الله ما كان لى، فليس عند الله محاباة، وإنما أكرم الناس على الله، أتقاهم لله.. ولكن الحسد يغطى على عقل هذا الأخ، ويطمس على بصيرته، فلا يرى إلا النقمة من أخيه، شفاء لدائه وسكنا لأوجاعه.. والأخ يلقاه ملاطفا موادعا: «لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ» .. فهو ملازم للتقوى متمسك بها، بعد أن عرف ثمرتها فى هذا المشهد الذي شهده بين يدى ربّه.. إنه على خوف من ربّه أن ينحرف عن طريق التقوى. أما هذا الأخ الحسود، فلم يزده اللّين والنصح إلا عنادا وإلا جفاء. وإذ لم تصل الكلمات اللّينة الوادعة إلى قلب هذا الأخ الحسود، فقد جاءه بمقرعة يقرعه بها، وينبهه إلى هذا الخطر الذي هو مقدم عليه، والذي إن أصرّ على موقفه منه، كان فى ذلك هلاكه وسوء مصيره.. فيقول له: «إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ» ولو كان فى هذا الأخ الحسود بقية من عقل لفوّت على أخيه ما يريده له الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1075 من سوء العاقبة، وخسران المنقلب: «إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ» إذن فهذا القتل الذي يتهدد به أخاه، هو مما يريده هذا الأخ، لأنه يريد السلامة لنفسه أولا، ثم الهلاك لهذا الذي يريد أن يهلكه. ثانيا.. وليس الهلاك فى أن يقتل، بل الهلاك فى أن يكون قاتلا!. ومع هذا فإن الحسد قد غطّى على كل شىء منه، فلم ير فى كلمات أخيه، وفى تحديه له، شيئا يعدل به عن طريقه الذي ركبه من أول الأمر.. وكان أن قتل أخاه، وأسال على الأرض دمه!. ومعنى يبوء بإثمه أي يرجع به، حاملا له على كاهله، والإثم: الذنب الغليظ، المنكر.. وفى قوله تعالى: «إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ» ما يسأل عنه: إن القتل هو إثم يقع على القاتل.. فكيف يبوء القاتل هنا بإثمين: إثمه، وإثم قاتله؟ والجواب- والله أعلم- أن هذه معركة بين طرفين.. فقد همّ أحدهما أن يقتل الآخر.. وكان من شأن هذا الآخر أن ينتقم لنفسه، وأن يدفع القتل عنه، إلى هذا الذي يريد قتله.. وإذن فهنا قتيلان.. حكما، وإن كان القتيل واحدا.. فعلا.. فقد كان من المتوقع فى هذه المواجهة بين خصمين، أن يقتل كل منهما الآخر، ولكن الذي حدث هو أن أحدهما قد أخلى نفسه من أول الأمر من أن يلوث يده بدم إنسان، فضلا عن أن هذا الإنسان هو أخوه.. فلم يكن إلا يد واحدة آثمة، هى تلك التي امتدت إلى اقتراف هذا الذنب العظيم، فكان عليها أن تحمل وزرها، ووزر اليد الأخرى التي كان من المتوقع أن تشاركها الإثم الذي أقدمت هى عليه.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1076 يقول الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول فى النار» قيل هذا القاتل.. فما شأن المقتول؟ قال: «كان حريصا على قتل صاحبه..» وهذا يعنى أن جريمة القتل التي تقع نتيجة للصراع بين اثنين، هى جريمة مشتركة بينهما، وإثمها واقع عليهما معا.. يقتسمانه على السواء.. أما أن أحدهما كان البادئ المعتدى، والآخر المدافع الذي يدافع عن نفسه، فذلك له حكم آخر غير جريمة القتل التي وقعت.. إذ لا شك أن البادئ بالعدوان، عليه تبعة هذا الموقف العدوانىّ الظالم، وعليه عقاب المعتدين الظالمين.. أما جريمة القتل فهى أشنع وأفدح من أن يحتملها إنسان، ومن هنا كانت آثارها السيئة تفيض عن القاتل، حتى لمسّ البريء المقتول. الآيات: (30- 31) [سورة المائدة (5) : الآيات 30 الى 31] فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) التفسير: انتهى الموقف بين الأخوين إلى تلك النهاية السيئة، فسمحت نفس الأخ، واتسعت لقبول هذا المنكر الغليظ، فقتل أخاه، وأخمد أنفاسه، ظلما وعدوانا.. فكتب بيده وثيقة خسرانه، وسطّر بهذا الدم البريء المسفوك، الحكم- بإدانته، وسوء مصيره! وقوله تعالى: «فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1077 يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ» . يقول المفسرون لهذه الآية: إن الله بعث بين يدى قابيل غرابين، اشتبكا فى صراع، فقتل أحدهما الآخر، ثم حفر له حفرة فواراه فيها، فعجب قابيل لهذا، ورجع على نفسه باللائمة أن عجز عن أن يفعل ما فعل الغراب إذ وارى جثة قتيله.. ومن هذا العمل الذي عمله الغراب أخذ قابيل بما دلّه عليه الغراب، فحفر لهابيل حفرة، وأودعه فيها! وممكن أن يقع الأمر على هذه الصورة، إذا جعلنا فى الحساب ما يقول به المفسرون من أن هذا كان أول قتيل من بنى آدم، وأنه لم يكن مما علمه أبناء آدم كيف يفعلون بموتاهم أو قتلاهم.. ولكن لنا على هذا اعتراضات: أولها: أننا لا نسلّم بأن هذه الحادثة كانت أول حدث يقع بين ولدين لآدم.. إذ أن لنا فى آدم مفهوما غير هذا المفهوم الذي يرى أن آدم كان سماوىّ المولد، وأنه خلق ابتداء على صورة الإنسان هذه.. ولو سلّمنا بهذا فإنّا لا نسلم بأن هذا النزاع كان أول نزاع وقع فى الأرض، وأنه كان بين ابني آدم، الأب الأول للإنسانية كلها.. وثانيها: أننا إذا سلمنا بأن هذا القتيل كان أول قتيل فى الأرض- فكيف تكون عملية القتل وإزهاق الروح معلومة لابن آدم هذا؟ وكيف يتوعد أخاه ويتهدده بقوله: «لَأَقْتُلَنَّكَ» ؟ كيف يقول هذا وهو لا يعرف القتل، بل ولا يعرف الموت بعد؟ ولو عرفه لعرف- تبعا لهذا- الأسلوب الذي يتخذ مع الموتى أو القتلى، بعد موتهم أو قتلهم!! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1078 وثالثها: أن الآية صريحة فى أن المبعوث هو غراب لا غرابان.. ولو كانا غرابين لذكرتهما الآية.. ورابعها: أنه لو وقع بين الغرابين هذا الصراع الذي انتهى بقتل أحدهما لكان فى ذلك عزاء لابن آدم القاتل، إذ يرى فى هذا تبريرا لفعلته، وإجازة لجريمته. فضلا عن أن الغربان لا تواري موتاها أو قتلاها. وخامسا: لو أن هذا الذي فعله ابن آدم كان أول فعلة وقعت من نوعها فى عالم البشر لما كان عليه كبير إثم منها.. لأنه فعل فعلا لا يدرى ما هو، وما عاقبته، ولما كان مستحقا أن يوصف بما وصفه الله به، وهو قوله تعالى: «فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ» . ولكن ما مفهوم هذه الآيات؟ وما شأن الغراب هنا؟ ولم هذا الندم الذي استشعره القاتل مما فعله الغراب؟ أما مفهوم هذه الآيات- والله أعلم- فإنها ترفع لبنى إسرائيل مشهدا من مشاهد الآثام التي يأتونها من غير تحرج أو تأثم، وأن مردّ هذه الآثام يرجع فى أكثره إلى الحسد، الذي يملأ صدورهم نقمة على الناس، ويبسط ألسنتهم وأيديهم بالسوء والأذى إلى كل من تلبسه نعمة من نعم الله.. وأنهم فى الإنسانية إنما يمثلون هذا الإنسان الظالم الآثم من ابني آدم، الذي حمله الحسد لأخيه على أن يلقى بنفسه إلى التهلكة، وأن يخسر الدنيا والآخرة جميعا! هذا هو المضمون الظاهر لهذه الآيات.. أما الغراب، فقد يكون غرابا حقيقيا، أو كائنا سماويا تمثّل فى هذه الصورة. وعلى أىّ فهو ملهم من الله تعالى بأن يفعل ما فعل بين يدى ابن آدم هذا.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1079 لأن الله سبحانه وتعالى يقول: «فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ» فهو مبعوث من عند الله لهذا الأمر. أما الندم الذي كان من هذا القاتل، فهو مما أثاره ما فعل الغراب.. هذا الحيوان الأعجم، الذي أقبل على جثة القتيل، يلقى عليها التراب، بما يحفر بقدميه حولها، حتى لكأنه يريد أن يواريها عن الأنظار، ويحميها من أن تنهشها السباع والطيور. وهنا يتنبه هذا القاتل إلى وجوده، وإلى شناعة الإثم الذي ارتكبه، وأن هذا القتيل مظلوم، حتى استدعى ظلمه الحيوان الأعجم، ليكون إلى جانبه، حين تخلّى عنه أخوه، وأبى عليه إلا أن يكون طعاما للسباع والطير.. وهنا أيضا يستشعر القاتل الندم، ويقع ليقينه أنه قتل هذا القتيل عدوانا وظلما. ولهذا وجد عاطفة الأخوّة تستيقظ فى نفسه، تلك العاطفة التي كانت قد أماتها الحسد، وذهب بكل أثر لها.. وذلك ما يشير إليه القرآن الكريم فى قوله تعالى على لسان هذا القاتل: «يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي» .. أخى.. هكذا يقولها بملء فيه، ومن قلب يفيض حسرة وندما! «فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ» أي أنه لم يكن يجد شيئا من الندم، قبل أن يرى ما فعل الغراب، ثم أصبح بعد ذلك من النادمين، إذ رأى نفسه أضأل من هذا الحيوان شأنا، وأعمى بصيرة، وأضلّ سبيلا.. وهكذا الإنسان، إذا غلبه الهوى، وركبه الضلال، كان أحط مرتبة فى عالم الحيوان، والله سبحانه وتعالى يقول: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ..» (4- 6 التين) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1080 الآية: (32) [سورة المائدة (5) : آية 32] مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) التفسير: قوله تعالى: «مِنْ أَجْلِ ذلِكَ» الإشارة هنا إلى محتوى هذه الحادثة كلّه، وما تضمنته من تسلط الحسد على بعض النفوس، ذلك الدّاء الذي يقطع أواصر المودة والأخوّة بين الناس، ويلقى بينهم العداوة والبغضاء، حتى يهلك بعضهم بعضا، ويذيق بعضهم بأس بعض.. ثم هذه الجريمة الشنعاء، التي ذهبت بحياة إنسان برىء، لم يبسط لسانه أو يده بعدوان على أحد.. ثم إن القتل عدوان بيّن على الله سبحانه، الذي بيده وحده الحياة والموت.. فإذا لم يكن الإنسان يملك من أمر الحياة شيئا، فليس له أن يملك من أمر الموت شيئا.. ومن هنا كانت غيرة الله سبحانه وتعالى على تلك الحرمة المقدسة.. حرمة الحياة الإنسانية، وقداسة الإنسان وكرامته على الله.. وقوله تعالى: «مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً» . أي بسبب حرمة الحياة الإنسانية وقداستها وكرامتها، فرض الله على بنى إسرائيل هذا الفرض، وأوجب عليهم هذا الحكم، وهو أنه من قتل نفسا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1081 عدوانا وظلما، أي من غير قصاص فى قتل، أو سعى بفساد فى الأرض- فكأنما قتل الناس جميعا، «وَمَنْ أَحْياها» أي أحيا نفسا إنسانية، بأن كفّ يده عن العدوان عليها، أو دفع عنها يدا معتدية عليها- فكأنه أحيا الناس جميعا.. ذلك أن الإنسان يمثّل الإنسانية كلها.. إذ كان خلقها جميعا من نفس واحدة، كما يقول الله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» (1: النساء) .. وفى كل إنسان هذه النفخة المقدسة التي كانت منها الإنسانية كلها، فمن قتل إنسانا، فقد أخمد تلك الشعلة المقدسة التي هى أصل الحياة، ومن أحياها، أي تركها حيّة فلم يعرض لها بسوء، فكأنما أحيا الإنسانية كلها، وترك شعلتها المقدسة متّقدة.. وفى هذا الحكم الذي أوجبه الله سبحانه وتعالى على بنى إسرائيل، تغليظ لجريمة القتل، وتشنيع عليها، وتهويل لها، ووضع القاتل أو من تحدّثه نفسه بالقتل أمام تلك الجريمة المفزعة، التي يرى فيها الإنسانية كلها وهى جثث هامدة، وأشلاء ممزقة بين يديه.. حتى أهله وأقرب الأقربين إليه من آباء وأبناء.. إنهم جميعا من قتلاه.. بل إنه هو نفسه فيمن قتل بيده.. إذ كيف يحيا وحده فى هذا العالم الموحش، وقد خلا من وجه الإنسان؟ وفى هذا الموقف يطلّ علينا من بعيد هذا الشبح المخيف لابن آدم الذي قتل أخاه، فاستولت عليه الوحشة القاتلة بعده، وأصبح غريبا فى هذا العالم، لا يجد لحياته وجودا على هذه الأرض، حتى ليذهل عن كل شىء وتضيع من نفسه معالم المعرفة، التي لا تتحرك ولا تعمل إلا فى مواجهة الإنسان للإنسان.. ولهذا كان الغراب أقدر على الحياة منه، وأصلح للعمل فيها، لأنه يعيش بين جنسه، مع فطرته، التي تستجيب لحياة الجماعة وتعمل معها. والسؤال هنا: لم كان هذا الحكم واقعا على بنى إسرائيل وحدهم؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1082 والجواب- والله أعلم- هو أن شريعتهم أقدم الشرائع السماوية، العاملة فى الحياة، والتي أدركها الإسلام، والتحم بها، وبأتباعها.. ولا يمنع من هذا أن يكون هذا الحكم قد كان مفروضا فى الشرائع السماوية السابقة على شريعة التوراة.. ثم إنه من جهة أخرى- تأديب خاص لبنى إسرائيل، وابتلاء لهم بهذا الحكم الذي يحمّل القاتل منهم دم الإنسانية كلها، إذ كانوا أكثر الناس استخفافا بدم الناس، حتى دم الأنبياء والقديسين.. وفى هذا يقول الله سبحانه وتعالى فيهم: «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ» (85: البقرة) . وفى قوله تعالى: «وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ» .. إشارة إلى ما فى بنى إسرائيل من بغى وعدوان، وأنهم- وقد بعث الله إليهم رسله، بالبينات والهدى- لم يستقيموا على طريق الحق، ولم ينزعوا ما فى نفوسهم من حسد وبغى. الآيتان: (33- 34) [سورة المائدة (5) : الآيات 33 الى 34] إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1083 التفسير: فى الآية السابقة جاء قوله تعالى «مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً» وفى هذه الآية جاء قوله سبحانه: «إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا ... » بيانا شارحا لجزاء المفسدين الذين أباح الله دماءهم، ورفع عن قاتلهم تبعة الإثم الواقع على من قتل نفسا بغير نفس أو فساد فى الأرض. وفى الآية الكريمة إشارة إلى بنى إسرائيل، وإلى أنهم هم الوجه البارز فى الإنسانية، الذي تظهر فيه تلك المنكرات ظهورا واضحا، حتى لتكاد تكون الأصل الذي يقاس عليه كل منكر يظهر فى الناس. فهم يحادّون الله ورسوله.. والمحادة هى العدوان على حدود الله، والاستباحة لحرماته.. وهم الذين يسعون فى الأرض فسادا، بما يرتكبون من جرائم وآثام، لما يحملون فى صدورهم من غلّ وحسد.. وقد رصد الله سبحانه هذا العقاب الرادع لتلك الجرائم المنكرة، ليكون فيه تنكيل، وبلاء، وإهدار لآدميّة من يهدر آدميته، حين يضيّع حقوق الله، ويستخفّ بها، ويهدر حقوق الناس ويغتالها، ويستبيح دماءهم وأموالهم. وفى قوله تعالى: «أَوْ يُصَلَّبُوا» إشارة أخرى إلى اليهود، حيث أن هذا النوع من العقاب وهو الصلب، كان شريعة لهم، يأخذون به من يحادّ الله، ويكفر به.. وقد قدّموا المسيح بهذه التهمة، وحكموا عليه بالموت صلبا. وفى قوله تعالى: «أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ» إشارة ثالثة تشير إلى اليهود، وأنهم أولى الناس بهذه العقوبات، وأكثرهم تعرضا لها.. ولقد وقع عليهم هذا الحكم، فأجلاهم الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- من المدينة، ونفاهم من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1084 الأرض.. إذ كانوا مصدر فتنة وقلق واضطراب للمجتمع الإسلامى فى المدينة، يفتنون الناس عن دينهم، ويؤلفون مع المنافقين حلفا لمحاربة الإسلام والكيد له، ولقد كان منهم هذا الغدر اللئيم الذي جمع بينهم وبين مشركى قريش، حين جاءوا إلى المدينة بجموعهم يريدون القضاء على المهاجرين والأنصار فى غزوة الخندق.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ» (3: التغابن) وقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ» هو استثناء من هذا الحكم الواقع على أصحاب تلك الجرائم المنكرة.. فمن تاب منهم، ورجع عما هو عليه من منكر، وذلك قبل أن تناله يد المسلمين، وتمسك به متلبسا بجرمه- من تاب منهم قبل هذا فقد رفع الله عنه هذا الحكم، وفتح له بتوبته، الطريق إلى النجاة.. فليغفر لهم النبىّ والمسلمون، وليلقوهم بالصفح الجميل، وليعلموا «أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» . الآية: (35) [سورة المائدة (5) : آية 35] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) التفسير: [الوسيلة.. والتوسل بأصحاب القبور] وبين يدى هذه العقوبة الراصدة للذين يحادّون الله ورسوله ويسعون فى لأرض فسادا، تجىء دعوة للمؤمنين أن يثبتوا على ما هم عليه من إيمان وتقوى، وأن يعملوا ما وسعهم العمل على الاقتراب من الله، بالعمل الصالح والجهاد فى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1085 سبيله، حتى يبتعدوا أكثر ما يمكن عن هذه المهالك، التي تأخذ المفسدين بأنواع النّكال والبلاء.. والدعوة إلى السلامة والنجاة، فى الحال التي يشهد الإنسان فيها مصارع الظالمين والبغاة، هى دعوة مستحابة، تتلقاها النفوس حفية بها، حريصة عليها.. حيث هى الحبل الممدود لنجاة من يمسك به، فى هذه الريح العاصف، التي تنزع الناس، وتلقى بهم فى مهاوى الهلاك.. والوسيلة: هى ما يتوسل به إلى الله تعالى من الأعمال الصالحة التي ترضى الله، وتدنى الإنسان من ربه. فالوسيلة فى اللغة، ما يتوسل به إلى أي أمر ابتغاء تحقيقه، وجمعها وسائل، ولكل أمر وسائله وأدواته التي يتوسل بها إليه، فمن أخطأته الوسائل، لم يبلغ من أمره ما يريد.. وتقوى الله هى مطلوب كل مؤمن بالله، ورغيبة كل طامع فى رضا الله، ساع إلى مرضاته.. ولهذا فقد أمر الله تعالى الذين آمنوا، بالتقوى، فى قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ» .. فليس الإيمان- مجرد الإيمان- هو الذي يطلب من المؤمن، ليكون فى عباد الله المؤمنين، وإنما الذي يحقق الإيمان، وينضج ثمرته، هو «التقوى» . والتقوى هى اجتناب محارم الله، وامتثال أوامره، أو هى كما عرفها بعض العارفين: «ألّا يراك الله حيث نهاك وألا يفتقدك حيث أمرك» . والتقوى على تمامها مطلب صعب المنال، غالى الثمن، لا يقدر على الوفاء به إلّا من رزقه الله قوة الإيمان، وثبات اليقين، ووثاقة العزم.. تلك هى بعض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1086 الوسائل التي يتوسّل بها إلى التقوى- ولهذا جاء قوله تعالى: «وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ» معطوفا على قوله تعالى: «اتَّقُوا اللَّهَ» - أي اتقوا الله بابتغاء الوسائل المؤدية إلى التقوى.. وهنا ما يسأل عنه: كيف جاء النظم القرآنى: «وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ» إذا كان المراد بالوسيلة ما تحقق به التقوى.. إذ لو كان الأمر كذلك لجاء النظم القرآنى كهذا: «وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ..» .. كيف هذا؟ والجواب على هذا، هو أن التقوى هى تقوى الله، ووسائلها التي تتحقق بها هى وسائل موصلة إلى الله، مدنية من رضاه ومغفرته.. فليست التقوى.. والأمر كذلك- مقصودة لذاتها، وإنما هى مرادة لما هو أولى بالمؤمن أن يتعلّق به، ويعمل له، وهو القرب من الله، والنزول فى رحاب رضوانه.. فابتغاء وسائل التقوى هو فى الحقيقة ابتغاء للوسائل المؤدية إلى رضى الله، ومن ثمّ كان عود الضمير إلى الله سبحانه وتعالى، لا إلى التقوى، التي هى بدورها وسيلة إلى التقرب من الله! وأمر آخر من أمر الوسيلة.. نريد أن نقف قليلا عنده.. فقد ذهب كثير من العلماء، وخاصة علماء الشيعة، إلى أن المراد بالوسيلة هنا هو التوسل بآل البيت- رضوان الله عليهم- والاستغاثة بهم، واللّجأ إليهم فى الملمّات.. وعن هذا المنزع ما يأخذ به بعض المسلمين أنفسهم من التوسل بالأموات، ممن يعتقد فى صلاحهم، واستقامة سلوكهم فى الحياة، فيلمّون بقبورهم وأضرحتهم، طالبين قضاء حوائجهم التي قصرت عنها أيديهم. والذي يأباه الدّين هنا هو ما يتخذه كثير من أولئك الذين يزورون قبور الصالحين وأضرحتهم، من التمسح بهذه المواطن، ومناجاة الراقدين فيها، وطلب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1087 الغوث منهم، حتى ليكاد المسلم يذهل عن الله فى هذا الموقف، وحتى لكأن هذا الإنسان الصالح هو الذي يتصرف فى هذا الكون.. إن شاء أعطى، وإن أراد منع! أمّا أمر زيارة قبور الصالحين، فهو إن تجردّ من هذه المشاعر، وخلص من تلك التصورات، ووقف به الزائر عند حدّ العبرة والعظة، بذكر الموت الذي تذوقه كل نفس، ويرد مورده كل إنسان، فذلك مما لا بأس به، إذ يكون الإنسان- وهو فى معرض يذكّره بالموت- أمام صورة طيبة، لسيرة عبد من عباد الله الصالحين، الذين أصبحوا ذكرا طيبا على ألسنة العباد.. ولعلّ فى هذا ما يدعوه إلى الأسوة، والسّير على طريق الصالحين. ومع هذا، فإن الضعف البشرى، والجهل بما لله وما للعباد، قد يحمل بعض الناس ممن يلمّون بقبور الصالحين، على ألا يذكروا شيئا من هذا، وألا يستحضروا الموت فى هذا الموقف، إذ قد يتمثل لهم أن صاحب هذا «الضريح» لم يتحول بعد إلى تراب ضائع فى التراب، وأنه بكيانه كله لا يزال يلقى الناس ويلقونه، ويأخذ ويعطى.. ومن هنا كان الأولى بمن لا يعرف كيف يحمى نفسه من هذا المزلق، ويحرسها من هذا الضلال- أن يتجنّب زيارة الأضرحة، ليدفع عن إيمانه عوارض الضعف ودواعى الشرك. ولا بأس هنا من أن ننقل ما ذكره «الشّوكانى» عند تفسيره لهذه الآية، قال: «قد أكثر الناس من دعاء غير الله تعالى، من الأولياء، الأحياء منهم والأموات.. مثل يا سيدى فلان أغثنى.. وليس ذلك من التوسل المباح فى شىء، واللائق بحال المؤمن عدم التفوّه بذلك، وألّا يحوم حول حماه، وقد عدّه أناس من العلماء شركا، وإلّا يكنه فهو قريب منه.. ولا أرى أحدا ممن يقول ذلك إلا وهو يعتقد أن المدعوّ الحىّ الغائب، أو الميت المغيّب، يعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1088 الغيب، أو يسمع النداء، ويقدر بالذات أو بالغير على جلب الخير ودفع الأذى، وإلا لما دعاه، ولا فتح فاه، وفى ذلكم بلاء من ربكم عظيم. «فالحزم، التجنب عن ذلك، وعدم الطلب إلا من الله القوىّ الغنىّ الفعّال لما يريد. ثم يقول: ومن وقف على سرّ ما رواه الطبراني فى معجمه، من أنه كان فى زمن النبىّ صلى الله عليه وسلم- منافق يؤذى المؤمنين، فقال الصديق- أبو بكر رضى الله عنه- هيّا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فجاءوا إليه، فقال- صلى الله عليه وسلم-: «إنه لا يستغاث بي، إنما يستغاث بالله» .. من عرف سرّ ذلك لم يشك فى أن الاستغاثة بأصحاب القبور- الذين هم بين سعيد شغله نعيمه وتقلّبه فى الجنان عن الالتفات إلى ما فى هذا العالم، وبين شقى ألهاه عذابه وحبسه فى النيران عن إجابة مناديه، والإصاخة إلى أهل ناديه- أمر يجب اجتنابه، ولا يليق بأرباب العقول ارتكابه، ولا يغرّنك أن المستغيث بمخلوق، قد تقضى حاجته، وتنجح طلبته، فإن ذلك ابتلاء وفتنة من الله عزّ وجل، وقد يتمثل الشيطان للمستغيث فى صورة الذي استغاث به، فيظن أن ذلك كرامة ممن استغاث به.. هيهات هيهات، وإنما هو شيطان من أضلّه وأغواه، وزين له هواه..» . وهذا الذي يقوله الشوكانى هو الذي يجب أن يؤمن به كل مسلم، فى نظرته إلى أصحاب القبور، وإلى من يعدّه من الصالحين، وذوى الكرامات فيهم.. إنهم جميعا فى عالم وراء هذا العالم الذي نعيش فيه، شغلوا بما هم فيه من نعيم أو بلاء، وإنّهم لأشدّ حاجة إلينا منا إليهم، بالدعاء لهم بالرحمة والمغفرة.. حيث أننا- أعنى الأحياء- فى دار عمل وابتلاء، يتقبل الله منا أعمالنا، ويحصيها علينا، ويحاسبنا عليها، وهم قد صاروا إلى عالم قد انقطع عنهم كل عمل فيه، فلا يضاف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1089 إلى أعمالهم التي عملوها فى الدنيا شيئا جديدا من كسب أيديهم فى عالمهم الأخروىّ.. فكيف والحال كذلك يكون لهم كسب يضاف إلى غيرهم، من قضاء الحوائج، وتفريج الكروب؟. ولا شك أن كثيرا ممّن يلمّون بمقابر من يعتقدون فى ولايتهم وصلاحهم، تستولى عليهم فى تلك الحال مشاعر، توحى إليهم بأنهم على مداناة وقرب من الله، وأن ما يدعون به مستجاب، وأن وراءهم من أمداد الصالحين والأولياء، ما يزكىّ دعاءهم عند الله، وينزله منازل القبول.. وهذا، وغيره من المشاعر المختلطة التي تستولى على الإنسان، فى تلك الحال- من شأنه أن يبعث الراحة والطمأنينة فى الإنسان، ويعلّله بالأمل والرجاء، وهذا بدوره عامل نفسىّ له أثره الإيحائى الذاتي، الذي تتغير به نفسية الإنسان، وتتبدل مشاعره، وفى ذلك شفاء له من كثير مما كان يكابده ويشقى به.. والعلاج بالإيحاء أمر معروف مشهود، وما يجده الذين يزورون أضرحة الأولياء والصالحين، من روح وراحة لا يعدو أن يكون ضربا من الإيحاء النفسىّ، سواء أكانت وارداته من خارج النفس أو داخلها.. ولعلّ فى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» ما يشير إلى شىء من هذا الذي يعرف بالإيحاء النفسي.. فالإنسان تتغير حاله، ويتبدّل سلوكه نحو شىء ما إذا تغيّرت مدركاته له، ومشاعره نحوه.. وكذلك شأنه فى جميع أحواله، حيث يقوم تعامله مع الأشياء على أساس من إدراكه لها، ومشاعره نحوها، فإذا تغيرت تلك المدركات تغيّرت تبعا لذلك مواقفه منها، وسلوكه معها.. وشأن الجماعات فى هذا، هو شأن الأفراد سواء بسواء.. على أن الذي نودّ أن ننّبه إليه هنا، هو ما يتطابر من شرر أو شرّ بين الذين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1090 يلتقون على خلاف فى مجال التوسّل بالأنبياء، والأولياء والصالحين.. فهذا الشّرر كثيرا ما يمتدّ إلى هؤلاء، الذين اختلف المختلفون فى التوسل إليهم، بين مغال فى التوسل، وبين مبالغ فى تحريمه وفى تكفير من يتوسلون!. ففى الطرف المغالى فى التوسل يرمى دعاته وأنصاره بالقول جزافا، يكيدون به للطرف المقابل، الذي ينازعهم فيه، ويتهمهم بمرض قلوبهم، وفساد دينهم.. وإذا هم يبالغون ويبالغون فيما هم فيه، حتى ليبلغ بهم ذلك إلى حد الشرك الصّراح بالله. وفى الطرف الآخر، الذي يحارب التوسل ويعاديه، يجد المرء نفسه أنه فى حرب حقيقية، وأن عليه أن ينتصر فيها بأى ثمن، وأن يضرب فى الجبهة المعادية له بأى سلاح، وإذا هو من حيث لا يدرى يضرب فى وجوه الأنبياء والأولياء والصالحين أنفسهم، ولا يسأل نفسه ماذا جنى هؤلاء الكرام من عباد الله من جناية، حتى يرميهم بما يرميهم به.. من استخفاف بهم، وتطاول على مقامهم الكريم.. إن الدعوة بالرفق والحسنى فى هذا المقام، أليق بالإنسان، وأنجح لدعوته، وأسلم لدينه، إن كان أمره فى هذا قائما على النصح لله ولرسوله وللمؤمنين، فلا خير فى داع يدعو إلى الخير، ثم يعود آخر المطاف بمحصول وفير من الوزر والإثم!. وأيّا كان الأمر، فإن الذي ينبغى أن يكون فى يقين المسلم دائما هو التوقير والولاء لأنبياء الله، وأوليائه، والصالحين من عباده، وألا يدخل شىء من الضيم على ولائه وتوقيره لهم، ما يجنيه عليهم غيرهم، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» وقد عبد النصارى المسيح بن مريم، واتخذوه إلها من دون الله، ومع هذا فمقامه عند الله عظيم، لم ينله شىء مما جنى أتباعه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1091 من ضلال وكفر.. وكذلك ينبغى أن يكون ولاؤنا له على قدر تلك المنزلة العظيمة التي جعلها الله له بين عباده المكرمين. فإذا بالغ المبالغون منا، وغلا المغالون فينا، ونظروا إلى الأنبياء والأولياء والصالحين، تلك النظرة التي يأخذها عليهم المقتصدون، ويتهمهم بها فى دينهم المتهمون- فذلك كله ينبغى أن يكون بمعزل عن مقام هؤلاء المكرمين من عباد الله، من رسله، وأنبيائه، وأوليائه.. والله يقول الحق، وهو يهدى السبيل. الآيتان: (36- 37) [سورة المائدة (5) : الآيات 36 الى 37] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37) التفسير: وهذه لفتة أخرى للمؤمنين، إذ يرون فيها أهل الكفر والنفاق والفساد وما أعدّ لهم من عذاب أليم فى الآخرة، بعد أن رأوا ما حلّ بهم من نكال فى الدنيا.. فإذا أفلت منهم أحد من عقاب الدنيا، لم يكن له من سبيل إلى الإفلات من عذاب الآخرة، وأنه إذا دفع عن نفسه عذاب الدنيا بمال، أو حيلة، أو نحو هذا، فإنه لا دافع لعذاب الله الراصد له فى الآخرة.. وقوله تعالى: «لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ» هو تيئيس للكافرين من أن يخلصوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1092 من عذاب الآخرة، ولو كان لهم ما فى هذه الدنيا، وما فى دنيا مثلها.. وفى وصف العذاب بأنه «أليم» ثم وصفه بأنه «مقيم» استكمال لصورة هذا العذاب، وأنه يجمع بين الألم، واستمرار هذا الألم، الذي يقيمون فيه إقامة دائمة لا نهاية لها.. الآيتان: (38- 40) [سورة المائدة (5) : الآيات 38 الى 40] وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) التفسير: وإذ جاء فى الآيات السابقة حكم الله فيمن يحادّون الله ورسوله، ويسعون فى الأرض فسادا، فقد كان من المناسب أن يرد بعد ذلك حكم السرقة، وجزاء مقترفها، إذ هى ضرب من ضروب الفساد فى الأرض.. ثم لأنها لم تبلغ من غلظ الجرم ما بلغت الجرائم السابقة، فقد خرجت من هذا الحكم العام لتلك الجرائم، وأفرد لها هذا الحكم الخاص بها.. والمرأة والرجل سيّان فى الحدّ الواجب على السارق، وهو قطع يده اليمنى، من مفصل الرسغ، وذلك لأن اليمنى غالبا هى التي يستخدمها السارق فى السرقة، فكان قطعها عقوبة له، وكأنه فى نفس الوقت عقوبة لليد التي سرقت! وشرط إقامة الحدّ فى السرقة، أن يكوون المسروق مالا مقوّما شرعا.. فسرقة الخمر والخنزير لا قطع فيها، وأن يكون هذا المال محروزا فى حرز مالكه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1093 وحفظه، فسرقة المال المتروك من غير حرز، ولا حراسة.. لا قطع فيه، ويشترط كذلك أن يكون المال ذا قيمة معتبرة.. وقد قدرها بعض الفقهاء بعشرة دراهم كما قدرها بعضهم بربع دينار. هذا، وليس ذلك التغليظ فى عقوبة السرقة قسوة من الإسلام، واستخفافا بالإنسان، واسترخاصا لوجوده كما يقول ذلك- زورا وبهتانا- من يكيدون للإسلام، ويبيّتون له مالا يرضى من القول.. وإنما ذلك العقاب هو الجزاء العادل الرحيم، إزاء هذا الجرم الشنيع، الذي يعدّه الإسلام من أشنع الجرائم، إذ هو اعتداء على حرمة الإنسان، فى أعزّ ما يحرص عليه، وهو المال. ولا بأس من أن نلفت أولئك الذين يتهمون الإسلام بالوحشية والحيوانية إلى ما جهلوه أو تجاهلوه من حكمة الإسلام، وتقديره السليم العادل لجريمة السرقة، ووزنها بالعدل والقسطاس.. بين السارق والمسروق منه.. فأولا: السرقة اعتداء خفىّ على حرمة الإنسان، واستباحة لماله الذي هو بمنزلة النفس عند صاحبه! وإذا كانت المدنيّة الحديثة قد استخفّت بهذه الجريمة، حتى استباحت سرقة الأمم والشعوب، فإن الإسلام الذي يحترم الإنسان- من حيث هو إنسان، ويرعى حرمته فى دمه، وماله وعرضة، كما يقول نبى الإسلام: «كل المسلم على المسلم حرام.. دمه، وماله، وعرضه» - فإن الإسلام لا يستخفّ بهذه الجريمة، بل يضعها موضعها بين الجرائم الغليظة، ولا تأخذه رحمة فيمن لا يرحم الناس، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ» (252: البقرة) . وهذا الحدّ الذي فرضه الإسلام لقطع يد السارق، هو بعض ما يدفع الله به الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1094 الناس، بعضهم بعض، وهو بعض فضله على عباده. وثانيا- ليس القطع فى السرقة فى مطلق السرقة، أىّ سرقة، بل لا بد من توافر شروط تتم بها أركان هذه الجريمة الموجبة للقطع، وهذه الأركان هى: (1) أن يكون المسروق شيئا ذا قيمة- أي له اعتبار فى حياة الناس الاقتصادية.. وكانت هذه القيمة تقدر فى عهد النبي صلى الله عليه وسلم بربع دينار- أي ثلاثة دراهم-. وهذا النصاب الموجب للقطع، يقدّر فى كل زمان ومكان بحسب قوته الشرائية بالنسبة لعصر النبوة. والمعتبر فى هذا هو أنه مال له قيمته، وله أثره، سواء أكان نقدا أو ما يقوّم بالنقد. (2) أن تقع السرقة فى مال محروز، أي أن السارق يسرقه من حرز، فالمال الضائع، والثمر الذي يكون على الشجر بلا حائط يحيط به، والماشية التي لا راعى عندها، ونحو هذا، لا يقام على السارق حد فيه، ولكن يعزّر ويضاعف عليه العرم. (3) ما أخذ بالفم من ثمر على شجر، وأكل، ولم يحمل منه شىء- لا قطع فيه، ولا تعزير. ومن احتمل شيئا غير ما أكل فعليه ضعف ثمنه، ويضرب نكالا له، وزجرا لغيره. (4) السرقة فى أوقات المجاعات ليس فيها قطع. (5) هناك ظروف وأحوال يراها ولىّ الأمر، ويقدّرها، فى حال السارق، وظروفه، فيعزّره ولا يقطع يده، حيث تلوح له أية شبهة يدفع بها الحدّ، فقد روى عن أميّة المخزومي رضى الله عنه، قال: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم بلصّ قد اعترف اعترافا، ولم يوجد معه متاع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1095 «ما إخالك سرقت؟» قال «بلى» (أي سرقت) فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا، فأمر به فقطع، وجىء به، فقال له النبي الكريم: «استغفر الله وتب إليه» فقال: أستغفر الله وأتوب إلى الله.. فقال نبىّ الرحمة: «اللهم تب عليه» ثلاثا.. أي قال النبىّ ذلك الدعاء ثلاث مرات. (5) يجوز لصاحب المال المسروق إذا ضبط السارق أن يعفو عنه قبل أن يصل الأمر إلى القضاء، فقد روى أن النبىّ صلى الله عليه وسلم، قال لصفوان ابن أميّة وقد جاء ليشفع فيمن سرق رداءه- أي رداء صفوان-: «هلّا كان ذلك قبل أن تأتينى به؟» . وقوله تعالى: «فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ» هو عزاء لهؤلاء الذين اقترفوا جريمة السّرقة، سواء أقيم عليهم الحدّ فيها، أو أفلتوا من إقامة الحدّ.. وليس عزاء كهذا العزاء الذي يقدمه الله إليهم، وقد أفسدوا إنسانيتهم بهذا الجرم الذي ارتكبوه، فجاءهم هذا العزاء فى صورة دعوة كريمة من رب كريم، يدعوهم فيها إلى جناب رحمته ومغفرته، إذا هم أرادوا أن يلوذوا بهذا الجناب الكريم، وأن يستظلوا به، وذلك بأن يستشعروا الندم عن جرمهم، وأن يبرءوا إلى الله منه بالتوبة والإنابة والاستغفار، فإنهم إن فعلوا قبل الله توبتهم وغفر لهم ذنبهم: «ومن يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً» . وقوله تعالى: «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» هو إلفات للطائعين والعاصين جميعا، وأنهم كلهم فى قبضة الله، يعذب من يشاء منهم جزاء ما ارتكب من إثم، وقارف من ذنب، ويغفر لمن يشاء، فضلا منه وكرما.. فهو القادر على كل شىء، والمالك لكل شىء! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1096 وفى تقديم العذاب هنا على المغفرة- نظر.. إذ كانت رحمة الله تسبق غضبه وعذابه أبدا: ولكن إذ كان الموقف هنا موقف محاسبة للمذنبين، ثم مغفرة ورحمة لمن تاب ورجع إلى الله منهم- كان ذكر العذاب مقدّما على ذكر المغفرة بالنسبة لهم، ولو تقدمت المغفرة على العذاب هنا لما كان لعقاب المذنبين- مع سبق الرحمة- مكان، ولشملتهم الرحمة قبل أن يؤخذوا بجرمهم، ويقام الحدّ عليهم، وإلا لسقطت الحدود، واضطرب نظام المجتمع! فكان تقديم العقاب أخذا لحق الله وحق العباد أولا، ثم تجىء مغفرة الله ورحمته، فتمحو آثار هذا العقاب وتعفّى عليه، لمن وجّه وجهه إلى الله، وطلب الصفح والمغفرة. وقدّم السارق على السارقة.. لأن الرّجل أجرأ من المرأة على السرقة، وأكثر تمرسا بها.. كما قدّمت المرأة على الرجل فى جريمة الزنا، فى قول الله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» - لأن هذه الجريمة لا تتم إلا بالرجل والمرأة معا، والمرأة هى صاحبة الموقف هنا، وبيدها الأمر فيه، لأن الرجل طالب وهى مطلوبة، فإذا لم تعطه نفسها، ولم تمكنه منها فاته مطلوبه ولم تقع الجريمة.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1097 الآية: (41) [سورة المائدة (5) : آية 41] يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41) التفسير: هذا عزاء وتسرية للرّسول الكريم، عن هذا الحزن الذي كان يقع فى نفسه من أولئك الذين يتخذون دين الله لعبا ولهوا، يلبسه أحدهم كما يلبس الثوب، يستر به جسده من لفح الزمهرير، أو وهج الحرور، فإذا أمن الحرّ أو البرد، طرحه، وبدا للناس عاريا. إن هؤلاء المتلاعبين بالدين لم يعرفوا حقيقة الإيمان، ولم يعتقدوه عقيدة، تستولى على قلوبهم، وتختلط بمشاعرهم.. ومن هنا كان استخفافهم به، وتحولهم عنه، إذا أوذوا فى أموالهم أو فى أنفسهم، أو إذا لاح لهم فى أفق آخر لمعة سراب لعرض زائل من عروض الدنيا. ومثل هذا الإيمان لا وزن له، والمؤمنون إيمانا كهذا الإيمان لا حساب لهم فى المؤمنين.. إن ضررهم أكثر من نفعهم، وخروجهم من الإيمان خير من دخولهم فيه.. وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ» هو كما قلنا عزاء وتسريه للرسول، كما أنه تهوين لشأن هؤلاء الذين دخلوا فى الإسلام بكلمة ألقوها على أفواههم، ثم خرجوا منه بكلمة قذفوا بها من أفواههم.. فخسارة الإسلام فيهم- إن بدت فى ظاهر الأمر خسارة- ليست فى حقيقتها إلا كسبا للإسلام وللمسلمين، إذ قطعت هذه الأعضاء الفاسدة من جسد المجتمع الإسلامى، وعزلت عنه هذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1098 الداء الخبيث الذي يندسّ فى كيانه، ويعمل على إضعافه وإفساده. وفى قوله تعالى: «وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا» هو عطف على قوله تعالى: «مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ» .. فالذين يسارعون فى الكفر فريقان: فريق من غير اليهود.. من جفاة الأعراب، الذين وصفهم الله بقوله سبحانه: «وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ... » (101: التوبة» واليهود، وهم الذين أشار إليهم الله سبحانه وتعالى هنا بقوله: «وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا» ومسارعة الذين هادوا إلى الكفر، إما أن تكون بعد دخول بعضهم فى الإسلام ثم نفاقهم فيه، أو أن تكون مسارعتهم بالكفر بما فى أيديهم من الكتاب، إذ أنكروا ما فيه من آيات تحدّث عن الرسول الكريم، وتبشر به، وتدعو إلى مؤازرته والإيمان به.. فقد حملهم العناد على أن يكفروا بهذا الذي يحدثهم به كتابهم عن؟؟؟ وعن الأمارات التي يجدونها دالة عليه فى كتابهم.. وكان ذلك إسراعا منهم فى الكفر، وخروجا من الدين جملة. وقوله تعالى: «سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ» هو صفة لهؤلاء الذين يسارعون فى الكفر من الفريقين.. والأعراب، وأشباههم من ضعاف الإيمان من غير اليهود، يلقون أسماعهم إلى الأكاذيب التي يذيعها المنافقون عن الإسلام والمسلمين، وعامّة اليهود يعطون زمامهم لأهل العلم فيهم، ويتحدثون إلى النبي وإلى المؤمنين بما يلقيه علماؤهم فى آذانهم، دون أن يجرؤ هؤلاء العلماء على لقاء النبي ومواجهته بهذه الأكاذيب وتلك الأباطيل، لأنهم يعلمون كذبها، وأنهم مفضوحون إن واجهوا النبىّ بها. وقوله سبحانه «يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ» هؤلاء هم العلماء من أحبار اليهود، يحرّفون كلمات التوراة من بعد أن استقرت فى أماكنها، ولم يكن ثمة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1099 سبيل إلى تبديلها. والتحريف هنا هو فى فساد التأويل والتخريج، وكتمان بعض، وعرض بعض. وقوله تعالى: «يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا» هو بيان لضرب من ضروب التحريف، والفساد فى التأويل. إذ يقيم علماء اليهود عامتهم على رأى خاص محرّف، ويقولون لهم إن قبله محمد منكم فاقبلوه منه، ووافقوه عليه، وإن لم يقبله فاحذروا أن تأخذوا بما يدعوكم إليه، مخالفا لهذا الرأى الذي أنتم عليه. وقوله سبحانه: «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» هو تعقب فاضح لهذا الموقف اللئيم الذي يقفه علماء اليهود من دينهم الذي يدينون به، فقد فتنوا هم فيه وأفسدوا على أتباعهم دينهم، بهذه التأويلات الفاسدة المنكرة.. وإن هؤلاء الفاتنين والمفتونين معا صائرون إلى هذا المصير المشئوم، إذ كان موافقا لطبيعتهم، مستجيبا لأهوائهم.. فأخلى الله بينهم وبين أهوائهم، فلم يمد إليهم يد الهداية والتوفيق.. «وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى» (8- 9- 10: الليل) .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: فى خاتمة هذه الآية: «أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ» . وفى الإشارة إليهم بقوله تعالى: «أُولئِكَ» عرض كاشف لهم فى هذا الوضع السيّء، مطرودين من رحمة الله، واقعين تحت نقمته، «لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ» ، حيث يشهد الناس كذبهم، ونفاقهم، «وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ» .. فإن كان فى وجوههم صفافة تحتمل هذا الخزي، ولا تبتلّ بقطرة من عرق الخجل والحياء، فى الدنيا، فإن جلودهم- ولو كانت فى بلادة الحجر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1100 أو صلابة الحديد، فلن تدفع عنهم حريق جهنم أن ينفذ إلى ما وراءها من لحم وعظم، وأن يجعلهم كتلا من جمر، وحمم. الآية: (42- 43) [سورة المائدة (5) : الآيات 42 الى 43] سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) التفسير: هاتان الآيتان تستكملان الصفات الذميمة التي دمغ الله بها اليهود، وجعلها طبيعة قائمة فيهم، ولم يذكرهم القرآن هنا، بل جاء بالوصف الدال عليهم، هكذا: «سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ» فما أحد أكثر من اليهود كذبا، ولا أجرأ منهم عليه.. وحسبهم أن يكذبوا على الله، وأن يحرفوا كلماته، وأن يقولوا على الله ما لم يقله الله.. وما أحد آكل من اليهود للسّحت، وهو الحرام الذي يلبسونه وجه الحلال كذبا وافتراء وبغيا وعدوانا. وقوله تعالى: «فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ» . قيل فى سبب نزول هذه الآية إنه وقعت فى اليهود جريمة زنا بين كبيرين من كبرائهم، وكان حد الزنا فى الإسلام يومئذ هو ما جاء فى قوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» ولم يكن جاء بعد ما جاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1101 فى عمل الرسول من رجم المحصنة والمحصن.. فأراد اليهود أن يفيدوا من هذا الحكم الذي جاء فى الإسلام، وأن يأخذوا صاحبيهما- الزانية والزاني- بالحدّ الذي شرعه الإسلام، وهو الجلد، وأن يحموا الزانية والزاني من الرجم، لما لهما من منزلة عندهم. ولا شك أن هذا تلفيق فى الدين، فإما أن يكونوا يهودا على شريعة اليهود، فيقيموا حكم التوراة- وهو الرجم هنا- على صاحبيهما، مهما كانت منزلتهما، وإما أن يكونوا مسلمين فيقام عليهما حكم الإسلام وهو الجلد. ولكن هكذا اليهود.. يأخذون من الأحكام الشرعية ما يرضى هواءهم، فإن لم يكن بالتحريف والتبديل، كان بالتحول من شريعة إلى شريعة، ومن دين إلى دين، حسب الحال الداعية إليه. وقد جاءوا إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- يسألونه الحكم فى هذين الزانيين، فسألهم الرسول: ما حكم التوراة فيهما؟ فقالوا: الجلد بحبل مطلىّ بالقار، وعرض الزانيين على الناس، يطاف بهما وهما على حمار بن، فى وضع مقلوب. فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: «كذبتم، الحكم فى التوراة هو الرجم» فأنكروا.. ثم فضحهم الله، فشهد شاهد من علمائهم: أنه الرجم.. فأمر الرسول بإمضاء حكم التوراة فيهما، ورجمهما. وقوله تعالى: «وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ» استنكار لموقف اليهود، وتحكيمهم النبي صلى الله عليه وسلم فى أمر هو من شئون دينهم الذين هم عليه- وحكم التوراة واضح فى هذا الأمر.. ثم كيف يحكمون النبىّ وهم لا يؤمنون به، ولا يعترفون برسالته، ولا بالكتاب الذي فى يده؟ إن ذلك لم يكن لطلب حق، ولا ابتغاء هدى، وإنما كان إشباعا لأهواء، وإرضاء لشهوات، وتحللا من حكم شرعى قائم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1102 بهذا التأويل الفاسد الذي ذهبوا إليه، بالانتقال- فى هذه الحالة- من دين إلى دين.. وقوله تعالى: «ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ» هو فضح لما عليه اليهود من ضلال ورياء فى الدين- إنهم لا يقبلون من النبىّ إلا ما وافق أهواءهم، وهم ليسوا بالمؤمنين، بما يأخذون أو يدعون من شريعة النبي،.. ثم إنهم ليسوا بالمؤمنين إطلاقا، لا بدين محمد، ولا بالشريعة التي هم عليها.. وفى الإشارة إليهم بقوله تعالى: «وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ» تشنيع عليهم، واستدعاء لكل ذى نظر أن يمسك بهم، وهم على هذا الكفر الذي يعيش معهم. الآية: (44) [سورة المائدة (5) : آية 44] إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44) التفسير: فى هذه الآية تعريض بأحبار اليهود وعلمائهم، الذين عاصروا النبوة، وكتموا ما معهم من التوراة وأحكامها.. وقوله تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ» هكذا أنزلنا التوراة، تحمل شريعة الله، وضيئة مشرقة بالهدى والحق.. وهكذا حكم بها النبيون الذين جاءوا بعد موسى، يأخذون بها، ويبينون لليهود أحكام الشريعة فيها. ووصف النبيين بالذين أسلموا إشارة إلى أنهم على دين الله، الذي ارتضاه الله لعباده، وهو الإسلام، الذي كانت خاتمة دعوته، وتمام رسالته، الدعوة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1103 الإسلامية، ورسالة رسولها محمد بن عبد الله.. وفى هذا دعوة لليهود أن يلتقوا مع رسالة الإسلام، وأن يؤمنوا كما آمن الناس، وإلا فهم على غير دين الله، إذا كان ما معهم من شرع لا يلتقى من شريعة الإسلام، فى الإيمان بالله، وما شرع الله. وقوله تعالى: «وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ» هو عطف على قوله سبحانه «يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ» أي ويحكم بها- أي بالتوراة- الربانيون والأحبار، مشهدين بما تلقوا على يد الرسل والأنبياء من شريعة التوراة، وكانوا هم أنفسهم شهودا على ما تلقوا.. وفى هذا تحريض لأحبار اليهود وعلمائهم الذين عاصروا النبوة والذين جاءوا بعدهم أن يكونوا على ما كان عليه أنبياؤهم، وحواريّو هؤلاء الأنبياء، من الحكم بما أنزل الله، دون تحريف، أو تبديل.. وإلا فهم ليسوا ربانيين ولا أحبارا. وقوله سبحانه: «فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا» توكيد للدعوة التي دعى إليها هؤلاء الربانيون والأحبار، وهو أن يرقبوا الله ويتقوه فيما فى أيديهم من كتاب الله، وألا تغلبهم شهوة المال على الوفاء بعهد الله، وأداء الأمانة التي اؤتمنوا عليها.. والميثاق هو الذي واثقهم الله عليه فى قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ» (187: آل عمران) . وقوله تعالى: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ» تهديد ووعيد لهؤلاء الرّبّانيين والأحبار، وحكم عليهم بالكفر الصريح، إذا هم لم يحكموا بما أنزل الله، ولم يلقوا الناس بما فى أيديهم من كتاب الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1104 والربيون: جمع ربّىّ، وهو العالم الزاهد، المنقطع للعلم والعبادة. والأحبار: جمع حبر، وهو العالم الفقيه، المتمكن من تعاليم الشريعة. الآية: (45) [سورة المائدة (5) : آية 45] وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) التفسير: قوله تعالى: «وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها» أي فرضنا عليهم فى التوراة أحكام القصاص، على هذا الوجه الذي بيّنه الله فى قوله تعالى: «أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ» . فكل عدوان على الإنسان، فى أية جارحة من جوارحه، أو عضو من أعضائه، جزاؤه عدوان مثله على المعتدى.. إن قتل قتل، وإن فقأ عينا فقئت عينه، وإن جدع أنفا جدع أنفه، وإن صلم أذنا صلمت أذنه، وإن كسر سنّا كسرت سنّه! وقوله تعالى: «وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ» هو عطف على قوله تعالى: «أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ» والجروح هى ما دون تلف هذه الأعضاء التي بينتها الآية الكريمة، مثل قطع إصبع، أو كفّ، أو قدم، ونحو هذا. وقوله تعالى: «فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ» هو خطاب للمعتدى عليه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1105 أو وليّه فى القصاص، وهو أن يتصدق بالعفو على من اعتدى عليه، فهذا التصدق كفارة له، وحطّ من سيئاته بقدر ما تصدق به، والضمير فى «به» يعود إلى القصاص.. أي: ومن تصدق بالقصاص فلم يقتص من خصمه فهو كفارة له. وقوله تعالى «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» هو تحذير ووعيد لمن غيّر أو بدّل فى أحكام الله، فإن هذا عدوان على الله، وظلم للنفس، إذا أوقعها تحت غضب الله ونقمته، بالعدوان على ما شرع من أحكام. وقد وصف الذين يحكمون بما أنزل بوصفين، وصفوا أولا بأنهم «هم الكافرون» ، ووصفوا ثانيا بأنهم «هم الظالمون» .. فهم كافرون ظالمون.. قد جاوز كفرهم كل حدود الكفر، فكان كفرا وظلما معا. الآيتان: (46- 47) [سورة المائدة (5) : الآيات 46 الى 47] وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47) التفسير: التقفيه: المجيء من الخلف، أو القفا، ومعناه هنا: مجىء عيسى، بعد هؤلاء الأنبياء الذين أشار إليهم الله سبحانه وتعالى بقوله: «يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا» . فقوله تعالى: «وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ» أي بعثنا بعد هؤلاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1106 الأنبياء عيسى بن مريم، فجاء على آثارهم، متبعا خطوهم فى طريقهم الذي سلكوه، من دعوة الناس إلى الحق والهدى.. وقوله تعالى: «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ» أي مؤيّدا لها، بإيمانه بها، وأخذه بشريعتها. وقوله سبحانه: «وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ» هو عطف على قوله تعالى «وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ» وقوله تعالى «فِيهِ هُدىً وَنُورٌ» هو حال من الإنجيل، تكشف عن مضمون هذا الكتاب الكريم، وهو أنه يحمل الهدى والنور فى آياته وكلماته.. وقوله تعالى: «وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ» هو حال أيضا من الإنجيل، يبين أن الإنجيل مصدّق لما فى التوراة، لأنه حقّ مثلها، منّزل من عند الله، كما أنها منزلة من عند الله، فالمسيح عليه السلام، مصدق للتوراة بإيمانه بها قبل أن يكون معه كتاب من عند الله، ثم لما تلقى كتابه من الله سبحانه وتعالى، جاء هذا الكتاب وهو «الإنجيل» مصدقا للتوراة، مؤيدا لما جاء فيها. قوله تعالى: «وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ» بيان لهذا الهدى والنور الذي يحمله الإنجيل، وأنه لا يفيد منه، ولا يهتدى به، إلا المتقون الذين تلقّوه بقلوب مطمئنة، ونفوس سليمة، لا تحرّف كلماته، ولا تبدّل آياته.. إنه أشبه بالدواء المرصود لداء ما.. إذا تغيرت معالمه بعناصر غريبة دخلت عليه، فسدت طبيعته، ولم يفد منه صاحب الداء، بل ربما أصابه منه ضرر، فكان داء إلى الداء! وقوله تعالى: «وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» هو دعوة إلى أتباع الإنجيل أن يأخذوا أنفسهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1107 بأحكامه وآدابه كما جاء بها، ثم هو وعيد لهم إذا هم انحرفوا عن الأخذ بما أنزل الله فيه، فتأوّلوه على غير وجهه، أو حرّفوا الكلم عن مواضعه.. إنهم حينئذ يحكمون بغير ما أنزل الله.. «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» أي الخارجون على دين الله، وما تلقى المسيح من ربه.. فلينظروا أي دين هم عليه بعد هذا الدين؟ .. وقد وصف الذين يحكمون بغير ما أنزل الله بثلاثة أوصاف.. الظالمون.. الكافرون.. الفاسقون.. فجمعوا الشر من جميع أطرافه. الآية: (48) [سورة المائدة (5) : آية 48] وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) التفسير: بعد أن بيّن الله سبحانه وتعالى، التوراة وما أنزل فيها من شريعة، والإنجيل وما حمل من آيات الله، وبعد أن دعا أصحاب التوراة والإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيهما، وأن يقيموهما على ما نزلا به من الحق والهدى- بعد ذلك ذكر الله- سبحانه- القرآن الكريم، والنبىّ الذي تلقاه من ربه. فقال تعالى: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ» .. وفى هذا أمور: 1- توجيه الخطاب للنبىّ من الله سبحانه وتعالى، وفى هذا تكريم للنبى الكريم، وتشريف لمقامه العظيم، وقربه من ربه جلّ وعلا.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1108 2- العدول عن ذكر القرآن وتسميته بالكتاب، إشارة إلى أنه الأصل الذي ترجع إليه الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء من قبل، والتي هى جميعها كتاب واحد. 3- فى وصف الكتاب بالحق- مع أن نزوله من عند الله، يخلع عليه هذه الصفة من غير وصف- هو توكيد لما يحمل من الحق، وصيانة لهذا الحق من أن يقع تحت تحريف أو تبديل، إذ كان منزلا بيد الله.. «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ» .. إنه غرس من غرس الله، ولن يتعرض هذا الغرس الإلهى لأية آفة من الآفات التي تعرّض لها غيره.. وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» . وفى قوله تعالى: «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ» أمور أيضا: 1- أن هذا الكتاب مصدق لما بين يديه من الكتاب.. والكتاب الأول هو القرآن، والكتاب الثاني هو جميع الكتب السابقة، أي هو مستول عليها، ومشتمل على أصولها، التي تنضبط عليه، وترجع عند تأويلها إليه.. وقوله تعالى: «فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» هو خطاب للنبى أن يحكم بين المحتكمين إليه من اليهود والنصارى، بما أنزل الله، وأن يكون القرآن الذي بين يديه هو عمدة الأحكام، يرجع إليه، وتضبط أحكام الكتب السابقة على أحكامه، فما وافقه منها أخذ به، وما خالفه اعتبر محرفا ومبدلا، ليس من كتاب الله، ولا من شريعة الله. وقوله سبحانه: «وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ» هو تنبيه للنبىّ ألّا يمدّ بصره إلى تحريفات أهل الكتاب، وإلى الشرائع التي أحدثوها.. وحسبه ما بين يديه من الحق الذي يجده فى القرآن الكريم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1109 وقوله سبحانه: «لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً» هو بيان للحكمة فى تعدد الشرائع السماوية، وتعدد الكتب التي جاءت بها، والرسل الذين حملوها.. إذ كان لكل أمة زمانها ومكانها، وللزمان والمكان، أثره فى الأمم، وفى اختلاف مناهجها فى الحياة، وأساليبها فى العمل.. فكان أن حمل رسل الله إلى كل أمة قبسا من شريعة الله، مقدورا بقدرها، محسوبا بحسابها، وما يلائم طبيعتها، وظروف زمانها ومكانها.. وهى جميعها (أي الشرائع) تستقى من شريعة واحدة، وتورد أتباعها على مورد من مواردها.. وفى قوله تعالى: «شِرْعَةً» ما يشير إلى أنها مقطع من مقاطع الشريعة العامة، التي جاء بها القرآن الكريم، وأن تلك الشرعة ما هى إلا مورد ترده الأمة على نهر الشريعة العامة، فتستقى منه، وتحمل بقدر ما تحتمل.. وفى قوله تعالى: «وَمِنْهاجاً» إشارة أخرى إلى اختلاف الأمم والشعوب، وأنها لا يمكن أن ترد موردا واحدا، على الشريعة العامة، وأن تحشر حشرا على مورد واحد منها.. لاختلاف الطبيعة، واللغة، وغيرها مما يجعل لكل أمة وجهها الذي تظهر به فى. الحياة، فاقتضت حكمة الحكيم العليم أن يقيم كل أمة على مورد من شريعته. وقوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً» أي لو أراد الله سبحانه أن يجعل الناس أمة واحدة، تلتقى على مشاعر واحدة، ولغة واحدة، لفعل، فما لمشيئته من معقّب، أو معترض، ولكنه سبحانه حكيم عليم، اقتضت حكمته، وشاءت إرادته أن يجعل الناس أمما وشعوبا، كما جعلهم أفرادا، وكما جعلهم ذكرا وأنثى.. وقوله سبحانه: «وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ» أي ولكنه سبحانه وتعالى لم يجعلكم أمة واحدة، كما لم يجعلكم كائنا واحدا، ليكون لكل أمة حسابها، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1110 كما يكون لكل فرد حسابه، وفى مجال العمل والخير والحق تتسابق الأمم، كما يتسابق الأفراد. وقوله تعالى: «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ» والاستباق: هو السبق والإدراك.. أي أدركوا الخيرات التي دعيتم إليها فى كتب الله التي بين أيديكم وبادروا إلى تحصيلها، قبل أن تفلت منكم، فلا يبقى فى أيديكم إلا الحسرة، وإلا الندم، وسوء العاقبة. وقوله سبحانه: «إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» تحذير لهؤلاء المختلفين فى كتب الله، المحرفين لها، وأنهم سيرجعون إلى الله يوما، وسيحاسبون على ما كان منهم من عبث بالشرائع التي فى أيديهم، وحملها على ما تشتهى أنفسهم.. فما جرى منها مع أهوائهم قبلوه، وما لم يجر منها على ما يشتهون حرفوه وبدّلوه.. ولهذه الأفعال المنكرة، جزاؤها المرصود لأصحابها. الآية: (49) [سورة المائدة (5) : آية 49] وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49) التفسير: قوله تعالى: «وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» دعوة أخرى للنبى الكريم أن يلتزم فى حكمه بين أهل الكتاب ما أنزل الله إليه، وألا يلتفت إلى ما تمليه أهواؤهم، وما يسوقون إلى النبي من كيد ومكر، ليفتنوه، ويفتنوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1111 المؤمنين معه.. «وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ» وذلك بالأخذ ببعض الأحكام التي يقولون- كذبا- أن شريعة التوراة جاءت بها، وهى جلد المحصن الزاني، وليس الرجم كما جاءت به التوراة. وقوله سبحانه: «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ» أي فإن حكمت بين هؤلاء اليهود بما أنزل الله إليك، وأبوا أن ينزلوا على هذا الحكم وأن يأخذوا به، فإن عقاب الله راصد لهم، يأخذهم ببعض ما اكتسبوا.. ولو أخذهم بكل ما اكتسبوا لخسف بهم الأرض، أو لأطبق عليهم السماء، ولكنه سبحانه رحيم إذ يؤدّبهم بهذا العقاب، الذي هو قليل من كثير، مما كانوا أهلا لأن ينزل بهم. وقوله سبحانه: «وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ» .. الناس هنا هم اليهود، وعدم ذكرهم هو إبعاد لهم من هذا الشرف بأن يكونوا محمل كلمة من كلمات الله، حتى فى مقام الهوان والعذاب، فما أشقى هؤلاء الأشقياء، وما أبخس صفقتهم بين عباد الله، وما أرذل منزلتهم بين الناس. الآية: (50) [سورة المائدة (5) : آية 50] أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) التفسير: فى هذا الاستفهام إنكار على أهل الكتاب هذا الموقف الذي يقفونه من شرع الله، وأنهم لا يأخذون منه إلا ما يستجيب لأهوائهم، فهم- والحال كذلك- يريدون أن يتحللوا من كل شرع، ويفلتوا من كل قانون، شأن الحياة الجاهلية التي تحكمها الأهواء، وتسيّرها النزعات الذاتية السائدة فيها، حيث لا مرجع إلى شرع أو قانون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1112 وقوله تعالى: «وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» هو تسفيه لأهل الكتاب، وفضح لجهلهم وضلالهم، إذ يعدلون عن شرع الله، ويخرجون عن حكمه، إلى شريعة الجاهلية، وأحكام السفاهة والضلال.. وذلك من حماقة عقولهم، وسفه أحلامهم، إذ أنه لا يعرف فرق ما بين أحكام الله، وأحكام غير الله، إلا من أخلى قلبه من نزعات الهوى، وصفّى مشاعره من وساوس النفاق، ونظر إلى الله بقلب سليم، فعرفه حق معرفته، وقدره حقّ قدره، ورأى أن هدى الله هو الهدى، وأن من اتبع غير سبيله ضل وهلك، ومن سلك سبيله رشد وسعد. الآيتان: (51- 53) [سورة المائدة (5) : الآيات 51 الى 53] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53) التفسير: الأولياء: جمع ولىّ، والولي هو النصير، والظهير، والمعين.. وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ» هو للنهى عن موالاة اليهود والنصارى، وليس دعوة إلى عداوة أو قطيعة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1113 وإنما هو نهى عن مناصرتهم ومعاضدتهم، والوقوف إلى جانبهم، وهم على موقفهم من الإسلام ومحاربتهم له، فذلك خيانة للمسلمين، وعدوان على الإسلام.. إذ كيف يكونون هم حربا على الإسلام، ثم يكون فى المسلمين من هو على ولاء لهم، ومودة معهم؟ وقوله تعالى: «بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» أي أن اليهود أولياء لليهود، والنصارى أولياء للنصارى.. وهذا أوّل ما فيه أن يجعل المسلمين أولياء للمسلمين، فلا يكون ولاء المسلم، ومناصرته ومناصحته، لغير المسلمين، فإذا لم يكن هذا الولاء، وتلك المناصحة من المسلم للمسلمين فلا أقّلّ من أن يقف عند هذا الحدّ السلبي- وهو موقف آثم- فلا يتحول إلى جبهة معادية للإسلام وأهله، فيكون لها مساندا مناصحا.. إن ذلك- كما قلنا- نفاق ظاهر، وكفر خفى! وقوله تعالى: «وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» هو بيان للوصف الذي يكون عليه من يجعل ولاءه لغير المسلمين من أهل الكتاب المحادّين لله ورسوله، المحاربين للإسلام والمسلمين، وهو أنه من هؤلاء الظالمين، المعتدين على حق دينه، وحق أتباع دينه، بخذلانهما، ومناصرة أعدائهما.. والظلم هنا شبيه بالظلم فى قوله تعالى: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» .. لأن المسلم الذي يوالى أهل الكتاب، ويترك موالاة المؤمنين قد حكم بغير ما أنزل الله واتبع ما يرضى هواه، ويحقق نفعا ذاتيا له، على حساب دينه. قوله سبحانه: «فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ» .. «الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» هم المنافقون، الذين ستروا نفاقهم بالدخول فى الإسلام، والانضواء تحت لواء المسلمين، ليتخذوا من الإسلام تجارة يتجرون بها فى سوق السحت والاختلاس.. وهذا لا يكون إلا من قلب مريض، يستقبل كل ضلال، دون أن يغصّ به، أو يزورّ عنه.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1114 والمسارعة فيهم أي فى أهل الكتاب: الانغماس فيهم، ولهذا جاء اللفظ القرآنى بتعدية الفعل سارع بحرف الجرّ «فى» ، بدلا من تعديته بحرف الجر «إلى» الذي يتعدى به هذا الفعل غالبا.. كقوله تعالى: «وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ» (133) آل عمران. وفى تعدية الفعل بحرف الجر «فى» ما يكشف عن أن هؤلاء المنافقين ينغمسون فى أهل الكتاب، ويدخلون فيهم دخولا كاملا، حيث يحتويهم ظرف واحد، إذ هم كيان واحد يألف بعضه بعضا. وفى قوله تعالى: «فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ» تشهير بهؤلاء المنافقين، وفضح لهم، وأنهم وإن لبسوا كل أثواب التخفّى، لا يلبث أمرهم أن ينفضح وينكشف، وأنهم بمرأى من النبي والمؤمنين، ولهذا جاء الفعل «ترى» وكأنه يشير إليهم، ويحدّد موقفهم الذي هم فيه فى الجبهة الأخرى، جبهة أهل الكتاب.. وهكذا المنافق دائما، إن لم يلتفت إليه أحد، دلّ هو الناس عليه، بكثرة التفاته إليهم وحذره منهم، وصدق المثل الذي يقول: «يكاد المريب يقول خذونى!» وقوله تعالى: «يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ» هو ترجمة لهذه التصوّرات المريضة، التي يعيش فيها المنافقون.. فهم أبدا على خوف وقلق، لا يسكنون إلى أمر، ولا يقيمون على رأى، بل تراهم وأعينهم تدور هنا وهناك، يريدون أن يجمعوا بين الشيء ونقيضه، حتى إذا فاتهم هذا لم يفتهم ذاك.. فهم مع المؤمنين، يخشون أن تكون الكرّة لأهل الكتاب.. وهم مع أهل الكتاب يخشون أن تكون الدولة للمؤمنين.. ولهذا فهم يلبسون الإيمان ظاهرا، ثم يوادّون أهل الكتاب باطنا.. وبهذا- كما تصور لهم نفوسهم المريضة- يحمون أنفسهم من أىّ أذى يصيبهم من أية جبهة غلبت، إذ سرعان ما يتحولون إلى الجبهة الأخرى التي كانوا قد احتفظوا بمكان لهم فيها.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1115 فهؤلاء الذين يوادّون غير المؤمنين، ويلقون بأنفسهم فى أهل الكتاب، ويوثقّون صلاتهم بهم، إنما يفعلون هذا ليكون لهم منه شفيع عند أهل الكتاب، إذا كان لهم الغلب يوما على المؤمنين، فلا يصيبهم من الدائرة- وهى الهزيمة وما يلحق أصحابها من أذى- ما يصيب المؤمنين، إذا هم أصابتهم الدائرة التي يتوقعها المنافقون لهم. وقوله تعالى: «فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ» هو وعيد للمنافقين بما يملأ قلوبهم حسرة وندما، إذ جاء تدبيرهم وبالا عليهم وخسرانا لهم، حين قدّروا أن الدائرة ستدور على المؤمنين، فأخلوا مكانهم من بينهم، واتخذوا أهل الكتاب أولياءهم- ثم هو وعد كريم من الله، يجىء بتلك البشريات المسعدة للمؤمنين، وبأنهم هم المنتصرون، وأن الخزي والخذلان لأعدائهم، ولمن انضوى إليهم من منافقين.. «فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ» الذي يمكّن للمؤمنين من أعدائهم، وقد جاء نصر الله والفتح، ودخل الناس فى دين الله أفواجا فدالت دولة الشرك، وذهبت ريح النفاق والمنافقين. وقوله تعالى: «أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ» أي تدبير من عند الله، يجىء على غير انتظار، وعلى غير عمل من المؤمنين، كأن يوقع الشقاق والخلاف بين أحلاف السوء ومجتمع الضلال، فيفضح بعضهم بعضا، ويخذل بعضهم بعضا، فإذا أولياء الأمس أعداء اليوم، يبرأ بعضهم من بعض. وحمل هذا الوعد الكريم من الله للمؤمنين على يدى فعل الرجاء «عسى» إنما ليقيم المسلمين على رجاء وأمل فى رحمة الله بهم، وفضله عليهم، فتظل قلوبهم شاخصة إلى الله، ذاكرة له، ترقب غيوث رحمته، وفواضل نعمه.. ولو جاء هذا الوعد الكريم قاطعا منجزا لما بعث فى القلوب المؤمنة تلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1116 المشاعر المتجددة، ولما أمسك بها هذا الزمن الطويل، متشوّفة بأبصارها وقلوبها إلى غيوث رحمة الله، ومواطر أفضاله ونعمه. وقوله تعالى: «فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ» هو عرض لتلك النهاية التي ينتهى إليها أمر هؤلاء المنافقين، وما يؤول إليه عاقبة مكرهم وتدبيرهم.. إنه الندم والحسرة والخسران. قوله تعالى: «وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ» .. هو عرض لهؤلاء المنافقين فى معرض آخر من معارض الخزي والفضيحة، فبعد أن دعا الله سبحانه وتعالى كل ذى نظر أن ينظر إلى هؤلاء المنافقين، ويشهد كيف يتهالكون على أهل الكتاب، ويرتمون فى أحضانهم، خوفا من أوهام متسلطة عليهم- بعد أن عرضهم الله سبحانه فى هذا المعرض الفاضح، وتوعدهم بالخزي والخسران، بنصر الله المؤمنين، وبخذلان الكافرين والمنافقين- جاءت هذه الآية الكريمة، تدعو المؤمنين إلى أن يديروا النظر مرة أخرى إلى هؤلاء المنافقين، وأن يقلّبوا صفحات تاريخهم فى الإسلام، ويتتبعوا مسيرتهم معه.. ثم ليصدروا حكمهم عليهم.. وهنا يكثر حديث المؤمنين عن هؤلاء المنافقين، ويلقى بعضهم بعضا بما اطلعوا عليه من نفاقهم، فتكثر فيهم القالة، ويكثر العجب والدهش من أمرهم، وإذا الفضيحة تجلجل بصوتها فى كل أفق، وتتحرك بأشباحها فى كل مكان. وليس ما حكاه القرآن من مقولة المسلمين فيهم: «أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ» ليس هذا هو كل ما قيل فيهم.. وإنما هو مضمون ما قيل، وصميم ما ينبغى أن يقال فى هؤلاء المنافقين.. إذ أنهم كانوا يحلفون بالله للمؤمنين جهد أيمانهم- أي بأغلظ أيمانهم وآكدها- إنهم لمع المؤمنين، ولن يتخلّوا عنهم فى حرب أو سلم.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1117 وهذا الحلف نفسه، والمبالغة فيه هو الذي يكشف المستور من أمرهم، ويعطى الدليل على أنّهم على غير الإسلام.. إذ أنهم لو كانوا مسلمين حقّا لما حلفوا وأكّدوا الحلف أنهم مؤمنون، ومع المؤمنين.. فما دعاهم أحد أن يحلفوا، ولكنّ كائن النفاق الذي يعيش فى كيانهم هو الذي حملهم على أن يستروا كذبهم ونفاقهم بهذه الأيمان المؤكدة، حتى لا يفتضح ما فى قلوبهم.. وهكذا المجرم، يحوم حول جريمته، يريد أن يخفى معالمها حتى ولو لم تكن هناك معالم لها.. لأنه لخوفه يتصور أن كل ما كان فى مكان الجريمة من كائنات، شاهد عليه، ينادى فى الناس بالإمساك به قبل أن يفلت. وقوله تعالى: «حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ» أي فسد تدبيرهم، وخاب ظنّهم، وبطل سعيهم، فكان ذلك خسران لهم أي خسران.. خسروا المؤمنين الذين أصبحوا فيهم وقد افتضح أمرهم لهم، وخسروا أولياءهم من أهل الكتاب بعد أن أصابتهم الهزيمة، وعلت راية الإسلام، وعزّت كلمته.. الآيات: (54- 56) [سورة المائدة (5) : الآيات 54 الى 56] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56) التفسير: بعد هذه المراقبة التي اطلع منها المسلمون على هؤلاء المنافقين الذين ارتدّوا على أدبارهم، وألقوا بأنفسهم فى مجتمع اليهود وغيرهم، ممن يكيدون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1118 للإسلام، ويبيّتون الشرّ للمسلمين، وبعد أن عاين المسلمون ما وقع أو ما سيقع للمنافقين من سوء حال وشر منقلب، وخسران للدنيا والآخرة- بعد هذا كان على المسلمين أن يراقبوا أنفسهم، وأن يأخذوا حذرهم من أن يردوا هذا المورد الآسن الآثم.. فجاء قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ» منبها لهم ومحذّرا، أن من يرتدّ منهم عن دينه كما ارتدّ هؤلاء المنافقون الذين عرفوا أمرهم ومصيرهم، فستكون عاقبة المرتد منهم هى نفس عاقبة أولئك المنافقين: النّدم والحسرة والخزي والخسران المبين.. والارتداد، معناه الرجوع إلى وراء، والعودة من المكان الذي كان قد تحرك منه المرتدّ إلى الأمام.. وهذا يعنى أنه يهدم ما بنى، وينقض ما غزل ولا يفعل ذلك إلا سفيه أحمق! وفى إضافة الدّين إلى المؤمن، وبلفظ المفرد. هكذا: «عَنْ دِينِهِ» ما يلفت المؤمن إلى هذا الدين الذي دخل فيه، وأصبح من أهله، وأنه دينه هو، وثمرته عائدة عليه وحده، وأنه الدّين الذي ينبغى أن يعيش فيه، ويشتدّ حرصه عليه. إذ هو الدين الذي يدين به كل عاقل.. إنه دينه، إن كان من أهل العقل والرشاد. وقوله تعالى: «فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ» هو معطوف على جواب الشرط، وليس جوابا للشرط، وإن كانت الفاء الواقعة فى جواب الشرط تشير إلى هذا الجواب.. ويكون معنى الآية هكذا: يا أيها الذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسيلقى مالقى هؤلاء المنافقون الذين ارتدوا، من نكال وبلاء وسوء مصير، ثم إنّه لن يضرّ الله شيئا، ولن يضير المسلمين فى شىء، لأنه سيخلى مكانه، الذي كان له الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1119 فى الإسلام، ليأخذه من هو أولى به منه، وأكرم عند الله، وأكثر نفعا للمسلمين، وأعظم غناء فى الإسلام.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ... » الآية. وهؤلاء القوم الذين سيأتى الله بهم، ويدخلهم فى دينه، قد وصفوا بأوصاف أربعة: أولا: يحبهم الله ويحبونه.. وحبّ الله لهم: دعوتهم إلى الإسلام، وشرح صدورهم له، وثثبيت أقدامهم فيه.. لأنه سبحانه وتعالى هو الذي أحبّهم، وهو الذي اختارهم ودعاهم.. وهذا فضل عظيم، ودرجة من الرضا، لا ينالها إلا من أكرمه الله، واستضافه، وخلع عليه حلل السعادة والرضوان.. جعلنا الله من أهل محبته، وضيافته. أما حبّهم هم لله، فهو فى استجابة دعوته، وامتثال أمره، والولاء له، ولرسوله وللمؤمنين.. ثانيا: «أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ» . إجماع المفسّرين على أن هذا الوصف، هو وصف لهؤلاء القوم بعد أن دخلوا فى الإسلام، فكانت تلك صفتهم، وهذا سلوكهم فيه.. «أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» أي متخاضعين للمؤمنين، لا يلقونهم إلا باللّين والتواضع.. «أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ» أي أشدّاء وأقوياء، لا يلقى منهم أهل الكفر إلا بلاء فى القتال، واستبسالا فى الحرب.. أما فى السّلم فهم جبال راسخة فى الإيمان.. لا ينال أحد منهم نيلا فى دينه، ولا يطمع أحد من أعداء الإسلام فى موالاتهم أو فى تعاطفهم معه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1120 هذا هو إجماع المفسّرين فى فهم هذا المقطع من الآية، ويشهدون لذلك بقوله تعالى: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ» (29: الفتح) ومع هذا، فإنى أستريح لفهم آخر، غير هذا الفهم.. أرى أنه يفتح لهذا المقطع آفاقا أرحب من هذا الأفق الذي حصره المفسرون فيه، وأطلعوه منه. فأقول- والله أعلم- إن هذا الوصف هو وصف لهؤلاء القوم الذين سوف يدعوهم الله سبحانه وتعالى إليه، وييسّر لهم الطريق إلى دينه. وفى قوله تعالى «أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ» - نرى: 1- أن هؤلاء القوم المدعوّين إلى ضيافة الله هم من الذين كانوا يستخفّ بهم مؤمنون، ويحقرونهم، لأنهم كانوا على عداوة ظاهرة للإسلام، وعلى كيد عظيم للمسلمين.. فهم- والحال كذلك- ميئوس من دخولهم فى الإسلام، لا يطمع المسلمون فى أن يكونوا معهم فى يوم ما، وعلى هذا، فهم لا حساب لهم فى الإسلام عند المسلمين، ثم هم فى الوقت نفسه «أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ» إذ كانوا سندا قويا لهم فى مواجهة الإسلام والمسلمين. وحسبنا أن نذكر هنا خالد بن الوليد، وعكرمة بن أبى سفيان، وقد كانا هما للّذين كسبا معركة أحد لقريش، بعد أن كادت الدائرة تدور عليهم. ثم دخلا بعد ذلك فى الإسلام فكانا درعين حصينين للإسلام، وقوة من القوى التي استند عليها فى هزيمة الكفر، وإعلاء كلمة الله.. كانا أذلة على المؤمنين أعزّة على الكافرين.. هكذا كانا قبل أن يدخلا فى الإسلام. 2- أن فى هذا العرض لهؤلاء القوم الذين لم يكن أحد ينتظر منهم خيرا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1121 للإسلام، ثم إذا هم خير كثير له بعد أن دخلوا فيه- فى هذا ما يغرى أولئك المسلمين الذين تتلجلج فى صدورهم دواعى النفاق، أن يستمسكوا بمكانهم فى الإسلام، وأن يرسّخوا أقدامهم فيه، حتى لا يأخذ مكانهم أولئك القوم، الذين ينظرون إليهم نظر اتهام وازدراء، إذا كانوا حربا على الإسلام والمسلمين.. 3- حين ينظر المنافقون إلى هذا المقطع من الآية الكريمة- على هذا الفهم- ويرون أن رؤوس الكافرين، وأهل العزّة فيهم سيكونون يوما فى جانب المسلمين- حين يرون هذا يفكرون أكثر من مرة قبل أن يلوذوا بحمى هؤلاء الأعزة الأقوياء، ويرون أن من الخير لهم أن ينتظروهم على الطريق وهم متجهون إلى دين الله! 4- فى هذا الفهم تبدو هناك طريق مفتوحة دائما لمن يكيدون للإسلام- وهم غالبا أصحاب دولة وصولة فى مجتمع الكفر والضلال- ينفذون منها إلى الإسلام، ويعطون من قوتهم له، ما أعطوه من قبل فى حربه، وعداوته.. وفى عمر بن الخطاب شاهد مبين لهذا. وهكذا، يصبح من كان عدوا لله ولرسوله وللمؤمنين، وليّا لله، متابعا لرسول الله، مجاهدا فى سبيل الله، على حين يتحول من كان- فى ظاهره- مواليا لله، ولرسوله، ولدينه، عدوا الله، ولرسوله، وحربا على دينه.. فهناك طريقان: طريق.. يستقبل منه الإسلام، أقواما كانوا أعداء له وحربا عليه.. وطريق.. يتسلل منه جماعات من المسلمين، إلى حيث الكفر والضلال.. ثالثا: «يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . هذه صفة ثالثة من صفات أولئك الداخلين فى الإسلام، المدعوين إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1122 ضيافة الله فيه، بعد أن طرد من ضيافته أولئك المنافقين ومن فى قلوبهم مرض. فهؤلاء المسلمون الجدد: «يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ويدفعون عن الإسلام والمسلمين يد البغي والعدوان، ويعطون ولاءهم كله لدينهم الذي دعاهم الله إليه، وارتضاهم له.. لا يضنّون عليه بأموالهم ولا بأرواحهم. رابعا: «لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ» . ومن صفاتهم أنهم فى إيمانهم، وفى جهادهم فى سبيل الله، لا ينظرون إلى غير الله، ولا يلتفتون إلّا إلى نصرة دين الله، لا يثنيهم عن ذلك لوم لائم، من قريب أو صديق، ممن بقي على الكفر من أقاربهم وأصدقائهم.. إنهم باعوا كل شىء، وتخلّو عن كل شىء، إلا إيمانهم بالله، ونصرتهم لدين الله. وفى قوله تعالى: «ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» إشارة إلى أن هذا الذي يجرى فى حياة الناس، من تحول وتبدل، فيتحول أهل الكفر والضلال إلى الهدى والإيمان، هو من فضل الله، الذي استنقذ به أولئك الضالين الذين كانوا على شفا حفرة من النار.. وهذا الفضل هو بيد الله، لا يملك أحد منه شيئا «يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ» ويصرفه عمن يشاء.. «وَاللَّهُ واسِعٌ» لا يضيق فضله بأحد، ولا تنفذ خزائنه بالإنفاق.. «عليم» بمن هم أهل لهذا الفضل، فخصّهم به، واجتباهم له.. «يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» . قوله تعالى: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ» .. هو دعوة للمؤمنين جميعا، من دخل فى الإسلام، ومن لم يدخل بعد، أن تكون ولايتهم ونصحهم لله ولرسوله وللمؤمنين.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1123 وفى قوله تعالى: «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ» هو صفة للمؤمنين الذين يطمئن إليهم المؤمن، ويعطيهم ولاءه ونصحه، ومحبته. وفى هذا تحذير للمؤمنين أن ينخدعوا لمن آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه.. ومن آثار الإيمان بالقلب أن يقيم المؤمن الصلاة، وأن يؤتى الزكاة.. يقيم الصلاة خاشعا، ويؤدى الزكاة راضيا، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَهُمْ راكِعُونَ» أي خاشعون، فى غير رياء، أو استعلاء.. لأنهم فى صلاتهم وزكاتهم على عبادة لله، وفى حضور بين يديه، فينبغى أن يعطوا هذا المقام حقّه من الخشوع لله، والخضوع بين يديه، حتى يكونوا فى معرض القبول من الله، لصلاتهم وزكاتهم. قوله تعالى: «وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ» بيان لما تثمره الموالاة لله ورسوله والمؤمنين، فإن من يوالى الله يكون من حزب الله، ومن كان فى حزب الله فهو من الفائزين، لأنه فى ضمان الله، وفى جنده الذين لا يغلب أبدا.. «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» (21: المجادلة) . هذا، وقد ذهب كثير من المفسّرين إلى أن قوله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ» مراد به «علىّ بن أبى طالب» كرّم الله وجهه.. ويروون لهذا أحاديث، تفيد أن هذه الآية نزلت فى «علىّ» رضى الله عنه، وأنّه تصدق على فقير سأله وهو راكع فى الصلاة، فنزع خاتما كان فى يده، وألقاه إليه، وهو فى صلاته..! وفى هذا الخبر أمور.. منها: أولا: أن الخطاب عام، بلفظ الجمع: «الَّذِينَ آمَنُوا..» والوقوف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1124 بالآية عند صريح لفظها خير من التأويل والتخريج، إذ لا يعدل عن صريح اللفظ، إلا إذا كان ما يخفيه وراءه أولى مما يبديه ظاهره. والعكس هنا صحيح، إذ ظاهر الآية وصريح لفظها أولى من حمله على غير هذا المحمل، كما سترى. وثانيا: هذا السائل الذي يسأل مؤمنا قائما بين يدى الله يؤدى الصلاة.. ألا ينتظر حتى يفرغ المصلّى من صلاته؟ أهو غريق مشرف على الهلاك، حتى يستنجد بمن هو قائم بين يدى الله، عابدا خاشعا؟ ثالثا: الإمام «على» كرم الله وجهه، وهو فى استغراقه فى صلاته بين يدى ربه.. أيقطع هذا الموقف، وجلاله، وروعته، ليتصدق على فقير؟ وماذا لو انتظر حتى يفرغ من الصلاة؟ أيموت هذا الفقير جوعا؟ إن ذلك كان يمكن أن يقع لو أن نارا علقت بهذا الإنسان الفقير، وكادت تلتهمه، ولا منقذ له إلا على بن أبى طالب! وعلى هذا فالآية الكريمة خطاب عام للمؤمنين جميعا.. وإنما صرفها إلى هذا الوجه من التأويل، ما جاء فيها من «الولاية» التي يستخرج منها بعض الشيعة دليلا على أحقّية علىّ بالخلافة، وأن هذه الآية تؤيد حديثا يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخذ بيد علىّ كرم الله وجهه، ثم قال: «من كنت مولاه فعلىّ مولاه.. اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه.» ! والموالاة هنا معناها الحبّ، والمودة، لا الخلافة، فمن أحبّ النبىّ صلى الله عليه وسلم وجب عليه- دينا- أن يحبّ آل بيته، ومنهم علىّ كرم الله وجهه، بل ووجب عليه دينا أن يحبّ كل مؤمن.. «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1125 الآيتان: (57- 58) [سورة المائدة (5) : الآيات 57 الى 58] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58) التفسير: دعوة أخرى من الله- سبحانه- إلى المؤمنين أن يجتنبوا هؤلاء المنافقين والكافرين، الذين يهزءون بهم وبدينهم، ويتخذون من أحاديثهم فى المجالس معرضا للسخرية بالمسلمين والزراية بدينهم.. وهذا أقل ما فيه هو أن يغار المسلم على دينه، وأنه إن لم يستطع قطع هذه الألسنة التي تهزأ بدينه وتسخر منه، فإن أضعف الإيمان فى هذا الموقف هو أن يتجنب هؤلاء الساخرين المستهزئين، وأن ينظر إليهم نظرة العدوّ المتربص به، فلا يأمن له، ولا يركن إليه. قوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» إشارة إلى أن الغيرة على الدين، والانتصار له ممن ينتهك حرمته، هو من تقوى الله، وأن موالاة أعداء الإسلام، والكائدين له، والمستهزئين به، هو مما يبعد عن التقوى، ويحجز المؤمن عن أن يكون من المتقين.. فإذا كان المؤمن مؤمنا حقّا، فليتق الله.. وأول مداخل التقوى إلى الله، هو توقير الله، وتوقير دينه، والغيرة على حرماته، والدفاع عنها، واعتبار كل عدوان عليها منكرا، يدفعه بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان.. كما يقول ذلك النبىّ الكريم فى حديثه الشريف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1126 وقوله تعالى: «وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً» هو استحضار لصورة من صور الهزء والسخرية التي يحارب بها الإسلام، فى محيط الكافرين، والمنافقين، ومن فى قلوبهم مرض.. وفى عرض هذه الصورة ما يثير مشاعر المسلمين، ويلفتهم إلى هذا العدوان الذي يرميهم به أعداؤهم، وهم فى هذا الموقف العظيم، بين يدى رب العالمين.. فإن كل مسلم ينتظم فى صفوف المسلمين للصلاة يصيبه رشاش من هذا الأذى الذي يرمى به أعداؤهم فى أعقاب المسلمين، وهم ركّع وسجود.. ولن يطهّر هذا الأذى، ويذهب بهذا الرجس، إلا بأن يأخذ المسلم بحقّه من هؤلاء الذين اعتدوا عليه، وآذوه فى دينه! وقوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ» هو تسفيه لهؤلاء الذين يحادّون الله ورسوله، ويهزءون ممن يولّى وجهه إلى الله، راكعا وساجدا.. ولو عقلوا لعلموا أنهم بعملهم هذا، يحاربون الله ويصدّون الناس عن أداء حقّه عليهم من الولاء لجلاله، والشكران لنعمه إنهم ظلموا أنفسهم ظلما فوق ظلم.. ظلموها (أولا) إذ لم يؤدّوا حق الله عليهم، وظلموها (ثانيا) إذ يصدّون الناس عن عبادة الله، بهذا الاستهزاء الذي يلقونه إليهم وهم بين يدى الله. الآيتان: (59- 60) [سورة المائدة (5) : الآيات 59 الى 60] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1127 التفسير: قوله تعالى: «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ» هو نداء مطلق لأهل الكتاب، وخاصة اليهود، وليس المراد بهذا القول أن يلقاهم النبىّ به، وأن يبلغهم إيّاه، وإنما هو قول موجّه إلى النبىّ وإلى المؤمنين. تنكشف به حال أهل الكتاب، وموقفهم العنادىّ من المؤمنين.. وليس يمنع من هذا أن يستمع اليهود إلى هذا القول، وأن يعرفوا رأى القرآن فيهم، إذ كانوا دائما يتتبعون أخبار النبىّ وما ينزل عليه من كلمات ربّه، ليبحثوا فيها عن شبهة، يضلّون بها المؤمنين، ويفتنونهم فى دينهم.. وفى هذه الآية يرى المؤمنين أن هذا الموقف العنادىّ من أهل الكتاب الذي يقفونه منهم، لا سبب له، إلا إيمان المؤمنين بالله، وما أنزل عليهم من قرآن، وما أنزل على النبيين قبلهم من كتب الله.. ذلك فى حين أن أكثر أهل الكتاب «فاسقون» أي خارجون على دين الله، منكرين أو متنكرين لرسل الله وكتب الله.. تلك إذن هى أسباب هذه الحرب الخبيثة التي يعلنها اليهود على المؤمنين.. إنها عداوة بين المؤمنين وغير المؤمنين، بين من استجاب لله ورسله، ومن حادّ الله ورسله. وقوله تعالى: «قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ» الإشارة هنا إلى موقف أهل الكتاب هؤلاء، ونقمتهم على المؤمنين، لا لشىء إلا لأنهم مؤمنون.. وهذا موقف يورد صاحبه موارد البوار والهلاك، وهذا هو المصير الذي سيصير إليه المعاندون من أهل الكتاب، الذين وقفوا من النبىّ ومن دعوته إلى الإيمان بالله، هذا الموقف.. ثم إذ يعرض القرآن اليهود المعاصرين للنبوة فى هذا المعرض، ينتقل بهم فى لمحة خاطفة تردّهم إلى الماضي البعيد، وتشرف بهم على آبائهم وأجدادهم، الذين كان لهم موقف من رسل الله كهذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1128 الموقف الذي يقفونه هم من رسول الله، ومن المكر بآيات الله، فكان عقابهم أليما شديدا، إذ جعل الله منهم القردة والخنازير وعبدة الطاغوت، بهذه اللعنة التي رماهم الله بها، فمسخت آدميتهم، ونسخت طبيعتهم، فإذا هم قردة وخنازير فى صور آدمية، يعبدون الطاغوت، ويوالون الشيطان.. والأبناء يعرفون عن يقين خبر هذا البلاء الذي حلّ بآبائهم، فكانوا مثلة فى الناس. فإذا كان هؤلاء الأبناء لم يمسخوا بعد قردة وخنازير وعبدة للطاغوت، فإنهم على الطريق الذي يقودهم إلى هذا البلاء، إذا هم ظلّوا على هذا الموقف من النبىّ، ومن دعوته، ولم يفيئوا إلى السلامة والعافية، بموادعة النبىّ أو متابعته على دينه. وفى التعبير عن العقاب الأليم هنا بلفظ المثوبة، التي يعبّر بها فى مقام الجزاء الحسن- فى هذا ما يشير إلى أن هذا العقاب هو الجزاء الحسن الذي يحلّ باليهود، إذا هو قيس بما وراءه من ألوان العقاب والنّكال، الراصد لهم! الآيات: (61- 63) [سورة المائدة (5) : الآيات 61 الى 63] وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63) التفسير: النفاق هو الصفة الغالبة على اليهود، فهو توأم الحسد الذي يملأ قلوبهم ضغينة وحقدا على الناس.. فهم إذا التقوا بالمؤمنين لأمر ما بيّتوه فى صدورهم، أظهروا الإيمان، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1129 حتى يطمئن إليهم المؤمنون، ويأمنوا جانبهم.. وهم على الحقيقة ليسوا من الإيمان فى شىء.. وفى قوله تعالى: «وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ» تغليظ لكفرهم، وتجسيم له، لكثافته، وإطباقه عليهم، حتى لكأنه يكاد يكون كائنا محسوسا، يعيش معهم كما يعيش بعضهم مع بعض.. «وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ» .. إنه أشبه بالوليد تحمله أمّه على صدرها، حتى لكأنه قطعة منها، تغدو به، وتروح به، لا تدعه بعيدا عنها لحظة واحدة.. وقد حسبوا أنهم أخفوا هذا الكفر الذي يحملونه فى صدورهم، ولكن الله أعلم بما يكتمون، لا تخفى على الله منهم خافية. قوله تعالى: «وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ» أي أن كثيرا من هؤلاء اليهود، يأتون المنكرات فى غير تحرّج أو تأثّم، بل يفعلونها وكأنها قربات يتقربون بها إلى الله.. فهم يلقون بالكلمات الكاذبة، الآثمة وكأنّهم يرتّلون مزمارا من مزامير داود، وهم يعتدون على حرمات الله، ويستبيحون محارمه، وكأنهم يتناولون طعاما شهيا، على جوع وحرمان، وهم يأكلون أموال الناس بالباطل، وكأنها مائدة عيسى المنزلة عليهم من السماء! وهذا كله يكشف عن ضمائر ميتة، ومشاعر متبلّدة، لا تتأثّم من إثم، ولا تعفّ عن محرّم. وفى قوله تعالى: «لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» حكم يدين أفعالهم تلك، ويدمغها بالسوء، الذي يردى أهله، ويهلك المتلبّسين به. وقوله تعالى: «لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ» هو تشنيع على علماء اليهود، وأهل الرأى فيهم، وأنّهم لا ينكرون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1130 هذا المنكر الذي يعيش فيه أتباعهم، ويموج فيه عامتهم، وهم الأعين المبصرة فيهم، ولكنها أعين ترى الحق فتصدّ عنه، وترى النور فتعشى به. وقوله تعالى: «لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ» هو توبيخ لهؤلاء العلماء، ووعيد لهم، إذ عرفوا الحق وكتموه، ورأوا المنكر وسكتوا عنه أو أجازوه.. ولهذا وصف الله عملهم هذا بأنه ليس مجرد عمل، بل هو صنعة، أي عمل مع علم، على حين وصف عمل أتباعهم بأنه «عمل» لأنه عمل لا يستند إلى علم، وإنما مستنده أوهام وأباطيل.. «لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» الآية: (64) [سورة المائدة (5) : آية 64] وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) التفسير: لم تقف جرائم اليهود عند حدّ التطاول على الأنبياء، والاعتداء على أموال الناس وأكلها سحتا وعدوانا، بل لقد تطاولوا على الله سبحانه وتعالى، وتعاملوا معه كما يتعاملون مع النّاس، فقالوا فيه سبحانه تلك القولة المنكرة: «يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ» أي ممسكة، بخيلة، حتى لكأن غلّا يمسكها، وقيدا يقيّدها عن البذل والعطاء!. إنهم لا يرضون بما فى أيديهم من هذا المال الكثير الذي سلبوه من الناس، وجمعوه من كل وجه حرام.. بل هم يريدون أن تتحول الجبال ذهبا، يكون لهم وحدهم، لا ينال أحد غيرهم ذرة منه.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1131 إنهم يريدون الله أن يكون مترضيّا لأهوائهم، مستجيبا لهذا الجشع الذي لا يشبع أبدا.. فإن لم يفعل ذلك كان عندهم إلها بخيلا ممسكا، لا يستحق أن يحمد أو يعبد!. وقد أخذهم الله سبحانه بهذه القولة العظيمة، فجعل عقابهم من جنس عملهم: «غلّت أيديهم» .. فهذا هو حكم الله عليهم بما جدّفوا هم عليه به.. فجعل أيديهم شحيحة ممسكة، لا تنضح بخير أبدا، ولا تجود بمعروف أبدا.. يجمعون المال، ويشقون فى جمعه، ثم لا ينعمون بهذا المال، ولا ينالون منه ما ينال أصحاب المال من أموالهم من متع الحياة ونعيمها.. فهم هكذا أبدا.. كائنات مشتتة فى كل وجه من وجوه الأرض، تجمع المال، وترد موارد الهلاك فى سبيله، وأيد شحيحة لا تنفق من هذا المال، ولا تنتفع به.. «كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» . وليس هذا وحده هو حكم الله فيهم، وعقابه لهم، على تلك الكلمة الفاجرة، بل لقد رماهم الله بعقوبة أخرى، هى آلم وأنكى.. إذ صبّ عليهم لعنته: «وَلُعِنُوا بِما قالُوا» .. فهم لعنة تمشى على الأرض، لا يراهم النّاس إلا كانوا منهم فى وجه عداوة وبغضه، وإلّا موضع بلاء وانتقام.. «مَلْعُونِينَ.. أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا» (61: الأحزاب) . وقوله تعالى: «بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ» .. تلك هى يد الله، عطاؤها جزل، ومواهبها تفيض على الأرض والسماء.. له ملك السموات والأرض.. ينفق كيف يشاء، حسب ما يقضى علمه، وكما تقدّر حكمته. وفى قوله سبحانه: «وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً» إشارة إلى أن هذا الذي نزل على «محمد» من هدى ونور، هو مما بسطته يد الله لعباده من رزق، وإنه لرزق كريم، فيه الغنى كلّه، والسعادة كلها.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1132 وهؤلاء القوم مدعوّون فيمن دعوا.. إلى هذا الرزق الكريم، وإلى هذا العطاء الجزل، ولكنّهم لم يستقبلوا هذا الخير استقبال النعم، بالحمد والشكر، بل زادهم ذلك طغيانا إلى طغيان وكفرا إلى كفر.. ولن يكون حالهم أحسن من هذا الحال، لو بسط الله لهم فى الرزق، من مال وغيره.. إنهم لن يزدادوا به إلا طغيانا وكفرا.. فهذا شأنهم مع كل نعمة من نعم الله. قوله تعالى: «وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» هو لعنة من لعنات الله على هؤلاء القوم، تقطع معهم مسيرتهم فى الحياة، متنقلة بهم من جيل إلى جيل، إلى أن تقوم الساعة.. فالعداوة قائمة بينهم، يطعمون منها طعاما خبيثا، يملأ كيانهم حقدا وبغضا، لا يطمئن لهم قلب، ولا يستريح لهم بال، فهم فى حرب مستعرة فيما بينهم، وهم فى حرب متصلة بينهم وبين الناس جميعا.. يبغضون الناس، ويبغضهم الناس، وتلك هى اللعنة التي تأخذ الملعونين بالبأساء والضرّاء، مع كل نفس يتنفسونه، من الميلاد إلى الممات.. وفى قوله تعالى: «إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» تأبيد لهذه اللعنة التي لا ترفع عن الملعونين أبدا، حتى بعد موتهم.. فتصحبهم إلى قبورهم. وتبعث معهم يوم يبعثون. قوم تعالى: «كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ» النار التي يوقدها اليهود هنا، هى كيدهم لدين الله، ولرسول الله.. كلّما نزلت آية من آيات القرآن. الكريم، نظروا فيها، وتأوّلوها تأويلا فاسدا، وعرضوها على ما عندهم من مقولات باطلة مضللة، ليفسدوا بها على الناس دينهم.. وفى كل مرة يفعل اليهود هذا تفضحهم آيات الله على الملأ، فلا يرجعون إلا بالخزي وسوء المنقلب وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَطْفَأَهَا اللَّهُ» أي أنه تعالى بما ينزل من آيات القرآن الكريم على النبي، يبطل ما دبّر اليهود، ويتبّر ما كانوا يعملون، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1133 فإذا نارهم التي أوقدوها قد أصبحت رمادا، لم يبق منها إلّا ما اصطبغت به وجوههم وجلودهم، من سواد دخانها، وذرور شررها. قوله تعالى: «وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً» العطف هنا هو على قوله تعالى: «وَلُعِنُوا بِما قالُوا..» وعلى هذا يكون قوله تعالى «وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً» حكم من أحكام الله عليهم، وأنه بعض معطيات اللعنة التي صبّها الله عليهم.. فهم أبدا مأخوذون بهذا الحكم، لا يتحولون عنه أبدا.. أي أن سعيهم فى الأرض فسادا هو طبيعة فيهم، لا يتحولون عنها أبدا. قوله تعالى: «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» هو حكم على اليهود، يتناولهم هم أولا، ثم يمتدّ إلى كل مفسد غيرهم ثانيا، فقد وصفهم الله سبحانه قبل ذلك بأنهم يسعون فى الأرض فسادا.. أي أنهم مفسدون، ثم حكم سبحانه بأنه لا يحبّ المفسدين.. أي لا يحبّ هؤلاء الذين وصفوا بالفساد، ولم يذكرهم الله تعالى بقوله والله «لا يحبهم» ليقيم الوصف الملازم لهم- وهو الفساد- مقامهم، فهم والفساد كائن واحد. الآية: (65- 66) [سورة المائدة (5) : الآيات 65 الى 66] وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66) التفسير: العقوبات التي أخذ الله سبحانه وتعالى بها بنى إسرائيل لم تكن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1134 إلا جزاء لما كسبت أيديهم من سوء، وما اكتسبت ألسنتهم من إثم.. وإلا فهم خلق من خلق الله، وعباد من عبيده، لم يخصّهم بهذه اللعنات التي مسخت وجودهم وغيّرت خلقهم، إلّا لما كان منهم من محادّة الله ورسله، ومكر بآياته وكتبه. ولو أنهم آمنوا كما آمن المؤمنون، واتقوا الله كما اتقى المتقون، لكفّر الله عنهم سيئاتهم، ولمسّهم برحمته، وأفاض عليهم من رضوانه، ولسلك بهم مسالك الحق والهدى.. ثم كان جزاؤهم فى الآخرة أن ينعموا بجناته التي أعدّها للمؤمنين المتقين من عباده. فهذا مشهد يراه «اليهود» وكان من حقهم- لو عملوا له- أن ينالوه ويسعدوا به.. ولكنهم- وقد نكصوا على أعقابهم- لن ينالوه أبدا، ولن يأخذوا نصيبهم منه أبدا. وقوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ» - هو إشارة إلى ما بين أيديهم من خير ضيّعوه، وما معهم من نور أطفئوه! فهذه التوراة.. يقول الله فيها.. «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ» (44: المائدة) وهذا الإنجيل.. يقول الله فيه.. «وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ» (46: المائدة) . وهذا القرآن.. يقول الله فيه.. «ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» (2: البقرة) . هذه الكتب المنزلة من عند الله، تحمل الهدى والنور.. هى بين يدى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1135 أهل الكتاب- وخاصة اليهود- فلو أنهم أقاموا هذه الكتب على وجهها وأخذوا عنها بعض ما فيها، واستقاموا على أمرها ونهيها، لا استقام طريقهم فى الحياة، ولملأ الله قلوبهم غنى ورضى، ولوجدوا فيما أنزل الله من رزق. هو خير كثير، يسع الناس جميعا، ويسعد به الناس جميعا. ولكنّهم كفروا بآيات الله، واتبعوا أهواءهم، وجروا على ما تمليه عليهم أنفسهم من حقد وحسد، وشره، وتكالب على المال.. فكان الجري اللاهث فى الحياة نصيبهم، وكان الجوع النفسي، والجدب لوجدانى، خاتمة مطافهم وسعيهم. إنهم لم يتوكلّوا على الله، ولم يعطوه أيديهم ليقودهم إلى الخير، ولو فعلوا لكفل لهم رزقا حسنا، وحياة طيبة، كما يقول الرسول الكريم: «لو توكلتم على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خمصا (أي جياعا) وتروح بطانا (أي شبعى) » . وقوله سبحانه: «مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ» . الأمة: الجماعة، والاقتصاد: هو المتوسط فى الأمر، وعدم المبالغة فى مجاوزة حدوده.. والمعنى، أن من هؤلاء اليهود جماعة مقتصدة، أي معتدلة فى زيغها وانحرافها، لم تبالغ فى الزيغ والانحراف، ولم تبعد كثيرا عن طريق الحق.. أما كثرتهم ففى ضلال مبين، وكفر غليظ. الآية: (67) [سورة المائدة (5) : آية 67] يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1136 التفسير: بعد أن عرض الله سبحانه وتعالى أهل الكتاب فى هذه المعارض المختلفة، فى زيفهم وطغيانهم، وفيما أخذوا به من نقمة وبلاء، وفى غفلتهم عما بين أيديهم من حق وخير، واتّباعهم لما فى نفوسهم من سراب الأهواء والأباطيل- بعد هذا كان من الله- سبحانه- هذا النداء الكريم، لنبيه الكريم: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» - فهو أمر ملزم للرسول أن يؤذّن فى الناس بما يتلقّى من آيات ربّه.. «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» .. فتلك هى مناط رسالة الرسول، وفحوى الحكمة من رسالته.. إنه وصلة بين الله والنّاس، وفى هذا يقول الله تعالى: «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ» (1: المدثر) ويقول سبحانه: «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ» (94: الحجر) وقوله تعالى: «وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» هو تنبيه للرّسول، وإلفات له إلى الأمر الذي دعاه الله إليه، وأنه إن لم يفعل فقد حبس هذا الخير المرسل من الله إلى عباده دون أن يصل إليهم.. وانظر إلى قوله تعالى: «وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» وقف خاشعا بين يدى هذا الأدب السماوي، وأقصر الطرف عن النظر إلى جلال هذا الإنسان العظيم الذي يخلع الله عليه خلعا وضيئة من فيوض رحمته، وغيوث رضوانه، فلا يلقاه ربّه إلا بهذا اللطف العظيم، فى أمر لو وقع لكان داعية للّوم، أو الوعيد بالعقاب الشديد! ولكنه- سبحانه سبحانه- يرفع نبيّه الكريم، عن موطن العتاب، أو اللوم.. فيقول له- جل شأنه- «وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» ! ولم يقل سبحانه: «وإن لم تفعل فأنت ملوم، أو مؤاخذ» .. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1137 هكذا أدب السماء مع الأصفياء من عباد الله، وهكذا ألطاف الله مع رسول الله. ورسول الله خير من يلقى هذا اللطف بما هو أهل له من حمد وشكر، وسيّد من يقوم لهذه الإشارة بما تقتضيه من جدّ وعزم.. فما وهن الرسول الكريم، وما ضعف عن حمل الرسالة، واحتمال ما تنوء به الجبال من أعبائها.. فلكم لقى من السفهاء، والحمقى، والطغاة، من بغى وعدوان؟ حتى لقد خرج مهاجرا من البلد الحرام، الذي عاش فيه شبابه، وقضى فيه أيام صباه، بين أهله وعشيرته، وألقى بنفسه فى أحضان الغربة، فرارا بالرسالة التي بين يديه أن يمسكها المشركون عن أن تبلغ غايتها، وتملأ أسماع العالمين بهديها، وتفتح مغالق القلوب بنورها. وقوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» هو من تمام نعمة الله سبحانه وتعالى على نبيّه الكريم، فهو- سبحانه- قد اصطفاه ليكون رسولا للعالمين، حاملا مختتم رسالات السماء إلى الناس.. ثم لم يدعه سبحانه- يحمل أعباء الرسالة، ويلقى الضرّ والأذى فى سبيلها دون أن تكون أمداد سماوية تعينه، وتحمل عنه بعض ما يحمل من أعباء، وكلّا.. فقد أمده الله بأمداد من الصبر واليقين، والعزم، وإذا هو- صلوات الله وسلامه عليه- يواجه قريشا كلها بصلفها وكبرها، وبجبروتها وعتوّها، فلا يلين لها، ولا يحفل بتهديدها ووعيدها.. ثم إذا هو- صلوات الله وسلامه عليه- يخوض غمرات الحرب، ويتقدم صفوف الأبطال والفرسان، ثم إذا هو- صلوات الله وسلامه عليه- يلقى كيد اليهود ومكرهم، ملاطفا وموادعا، حتى إذا لجّوا فى الضلال، وتمادوا فى الكيد والبغي، صدمهم صدمة ألقت بهم خارج الجزيرة العربية كلها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1138 ومع هذا كله، مما فضل الله به على نبيّه الكريم، من قوة الاحتمال، وثبات الجنان، ووثاقة العزم- يجىء هذا المدد العظيم، من ربّ عظيم، إلى نبى كريم، تحمله كلمات الله إلى رسول الله: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» .. فأى نعمة مع هذه النعمة؟ وأي تكريم مع هذا التكريم؟ فالله سبحانه وتعالى هو الذي يأخذ إلى جنابه الكريم، عبده ورسوله محمدا، صلوات الله وسلامه عليه، وإذا هو فى حمى ربّ العالمين، لا يناله سوء من أحد، ولا يصيبه أذى من إنسان! .. «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» .. وإنه لو اجتمع الناس جميعا لما نالوا من محمد نيلا.. هكذا كان وعد الله، وهكذا استيقن رسول الله من وعد ربّه.. ولا شك أن هذا من أنباء الغيب، ومن تحدّيات القرآن للكافرين والملحدين والمنافقين.. فلو أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- أصيب بأذى بعد هذه الآية الكريمة لكان ذلك دليلا- أي دليل- على أن ما يتقوله الكافرون والمنافقون على القرآن الكريم، وأنه قول بشر، وتلفيقات إنسان.. وإذا علمنا أن هذه الآية فى سورة المائدة، وأن هذه السورة كانت آخر سور القرآن نزولا، على أصح الأقوال، أو أنها من آخر سور القرآن نزولا، بلا خلاف- إذا علمنا هذا أدركنا السرّ فى تأخر هذا الوعد الكريم إلى أخريات أيام الرسول، وإلى مختتم رسالته، وذلك حتى لا ينكشف للرسول وهو قائم على طريق الدعوة، أنّه فى ضمان هذه الحراسة الربانية، وفى ظلّ تلك العصمة التي عصمه الله بها من الناس، وذلك ليكون له بلاؤه، وجهده، وعزمه، فى ملاقاة الشدائد، واحتمال المحن، مستقبلا كل ما يمكن أن تتمخض عنه الأحداث، ولو كان فى ذلك ذهاب نفسه.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1139 أمّا لو كان الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- قد تلقّى هذا الوعد الكريم من ربّه من أول خطواته على طريق رسالته، لما كان له فضل فى مكابدة الأهوال، ومصادمة الشدائد، والتعرض للأخطار، ولا سوى فى هذا أوهى الناس عزما، وأقلّهم صبرا، وأجبنهم قلبا، مع أقواهم عزما، وأكثرهم صبرا، وأشجعهم قلبا.. إذ كان كلّ منهما يلقى الموت وهو فى أمان وثيق من أنه لن يموت بيد إنسان. وقد يسأل سائل هنا: إذا كان ما تلقّاه الرسول من قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ.. الآية» - قد كان فى مختتم رسالة النبىّ، فما محصّل هذا الأمر بالتبليغ، وقد بلّغ الرسول فعلا ما أنزل إليه من ربّه؟ ثم ما محصّل هذه العصمة، وقد استقرّ أمر الإسلام، وانطفأت جذوة أصحاب الشوكة والبغي! والجواب على هذا: أولا: أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- إذ يتلقى هذا الخبر المسعد من الله، يراجع خط سيره على طريق دعوته، من أول يوم دعاه الله فيه بقوله: «قُمْ فَأَنْذِرْ» إلى هذا اليوم الذي كادت الدعوة تنتهى فيه إلى غايتها- فيرى أنه كان فى ضمان هذه الرعاية الكريمة من رب كريم، وأن عناية الله لم تتخلّ عنه لحظة، وأنه كان فى عصمة من الله من أن تناله يد بسوء، يقطع عليه طريق دعوته، ويعجزه عن الوفاء بها.. فها هو ذا- صلوات الله وسلامه عليه- قد بلّغ رسالة ربّه، وجاهد فى سبيلها، حتى اجتمع الناس عليها، ودخلوا فى دين الله أفواجا.. وهذا كله من فضل الله عليه، ورعايته له. ففى هذه المراجعة يرى الرسول مكانته عند ربّه، ومنزلته فى المصطفين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1140 الأخيار من عباده.. فينشرح لذلك صدره، وتنتعش روحه، ويجد فى هذا جزاء طيبا يستقبله من عند الله، وهو يوشك أن يحطّ رحاله بعد هذه الرحلة الطويلة المضنية. ثانيا: أن انكشاف عواقب الأمور قبل أن تقع، يقطع على الإنسان طريقه إلى العمل والكفاح، ويسلمه إلى استسلام أشبه باليأس، انتظارا للمقدور الذي يسعى إليه، كما ينتظر راكب القطار مجيئه فى موعده المحدد. إن فى انتظار المجهول إيقاظا للمشاعر، وحفزا للهمم، وتشوّقا إلى ما تكشف عنه الأيام.. فمن يعمل لغاية لا يدرى ما عاقبة أمره فيها، باذلا جهده فى التمرس بالأسباب، هو ممسك بوجوده كله، ينتظر ثمرة عمله، وغاية سعيه الموصلة لها.. إنه إن بلغ الغاية حمد وسعد، وإن لم يبلغها فقد أعذر لنفسه، ورضى عن مسعاه، وإن لم يحصّل منه ما يريد.. فكيف بالرسول، وقد حمل الرسالة، وواجه بها النّاس جميعا، متحدّيا عقائد فاسدة، ومتصديا لقلوب مريضة، وعقول مظلمة، وطبائع صلدة متحجرة؟ كيف به وقد بلغ بصبره، وجهاده، وعزمه، ما أراد الله لدعوته أن تبلغ؟ إنها سعادة ورضى، وحمد وشكر.. كل أولئك لو قسم فى الناس جميعا لوسعهم واشتمل عليهم. وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» إشارة إلى تلك العصمة التي عصم الله بها النبي من الناس، وأنه سبحانه لا يهدى الكافرين إلى طريق الحق، كما أنه سبحانه لا يهديهم إلى الطريق الذي يخلص منه إلى النبي أذى على أيديهم.. فقد سدّ الله عليهم المنافذ التي يبلغون بها ما يريدون به من أذى.. «إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً» (3: الطلاق) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1141 الآية: (68) [سورة المائدة (5) : آية 68] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68) التفسير: صلة هذه الآية بما قبلها، هى أن الرسول الكريم، وقد بلّغ رسالة ربّه، وأدّاها إلى عباد الله فاستجاب لها الناس، ودخلوا فى دين الله أفواجا.. وأن أهل الكتاب- من اليهود والنصارى- ما زاوا على موقفهم من تلك الدعوة، لم يستجيبوا لها- فى جملتهم- ولم ينتفعوا بما حملت إليهم من إلفاتهم إلى الكتب التي بين أيديهم، وتنبيههم إلى ما أدخلوه عليها من تحريف وتبديل، وما كتموه من حق فيها، وما تأوّلوه من أحكامها حسب أهوائهم- أما وذلك هو حال أهل الكتاب إلى هذا اليوم الأخير من أيام الدعوة الإسلامية، فقد جاء أمر الله سبحانه إلى النبي الكريم يدعوهم دعوة أخيرة، إلى أن يصححوا موقفهم من التوراة والإنجيل، وما أنزل إليهم من ربّهم على يد أنبيائهم، من أسفار ضمّوها إلى التوراة، وجعلوها جميعا كتابهم المقدس.. ذلك أنهم إذا لم يستجيبوا للنبىّ، ولم ينتفعوا بما بين يديه من كتاب كريم، فلا أقلّ من أن يستجيبوا لما فى أيديهم هم، وأن يقيموه على وجهه الصحيح، من غير تحريف، أو تأويل هو أشد خطرا من التحريف- فإن لم يفعلوا فهم ليسوا على شىء من الدين.. إنهم- والحال كذلك- أسوأ حالا، وشرّ مكانا، من الكفار والمشركين، إذ كانوا أهل كتاب فضيعوه، وأصحاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1142 دين فأفسدوه.. وعلى هذا فهم يحسبون أنهم أهل كتاب وأهل دين، وما هم- فى الواقع- بأهل كتاب، ولا بأصحاب دين. وقوله تعالى: «وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً» هو حكم قاطع مؤكدّ، بأنهم لن يصلحوا ما أفسدوا، ولن يستقيموا على التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربّهم، وإلّا لكانت لهم رجعة إلى الدعوة الإسلامية، والتصالح معها ومع النبىّ الذي حملها.. ولكن أمرهم على غير هذا.. إنهم لن يزدادوا بما يسمعون من آيات الله التي تنزل على «محمد» إلا كفرا، وإلا عنادا وطغيانا.. وقوله تعالى: «فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» هو استخفاف بأمر أهل الكتاب- وصرف النظر عنهم، وتركهم فى ضلالهم يعمهون، ليلقوا المصير السيّء الذي يلقّاه المحادّون لله، الكافرون به، غير مأسوف عليهم.. إذ كان ذلك من صنع أيديهم، وما جنته عليهم أنفسهم، وقد نصحوا فلم ينتصحوا، وأنذروا فلم تغنهم النّذر.. ومن كان هذا شأنه فلا يستحق أن يأسى (أي يحزن) عليه أحد. الآية: (69) [سورة المائدة (5) : آية 69] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) التفسير: الصابئون: هم الذين عبدوا غير الله.. يقال صبأ فلان أي مال. فالصائبون، قد مالوا عن دعوة الفطرة التي فطر الله الناس عليها، واتبعوا أهواءهم.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1143 وفى قوله تعالى: «وَالصَّابِئُونَ» بالرفع. بعد قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا» ما يشعر باختلاف النسق فى النظم، إذ عطف المرفوع على المنصوب.. وكان نسق النظم يقضى بأن يجىء هكذا: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى» .. كما تقرر ذلك قواعد النحو، ومقولات النحاة. وهذا أمر قد وقف عنده المفسّرون، وأكثروا وجوه القول فيه، والتخريج له، ليقيموا الآية الكريمة على أصول النحو وقواعده. فقال قائل: إنه بعد أن طال الفصل بين إنّ وواو العطف فى «والصابئون» ضعف عمل إن فيما بعد الواو، وصارت الواو أشبه بواو استئناف..!! وقال آخر: إن «الواو» واو استئناف فعلا، وذلك باعتبار أنها متأخرة على قوله تعالى: «وَالنَّصارى» .. أي أن المعنى هكذا: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم، والصابئون كذلك.!! وهذه التخريجات، وإن أرضت النحاة، وسوّت حسابهم مع قواعد النحو، إلا أنها تذهب بكثير من روعة النظم القرآنى، وتخفت كثيرا من أضواء إعجازه. والذي نراه فى الآية الكريمة، ونطمئن إليه، هو أن «والصابئون» معطوفة على الذين آمنوا، والذين هادوا، كما أن لفظ «النصارى» معطوف عليها، وأنها جميعا واقعة تحت حكم إنّ المؤكدة للخبر، الواقع على هؤلاء المذكورين جميعا! ولكن كيف هذا؟ وعلى أي وجه كان؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1144 نقرأ الآية الكريمة مرة أخرى، فنرى أربع طوائف من الناس، يقع عليها حكم واحد.. أولا: الذين آمنوا.. ثانيا: والذين هادوا.. ثالثا: والذين صبئوا.. رابعا: والذين تنصّروا ولا يظهر الإعراب فى أية لفظة من هذه الألفاظ الأربع إلا فى لفظة «الصابئون» .. وقد ذكر القرآن الكريم الذين آمنوا والذين هادوا، فى صيغة الموصول وصلته، ولو ذكر «الذين صبئوا» بهذه الصيغة لوقع التكرار الذي يثير اضطرابا فى النظم، الأمر الذي يترفع عنه كلام الله.. ولهذا، عدل النظم القرآنى عن الذين «صبئوا» إلى قوله تعالى: «وَالصَّابِئُونَ» .. و «ال» فى «وَالصَّابِئُونَ» يحتمل معنى الاسم الموصول، «الذين» وصابئون خبر لمبتدأ محذوف تقديره هم، أي والذين هم «صابئون» ومثلها «والنصارى» أي وكذلك الذين هم نصارى.. وقد كثر استعمال «ال» بمعنى الاسم الموصول، إذا اتصلت باسم مشتق، وهذا الاستعمال عربى فصيح.. يقول ابن هشام صاحب «مغنى اللبيب» فى «ال» إنها تأتى على ثلاثة أوجه.. أحدها: أن تكون اسما موصولا، بمعنى الذي وفروعه، وهى الداخلة على أسماء الفاعلين والمفعولين» ومن هذا قوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» فقد دخلت الفاء فى الخبر، على تقدير: الذي يزنى والتي تزنى، فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة.. فذلك الشأن فى خبر الاسم الموصول دائما، مثل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1145 قوله تعالى: «وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما» . ومعنى الآية الكريمة: أن الذين آمنوا، والذين اختلط إيمانهم بضلال أو فسق وهم الذين هادوا، والذين هم شرك ظاهر وهم «الصابئون» و «النصارى» - هؤلاء جميعا هم عباد الله، وصنعة يده، وأنهم مدعوون إلى الإيمان به، والاستقامة على أوامره ونواهيه، فمن استجاب منهم لله، وآمن به وعمل صالحا، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.. فالإيمان بالله والعمل الصالح هو الذي يقرب الإنسان من ربه، ويدنيه من رحمته، ويؤهله لجناته، وليس شىء غير ذلك يتوسل به إلى الله، وإلى مرضاته.. من جاه أو حسب أو سلطان.. «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» (13: الحجرات) . الآيتان: (70- 71) [سورة المائدة (5) : الآيات 70 الى 71] لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71) التفسير: ذكر الله سبحانه فى الآية السابقة أن الناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم، مدعوون إلى الإيمان بالله، والعمل الصالح الذي يرضى الله، ويستقيم مع ما أمر به ونهى، وأن من قبل ذلك فقد فاز برضوان الله. ثم جاءت هذه الآية: «لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1146 رُسُلًا» - جاءت لتسجل على اليهود، أنهم غير معذورين، بخروجهم عن طاعة الله، وبإفسادهم لدينه الذي فى أيديهم.. إذ أخذ الله عليهم ميثاقا بعد خروجهم من مصر، وأنقذهم من العذاب المهين الذي كانوا فيه، وأراهم آياته عيانا، ففرق بهم البحر، وأغرق آل فرعون.. وأنزل عليهم المنّ والسلوى، ونتق الجبل فوقهم كأنه ظلة، وظلل عليهم الغمام، وأجرى لهم من صميم الحجر عيونا- بين يدى هذه الآيات الناطقة أخذ الله العهد عليهم أن يؤمنوا به، وأن يعملوا بأحكام التوراة، بقلوب سليمة، وعزائم وثيقة، فإن القلوب لتخشع، ولو كانت أقسى من الحجارة، وهى فى مواجهة هذه الآيات البينات، فتتقبل الخير وتستجب له، وفى هذا يقول الله تعالى: «وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (50- 57: البقرة) ثم يقول سبحانه: «وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1147 مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ» (64- 65: البقرة) . لقد نقض بنو إسرائيل ميثاقهم مع الله، الذي أخذه عليهم وهم على بساط هذه النعم الغامرة، فكفروا وعبدوا العجل، فعفا الله عنهم، وأرسل إليهم رسله، يجمعونهم من أشتات الطرق التي شردوا فيها.. فما تبدلت حالهم، ولا تغير ما بنفوسهم، فمكروا يرسل الله، وأخذوهم بالعنت والعذاب.. كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم كفروا به، وبسطوا فيه ألسنتهم بقالة السوء ومدوا إليه أيديهم بالأذى.. فريقا كذبوا وفريقا يقتلون. وقوله تعالى: «وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ» إشارة إلى أنهم- وقد رأوا نعم الله تتظاهر عليهم- أنهم بمأمن من الفتن، وأن لهم أن يفعلوا ما تشتهى أنفسهم، وترتضى أهواؤهم، ولم يعلموا أن هذه النعم هى إبتلاء من الله لهم، وأنها ستكون نقمة عليهم إن لم يشكروا الله ويحمدوا له، شأن من يتلقى نعم الله من عباده المتقين، كما فعل سليمان مثلا، والذي يقول الله سبحانه على لسانه: «فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي- أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ» (40: النمل) . ولكنهم عموا وصموا عن نعم الله، فجعلوها أسلحة يحاربون الله ورسله بها، ويسعون فى الأرض فسادا.. ومع هذا فقد تاب الله عليهم، وبسط لهم يد المغفرة، فلم يزدهم ذلك إلا ضلالا وكفرا ثم عموا وصموا كثير «منهم» أي أن كثرتهم الغالبة لم ترجع إلى الله، بل ظلت شاردة فى طرق الضلالة والغواية، وقليل منهم هم الذين كانت لهم من إلى رجعة.. وهذه القلة منهم هم شهود عليهم بالضلال والعصيان.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1148 الآيات: (72- 77) [سورة المائدة (5) : الآيات 72 الى 77] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77) التفسير: وهؤلاء هم النصارى- بعد اليهود- قد كفروا بالله، إذ تصوروه فى هذه الصورة المجسدة، التي رأوا فيها عيسى عليه السلام، فجعلوه الله رب العالمين.. «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ..» وهى قولة منكرة، أملتها أهواء مضللة، وتأويلات نضحت بها مشاعر فاسدة. أما المسيح عليه السلام فإنه لم يقل إلا ما قاله القرآن عنه: «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ» فما جاء المسيح صلوات الله وسلامه عليه، إلا ليصحح معتقدات اليهود الفاسدة، وإلّا ليقيمهم على شريعة التوراة التي أفسدوها، وبعدوا عنها.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1149 ومن عجب أن الأناجيل الأربعة التي يدين بها المسيحيون، ليست فيها لفظة واحدة يؤخذ منها أن المسيح إله أو ابن إله!. وما عرف المسيح بألوهية فى حياته، ولا عرف أن أحدا من أتباعه ادّعى له هذه الدعوة، ولا عبده كما يعبد الإله. ومن طوائف المسيحيين من جعل الإله ثلاثة آلهة: الأب والابن وروح القدس، وهى فى مجموعها إله واحد، ولكن لكل من هؤلاء الثلاثة عمل واختصاص فى داخل الإله الواحد.. وهذا كفر بالله.. «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ» .. «وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ» .. وقوله تعالى: «وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» هو وعيد للقائلين بهذه القولة، المعتقدين بها، العابدين الله عليها، وليس المراد بقوله تعالى: «وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ» مجرد الانتهاء عن القول والكفّ عنه، وإنما لأن هذا القول هو ترجمان العقيدة، وعنوانها.. فإذا أمسكوا عن هذا القول، تحوّلوا عن المعتقد القائم عليه، وكان لهم قول غيره، ومعتقد غير معتقدهم.. وقوله تعالى: «أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» هو نداء كريم، من ربّ رحيم، يدعو به هؤلاء الضالين عنه، ليتوبوا إليه، وليستغفروا لذنبهم العظيم، بتصورهم الإله هذا التصوّر الخاطئ.. فإذا عادوا إلى الله، وعرفوه حقّ معرفته، واستغفروا لذنبهم وجدوا ربّا رحيما غفورا، يقبل التائبين، ويتجاوز عن سيئات المسيئين.. قوله تعالى: «مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ» .. هو عرض للمسيح، يكشف عن حقيقته، وأنه رسول من رسل الله، وأمّه خلق مما خلق الله، وناس من الناس، وأنهما يجوعان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1150 كما يجوع الناس، ويأكلان مما يأكل النّاس، ويخضعان للضرورات التي يخضع لها الناس.. ومن كان هذا شأنه، فكيف يكون إلها مع الله؟. كيف ومن خلق الله من يستعلى على تلك الضرورات المتحكمة على المسيح وأمّه، كالملائكة مثلا؟ فإنهم لا يأكلون، ولا يشربون، ولا ينامون، ولا يمرضون! وقوله سبحانه: «انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» تعجّب من موقف هؤلاء الذين يرون المسيح إلها أو ابن إله، وأنهم مع هذه الآيات البينات، التي تكشف لهم عن المسيح، وتريهم مكانه عيانا بين الناس- إنهم مع هذا لا يزالون على ما هم عليه من إفك وافتراء على الله، إذ يقولون فيه هذا القول الشنيع الآثم. وقوله سبحانه: «قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً» هو تسفيه لعقول أولئك الذين يعبدون من دون الله أربابا من حيوان أو جماد، ثم يرجون عندها النفع والضرّ، وهى فى قيد العجز، لا تملك من أمر وجودها شيئا، فكيف يكون لها فى هذا الوجود سلطان على العباد؟ ذلك هو الضلال البعيد، والبلاء المبين.. وقد اتخذ المسيحيون المسيح إلها، وأضافوا إليه أنفسهم، بل أضافوا إليه الوجود كلّه.. وما فكّروا أن «المسيح» عيسى بن مريم مخلوق عاجز ضعيف أمام قدرة الله وسلطان الله.. لقد كان المسيح جنينا فى أحشاء أمّه تسعة أشهر، ثم ولد طفلا، ترضعه أمه وتغذوه، وتحمله قبل أن تحمله رجلاه. أفهذا يكون إلها يملك الضرّ والنفع، ويدبرّ أمر السموات والأرض؟ ذلك مالا يقبله عقل، ولو كان به مسّ أو خبل! .. إذ أن مسافة الخلف بين الإله والإنسان أوسع من أن يملأها تصوّر، أو يصل بين طرفيها خيال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1151 وفى تقديم الضرّ على النفع، هو مما يجرى مع طبيعة الإنسان، ويلتقى مع مطالبه- فدفع الضرّ مقدّم عند الكائن الحىّ على جلب النفع.. إذ أن الكائن الحىّ يطلب السلام لنفسه أولا، كى يضمن وجوده وبقاءه، ولا بقاء لحىّ مع وجود الخطر الذي يتهدّد حياته.. فإذا تمكن الكائن الحىّ من استخلاص نفسه من بين الأخطار التي تترصده، وتريد القضاء عليه، كان له بعد ذلك أن يطلب ما ينفع فى إمساك حياته، واستمرار وجوده، مما يتصل بمعاشه، من طعام، ولباس، وسكن، وغير هذا.. وقوله سبحانه: «وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» هو إلفات إلى ذات الله سبحانه وتعالى، وإلى جلال الذات وعظمتها، التي يختفى أمام بهائها وسلطانها كل ذى جاه وسلطان.. وأنه هو وحده- سبحانه- السميع العليم، لا سمع لأحد مع سمعه، ولا علم لعالم مع علمه.. سبحانه وتعالى عما يشركون. وقوله تعالى: «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ» المراد بأهل الكتاب هنا- هم النصارى، والدعوة إليهم هى ألا يغلو فى دينهم، أي يبالغوا فى الصورة التي ارتسمت لهم من المسيح، فى ميلاده وفى المعجزات التي جاءت على يديه.. وأن هذه المبالغة قد أرتهم فى المسيح ما ليس له، فما هو إلا إنسان، ولد كما يولد الناس، من رحم امرأة، ربّى فى حجرها، ورضع من ثديها. وقوله تعالى: «غَيْرَ الْحَقِّ» هو قيد للنّهى عن المغالاة، إذ هى مبالغة فى طريق الضلال، وغلوّ فى متابعة الهوى.. ويجوز أن يكون «غير الحق» مفعول به لقوله تعالى: «لا تَغْلُوا» بمعنى لا تتجاوزوا بدينكم حدود الحق، بل التزموا هذه الحدود، وقفوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1152 عندها، فإن ما بعدها هو الضلال والكفر.. «فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ» . (32: يونس) الآيات: (78- 81) [سورة المائدة (5) : الآيات 78 الى 81] لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81) التفسير: الذين كفروا من بنى إسرائيل هم عامّة بنى إسرائيل ومعظمهم، ولم يجىء النصّ القرآنى عامّا شاملا بلعن بنى إسرائيل جميعا حتى لا يدخل الذين سلم لهم دينهم منهم، تحت هذا الحكم، فيكون ذلك مدعاة إلى سوء ظنّهم بأنفسهم.. أولا، وبالله.. ثانيا. ومن جهة أخرى فإن النصّ القرآنى قد حمل- معه إلى جانب اللعنة التي رمى الله بها هؤلاء القوم- حمل وصفا كاشفا لهم، وهو أنهم كفروا، ولو جاء النظم القرآنى هكذا: «لعن بنوا إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم» لدخل معهم فى هذه اللعنة الذين آمنوا منهم، ثم لم يكن هذا الوصف بالكفر مصاحبا لتلك اللعنة صبّت عليهم. وقوله تعالى: «عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ» أي أن الله وجّه حكمه باللعنة على الذين كفروا من بنى إسرائيل، محمولا على لسان داود وعيسى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1153 ابن مريم.. فقد لعنهم الله سبحانه مرتين.. مرة على لسان «داود» ، ومرة على لسان «عيسى» عليهما السلام. ولا نسأل ماذا كانت لعنة داود لهم، ولا عن أي شىء كانت تلك اللعنة التي رماهم الله بها على لسان داود، وكذلك الشأن فى اللعنة التي جاءتهم على لسان المسيح.. فقد غيّر القوم وبدّلوا فى زبور داود، وفى إنجيل عيسى. والذي علينا أن نؤمن به، هو أن الله لعن اليهود هذه اللعنات على لسان هذين النبيين الكريمين. قوله تعالى: «كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ» هو بيان لسبب آخر من أسباب اللعنة التي لعن الله بها بنى إسرائيل، وهى أنهم مع عدوانهم على حرمات الله، وتطاولهم على أنبيائه بالتكذيب وبالقتل، فإنه لم يكن فيهم من رشيد ينكر عليهم هذا المنكر، ويردّهم عن هذا الضلال.. «كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ» أي لا ينهى محسنهم مسيئهم، ولا يأخذ عالمهم بيد جاهلهم، فلا تناصح بينهم على معروف، ولا تناهى عن منكر.. وليس هذا شأن الجماعة السليمة، المتنبهة لكل آفة تعرض لأى عضو من أعضائها. فجماعة اليهود جماعة يعيش كل فرد فيها فى ذات نفسه، لا يعنيه إلا ما يتصل به اتصالا مباشرا، ولا عليه أن يهلك الناس جميعا.. وليس هذا شأن عامتهم وحسب، بل هو شأن رؤسائهم وأصحاب السلطة الروحية فيهم، وقد نصّ الله عليهم ذلك بقوله: «لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ» (63: المائدة) . وقوله تعالى: «لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ» هو تجريم لأفعال اليهود جميعا، عامتهم وخاصتهم، علماؤهم وجهلاؤهم.. أفعالهم كلها منكرة، لا تتحرّى الحق، ولا تستقيم عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1154 وقوله تعالى: «تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا» الضمير فى «منهم» يعود إلى علماء اليهود، وخاصتهم، وأنّهم يعطون ولاءهم ومودتهم للذين كفروا من مشركى العرب، ومن كافرى اليهود أنفسهم، ليظاهروهم على الدعوة الإسلامية، وليقودوا جبهة الكفر المتصدّية لها.. وهذا منهم هو كفر فوق كفر، وضلال فوق ضلال.. إذ لم يكفهم أنهم عرفوا الحق وكتموه، بل أجلبوا عليه الأعداء، وكانوا لهم فى حربه سندا وظهيرا.. فاستحقوا لهذا سخط الله عليهم، وأن يصلوا النار التي أعدّها للعصاة المحادّين لله ورسوله.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ» .. وقوله تعالى: «أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ» هو مصدر مؤول، وهو المخصوص بالذم أي بئس شيئا قدمته لهم أنفسهم، وأعدته ليوم الجزاء، سخط الله ولعنته لهم فى الدنيا، والعذاب الشديد يوم القيامة فى جهنم خالدين فيها أبدا. قوله تعالى: «وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ» هو بيان لهذا المرض الخبيث المستكنّ فى قلوب هؤلاء العلماء من بنى إسرائيل، وهو أنهم قد أعمى بصائرهم بالحسد، فألقوا بأنفسهم إلى التهلكة، وكفروا بالله، إذ كفروا بالنبيّ وما أنزل إليه من ربه، وكان ما بأيديهم من دلائل تدل على نبوته، وما عندهم من علم به وبرسالته- جديرا بأن يجعلهم أسبق الناس إلى لقاء هذا النبىّ، والإيمان به، والوقوف من ورائه، والجهاد تحت رايته.. ولكنهم تخلّوا عن مكانهم هذا، الذي كان ينبغى أن يأخذوه مع النبي، وانحازوا إلى جهة الكافرين والمنافقين.. حسدا وبغيا. وفى قوله تعالى: «وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ» هو حكم على الكثرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1155 الغالبة من علماء اليهود بالفسق، والخروج عن الطريق القويم، طريق الحق والنور، إلى طريق العماية والضلال.. وإن قليلا منهم هو الذي سلم فلم يقع تحت طائلة هذا الحكم. ولسائل أن يسأل: كيف يحكم على اليهود بالكفر، مع أنهم أهل كتاب، وأنهم يؤمنون بالله، وأن الإسلام قد وضعهم وضعا خاصا فى أحكامه، فجعلهم أهل ذمّة، وسمح لهم أن يعيشوا فى المجتمع الإسلامى، وألا تهدم بيوت عبادتهم، وألا يحال بينهم وبين أن يؤدوا شعائر دينهم فيها.. كيف هذا؟ والجواب من وجوه: فأولا: هم كافرون- لا شك فى هذا- لأنهم اجترءوا الله، فنبذوا كتاب الله الذي فى أيديهم، وحرّفوه، ثم ما بقي بأيديهم منه لم يستقيموا عليه، بل تأولوه تأويلا فاسدا، يجرى مع أهوائهم وما يشتهون.. فهم- وإن لم ينكروا الله- قد حاربوا الله، واستخفّوا بكلماته، وجعلوها تبعا لأهوائهم، ولم يجعلوا أهواءهم تبعا لها. والكافر بالله، والمنكر له، وإن غلظ جرمه. وعظم إثمه- هو أخفّ جرما، وأقل إثما، ممن عرف الله واستخفّ به، وأعلن الحرب عليه، فشوّه وجه كلماته، وأراق دم أنبيائه. وثانيا: هم كافرون- لا شك فى هذا أيضا- لأنهم أنكروا نبوّة النبىّ، وبهتوه، وكفروا بما أنزل عليه، وهم يعلمون- بما فى أيديهم من كتب الله- أنه رسول من عند الله، وأن الآيات التي بين يديه هى كلمات الله.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1156 جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ» (89- 90: البقرة) فلقد دمغهم الله- سبحانه- بالكفر أكثر من مرة.. «كَفَرُوا بِهِ» .. «فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» .. «بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ» .. «وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ» . فهذا بعض ما وصفهم الله به فى هاتين الآيتين، وقد توعدهم الله سبحانه باللعنة، ورماهم بالغضب بعد الغضب، ورصد لهم العذاب المهين يوم القيامة» .. وثانيا: إن تصوّر اليهود لله هو تصور خاطئ فاسد، إذ يرون الله هو إله اليهود وحدهم لا يتعامل مع غيرهم، ولا يعمل لأحد سواهم، ولا يشغل إلّا بهم وبمشكلاتهم.. فهو «رب الجنود» يقودهم فى ميادين القتال، بل ويقاتل لهم وهم ينظرون، كما قالوا لموسى: «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» (24: المائدة) . وهذا تصور خاطئ لله رب العالمين.. إنهم لا يرونه إلا أشبه بإنسان يملك قوى خارقة لا يملكونها، أشبه بآلهة الأساطير التي تولدت فى خيال الوثنيين لتحقق لهم أحلاما قصرت أيديهم عن تحقيقها.. ولهذا، فقد طلبوا إلى موسى أن يريهم الله جهرة، أي عيانا، فقالوا ما حكاه القرآن عنهم: «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» (55 البقرة) .. هذا هو إله اليهود الذي يؤمنون به.. إنه إلههم وحدهم.. أما هذا الوجود فله إله أو آلهته.. وذلك كفر، أو شرك، أو فسق.. وقد صف صف اليهود بهذه الصفات جميعا.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1157 ورابعا: جعل الإسلام أهل الكتاب أهل ذمّة ولم يأخذهم بما أخذ به غيرهم ممن لا كتاب لهم من المشركين والكافرين، كالصائبين والمجوس، ومشركى العرب وغيرهم، لأنهم على شبهة من دين، ولهذا لم يقم عليهم حدّ القتل، إذ كان من أصول الإسلام: «درء الحدود بالشبهات» .. فهم- أي أهل الكتاب- كافرون، ولكن كفرهم مشوب بإيمان باهت.. وهذا الإيمان على ما فيه، لا يرفع عنهم الحكم- ديانة- بأنهم كافرون، ولكنه يرفع عنهم إقامة حدّ الكفر عليهم بقتلهم، إذا وقعوا فى حوزة المسلمين وصاروا إلى أيديهم، وأبوا أن يدخلوا فى الإسلام.. فهذا الكفر المشوب بالإيمان، أو الإيمان المختلط بالكفر، يعصم دماءهم، وأموالهم، ويجعلهم ذمة فى يد المسلمين.. وفى هذا يقول الله تعالى: «قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ» (29: التوبة) .. فهذه الجزية التي تؤخذ منهم، وهذا الصّغار الذي ينضح عليهم من الجزية التي يؤدونها- هو تعزير لهم على جناية الكفر الذي حالت دون إقامة الحدّ عليهم فيه، شبهة الإيمان المختلط بكفرهم. تم الكتاب الثالث، ويليه الكتاب الرابع فى تفسير الجزءين السابع والثامن.. إن شاء الله؟ المؤلف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1158 [الجزء الرابع] [تتمة سورة المائدة] الآيات (82- 86) [سورة المائدة (5) : الآيات 82 الى 86] لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86) التفسير: الخطاب فى قوله تعالى: «لَتَجِدَنَّ» موجّه إلى النبىّ صلّى الله عليه وسلم، ثم هو خطاب من بعده لكل من هو أهل لأن يخاطب، من المؤمنين، وغير المؤمنين. فاليهود والنصارى، هم فيمن دخل فى هذا الخطاب. وفى قوله تعالى: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا» هو كشف لهذا الموقف العدائى، الذي يقفه اليهود من الدعوة الإسلامية وأهلها.. فهم.. كما يقول الله تعالى: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ ... » ثم يأتى من بعدهم فى العداوة للمؤمنين، الذين أشركوا.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 وهذا وضع مقلوب بالنسبة لليهود، إذ كانوا- وهم أهل كتاب- أولى الناس بأن يناصروا أهل الكتاب ويوادّوهم، لا أن يكونوا فى الجبهة الأولى من الجبهات المعادية للمؤمنين، إذ يتقدمون فى هذا الموقف اللئيم أهل الكفر والشرك، فيكونون قادة الحملة الموجهة لحرب الله والمؤمنين بالله! وفى قوله تعالى «لَتَجِدَنَّ» إشارة إلى أن هذا الحكم الذي فضح الله به اليهود، ليس حكما معلّقا على أي شرط، بحيث يقع إذا وقع هذا الشرط، أو هو حكم خفىّ لا تظهر آثاره للعيان.. وإنما هو حكم مطلق، واقع دائما، ظاهر لا خفاء فيه، ولهذا جاء التعبير عنه بلفظ «تجد» بمعنى ترى، وتبصر، وتتحقق، ثم جاء هذا اللفظ مؤكدا بالقسم، وبنون التوكيد «لتجدنّ» .. فهو أمر واقع، مؤكد الوقوع، لا احتمال فيه لشك أو ريب. هذه هى وجهة اليهود فى الحياة، وهذا هو حكم الله عليهم.. فماذا يرى الراءون منهم؟ وما مدى انطباق هذا الحكم عليهم؟ إن مسيرتهم فى الحياة تشهد شهادة ناطقة بأنهم حرب على الأديان وعلى المؤمنين.. بل هم حرب على الإنسانية كلّها، قبل أن يكونوا حربا على الأديان التي يدين بها الناس. ولكن لمّا كان الدّين هو ملاك أمر المجتمعات الإنسانية، ومنطلق خياتها الرّوحية والاجتماعية- كان الميدان الذي يعمل فيه اليهود، لإفساد المجتمعات، وإصابتها فى مقاتلها، هو ميدان الدين، فإذا تحلّل الناس من الدّين، وتقطعت بينهم وبينه الأسباب، تحوّلوا إلى حيوانات ضارية، يقتل بعضها بعضها، بلا حساب من عقل أو ضمير.. وهذا ما يفعله اليهود فى كل مجتمع يعيشون فيه.. لقد دخلت الدعوة المسيحية أو ربّا، فأحيت كثيرا من معالم الإنسانية التي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 كانت قد افتقدتها زمنا طويلا، ولكن ما إن كادت هذه الصحوة الإنسانية تسفر عن وجهها، حتى تصدّى لها اليهود، فدخل كثير منهم فى المسيحية كذبا، واجتهد كثير منهم فى الدعوة، زورا وبهتانا، حتى إذا بلغ مكانة بين المسيحيين، لعب بالدين، ومسخ تعاليمه، وجاء إلى الناس بالمفتريات والأباطيل، حتى كانت تلك الحروب التي اشتعلت فى أوربا بين العلم والدين، وإذا العلم فى مواجهته للدّين يجد الطريق مهيأة له، للنّيل منه، بل والقضاء عليه، فأجلاه عن موطنة من القلوب التي كانت تجد فيما احتفظت به من دين، شيئا تمسك به، وتحرص عليه! ومن هنا كان هذا الإلحاد الذي طغى على المجتمع الغربي كله فى أوربا وأمريكا.. وإذا الحياة هناك حياة ماديّة طاغية، تعصف بالناس عصفا، وتسوقهم سوقا عنيفا إلى هذا الصراع المرير، الذي أشعل نار الحرب، فشملت العالم كلّه، ودارت دورتها مرتين فى أقل من ربع قرن من مطلع هذا القرن الذي نعيش فيه- القرن العشرين الميلادى- دون أن يكون هناك وازع من الدّين يحمى الناس من هذا الضّياع المستولى عليهم، ودون أن يكون لدعوة المسيح عليه السلام أي أثر فى إقامة الناس على الأمن والسلام اللذين جاء مبشرا بهما. واليهود، هم تجار هذه الحروب الدائرة فى كل صقع من هذا العالم، يجنون منها مكاسبها، ويجمعون من مخلّفات رمادها الشيء الكثير! فهم- أولا- يشبعون نقمتهم من الإنسانية، بهذه الأنهار المتدفقة من الدماء المراقة من الناس، على اختلاف أجناسهم وأديانهم! وهم- ثانيا- يقطعون علائق المودة والإخاء بين الناس، بهذه الحروب التي لا تنقطع أبدا. وهم- ثالثا- يشترون الذّمم والضمائر، التي تروج سوقها أعظم رواج، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 فى هذه الأجواء العاصفة، التي تشتمل على الناس، وتستولى على عقولهم وقلوبهم.. فلا ثمن لضمير- حيث لا ضمير- ولا حساب لشرف، حيث الموت راصد يخطف النفوس! «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ» .. ففتش وراء كلّ شر يهبّ على المجتمعات الإنسانية من أي أفق، تجد أن مطلعه اليهود.. قديما وحديثا.. اليوم، وما بعد اليوم.. ونكاد نقف عند قوله تعالى: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ» .. أما «الَّذِينَ أَشْرَكُوا» فهم من صنع اليهود، إذ هم الذين أفسدوا على كثير من المؤمنين دينهم، وساقوهم إلى الشرك، كما أنهم- وقد سبقوا إلى الإيمان بالله، بما أرسل الله إليهم من رسل، وما أنزل عليهم من كتب- لم يفتحوا للمشركين طريقا إلى الإيمان بالله، ولم يدعوهم إليه، بل ضنّوا بما فى أيديهم، وحجبوه عن كل عين.. بل وأكثر من هذا، فإنهم زيّنوا الشرك للمشركين، ويسّروا لهم سبله، بما أذاعوا فى المجتمعات الإنسانية من مفاسد وشرور. وقوله تعالى: «وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى» هو وجه مشرق من وجوه الدّين وما يفعله فى المتدينين، يقابل هذا الوجه الكريه الذي بدا من بعض أصحاب الدين، وهم اليهود.. ففى دعوة المسيح التي يدين بها النصارى دعوة كريمة إلى التواضع، والتسامح، والإخاء.. مع الإنسانية كلها، بل والتآلف مع الوجود كلّه، ناطقه وصامته! وإذا كانت المسيحية اليوم قد تغيّر وجهها عند المتدينين بها، فذلك من جناية اليهود عليها، وعلى المتدينين بها. والنصرانىّ المتمسك بنصرانيته، الموالي لعقيدته. هو إنسان وديع رقيق، يتأسّى بالسيد المسيح فى وداعته، ورقته، ورحمته، وإنسانيته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 وأىّ نصرانى يستمع إلى قولة المسيح: «أحبّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم» - أي نصرانى يستمع إلى تلك القولة الكريمة، ثم لا يمسّ قلبه شعاعة من نورها الألق، أو قبسة من نفحاتها المباركة؟ ولكن اليهود أدخلوا على المسيحية ما غيّر وجهها، وأفسد طبيعتها.. وحسبنا أن نذكر هنا «بولس الرسول» وما كان له- هو اليهودي- من شأن فى هذا المقام! وقوله سبحانه: «ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً» إشارة إلى أن علماء النصارى، وأصحاب الرياسة والتوجيه الديني فيهم، هم جماعة يمثلون الوجه المشرق للمسيحية، فى وداعتهم، ولطفهم، وحبهم للإنسانية.. على حين يقابل هذا: الربانيون والأحبار، الذين هم قادة اليهود وأصحاب الرياسة الدينية عندهم، والذين هم العقل المفكر واليد العاملة للمجتمع اليهودي، وما يرمى به الناس من شر وبلاء بأيديهم! .. فالقسيسون والرهبان.. رأس سليم، معافى من الأمراض الخبيثة.. يقوم على جسد المسيحية، ويعمل على حمايته من الآفات، التي يرمى بها اليهود فى كيانه.. والربانيون والأحبار.. رأس فاسد، تدور فيه عواصف الشر والبغي.. يقوم على جسد اليهود، فيغذى بذور الشر والبغي الكامنة فيه! وشتان بين رأس ورأس، وجسد وجسد! وقوله تعالى: «وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» إشارة أخرى إلى ما بين رؤساء المسيحيين ورؤساء اليهود، وبين المسيحيين وبين اليهود، من تفاوت بعيد! فهؤلاء- أي النصارى- لا يستكبرون، ولا يعزلون أنفسهم عن المجتمع الإنسانى، ولا يرون ما يراه اليهود فى أنفسهم من أنهم شعب الله المختار.. ولهذا اختلط المسيحيون بالعالم كله، ودعوا الناس جميعا إلى ما معهم من دين الله.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 أما اليهود، فقد عزلهم الكبر والغرور عن أن يختلطوا بالناس، وأن يدعوهم إلى دين الله الذي معهم.. وقوله تعالى: «وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» .. هو شاهد ثالث على الإنسانية المنطلقة التي تنشد الخير، وتطلب الحق، وأنها حين تستمع إلى كلمات الله، تستمع إليها فى غير كبر أو استعلاء، فإذا اهتدت إلى طريق الحق، استقامت عليه، ولزمته.. وإن لم تهتد، توقفت وأمسكت فى رفق ولطف. ولهذا دخل كثير من أتباع المسيح فى الإسلام عن اعتقاد صحيح، وإيمان وثيق: «تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» أي اجعلنا من الذين شهدوا النبي واستمعوا إليه وآمنوا به. وليس كذلك شأن اليهود، قد أعماهم التعصب، وأصمّهم الكبر، عن أن يستمعوا لكلمة حق، أو يستجيبوا لدعوة رسول..! وقوله تعالى: «وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ» .. إنه لسان الحال، لكل طالب حق، حين تبدو له أماراته، وتلوح لعينيه دلائله، لا يتردد أبدا فى قبوله، والأخذ به، ليرشد وليكون فى عباد الله الصالحين.. وقوله تعالى: «فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ» .. هو الجواب المسعد لهذا التساؤل المتعاطف مع الحق، المستجيب له.. فقد تلقاهم الله- سبحانه- بهذا اللطف الكريم، وملأ أيديهم من هذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 الرزق الطيب.. «جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ» .. وفى قوله تعالى: «بِما قالُوا» إشارة إلى أن قولهم هذا لم يكن مجرد قول، وإنما هو ترجمة عن إيمان صادق، خفق به القلب، واهتزت له المشاعر، وفاضت به العيون، دمعا خاشعا.. لو ظفرت الأرض بقطرة منه لاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» يطلع على الناس فى الموقف بصورة ذات دلالتين: دلالة يرى منها أولئك الذين كفروا وكذبوا بآيات الله، ما أعد لهم من نكال وعذاب، جزاء كفرهم وتكذيبهم بآيات الله، ورسل الله، وعداوتهم للمؤمنين بالله وبرسل الله.. والوجه البارز فى هذه الصورة هم اليهود ومن ورائهم كل كافر، وكل مكذب.. والدلالة الأخرى يراها المؤمنون الذين أضافهم الله فى رحابه، وأنزلهم منازل إكرامه، وعافاهم من هذا البلاء، الذي يتقلب فيه الكافرون المكذبون- فيضاعف بهذا نعيم المؤمنين، وتردّد ألسنتهم قول الحق جل وعلا: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ» . (35: فاطر) (الآيات: 87- 88) [سورة المائدة (5) : الآيات 87 الى 88] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 التفسير: هؤلاء المؤمنون الذين يستجيبون لله ولرسوله، ويدخلون فى دين الله، سيجدون دينا سمحا، وشريعة رفيقة رحيمة، تأسو جراح الإنسانية، وتطبّ لأدوائها، وتقوم على أمنها وسلامتها.. فهذه طيبات الحياة مما أحلّ الله، هى مباحة للمؤمنين، ينالون منها ما تبلغه أيديهم، وتشتهيه أنفسهم، غير مضيّق عليهم فى شىء منها.. «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ» (32: الأعراف) . والله سبحانه ينهى عباده أن يحرموا شيئا مما أحل الله لهم.. إذ أن ذلك- وإن كان منهم مبالغة فى تأديب النفس بالحرمان- هو اجتراء على الله، وتبديل فى شرعه، وخروج على أحكامه.. وللإنسان أن يقتصد فى الطيّب الحلال، أو أن يؤدب نفسه بالحرمان من بعض الطيبات، ولكن على اعتقاد أن ذلك الذي حرم نفسه منه، هو حلال مباح.. فذلك مما لا بأس به، فهو أشبه شىء بالإمساك عن الطعام والشراب، بالصيام. وكما نهى الله المؤمنين عن الجوز على أنفسهم بتحريم ما أحل الله لهم من طيبات- نهاهم عن متابعة أهواء النفس، باستباحة ما حرم الله. فذلك عدوان على شريعة الله، ونسخ لأحكامه. والذي تغلبه نفسه، فتحمله على ارتكاب مأثم من المآثم، وهو على علم من أنّ ما يفعله هو منكر، حرّمه الله على المؤمنين، ورصد لمقترفه العقاب الأليم- هذا الإنسان هو خير من ذلك الذي يتأوّل فى شرع الله، فيحل الحرام، ويفتح له من التأويل بابا يدخله منه إلى ما أحل الله من طيبات. إن الأول مؤمن عاص، يعلم من أمر نفسه أنه منحرف عن الطريق القويم، خارج على أوامر الله ونواهيه.. وهذا العلم من شأنه أن يزعج مرتكب المنكر، وينخس ضميره، فلا يستمرىء هذا المنكر، ولا يستسيغه على إطلاقه.. وقد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 يجىء اليوم الذي يرجع فيه إلى الله، وينتهى عما نهى الله عنه.. أما الآخر- وقد تأول للحرام، وأدخله مداخل الحلال- فإنه لن يجد لهذا الحرام مرارة فى نفسه، ولا وخزا فى ضميره.. ومن هنا فلن تكون له إلى الله رجعة عن هذا المنكر، الذي خادع به نفسه، وخدع به عقله، وخالف ربه، وأفسدو وجدانه ومشاعره. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» .. والمعتدون هم من يخرجون على شريعة الله، بتحريم ما أحل الله من طيبات، وإباحة ما حرم من خبائث ومنكرات. وقوله تعالى: «وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ» هو دعوة إلى الإقبال على الحياة، وترك الزهد فيها، والعزوف عنها.. فما قام الإنسان خليفة لله على هذه الأرض، إلا ليعمرها، ويفتح مغالقها، ويستخرج الطيب الكريم منها، ثم يكون له من هذا الثمر الذي غرسه ما ينعم به، من رزق الله الذي بثّه فى كل مكان فى هذه الدنيا.. فى أرضها وسمائها، وبحرها وجوّها.. وقوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ» هو الميزان الذي تنضبط عليه تصرفات المؤمنين، فيما بين أيديهم من رزق، وفيما حصّلوه من ثمرات سعيهم وجدّهم.. فما دام معهم هذا الميزان- وهو تقوى الله- وما دامت تصرفاتهم قائمة على هذا الميزان، فإنه لا جناح عليهم فى أي شىء يعملونه أو يطعمونه. وفى قوله تعالى: «الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ» هو تذكير للمؤمنين، بالله الذي آمنوا به، واتقوه، وجعلوا تقواه وخشيته ملاك أمرهم فيما يأخذون أو يدعون من أمور.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 فالتقوى إذا لم تسكن إلى قلب مؤمن بالله، ذاكر له، كانت عرضة لأن يهتز ميزانها إذا طلعت عليها أهواء النفس، ونزغات الشيطان.. وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة فى قوله تعالى: «لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (93: المائدة) فقد رفع الله عن المؤمنين الحرج فى كل ما يطعمون، بعد أن شدّهم إليه بالتقوى، ثم ربط التقوى بالإيمان، والعمل الصالح، والإحسان. الآية (89) [سورة المائدة (5) : آية 89] لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) التفسير: مناسبة هذه الآية لما قبلها، هو أن ما قبلها كان بيانا لحدود الله، وأن فى هذه الحدود سعة تسمح للإنسان أن يتحرك فيها كيف شاء، غير مضيّق عليه فى شىء، مادام قائما على تقوى الله.. هنالك يجد المؤمن دينا سمحا، وشريعة ميسّرة، تفتح له أبواب العمل فى كل مجال، وتملأ يديه من كل خير.. وهنا فى هذه الآية باب من أبواب اليسر والسماحة فى دين الله، الذي يؤمن به المؤمنون.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 فما أكثر ما يجرى ذكر الله على ألسنة المؤمنين، وما أكثر ما يستحضرونه فى كل أمر يعرض لهم، ثم ما أكثر ما يزكّون هذه الأمور بالقسم عليها باسم الله، دون أن يكون ذلك بقصد الحلف لإجازتها، وعقد اليمين بها.. فهناك فرق بين القسم، والحلف.. إذ القسم لتعظيم الشيء وتزكيته، ورفع قدره، وقد أقسم الله سبحانه ببعض مخلوقاته.. من شمس، وقمر، ونجم، وليل، وضحى. أما الحلف فهو إقرار يشهد به الإنسان على نفسه، أو غيره. وقد جعل الله كفيلا عليه، بالحلف به.. ومن هنا كان لزاما عليه- ديانة- أن يحترم هذه الكفالة، ويقوم على الوفاء بما التزم به، وإلا أثم، بجرأته على الله، والاستخفاف بكفالته له، والله تعالى يقول: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» (91: النحل) . وكان من رحمة الله بعباده، ورفقه بهم، وإسباغ نعمه عليهم، فى تعاملهم مع اسمه الكريم- ما حملته هذه الآية الكريمة من لطف، ورحمة، وحكمة: فأولا: قد عفا الله سبحانه عن الأيمان التي لا يقصد بها الحلف، والتي تجرى على الألسنة خارجة عن هذا القصد.. «لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ» وتسمية هذه الأيمان لغوا، لأنّها لا تحلّ حراما، ولا تحرّم حلالا، ولا تجلب خيرا، ولا تدفع ضرّا.. والأيمان جمع يمين، وقد سمّى اليمين يمينا، لأنه مشتق من اليمن والبركة، إذ كان الذي يقسم به- عادة- اسم كريم عزيز، عند من أقسم به، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 وهو عند المؤمنين اسم الله جلّ وعلا.. فما أكرم هذا الاسم الكريم، وما أيمنه. وثانيا: الأيمان التي يراد بها الحلف، وينعقد بها أمر من الأمور، بين الإنسان ونفسه، أو بينه وبين غيره- هذه الأيمان كما قلنا- هى أيمان وثّقت عهدا، وجعلت الله- سبحانه- شاهدا على هذا العهد وكفيلا له.. فإذا حنث الحالف بيمين الله هنا، فإنه يكون قد اقترف ذنبا عظيما فى حق الله سبحانه وتعالى، وفى حقّ الناس، بما استباح من حقوقهم، بنقض العهد معهم. أما حقّ الله المتعلق بالحانث فى يمينه، فقد جعل فيه للحانث ما يكفّر به ذنبه، ويغسل به حوبته، وهو أن يطعم عشرة مساكين، من أوسط ما يطعم هو وأهله، أي مما يغلب أن يكون طعامهم، فى حياتهم، فى غير أيام السّعة أو الضيق.. فإن لم يكن طعام، فكسوة عشرة مساكين، مقدرة هذه الكسوة بحال الحانث فى يمينه.. فإن لم يكن طعام أو كسوة، فتحرير رقبة، أي عتق رقبة من الرّق.. فإن كان الحانث معسرا، لا يستطيع أن يطعم أو يكسو أو يعتق، فصيام ثلاثة أيام. وقد اختلف فى تتابع هذه الأيام، وفى إفرادها، فرأى بعضهم الأخذ بما أطلقه القرآن، حيث لم يقيد الصوم بالتتابع، ولا حجة عنده فى قراءة من قرأ «ثلاثة أيام متتابعات» .. لأن الإطلاق هنا والتقييد فى قوله تعالى: «فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ» يقوّى الأخذ بمنطوق الآية، وعدم التعويل على هذه القراءة التي لم تتأكد بالتواتر.. على حين يرى البعض الأخذ بالقراءة «ثلاثة أيام متتابعات» حيث وجدت مثبتة فى مصحف السيدة عائشة رضى الله عنها، فيوجب التتابع فى الصوم. ويقوّى هذا الرأى عندنا: أن صيام ثلاثة الأيام هذه فى تتابعها، هى التي تعدل إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، مع أن إطعام مسكين واحد، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 يجزى عن إفطار أي يوم من أيام رمضان لمن لا يقدر على الصوم، كما يقول الله تعالى: «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ» فتتابع أيام الصوم هو الذي يجعل صيام الأيام الثلاثة على هذا الوجه، موازنا لإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم. والتكفير عن الحنث فى اليمين يجزى بأيّ من هذه الكفارات الثلاث: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة.. فمن كفّر بأى منها أجزأه ذلك، دون نظر إلى ترتيب فيها، حيث كان الحكم بالتخيير بينها بحرف العطف «أو» .. ولا يصار إلى الصيام إلا عند فقد القدرة على الوفاء بالإطعام، أو الكسوة، أو تحرير الرقبة. وقد اختلف فى صفة الرقبة التي تحرّر هنا، وهل يلزم أن تكون مؤمنة، أم أن تحرير أي رقبة أعتقها الحانث يجزىء فى التكفير عن اليمين؟ يرى بعض الفقهاء أن يكون العتق لرقبة مؤمنة، وكونها لم توصف هنا بأنها مؤمنة، ولم يجعل الإيمان شرطا لعتقها- إحالة على ما وصفت به فى قوله تعالى: «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ» (92: النساء) . ونرى- كما يرى بعض الفقهاء- الوقوف عند منطوق الآية، والأخذ بالحكم على إطلاقه، دون قيد للرقبة بأنها مؤمنة أو غير مؤمنة. ففى فكّ الرقبة وعتقها إحياء لنفس ميتة، أيّا كانت تلك النفس، مؤمنة أو كافرة.. وإحياء النفس- أي نفس- شىء عظيم، لا يحتاج إلى وصف آخر يرفعه ويعلى من قدره.. وكيف والله سبحانه وتعالى يقول: «وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً» ؟ (32: المائدة) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 وأما قيد الرقبة بوصف الإيمان فى دية القتل الخطأ، فهو لموافقة النفس المؤمنة التي قتلت خطأ.. «وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ..» (92: النساء) .. وذلك مما يوجبه القصاص.. النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسنّ بالسنّ.. وقياسا على هذا يكون من دبة المؤمن فى القتل الخطأ إحياء نفس مؤمنة.. أما هنا فهو إحياء لنفس أيّا كانت هذه النفس، ففى إحيائها كفارة لأى ذنب وإن عظم، إنه إحياء للإنسانية كلها.. ومع هذا، فإن المسلم حين ينظر فى أي الرقاب يعتق، فإنه يتجه أول ما يتجه إلى الرقبة المؤمنة، امتثالا لقول الله تعالى: «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» ولا شك أن الرقبة المؤمنة أحب إلى مالكها من الرقبة غير المؤمنة.. وقد روى مسلم أن أبا ذر رضى الله عنه، سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الرقاب أفضل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا» .. والرقبة المؤمنة أنفس عند المسلم وأكثر ثمنا. وفى قوله تعالى: «فَكَفَّارَتُهُ» إشارة إلى اليمين بلفظ المفرد، لأن هذه الكفارة هى كفّارة عن اليمين الواحد.. فإذا حنث الإنسان فى أكثر من يمين كان لكل يمين كفارته، على هذا النحو.. وهذا هو السرّ فى إفراد الضمير.. وكان النظم يقضى بأن يجىء هكذا: «فكفارتها» إذ كان الحديث عن الأيمان.. وقوله تعالى: «وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ» إشارة إلى أن هذه الكفارة هى دواء الداء، جلبه الإنسان إلى نفسه، وكان أحرى به أن يتجنب هذا الداء، وأن يظل سليما معافى.. إذ أن الوقاية دائما خير من العلاج.. أما إذا كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 الحلف على منكر، فإن الحنث فيه واجب، ولا كفارة فيه، كمن حلف أن يشرب خمرا.. مثلا، فعليه أن يحنث فى يمينه، ولا كفّارة عليه. أما من حلف على غير منكر، ثم بان له أن الحنث فى اليمين يترتب عليه إلحاق ضرر به أو بغيره، فإن الحنث خير له من البرّ بيمينه، ولكن عليه كفارة الحنث.. كمن حلف على ألا يسافر إلى جهة ما، ثم بدا له أن فى السفر خيرا يعود عليه منه، وكمن حلف ألا يتعامل فى تجارة مع فلان.. ثم ظهر له أن هذا يعود عليه أو عليهما بالخسارة والضرر- فالحنث هنا خير من البرّ باليمين، وفى ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه» . أما حقوق الناس فيما ترتب على الحنث باليمين، فلن تشفع لها هذه الكفارة، ولن تدفع عن الحانث ما نجم عن هذا الحنث من ضرر وقع على الغير بسببه. فذلك له حسابه عند الله، وله العقاب الراصد له. وقوله تعالى: «كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» إشارة إلى ما تحمل آيات الله إلى عباده، من رحمة، ولطف، إذ تقيلهم من عثراتهم، وتقيمهم على طريقه القويم.. وهذا من شأنه أن يستقبله العباد بالحمد والشكر لله رب العالمين. (الآيات: (90- 92) [سورة المائدة (5) : الآيات 90 الى 92] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 التفسير: الخمر: ما خامر العقل، وستره، كما يستر الخمار وجه المرأة.. فكلّ ما ستر العقل، وحجب عنه الرؤية الصحيحة التي يرى بها الأشياء، ويتصور حقائقها- هو خمر، سواء أكان شرابا أو طعاما، وسنعرض لهذا، بعد قليل. والميسر: هو القمار، والمخاطرة بالمال. والأنصاب: هى حجارة كانت تنصب حول الأصنام، لتذبح عليها الذبائح، تقربا إليها. والأزلام: جمع زلم، وهى قداح الميسر، يلعب بها على الذبائح، مقامرة. وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» هو خطاب عام للمؤمنين، واستدعاء لما فى قلوبهم من إيمان، ليكون هذا الإيمان بمحضر من تلك المنكرات التي يدعون إلى اجتنابها.. إذ لا يجتمع الإيمان وهذه المنكرات فى قلب مؤمن.. حيث أن من شأن الإيمان أن يقيم فى كيان المؤمن وازعا يزع كل منكر، ويدفع كل ضلال. وقوله تعالى: «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ» هو عرض لبعض المنكرات التي تغتال إيمان المؤمن، وتقطع الصلة بينه وبين ربّه.. وهى: الخمر، والميسر، والأنصاب، والأزلام.. وقد وصفها الله سبحانه بصفتين: أنها رجس.. والرجس ما تعافه النفس بفطرتها وتتقذّره بطبيعتها، من غير حاجة إلى من يلفتها إليه، ويحذّرها منه، إذ كان أمره من القذارة والفساد بحيث لا يخفى إلّا على من فسدت طبيعته، وشاهت فطرته.. والصفة الأخرى لهذه المنكرات: أنها من عمل الشيطان.. وإضافة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 هذه المنكرات إلى الشيطان يجعلها منكرا إلى منكر.. فالرجس فى ذاته، على أي وجه ظهر، ومن أي أفق طلع، هو شر وبلاء على من يقبل عليه ويتعامل معه، فإذا كان هذا الرجس هو من عمل الشيطان، ومن صنعة يده، ومن الطعام الممدود على مائدته، لم يكن فيه مظنّة لخير أبدا.. إذ يكفى الخير شناعة وسوءا أن يجىء من قبل الشيطان، وعلى يده.. فكيف إذا كان ما يحمله الشيطان ويدعو إليه هو «الرجس» ؟ أرأيت إلى طعام طيب هنىء تحمله إلى آكليه يد إنسان رعى الجذام وجهه وقضم يديه؟ .. أفتجد نفس لهذا الطعام مساغا، أو يمدّ إليه إنسان يدا ولو هلك جوعا؟ فكيف إذا كان ما يحمله هذا الإنسان المجذوم طعاما فاسدا متعفنا تعافه الكلاب؟ ذلك أقرب شىء شبها إلى الرجس الذي يكون من عمل الشيطان وصنعته. فالرجس- وتلك صفته من السوء- فى غير حاجه إلى أمر بحظر يضرب عليه، ويحال بين الناس وبينه. والرجس الذي هو من عمل الشيطان، أمره أظهر وأبين من أن ينبّه على اجتنابه، إشارة أو عبارة.. ومع هذا فإن بعض الناس تضيع إنسانيتهم، وتنطمس معالم فطرتهم، وتفسد طبيعتهم، فلا تزكم أنوفهم رائحة كريهة، ولا تلفظ أفواههم طعاما خبيثا. ولهذا كان من فضل الله على الناس ورحمته بهم، أن بعث فيهم رسله مبشرين ومنذرين، ليصلحوا ما فسد منهم، ويصححوا عمل أجهزتهم التي عطبت أو فسدت. ومن أجل هذا جاء قوله تعالى هنا «فَاجْتَنِبُوهُ» تعقيبا على ما كشف من أمر الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، ووصفها بأنها رجس، وأنها من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 عمل الشيطان.. فهذا الأمر باجتناب هذه المنكرات، هو فى الواقع توكيد لما تحمل فى أوصافها من أكثر من نهى ضمنىّ باجتنابها. وذلك زيادة عناية بالإنسان، وحراسة مضاعفة له من الموبقات والمهلكات.. وضمير الغائب فى «فاجتنبوه» يعود إلى الرجس الذي جمع هذه المنكرات كلها فى كيانه. أما الأنصاب- وإن كان الإسلام قد حطم الأصنام التي كانت مشرفة عليها-، فإن الإبقاء على عادة الذبح على هذه النّصب، مما يثير غبار الشرك، ويحرّك ريح الوثنية الكريهة.. فضلا عن أن هذه الذبائح التي تذبح على النصب كانت مجالا للمقامرة، إذ تقسّم لحومها بين المقامرين عليها، فيربح من يربح، ويخسر من يخسر. وفى قوله تعالى: «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» ترغيب فى الاستجابة لهذا الأمر، الذي فى الامتثال له مدخل إلى الفلاح والسلامة، وإنه لا فلاح ولا سلامة مع صحبة هذه المنكرات، والولاء لها. وقوله تعالى: «إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ» هو بيان لما يبغيه الشيطان من وراء هذه المنكرات التي عرضها للناس، فى معارض مغوياته، ومفسداته.. إنه يريد؟؟؟ أن يوقع العداوة والبغضاء بين الناس فى مواطن الخمر والميسر، حيث يفقد الإنسان عقله بالخمر، فلا يدارى قولة سوء، ولا يمسك كلمة شر، وحيث يستنزف الميسر أموال الناس، ويريهم أن بعضهم أكل بعضا، وهم- فى الواقع- مأكولون جميعا، فيقع بينهم الشر، وتشتعل نار العداوة والبغضاء.. وبهذا تتمزق وحدة المجتمع، ويصبح الإنسان فى مجتمعه إما طالبا أو مطلوبا، لا يبيت على أمن، ولا يستقرّ على حال.. ثم إن هذه المنكرات من خمر وميسر وأنصاب وأزلام، مع ما تزرع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 بين الناس من أشواك العداوة والبغضاء.. تصدّ عن ذكر الله، وعن الصلاة، حيث تلهى أصحابها، وتمسك بهم فى مجالها، فلا يخطر ببال أحدهم ذكر الله، وقد استولى عليه هذا الرجس، ولا يجيب داعى الله إلى الصلاة، إن هو وجد أذنا تستمع إلى هذا الداعي. وقوله تعالى: «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» يحمل تحريضا قويا على الانخلاع عن هذه المنكرات، ومجاهدة النفس فى اجتنابها، ومغالبة الأهواء الداعية إليها.. فهذه المنكرات لها سلطانها المتسلط على النفوس، بما فيها من مغويات تدعو الإنسان إلى التحلل من سلطان العقل، وما يدعو إليه من وقار، وجدّ، لتحمله على أجنحة الخلاعة والعبث والمجون.. ومن وراء ذلك شيطان يستحثّ أهواء النفس، ويثير غرائزها الحيوانية الخسيسة.. فإذا لم يأخذ الإنسان حذره ويتجرد لحرب هذه المغويات المتسلطة عليه، ويلقاها بإيمان وثيق وعزم ثابت، غلبته على أمره، وأخذته من مقوده، وأقامته على هذا المرعى الوبيل، ليطعم منه، ويعيش عليه.. ففى قوله تعالى «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» استفهام مطلوب الجواب عليه، ولن يعطى الجواب الذي ينبغى أن يجيب به المؤمن إلّا من نظر إلى نفسه، وإلى موقفه من ربه الذي يدعوه إليه، فإن استجاب لله، وانتهى عن هذه المنكرات واجتنبها، كان له أن يلقى الله بوجهه، وأن يدخل فى عباده المؤمنين، وإلا اختطفه الشيطان، وألقى به بين ضحاياه وصرعاه! قوله تعالى: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا» هو دعوة مجدّدة إلى المؤمنين، إلى طاعة الله ورسوله، والحذر من هذا الرجس، الذي بين يدى الشيطان.. يدعوهم إليه، ويغريهم به.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 وليس للمؤمنين بعد هذا البلاغ بلاغ، فإن تولّوا، ولم يستجيبوا لأمر الله، فلهم ما اختاروا، وليس لأحد سلطان عليهم إلا وازع ضمائرهم.. «فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» .. وقد بلّغ الرسول هذا البلاغ المبين، الذي تلقاه من ربّه، «فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها» (108: يونس) . الخمر.. مادتها، وصفتها، وحكم شاربها ونودّ أن نشير هنا إلى أمرين. أولهما: الخمر.. ماهى؟ وثانيهما: الخمر.. ومكانها بين المحرمات.. أما الخمر، فأمرها معروف، ولم تكن بنا حاجة إلى الكشف عن وجهها، لولا أن كثر كلام الفقهاء فيها، وفى المادة التي تصنع منها، والطريقة التي تصنع بها، حتى تكون خمرا.. أما المادة التي تصنع منها الخمر، فقد اختلف فيها الفقهاء اختلافا بينا، فوقف بها بعضهم عند التمر والعنب، مستدلّين على هذا بما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الخمر من هاتين الشجرتين» وأشار إلى النخلة والعنبة.. بل لقد ذهب بعضهم إلى أن الخمر ما كان من العنب وحده، مستدلا على ذلك بقوله تعالى: «إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً» ومؤولا الحديث: «الخمر من هاتين الشجرتين» على أن المراد به شجرة العنب.. كما فى قوله تعالى: «يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ» والمراد أحد البحرين. وواضح أن هذا التأويل فاسد، لا يلتفت إليه، ولا يوقف عنده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 أما الوقوف بالخمر عند ما أخذ من العنب والنخل، فهو محمول على قوله تعالى: «وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً» (67: النحل) .. ولكن الحديث، وإن أشار إلى أن الخمر من النخل والعنب، فإنه لم يحصره فيهما، وكذلك الآية الكريمة.. وإن دل ذلك على أن أكثر ما كان معروفا متداولا عند العرب من خمر، هو ما كان من هاتين الشجرتين. إذ كانت النخيل والأعناب أكثر أشجار الفواكه، وأهمّها عند العرب، ولذلك كان وصف الجنات الدنيوية والأخروية، أبرز ألوانه النخيل والأعناب كقوله تعالى: «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ» (32: الكهف) .. وقوله سبحانه: «أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ» (244: البقرة) .. وقوله: «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً» (90- 91: الإسراء) . وإشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى النخل والعنب، تعنى أنه لم يكن من بين الأشجار القائمة بين يديه، والماثلة أمام عينيه، ما يتخذ منه الخمر غير هاتين الشجرتين.. يومئذ.. ولهذا، فإنه صلى الله عليه وسلم فى موقف آخر، لم يكن بين يديه أشجار، قال: «إن من العنب خمرا، وإنّ من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا، وإن البرّ خمرا، وإنّ من الشعير خمرا» .. وحصر النبي صلى الله عليه وسلم الخمر فيما صنع من هذه الأشياء، هو تقرير للواقع، ولو كان هناك مواد أخرى متخذ منها العرب الخمر لذكرها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 قال الخطابىّ فى تعليقه على هذا الحديث: «ليس معناه أن الخمر لا يكون إلا من هذه الأشياء الخمسة بأعيانها، وإنما جرى ذكرها خصوصا، لكونها معهودة فى ذلك الزمان، فكل ما كان فى معناها.. من ذرة، وسلت «1» ، ولبّ ثمرة، وعصارة شجرة، فحكمه حكمها» . وفى صحيح مسلم عن أنس قال: «لقد أنزل الله الآية التي حرّم فيها الخمر، وما بالمدينة شراب يشرب إلّا من تمر» . وفى صحيح البخاري عن أنس قال: «حرمت علينا الخمر حين حرّمت وما نجد خمر الأعناب إلا قليلا، وعامة خمرنا البسر والتمر» وعلى هذا، فمادّة الخمر لا معتبر لها فى تحريمه، وإنما المعتبر فى أية مادة هنا هو لبوسها لباس الخمر. أي أنها تسكر من يتعاطاها، وينال منها.. فكل ما أسكر فهو خمر، لأنه يخامر العقل، ويستره. وفى الحديث: «إن الخمر من العصير، والزبيب، والتمر، والحنطة، والشعير، والذرة، وإنى أنهاكم عن كل مسكر» (مختصر سنن أبى داود: للمنذرى حديث 332) .. وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال وهو يخطب: «نزل تحريم الخمر يوم نزل، وهى من خمسة أشياء: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير.. والخمر، ما خامر العقل..» . وقد اختلف الفقهاء فى صنعة الخمر كما اختلفوا فى مادتها، فقال بعضهم: الخمر ما خمّر، دون أن تمسّه النار، وأن ما طبخ بالنار فليس خمرا.. كذلك اختلفوا فى «النبيذ» وهو ما ينقع، فقال بعضهم: إذا تخمر وغلا ورمى بالزبد فهو خمر، قليله وكثيره حرام، وإذ لم يتخمر ويرمى بالزّبد، فإذا أسكر فهو مكروه، وإذا لم يسكر فلا شىء فيه.   (1) السلت: الشعير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 ومن هذه المقولات قول أبى حنيفة فى النبيذ: «الأنبذة كلها حلال إلا أربعة أشياء: الخمر، والمطبوخ إذا لم يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه، ونقيع التمر فإنه السّكر، ونقيع الزبيب» .. ويعلّق ابن حزم على هذا بقوله: «ولا خلاف عن أبى حنيفة فى أن نقيع «الدوشاب «1» » عنده حلال وإن أسكر، وكذلك نقيع الرّبّ، وإن أسكر» . وقال أبو يوسف- صاحب أبى حنيفة-: كل شراب من الأنبذة يزداد جودة على الترك فهو مكروه، ولا أجيز بيعه، ووقته عشرة أيام، فإذا بقي أكثر من عشرة أيام فهو مكروه، فإن كان فى عشرة أيام فأقل، فلا بأس.» وقال محمد بن الحسن- صاحب أبى حنيفة-: ما أسكر كثيره مما عدا الخمر أكرهه ولا أحرمه. «فإن صلّى إنسان وفى ثوبه منه أكثر من قدر الدرهم البغلىّ بطلت صلاته وأعادها أبدا» ويعلّق ابن حزم على هذا بقوله: فاعجبوا لهذه السخافات، لئن كانت تعاد منه الصلاة أبدا، فهو نجس، فكيف يبيح شرب النجس، ولئن كان حلالا فلم تعاد الصلاة من الحلال؟ ونعوذ بالله من الخذلان!! ثم يعلق ابن حزم على هذه الآراء جميعها- رأى أبى حنيفة وصاحبيه، فيقول: «فأول فساد هذه الأقوال أنها كلها أقوال ليس فى القرآن شىء يوافقها ولا شىء من السنن، ولا فى شىء من الروايات الضعيفة، ولا عن أحد من الصحابة رضى الله عنهم، ولا عن أحد من التابعين ولا عن أحد من خلق الله، قبل أبى حنيفة، ولا أحد قبل أبى يوسف فى تحديده عشرة أيام.. «فيالعظم مصيبة هؤلاء القوم فى أنفسهم، إذ يشرّعون الشرائع، فى الإيجاب   (1) الدوشاب: نقيع من الشعير، والرب: خثارة كل ثمرة بعد اعتصارها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 والتحريم والتحليل، من ذوات أنفسهم، ثم بأسخف قول وأبعده عن المعقول» «1» . وقد تتبع ابن حزم جميع الأدلة والأسانيد التي استند إليها أبو حنيفة وصاحباه فى رأيهم فى النبيذ، وفندها، فرد ضعيف أخبارها، أو تأولها على وجهها الذي يدعم وجهة نظره، فى دفع هذه المقولات، ودحضها. وفى هذا الجدل بين أصحاب تلك الآراء المختلفة، متعة ذهنية، ورياضة عقلية، لا شك فيها، ولكنها متعة تذهل الإنسان كثيرا عن الحقيقة التي بين يديه، وتفتح لذوى القلوب المريضة طريقا إلى الجمع بين المتناقضات من الآراء، فيأخذ من كل رأى ما يرضيه ويوافق هواه، فإذا دينه رقع مختلفة الألوان.. رقعة من هنا، ورقعة من هناك، وكلها- حسب رأيه- من الدّين ومن مقولات الأئمة الأعلام فى الشريعة!! وفى هذه القضية بالذات، أخذ قوم بهذا المذهب الذي يجمع بين متناقضات الآراء، ويتتبع ما يرضى هواه منها، دون نظر إلى حلال أو حرام.. وفى هذا يقول الشاعر متهكما بهذا التضارب فى شأن الخمر، التي ليس فيها إلا قولا واحدا، هو أنها الخمر، وأنها الحرام، قليلها وكثيرها سواء.. يقول الشاعر متهكما. أحلّ العراقىّ النبيذ وشربه ... وقال الحرامان: المدامة والسّكر «2» وقال الشآمى النبيذ محرّم ... فحلت لنا من بين قوليهما الخمر ويعنى الشاعر بهذا أن أبا حنيفة ومن تابعه (وهو عراقىّ) قد قال فى   (1) المحلى: لابن حزم- الجزء السابع. ص 562 وما بعدها. (2) المدامة هى الخمر، أي ما خمر من العنب وحده. على ما ذهب إليه بعض أصحاب أبى حنيفة، والسكر: نقيع التمر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 فى النبيذ قولا يخرجه به من الخمر، ويرفع عنه الحرمة المضروبة على الخمر، وأن أقصى ما يكون على شاربه أنه أتى فعلا مكروها إذا شرب حتى سكر. أما الحرامان عند أبى حنيفة ومن تابعه فهما المدامة (أي الخمر المصنوعة من العنب) والسّكر، وهى الخمر المصنوعة من التمر، فما خمّر من تمر وعنب فهو الخمر، وهو الحرام قليله وكثيره، أسكر أو لم يسكر، أما ما خمّر من غير العنب والتمر، فهو نبيذ- وقد عرفنا رأيه فيه. وأما الشآمى الذي يشير إليه الشاعر، فهو مالك وأصحابه، ومالك يحرّم النبيذ من أي شىء كان، إذا أسكر كثيره فقليله حرام، وهى الخمر التي حرمها الله.. والشاعر يرى بين يديه رأيين مختلفين فى النبيذ.. وكل رأى هو قول لإمام من أئمة الشريعة.. ولا على الشاعر أن يأخذ برأى أبى حنيفة فى النبيذ!! وهذه كلها مما حكات، تفسد على المرء رأيه، وتشرّد مجتمع عزيمته، وتقيمه من هذا المنكر بين الشك واليقين.. إذ ينظر فيرى وجوها من الخلاف فى أمر لا خلاف فى أنه منكر، وقد جاء القرآن الكريم صريحا قاطعا بتحريمه: «إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه» وجاءت السنة المطهرة تحكم هذا الحكم المحكم، فيقول النبي الكريم: «كل مخمّر خمر، وكلّ مسكر حرام، ومن شرب مسكرا بخست «1» صلاته أربعين صباحا.. فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة كان حقّا على الله أن يسقيه من طينة الخبال، قيل وما طينة الخبال؟ قال: صديد أهل النار»   (1) ومعنى بخست صلاته: أي كانت ناقصة، ولم يؤت أجرها كاملا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» . فكيف يزاغ عن هذا الحكم القاطع فى الخمر وحرمتها، أيّا كان الوجه الذي تظهر به، وأيّا كان لونها وطعمها؟ إن كل ما أسكر فهو خمر، قليله وكثيره حرام.. هذا هو حكم الله، والحلال بيّن والحرام بيّن.. والمرء مؤتمن على دينه، فما عرف أنه مؤثّر على عقله من شراب أو طعام، كان حراما عليه أن يذوق قطرة منه، أو يطعم أقل القليل منه. هذا هو فيصل الأمر فى الخمر.. وإذن فلا قول بعد هذا، ولا بحث فى مادتها، ولونها. فالعلة فى تحريم الخمر هى الإسكار والتأثير على العقل، تأثيرا يغيّر طبيعته، ويفقده توازنه، والعلة تدور مع المعلول وجودا وعدما.. وليست علة تحريم الخمر قلتها وكثرتها، وإنما علتها أنها الخمر، وأنها الحرام، وليس فى الحرام قليل وكثير.. فما حرم كثيره فقليله حرام، سدّا للذرائع.. حيث لا حجاز بين القليل والكثير، فقد يسكر بعض الناس من قطرات من الخمر بينما لا يسكر بعضهم إلا بما يملأ بطنه منها!! وأما مكان الخمر بين المحرمات، فأشهر من أن يدلّ عليه، فهى كبيرة الكبائر، وأم المحرمات. ولكن الذي دعانا إلى بحث هذا الأمر ما نسمعه يجرى اليوم على أفواه بعض المثقفين من الشبان، الذين لقّنوا تأويلات فاسدة، دخلت عليهم مدخل الدين، من مقولات الملحدين، الذين يكيدون للإسلام، ويثيرون فى وجهه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 العواصف، التي انتزعت أديانا كثيرة من مواطنها، فى الغرب والشرق! وهيهات أن تنال العواصف والزوابع من دين هو أرسخ من الجبال الراسيات! يقول بعض المتأولين: إن تحريم القرآن للخمر لم يكن تحريما قاطعا ملزما، وإنما هو تحريم أشبه بالكراهية، الأمر الذي يجعلها لا تدخل فى باب الكبائر من المحرّمات! وحجة القائلين بهذا القول، هى أن الله سبحانه وتعالى لم يقرنها بالمحرمات التي ورد فى القرآن الكريم النصّ على تحريمها بصريح اللفظ: «حرّم» أو «حرمت» مثل قوله تعالى: «وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً» (96: المائدة) وقوله تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ» (3: المائدة) وقوله سبحانه: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ» .. الآية (23: النساء) . هكذا يجى النصّ القرآنى بلفظ التحريم صريحا، فيما أراد الله تحريمه، من منكرات.. تحريما قاطعا جازما!! أما فى الخمر، فقد جاء النصّ فى معرض الحكم عليها بقوله تعالى: «رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ.، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» .. ولو كان من تدبير الشريعة تحريم الخمر تحريما قاطعا لجاء النصّ صريحا بلفظ التحريم هكذا: «حرمت عليكم الخمر» ! هكذا يهوّن هؤلاء المتألون من شناعة الخمر، ويستخفّون بجريمتها، ويجدون فى الإقدام على شربها ما يرفع عنهم كثيرا من آثامها.. فما شربها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 عندهم- وأمرها على هذا الوصف- إلا من قبيل الصغائر من الذنوب، أو إلّا من اللّمم المعفوّ عنه من الآثام! وكذبوا على الشريعة، وافتروا على كلمات الله! وقد بينا من قبل أن الأوصاف التي وصفت بها الخمر، بأنها رجس، وأنها من عمل الشيطان، وأنها توقع العداوة والبغضاء، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة- بيّنا أن هذه الأوصاف تضع الخمر على رأس المنكرات كلها، وتقيمها فوق كل كبيرة.. فالميتة والدم ولحم الخنزير، وغيرها مما حرم الله من طعام، وجاء تحريمها نصا بلفظ التحريم «حرمت» - لم توصف إلا بأنها فسق ولم تلحق بها تلك الأوصاف التي وصفت بها الخمر، بأنها رجس، وبأنها من عمل الشيطان، وأنها توقع العداوة والبغضاء، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة! .. ونقول لهؤلاء المتأولين لكلمات الله على هذا الوجه الجريء الفاسد: ألا تقوم تلك الصفات التي وصفت بها الخمر شهادة على أنها أشنع المحرمات، وأغلظ المنكرات؟ ثم ألا يكون أمر الله باجتنابها، ولو لم توصف بما وصفت به، حكما ملزما لكل مؤمن بالله أن يجتنبها اجتنابه للعدوّ المتربص به، الراصد لاغتياله والقضاء عليه؟ إن حكم الله على شىء، بأمر المؤمنين باجتنابه، هو حكم عليه بأكثر من الحكم بتحريمه.. إذ الأمر باجتناب الشيء يجعله تحت حكم مؤبد بحرمته، بحيث لا يحل أبدا بوجه من الوجوه، أو فى حال من الأحوال، وذلك بخلاف الأمور التي حكم الله بتحريمها ابتداء بصريح لفظ التحريم، حيث تجدّ ظروف وأحوال تغيّر من صفتها، وتنقلها من الحرمة إلى الحلّ أو الإباحة.. فالمطاعم التي حرمّها الله، من الميتة والدم ولحم الخنزير، وغيرها قد أبيح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 للمضطر أن ينال منها ما يحفظ عليه حياته، ولا إثم عليها فيما طعم منها.. وصيد البرّ، الذي حرّم على المحرم، يصبح مباحا بعد أن يتحلل المحرم من إحرامه.. والمرأة المحصنة- أي المتزوجة- محرمّة على غير زوجها، فإذا طلقت منه، وانتهت عدتها كانت حلّا لأى رجل مسلم، من غير محارمها، إذا هو تزوجها. أما ما أمر الله باجتنابه من منكرات، فلم يرفع عنه هذا الحظر بحال أبدا.. ففى قوله تعالى: «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» (30: الحج) أمر ملزم لكل مؤمن باجتناب هذين المنكرين ما دام على الإيمان: عبادة الأوثان، وقول الزور. وقوله تعالى: «وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ» (26: النحل) هو ملاك دعوة الرسل.. الإيمان بالله، وترك عبادة الأوثان.. فلا يكون فى المؤمنين أبدا من لم يجتنب عبادة الأوثان.. إنه مشرك بالله بلا ريب. وكانت دعوة إبراهيم إلى ربه قوله: «وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ» (35: إبراهيم) . فتجنب الشيء واجتنابه هو الابتعاد عنه، اتقاء للخطر المتوقع منه، إذا داناه الإنسان، فكيف إذا اختلط به، وسكن إليه؟ فالأمر باجتناب الخمر، وما أمرنا باجتنابه من منكرات، هو أمر ملزم مؤبد لافكاك منه أبدا، إلا فى حال الاضطرار الذي يشمل الخمر وغيرها من المحرمات. وهذا هو وجه من وجوه إعجاز القرآن، فى إلباس المعنى المراد، اللفظ المناسب له، والذي لا يصلح له غيره من ألفاظ اللغة العربية كلها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 والدّين- كما قلنا- هو أمانة بين العبد وربّه، والحلال بيّن والحرام بيّن، وخير للمرء أن يلقى الله عاصيا من أن يلقاه منافقا، يمكر به وبآياته، فذلك منكر إلى منكر وبلاء إلى بلاء، إذ هو إلى جانب ارتكاب المنكر، استخفاف بالله، وإنكار لعلمه به، وقدرته عليه.. الآية (93) [سورة المائدة (5) : آية 93] لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) التفسير: الجناح: هو اللّوم، والمؤاخذة، على أمر فيه حرج وضيق. وفى قوله تعالى: «لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا» بيان لسعة فضل الله على المؤمنين، وأنّه وقد أحل لهم الطيبات، وحرّم عليهم الخبائث، فإنهم فى سعة من أمرهم فيما يطعمون، حيث لا تطلب أنفسهم إلا الطيب، على حين تعاف الخبيث وتنفر منه.. فهم- والأمر كذلك- لا يجدون حظرا على أي طعام يشتهونه، ولا يستشعرون حرجا إزاء أي طعام حرّم عليهم.. إذ كان فى الطيب ما يصرفهم عن الخبيث الذي لا تشتهيه إلّا نفس خبيثة.. وقوله تعالى: «إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» هو قيد وارد على رفع الحرج عن المؤمنين فيما يطعمون، وفى استغنائهم عن الحرام بالحلال، وعن الخبيث بالطيب.. فالمؤمن إذا ما اتقى الله وعمل الصالحات.. صلحت نفسه، وطابت طبيعته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 فلا يجد فيما حرّم الله عليه من خبائث، تضييقا عليه، ولا حرجا على أي طعام يشتهيه، إذ كان إيمانه وتقواه، وملازمته لتقوى الله وطاعته- إذ كان كل ذلك قد عزل نفسه، وغضّ بصره عن النظر إلى هذه المحرّمات، وحسابها فيما يطعمه الناس. ولا شك أن هذه منزلة لا يبلغها الإنسان إلا بعد أن يروض نفسه على التقوى، ويذلّلها بالعبادات والأعمال الصالحة، التي تقيمها على الصبر، والتعفّف والقناعة.. إذ كانت شهوات النفس غالبة، وأهواؤها متسلطة، والخبائث محمولة إليها على يد شيطان يزين الخبيث ويغرى به.. «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ.. فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» .. فالمؤمنون الذين تخلو أنفسهم من التلفّت إلى تلك المحرمات، ولا يجدون لها فى صدورهم وسواسا يوسوس بها، أو داعيا يدعوهم إليها- هؤلاء المؤمنون هم قلّة فى المؤمنين.. هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم إزدادوا إيمانا بالتقوى والأعمال الصالحة، ثم لزموا طريق التقوى والإيمان، ثم انتهوا إلى التقوى والإحسان- فهؤلاء هم الذين يبلغون تلك المنزلة التي تطمئن فيها قلوبهم إلى الطيبات، وتنقطع فيها وساوس الشيطان لهم بالمحرمات، حيث ييأس من أن يلتفتوا إليه، أو ينزع بهم منزع إلى شىء مما فى يديه، من خبيث كل مطعوم ومشروب. فالآية الكريمة تكشف عن حقيقة الإيمان وأثره فى إقامة النفس على طريق تلتقى فيه لقاء مصافحا لما أحلّ الله من طيبات، حيث تجد فى ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 راحتها، وسعادتها، ولا تستشعر ضيقا عليها، ولا حرجا فى إقامتها على حدود هذا الحلال الطيب المباح لها.. وهذا هو السرّ فى التكرار الذي جاء عليه النظم القرآنى فى تلك الآية الكريمة، والذي اضطرب فيه المفسّرون اضطرابا مزعجا، وذهبوا فى تأويله مذاهب تدور لها الرءوس.. فقد وصف المؤمنون وصفا مكررا بالإيمان والتقوى، والعمل الصالح، والإحسان.. «الذين آمنوا وعملوا الصالحات.. ... اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات.. ... ثم اتقوا وآمنوا ... ... ثم اتقوا وأحسنوا ... » والسبب فى هذا الذي وقع فيه المفسرون من اضطراب هنا، هو أنهم نظروا جميعا إلى «الحرج» على أنه رفع الإثم والمؤاخذة على ما يناله المؤمنون بالله من أطعمة، بعد أن يتّصفوا بتلك الصفات. ولو أنهم نظروا- كما نظرنا بتوفيق الله- إلى «الحرج» على أنه ما يقع فى صدور المؤمنين من ضيق، إذا هم واجهوا المحرمات من المطعومات والمشروبات، حين يدعوهم إيمانهم وامتثالهم لأمر الله إلى التعفف عنها، والإمساك بأنفسهم عن الإلمام بها- لو أنهم نظروا تلك النظرة- لرأوا أن المؤمنين ليسوا على درجة واحدة فى موقفهم إزاء هذه المحرمات، وأنهم على منازل مختلفة منها.. فبعضهم ينتهى عنها، وفى صدره حرج وضيق، وفى كيانه مكابدة ومجاهدة.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 وبعضهم ينتهى عنها وفى نفسه ميل إليها، ورغبة فيها، ولكنّ خوف الله يغلّ يده، وخشية الله تكسر حدة مشاعره.. وبعضهم تراوده نفسه عليها، وتؤامره على الإلمام بها، ثم التوبة عنها.. وهكذا تتغاير منازل المؤمنين، وتتعدد مواقفهم، إزاء هذه المنكرات، بعدا وقربا، وصبرا، وجزعا، واطمئنانا وقلقا، واجتنابا ومقارفة. أما المنزلة التي يكون فيها المؤمن، وقد انعزلت مشاعره، وسكنت بلابله، فلم يكن لهذه المنكرات من المطاعم والمشارب نخسة فى نفسه، أو همسة فى صدره- فلن يبلغها المؤمن إلا بعد مجاهدة ومصابرة، وبعد طريق شاق طويل يقطعه مع الإيمان والتقوى والعمل الصالح، متنقلا من حال إلى حال، مرتفعا من منزلة إلى منزلة، حتى يكون المؤمن الرّبانى الذي يكون على الوصف الذي ورد فى الحديث القدسي: «ما يزال العبد يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها، وإن سألنى أعطيته، وإن استعاذنى لأعيذنّه» . ففى هذا الإنسان الرباني تموت كل نوازع الهوى، وتسكن كل دواعى الشهوة إلى محرم أو مكروه. وفى الفاصلة التي ختمت بها الآية الكريمة: «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» فى هذه الفاصلة ما يكشف عن هذه المنزلة التي تهتف الآية الكريمة بالمؤمنين أن يسعوا إليها، وأن يعملوا على بلوغها.. وتلك هى منزلة الإحسان، تلك المنزلة التي ذكرها الرسول الكريم فى قوله، وقد جاءه جبريل عليه السلام، وهو مع أصحابه فى صورة رجل يسأله عن الإيمان والإحسان.. فقال جبريل يا رسول الله: «ما الإسلام؟ قال ألّا تشرك بالله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 شيئا، وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتصوم رمضان.. قال: صدقت.. ثم قال يا رسول الله: «ما الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه، ولقائه، ورسله، وتؤمن بالبعث، وتؤمن بالقدر كله» قال صدقت.. قال يا رسول الله.. ما الإحسان قال: «أن تخشى الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك .... » الحديث كما رواه مسلم. فالإحسان هو أعلى درجات الإيمان: «أن تخشى الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه براك» . وتلك منزلة لا ينالها إلا المصطفين من عباد الله. ولهذا ضمهم الله إليه، وجعلهم من أصفائه وأحبابه فقال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ» . الآية (94) [سورة المائدة (5) : آية 94] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94) التفسير: مناسبة هذه الآية للآية التي قبلها، أنها تعرض للمؤمنين امتحانا يمتحن به إيمانهم، وتختبر به تقواهم، فيما هو من طعامهم، الذي بيّنت لهم حدود ما بين الحلال والحرام منه.. وأنه ليس على هذه الحدود وازع يزع المؤمنين عن الوقوف عندها إلا ما فى قلوبهم من إيمان وتقوى وإحسان. والمؤمنون المخاطبون هنا هم الذين فى حال إحرامهم بالحج أو العمرة. والصيد المبتلون به، والممتحنون فيه، هو صيد البر، لا صيد البحر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 وقد يراد بالمؤمنين من هم فى البيت الحرام.. ويكون المراد بالصيد ما احتمى بالبيت الحرام من طير، وحوّم فى سمائه. وقوله تعالى: «تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ» أي تطوله وتبلغه أيديكم ورماحكم، أي هو صيد واقع تحت قدرتكم على صيده من غير معاناة، أو بحث عنه، إذ هو قريب دان، يغرى بصيده. ومعنى الآية: أن الله- سبحانه وتعالى- سيضع المؤمنين موضع امتحان وابتلاء، فى هذا الصيد الذي يدنو منهم، ويعرض لهم، ويقع فى متناول أيديهم، ورماحهم، وهو لائذ بالحرم، ساكن إليه أو هو فى غير هذا الحمى، وهم محرمون بالحج أو العمرة. وقد حرّم الله على المؤمنين صيد هذا الحيوان المتعرّض لهم، الواقع لأيديهم مباشرة، أو على قيد رمح منهم- وهو لائذ بالحرم، أو هو خارج الحرم وهم محرمون، فمن صاد شيئا من هذا الحيوان، وهو فى حاله تلك، أو هم فى حالهم هذه، فقد أثم، وخان الله على ما أتمنه عليه من أحكام شرعه. وقوله تعالى: «لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ» إشارة إلى أن هذا الامتحان هو امتحان لما فى القلوب من إيمان وتقوى وإحسان.. حيث لا وازع يزع الإنسان هنا إلا إيمانه وتقواه.. فلا سلطان يحول بين المؤمن وبين هذا الصيد الذي بين يديه.. فمن غفل فى كيانه وازع إيمانه وتقواه كان له أن ينال من هذا الصيد ما يشاء، وعليه أن يلقى العقاب وأصوله. ومعنى علم الله هنا، هو العلم المسلط على الواقع بعد أن يقع، أما علمه سبحانه، فهو علم شامل محيط بكل ما كان وما سيكون، وما وقع أو سيقع.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 وفى هذا العلم المتسلط على الواقع يؤخذ الإنسان متلبسا بعمله، من خير أو شر، ومن هنا تصح محاسبته، ويكون ثوابه أو عقابه. وقوله تعالى: «فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ» .. الإشارة هنا فى «ذلك» واقعة على ما نصبه الله سبحانه وتعالى للمؤمنين من معالم الهدى، وما رسم لهم من حدود.. فمن اعتدى منهم بعد هذا البيان المبين فلا عذر له، وعليه جزاء المتعدى، وهو العذاب الأليم. الآيات (95- 96) [سورة المائدة (5) : الآيات 95 الى 96] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) التفسير: ما زالت الآيات، تتحدث إلى المؤمنين، ويناديهم الحق سبحانه وتعالى بهذه الصفة، صفة الإيمان، فيما يشرّع لهم من حدود ما يطعمون من طيبات، وما يتجنبون من خبائث. وواضح من هذا، عناية الشريعة الإسلامية بهذا الأمر، والتفاتها إليه، والتقاؤها بالمسلمين على كل طريق يكون لهم فيه داع يدعوهم إلى مطعوم أو مشروب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 ذلك أن أكثر ما يبتلى به المؤمنون فى دينهم ما كان مورده من جهة طعامهم.. إذ الطعام قوام الحياة، وإليه ينصرف أكثر جهد الإنسان وعمله، فإذا لم يتحرّ الحلال فيما يأكل، لم يتحرّ الحق فيما يعمل ويكسب.. ولهذا أعطى الله سبحانه وتعالى صفة الأكل لكل مال يقع ليد الإنسان من حرام، فقال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» (10: النساء) وقال سبحانه: «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ» (275: البقرة) وقال: «وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (188: البقرة) . من أجل هذا كانت عناية الشريعة تلك العناية البالغة ببيان الحلال والحرام، من طعام الإنسان وشرابه، ليقيم وجهه على ما أحلّ الله له من طيبات. وليعرض عما حرّم عليه من خبائث.. وفى هاتين الآيتين يبيّن الله سبحانه وتعالى للمؤمنين حكم الصيد، وما لهم منه، وما عليهم فيه، وهم محرمون. فيقول سبحانه وتعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ» والخطاب للمؤمنين، لأنهم أهل لأن يستمعوا لهذا النداء الكريم، وأن يستجيبوا له، وهم متحلّون بهذه الصفة، صفة الإيمان، وإلا فقد آذنوا أنفسهم بأن يتخلّوا عنها، وأن يكونوا من غير جماعة المؤمنين. والمراد بالصيد المنهي عن صيده هنا، هو صيد البرّ، ويكشف عن هذا المراد قوله تعالى «لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ» لأن صيد البحر لا يقتل، وإنما الذي يقتل هو صيد البر، كما يكشف عنه قوله تعالى بعد ذلك: «أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 وَطَعامُهُ ... » فهو استثناء وارد على تحريم الصيد، وبهذا يعرف المراد من الصيد المنهي عن صيده، وهو صيد البر. والنهى عن صيد حيوان البر مقيد بحال الإحرام فقط، أما بعد أن يتحلل المسلم من إحرامه فالصيد مباح له. وقوله تعالى: «وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ» وهو بيان للكفارة الواجبة، والدية المطلوبة من كل من قتل صيدا متعمدا وهو محرم.. وهذه الدية لا تفى بالمطلوب إلا إذا كانت مثل الحيوان المقتول، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ» أي فجزاء القاتل أن يغرم حيوانا مثل هذا الحيوان الذي قتله، إن لم يكن مثله عينا كان مثله قيمة وثمنا. وقوله تعالى: «يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ» هو بيان للعملية التي يتم بها تقويم الحيوان الذي قتل، وتحديد قيمته.. وذلك يكون بالرجوع إلى رجلين عدلين لهما نظر وخبرة، يحتكم إليهما فى تقدير قيمة هذا الحيوان.. وقوله تعالى: «هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ» هو حال من الضمير فى «به» الذي يعود إلى قوله تعالى: «فَجَزاءٌ» .. أي أن ما يحكم به الحكمان يساق هديا إلى إلى البيت الحرام «بالغ الكعبة» أي مساقا إلى الكعبة. وقوله تعالى: «أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً» هو تخيير فيما يجبر به هذا الذنب، ويقع كفارة له.. فالكفارة إما أن تكون هدايا يساق إلى الكعبة أي البيت الحرام، مقدّرا قيمته بقيمة الحيوان الذي قتل، وإما أن يكون بإطعام مساكين بقدر هذه القيمة، وإما بصيام يعدل ما كان يمكن أن يطعم من مساكين، من قيمة هذا الصيد المقتول. وهل يكون حساب الصوم باعتبار اليوم الواحد مقابلا لإطعام مسكين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 واحد، كما فى قوله تعالى: «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ» ، أو أن يكون الحساب قائما على أن يكون صوم كل ثلاثة أيام مقابلا لإطعام عشرة مساكين، كما قوله تعالى: «إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ، أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ» ؟ وهل يكون الصوم هنا متتابعا متصلا، أو مفرّقا غير متصل؟ والذي عليه أكثر المفسرين والفقهاء أن يكون الصوم يوما واحدا، فى مقابل كل مسكين يمكن أن يطعم من قيمة الحيوان المقتول. كما أنّ الذي عليه الرأى فى إفراد الصيام أو تتابعه، أن يكون باختيار الصائم، إن شاء أفرد أو إن شاء تابع ووصل. كذلك اتفق رأى المفسرين والفقهاء على أن قتل الصيد خطأ من المحرم، يلحق بقتله عمدا منه، حيث ثبت عندهم أن السّنة ألحقت قتل الخطأ بالقتل العمد فى هذا المقام. وأمر آخر.. لم اختلف النظم فى قوله تعالى: «هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً» ؟ ولم لم يكن العطف عطف نسق بين قوله تعالى: «هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ» وبين ما بعده.. «أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً» ؟ أو بمعنى آخر.. لم كان العطف على القطع، ولم يكن على النسق. مع أن الأمر على التخيير فيها جميعا بحيث يجزىء أىّ منها.. الهدى، أو الإطعام، أو الصيام؟ والجواب على هذا: أولا: أن تقويم قيمة الصّيد المقتول يكون منظورا فيه إلى حيوان آخر مثله، قيمة وقدرا، وأن ذلك الحيوان هو الأصل فى الموازنة بينه وبين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 الحيوان المقتول، فكان من الحكمة استحضاره فى تلك الحال، وجعله حالا قائمة فى نظر الحكمين اللذين يرجع إليهما فى الحكم فى هذا الأمر.. وذلك من شأنه أن يجعل الحيوان المقتول، والحيوان المنظور إلى إحلاله محله فى مجال نظر الحكمين، مما يجعل حكمهما أقرب إلى الصحة والسلامة. وثانيا: تأسيسا على هذا يصبح الحيوان الذي يساق هديا إلى الكعبة أصلا يقاس عليه، عند العدول إلى غيره، مما يساوى قيمته، من إطعام مساكين، أو صيام أيام تعادل ما يطعم من مساكين. ويكون تقدير النظم القرآنى على هذا الوجه «يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة، أو ما يقوم مقامه من إطعام مساكين، أو ما يعدل إطعامهم من صيام. ومن هنا كان القطع لازما، بعد تقرير الحكم، وتقدير الحيوان الذي يحلّ محلّ الصيد المقتول. وفى قوله تعالى: «لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ» الفاعل هنا هو المحرم الذي قتل الصيد، والوبال: هو السوء والضرّ، ومنه قولهم طعام وبيل، وماء وبيل، إذا كانا فاسدين لم تسفهما النفس، ومن ذلك قوله تعالى فى فرعون: «فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا» (16: المزمل) . وفى قوله تعالى: «لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ» تشنيع على الاعتداء على حرمات الله، وعلى العدوان على من لاذبحماه، ولو كان حيوانا أحل الله ذبحه وأكله، فمن فعل ذلك فقد عرّض نفسه لبلاء شديد يلقاه من عذاب الله. وتظهر بشاعة هذا الفعل، وشناعته من وجوه: فأولا: هذه الكفارة التي تقدّم بها قاتل الصيد فى الحرم، أو وهو محرم- هذه الكفارة عن تقديم هدى مثله إلى الكعبة أو إطعام مساكين أو صيام- الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 لم تكن لتغسل هذا الدّم الذي أريق، فمازال عالقا بمن أراقه بعض الإثم، ولهذا جاء التعبير القرآنى- فى أعقاب تقديم هذه القربات- بهذا اللفظ المؤذن بأن تلك القربات كانت ضربا من العقاب والنكال لمن قدمها: «لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ..» . وثانيا: أن الشريعة هنا لم تعف القتل الخطأ من إلحاقه بالعمد، وأخذ القاتل خطأ بما أخذ به القاتل عمدا.. وفى ذلك ما يشعر بأن القاتل عمدا هنا أشبه بمن قتل نفسا مؤمنة عمدا، وأنه إذا كان قد أخذ بما أخذ به القاتل خطأ، فذلك من فضل الله ورحمته بعباده.. فالشريعة الإسلامية قد رفعت الإثم عمّا وقع من المسلم خطأ من المنكرات. ولكنها فى باب الدماء، قد جعلت للخطأ وضعا خاصا، فلم تعف الذي قتل نفسا خطأ من الأخذ بشىء من العقاب، صيانة لدم الإنسان، وتكريما له أن أن يذهب هدرا من غير حساب.. «وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا» (91: النساء) وقد ألحق الحيوان اللائذ بحمى الله، بالإنسان.. وفى ذلك ما يوقع فى نفس المسلم كثيرا من التأثم والتحرج لأيّة قطرة دم تراق بغير حقّ، ولو كانت دم حيوان! ثالثا: فى التعبير عن صيد الحيوان «بالقتل» فى قوله تعالى: «لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ» -- فى هذا ما يشعر بأن عملية الصيد فى هذا الموطن، وفى تلك الحال هى عملية «قتل» .. تلك الكلمة التي تثير فى النفس مشاعر القتل الذي يقع على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 الإنسان، والذي يكاد يكون لفظا خاصا به. وإذا ذكرنا أن الأمة العربية- فى جاهليتها- كانت مستخفة بالدماء، مستبيحة لحرماتها، مستهينة بإزهاق الأرواح وإراقة الدماء- إذا عرفنا ذلك- لم نستغرب، ولم ندهش لهذا التدبير الحكيم فى أخذ النّاس بتلك الأحكام فى قتل الحيوان، فى حال ما، وهو الذي أبيح ذبحه وأكله، فى غير هذه الحال، فما كان لمجتمع ألف الولوغ فى دم الإنسان، أن تنتزع منه هذه المشاعر المتحجرة إلا بمثل هذا الأدب السماوي الحكيم. ثم إن هذا الأدب، لن يبطل حكمه، ولن تفتقد حكمته فى أي مجتمع، وفى أي زمان أو مكان.. فالناس هم الناس، فى عدوان بعضهم على بعض، وفى إراقة بعضهم دم بعض.. وحسب هذه الحروب المشبوبة اليوم، فى كل آفاق الأرض، وما يراق فيها من دماء، وما يزهق فيها من أرواح- شاهدا على أن الناس هم اليوم أشد حاجة إلى هذا الأدب السماوي من حاجة العرب الجاهليين إليه. وقوله تعالى: «عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ» هو رفع للحرج، وغسل الإثم الذي وقع لبعض المسلمين من قتل الصيد عمدا أو خطأ، قبل أن ينزل هذا الحكم، ويصبح أمرا ملزما، بعد أن بلّغه الرسول، وعرفه المسلمون.. قوله تعالى: «وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ» هو وعيد لمن تجاوز الله سبحانه وتعالى له، عما كان منه من هذا الأمر، قبل أن يأتى حكم الله فيه، ثم وقع منه هذا المحظور بعد النهى عنه.. فهو حينئذ معرّض لنقمة الله، واقع تحت عقابه.. «وَاللَّهُ عَزِيزٌ» لا يفلت من سلطانه أحد «ذُو انْتِقامٍ» يأخذ بمن اعتدى على حرماته، بنقمته، وعذابه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 قوله تعالى: «أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ» هو بيان من الله سبحانه وتعالى، يفرّق به بين حكم صيد البرّ وصيد البحر.. فإذا كان صيد البر قد أقيم عليه هذا الحظر فى حال الإحرام، فإن صيد البحر حلّ مباح، لا حرج على المحرم أن ينال منه ما يشاء، فيصطاده، ويبيعه، ويأكل منه.. «أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ» أي والأكل منه.. «مَتاعاً لَكُمْ» أي زادا لكم تتزودن به، وتطعمون منه.. «وَلِلسَّيَّارَةِ» أي وللسائرين الذين ليسوا فى حال إحرام.. أي أن صيد حيوان البحر يستوى فيه المحرم وغير المحرم، حيث لم يكن للإحرام أثر فى هذا النوع مما يصاد من حيوان. وقوله تعالى: «وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً» هو توكيد لحرمة صيد البر فى حال الإحرام، واحتراس من أن يكون رفع الحظر عن صيد البحر مؤذنا يرفع الحظر عن صيد البر، الذي تقرر حكمه من قبل، وفى هذا مزيد عناية بتقرير هذا الحكم الواقع على صيد البر وحراسة له من أن يقع فيه لبس، أو شك، ولو على سبيل الاحتمال البعيد. وقوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» هو حراسة مشدّدة على الحدّ الذي أقامه الله سبحانه وتعالى على حرمة صيد البرّ فى حال الإحرام أو فى الحرم.. وتلك الحراسة هى الخوف من الله، والتحذير من عقابه للخارجين على حدوده، والمعتدين على حرماته.. الآيات (100- 97) [سورة المائدة (5) : الآيات 97 الى 100] جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 التفسير: مناسبة هذه الآيات لما قبلها، أنها تحدّث عن مواطن حرمات الله، التي بينت الآيات السابقة بعضا منها. وقوله تعالى: «جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ» . القيام: التقويم، والإصلاح. أي أن الله سبحانه وتعالى جعل الكعبة، والبيت الحرام، المقام عليها- جعلها موطن إصلاح وهداية ورشاد للناس، حيث جعلها حرما آمنا، يفيض الأمن منها على كل كائن، من إنسان أو حيوان أو نبات.. بل لقد شمل هذا البلد كله الذي أقيم حول الكعبة، واحتمى بحماها، فكان هذا البلد أيضا حمى لكل من لاذبه، واحتمى فيه، وسكن إليه، استجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام: «رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً» . وقوله: «وَالشَّهْرَ الْحَرامَ» أي والشهر الحرام كذلك جعله الله ظرف أمن وسلام، وإصلاح لأمر الناس، حيث لا قتال فيه، والمراد بالشهر الحرام، الأشهر الحرم.. ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم ورجب، والتعبير عنها، بالشهر الحرام باعتبارها كيانا واحدا فى حرمة القتال فيها، وإن تفرقت أزمانا، واختلفت أسماء.. فهى بمنزلة شهر واحد.. وفى هذا ما يقيم شعور المسلم على حال واحدة فيها، وألا ينعزل عن هذا الشعور بانتقاله من شهر إلى شهر.. بل إن من الخير له أن يصل بعيدها بقريبها.. فشهر رجب وإن سبق الأشهر الثلاثة بشهرين، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 وتأخر عنها بستة أشهر، جدير به أن يوصل بها من طرفيه، وبهذا يكون العام كله شهر حرام، لا قتال فيه، وإن كانت الأشهر الحرم قد أفردت بهذا الحكم، فهو حكم واجب فيها، مستحبّ فى غيرها.. قوله تعالى: «وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ» معطوف على الشهر الحرام، الذي هو معطوف على الكعبة.. أي أن الحيوان المساق إلى البيت الحرام هديا له، والقلائد التي يقلّدها ويعلّم بها، هى من حرمات الله، التي ينبغى ألا يتعرض لها أحد بأذى أو عدوان، وفى هذا تأديب للناس، وتهذيب لهم، وإصلاح لأمرهم.. حيث يعفّ الإنسان عن الاعتداء على حرمات الناس، إذا هو امتثل أمر الله وكفّ يده عن العدوان على حرماته.. فى رعاية كل حرمة من هذه الحرمات هداية للناس، وتقويم لانحراف المنحرفين منهم، وتدريب لهم على الامتثال والطاعة، ورعاية الحرمات فيما بينهم. وبهذا تكون كل تلك الحرمات: «الكعبة البيت الحرام والشهر الحرام والهدى والقلائد» - قياما للناس وتسديدا لسلوكهم فى الحياة. قوله تعالى: «ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» .. الإشارة هنا إلى هذه الحرمات، التي جعلها الله قياما للناس، وإصلاحا لهم.. وقوله تعالى «لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» تعليل للحكمة التي تختفى وراء هذه الحرمات التي بيّن الله سبحانه وتعالى معالمها، وحدد حدودها، وأنها منصوبة للمؤمنين لتكون امتحانا لإيمانهم، وابتلاء لما فى قلوبهم من توقير لله، واحترام لحرماته، وذلك لا يكون إلا لمن آمن بالله، واستيقن من أنه سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عن علمه شىء.. فمن لم يؤمن بالله هذا الإيمان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 لم يقم فى كيانه شعور بمراقبة الله، أو التوقي من العدوان على حرماته، والتعدي على حدوده.. فهذه الحرمات التي نصبها الله لأعين المؤمنين هى تدريب لهم على التعرف على الله، حيث ينتهى بهم الوقوف إزاءها، وتحريم حرماتها إلى العلم بالله، وأنه سبحانه يعلم ما فى السموات وما فى الأرض، وأنه بكل شىء عليم.. وإذن فليس ثمرة هذه الحرمات فيما يجنى منها من إشاعة الأمن والطمأنينة بين الناس، بل إنها- مع هذا- تفتح فى قلب المؤمن طريقا إلى الله، يشهد منه سعة علمه، ونفوذ سلطانه، إلى ما تكن الضمائر، وما تخفى الصدور. وقوله: «اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» هو تعقيب على هذا الحظر الذي أقامه الله تعالى على حرماته، وحذّر الناس من العدوان عليها.. فهناك عقاب شديد راصد لمن اعتدى على حرمات الله.. وهناك غفران ورحمة لمن تاب ورجع إلى الله من قريب، واستغفر لذنبه، وندم على ما فرط منه. وقدّم عقاب الله هنا على مغفرته، لأن ذلك فى مواجهة حدود أقامها الله، وحذّر من مجاوزتها والاعتداء عليها، فناسب ذلك أن يجىء العقاب أولا لمن اعتدى على هذه الحدود، ثم تجىء الرحمة والمغفرة لمن أثم وأذنب ثم تاب واستغفر.. وقوله تعالى: «ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ» هو تنبيه للناس إلى أنه لا سلطان لأحد عليهم فيما يأتون من طاعات، أو يرتكبون من آثام، إلا أنفسهم، وما فى قلوبهم من إيمان، وما فى كيانهم من عزائم.. إذ ليس مع أوامر الله ونواهيه قوى مادية تقهر الناس على امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وإنما كل ما هنالك، هو دستور سماوى، وقانون إلهى، يحمله رسول من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 الله إلى عباد الله، ويبيّن لهم ما حمل إليهم من ربّه.. ثم يتركهم لأنفسهم.. فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.. ومن شاء فليستقم، ومن شاء فلينحرف: «ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ» وليس من رسالته أن يقهر الناس على الخير الذي يحمله إليهم: «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (99: يونس) . وقوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ» هو بيان لما بعد البلاغ الذي هو من عمل الرسول.. فهناك بعد أن يبلغ الرسول ما أنزل إليه من ربّه، يتولى الله سبحانه وتعالى مراقبة الناس فيما بلغهم إياه رسوله، واطلاعه سبحانه على ما يكون منهم من طاعة أو عصيان.. «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ» .. لا تخفى عليه منكم خافية، «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» (31: النجم) «فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» (40: الرعد) . وقوله تعالى: «قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ» هو إلفات للناس إلى ما بين الطيب والخبيث، من بعد بعيد. واختلاف شديد، فى الآثار التي تتبع كل منهما، وفى الثمار التي يجنيها الزارعون لهما.. من خير أو شر، ومن طيّب أو خبيث. فالطيب وإن بدا قليلا فى كمّه، هو كثير فى كيفه.. إنه نبتة من نبّات الحق، يزكو مع الزمن، ويعلو مع الأيام. إنه أشبه بالكلمة الطيبة، والشجرة الطيبة، لا تغرب شمسه، ولا تنقطع موارد الخير منه.. «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها» (54- 25: إبراهيم) . والخبيث وإن زها وازدهر، وانداح وامتدّ، هو كثير فى كونه، ضئيل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 فى قدره.. لا ظلّ له ولا ثمر فيه.. «وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ» (26: إبراهيم) . هكذا الطيب والخبيث، فى كل شىء، ومن كل شىء.. فى الناس، وفى الحيوان، والنبات والجماد، وفى المعاني والمحسوسات.. وفى القول وفى العمل.. الطيب حياة دائمة متجددة لا تموت أبدا.. والخبيث موات لا يمسك ماء ولا يطلع نبتا.. فالذين يستخفّون بالطيّب، لضمور شخصه، أو خفوت صوته، أو احتجاب ضوئه- إنما هم مخدوعون فى أبصارهم، مصابون فى بصائرهم، لا يرون من الأشياء إلا ظاهرها، ولا يعلمون من الأمور إلا قشورها، أما الصميم فهم فى عمّى عنه، وأما اللّباب فهم على جهل به.. «يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ» (7: الروم) . وقوله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» هو دعوة إلى أصحاب العقول أن يستعملوا عقولهم، وأن يفيدوا منها فى التعرف على الحق والخير، والتعامل مع الطيب والحسن، ففى ذلك يكون الفلاح، ونجاح المسعى. ودعوة ذوى الألباب إلى التقوى، هى الدعوة المرجوّ لها القبول والنجاح، حيث لا تحصّل التقوى إلا بالعمل الطيب، وحيث لا يتهدّى إلى الطيب، ولا يعمل له، ويتعامل معه، إلا أصحاب العقول السليمة، الذين احترموا عقولهم، وأخذوا بما تكشف لهم بصائرهم من معالم الحق والخير.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 الآيات (102- 101) [سورة المائدة (5) : الآيات 101 الى 102] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102) التفسير: مناسبة هذه الآية لما قبلها، هو أن التعرف على الحلال والحرام، والتهدّى إلى تمييز الطيب من الخبيث، يكون عن نظر وتقدير، كما يكون عن مدارسة، ومساءلة لأهل العلم والذكر، كما يقول الله تعالى: «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» (7: الأنبياء) . وقد أشارت الآية السابقة إلى التفرقة بين الخبيث والطيب، وأن الخبيث خسيس لا قيمة له، ولو لبس ثوبا من البريق الزائف الذي يخدع الحمقى والسفهاء.. وكان من هذا أن أكثر المسلمون من التنقيب والبحث، وتقليب الأمور على وجوهها، ليتعرفوا على ما ينكشف منها من طيب أو خبيث، ومن خير أو شر، ومن حق أو باطل.. وقد أغراهم بهذا أن الرسول الكريم قائم فيهم، مقام الشمس فى وضاءتها وامتداد سلطانها على الآفاق، فكانوا يلقونه- صلوات الله وسلامه عليه- بكل عارض يعرض لهم، وبكل شبهة تقع لأبصارهم، فيلقاهم الرسول الكريم بما يجلو الشّبه، ويكشف معالم الطريق إلى الحق والخير.. وقد تجاوز بعض المسلمين هذه الحدود فيما يعنيهم من أمر دينهم أو دنياهم، فجعلوا يسألون عن أمور لم تقع، قد افترضوا وقوعها، واستعجلوا الحكم الشرعي فيها.. وهذا من شأنه أن يجعل الرسول بين أمرين إما أن يجيبهم إلى ما سألوا، وإما أن يدعهم يسألون ولا يجيب. والأمر الثاني: إن أخذ به الرسول، ووقف عنده، أقام السائلين على قلق، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 وحيرة، فتذهب بهم الظنون كل مذهب، وتتشعب بهم الآراء فى كل وجه.. فكان لا بد- والحال كذلك- أن يلقى الرسول كلّ سائل بالجواب عما سأل، قبولا أو ردّا، وموافقة أو مخالفة ... وإذا علمنا أن القرآن الكريم كان ينزل منجّما، وأن التشريع الإسلامى جاء متدرجا، شيئا فشيئا، وحالا بعد حال، حسب تقدير العزيز العليم، وحكمة الحكيم الخبير، حتى تتأصل أصول الشريعة، وترسخ أحكامها، وتنزل من النفوس منزلة الاطمئنان والقرار.. فالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وهى أركان الإسلام، بعد الإيمان بالله- هذه العبادات لم تفرض على المسلمين مرة واحدة.. بل فرض بعضها فى مكة، قبل الهجرة، كالصلاة التي فرضت بعد الإسراء، ثم فرضت الزكاة، والصوم- فى السنة الثانية بعد الهجرة، ثم الحج، الذي كان آخر ما فرض من العبادات!. - إذا علمنا هذا، كان لنا أن نسأل: ماذا يكون الأمر لو سأل سائل من المسلمين النبىّ صلى الله عليه وسلم وهو فى مكة لم يهاجر بعد- عن الزكاة، أو عن الصوم مثلا؟ أكان الجواب بأن الزكاة فرض على المسلمين، أو أن الصوم المفروض عليهم هو صوم رمضان؟ كان لا بد إذن أن ينزل قرآن فى هذا، وأن يعجّل بأمر لم يرد الله تعجيله، لحكمة أرادها، ولتقدير قدره. إذن، فإن من الخير للمسلمين أن يسكتوا عما سكتت السريعة عنه، إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 أن تقول كلمتها فيه، أو تدعه فلا تقول شيئا عنه.. وفى هذا وذاك خير للمسلمين، ورحمة بهم، وإحسان إليهم. ولهذا جاء قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ» والأشياء المنهىّ عن السؤال عنها ليست الأشياء جميعها على إطلاقها، وإنما هى الأشياء التي يترتب على إقرار الشريعة لها، وأخذ المسلمين بها إضافة تكاليف وأعباء، كتحريم أمر كان غير محرم، وحظر طعام كان مباحا.. ونحو هذا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ» أي إن انكشف لكم حكم الشريعة فيها ساءكم، وشق عليكم، وأعنتكم.. وفى هذا يقول الرسول الكريم: «ذرونى ما تركتكم.. فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشىء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شىء فدعوه» . واستمع إلى قوله تعالى: «وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ... » (25 محمد) .. فقد سأل المسلمون النبىّ أن تنزل عليهم كلمة الله فى القتال، وحكمة فيه، فلما نزلت سورة محكمة، أي جلية واضحة، لا تحتمل تأويلا، وجاء أمر القتال فيها واجبا ملزما- ساء ذلك كثيرا من النفوس، وثقل عليها احتماله، أما الذين احتملوه فاحتملوه على جهد ومشقة.. واستمع بعد ذلك إلى قوله سبحانه: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ» (77: النساء) فالذى كان مطلوبا أولا من المسلمين أن يكفّوا أيديهم عن الإثم والعدوان وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة.. وكان ذلك أول الإسلام، وعلى الخطوات الأولى من مسيرة المسلمين فيه.. ثم كان بعد ذلك أن فرض الله عليهم القتال، فرضه عليهم بعد أن قطع بهم على طريق الإسلام تلك المرحلة التي دربوا فيها على الطاعات، وتوثقت فيها صلتهم بالله فماذا كان بعد أن كتب عليهم القتال؟ لقد تمنى كثير منهم ألا يكون هذا الحكم فريضة واجبة عليهم.. لقد ضاقت به نفوس، ووجفت منه قلوب.. فكيف كان الحال لو أن الأمر بالقتال جاءهم ابتداء، فكان فرضا لازما من أول يوم الإسلام؟ كان من الخير إذن للمسلمين ألا يسألوا عن مثل هذه الأشياء، وألا يفتحوا على أنفسهم أبوابا من الأعباء، سدّها الله دونهم، وعافاهم مما يجيئهم منها من تكاليف وواجبات.. لا عن نسيان منه، سبحانه، وتعالى عن ذلك علوّا كبيرا، ولكن كان ذلك رحمة وفضلا وإحسانا.. يقول الرسول الكريم: «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تصيّعوها، وحدّ حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء، فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تسألوا عنها» .. وفى الحديث، أنه لما نزلت آية الحج، نادى النبي صلّى الله عليه وسلم فى الناس فقال: «أيها الناس.. إن الله قد كتب عليكم الحج فحجّوا» فقالوا يا رسول الله: أعاما واحدا أم كل عام؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 فقال: «لا، بل عاما واحدا، ولو قلت كلّ عام لوجبت، ولو وجبت لكفرتم!» أي لم تستطيعوا الوفاء بما فرض عليكم، وفى هذا مخالفة لحكم من أحكام الله، وتضييع لفريضة من فرائضه، وذلك هو كفر بالله. وقوله تعالى: «وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ» . المراد بقوله تعالى: «حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ» أي حين تجىء آيات الله فى الوقت المقدور لنزولها، بما تنزل به من أحكام، حتى يتم نزول القرآن الكريم كله.. فإن بقي فى نفوسهم شىء بعدها سألوا عنه.. وفى هذا إشارة إلى أن أحكام الشريعة كانت تتنزل بقدر مقدور لها، وبتوقيت محدد لنزولها.. فإذا جاء القرآن بحكم من الأحكام، كان السؤال مطلوبا من المسلمين عما خفى عليهم من هذا الحكم الذي جاء به، على أن يكون ذلك موقوفا به عند حدود الحكم، وفى بيان محتواه.. أما مجاوزة هذه الحدود فهى مما نهى عنه. وهى من التنطع والتكلف الذي لا يجرّ وراءه إلا الحسرة والندم، كهذا السؤال الذي سئله الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وهو يدعو الناس إلى أداء فريضة الحج.. فقد كان أمر الرسول واضحا محددا، وكذلك ما نزل به القرآن فى أمر الحج «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» فالسؤال بعد هذا عن الحج، وهل هو كل عام، أو مرة واحدة- فيه تكلف لا مبرر له، ولا حاجة إليه. وقوله تعالى: «عَفَا اللَّهُ عَنْها» الضمير هنا يعود إلى تلك الأشياء التي كانت مباحة للمسلمين فى أول الإسلام، ثم جاء الإسلام، فى زمن متراخ فحرمها عليهم.. كالخمر، والربا، والزواج من زوجات الأبناء من الأصلاب وكثير غير هذا، مما حرمته الشريعة، من أمور كان يأتيها الجاهليون وجرى عليها المسلمون فى أول الإسلام.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 فهذه الأشياء قد عفا الله عنها، فلا يؤاخذهم عليها، وإن كانوا قد فعلوها وهم مسلمون، إذ لم يكن قد جاء حكم الشريعة فيها.. وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ» إشارة إلى أنّ فى مغفرته ما يسع هذه المنكرات التي أتاها المسلمون، وهم مسلمون، ووجدوا فى أنفسهم حرجا منها، وضيقا بها، وإن كانوا لم يتلقوا حكم- الله فيها.. فهذه مغفرة الله تدفع عنهم هذا الحرج، وتذهب بما فى صدورهم من ضيق.. وهذا حلم الله يأخذهم بالأناة واللطف، فيما يشرّع لهم من أحكام.. إنه- سبحانه- يقبلهم مسلمين بما كانوا عليه، وبما فعلوه مما لم ينههم عنه من قبل.. فليرفقوا بأنفسهم، ولا يعجلوا بالسؤال عن حلّ هذا الشيء أو حرمته، حتى يأتيهم أمر الله فيه.. وقوله تعالى: «قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ» . الضمير فى «سألها» يعود إلى تلك الأشياء التي لم تقل الشريعة قولا فيها، بحلّ أو حرمة. والقوم هنا، هم بنو إسرائيل.. والمعنى أن بنى إسرائيل سألوا رسلهم عن كثير من أمور لم يأتهم الرسل بحكم الله فيها، فلما جاءهم الحكم فيما سألوا عنه، كفروا به، ولم يمتثلوا حكم الله فيه. وما كان أغناهم عن أن يسكتوا.. ولكن القوم بما ركّب فيهم من لجاج وعناد وخلاف، لا يدعون لرسول من رسل الله فيهم، سبيلا، إلا أخذوه عليه، يسألون ويلحفون فى السؤال، فى كل صغير وكبير، وقريب وبعيد! ثم ما كان أولاهم إذا لم يسكتوا أن يتقبلوا جواب ما سألوه عنه، وأن ينزلوا على مقرراته، ويقفوا عند حدوده.. ولكنهم لم يسألوا ليهتدوا من ضلال، وليبصروا من عمى، ولكن كانت أسئلتهم مماراة، ومماحكة، وإعناتا! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 الآيات (104- 103) [سورة المائدة (5) : الآيات 103 الى 104] ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104) التفسير: البحيرة: الناقة التي بحرت أذنها أي شقت ليكون ذلك معلما لها وكان الجاهليون يفعلون ذلك بالناقة إذا نتجت خمسة أبطن وكان آخرها ذكرا.. فيشقّون أذنها، ويحرمون ركوبها، وأكل لحمها، والتعرض لها إذا وردت ماء أو كلأ. والسائبة: وهى الناقة التي تسيّب، وتترك، وفاء لنذر ينذره صاحبها، إذا برأ من علة، أو نجا من مهلكة: أو سلم من قتال.. مثلا. والوصيلة: وهى من الغنم، وذلك أن الشاة كانت إذا ولدت ولدا ذكرا جعلوه لآلهتهم، وإذا ولدت أنثى جعلوها لهم، وإذا ولدت ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم..! والحامى: هو الذكر من الإبل، إذا نتجت من صلبه عشرة أبطن، قالوا قد حمى ظهره، فلا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا كلأ.. وهذه الآية كأنها جواب لسؤال كان من الأسئلة التي تتوارد على خواطر المسلمين، حين نهوا عن أن يسألوا عن أشياء إن تبد لهم تسؤهم، وأن يدعوا السؤال عن تلك الأشياء التي تدور فى خواطرهم، أو تتحرك على شفاههم، حتى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 ينزل القرآن، أي حتى يتمّ نزوله، فإن بقي فى أنفسهم شىء لم يبينه القرآن لهم، كان لهم أن يسألوا. فقوله تعالى: «ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ» هو بيان لحكم شرعىّ، جاء فى مرحلة متأخرة من حياة الدعوة الإسلامية، وقد عاش المسلمون زمنا وهم متلبسون بهذه الأشياء، لم ينكروها على من أخذ بها منهم، إذ لم يكن قد جاء حكم شرعىّ فيها بعد.. فهذه السوائم، قد عقد العرب فى جاهليتهم معها روابط وصلات، أشبه بالعهود والمواثيق.. قد ألزموا أنفسهم حيالها أمورا اتخذت صبغة عقائدية، لا يمكن أن يتحلّلوا منها.. فإذا ولدت الناقة كذا، أو الشاة كذا، أو علق من الفحل كذا وكذا من النّوق.. أو نحو هذا- كان أمرا لازما أن يمضى الرجل منهم ما جرت به تلك العادة التي اعتادوها، فإن لم يمضها توقّع أن يحلّ به البلاء، وتنزل به المكاره، فى نفسه، أو ولده وأهله، أو ماله.. كأنّ قوى خفيّة وراء هذه السوائم، تقتصّ لها، وتأخذ بحقها ممن نقض ميثاقه معها.. وهذا مدخل كبير من مداخل الشرك بالله، وذريعة من الذرائع المؤدية إليه. وقوله تعالى: «ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ.. الآية» نفى لهذه المعتقدات السيئة القائمة بين الناس، وأنها لم تكن مما شرع الله، ولكنها ممّا ولدته الأهواء المضلّة، وأملته العقول المظلمة.. وفى قوله تعالى: «وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» بيان لموقع هذه المنكرات من الحق، وأنها أبعد ما تكون منه، إذ هى من مفتريات الكافرين وأباطيلهم، يضيفونها كذبا إلى الله، وينسبونها زورا إلى دينه.. «وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 وقوله تعالى: «وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» هو كشف لحقيقة هؤلاء الكافرين، وما فى أيديهم من مفتريات وأباطيل.. فإن أكثر هؤلاء الضالين لا يعقلون، لأنهم لو عقلوا لما حملوا فى نفوسهم هذا التوقير لتلك الأباطيل، ولرأوا أنهم قد أذلّوا أنفسهم، واسترخصوا عقولهم، فأعطوا ولاءهم لتلك الحيوانات، وجعلوا لها سلطانا عليهم، لا ينازعونها فيه، ولا يخرجون عن حدوده معها. وقوله تعالى: «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا» .. هو تسفيه لأحلام هؤلاء الضالين.. فقد أطبق عليهم الجهل، واشتمل عليهم السّفه والضلال. فليس مصيبة الإنسان فى أن يضلّ عن جهل، أو يتعثّر من عشى أو عمى، ولكن المصيبة كلها فى أن ينبّه من ضلاله ثم لا ينتبه، ويقاد من يده فيأبى أن يتبع قائده.. إن ذلك هو الضلال المبين، والتّيه الذي لا عودة منه، ولا أمل فى نجاة وراءه. فهؤلاء الضالون إذا دعاهم داعى الحق إلى أن يردّوا من شرودهم، وإلى أن يعودوا إلى كتاب الله، وما تحمل آياته البينات من هدى ونور، وإلى رسول الله، وما يحمل بين يديه وعلى شفتيه من أقباس الحق وأضوائه- إذا دعوا إلى هذا الهدى، لوّوا رءوسهم، ولووا وجوههم، وقالوا «حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا» أي أن هذا الذي نحن فيه هو الخير لنا، والسلامة لأنفسنا ولأهلينا.. إننا نحيا حياة آبائنا، ونسعى سعيهم، ونقفو آثارهم.. إننا- والحال كذلك- نسير على طريق معلوم، مأنوس بخطو آبائنا وأجدادنا، فكيف ندعى إلى السّير فى طريق لم يسلكه أحد قبلنا؟ وكيف نغامر هذه المغامرة بالدخول فى تلك التجربة الجديدة، التي لا ندرى ما وراءها؟. وقد ردّ القرآن الكريم على هذا السفه، وهذا الجمود الغبيّ، بما يفحم ويخرس. «أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون؟» .. أفهذا منطق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 يأخذون به أنفسهم؟ وتلك حجة يقيمونها بين يدى ضلالهم وغيّهم؟ إنه لو أخذت الحياة بهذا المنطق، وقبلت هذه الحجة، لكان على الناس أن يمسكوا بالزمن أن يتحرك، وبالأشياء أن تظل على حال واحدة، لا تتحول عنها أبدا. ولكن أنّى للناس أن يفعلوا هذا؟ وأنّى للحياة أن تستجيب لهم لو أرادوا؟ إن الحياة وأشياءها فى تحول وتطور.. وفى كل لحظة تلبس الحياة ثوبا جديدا، وتبلى قديما.. وهكذا تبلى وتجدّد: وتخلع وتلبس.. وماذا يبقى للإنسان من عقله، بل ماذا يبقى له من وجوده، إذا لم يكن له حرية التحرك فى الحياة، والنظر فى كل جديد يطلع عليه منها، ثم الأخذ بما يقضى به العقل المتحرر من قيود التقاليد، ممّا يراه حقا وخيرا؟ وإنه لبالغ من ذلك ما فيه خيره وسعادته، إذ لا يغيب عن نظر العاقل وجه الخير، ولا تخفى عليه سمته.. فالحلال بين والحرام بيّن.. «وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ» (19- 22: فاطر) «وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ» (12: فاطر) . الآية (105) [سورة المائدة (5) : آية 105] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) التفسير: وإذا كان الحلال بيّنا والحرام بيّنا، وإذ قد دعى الضالون، إلى الهدى، فلم يسمعوا، ونودوا من قريب إلى الرشاد فلم يرشدوا. «وقالوا حسبنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 ما وجدنا عليه آباءنا» - إذ كان ذلك فلا يشغل المؤمنون أنفسهم بهم، ولا يقفوا طويلا معهم على هذا المرعى الوبيل، الذي يرعون فيه، فلربما غفل المؤمنون عن أنفسهم وهم على هذا الموقف، وفاتهم ما كان ينبغى أن يحصلوه لأنفسهم من خير.. وفى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ» دعوة للمؤمنين أن يلتفتوا إلى أنفسهم أولا، وأن يعملوا على تحصينها من مسارب الضلال، وتزويدها بالمزيد من البر والتقوى.. فإنهم إن أنقذوا أنفسهم أولا كان ذلك كسبا لهم، وللحياة الإنسانية.. وذلك ما ينبغى أن يكون موضع نظرهم، ومحل اهتمامهم أولا، فإن بقي عندهم بعد هذا فضل من قوة لاستنقاذ من إذا مدوا إليه أيديهم استجاب لهم، فعلوا، وإلا كان عليهم أن ينجوا بأنفسهم، وألّا يكونوا كمن يمد يده إلى غريق يأبى إلا أن يموت غرقا، فيهلك ويهلك من أعطاه يده. وهذا، لا يمنع المؤمن أن يكون رسول خير وهدى إلى الناس، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، فهذا من دعوة الإسلام له، ومن حق العباد عليه. ولكن لن يكون ذلك بالذي يذهله عن نفسه، ويشغله عن مطلوبها منه، فى تحصيل ما يقدر عليه من البر والتقوى. فالآية لا تعنى أبدا أن يعتزل المسلم الناس، وأن يعيش لنفسه وفى داخل نفسه، ومن فهمها على هذا الوجه فقد أخطأ الفهم، وجانب الصواب.. وإنما الآية دعوة إلى النّجاة بالنفس فى الحال التي يواجه الإنسان فيها سرّا صارحا، وضلالا، متكاثفا، بحيث لا يصل إلى الآذان صدى من كلمة حق تقال، ولا ينفذ إلى العيون لمعة من مصباح هدى يضىء.. روى أن أبا ثعلبة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، فقال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 صلوات الله وسلامه عليه: «ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت دنيا مؤثرة، وشحّا مطاعا، وهوى متّبعا، وإعجاب كلّ ذى رأى برأيه، فعليك بخويصة نفسك، ودع الناس وعوامّهم» .. وتجد فى قول الرسول الكريم، وفى تلك الكلمات الموجزة، أوضح بيان وأبلغ بلاغ فى الدلالة على مفهوم الآية الكريمة.. ففى قول رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: «ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر» هكذا بخطاب الجمع، هو دعوة عامة للمسلمين جميعا، أن يكون أمرهم بينهم قائما على هذا الدستور: الائتمار بالمعروف، والتناهى عن المنكر.. وفى قوله صلوات الله وسلامه عليه: «حتى إذا رأيت دنيا مؤثرة وشحّا مطاعا وهوى متّبعا، وإعجاب كل ذى رأى برأيه فعليك بخويصّة نفسك ودع الناس وعوامهم» . فى هذا بيان لموقف آخر من موقف المسلم فيما هو مطلوب منه، من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وفى كلمة «حتى» إشارة إلى تلك الغاية التي يصل إليها المسلم، ويقف عندها على النظر إلى خاصة نفسه، وذلك حين يستشرى الفساد، ويطبق الظلام، ويتلفت إلى الناس من حوله، فإذا هم على طريق وإذا هو على طريق.. ولهذا جاء الخطاب بلفظ المفرد، «حتى إذا رأيت» الذي يشعر بأنه يقف وحده، جبهة مواجهة لهذا البلاء لجارف، الذي إن لم يأخذ فيه لنفسه حذرها، جرفه التيار، وغرق مع المغرقين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 الآيات: (106- 108) [سورة المائدة (5) : الآيات 106 الى 108] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108) التفسير: هذه الآيات الثلاث تعرض لأمر كان يقع كثيرا فى حياة المسلمين وهم على سفر، لغزو أو تجارة، وبمنقطع عن أهليهم وذوى قرابتهم.. فيمرض أحدهم، ويجد ريح الموت دانية منه، وبين يديه مال أو متاع، يريد أن يصل إلى ولده وأهله.. تلك هى المشكلة التي عرضت لها هذه الآيات، وجاءت لتضع العلاج السليم لها، حتى تصل الحقوق إلى أهلها، وحتى يموت الميت وهو مطمئن إلى أنه لن يعتدى على ماله، وهو لا يملك أن يدفع هذا الاعتداء، وقد أصبح فى عالم الموتى! والملاحظ فى هذه الآيات أنها جاءت على نظم خاص، وأسلوب يكاد يكون فريدا فى القرآن الكريم.. فقد كثر فيها الخروج على مألوف النظم القرآنى، خروجا متعمّدا.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 فهناك تقديم وتأخير.. بحيث تبدو الجمل، وكأنما يدفع بعضها بعضا، ليزيله عن موضعه قسرا.. وهناك جمل اعتراضية، تكاد تعزل المبتدأ عن خبره، والفعل عن فاعله.. بحيث لا يهتدى إلى الجمع بينهما إلا بعد نظر دقيق، وبحث شامل.. وهناك ضمائر يتجاذبها أكثر من عائد يريدها أن تعود إليه، وتلتقى به.. ثم هناك هذا العسر الشديد فى التقاط الكلمات، وشدّها إلى اللسان، وجمعها عليه.. هذا وذاك كلّه، مما يجعلنا نقف بين يدى هذه الآيات، ونملأ العين والقلب من بعض ما يفيض من أضوائها، لعلّنا نمسك بشىء من الحكمة فى قيام بنائها على هذه الصورة الفريدة فى النظم القرآنى! ونقرأ الآيات مرة ومرة، فإذا هى كعهدنا بها تتأبّى على اللسان، وتكاد تمسك به.. ثم نعود فنقرؤها قرآنا مرتلا، ونجيئها مستصحبين قوله تعالى: «وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا» ، فإذا هى كلمات متناغمة، يأنس بعضها إلى بعض، ويتجاوب بعضها مع بعض، وإذا هى على اللسان ليّنة المسّ، عذبة المذاق، وإذا هى على الأذن لحن موسيقى، علوىّ النغم، يهزّ القلب، ويمسك بمجامعه! وننظر فى وجه الآيات مرة أخرى، فإذا هى مسفرة مشرقة، تتلألأ بأضواء الحكمة والموعظة الحسنة، وإذا بنا منها بين يدى دعوة قاهرة، وسلطان غالب، يلزمنا أن نقف عند حدوده، ويمسكنا أن نفلت من بين يديه، إذا نحن حاولنا ذلك، واستجبنا لداعى أنفسنا للإفلات منه.. ونسأل: ما حكمة هذا التدبير فى النظم الذي جاءت عليه تلك الآيات؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 ولم هذا الخروج الذي جاء عن عمد، على غير المألوف من النظم القرآنى؟ والجواب: أولا: أن هذه الآيات تضبط حالا من أحوال الناس، تقع على صورة غير مألوفة لما تجرى عليه حياتهم، فى الغالب الأعمّ منها.. فالناس أكثر ما يموتون، يموتون وهم بين أهليهم، وذوى قرابتهم.. حيث يجد من يحضره الموت منهم، الوجوه التي ألفها، وعاش معها، وأودعها سرّه وما ملكت يمينه.. فلا يجد- والحال هذه- من الوحشة للموت، أو الفزع منه، والخوف الكارب من الضياع له، ولماله ومتاعه الذي بين يديه، ما يجده ذلك الذي يموت غريبا، فى طريق سفر، أو دار غربة.. ومن هنا جاءت كلمات الآية متزاحمة، متراكبة، أشبه بتلك الحال القلقة المضطربة، المستولية على هذا الغريب الذي يحضره الموت، وفى صدره كثير من الأسرار، يريد أن يفضى بها إلى أهله، ويكشف مستورها لهم. هذه واحدة! وثانيا: الذين حضروا هذا الميت الغريب، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة من الحياة، قد شهدوا منه هذا الاضطراب المستولى عليه، وتلك الوحشة التي تمسك لسانه، وتردّ الأسرار التي تضطرب فى صدره.. ثم إذ هم يطلّون عليه بنظرات حزينة، مواسية، يرى أنهم أهل لأن يفضى لهم ببعض ما عنده.. إذ كان ما لا بد أن يكون.. وهنا شدّ وجذب، وأخذ وعطاء، وخواطر متناثرة، وكلمات حذرة قلقة، ملفّفّة فى دخان من الريبة والشك، وأسرار تمشى على استحياء، يعرّف بعضها ويعرض عن يعض.. ومن هنا أمسك النظم القرآنى بهذه المشاعر المختلطة المضطربة، وعرضها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 فى هذه الصورة، التي تكاد تكون وعاء حاملا لتلك المشاعر، بحيث ترى وتحسّ. وتلك أخرى.. وثالثا: هذا المتاع الذي بين يدى هذا الإنسان المحتضر.. إنه متعلق بأكثر من جهة.. فهناك صاحب هذا المتاع الذي يريده أن يبلغ أهله، وهو فى شك من أن يصل إليهم سالما.. وهناك الشاهدان اللذان أشهدهما المحتضر على وصيّته، ووضع فى أيديهما كل ما فى يده.. إنهما يحملان أمانة ليس وراءها من يطالبهم بها، إلا ما معهما من إيمان وتقوى.. وما أكثر وساوس النفس فى تلك الحال، وما أكثر نداءها الصارخ لاغتيال هذا المال الذي غاب عنه صاحبه.. إن لم يكن كله، فالخيار الكريم منه. وهناك ورثة صاحب هذا المال، ومن أوصى لهم بشىء منه.. إنهم مهما حرص الشاهدان على أداء الأمانة كاملة فيما اؤتمنا عليه، ومهما تحرّيا الصدق فى قولهما، وفيما أدى إليهما هذا الميت من اعترافات وأسرار وأموال- فلن يقع هذا كله من أهل الميت موقع اليقين والطمأنينة.. من أجل هذا أيضا كان تنازع الكلمات القرآنية فيما بينها، حتى لكأنها هذه الجهات المتنازعة المتخاصمة، فى مسارب نفوسها، وفى مجرى خواطرها، حتى وإن لم يتخذ هذا النزاع وذلك التخاصم صورة عملية فى واقع الحياة..! وقد آن لنا- بعد هذا- أن ننظر فى معنى هذه الآيات، على هذا الوجه الذي فهمناها عليه، ونظرنا إليها منه.. فقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ.» هو تشريع للمؤمنين، فيما يواجهون به موقفا كهذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 الموقف، وهو موت أحدهم، وهو يضرب فى الأرض، بعيدا عن أهله، وذوى قرابته. ففى تلك الحال ينبغى أن يتخيّر المحتضر شاهدين، يتوسم فيها الأمانة والاستقامة، ثم يدعوهما إليه، ويفضى إليهما بما يريد أن يوصى به أهله فيما خلّفه وراءه من شون تتصل بماله وأهله، وماله، وما عليه.. ثم يسلّم إليهما ما يريد أن يحملاه إلى أهله، من ماله ومتاعه. فقوله تعالى: «شَهادَةُ بَيْنِكُمْ» مبتدأ، خبره «اثنان» . والجملة الخبرية هنا مراد بها الأمر والإلزام.. والتقدير، إذا حضر أحدكم الموت فشهادة قائمة بينكم لهذا المحتضر، يشهدها اثنان ذوا عدل منكم.. أي من المؤمنين. «أو آخران من غيركم» أي غير المؤمنين، عند الضرورة. وقوله تعالى: «فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ» إشارة إلى أن هذا الموت الذي يقع فى الغرية هو شىء أكثر من الموت، لما يبعث من حسرة مضاعفة.. فى المحتضر الذي لم يشهده أهله، وفى أهله الذين لم يحضروا موته، ولم يؤدّوا ما يجب للميت على الحىّ.. ومن هنا جاء التعبير عن الموت بالمصيبة، الذي هو فى واقعه شىء طبيعى، فى غير تلك الحال التي وقع فيها. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ» . فإذا أدّى الشاهدان ما حمّلهما الميت إلى أهله، من قول، ومن مال ومتاع، ورضى أهله بما أدّى إليهما الشاهدان، فقد انتهى الأمر عند هذا الحدّ، ولا متعلّق لأحد عند هذين الشاهدين. أما إذا وقع فى نفس الورثة وأولياء الميت شىء من الريبة والشك، فيما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 جاءهم به الشاهدان من عند صاحبهم، ثم ارتقى هذا الشك والارتياب إلى التهمة، ثم النزاع والخصام، فإن للقضية وجها آخر.. بل وجهين آخرين: والوجه الأول، هو أن يدعى الشاهدان إلى الحلف على ما أشهدهما عليه الميت، وما حملهما من مال ومتاع.. وحلف الشاهدين مشروط بشرط، وهو أن يدعيا بعد الصلاة مباشرة، وهما خارجان من بين يدى الله، قبل أن يتلبّسا بشىء من أمور الدنيا، وذلك ليكون لهذا الموقف أثره فى إقامة شهادتهما على الحق والعدل، أو على ما هو أقرب إلى الحق والعدل.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ» . فحبسهما من بعد الصلاة، هو إمساكهما قبل أن يتّصلا بالحياة العامة، ويباشرا شئونا مختلفة فيها.. حتى يكونا أقرب إلى الخير، وأبعد من الضلال. وقد اختلف فى الصلاة التي يحبسان بعدها، أهي صلاة العصر، أو صلاة الظهر؟ .. والرأى، أنها أي صلاة، حيث أطلق القرآن ذلك، ولم يقيده. وقوله تعالى: «إِنِ ارْتَبْتُمْ» هو جملة اعتراضية، أريد بها بيان الحال الدّاعية إلى حلف الشاهدين، وهى الشك والريبة فى شهادتهما.. وقوله تعالى: «لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ» هو بيان لنصّ الحلفة التي يحلف بها الشاهدان.. وفيها من التوكيد والتحذير والتخويف، ما يجعل لهذه الحلفة أثرا واقعا فى نفس الشاهدين.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 والضمير فى قوله تعالى «به» يعود إلى هذا القسم الذي يقسمان به، وأنهما لا يحنثان فى هذا القسم، ولا يبيعانه بهذا الثمن وإن كثر، لأنه حطام من حطام الدنيا، لا يساوى شيئا إزاء جلال الله وعظمته، وقد أقسما به، وأشهداه على ما يقولان. هذا، وقد أثار بعض الفقهاء والمفسرين اعتراضا على حلف الشاهدين.. وأنهما حين ردّ ورثة الميت شهادتهما، أصبحا متهمين بالنسبة لهم، على حين أصبح أهل الميت أصحاب دعوى عليهما.. وإذ لم يكن لأهل الميت بينة على دعواهم، كان على المدعى عليهما الحلف، عملا بالمبدأ الشرعي: «البينة على من ادّعى واليمين على من أنكر» . فهما على هذا الرأى متهمان، وليسا شاهدين. فإذا وجد أهل الميت مقنعا بعد حلف الشاهدين، انتهى الأمر، وإلا سارت القضية إلى الوجه الآخر من وجهيها.. وفى هذا الوجه يندب أهل الميت اثنين منهما، فيشهدان بما يعلمان من أمر الميت، مما لم يشهد به الشاهدان من قبل.. على أنه لا يصار إلى هذا الموقف إلا بعد أن يثبت بالبيّنة القاطعة، والبرهان الواضح، أن الشاهدين لم يقولا الحق، ولم يؤدّيا الأمانة.. وفى هذا يقول الله تعالى: «فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ» . والمعنى: فإن ظهر، أو تبين أن الشاهدين قد اقترفا إثما بسبب تلك الشهادة التي أدّياها على غير وجهها، فليقم آخران مقامهما بتلك الشهادة، من أهل الميت الدين فرض عليهم الشاهدان السابقان، واللذان كانا أولى منهم بالحكم فى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 شئون قريبهم الميت، لأنهما شاهدان، رأيا، وسمعا، على حين أن أهله غائبون عنه، لم يروا ولم يسمعوا.. وفى قوله تعالى: «فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ» تحريض للشاهدين على أن يؤدّيا الشهادة على وجهها، وأنهما بما احتملا من أمانة الشهادة، أصبحا بهذه المنزلة من الميت، وأنهما أقرب من قرابته وأولى منهم بكلمة الفصل فى شئونه، ولكنهما إذا خانا الأمانة، ولم يؤديا الشهادة على وجهها، زحزحا عن هذا الموقف، وانتقلا من منصّة الحكم، إلى موقف الاتهام.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى «ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ» .. أي فى هذا التدبير الحكيم بإقامة شاهدين من أولياء الميت مقام هذين الشاهدين، عند العثور على خيانتهما- فى هذا ما يدعوهما إلى الحرص على أداء الشهادة، أقرب ما تكون إلى الحق، إن لم يكن ذلك عن ديانة وإيمان، كان عن خوف من الفضيحة والاتهام والخزي أمام الناس. وقوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» هو دعوة للشاهدين، ولأولياء الميت، ثم لكل مؤمن، بتقوى الله، والامتثال لأمره ونهيه، فمن خرج عن شريعة الله، فهو فى ضلال دائم، لا يهتدى إلى خير أبدا.. «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» (35: الرعد) . الآية: (109) [سورة المائدة (5) : آية 109] يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 التفسير: الظرف فى قوله تعالى: «يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ» متعلق بقوله تعالى فى الآية السابقة: «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» أي أن الله لا يهدى الفاسقين، إلى رضوانه، ونعيم جناته، يوم القيامة، يوم يجمع الله الرسل.. وسؤال الرسل يوم القيامة، يكون فى مواجهة من أرسلوا إليهم، ومن دانوا بشريعتهم، حيث يقول الله تعالى: «فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ» (5: الأعراف) . وفى هذا الجمع بين الرسل وبين من أرسلوا إليهم، وفى هذه المساءلة فى مواجهتهم، تحذير من هذا الموقف، الذي يجزى فيه من وقف من رسل الله موقف المحادّة والعناد، حيث لا يجد الضالّون والمعاندون ما يقولونه، وحيث لا يكون قول الرسل فيهم إلا وبالا عليهم، وخزيا وفضحا لهم.. وقوله تعالى: «ماذا أُجِبْتُمْ» أي ماذا أجبتم به ممن دعوتموهم إلى الإيمان؟ وهل استجابوا أم أبوا؟ ومن استجاب منهم ومن أبى؟ وفى قوله تعالى: «قالُوا لا عِلْمَ لَنا» وفى التعبير بلفظ الماضي عن إجابتهم، ما يشير إلى أن ذلك هو قول الرسل دائما، إذا سئلوا من قبل الله عن شىء! إن علمهم بهذا الشيء لا يعتبر علما إلى علم الله، الذي يعلم الشيء ظاهرا وباطنا، وحقيقة وكونا. وقوله تعالى: «إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» .. الغيوب جمع غيب، وهو بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى شىء واحد، واقع تحت علمه، أما بالنسبة للرسل وغيرهم، فهو غيب وغيوب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 الآية: (110- 111) [سورة المائدة (5) : الآيات 110 الى 111] إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) التفسير: يوم يجمع الله الرسل، يوم القيامة، ويسألهم الحقّ سبحانه وتعالى: «ماذا أُجِبْتُمْ» - فى هذا اليوم يستدعى سبحانه وتعالى عيسى عليه السلام بين يديه، ويذكره بأفضاله ونعمه، وما أجرى على يديه من معجزات.. وفى إلفات عيسى، عليه السلام، إلى هذه النعم، وفى تذكيره بالمعجزات التي طلع بها على بنى إسرائيل- فى هذا تسفيه لبنى إسرائيل، السابقين منهم واللاحقين، إذ كفروا بتلك المعجزات الناطقة، التي لا ينكرها إلا مكابر ومعاند، ولا يمارى فيها إلا غوىّ ضال، أحمق جهول. فقد كان كلام عيسى فى المهد، وخلقه من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيرا، وإبراؤه الأكمه والأبرص، وإحياؤه الموتى، وبعثهم من القبور- كان هذا، بل بعض هذا جديرا به أن يبعث الطمأنينة والإيمان، فى قلب أي إنسان له مسكة من عقل، أو أثارة من إدراك، حيث يرى وليدا يخرج من رحم أمه ليومه، ينطق بلسان مبين، ومنطق مستقيم، وهو مع هذا لا يملك من أمر نفسه شيئا، إذ هو مازال فى صورة الوليد ليومه.. فى كل شىء، إلا هذا اللسان الذي نطق به..! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 فمن أنطقه؟ ومن أعطاه تلك الكلمات البيّنات؟ ومن منح لسانه هذه القدرة على النطق بها فصيحة مبينة؟ أليس ذلك برهانا مبينا على أن ما نطق به هذا الوليد، هو إشارة إلى أنه آية من آيات الله، ومعجزة من معجزاته، تشهد بأنه رسول من الله رب العالمين؟ وإذا لم يكن فى هذا النطق آية متحدّية، يشهدها بنو إسرائيل، أفلم يكن إحياؤه الموتى، وإبراؤه الأكمه والأبرص، وخلقه من الطين طيرا.. أفلم يكن فى هذه الآيات المتظاهرة ما يقيم لبنى إسرائيل طريقا إلى الإيمان بهذا الإنسان الذي أجرى الله على يديه تلك المعجزات، وإلى أنه رسول الله، يحمل إليهم كلمات الله وآياته؟ وبأى شىء يؤمن الناس إذا لم يؤمنوا بتلك الشموس الطالعة، لا يحجبها سحاب أو ضباب؟ وبأى داع يدعوهم الله سبحانه إليه، إن لم يكن فى هذا الداعي مقنعا لهم، وهاديا يهديهم إلى الله؟ إنه ليس بعد هذا إلا أن يروا الله جهرة..! وقد فعلها بنو إسرائيل من قبل، فقالوا لموسى: «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» (55: البقرة) . ألا ما أشدّ غباء القوم، وما أقسى قلوبهم، وما أنكد حظهم من البصيرة والأبصار! «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» (44: المائدة) . هذا، وقد توسعنا فى معنى هذه المعجزات فى الآيات الواردة فى سورة آل عمران (48- 50: آل عمران) .. فليرجع إليها من شاء. وفى قوله تعالى: «وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» إشارة إلى ما أبطل الله سبحانه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 وتعالى به مكر بنى إسرائيل، حين مكروا بعيسى، وأرادوا صلبه، مدّعين عليه كذبا وبهتانا أنه ساحر مشعوذ، يدّعى على الله كذبا أنه «المسيح» ، فنجّاه الله منهم، وأوقعهم فى سوء أعمالهم، وكتب عليهم عقوبة دم نبىّ، أيقنوا أنهم قتلوه: «وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ» (56: النساء) . وقوله: «وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ» معطوف على قوله تعالى: «إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ» وما بعده.. أي واذكر يا عيسى من نعمتى عليك أنى أوحيت إلى الحواريين وألهمتهم أن يتبعوك، ويكونوا أنصارا لك، وقوة إلى جوارك، فى مواجهة القوى الضالّة من بنى إسرائيل.. فآمن هؤلاء الحواريون بك، وصدّقوك، وكانوا ردءا لك، وأنسا لو حشتك فى هذا الظلام الكثيف المنعقد حولك. والحواريون: جمع حوارىّ، والحوارى: هو الناصر والمعين على الخير، وأصله اللّباب من كل شىء، ومنه الحوارى، وهو لباب الدقيق. الآيات: (112- 115) [سورة المائدة (5) : الآيات 112 الى 115] إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 التفسير: وقع بين المفسرين اختلاف شديد فى مائدة بنى إسرائيل هذه، وفى الحواريّين الذين طلبوا هذا الطلب.. فأنكر بعضهم أن يكون من الحواريين هذا الطلب المتحدّى، الأمر الذي لا يكون إلا من إنسان لم يؤمن بالله.. وكيف وهم قد دعاهم الله إليه فاستجابوا من غير تردد، وتبعوا المسيح، وساروا مسيرته خطوة خطوة، كأنهم بعض ظلّه على الأرض؟ وقد كان للمنكرين على الحواريين أن يكون منهم هذا الطلب، تأويلان لهذا الاعتراض.. التأويل الأول: أن هؤلاء الحواريين، لم يكونوا مؤمنين إيمانا صادقا، وأنهم حين دعوا إلى الإيمان فقالوا «آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ» - لم يكن هذا القول إلا بأفواههم، ولم تؤمن قلوبهم فلا يستغرب منهم- وهذا إيمانهم- أن يطلبوا هذا الطلب، الذي لا يكون ممن آمن بالله إيمانا صادقا! وهذا التأويل فاسد، ظاهر الفساد. فالحواريون مدعوّون من الله، ملهمون إلى الإيمان به.. فكيف يكون إيمانهم على تلك الصفة الهزيلة المنافقة؟ إن من يدعى من الله هذه الدعوة، ويلهم هذا الإلهام إلى الإيمان به، لا بدّ أن يكون أشدّ الناس إيمانا، وأوثقهم يقينا واطمئنانا. وإن غير ذلك هو اتهام لله، ولعلمه، وقدرته.. ولقد كان الحواريون على إيمان وثيق بالله، أقرب إلى إيمان أنبياء الله ورسله، كما يشهد لذلك قول الله تعالى فيهم: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ ... » (14: الصفّ) .. فهم القدوة فى وثاقة الإيمان، وفى نصرة دين الله. ونصرة رسول الله.. ولهذا دعا الله المؤمنين أن يكونوا أنصار الله ورسول الله «محمد» صلوات الله وسلامه عليه.. كما كان هؤلاء الحواريون أنصار الله، وأنصار رسول الله عيسى، عليه السلام. فكيف يلتقى هذا القول بنفاقهم وضعف إيمانهم مع هذا الذي يقوله الله سبحانه وتعالى فيهم؟ إن مثل ذلك القول فى الحواريين هو تكذيب صريح لكلام الله! أما التأويل الآخر لهذا الطلب الذي كان من الحواريين بإنزال مائدة من السماء عليهم، فقد اعتمد فيه القائلون به، على قراءة من قرأ قوله تعالى: «هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ» على هذا الوجه: «هل تستطيع ربّك» أي هل تستطيع أنت يا عيسى أن تطلب من ربّك أن ينزل علينا مائدة من السماء.. فتكون الاستطاعة هنا مضافة إلى عيسى عليه السلام، لا إلى الله سبحانه وتعالى.. وعلى هذا، فإنه لا بأس من أن يطلب الحواريّون إلى عيسى هذا الطلب، ويراودوه عليه! وهذا تأويل مقبول على هذه القراءة.. ولكن ما تأويل طلب الحواريين على القراءة المشهورة: «هل يستطيع ربّك أن ينزل علينا مائدة من السماء» ؟ نقول- والله أعلم- إن الاستطاعة هنا لا يراد بها القدرة على إجابة الطلب، وإنما المراد بها الرضا والقبول له، بمعنى: هل يرضى ربّك، أو يقبل ربّك أن ينزّل علينا مائدة من السماء؟ فهذا أمر لم تجر به العادة، ولم يقع فى حياة الناس.. والحواريون إذ يطلبون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 هذا الطلب الغريب، لا يتوقعون استجابته، وإنما كان طلبهم له من قبيل الاستطراد للمعجزات الخارقة، التي كانت تقع تحت حواسّهم، من إحياء الموتى، وخلق طير من الطين، وبعث الحياة فيه، وإبراء الأكمه والأبرص.. فماذا لو طلبوا هذا الطلب الغريب؟ هل يقبله الله؟ وهل يجيبهم إليه؟ إنهم لا يشكّون فى قدرة الله، ولكنهم يشكون فى أن يستجاب لهم فيما طلبوا.. ومن هنا أخذ هذا الطلب صورة الاستدعاء بالقدرة والاستطاعة.. لا بالإضافة إلى من طلب إليه، ولكن بالنسبة لمن طلب له.. كمن يقول لمن هو أعلى منه منزلة: هل تستطيع أن تعطينى هذا الكتاب الذي معك؟ إنه لا شك مستطيع، إذ لا شىء يمسكه عن ذلك.. ولكن الأمر متروك لتقديره هو.. وهل يرى هذا الشخص مستحقا لهذه المكرمة أو غير مستحق لها؟ وليس فى قول الحواريين: «هل يستطيع ربّك» إنكار لربوبية الله لهم، ولكنه استصغار لشأنهم، وإخفاء لذاتهم، وهم يطلبون هذا الطلب، الذي لا يصح أن يكون طالبه من الله إلا إنسانا له عنده من المنزلة مثل ما لعيسى عليه السلام، فهو ربّه الذي أفاض عليه هذه المكرمات، وهو ربّه الذي يطلب منه هذه المكرمة.. ولهذا أضافوا عيسى إلى الربّ، ولم يضيفوا هم أنفسهم إليه، استصغارا لمكانهم فى هذا المقام. وفى قول عيسى عليه السلام للحواريين: «اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» تأديب لهم، ودعوة إلى ما هو أولى بالمؤمنين أن يكونوه مع الله، كما يقول السيد المسيح فى بعض تعاليمه: «لا تجرّب الربّ إلهك» .. فذلك هو الكمال كلّه، والإيمان كلّه. ولكن- كما قلنا- للمؤمنين المقربين إلى الله، المشاهدين لعظمة جلاله، المحفوفين بخفىّ ألطافه- لهؤلاء المؤمنين أنس بروح الله، وانتشاء بنسائم قربه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 وأنفاس مودته، وذلك ممّا يحملهم على هذا الدّلال فى طلب ما لا يطلب الناس، ولا يطمعون فيه.. وفى إبراهيم عليه السلام مثل لهذا.. فقد طلب من الله- سبحانه- أن يريه كيف يحيى الموتى! وقد أجابه مولاه- كرما ولطفا- إلى ما طلب.. وكذلك ما كان من موسى- عليه السلام- حيث طلب أكثر من هذا، فقال: «ربّ أرنى أنظر إليك» ! وموسى يعلم يقينا أن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يرى، إذ لو رؤى لتحدّد، ولو تحدّد لتحيّز، ولو تحيّز لكان مخلوقا.. لا خالقا! وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.. ومع هذا فقد طلب موسى هذا الطلب، الذي لا تدركه الأبصار.. فكان جواب الحق جلّ وعلا: «لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي.. فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً.. فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ.. تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» (142: الأعراف) . فمثل هذا الطلب من الحواريين، لا يدلّ بحال على ضعف إيمان، أو شك فى الله، ولكنه طلب المزيد من الإيمان، والرضوان من الله! ولهذا كان جوابهم على عيسى عليه السلام: «نريد أن نأكل منها وتطمئنّ قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين» فهم يريدون المائدة لأمور.. منها: أولا: أن يأكلوا منها.. فهى فى هذا لا تختلف كثيرا عن المنّ والسّلوى الذي أطعمه الله سبحانه وتعالى آباءهم، حين نجّاهم من فرعون على يد موسى.. فلما كفروا بهذه النعم لعنهم الله، وضرب عليهم الذلة والمسكنة. وثانيا: أن تطمئن قلوبهم إلى رحمة الله بهم، وألطافه عليهم، باستجابة طلبهم.. وفى هذا ما يفتح لهم إلي الله طريقا يرون منه إشارات السماء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 بحواسّهم، بعد أن أدركوها بعقولهم.. وهذا ما يبعث فى قلوبهم الطمأنينة التي تثبّت الإيمان، فلا يهتزّ لعارض يعرض له من ريبة أو شك. وثالثا: أن يزداد علمهم بصدق عيسى، وبصدق هذه الآيات التي تجرى على يديه، فلا يطوف بأنفسهم منها طائف من الشك والوسوسة، التي كان يثيرها اليهود حولها. ورابعا: أن تكون هذه المائدة المنزلة من السماء شهادة بين أيديهم فى دعوتهم الناس إلى الإيمان.. إذ كانوا ممن طعموا منها، ومثل هذا الطعام السماوي لا بدّ أن يترك آثارا فيمن طعم منه.. وربما كانت آثاره مادية ومعنوية معا، يراها الناس ظاهرة عليهم، فيكون منها شهادة للحواريين، أنهم ممن لبسوا تلك النعمة الإلهية، وفى هذا ما يجعل القلوب مطمئنة إليهم، وإلى ما يدعون إليه. وأمر آخر من تلك المائدة، أثار اختلافا بين المفسّرين، حتى لقد رأى بعضهم أن المائدة لم تنزل، وأن الحواريين حين سمعوا قول الله تعالى: «إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ، فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ» قالوا: لا حاجة لنا.. فلم تنزل عليهم!! وهذا قول مردود، ورأى فاسد.. وذلك: أولا: أن عيسى عليه السلام، دعا ربّه، وضرع إليه، أن ينزّل هذه المائدة، كما طلبها الحواريون ولم يكتف بهذا، بل لقد جعل لطلبها أسبابا ومبررات من عنده، حتى لكأن هذا الطلب كان منه ابتداء، لما حمّل هذا الطلب من ثمرات طيبة تجىء معه، كما يقول الله سبحانه وتعالى على لسانه: «قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 أفبعد هذا لا يستجيب الله لعيسى بن مريم، ولا يحقق له ما دعا به إليه؟ إن عيسى يقول: «اللهمّ ربّنا أنزل علينا» ولم يقل عليهم.. ويقول: «تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا» ولم يقل: تكون لهم عيدا لأولهم وآخرهم» وقال «وارزقنا» ولم يقل: وارزقهم.. فهى عيد وبهجة ومسرّة للمسيح، ولمن يطعم من تلك المائدة من أتباعه. ثم هى آية من آيات الله وشاهد من شهود قدرته وجلاله. وهى رزق كريم طيب.. وليست لعنة، ولا عقوبة.. وثانيا: أن الله سبحانه وتعالى استجاب لعيسى، فقال سبحانه: «قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ» .. وفى هذا: أن القائل ليس أيّ قائل، بل هو الله سبحانه وتعالى.. «قالَ اللَّهُ» .. وأنه سبحانه قد حكم هذا الحكم القاطع المؤكد: «إنى منزلها عليكم» .. هكذا: «إنى منزّلها عليكم» .. وذلك التوكيد. ليرفع أىّ احتمال للشك عند أقلّ المؤمنين إيمانا بالله، بأن المائدة لم تنزل. فكيف يقع لعقل عاقل أن كلمة الله لا تنفذ، وأن قضاءه لا يمضى؟ ولا ندرى كيف نظر شيخ المفسّرين «الطبري» إلى هذه الآية، ولا كيف طوّع له قلمه أن يجعل لهذا الرأى مكانا فى تفسيره؟ وقوله تعالى: «فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ» إنما هو حراسة لهذه النعمة العظيمة، من أن يعبث بها العابثون، أو يلحد بها الملحدون.. إنها شمس طالعة فى وجه صبح مشرق.. فمن عمى عنها، ولم يهتد بها، فهو فى حرب سافرة مع الله.. لا جزاء له إلا أن يلقى أشد العذاب! وليس فى هذا تهديد للحواريين، ولا وعيد لما سيكون منهم من كفر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 بهذه الآية، ومكر بها.. بل هو استبعاد لأن يقع شىء من هذا منهم، وإن جاز أن يقع من غيرهم.. وأنه لو جاز أن يكفر أحد من الحواريين بهذه الآية فإنه سيلقى هذا العذاب.. فكيف يكون العذاب لمن كفر من غيرهم؟ وهذا أسلوب من أساليب القرآن فى مخاطبة من يستبعد منهم فعل منكر، ليكون ذلك تخويفا لغيرهم، وزجرا لهم عن إتيان هذا الإثم.. يقول تعالى مخاطبا نبيّه الكريم: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» (65: الزمر) . ويقول سبحانه وتعالى مشيرا إليه صلى الله عليه وسلم: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ» (44- 47: الحاقة) . والنبي الكريم أبعد من أن يطوف به طائف من الشرك، وأبعد من أن يتقوّل على الله قولا.. إن ذلك كان أمرا مستحيلا بالنسبة لذاته الكريمة.. ولكنّ المقام مقام تحريم الشرك والتشنيع عليه، فناسب أن يبرز فى تلك الصورة المفزعة التي تحبط كل عمل، ولو كان نبيّا كريما من أنبياء الله، ورسولا مجتبى من رسله.. فكيف غير النبىّ وغير الرسول! وكذلك الأمر فى التقول على الله والافتراء عليه. وفى قوله تعالى على لسان السيد المسيح: «تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا» أي ينال منها، ويسعد بها كلّ من اتبعه، وآمن به، واجتمع إليه، لا الحواريون وحدهم الذين كان منهم هذا الطلب ابتداء- فهى رحمة منزلة من السماء، ونعمة محمولة على جناح الرحمة، ينال منها كل من صدّق بصاحب هذه الدعوة، واتبع سبيله، من أقرب المقربين إليه، إلى من هم أبعد منهم صلة به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 الآيات: (116- 118) [سورة المائدة (5) : الآيات 116 الى 118] وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) التفسير: قوله تعالى: «إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ» معطوف على ما قبله مما عطف على قوله تعالى: «يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ» .. فهذه المساءلة لعيسى من الله تعالى، تكون يوم القيامة.. يوم يجمع الله الرسل.. وفى قوله تعالى: «يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ» إنما يراد به إقامة الحجة على أتباعه، الذين غيّروا معالم رسالته، وقلبوا حقائقها، واتخذوا من المسيح وأمه إلهين.. المسيح ابن الله، وأمه مريم زوجا لله! وفى خطاب المسيح بقوله تعالى: «يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ» إشارة إلى الصفة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 التي هى له ولأمه.. فهو ابن مريم لا ابن الله، وأمّه أمة من إماء الله، لها ولد كما للنساء أولاد. وفى سؤال المسيح: «أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ» أخذ اعترافه وإقراره على هؤلاء الذين ألبسوه وأمه هذا الثوب الإلهى، وعبدوهما من دون الله. وفى هذا الإقرار خزى بعد خزى وإذلال بعد إذلال لهم، حيث يكشف المسيح عن وجهه ووجهه أمّه أمام هؤلاء الذين ضلّوا، ورأوا فيه وفى أمّه غير الحق.. ويواجه المسيح هؤلاء الذين كفروا بالله، وجعلوا المسيح وأمه إلهين- يواجههم بما يخزيهم ويبهتهم، ويملأ قلوبهم حسرة وندما: «سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ» والذي ليس لى بحق هو أنى لست إلها ولا ابن إله، والذي هو لى بحق أنى عبد الله ورسوله.. فإن كنت قلت ما ليس لى بحق فقد علمته، وعلىّ تبعة هذا القول المنكر العظيم.. إن يكن قد كان منىّ.. وفى قوله: «تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» توكيد لما بين المسيح وبين الألوهية من بعد بعيد.. فلو أنه كان إلها لعلم ما يعلم الله، ولكنه لا يعلم حتى ما اشتملت عليه ذاته، وسكن فى كيانه.. أمّا الله سبحانه فهو يعلم كل شىء.. لا يعزب عنه مثقال ذرّة فى السموات ولا فى الأرض.. هذا وسنعرض لألوهية المسيح، ودعوى الذين يدعونها له فى مبحث خاص، بعد ختام هذه السورة.. وفى جواب المسيح: «ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ» إشارة إلى أن المسيح مأمور، وأنه لا يقول شيئا من عنده، وإنما هو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 رسول يبلغ ما أمره به ربّه، وقد بلّغ رسالة ربّه، كما أمره بها: «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ» .. فالمسيح عبد لله، كما أنهم عبيد له.. ومن كان عبدا لله فليس له إلى الألوهية سبيل. وقوله: «وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» هو توكيد لبراءة عيسى مما تقوّله عليه أتباعه، وأنه كان عليهم شهيدا مدّة وجوده معهم، يقوّم انحرافهم، ويصحح معتقدهم، فلما قبضه الله إليه، انقطع اتصاله بهم، وبما أحدثوا بعده من هذه المعتقدات الفاسدة فيه، وفى أمّه.. وأنه إذا كان المسيح لم يعلم شيئا مما أحدثوا من بعده، فذلك ما لا يغيب عن علم الله، فقد علمه الله منهم، وأحصاه عليهم، وهاهم أولاء بين يديه يلقون جزاء ما صنعوا.. والشهيد: من يرى ما يقع فى محيط حواسه.. مما يدانيه ويختلط به.. والرقيب: من يرى من مكان عال، وهو المرقب، حيث ينكشف له ما لا ينكشف لغيره.. ولهذا كان التعبير فى جانب المسيح، بالشهيد، والتعبير فى جانب الله، بالرقيب.. وهذا تمثيل، ولله سبحانه وتعالى المثل الأعلى. ثم كان من تمام هذا التمثيل قوله: «وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» أي تطلع على كل شىء قريب وبعيد، ظاهر وخفى، اطلاع شهادة وحضور. وقوله: «إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» هو تفويض لله سبحانه وتعالى للقضاء فى أمر هؤلاء، الذين حملوا أوزارهم على ظهورهم، وأحاطت بهم خطيئتهم.. فإلى الله سبحانه وتعالى أمرهم، لا شفاعة لأحد فيهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 «إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ» وصنعة يديك، وربائب نعمتك، وغرس فضلك.. وليس لأحد أن يشارك المالك فى تصرفه فيما ملك. «وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» لا يسألك أحد لم غفرت لهؤلاء العصاة الظالمين.. فما غفرانك لهم عن عجز أو قصور أن تنالهم يدك، ويأخذهم عقابك، وإنما هو حلم الحليم، وحكمة الحكيم.. فعن قدرة عفا وغفر، وعن حكمة كان هذا العفو وتلك المغفرة.. سمع أعرابى قارئا يقرأ: «إن تعذبهم فإنّهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم» فأنكر ما سمع، وقال ما هذا كلام الله، إذ ينقض آخره أوله.. فأعاد القارئ قراءة الآية على وجهها: «إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم» فقال الأعرابى: نعم هذا كلام الله.. عزّ فحكم، فإن شاء عفا وغفر!! (الآيتان: 119- 120) [سورة المائدة (5) : الآيات 119 الى 120] قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) التفسير: هذا ختام الموقف، وتلك كلمة الفصل من رب العزة جلّ وعلا، فى مجمع الرسل والأمم يوم القيامة.. ففى هذا اليوم العظيم يجد الصادقون الذين أخلصوا دينهم لله، ولم يحرّفوا ولم يبدلوا فى دين الله- يجدون عاقبة هذا الصدق، مغفرة ورحمة ورضوانا فى جنات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا.. لا يتحولون عنها، ولا ينتقلون إلا من نعيم إلى نعيم فيها. «رضى الله عنهم» بما كان منهم من صدق فى القول والعمل، «ورضوا عنه» بما أحسن إليهم من جزاء، وأفاض عليهم من نعيم.. و «ذلك هو الفوز العظيم» الذي تعدل اللحظة منه عمر الدنيا كلها، وما لقى المنعّمون فيها من نعيم، وما ذاق السعداء فيها من طعوم السعادة. فكل هذا، لا يعدّ شيئا إلى نظرة رضى من الله إلى من رضى الله عنهم، جعلنا الله منهم وأدخلنا فى زمرتهم، وأرضانا بما أرضاهم، بما تبلغه بنا سوابغ رحمته، وتؤهلنا له أمداد مننه وأفضاله. وفى قوله تعالى «وَرَضُوا عَنْهُ» لفتة كريمة من ربّ كريم، إلى عباده المكرمين، حيث يرضى عنهم وبرضون عنه، حتى لكأنه رضى متبادل بين الخالق والمخلوقين، والمعبود والعابدين، فسبحانه من ربّ كريم، برّ رحيم.. شاهت وجوه من يتجهون إلى وجه غير وجهه، وخسئ وخسر من يلوذون بجناب غير جنابه. ويطوفون بحمى غير حماه. وقوله سبحانه: «لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» قولة حق ينطق بها الوجود كله فى هذا اليوم، ويشهد تصريفها الناس عيانا فى هذا اليوم المشهود، حيث تخشع الوجوه للحىّ القيوم، وتخفت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا، وحيث تذلّ جباه الجبابرة، وتغبر وجوه الظالمين، وحيث ينادى منادى الحق: «لمن الملك اليوم؟» فإذا رجع هذا النداء، هو هذا الوجود كله لسان بسبّح بكلمة الحق: «لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 مبحث فى المسيح الإله والمسيح الإنسان نعرض فى هذا البحث قضية الألوهية، التي ادّعاها المدّعون للمسيح، وآمنوا عليها، وأقاموا لها منطقا استساغوه، وغذّوا منه مشاعرهم، وترضّوا به عواطفهم.. وسبيلنا فى عرض هذه القضية، هى أن نلقاها لقاء بعيدا عن النصوص الدينية، التي يقيمها أصحاب هذه الدعوى شاهدا على ما يدّعون، وبمنأى كذلك عن النصوص الدينية التي جاء بها القرآن الكريم لدحض هذه الدعوى. وإسقاط كل حجة لمدعيها. ذلك لأن تعارض هذه النصوص حول تلك القضية فى جانبى الإثبات والنفي، لا يتيح لمن يقف موقفا محايدا من هذه القضية سبيلا إلى الحكم فيها، إذا هو أخذ بتلك النصوص المتعارضة، وجعل لها عنده الاحترام والولاء، الذي يمسكها عليه أصحابها. من طرفى الخصومة فى هذه القضية.. إذن، فالعقل، والعقل وحده هو الحكومة التي يرجع إليها للقضاء فى هذه القضية، أولا.. ثم إذا كان للنصوص الدينية بعد هذا التقاء مع العقل والمنطق أخذ بها كشاهد يؤيد العقل ويزكّى منطقه، وإلّا انفرد العقل بالحكم الذي يطمئن إليه، ويعيش معه فى تلك القضية على وفاق ووئام، وبهذا يحتفظ الإنسان بوحدته، فلا يكون شعوره الديني فى ناحية، واتجاهه العقلي فى ناحية أخرى.. فذلك أشأم بلاء يبتلى به الإنسان فى مسيرة الحياة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 العقل فى مواجهة المسيح: وإن العقل إذ يواجه المسيح، فإنما يواجه منه شخصية تاريخية، لها وجود مادى محقق، رآها الناس رأى العين، كما يرون أنفسهم.. فالمسيح هو «يسوع» الذي ولد فى قرية الناصرة من مقاطعة الجليل، بأرض اليهودية، من بلاد الشام، وأمه «مريم» ، وأبوه الذي ولد على فراشه، ونسب إليه، هو «يوسف» .. وكان مولده إبان حكم الرومان لبلاد الشام فى السنة الثالثة أو الرابعة أو السابعة قبل الميلاد، على خلاف فى تحديد السنة التي ولد فيها. والتاريخ يتحدث عن «يسوع» أنه ولد ميلادا طبيعيا، حملت به أمّه مدة الحمل المعتاد للناس، فاحتواه رحمها تسعة أشهر، وأرضعته من ثدبيها، وكفلته كفالة الأمهات لأطفالهن. ثم كان له صبى، وشباب، وكهولة، وطريق فى الحياة يسلكه، ورسالة يقوم عليها، وأنه فى سبيل هذه الرسالة- شأنه شأن أصحاب الرسالات- قد دخل فى صراع مع القائمين فى طريقه، والمتصدين لرسالته، حتى انتهى به الأمر إلى الموت صلبا! هذا هو مجمل الصورة التي تقع لعينى من يطالع حياة يسوع «المسيح» ويقرأ ما سطر التاريخ من سيرته! إنه إنسان قبل كل شىء، وفى كل شىء؟ لم تفكر أمّه التي امتزج دمها بدمه، ولحمها بلحمه، وخالطت روحها روحه، وأنفاسه، لم تنكر شيئا من أمره، ولم تر فيه غير ما ترى الأمهات من أبنائهن، وإن كانت مخايل النبل، والطهر والحكمة تفوحان من أردانه! إنه بكرها، وواحد من أولادها، الذين استقبلتهم بعده «1» ! .. ولو أنها   (1) كان للمسيح إخوة من أمّه «مريم» ومن زوجها يوسف بن هالى، كما تحدث بذلك الأناجيل، بقول صريح قاطع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 رأت فيه شيئا لم تعرفه الأمهات فى أبنائهن لأنكرته، أو لأنكرت نفسها، ثم لكانت منها نفرة من الاتصال برجلها «يوسف» ومعاودة الحمل والولادة! فهو- أي عيسى- إن يكن إلها فقد ولدته، ولا يعقل أن تلد إلها أو آلهة غيره.. وإن يكن خلقا آخر، غير الإله، وغير البشر. فلن تطاوعها نفسها على الدخول فى تجربة جديدة، تلد بها أعجوبة أخرى! ولكنها إذ لم تنكر من وليدها «يسوع» شيئا، ولم تر فيه غير ما ترى الأمهات فى أطفالهن، مضت فى طريقها، طريق الأمومة، الذي تسلكه الأمهات! واتصلت برجلها «يوسف» فولدت منه بنين وبنات!! أين يضع العقل المسيح؟ والعقل إذ يواجه المسيح، وإذ يلقاه على هذا الوجه الذي عرفته الحياة منه، وسجله التاريخ له- لا يمكن أن يخرجه عن دائرة البشرية، أو يعزله عن عالم الإنسان.. والمسألة هنا هى: أين يأخذ المسيح مكانه من الناس، وأين المكان الذي ينزله العقل فيه؟ وهنا نرى «المسيح» يأخذ أوضاعا مختلفة، وينزل منازل متباينة.. حسب وزن العقول له، وتقديرها لشخصيته، وحسابها لمقومات تلك الشخصية! وإذن فلا نستبعد أن نرى «المسيح» يأخذ مكان القمة من الإنسانية، كما لا نستغرب إذا رأيناه ينزله منزلة الحضيض فيها.. ففى هذا الفراغ الهائل، بين السطح والقاع، يتحرك الناس، وفيه يتقلّبون، بحيث يملأ بهم هذا الفراغ كلّه! والمسيح- فى هذه النظرة- واحد من آحاد الناس، وللناس أن ينزلوه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 فيهم بالمكان الذي يرونه.. صعودا، ونزولا.. مغالين، أو مقتصدين، أو ظالمين.. دون أن يخرج فى هذا كلّه عن دائرة الإنسانية، أو يتعدّى حدودها! فكل قول يقال فى «المسيح» ، مما يقع فى محيط الإنسانية، يمكن أن يوضع موضع البحث والنظر، وأن يعتبر فى معرض القبول والتسليم.. فإذا قال فيه قوم إنه نبىّ أو صدّيق.. لم يكن هذا القول مستحيلا.. إذ فى الناس الأنبياء والصدّيقون! وإذا قال قوم إنه فارس مغوار، أو فيلسوف عظيم، أو عالم كبير.. لم يكن هذا القول مستحيلا أيضا، إذ فى الناس الفرسان والفلاسفة والعلماء! وإذا قال قوم إنه مشعوذ محتال.. لم يكن هذا القول مستحيلا كذلك، لأن فى الناس المشعوذين والمحتالين! وهكذا كل قول يقال فيه، مدحا أو ذمّا، مما هو واقع فى عالم البشر، لم يكن مستحيلا، ولا مستغربا.. والبحث، والنظر، هو الذي يكشف عن صدق أو كذب كل ما يقال فيه، ويمخض ما فيه من حق أو باطل.. ماذا عن المسيح الله؟ فإذا جاء إلى الناس من يقول لهم: إن «يسوع» هذا الذي رأيتموه أو سمعتم أخباره، والذي عرفتم من أمره أنه لم يكن إلا بشرا سويا.. فى هيأته وملامحه، وفى طعامه وشرابه، ويقظته ونومه، وفرحه وحزنه، ورضاه، وسخطه، وفى كل ما تعرفون من شئونكم، وما تتقلّبون فيه من حياتكم- «يسوع» هذا، هو الله رب العالمين! عاش تلك الفترة المحدودة من الزمان وفى هذا الوضع المحدود من المكان فى مسلاخ الإنسان «يسوع» وفى جسده.. ثم ترك هذا الجلد، وزايل ذلك الجسد، وارتفع إلى ملكوته- نقول إذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 جاء أحد يقول للناس هذا القول، فى شأن المسيح، أو فى أي إنسان غيره من الناس على طول الإنسانية وعرضها، فبأى آذان يستمع الناس إلى هذا القول، وبأى عقول يلقونه؟ ولنذكر أننا بمعزل عن مقولات الكتب المقدسة فى أمر «المسيح» وأننا إنما نواجه «المسيح» من خارج الدائرة العقيدية، وأننا إنما ننظر إليه كظاهرة إنسانية، كان لها فى حياة الناس- ولا يزال- دور كبير، دارت وتدور حوله شئون لهم وشئون! .. ونعيد سؤالنا مرة أخرى: بأى آذان يستمع الناس إلى هذا القول الذي يقال فى المسيح الإله، وبأى عقول يلقونه؟ ولا نتكلّف لهذا السؤال جوابا، فالجواب حاضر، نأخذه من فم التاريخ الذي يحدّث عن أعداد كثيرة من الناس قد لبسوا أثواب الآلهة، أو ألبسوا هذه الأثواب.. ويحدث التاريخ- قبل المسيح وبعده- أن الناس انخدعوا لهذه الآلهة، وآمنوا بها، وأنزلوها من قلوبهم وعقولهم منزلة الإله الذي يؤمن به المؤمنون بالله! ففى مصر، والهند، وفارس، وفى بلاد اليونان والرومان، دان الناس أحقابا طويلة للالهة البشرية.. من فراعنة، وقياصرة وأباطرة، وهراقلة، وعبدوهم عبادة المؤمنين لله رب العالمين.. ولا زالت بقايا هذه الظاهرة باقية ممتدة فى القرن العشرين إلى الحرب العالمية الثانية، حيث كان امبراطور اليابان «الإله» المعبود من دون الله، فى أمة بلغت من الحضارة والمدنية حظّا كاد يجعلها على رأس العالم المتحضر فى هذا العصر! وفى التاريخ الإسلامى ادّعى المدعون ألوهية «علىّ» رضى الله.. وكادت تكون فتنة، لولا أن صدمتها العقيدة الإسلامية صدمة قاتلة، بيد «علىّ» نفسه، الذي أرادوا أن يلبسوه ثوب الإله.! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 ويحدث التاريخ الإسلامى أيضا أن «المقنّع» الخراسانى، - واسمه عطاء- كان صاحب فرقة من فرق الشيعة، وكان مشعوذا، قد بلغ به الأمر أن ادعى الألوهية لنفسه، وكان لا يسفر عن وجهه، وقد اصطنع لذلك وجها من ذهب، تقنع به، فسمى المقنع.. وكانت له شعوذات خدع بها الأغرار من الناس، فتبعه خلق كثير، مما وراء النهر، وآمنوا بألوهيته، وكادت تكون فتنة. «ولما اشتهر أمره ثاروا عليه، وقصدوه الناس فى قلعته التي اعتصم بها، فلما أيقن بالهلاك جمع نساءه وسقاهن سما، فمتن منه، ثم تناول شربة من ذلك السم فمات أيضا، وذلك فى سنة ثلاث وستين ومئة هجرية «1» » . ويحدّث التاريخ الإسلامى كذلك عن بعض الفرق المنحرفة من الشيعة، وعن تأليههم للخليفة الحاكم بأمر الله، الذي لا زالت بقايا هذه الفرقة المارقة تتعبد له، فى جهات منعزلة من بلاد الشام! وليس ببعيد خبر «سليمان المرشد» الذي ظهر فى بلاد الشام منذ سنوات وادّعى الألوهية، ووجد فى الناس من يستجيب له ويؤمن به! وتستند دعوى الألوهية لإنسان من الناس على قوة غيبية احتوت هذا الإنسان الإلهى، أو احتواها هو.. وبهذه القوة الغيبيّة المقدسة فيه، صار فوق مستوى الناس، ونزل منازل الآلهة! وقد كان الناس قبل عصر العلم التجربي، يفتحون آذانهم وعقولهم وقلوبهم للقوى الغيبية هذه، ويتشوّفون إليها، فيما وراء المادة، وكانت حياتهم موصوله بها، مشدودة إليها.. فإذا جاءهم من يحمل إليهم- إن صدقا وإن كذبا- خبرا من تلقائها، أو حديثا من عندها، وجد من يصغى إليه، ويلهث جريّا   (1) وفيات الأعيان، لابن خلكان: جزء أول ص 402. [ ..... ] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 وراءه! وبهذا الشعور خلق الفنانون الأساطير، ونسجوا الخرافات، التي كانت المورد الذي تتزاحم عليه الإنسانية، وتروى منه أشواقها ومواجدها، وتغذّى به آمالها وأحلامها.. وإذ طلع عصر العلم التجريبى على الناس واستقامت العقول على منطق التجربة، وحكم الواقع المادىّ- لم يعد للقوى الغيبية هذا السلطان المتسلط على العقول والقلوب، ولم يعد فى الناس من تستهويه هذه القوى، أو تحمله على الوقوف طويلا عندها.. فإن يكن للناس مع هذه القوى وقفة فى هذا العصر، فهى وقفة اللاهي العابث، الذي يلتمس التخفف من ضغوط المادة، وثقل الواقع.. ثم لا يلبث أن يأخذ طريقه إلى عالم المادة والواقع، الذي يتقلب فيه، ويتعامل معه! ولهذا، فإن أي لباس يلبسه الإنسان اليوم غير جلده البشرىّ، وثوبه الإنسانى، لا يمكن أن يحجب أعين الناس عن حقيقته، أو أن يخيّل إليهم منه أنه غير إنسان!! فقد يلبس الناس على المسارح جلود الحيوانات، وأثواب الشياطين، والجن والآلهة.. ثم هم مع هذا فى أعين المتفرجين أناس كسائر الناس.. وأن هذه الأثواب، وتلك الأصباغ أشياء مستعارة.. لا تغير ولا تبدّل من الحقيقة الواقعة شيئا. ولا يخرج الحال بأولئك الذين يدّعون لأنفسهم، أو يدّعى لهم أنهم من طينة غير طينة الناس، ومن جلود غير جلود الناس- لا يخرج بهم الحال عن تلك الصّور المتغايرة التي يلبسها الممثلون والمهرجون! إن الناس قد استقلّوا اليوم بعالمهم الأرضى، وأجلوا عنه كل قوى غيبية كانت تعيش مع أسلافهم فيه، وتتحكم فى مصائرهم، وتبدل من أحوالهم! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 وأنهم إذا شاقهم لقاء تلك القوى الغيبية أطلعوها بقدر، للتسلية والترفيه، ثم أرسلوها لتعود من حيث جاءت! والسؤال هنا هو: ترى لو جاء «الله» إلى الناس اليوم فى صورة إنسان من الناس، يعرفون وجهه، وليدا وطفلا، وصبيا، وشابا، وكهلا.. ثم دعاهم هو، أو دعاهم داع غيره إلى الإيمان به إلها، والتعبد له ربا- أكان يجد من الناس أذنا صاغية، وقلبا واعيا، لتلك الدعوة؟ ربما كان بعض الأغرار، وأصحاب الأهواء والبدع، ممن تستهويهم المواقف الشاذة، وتروقهم الانحرافات والشطحات- ربما كان بعض هؤلاء وأولئك يلتفتون إلى هذه الدعوة، ويستجيبون لها.. ولكنهم مهما بلغ عددهم، يظلون فى عزلة عقلية واجتماعية عن المجتمع الإنسانى العصرى.. لا ينظر إليهم الناس إلا نظره الشذاذ الخارجين على الجماعة الإنسانية! ينكرهم الناس أينما التقوا بهم.. ثم لا يلبث أمرهم أن ينتهى إلى ما ينتهى إليه كل أمر لا يقوم اليوم على واقع التجربة، ولا يستند إلى برهانها! والصورة التي ظهر بها «يسوع» المسيح وإن تشابهت مع هذا التصور فى بعض ملامحه، إلا أنها تخالفه من وجهين: (الوجه الأول) هو أن «المسيح» ظهر فى عصر غير هذا العصر.. فى عصر كانت فيه صور الآلهة البشرية تعيش فى تفكير الناس، وفى أحلامهم، لا ينكرونها إذا هى التقت بهم، وتحدثت إليهم.. فلطالما التقى آباؤهم بالآلهة، وتحدثوا إليهم وتعبّدوا لهم، ولا تزال وجوه هذه الآلهة وأشباحها تطلّ عليهم من قريب! (والوجه الثاني) هو أن ألوهية المسيح لم تعلن إلى الناس وهو حىّ قائم فيهم، حتى كان يمكنهم أن يعيدوا النظر إليه، ويملئوا عيونهم منه، وهم يلتقون به الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 على تلك الصفة.. وإنما كان ذلك بعد أن انتهي المسيح تلك النهاية المعروفة.. فقيل للناس بعد هذا: إنه بعد أن صلب عاد إلى الحياة.. وصعد بعد أربعين يوما إلى ملكوته السماوي الذي نزل منه! وهنا تكثر الأحاديث عن «المسيح» وعن شخصيته! إنه ليس مجرد إنسان! وشاهد ذلك معجزاته الكثيرة التي عرفها الناس منه فى حياته.. وإنه ابن الله! .. وشاهد هذا أنه ولد من عذراء! فليس «يوسف النجار» أباه، وإنما هو زوج أمه! وإنه هو الله ذاته! شاهد ذلك أنه أمات نفسه ثم أحياها.. والله وحده هو الذي يحيى ويميت، ويميت ويحيى! «يخرج الحىّ من الميت، ويخرج الميت من الحىّ» ! وهكذا استدبر الناس حياة «المسيح» إلها، بعد أن استقبلوا حياة المسيح إنسانا بشرا! وبهذا لم يكن للشاهد أكثر مما للغائب فى شأن البحث عن ألوهية المسيح والتحقق منها.. إذ أن الذين شاهدوا المسيح لم يكن يقع لتفكيرهم أنهم يعيشون مع إله، ويتحدثون أو يستمعون إلى إله.. وإنما هم مع إنسان، وإن عظم فى الناس أمره، وسما قدره.. فهم والذين لم يروه على سواء، فى التحقق من الصفة الجديدة التي كان عليهم أن يروه من خلالها.. إنهم يستعيدون ذكريات، ويتذكرون أحداثا، على حين يطالع غيرهم- ممن غاب عنهم شخص المسيح- تلك الذكريات، وهذه الأحداث، مسطورة فى كتب، مصورة فى رسائل! وأين الإله إذن فى هذا الإنسان «يسوع» ؟ إن أحدا لم يره إلها، ولم يتعامل معه كإله، وإلّا كانت قد دارت الرءوس وجنّ جنون الناس! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 فالأمر لا يعدو أن يكون مجرد تخريجات وتأويلات، لذكريات وأحداث، وأخبار، عن تلك الذكريات وهذه الأحداث! فالله الذي تجسد فى «يسوع» المسيح لم يعلن نفسه للناس الذين ظهر فيهم وولد وعاش، وصلب، وقام من الأموات بينهم! وإنما كان هذا الإعلان بعد أن ترك «الله» هذا الجسد، وزايل هذا المكان الذي كان فيه! هذه واحدة! وأخرى، يقف العقل إزاءها متسائلا: لماذا ظهر الله فى هذا الجسد المحدود؟ فى هذا الزمن المحدود؟ فى هذا المكان المحدود؟ إنه لو كان يريد أن يكشف ذاته للناس لكان غير ذلك أولى به وأجدى!! كان ينبغى مثلا أن يظهر ظهورا متجددا متكررا.. فى أجساد كثيرة، وفى أمكنة متعددة، وفى أزمنة متجددة، حتى يستطيع الناس أن يأخذوا جميعا حظهم من هذا الإعلان.. إن كان لهذا الإعلان حكمة، وكان له أثر! ولا بد أن يكون له حكمة وأثر، وإلا لما كان هناك داعية له. إن مثل هذه الاعتراضات قد دارت فى كثير من الرءوس التي واجهت تلك المقولات التي تقال فى المسيح، وفى تجسد الله فى الجسد الذي اتخذه من عذراء! وقد أجاب عليها الذين آمنوا بهذه المقولات، ورضوا بها واطمأنوا إليها.. وإنه لا بأس من أن نعرض هنا نماذج من تلك الاعتراضات، ودفع المعترضين عليها، ثم تعليقنا على هذه الدفوع. اعتراض: - «إن الأنبياء كانوا يقومون بإعلان الله للبشر وهدايتهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 إليه.. لذلك لم يكن هناك داع لأن يقوم الله تعالى بمهمة كان يقوم بها نفر من عبيده! فما تأويل هذا؟» . وجواب: «إن الأنبياء لم يعلنوا للبشر ذات الله، بل قاموا فقط بتبليغ أقواله لهم.. إذ فضلا عن أنهم مثل غيرهم من الناس، غير معصومين من الخطيئة، الأمر الذي لا يجعلهم أهلا لإعلان ذات الله، فهم أيضا محدودون فى ذواتهم، والمحدودون لا يستطيعون أن يعلنوا غير المحدود.. فإذا أضفنا إلى ذلك أن غرض التجسّد لم يكن مجرد إعلان ذاته لليشر، بل الظهور بينهم بحالة مدركة لهم، لكى يستطيعوا معرفته والاقتراب منه، والتوافق معه- اتضح لنا أن هذا الاعتراض لا مجال له إطلاقا» «1» .. والذي يرد على هذا الاعتراض هو رجل من رجال الدين المسيحي! وعالم من علماء المسيحية «2» . وتعليق: وندع مقولته فى عصمة الأنبياء، وأنهم لهذا ليسوا أهلا لإعلان ذات الله.. ونسأل ما الغاية من إعلان ذات الله؟ وما أثر هذا لإعلان؟ ألا يكفى الإعلان عن آثاره، وأعماله، لتكون عند الناس شاهدا على وجوده، وعلى ماله من صفات الجلال والكمال؟ إن الناس يتمثلون ذوات القادة، والزعماء، والعلماء فى آثارهم وأعمالهم، دون أن يروهم أو يتصلوا بهم.. ومع هذا يحبّون منهم من يحبون، ويطيعون من يطيعون، وينقادون لمن ينقادون، بقدر ما يقع فى نفوسهم مما لهم من آثار وأعمال! .. ثم ألا يكون هذا الوجود كله، بما فيه من آيات، وما يشتمل عليه من عجائب وأسرار تقف أمامها العقول مشدوهة، وتنظر إليها الأبصار خاشعة-   (1- 2) الله- طرق إعلانه عن ذاته للأستاذ عوض سمعان ص 82 وما بعدها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 ألا يكون هذا إعلانا واضحا عن الله؟ ثم ألا يكون فيما يجىء به رسل الله وأنبياؤه من دعوات تكشف عن هذا الوجود، وتجلّى للأبصار والعقول ما غشّى عليها الجهل والضلال منه- ألا يكون فى هذا ما يكشف للناس عن وجود الله، وعظمة الله، وجلال الله، حتى يجىء الله نفسه للناس ليقول لهم: ها أنا ذا؟ اعتراض آخر.. يقول: إن التوافق مع الله لا يتوقف على رؤيته بالعين، بل على إدراك النفس لمحبته، وكماله، وجماله، ولذلك لم يكن هناك داع لأن يتجسد الله.. إذ أنه موجود فى كل مكان.. وفى أقواله لنا ما يكفى نفوسنا لإدراك كل شىء عنه وبالتالى للتوافق معه! وجواب: «حقا إن التوافق مع الله لا يتوقف على رؤية العين، بل على إدراك النفس لمحبته، وكماله، وجماله.. لكن هل تستطيع النفس أن تدرك شيئا عن الله من مجرد السمع أو القراءة عنه؟ الجواب: طبعا لا، لأن النفس كما قلنا محدودة، والله غير محدود، والمحدود لا يدرك من تلقاء ذاته غير المحدود، لذلك كان من البديهي أنه إذا أراد الله أن يجعل ذاته مدركا لنفوسنا- وعمل مثل هذا يتفق مع ذاته وصفاته كل الاتفاق- أن يظهر لنابهيئة محسوسة، نستطيع عن طريقها الاتصال به، وهذه هى الهيئة التي تنازل واتخذها، له المجد!» «1» . وتعليق: هذا الجواب ليس بالذي يسدّ هذه الثغرة التي أوجدها الاعتراض، الذي يجاب عليه بهذا الجواب! فإذا كان الإيمان بالله لا يكمل ولا يتم بمجرد السمع أو القراءة عن الله، بل لا بد من رؤيته مجسسدا، فمعنى هذا أن جميع الذين لم يروا الله مجسدا فى المسيح هم على تلك الصفة.. إيمانهم ناقص، لا يتم إلا برؤية الله مجسدا فى المسيح،   (1) المصدر السابق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 ومعنى هذا أيضا أن إيمان جميع الذين سبقوا المسيح من الأنبياء والرسل وأتباعهم إيمان ناقص، وكذلك إيمان أتباع المسيح جميعا الذين لم يروه رأى العين! فما الجواب؟ وأظن لا جواب! اعتراض ثالث: «إن كان ولا بد من تجسّد الله.. فلماذا لم يظهر بالهيئة التي تليق بمجده وبهائه، حتى تهابه الناس وتخضع له؟» وجواب: «إن غرض الله من التجسد، لم يكن لإظهار عظمته، أو إثارة وإعجاب الناس به (لأن تصرفا كهذا لا يصدر إلا من الناقص، الراغب فى تعظيم الناس له) بل هو جمعهم حوله لكى يمتّعهم بحبّه وعطفه، ويخلصهم من خطاياهم وضعفتهم، حتى تكون لهم معه حياة روحية سعيدة، وبما أنه لو كان تعالى قد ظهر لهم بهيئة تناسب مجده الأزلى لارتعب الناس منه، ولما استطاع واحد منهم أن يدنو إليه- كان البديهي أن يظهر لهم بالهيئة المألوفة لديهم، وهى الهيئة البشرية، لكى تتحقق أغراضه هذه، كما أنه لو كان قد تجنب الظهور بمجده الخاص الذي يرعب الناس، وظهر فقط بإحدى مظاهر العظمة الأرضية، لحرم متوسطو الحال والفقراء من التمتع به، وهؤلاء- كما نعلم- هم السواد الأعظم من البشر، وهم فى جملتهم أكثر من الأغنياء استعدادا لمعرفته والسير فى سبيله، لذلك كان من البديهي أيضا ألا يظهر بأى مظهر من مظاهر العظمة الدنيوية كذلك، بل يظهر بالمظهر العادي، الذي ظهر به فعلا، لأنه هو الذي يفسح المجال أمام جميع الناس للاقتراب إليه والاتصال به، والإفادة منه «1» . وتعليق وهذا الجواب أيضا أبعد من أن يدفع الاعتراض المعترض به.. فالله إذ ظهر هذا الظهور الذي هو أقرب إلى الخفاء والتستر، منه إلى أي   (1) المصدر السابق ص 85. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 شىء آخر، إذ لم ير الناس- الذين رأوه شيئا منه.. إنهم لم يروا إلا إنسانا.. مجرد إنسان يقال عنه، أو قيل عنه- فيما بعد- إنه هو الله! فأين الله الذي رآه الناس على أنه الله- وأين الناس الذين رأوه على تلك الصورة؟ لا جواب!. ثم إن الذين رأوه، هم قلّة فى الناس، لا يكادون يذكرون إلى تلك الأعداد التي لا حصر لها من الذين لم يروا المسيح، ولم يضمهم إليه، ويمتعهم بمحبته! واعتراض رابع: إذا كان المسيح هو الله.. فلماذا لم يعلن ذلك صراحة أمام الناس، حتى يؤمنوا جميعا به؟» . وجواب: «لا يخفى لدى العاقل أنه لو كان المسيح قد أعلن للناس عن حقيقة ذاته قبل أن يختبروها بأنفسهم، لكانوا قد اعتبروه محترفا ومدعيا، ولما كانوا قد آمنوا به إطلاقا.. لكن شاء أن يستنتجوا هم حقيقة ذاته، من حياته، وأعماله، لكى لا يكون إيمانهم به نظريا أو سماعيا، بل إيمانا اختباريا عمليا ... «ومع كل فقد أعلن السيد المسيح عن حقيقة ذاته بكل صراحة للذين كانوا يشكّون فى شخصيته، أو لا يستطيعون الكشف عنها.. فقد قال مرة لأعمى كان- له المجد- قد شفاه: «أتؤمن بابن الله؟» فلما سأله هذا: «من هو يا سيد لأومن به؟ أجاب- له المجد: قد رأيته، والذي يتكلم معك هو هو» فقال له الأعمى: أو من يا سيد، وسجد له «1» » . وتعليق: المسيح، كما هو ظاهر من هذا القول، لم يعلن أنه هو الله، بل قال إنه «ابن الله» . وللبنوة هذه معنى كان معروفا عند الناس إذ ذاك فى   (1) المصدر السابق ص 88. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 الكتب المقدسة.. وطبيعى أن هذا الأعمى لم يكن عنده علم بالأقانيم الثلاثة التي يمثل الابن وجها من وجوه الله بها.. والتي عرفت بعد ذلك بزمن طويل. فإذا اعترف بأن المسيح ابن الله، كان اعترافه بأن المسيح ذات مستقلة عن الله.. فالمسيح ابن، والله أب.. والأب غير الابن.. أما القول بأن المسيح لم يعلن عن ألوهيته حتى يختبرها الناس فى أعماله وآثاره، فقد كانت نتيجة هذا الاختبار هو صلب المسيح كما يؤمن بذلك الذين آمنوا بألوهيته.. وهى نتيجة ناطقة ببطلان هذا القول.. واعتراض خامس: «إن كان ولا بد من تجسد الله، فلماذا لم يظهر فى العالم رجلا كامل النمو، بدلا من ولادته من امرأة، ومروره فى أدوار الطفولة والصبا، التي لم يفعل فيها شيئا مذكورا؟» . وجواب: «إن السنّة التي وضعها الله للأفراد والجماعات هى النمو والتقدم، وبناء على ذلك كان من البديهي أن يظهر المسيح- وقد رضى أن يكون إنسانا- طفلا، يتدرج فى النمو، قامة وعقلا، وتتدرج معه الجماعة المحيطة به يقظة ووعيا، تتهيأ بسببه لقبول المسيح والاستماع إليه.. كما أننا إذا وضعنا قبلة أنظارنا أن غرض الله من التجسد لم يكن مجرد إعلان ذاته لنا، بل الاتحاد الجوهري بنا، لكى يكون الرأس الفعلى أو الحقيقي لجنسنا (عوضا عن آدم الأرضىّ الذي بانتسابنا إليه، وتوالدنا منه قد ورثنا الطبيعة الخاطئة، وورثنا معها قضاء الموت الأبدى) حتى نستطيع بدورنا أن نتحد بالله اتحادا عمليا حقيقيا- اتضح لنا أنه لو كان قد ظهر كامل النمو، أو بتعبير آخر ظهر دون أن يأخذ جسدا من جنسنا، لكان قد ظل غريبا عنا، ومفارقا لنا، وبالتبعية لما كان رأسا لنا، ولما كان لنا نحن صلة فعلية به، لكن بتفضله بالولادة من جنسنا، قد اتحد بنا، وأصبح لنا بدورنا أن نتحد به، اتحاد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 الأغصان بالكرمة، وبذلك تحققت أغراضه السامية بالتجسد «1» » . وتعليق: لقد انحرف هنا الجواب أيضا عن الرد المباشر على الاعتراض.. وهو لماذا لم يظهر «الله» حين تجسد، رجلا كامل النمو، بدلا من أن يمر فى تلك الأدوار التي مرّ فيها.؟ وقد أجاب المجيب إجابة متهافتة، وإذ شعر بهذا، فقد اتجه اتجاها آخر بالإجابة على هذا الاعتراض، وهو أن الله قد اتحد بجنسنا لكى نتحد نحن به، لأن الجنس أشكل بجنسه! وكان على المتصدّى للرد على هذا الاعتراض أن يعلل لتجسد الله- لا فى جسد إنسانى وحسب- بل وبمرور هذا التجسد فى جميع أدوار الحياة الإنسانية من الميلاد إلى الممات.! ولو أنه فعل لوجد أن المسيح الذي تجسد الله فيه قد مات شابا، فلم يمرّ فى أدوار الكهولة، والشيخوخة! وكان منطق الردّ يقضى بأن يمر المسيح أو الله المتجسد فى المسيح، فى جميع هذه الأدوار، حتى يلبس الإنسانية كلها، وبهذا يمكن أن يكون رأسا لها! ثم ماذا يقول المجيب على هذا الاعتراض، عن حياة المسيح فى رحم أمه، ثم فى دور طفولته، وهو فى قيد الضعف والعجز، لا يملك من أمر نفسه شيئا ... ؟ واعتراض سادس: «إذا كان المسيح هو الله.. فلماذا ظهر فى أماكن محدّدة، ولم يظهر فى جميع الأمكنة، حتى يراه جميع الناس، ويؤمنوا به؟ وجوابه: إذا رجعنا إلى العصر الذي عاش فيه المسيح على الأرض، وجدنا أن الشعب الوحيد الذي كان يؤمن بالله إيمانا خالصا من كل زيغ، هو الشعب   (1) المصدر نفسه ص 100. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 اليهودي، ولذلك كان من البديهي أن يظهر المسيح بوصفه «الله المتأنّس» ، بين اليهود لأنهم أقرب الناس إلى الإيمان به «1» ! .. وكان من البديهي أيضا أن يظل بينهم حتى يعرفوه حق المعرفة، ويؤمنوا به كل الإيمان، ولكن لما رفضوه على الرغم من الأدلة الكتابية والاختبارية التي تثبت حقيقة ذاته «2» - اختار من بينهم أشخاصا كانوا أكثر استعدادا من غيرهم لمعرفته والتوافق معه، وقضى مدة طويلة فى تدريبهم وتعليمهم «3» ، حتى عرفوا بعد قيامته من بين الأموات حقيقة ذاته كل المعرفة «4» ، ثم كلفهم بعد ذلك أن يحملوا رسالته، ليس إلى اليهود وحدهم، بل إلى كل الأمم (متى 28: 18) [وهذا يناقض ما نطق به المسيح: «إلى أمم لا تمضوا: [متى 10: 5] «وإذا أضفنا إلى هذا: (أولا) أن فلسطين التي ظهر فيها المسيح لم يره كل شخص من سكانها، بل إن كثيرين لم يروه إطلاقا، وأنه لو كان قد انتقل إلى كل بلاد العالم لكان كثيرون أيضا من سكانها لا يرونه. و (ثانيا) أن معرفة الله فى المسيح لا تتوقف على رؤية العين، بل على الإيمان به بالقلب، وفى هذه الحالة يستوى الذين رأوه والذين لم يروه، إذا كانوا قد   (1) وشاهد هذا أنهم كذبوه، وبهتوه، وطعنوه فى شرف مولده، وفى عفة أمه.. ثم ساقوه إلى الصلب، فصلبوه!! كما يقولون. (2) ومفهوم هذا أن الله قدر فلم يحسن التقدير، واختار فلم يحسن الاختيار، وهل يكون «الله» الذي يلبس ثوب الإنسان، ويضع نفسه فى إهابه منزها عن هذا النقص؟ (3) انظر إلى «الله» هذا الذي يعانى ما يعانى فى تعليم الناس وتدريبهم.. أهو يخرج عن طبيعة البشر العاجزين الضعفاء؟ (4) انظر كيف عجز «الله» هذا، عن أن يعرف نفسه للخاصة الذين اختارهم من بين البشر إنه لم يستطع أن يعرفهم به إلا بعد أن مثل أمامهم عملية الموت فى نفسه، فمات، وقبر، ثم قام من الأموات! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 آمنوا به!! ويستوى الذين رأوه والذين لم يروه إذا كانوا لم يؤمنوا به!» . وتعليق: ونقف عند هذا المقطع الأخير من الجواب.. ونسأل: إذا كانت معرفة الله لا تتوقف على رؤيته بالعين، بل على الإيمان به بالقلب- وفى هذه الحالة يستوى الذين رأوه والذين لم يروه من المؤمنين به وغير المؤمنين- فلماذا إذن هذا التجسد لله؟ وما حكمته، إذا كان يستوى فى ذلك الذين رأوه والذين لم يروه؟ ثم لم هذه البلبلة وهذا الاضطراب، وهذه الفتن التي تجىء من وراء القول بتجسد الله؟ وإن أقلّ ما فيه أنه يفتح باب الادعاء على مصراعيه، لكل من يدّعى أنه الله، وأن الله قد تجسّد فيه! وفى هذا ما فيه من التعمية على الناس، والتشويش على المؤمنين بالله!؟ واعتراض سابع: «إن تجسد الله، إما أن يظل إلى آخر الدهور، فتدوم فوائده، وإما أن يكون مؤقتا، وحينئذ لا يكون هناك مبرر لتمتع جيل خاص برؤيته فى الجسد، دون غيره من الأجيال» . وجوابه: «بما أنه مع ظهور الله فى الجسد فى العالم، ورؤية الناس لأعماله ومعجزاته، استمر معظمهم فى شرورهم وآثامهم. وبما أنه تعالى يريد أن يكون الإيمان به مقترنا كل الاقتران بحياة القداسة.. وبما أن حياة القداسة لا تتأتّى بواسطة الاقتناع النظري بحقيقة الله، بل بواسطة الاتصال الروحي به.. وبما أن هذا الاتصال لا يتولد عن النظر إليه بعين الجسد الخارجية، بل عن النظر إليه بعين الإيمان الباطنية- إذن كان من البديهي أن يقتصر الرب فى أمر ظهوره بالجسد على المدة التي قضاها فى العالم (وهذه والحمد لله- الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 يقول المؤلف- كانت كافية كل الكفاية لإثبات شخصيته، وإظهار محبته للبشر أجمعين، حتى تكون علاقتهم به ليس العلاقة الجسدية، بل العلاقة الروحية ... ) «1» . والتعليق: وإذن فقد كان ظهور الله متجسدا فى تلك المدة المحدودة، فى الزمان والمكان- كان ذلك لمجرد إثبات شخصيته! ولكن لمن؟ لجماعة معدودة من الناس.. فى جيل محدود من أجيالهم، وفى رقعة محدودة من أوطانهم.. وإذن فقد كان على الله أن يقدّم «بطاقة» شخصية إلى كل إنسان، فى كل زمان، وفى كل مكان.. وإلا كان من حق الناس أن يجهلوه ولا يعترفوا به! مشكلات كثيرة أثارها تجسّد الله فى المسيح.. فى إنسان معروف للناس، رأوه رأى العين، يعالج من شئون الحياة ما يعالجون، ويأتى ما يأتون، ويذر ما يذرون.. ثم يعود فيطلع عليهم من عالم الأموات، فإذا هو الله «رب العالمين!!» كان يمكن أن تكون هذه الدعوى أكثر احتمالا، وأقرب إلى الواقعية لو أن الناس قد التقوا بدعوى ألوهية المسيح حال حياته، حيث يتاح لهم النظر إليه من قرب، واختبار أحواله عن واقع.. وأدخل من هذا فى باب الاحتمال والواقعية لو أن المسيح لم يلتق بالناس ولم يلتق به الناس إلا رجلا كاملا، لم يروا فيه ضعف الطفولة، وعجزها، وتحكّم الضرورات الإنسانية فيها، وخضوعه خضوعا مطلقا ليد من يرعاه ويقوم بأموره!   (1) الله- طرق إعلانه عن ذاته ص- 104. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 وقد رأينا الدفوع التي دفعت بها هذه الاعتراضات وأشباهها، وأنها كانت دفوعا هزيلة متهافته، لا تغنى من الحق شيئا، ولا تزيد الأمر إلا غموضا على غموض، وشبها فوق شبه! حلّ أضاف إلى المشكلة مشكلات: وأمر آخر من أمر المسيح «الإله» زاد العقدة عقدا، وأضاف إلى المشكلة مشكلات.. وهو هذا الفهم الجديد للألوهية، ذلك الفهم الذي لم تعرفه الدعوات السماوية من أمر الإله، فى هذا الوصف الكاشف لذاته، والتشريح المكيّف لتلك الذات.. حيث ظهر القول بتلك الأقانيم أو التعيّنات الثلاثة «لله» واعتباره ثلاثة فى واحد، وواحدا فى ثلاثة.. هم: الأب، والابن، وروح القدس! هذه المقولة قد وضعت المسيح «الله» وضعا جانبيا فى الذات الإلهية.. فلم يكن هو «الله» «كلّ الله» وإنما هو «الابن» ظاهرا، ثم هو فى الوقت نفسه الأب والروح القدس، قائما وراء هذا الظاهر! إنها عملية معقدة! وحلقة مفرغة لا يدرى أحد أين طرفاها!! فالمسيح إنسان، وإله.. إنسان كامل.. وإله كامل.. وانظر كيف يجتمع الإنسان والإله فى كيان واحد! .. شخصية مزدوجة، وجهها إله، وظهرها إنسان! والمسيح.. ابن، وأب، وروح قدس! والابن هو الله..! والأب هو الله..! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 وروح القدس هو الله! والأب، والابن، وروح القدس، وهم الله! إنها ألغاز وطلاسم، لا يمكن أن يتصورها العقل إلا إذا اصطنع لها التشبيهات، والتخيلات! ولعل أقرب صورة تمثل هذا المفهوم لله، هو القمر، ومنازله المختلفة.. فالقمر يكون هلالا.. فبدرا.. فمحاقا.. وهو هو القمر.! فإذا كان هلالا ففى كيانه البدر والمحاق! وإذا كان بدرا فمن ورائه المحاق والهلال! وإذا كان محاقا.. فبين يديه الهلال والبدر! ومع هذا فإن الناس لا يقولون عن الهلال إنه بدر أو محاق. ولا يقولون عن البدر إنه محاق أو هلال.. إن لكل وجه من هذه الوجوه مفهوما خاصّا عند الناس! ولكن لو كان لله تعينات، ووجوه كوجوه القمر، فإن معنى هذا أن «الله» متحول متغيّر.. يلبس أثوابا مختلفة، ويبدو فى وجوه متعددة! والمؤمنون بالله- ومنهم أتباع المسيح- مؤمنون بأن الله لا يتغيّر ولا يتبدّل، ولا يتحول من حال إلى حال أبدا! ثم من جهة أخرى ... لا يرى الذي يؤمن بألوهية المسيح- على هذا المفهوم- إلا وجها واحدا من «الله» وهو وجه «الابن» أو أقنوم الابن.. ولهذا فإنه يحدّق دائما فى هذا الوجه، ويتعامل معه، دون أن يكون للوجهين الآخرين حساب أو تقدير، فى مجال الشعور والوجدان، وإن كان لهما فى مجال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 البحث والدرس حساب وتقدير عند من لهم قدرة على البحث والدرس! إن «المسيح» الذي يمثل أقنوم «الابن» فى «الله» هو وحده الذي يتعامل معه أتباع المسيح.. فهو الله المسيح! وهو الله الابن! أما «بقية» الله، أو الجوانب الأخرى من الله، فهى شىء وراء هذا الحساب، وهذا التقدير!! والشعور الذي يقوم فى كيان «المؤمن» بالله على هذا الوجه، شعور يتسلط عليه إحساس منه، بإيثار بعض «الله» على بعض، وأن الله أبعاضا.. هذا التصور، لا يمكن أن يتخلّص من الإحساس به أي مؤمن بالله المسيح، ولو حاول ذلك وأجهد نفسه فى المحاولة! فالمؤمن بالله المسيح، إنما يعنيه من الله هذا الوجه المطل عليه فى شخص المسيح، وهو أقنوم «الابن» الذي تجسد الله به فى هذا الجسد! ألم نقل إن الحلّ الذي أريد به إيجاد تسوية لألوهية «المسيح» قد أضاف إلى المشكلة مشكلات، وزاد عقدها عقدا؟ وبلى! فإن القول بأن المسيح هو «الله» .. كلّ الله.. بجميع صفاته وأقانيمه، وتعيّناته- هذا القول أقرب إلى العقل من القول بأن «المسيح» هو الله متجسدا فى أقنوم «الابن» دون الأقنومين الآخرين اللذين يقال إنهما لله، وهما الأب وروح القدس! إن القول بتجسد «الله» فى أقنوم الابن، الذي منه كان المسيح، ثم القول بأن المسيح هو الله- يجعل المسيح ذا صور ثلاث: إنسانا، وإلها وبعض إله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 وهذه الصور الثلاث تتخايل دائما- مجتمعة ومتفرقة- فى عينى من يعتقد فى ألوهية المسيح.. فكلما ذكر المرء «المسيح» وقعت فى تصوره هذه الصور الثلاث.. تجتمع، وتتفرق، ويختلط بعضها ببعض، فتتشكل منها صور وأشكال..! العقل.. والمسيح الإنسان: الوجه الإنسانى فى المسيح، هو أبرز هذه الوجوه الثلاثة، التي تتخايل منه، لمن ينظر إليه على اعتبار أنه «الله» «مصمتا» مجملا، أو الله «مفككا» مفصلا.! فالمسيح الإنسان قد رآه الناس رأى العين، وقد وصفه الواصفون وصف رؤية وعيان.. فهو حقيقة ماثلة فى عين من يؤمنون بألوهيته.. فضلا عن الذين لا يؤمنون به إلها!! وقد استجاب المؤمنون بالمسيح الإله، لهذا المعطيات التي أعطاها الشهود الحسّى لهم منه، فتمثلوه- وهو الله- حاضرا معهم فى جسده، الذي رأوه رؤية بصرية، أو خبرية.. فصوروه. وصنعوا له التماثيل، وليدا، ومصلوبا، وصاعدا إلى السماء. بعد قيامته من الأموات! إن المسيح الإنسان هو الذي يملأ قلوب المؤمنين بأنه هو الله، وإنهم- مهما جهدوا- لن يستطيعوا أن يتمثلوا الله فى حال من الأحوال، إلا فى صورة المسيح الإنسان الذي رأوه فى صوره المختلفة التي تمثلوها له، وصوروه، أو مثلوه عليها! ولهذا فقد غلبت صورة المسيح الإنسان على كلّ تصور لله، ولهذا أيضا كانت صورة «المسيح» الإنسان فى عينى، وفى قلب كل مؤمن بأنه «الله» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 ونسأل: وماذا لو استقام المسيح على وجه واحد.. فكان إنسانا لم يخالطه شىء من الألوهية، أو كان إلها لم تشبه شائبة من البشرية؟ إن أعدل صورة للإنسان هو أن يكون إنسانا فى كل شىء.. فى ظاهر أمره وباطنه جميعا. فأعضاؤه، وحواسّه، إذا خرج منها شىء عن حدود البشرية، ومألوفها.. فسد أمره، واضطرب وجوده بين الناس! وانظر كيف يكون حال إنسان له رجل واحدة بدل اثنتين، أو كان له أربع عيون بدلا من عينين، أو أن عينيه ركبتا فوق رأسه، أو أن حاسة بصره كانت أشبه بالمجهر، أو أن حاسة سمعه كانت كمكبرات الأصوات.. أترى مثل هذا الإنسان يهنؤه طعام، أو يستقيم له أمر؟ وقل مثل هذا فى كيانه الداخلى.. فى عواطفه ونوازعه، وفى أفكاره وخواطره.. إنه إن خرج فى شىء من ذلك عن حدود البشرية، فى أعلا ذراها، أو أدنى مستوياتها، تعس وشقى! إن الغراب الذي يلبس جلد الطاووس.. ليس غرابا، وليس طاووسا.. بل ليس من عالم الطير إطلاقا! والمسيح- صلوات الله وسلامه عليه- تحدّث سيرته عن إنسان كرم فى الإنسانية غرسه، وطاب ثمره، فكان غرّة فى جبينها، ودرة فى تاجها، ونجما لامعا فى سمائها، ومصباحا هاديا فى أرضها.. هيهات أن تلد الأمهات من يدانيه، نبلا، وطهرا، واستقامة وعفّة.. إلا من كان من الصفوة المتخيّرة من رسل الله وأنبيائه! فالمسيح- الإنسان- أمل من آمال الإنسانية، ومنزع من منازعها، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 وحلم من أحلامها.. قد ظفرت به حقيقة واقعة، فرأت فيه الإنسان كيف يستعلى على شهواته، وكيف يقهر هواه، وكيف يبلغ به خلقه فى العالم الأرضى ما لا تبلغ الملائكة فى عالمها العلوي! وإنه لكسب عظيم للإنسانية أن يكون «المسيح» الإنسان واحدا منها، إذ به وبمن شابهه أو داناه، من الأنبياء، والحكماء، والقادة، والمصلحين- تثقل موازين الإنسانية، ويرتفع قدرها، ويستقيم خطوها، وتثبت أقدامها على طريق الحق، والخير، والسلام! وانظر كيف يكون حال الإنسانية من الجدب والعقم، فى خلقها، وفى تفكيرها، لو أن هؤلاء العباقرة، وأولئك الرءوس الشوامخ الذين تلدهم الحياة بين الحين والحين- أضيفوا إلى عالم غير عالم البشر، فكانوا من الجن، أو الملائكة، أو الآلهة.. أو أي خلق آخر مما يكبر فى صدور الناس؟ إن هذه الفتوح العظيمة التي حققتها الإنسانية على هذه الأرض، فى ميادين العلم والفنّ، وما أخرج العلم والفن من ثمرات عمرت بها الحياة، وقامت بها تلك الحضارة التي تملأ وجوه الأرض، حياة وعمرانا- هذه الفتوح العظيمة هى من صنع الإنسان، ومن وحي العباقرة والملهمين من الناس! فلو أن الإنسانية لم تلد هؤلاء العباقرة والملهمين من أبنائها، لظلت تحبو فى طفولتها، وتعيش فى هذا المستوي الطفولىّ، الذي لا يرتفع بها كثيرا عن مرتبة الحيوان! وحول الإنسانية، وفى محيطها قوى غيبية لا حدّ لقدرتها، ولا نفاد لحولها وقوتها.. كالجن والملائكة مثلا.. ومع هذا فإن الإنسان لم يفد منها شيئا، فى صراعه مع الحياة، ولا فى غزواته لكشف أسرارها!. ولقد تتعلق عيون الناس وآمالهم قرونا وأجيالا طويلة بهذه القوى الغيبية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 تريد عونها ومساندتها، فى الإمساك بسفينتها المضطربة بين متلاطم الأمواج.. ولكن الذي كان يطلع على الإنسانية دائما، هو واحد من أبنائها، يستجيب لندائها، ويحقق ما اتجهت إليه أنظارها، وتفتحت له آمالها.. ولو ارتفع المسيح إلى مرتبة الألوهية، وخرج من حساب الإنسانية، لخفّ ميزان النّاس، ولحرموا هذا الخير الكثير الذي يجدونه فى تلك الكلمات المشرقة المسعدة، التي تطلع عليهم من فم إنسان، ومن قلب إنسان، ومن تفكير إنسان ... ثم لمّا نزعت بهم نازعة إلى تمثّل سيرته، واقتفاء أثره، إلا إذا حسبوه فى سجلّ الإنسانية، وعدوّه إنسانا من الناس.. أما إذا أضيف إلى الآلهة، وحسب فى عدادها، فلا يقع فى نفس إنسان أن يتشبه به، أو يحذو حذوه.. فذاك إله، وهذا إنسان.. وأين الإنسان من الإله؟ لذلك طريق ولهذا طريق!. والأمر أكثر من هذا خسارة على الإنسانية وتفويتا لما يرجى لها من خير.. لو أن «المسيح» كان هو «الله» الذي يؤمن به المؤمنون، ويتعبّد له المتعبّدون! وانظر كيف يكون هذا الحساب! إنّ «الله» الذي يؤمن به المؤمنون.. أزلىّ أبدى.! فهو هو لم يتغيّر ولم يتبدّل، ولن يتغيّر أو يتبدل، ولم يزد ولم ينقص، ولن يزيد ولن ينقص! و «المسيح» الذي ظهر فى فترة ما، لأعين الناس الذين رأوه، ليس إلا «الله» الأزلى الأبدى.. على ما يؤمن المؤمنون بألوهيته.. وظهور الله فى هذا «الجسد» لم يغيّر من ذات الله شيئا! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 فالله هو الله- فى جسد المسيح، وفى غير جسد المسيح.. أو فى أي جسد آخر.. بشرى، أو غير بشرى!. وإذن فليس هنا «الله» و «المسيح» .. وإذن- أيضا- فلا ذات إلا ذات واحدة، تمثلّ الألوهية، هى: الله أو المسيح!. فالله- كما قلنا- ذات واحدة، لم ولن تتبدل أو تتغيّر، ولم ولن تزيد أو تنقص، وهذا هو ما يقول به أتباع المسيح.. كما يقول به المؤمنون بالله. فالقول بألوهية المسيح، وبأنه الله، قول لا يدخل منه على الألوهية شىء، فلا يضيف إلى ذات الله بهاء، ولا جلالا، بل إن العكس هو الصحيح، إذ نزل بقدر الله، وعفّر ذاته بتراب الأرض، وعرض وجهه للبصق والصّفع، وأقام جسده على الصليب مشدودا، تدقّ يداه وقدماه بالمسامير، ويستسقى فيسقى المرّ المذاب، ويصرخ صرخات ضارعة مستيئسة، ولا راحم، ولا مجيب! وتعالى الله عند ذلك علوّا كبيرا. إن «الله» المسيح، قد كشف فى هذه الأحوال عن إله لا حول له ولا قوة، يصارع الخطيئة التي غرسها بيده فى كيان الإنسان.. (ونعم غرسها بيده، إذ كان الشيطان هو الذي ساقه إليها، أو ساقها إليه، والشيطان من صنعة يد الله، بلا شك) ثم يحتال الله لذلك، فلا تسعفه الحيل إلا بأن يتخلّق فى رحم امرأة، ويولد منها، ويرضع من ثديها، حتى يشبّ ويكون رجلا، فيتخذ له تلاميذ وأتباعا، يدعوهم إلى ما يدعوهم إليه.. ثم ينتهى أمره إلى الموت صلبا، ليكون بهذا الموت ذبيحة، لغفران الخطيئة التي أخطأها آدم فى عصيانه أمر الله!. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 أرأيت أعجب من هذا العجب! إنسان يخطىء فى حق الله، ويخرج عن طاعته.. فلا يعاقبه الله، ولا يأخذه بجريرته! ولو وقف الأمر عند هذا الحد، لكان مفهوما مقبولا.. إنسان أخطأ، ورب غفور رحيم! ولكن الذي لا يفهم، ولا يقبل، هو أن يجىء الله، لكى يغفر جريمة هذا الإنسان، فيربّى نفسه فى حجر الإنسانية، ثم إذا أصبح «حملا» صالحا للذبح، ذبح نفسه، ليكون كفارة لهذا الذنب الذي ارتكبه فى حقه عبد من عبيده! وندع هذا الحساب المغلوط، شكلا وموضوعا.. لمن يقيم خلله، إن كان فى الناس من يحسن البناء على خواء، ويقيم صرحا فى الهواء. ونسأل: أين «المسيح» الإنسان؟ أين ذلك الوجه المشرق الوضيء الذي طالع فيه الناس سمات الإنسانية، فى نبلها، وطهرها، وعفتها، ورحمتها، وحكمتها؟ أين ذلك الإنسان الذي عاش فى الناس فآنس وحشتهم، وفتح لهم طرقا مستقيمة إلى معالم الخير، والنور، والسلام؟ إنه لا وجود له فى عالم الناس..! إنه لم يكن إلا «الله» .. ولم تكن تلك الفترة التي رآه الناس فيها فى صورة إنسان- إلا حلما من تلك الأحلام المسعدة، التي يصحون بعدها على الواقع الذي يعيشون فيه! هكذا هو فى زى الإله الذي ألبسوه إياه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 إن المسيح «الله» .. لا حساب له في عالم الناس.! وإنها لخسارة فادحة محققة للإنسانية، إذ تفتقد المسيح إنسانا، حين تراه إلها.. ثم تتطلع إليه مقام الألوهية، فلا ترى له وجودا.. لأنه عاش على الأرض وصلب، ودفن فى الأرض.. وأن من كان هذا شأنه، فلن يعود إلى مقام الألوهية أبدا، على فرض أنه كان الإله، وكان الله رب العالمين.. إن مخايل الإنسانية وصفاتها، ومشخصاتها لن تفارقه بحال، ولن تزايل أنظار الناظرين إليه، والمؤمنين به على تلك الصفة.. أما الله سبحانه وتعالى، فهو الله الذي تنزّه عن التجسد والتشكل. الله وحده.. لا شريك له! الله فى عظمته وجلاله.. قبل المسيح.. وبعد المسيح! الله الذي آمن به آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، وجميع أنبياء الله، ورسله، ومن استجاب لهم، وسلك سبيلهم! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 6- سورة الأنعام أسماؤها: أشهر أسمائها: الأنعام، لكثرة ما ذكر فيها من لفظ «أنعام» وتسمى الحجّة، لأنها اشتملت علما كثيرا من دلائل حجة النبوة. نزولها: ملكية.. إلا ست آيات نزلت بالمدينة.. وقيل إن السورة نزلت دفعة واحدة، ما عدا هذه الآيات الست. عدد آياتها: مائة وخمس وستون آية. عدد كلماتها: ثلاثة آلاف واثنتان وخمسون كلمة. عدد حروفها: اثنا عشر ألفا ومئتان وأربعون حرفا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الآية: (1) [سورة الأنعام (6) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) التفسير: تفتتح هذه السورة الكريمة، بالحمد، لمستحقّ الحمد، سبحانه وتعالى، ذى القدرة والطول، الذي له ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شىء قدير، فتلك صفته- سبحانه وتعالى- التي كانت مختم السورة السابقة، والتي أضيف بها هذا الوجود كله إليه، لا شريك له فيه، ملكه بسلطانه، واستولى عليه بقدرته.. ومن كان هذا شأنه، وتلك صفته، فلا متوجّه إلا إليه، ولا حمد إلّا له. فقوله سبحانه: «الْحَمْدُ لِلَّهِ» قصر للحمد عليه وحده، وهو حمد مطلوب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 من كل كائن أن يسبّح لله به، إذ هو الذي خلقه وأوجده من عدم.. والوجود بالإضافة إلى العدم نعمة تستأهل الشكر، وتستوجب الحمد.. فأى موجود- على أية صفة، وعلى أي حال- هو نفحة من نفحات الله سبحانه، وعطاء من عطائه، وصنعة من صنعته، وليس كذلك العدم، الذي هو فناء مطلق، وتيه وضياع أبدىّ.. إنه لا شىء، وشىء خير من لا شىء! إن أي موجود- على أية صفة وعلى أي حال- هو مجلى قدرة الله، وآية من آيات تلك القدرة الخالقة المبدعة المصوّرة، وإشارة دالة على وجود الخالق، إذ لا يعرف الخالق إلا بما خلق.. وفى أول ما تلقّى النبىّ الكريم من ربّه: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ» فكانت صفة الربوبية والخلق أول ما صافح أذن النبىّ، ومسّ شغاف قلبه من صفات الحق جلّ وعلا.. فالربوبية والخلق صفتان متلازمتان ... إذ لا ربوبية إلا لمربوبين، ولا خلق بغير ربوبية، تمسك الخلق، وتحفظ عليهم وجودهم.. ومن هنا ندرك بعض السرّ فى أن كانت فاتحة الكتاب، مفتتحا لرسالة الإسلام وكتابها الكريم، وأن كانت صلاتنا- وهى عماد ديننا- وتسبيحا بالفاتحة، وأن كان الحمد مفتتح الفاتحة. وقوله سبحانه: «الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ» هو صفة الله، المحمود بما خلق من السموات والأرض، وما أبدع فى خلقه، وخالف بين مخلوقاته، فجعل الظلمات وجعل النور.. وهنا أمور يجب الوقوف عندها: فأولا: جمع السموات وإفراد الأرض.. وفى القرآن الكريم، جاءت السموات بلفظ الجمع، كما جاءت بلفظ المفرد: هكذا «السماء» .. ولم تجىء الأرض إلا بلفظ المفرد هكذا: «الأرض» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 فما سر هذا؟ ومدلول اللغة يقضى بأن الجمع أكثر من المفرد عددا.. فالجمع، أكثر من اثنين، إلى ما تنتهى إليه المعدودات من عدد.. والمفرد واحد، لا يزيد.. هذا فى الأشياء المتفقة نوعا أو جنسا.. فهل يكون ذلك فى المختلف من الأنواع والأجناس؟ وهل إذا كان الجمع أكثر عددا، هل يكون أكبر جرما وقدرا؟ والجواب: أن ذلك ليس بالحتم اللازم، فقد يكون الجمع مع كثرته عددا، أقلّ من المفرد، جرما وقدرا.. فألوف الألوف من النمل مثلا، لا تعدل الفيل جرما.. وألوف الألوف من الحصا، لا تعدل حصاة من ذهب. والسؤال الوارد هنا: هل جمع السموات وإفراد الأرض، يقضى بأن تكون السموات أكبر جرما وأعظم قدرا من الأرض؟ وللإجابة على هذا، ننظر فى القرآن الكريم، فنجد أن السموات ذكرت جمعا، فى أكثر من مائة وخمسين موضعا، كما ذكرت بلفظ المفرد فى نحو مئة وعشرين موضعا..! وأنها حين تذكر جمعا يكون فى مقابلها الأرض بلفظ المفرد.. هكذا: «السموات والأرض» .. يكاد ذلك يكون مطردا فى معظم القرآن.. مثل قوله تعالى: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ» (190: آل عمران) . وقوله سبحانه: «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» (255: البقرة) وقوله: «وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 وَالْأَرْضِ» (77: النحل) .. «قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» (86: المؤمنون) «لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ» (3: سبأ) وهكذا تجمع السموات، وتفرد الأرض فى كل مقام يراد فيه عرض جلال الله، وعظمة قدرته، وسعة ملكه، ليكون فى ذلك العرض ما يدعو إلى التأمل والنظر، وتوجيه البصائر والأبصار إلى ماوراء هذا الأفق المحدود الذي يعيش فيه من لا يمدون أبصارهم إلى أكثر من مواقع أقدامهم. وأما حين تذكر السماء مفردة، فتارة يكون فى مقابلها الأرض، وتارة تذكر وحدها، غير مقترنة بالأرض، وهى فى كلا الحالين لا يراد بها جرمها وبناؤها الكونى، وإنما يراد بها أنها جهة علوّ بالنسبة للأرض، وما على الأرض.. مثل قوله تعالى: «وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ» .. وقوله سبحانه: «وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ» (11: الطارق) والرجع: هو المطر، والصدع: تشقق الأرض حين يخرج منها النبات. وقوله: «وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ» (7: الذاريات) والحبك: الطرائق الحسنة بين النجوم. وقوله تعالى: «وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» (24: الروم) وقوله سبحانه: «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ» (5: السجدة) وقوله: «اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً» (64: غافر) وقوله: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً» (22: البقرة) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 ومن هذا نرى أن التعبير القرآنى عن السموات بلفظ الجمع يرد دائما حيث يراد المقابلة بينها وبين الأرض، لا من حيث الوضع علوا وسفلا، وإنما من حيث البناء التركيبى لكل منهما، وأن السموات عوالم متعددة، والأرض بالنسبة لها أشبه بالمفرد بالنسبة لجمعه، وأنهما إن اختلفتا اسما، فقد اتفقتا صفة، بأنهما آيتان من آيات الله الدالة على علمه، وقدرته، وحكمته.. وحين ينظر الناظر إلى السماء نظرا مباشرا، غير معتمد على كشوفات العلم ومقرراته، فإنه يرى فى السماء من دلائل القدرة الإلهية والإبداع الرباني ما لا يراه فى الأرض، ولهذا كان أول مالفت إبراهيم- عليه السلام- إلى الله، ما راعه من ملكوت السموات، فى بنائها وارتفاعها، سقفا محفوظا بغير عمد، وما زينت به من كواكب.. «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ» (76- 78: الأنعام) . هذا ما يبدو للنظر المجرد، البعيد عن معطيات العلم ومقرراته.. السماء أكبر جرما من الأرض، وأوسع مدى، وأكثر محتوى للعجائب والغرائب.. فإذا ووزنت بالأرض من تلك الجهة، فهى جمع والأرض مفرد.. هى سماوات والأرض أرض أو سماء! ثم إذا كشف العلم أن الأرض ليست إلا ذرّة سابحة فى فضاء هذا الكون العظيم، لا تعدو أن تكون قطرة من محيط- إذا كشف العلم هذا كان للمسلم العالم أن يرى «السموات» جمعا يدخل فى محتواه كل حقيقة يقررها العلم، وتبلغها مقاييسه، وتنكشف لرؤيته أو لرؤاه.. من اتساع وبسطة، وامتداد، بحيث لا يرى الأرض إلا أرضا، هى ذرة من رمال الصحارى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 أو شواطىء البحار، بالإضافة إلى هذا الكون العظيم.! فالسموات بصيغة الجمع صالحة لأن يدخل فيها من أعداد السماء ما لا حصر له.. بلا قيود ولا حدود آية واحدة، جاءت فى القرآن الكريم فجمعت بين السموات والأرض بما يشعر بالمساواة بينهما، وهى قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ» (12: الطلاق) . فالمثليّة هنا قد حملها المفسرون على المثلية فى العدد، وأنه كما أن هناك سبع سموات، فهناك سبع أرضين.. وقد أكثروا من القول فى هذه الأرضين، وفى اسم كل أرض، كما قالوا ذلك فى السموات السبع، واسم كل سماء.. وتحديد السموات بأنها سبع، يعنى أنها سبعة أكوان، ولا يدرى كنه هذا الكون، ولا العوالم التي يحتويها إلا الله سبحانه وتعالى، وأما ما بلغه علمنا من أكوان السموات، فلا يعدو أن يكون أفقا محدودا من آفاق هذه الأكوان، أو موجة على صدر محيطه الغمر الرحيب. وأما المثلية بين السموات والأرض فى قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ» فليس من الحتم أن تكون مثلية فى العدد، كما فهمها عليه المفسرون، ولعله من الصواب أن يكون المراد هو المثلية فى الإبداع والقدرة التي تظهر فيها عظمة الصانع، وقدرته، وحكمته، وعلمه.. فليس الأمر أمر جرم عظيم، وآخر صغير.. وإنما هو ما يتجلى فى أي جرم- مهما صغر- من دقة الصنعة، وإحكام البناء، وروعة التكوين.. فليس الجبل فى ضخامة جرمه بأعظم من الذرة قدرا، ولا أظهر منها بيانا، للدلالة على قدرة الصانع، وروعة إبداعه، وسلطان علمه، وذلك فى نظر من له بصيرة نافذة، وإدراك سليم.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 الفيل فى ضخامة جسمه، وقوة احتماله، ليس أبلغ من النملة فى الدلالة على قدرة الله، وعلمه، وحكمته.. بل ربما كانت النملة فى جرمها الصغير تحمل من الأجهزة العاملة، مالا يحمله الفيل فى كيانه الضخم العظيم.. وإذن فلكى تكون الأرض فى صغرها مثل السموات فى كبرها، وامتداد آفاقها، ينبغى أن يكون النظر إليها بعين المستبصر الباحث، الخبير.. فإنه حينئذ تصغر السموات، وتصبح أي رقعة من الأرض أكثر من سماء، وأكبر من سماوات.. إذ كان سلطان الإنسان على الأرض، وعمله فيها، على حين لا سلطان له على السماء، ليكشف أسرارها، ويقف على عوالمها التي لا تنتهى حدودها.. وإذن- مرة أحرى- فهذه المناظرة التي بين السموات والأرض، فى قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ» هى إشارة سماوية إلى الإنسان أن يكشف مجاهل هذه الأرض التي يعيش عليها، وأن يفتش فى الكشف عن أسرارها، فإنه إن فعل لم يستصغر الكوكب الذي يعيش فيه، ولوجد فيه ما يذهل ويروع من آيات الله. وثانيا: قوله تعالى: «وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ» مع قوله تعالى فى السموات والأرض «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» .. فهل ثمة فرق بين الخلق والجعل؟ أم أن الخلق هو الجعل، والجعل هو الخلق؟ وأن اختلاف اللفظ مع اتفاق المعنى هو أسلوب من أساليب القرآن، تحاشيا للتكرار وثقله، كما يقول بذلك المفسرون؟ والقول بأن اختلاف اللفظ مع اتفاق المعنى، إنما داعيته هى أن ينأى القرآن به عن الرتّابة والثقل بتكرار اللفظ- هو قول إن قيل به فى أساليب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 البلغاء، فلن يقبل فى نظم القرآن، الذي يعلو ببلاغته عن هذا المعيار الإنسانى.. فإذا كرر القرآن الكريم اللفظ مرة ومرة ومرات، لم ينزله ذلك قيد شعرة عن مكانه السامي من الفصاحة والبيان، وجاء التكرار كلا تكرار، فى روعة الأداء، وتجاوب النغم، وحلاوة الجرس.. وكم كرّر القرآن من ألفاظ، وحروف، فكان اجتماعها إعجازا من إعجاز القرآن، وآية من آيات رب العالمين! وسنعرص لهذا فى بحث خاص به إن شاء الله. فلا بد إذن أن يكون لهذا الاختلاف فى النظم بين «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» «وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ» داعية، استدعته وغاية أربد به تحقيقها. والقرآن الكريم قد فرق بين الخلق والجعل فى المعنى، كما هما مفترقان فى اللفظ.. «فالخلق» فى القرآن- فى كل موضع ورد فيه- هو الإيجاد، إيحاد غير الموجود، وإظهاره للوجود.. «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» .. «خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ» .. «يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ» .. «اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ» .. فالخلق، وهو الإيجاد من عدم، هو مما انفرد به الله سبحانه وتعالى، ولهذا كان من صفاته الكريمة: «الخالق» . أما «الجعل» فهو إضافة تلحق المخلوق، وتكشف عن صفته، وتبرز طبيعته.. هو توجيه الخالق للمخلوق، ليعطى وظيفته، ويحقق وجوده.. «إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها» (7: الكهف) .. «وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً. وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً. وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً» (9- 11: النبأ) .. «وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا» ، (24: السجدة) .. «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً» (143: البقرة) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 بل إن «الجعل» يضاف إلى الإنسان، ويحسب له، أو عليه، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً» (19 الزخرف) ويقول سبحانه: «أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» (19: التوبة) ويقول: «وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ» (النحل 57) . وننظر فى قوله تعالى: «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ» فنجد أن السموات والأرض، قد خلقنا بيد القدرة القادرة، فكان فعل الخلق «خلق» مطلوبا لتحقيق هذا المعنى المراد هنا.. ونجد أن الظلمات والنور، وإن كانا مخلوقين لله، إلا أن الخلق غير مراد هنا، وإنما المراد وظيفة هذين المخلوقين، وأنهما الثّوبان اللذان يلبسان المخلوقات، أو يلبسان الكوكب الأرضى الذي نعيش عليه، ونشهد آثارهما فيه. وثالثا: جمع الظلمات، وإفراد النور. ماذا وراء الجمع هناك والإفراد هنا؟ إن الظلام كثيف ثقيل، والنور شفيف رقيق.. هكذا موقعهما على العين.. الظلام كأنه ظلمات بعضها فوق بعض.. إذا أقبل عليها النور أزاحها طبقة طبقة.. هذا فى واقع الحسّ.. ومن جهة أخرى، فإن الظلام وحشة وعمى وضلال، ومن هنا تتشعب طرقه، وتتعدد مسالك الهائمين فيه.. أما النور فهو أمن وهدى وحق.. وجه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 واحد، وطريق واحد.. من قصد وجها غير وجهه ضل، ومن سلك طريقا غير طريقه هلك. هذا بعض ما ينكشف من قدرة الله، وعلمه وحكمته، فيما تعرضه كلمات الله: «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ» . وقد كان جديرا بالإنسان، وقد منحه الله نظرا يبصر، وأذنا تسمع، وعقلا يعقل ويدرك، ومشاعر تتأثر وتنفعل- كان جديرا به أن يرى الخالق فى هذه الأكوان التي أبدعها، وفى هذا الوجود الذي أقامه، ولكن كثيرا من الناس يذهله اشتغاله بنفسه، وبدواعى نزعاته وأهوائه، عن أن يفتح قلبه لهذا الوجود، ولذلك فهو يعيش مغلقا على نفسه، مقوقعا فى ظلمات جهله وسفهه.. «وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ» (105: يوسف) . وكثير من الناس أيضا، يرى، ويبصر، ويعقل، ثم يركبه شيطانه، فيغمض عينه عما رأى، ويصمّ أذنه عما سمع، ويتهم عقله فيما عقل، وإذا هو ممن يمكرون بآيات الله، ويولّون وجوههم عن الله إلى آلهة اتخذوها، وأرباب صطنعوها وعبدوها.. «ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» أي ثمّ بعد هذه الآيات البينات، يكون فى الناس من يكفر بالله، ويجعلون له أندادا، يسوّون بينهم وبينه، ويجعلونهم عدلا له وندا؟ وفى العطف بحرف «ثمّ» ما يشير إلى التهديد والوعيد لهؤلاء الذين كفروا بالله، بعد أن ملأ الله عليهم هذا الوجود بالآيات الناطقة بوجوده، الدالّة على كمال قدرته، وشمول علمه، وبسطة سلطانه.. ففى هذا العطف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 تعقيب على المعطوف، وهو تعقيب فيه تراخ وامتداد فى مسافات الزمان والمكان بين المعطوف والمعطوف عليه، وهذا يؤذن بالمفارقة البعيدة بين المتعاطفين اللذين كان من شأنهما التشاكل والتلاحم.. ولكن كفر الكافرين بالله يجعلهم أبعد من أن يتعاطفوا مع آيات الله، وأن ينتفعوا بها، ويهتدوا بهديها: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ.. ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» .. ولو كان ما أعقب هذه الآيات هو التعرف على الله والإيمان به، لجاء النظم القرآنى عطفا بالفاء، على هذا النحو مثلا: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ» .. فعرفه وآمن به أصحاب الأبصار، وذوو البصائر.. من عباده.. الآيات: (2- 5) [سورة الأنعام (6) : الآيات 2 الى 5] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5) التفسير: الذين كفروا بربهم، وعموا عن آياته التي تملأ الوجود فى سمائه وأرضه.. عموا كذلك عن النظر فى أنفسهم، فلم يروا أنفسهم، وهم على تلك الصورة البالغة العاقلة. ماذا كانوا قبل أن يكونوا؟ ومن أي شىء كان كونهم؟. إنهم من طين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 هذه الأرض التي يطئونها بأقدامهم، ويمشون عليها اختيالا، ويقومون فوقها آلهة يطاولون الله ربّ العالمين، ويحادّونه، ويأبون الولاء له، والخضوع لسلطانه.. هكذا الإنسان كما وصفه خالقه: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» (34: إبراهيم) . وقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ» هو إشارة إلى قدرة الله سبحانه وتعالى، وأنه خلق من هذا الطين كائنا، عاقلا، ناطقا، متصرفا، سميعا، بصيرا.. ثم هو إشارة أخرى إلى ضالة قدر الإنسان، وصغاره.. ومهانته، بالنسبة لجلال قدرة الله وكماله وعظمته.. وأن الله الذي خلق من هذا الطين المهين كائنا كريما، قادر على أن يعيد هذا الكائن إلى مكانه الذي جاء منه، وهو الطين، أو ما هو دون الطّين قذارة ومهانة! وقوله سبحانه: «ثُمَّ قَضى أَجَلًا» . قضى: أي مكث حتى وفّى الزمن المقدور له، مثل قوله تعالى: «فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ» وقوله: «أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ» . وفاعل الفعل «قضى» ضمير يعود إلى الطين. والمعنى أن الله سبحانه وتعالى بدأ خلق الإنسان من طين، وأن هذا الطين مكث زمنا، ينتقل من حال إلى حال، ومن صورة إلى صورة، حتى كان منه هذا الإنسان. وفى العطف بالحرف «ثمّ» ما يشعر بامتداد الزمن وتطاوله، فى تلك الدورة الطويلة التي انتقل بها الإنسان من عالم الطين إلى عالم البشر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 لِآدَمَ» فالخلق مرحلة من مراحل تطور الكائن البشرى.. خلق أولا، أي بدئ فى خلقه، ثم صوّر، أي تنقل من حال إلى حال، متصاعدا نحو الكمال، حتى إذا استكمل وجوده البشرى وصار إنسانا، كان خلقا آخر، وعالما غير العالم الذي جاء منه.. وهذا ما يدل عليه قوله سبحانه «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ» .. فهناك خلق، أي بدء خلق، فتعديل فى هذا الخلق، أي تطور وتنقل من حال إلى حال.. حتى بلغ الصورة التي شاء الله سبحانه وتعالى الوقوف بالإنسان عندها، وإخراجه عليها. وقوله تعالى: «وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ» هو إشارة إلى الأجل الذي يعيشه الإنسان، كإنسان فى هذه الحياة.. والتقدير: وهناك أجل مسمى يقضيه الإنسان، هو مكتوب عند الله. وهذا الأجل هو المحسوب على الإنسان، إذ فيه يكون أهلا للتكليف، والحساب والجزاء.. ومن هنا أضيف هذا الأجل إلى الله سبحانه وتعالى، وحسب أنه أجل مقضىّ عند الله، فيه يعرف الإنسان ربّه، ويتعامل معه.. وفى إضافة هذا الأجل إلى الله سبحانه، إشارة إلى أن الإنسان كائن مضاف إلى الله، إضافة تكريم، اختص بها من بين كثير من الكائنات، وهذا من شأنه أن يحمل الإنسان على أن يحثّ الخطا إلى الله، وأن يدنو منه، ويتعرف إليه، ويتعامل معه.. ليكون أهلا للإضافة إلى الله.. كما يقول سبحانه: «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ» . وقوله تعالى: «ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ» إشارة إلى ما فى الإنسان من ضلال وعمى عن الله، وأنه مع هذه الآيات البينات، وتلك النعم والألطاف التي يسوقها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 سبحانه إلى النّاس، فإنهم يمترون فى الله، ويشكّون فى وجوده، أو فى قدرته، أو فى البعث والجزاء.. إلى غير ذلك مما هم فيه مختلفون. وقوله سبحانه: «وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ» هو استعراض لقدرة الله وعلمه، وأنه هو الإله الخالق للسموات والأرض، والمالك لهما، والمتصرف فيهما، لا يملك أحد معه شيئا، ولا لأحد معه تصريف فى هذا الوجود.. وإذ كان الله على تلك الصفة، فإنّه يعلم بعلمه كل شىء فى هذا الوجود، ظاهره وباطنه، جليّه وخفيّه.. «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (14: الملك) . والإنسان صنعة الله.. خلقه من طين، وتنقل به من خلق إلى خلق، حتى صار هذا الكائن البشرى، العاقل، المدرك- أفيخفى على الله من أمره شىء؟ وكيف وقد صنعه بيده، ورباه ونشّأه، وأمسك عليه حياته، وعدّ عليه أنفاسه، وأحصى نبضات قلبه؟ ألا يعلم الإنسان كل خافية من صنعة صنعها، أو مخترع اخترعه؟ فكيف بعلم الله الذي علّم الإنسان ما لم يعلم؟ وفى هذا الاستعراض لعلم الله وقدرته استدعاء للإنسان الشارد عن الله، الغافل عن ذكره، المستخفّ بشرائعه- أن يعود إلى الله، وأن يخشاه، ويتقى محارمه، حيث يرى الله كلّ ما يعمل، ويعلم ما يخفى وما يعلن.. وقوله تعالى: «وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ» هو تشنيع على الكافرين، وإعراض عنهم، حيث أعرضوا عن الله، واستخفّوا بآياته، ومكروا بها.. ولهذا لم يخاطبهم الله خطاب حضور، بل أنذرهم إنذار غيبة، لأنهم مبعدون من رحمة الله، غائبون بوجودهم عنه، مشغولون بأهوائهم وضلالاتهم عن ذكره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 وفى قوله تعالى: «فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» - ما يكشف عن وجه هؤلاء الذين أعرضوا عن آيات الله، الله، وكفروا بها.. وأن القرآن الكريم وهو الحق من الله، والآية المشرقة من آياته، لم يلقه هؤلاء الضالون إلا بالتكذيب والإعراض والاستهزاء.. فصبرا، فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون، يوم يعرضون على الله بهذا الإثم العظيم الذي حملوه، من التكذيب لكتاب الله، والاستهزاء بآياته.. وفى قوله تعالى: «فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» جاء الفعل «يستهزئون» بدلا من الفعل الذي يطلبه النظم وهو «يكذبون» .. إذ جاء وصفهم بأنهم كذبوا، فكان مقتضى هذا الوصف أن تجىء المجازاة عن التكذيب، لا عن الاستهزاء. وهذا من القرآن الكريم آية من آيات إعجازه، إذ يحمّل بهذا النظم المعجز فعل التكذيب، معنى التكذيب والاستهزاء معا.. فهم لم يكذبوا وحسب، بل أتبعوا التكذيب سخرية واستهزاء! وهذا ما يكشف عنه قوله تعالى: «فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» . الآية (6) [سورة الأنعام (6) : آية 6] أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 التفسير: القرن مائة سنة من الزمان، والمراد به هنا أهل هذا القرن، الذي ولدوا وعاشوا، وماتوا، فيه.. والمدرار: المطر الغزير المتتابع.. وهذه شواهد محسوسة ونذر قائمة بين يدى الناس، يرفعها الله سبحانه وتعالى لهم، بعد أن رفع لعقولهم ومدركاتهم كثيرا من الشواهد والنذر، فلم يبصروها ولم ينتفعوا بها.. فأين تلك الأمم التي كانت أكثر أموالا وأولادا، وأعزّ قوة وسلطانا من أهل مكة، بما ساق الله إليهم من نعم، وما مكنّ لهم فى الأرض، وما بسط لهم من سلطان عليها، فعمروها أكثر مما عمرها هؤلاء المشركون، ولكنهم حين مكروا بآيات وكفروا بنعمه، لم يكن لهم من أموالهم وأولادهم، وسلطانهم- عاصم يعصمهم من نقمة الله، فصبّ عليهم المهلكات، فأصبحوا كهشيم تذروه الرياح..؟ فأين عاد؟ وأين ثمود؟ تلك بيوتهم خاوية بما ظلموا.. يراها المشركون وهم يمرون عليها، فى غدوهم ورواحهم مع تجارتهم الغادية الرائحة بين مكة والشام.. وأين سبأ؟ وأين ما كان فيها من جنات وعيون، ونعمة كانوا فيها فاكهين؟ لقد صارت يبابا خرابا.. يرى المشركون أطلالها فى رحلتهم شتاء إلى اليمن تجارا، قد ألهتهم أموالهم وتجارتهم عن النظر فيها، وأخذ العبرة منها. لقد هلكت عاد وهلكت ثمود، وذهبت سبأ.. وخلفهم آخرون.. وسيهلك هؤلاء المشركون من أهل مكة.. وسيخلفهم غيرهم ... إنهم لن يخلّدوا بما جمعوا من مال، وما استكثروا من بنين، وما بلغوا من جاه وسلطان.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 إنهم سيهلكون كما هلك غيرهم، وإنهم لن يعمّروا عمر الزمان، فما هم إلا جيل من أجيال الناس، وقرن من قرون الزمان، ولن يمضى هذا القرن الذي هم فيه حتى يكونوا ترابا فى التراب، ليس معهم مما جمعوا إلا هذا الشرك الذي هم فيه.. والذي سيوردهم موارد العذاب المهين.. وفى لفظ «قرن» فى قوله تعالى: «كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ» إشارة إلى مدى عمر الإنسان فى هذه الحياة، وأنه محصور فى هذا الإطار من الزمن.. يزيد قليلا أو ينقص قليلا، بل إن ذلك هو عمر الجماعة الإنسانية كلها.. تمر بها القرون قرنا قرنا، وفى كل قرن زرع جديد، قائم على الزرع الذي تم حصاده، مما كان زرعا للقرن الماضي.. وهكذا الدنيا زرع وحصاد، وحصاد وزرع! الآيات: (7- 11) [سورة الأنعام (6) : الآيات 7 الى 11] وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) التفسير: تعرض هذه الآيات ما كان عليه مشركو مكة من ضلال وعناد، فى لقائهم للدعوة الإسلامية، ووقوفهم منها هذا الموقف العنادىّ، الممعن فى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 العناد والتحدّى.. فقد ركبوا رءوسهم، واتبعوا أهواءهم، واعتصموا بما هم فيه من شرك وضلال.. وهكذا كل من يلقى الأمور بظهره، وينظر إلى الأشياء بعين هواه، لا يرى الحقّ أبدا، حيث لا يستمع لكلمة ناصح، أو يستجيب لدعوة داع.. وهؤلاء المشركون.. لن تتغيّر حالهم أبدا، ولن يتحولوا عمّا ركبهم من شرك وضلال، ولو جاءهم النبىّ بكل آية. وقوله تعالى: «وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» يكشف عن هذا العناد الذي انعقدت عليهم قلوب الكافرين من أهل مكة، وأنهم لن يؤمنوا أبدا، ولو نزّل عليهم كتاب من السماء، مكتوب فى قرطاس يرونه، ويلمسونه بأيديهم.. والمراد بالذين كفروا هنا، هم الذين كتب الله عليهم الشرك من مشركى مكة، الذين لم يدخلوا فى الإسلام، وماتوا على الكفر.. وهم الذين أشارت إليهم الآية الكريمة فى قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» (6: البقرة) فالخطاب فى قوله تعالى: «وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» لا يراد به جميع المشركين من أهل مكة، الذين ووجهوا بهذا الحكم، وإنما يراد به تلك الجماعة التي ظلت سادرة فى غيها وضلالها، إلى أن ماتت على كفرها وشركها. وقوله تعالى: «وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ» هو من مقترحات هؤلاء الكافرين الذين ماتوا على كفرهم.. إنهم يأبون أن يقبلوا إنسانا بشرا يحدّثهم عن الله، ويجىء إليهم بكلماته.. وقد قالها من قبل أهل ثمود، قوم صالح عليه السلام، كما أخبر القرآن الكريم عنهم: «كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقالُوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ» (23- 25: القمر) وهذا الذي يلقى به المشركون النبىّ من تحدّ وعناد، باقتراحهم أن يجىء معه ملك من السماء، يزكّيه عندهم- هو من بعض ما كانوا يقترحون، مما تمليه أهواؤهم، ويدعوهم إليه ضلالهم.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا» (90- 93: الإسراء) . وقد ردّ الله سبحانه وتعالى على مقترحهم هذا بقوله: «وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ» فنزول الملك يعنى أنه آية محسوسة، ظاهرة قاهرة، لا مجال للابتلاء والاختيار فيها، فمن أنكرها فهو منكر لوجوده كله، ظاهرا وباطنا، ومن كان هذا شأنه فقد استحق أن يؤخذ بجريرته، دون مهل لابتلاء أو اختبار بعد هذا.. ومن أجل ذلك، كانت المعجزات الحسيّة التي يحملها الأنبياء إلى أقوامهم، تحمل معها نذر الإهلاك لهم، إذا هم كذبوا بها، كما كان ذلك فى عصى موسى، التي كان الغرق جزاء كل من كفر بها، وكناقة صالح، التي هلك بها قومه، ثمود.. وفى قوله تعالى: «ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ» إشارة إلى أن العقاب سيقع بالمكذبين من غير مهل، لو نزل الملك من السماء، كما اقترحوا.. ثم كذبوا! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 ولكن الله سبحانه وتعالى، لم يستجب لمقترحهم هذا، تكريما للنبىّ الكريم، وتحقيقا لوعده الذي وعده فى قوله: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» (33: الأنفال) . وقوله تعالى: «وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ» أي لو جعلنا الرسول المرسل إليهم ملكا- كما يقترحون- لجعلناه فى أعينهم رجلا، أي لأنكروا وجود الملك بينهم، وتعذّر عليهم الحياة معه.. إنهم والملك طبيعتان مختلفتان، لا يقع الانسجام والاطمئنان بينهما، وإلى هذا أشار الله سبحانه وتعالى بقوله: «قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا» (95: الإسراء) . فقوله تعالى: «وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا» يشير إلى اختلاف الطبيعة البشرية والطبيعة الملكية، وأنه سبحانه وتعالى لو أراد أن يبعث إلى البشر ملكا رسولا إليهم لاقتضت حكمته أن يلبس هذا الملك صورة البشر، حتى يسكن إليه الناس، ويكون بينه وبينهم لقاء وإلف.. فالجنس لا يألف غير جنسه، ولا يسكن إلا إليه. وقوله تعالى: «وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ» أي ولو جاءهم الملك فى صورة إنسان، لما ارتفع هذا اللّبس، وهذا الشك والوسواس، ولبقى حالهم مع الملك فى صورة إنسان، هو حالهم مع الإنسان، يحمل رسالة من الله رب العالمين. فالقضية بالنسبة لهؤلاء المعاندين، هى هكذا.. يطلبون أن يكون رسول الله إليهم ملكا من ملائكة الرحمن. والملك غير ممكن أن يلقوه على صورته.. بل لا بد أن يكون على صورة إنسان.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 والإنسان فى نظرهم هو الإنسان.. سواء أكان ملكا تحوّل إلى إنسان أم كان إنسانا أصلا.. وإذن فالمشكلة قائمة عندهم، والشك منعقد عليهم.. لا يؤمنون برسول إنسان، ولن يكون الرسول إلا إنسانا منهم. وقوله تعالى: «وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» هو مواساة للنبىّ الكريم، وعزاء له، مما يلقى من المشركين من عناد، وما يساق إليه منهم من ضر وأذى.. فتلك هى سبيل حملة الهدى من عباد الله.. فكم لقى رسل الله من أقوامهم من عنت وبلاء، حتى لقد قتل بعضهم، ومثّل به أشنع تمثيل.. ولكن العاقبة للحق والخير، والنصر لدعوة الحق والخير.. والويل والخذلان والخزي لأولئك الذين كذّبوا برسل الله وسخروا منهم واستهزءوا بهم.. «فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» أي أحاط بهم واشتمل عليهم استهزاؤهم وسخريتهم، فهذا الاستهزاء هو الذي أوردهم موارد الهالكين فى الدنيا، وأنزلهم منازل أصحاب النار فى الآخرة. فإن شك هؤلاء المكذبون، المستهزءون بآيات الله وبرسول الله.. إن شك هؤلاء فى المصير الذي هم صائرون إليه، فلينظروا فيما كان لأمثالهم، الذين كذبوا بآيات الله وبرسل الله، «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» لقد أخذهم الله بكفرهم وعنادهم، وأرسل عليهم الصواعق، وصبّ عليهم البلاء، وإذا هم فى لحظة خاطفة جثث هامدة، وأشلاء ممزقة.. وإذا هم صائرون إلى مصير يلقون فيه العذاب الأليم.. «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 الآيتان: (12- 13) [سورة الأنعام (6) : الآيات 12 الى 13] قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) التفسير: قوله تعالى: «قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» هو سؤال من الحق جلّ وعلا، على لسان نبيّه الكريم، وهو سؤال وارد على خاطر كل ذى لبّ.. فهذا الوجود بما فيه من عجائب وغرائب، لا يمر عاقل على آية من آياته، إلّا وقف عندها، ونظر فيها، واجتهد فى التعرف على أسرارها.. ثم سأل نفسه أو سألته نفسه، عن صانعها: من هو؟ وأين هو؟ وكيف هو؟ وما تزال هذه الأسئلة تلحّ عليه حتى ينسب هذا الوجود إلى صانع عظيم قدير، ليس كمثله شىء، لا يسأل عنه: بأين؟ ولا كيف؟ .. إذ هو فوق كل أين، وغير كل كيف.. وقوله تعالى: «قُلْ لِلَّهِ» هو جواب قاطع، لا جواب غيره، عن هذا السؤال، الذي مطلوب من كل عاقل أن يسأله نفسه، وأن يجيب عليه.. وسيهديه نظره وعقله إلى هذا الجواب الذي أجاب به الحق سبحانه وتعالى: «قُلْ لِلَّهِ» - فالمالك لهذا الوجود، القائم على كل موجود، هو الله رب العالمين، لا شريك له فى سلطانه. وقوله تعالى: «كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» أي الذي كتب على نفسه الرحمة، - وتلك صفة من صفات الله- هو الذي له ما فى السموات وما فى الأرض.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 ومعنى كتب على نفسه الرحمة، أي أوجبها سبحانه وتعالى على نفسه، حيث اقتضتها حكمته، واستدعاها فضله.. فالملك الذي بين يدى المالك سبحانه وتعالى، هو من آثار رحمة الله.. تلك الرحمة العامة الشاملة التي تمسّ كل مخلوق، وتنال البرّ والفاجر، والمؤمن والكافر.. ولولا هذه الرحمة لما تنفس الكافر نفسا فى هذه الحياة، ولما أمهل فى محادّته لله، وعدوانه على رسله، ولكن رحمة الله التي وسعت كل شىء، لم يحرم الكافر نصيبه منها، فأفسح الله له فى الحياة، ليرجع إليه، ويصلح من أمره ما أفسده. فإذا مضى الكافر على كفره، ثم أخذ بذنبه، كان من رحمة الله أن يؤدب وأن يعاقب، ففى هذا العقاب إصلاح لنفسه التي فسدت، وصقل لمعدنه الذي أكله الصدأ! وقوله تعالى: «لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ» فى توكيد الفعل «ليجمعنكم» بالقسم وبنون التوكيد، إشارة إلى أن البعث أمر كتبه الله سبحانه وتعالى على نفسه، كما كتب الرحمة، وأن البعث هو رحمة من رحمة الله، إذ هو إعادة الحياة التي ذهب بها الموت، والحياة نعمة من نعم الله، ورحمة من رحمته.. إنها نعمة تستوجب الشكر، والحمد لله رب العالمين: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» (28: البقرة) . وفى تعدية الفعل «ليجمعنكم» بحرف الجرّ «إلى» إشارة إلى أن الجمع هو استدعاء من جهات شتى، ودعوة قاهرة إلى مكان معلوم، تصبّ فيه وفود المدعوين، وتجتمع إليه.. فمعنى الجمع، هو السّوق، أي ليسوقنكم إلى يوم القيامة، إذ كان يوم القيامة هو موعد اللقاء الذي يلتقى عنده الموتى، المبعوثون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 من القبور.. «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ» (51: يس) . وقوله تعالى: «الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» أي أن الفساد الذي اشتملت عليه نفوس أهل الضلال، هو الذي حجبهم عن الإيمان، وصار بهم إلى طريق الكفر والضلال.. وهذا يعنى أن فى الكافرين- قبل كفرهم- نفوسا مهيأة لهذا الكفر، مستعدة له، لما فيها من فساد، وهذا الفساد من شأنه أن يرفض الطيّب، ويقبل الخبيث الفاسد، الذي يلائمه، ويتفاعل معه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً» (10: البقرة) . وقوله تعالى: «وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ» فهذه قلوب لا تقبل خيرا، ولا تمسك به، ولهذا ختم الله عليها، فلم يسمعها كلماته، ولو أنها سمعت كلمات الله ما قبلتها ولا استجابت لها. وقوله تعالى: «وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» هو استكمال للجواب الذي أجيب به على قوله تعالى: «قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» فكأنه قيل: قل لله ما فى السموات وما فى الأرض، وله كذلك ما سكن فى اللّيل والنهار، أي ما اشتمل عليه الليل والنهار من موجودات.. فكل ما طلع عليه النهار، واستولى عليه سلطان الضوء، وكل ما غشيه الليل، واستولى عليه سلطان الظلام، هو فى ملك الله، وتحت سلطان علمه وسمعه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 الآيات: (14- 16) [سورة الأنعام (6) : الآيات 14 الى 16] قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) التفسير: الولىّ: السيد، والمعين.. فاطر السموات والأرض: أي خالقهما ابتداء. وقوله تعالى: «قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا» استفهام إنكارى، وكأنه ينكر على نفسه أن تدعوه إلى أن يتخذ من دون الله وليّا ومعينا، أو ينكر على غيره أن يدعوه إلى تلك الدعوة المنكرة.. والمعنى: إنى لا أتخذ وليّا ومعتمدا أعتمد عليه، وأستعين به، غير الله، ذى الحول والطول، وذى القدرة التي لا يعجزها شى.. تلك القدرة التي كان من صنعتها هذا الوجود كلّه، فى سماواته وأرضه، أوجدهما- سبحانه- ابتداء على غير مثال «فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» . وهذا الاستفهام الإنكارىّ، أقوى قوة، فى إظهار الولاء الخالص لله، والثبات عليه- من الخبر التقريرىّ بالولاء، إذ فيه إنكار لموالاة غير الله أولا، ثم إقبال على موالاته سبحانه، ثانيا، وفى هذه العملية إثارة للعقل وتحريك للوجدان، ومواجهة لمن يدعوهم الدّاعون أن يتخذوا أولياء من دون الله.. حتى إذا أنكرهم العقل ولفظهم الشعور، أقبل المرء على الله، وقد صفّى حسابه مع هذه الضلالات القائمة على طريقه إلى الله، فيلقى ربّه بكيانه كله، ويلقى إليه بولائه خالصا.. وقوله تعالى: «وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ» أي فالله المستحقّ لأن يتخذه الناس وليّا، ومعتمدا، هو الذي فطر السموات والأرض، وهو الذي يقوت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 المخلوقات ويطعمها، ويمدّها بما يحفظ وجودها، دون أن يكون لهذا مقابل.. وإنما هو فضل وكرم من ربّ العالمين، المستغنى عن كلّ عون، الغنىّ عن كل مخلوق.. وكيف لمن كان مصدر العطاء أن يكون محتاجا إلى عطاء؟ وكيف لمن يستمدّ منه العون أن يكون محتاجا إلى معين؟ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. وقوله سبحانه: «قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ» هذا ما أمر به النبىّ من ربّه، وهو أن يكون أول من أسلم وجهه لله، وأول من ألقى بنفسه بين يديه، ووالاه.. إذ كان صلى الله عليه وسلم- هو مفتتح دعوة الإسلام، وحامل رسالتها إلى المسلمين، فكان أول من آمن بها، واستقام على هديها.. وذلك بعد أن استدلّ على خالقه بتفكيره فى خلقه، وأنكر أن يتحذ وليّا من دونه، وهو الذي فطر السموات والأرض.. وهو الذي يطعم ولا يطعم، فإذا جاءت دعوة الله تعالى إليه صادفت تلك الدعوة قلبا مستقبلا لها.. والأمر هنا، هو الدعوة إلى الإيمان بالله، من الله، وإلى نبى الله، وليس فى هذا الأمر إلزام ولا قهر، ولكن النبىّ الكريم فى استجابته لربّه، وفى مبادرته إلى الاستجابة، واحتفائه بها، وشدّ نفسه إليها، وعقد قلبه عليها كل أولئك قد جعل الدّعوة الإلهية أمرا يتلقّاه النبىّ بكيانه كله، ويعطيه كل ما قدر عليه من قوة وعزم. وقوله تعالى: «وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» هو عطف على الأمر المفهوم من قوله تعالى: «أُمِرْتُ» أي أن الله سبحانه وتعالى أمرنى بأن أكون أول من أسلم، فقال لى: كن أول من أسلم، ونهانى عن أن أشرك به فقال لى: ولا تكوننّ من المشركين.. وقوله تعالى: «قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 هو بيان لبعض دواعى الإيمان بالله فى نفس النبىّ، وفى نفس كل مؤمن بالله، وهو أن الخوف من عذاب الله يوم القيامة، وطلب النجاة من هول هذا اليوم، هو داع صارخ يدعو الإنسان إلى أن يهرب من هذا البلاء، إلى الإيمان بالله، واستجابة دعوته التي يدعو بها عباد الله.. فمن أبى، وعصى أن يستجيب لله ويؤمن بالله، فهذا يوم الحساب أمامه، والنار مثواه. وقوله سبحانه: «مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ» أي أن من ينجو من عذاب هذا اليوم، ويسلم من الوقوع تحت وطأته- فهذا من فضل الله عليه، ورحمته به، وذلك بتوفيقه إلى الإيمان بالله، والولاء له، والامتثال لأمره.. «وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ» إذ لا فوز بعد هذا الفوز، ولا ربح أعظم من هذا الربح.. حيث خلص الإنسان بنفسه من العذاب، ثم لم يقف به الأمر عند هذا الحدّ من الفوز والفلاح، بل أخذ بيده بعد هذا إلى جنات النعيم، وإذا هو فيمن رضى الله عنهم، وأفاض عليهم الجزيل من عطاياه ومننه.. «وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ» .! الآيات: (17- 19) [سورة الأنعام (6) : الآيات 17 الى 19] وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 التفسير: المسّ: لمس الشيء برفق.. وقوله تعالى «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» عرض لقدرة الله سبحانه وتعالى، وأنه سبحانه هو الذي بيده النفع والضرّ، وأن أقسى ما يصيب الإنسان من ضرّ هو لمسة خفيفة، محفوفة برحمة الله ولطفه، ولولا ذلك لما احتملها بشر.. وكذلك ما ينال الإنسان من خير، هو قطرة من فضل الله، محفوفة بحكمته وتقديره، ولولا ذلك لفاضت فملأت على الإنسان دنياه، ولما وجد لنفسه متنفّسا فيها.. فإذا مسّ الإنسان ضرّ فهو من الله سبحانه، ولا يرجى لكشف هذا الضرّ غيره.. لأنه مما قضى به، ولا رادّ لقضائه الذي قضاه، إلا ما كان من لطفه ورحمته اللذين يحفّان بقضائه، فيمضى على ما قضاه، ولكن تقوم إلى جانب ذلك فى كيان الإنسان مشاعر تستقبل هذا القضاء برضى، وتحتمله فى صبر، حتى يأذن الله برفع هذا الضرّ، وكشفه.. وهذا هو بعض اللطف فى القضاء. وإذا مسّ الإنسان خير، فهو كذلك مما قضى الله به، وأراده، ويسرّ الإنسان له.. وفى تقديم الشر على الخير هنا ما يملأ مشاعر الإنسان خوفا من الله، وتعلقا به، واتجاها إليه، فإن الإنسان فى الخير كثيرا ما يذهل عن الله، ويغفل عن ذكره.. ولكنه فى حال الشدّة والضرّ يذكر الله ويهتف به، ويمدّ يده إليه كما يقول سبحانه: «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ» (8: الزمر) . وكما يقول: «وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً» (83: الإسراء) .. فما أقلّ أولئك الذين يجدون فى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 نعم الله طريقا يصلهم إلى الله، ويقرّبهم منه، ويقيمهم على الشكر والحمد، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» (13: سبأ) أما فى البلاء، وأما فى الشدة، فإن الناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم، يذكرون الله، ويهتفون به، حتى فرعون، فإنه حين أدركه الغرق، قال آمنت! .. وهكذا الناس.. تدنيهم الشدائد من الله، وتقربهم منه.. وإنها لنعمة تلك الشدائد، التي توجّه الإنسان إلى الله، لو أنه استقام على طريقه إلى الله، ولم يكن من الخائنين لنفسه، الذين يمكرون بآيات الله.. قوله تعالى: «وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ» أي أنه ذو السلطان القائم فوق عباده، يملكهم ولا يملكونه، ويقضى عليهم ولا يقضون عليه، ويعطى ويمنع، ويعزّ ويذل: «قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (26: آل عمران) . وليس سلطان الله سبحانه، القائم فوق عباده، الآخذ على جوارحهم ومشاعرهم ومدركاتهم- ليس بالسلطان المستبدّ الجهول، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.. وإنما هو سلطان قائم بالعدل، والحكمة، والعلم والقدرة، وما كان كذلك، فهو سلطان الرحمة والإحسان.. وفى قوله تعالى: «وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ» إشارة إلى هذا السلطان القاهر الغالب، وأنه بيد حكيم خبير، يضع كل شىء موضعه، بحكمة الحكيم، وخبرة الخبير، فيأخذ مكانه الذي هو له، فى أحسن وضع، وأكمل صورة، فى ملك الله: «الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ.. الْبَصَرَ.. هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ؟» (3: الملك) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 وقوله تعالى: «قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً» هو استدعاء لهؤلاء المكابرين المعاندين، الذين ينظرون إلى هذا الوجود على أنه لهم وحدهم، وأن كل ما فيه تبع لأهوائهم: «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ» (71: المؤمنون) .. فإذا سمع هؤلاء المكابرون هذا النّداء، وقيل لهم: «أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً» عندكم، تأخذون بشهادتهم عليكم، فى الحكم بينى وبينكم فيما أدعوكم إليه، من الإيمان بالله، وأنى رسول الله إليكم، أحمل إليكم كلمته، وأوجه وجوهكم وقلوبكم إليه؟ ما الشاهد الذي تكبرون شهادته، وتنزلون على ما يشهد به؟ ولا يمهلهم الله أن يجيبوا، لأنهم لا يجيبون إلّا ضلالا، ولا يقولون إلا زورا وبهتانا، بل يلقاهم بالشاهد الذي إن لم يقبلوا شهادته اختيارا قبلوها قسرا واضطرارا، لأنه الشاهد الذي يحكم ولا معقب لحكمه، والقاضي الذي يقضى ولا راد لقضائه.. إنه هو الله ربّ العالمين. «قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» . هذا هو الشاهد، والحكم بينى وبينكم، فردّوا عليه شهادته إن استطعتم! وقوله تعالى: «وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ» تلك هى القضية التي بينى وبينكم، وقد أدليت بشهادتى فيها، بين يدى أحكم الحاكمين.. «وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ» من ربّ العالمين «لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ» وأحذركم من عذاب يوم عظيم، إن أنتم لم تصدقوا برسالتى، ولم تؤمنوا بما بين يدىّ مما أوحى إلىّ، ولست رسولا إليكم وحدكم، بل إن رسالتى إليكم وإلى كل من تبلغه، وتصل إليه بلساني، أو بلسان من يدعو بها، فهى رسالة عامة للناس جميعا، فمن بلغته ولم يؤمن بها، فقد حقّ عليه ما حقّ على الكافرين منكم «لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ» وفى عطف قوله تعالى: «وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ» على قوله تعالى: «اللَّهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» تفويت على أولئك المكابرين المعاندين أن يجدوا فسحة من الوقت يردّون بها الشاهد الذي أشهده الرسول عليهم، وإلغاء لكل شاهد يقيمونه فى هذا الموقف غير الله سبحانه وتعالى، وقطع للجاجهم وعنادهم، وإمساك بآذانهم أن تنحرف عن هذا الموقف الذي هم فيه. وقوله تعالى: «أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى» هو تقرير لهم من الرسول، وهم فى هذا الموقف، بعد أن أوقفهم بين يدى الله، وأشهده عليهم.. ومع هذا، فإن العناد لا يزال مستوليا عليهم، وإن اللجاج لا يزال يضرب بأمواجه فوقهم.. ولهذا، فإن الرسول الكريم، لا ينتظر جوابهم، إذ كان جوابا منحرفا عن الحق، بعيدا عن الهدى.. فليتركهم وشأنهم، وبين أيديهم دعوة الحق، وأمامهم طريق الهدى، فإن أطاعوا فقد اهتدوا، وإن تولّوا فإنما هم فى ضلال وخسران.. أما الرسول الكريم، فعلى الطريق الذي أقامه الله عليه.. «قُلْ لا أَشْهَدُ» أن مع الله آلهة أخرى. «قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ» . وفى قوله تعالى: «قُلْ» تثبيت للنبى من ربّه، ووضع للكلمة التي ينبغى أن يقولها، على لسانه وفى قلبه.. يتلقاها من الله، فتلتقى مع الكلمة التي يريد أن يقولها، فإذا هى نور فى قلبه، وقوة فى عزمه، وطمأنينة فى صدره، ولطف عظم من ألطاف ربه.. وفى تكرار «قل» مع كل قول من الله تعالى لهم، كمال عناية، وتمام رعاية من الله سبحانه «للنبى» حيث يجد مع كل نفس يتنفّسه، وحي السماء يقول له: قل.. قل.. قل.. وبهذا يشتدّ عزمه، وتثبت فى لقاء الكافرين قدمه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 الآيتان: (20- 21) [سورة الأنعام (6) : الآيات 20 الى 21] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) التفسير: قوله تعالى: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ» هو استدعاء لأهل الكتاب، من اليهود والنصارى، لأخذ شهادتهم فى هذا الكتاب الذي بين يدىّ النبىّ، والذي يواجه به المشركين من العرب، فيلقونه بالتكذيب والاستهزاء.. وأهل الكتاب هؤلاء يعرفون صدق الرسول، وصدق ما جاء به، معرفة محققة مستيقنة، كما يعرفون أبناءهم، حيث لا تختلط على أحدهم وجوه أبنائه بغيرهم.. ولو أنهم كانوا مؤمنين بالله، وبالكتاب الذي معهم، لآمنوا بمحمد وبالكتاب الذي معه، ولكنهم كتموا شهادة الحقّ.. بغيا وحسدا.. فخرسوا، ولم ينطقوا، أو نطقوا كذبا وبهتانا.. إنهم «الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» بالرسول وبما معه من كلمات الله، ولا يؤمنون بكتابهم الذي فى أيديهم، وذلك خسران بعد خسران، وضلال فوق ضلال. وقوله سبحانه: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ» ، هو تهديد ووعيد للكافرين من أهل الكتاب هؤلاء، الذين افتروا على الله الكذب، فحرّفوا كلماته، وبدّلوا آياته، وقالوا فى محمد وفى كتابه، غير ما عرفوه من كتاب الله عندهم، فإن لم يكن منهم فى هذا تحريف ولا تبديل، فقد كان منهم تكذيب لآيات الله، بتأويلها تأويلا فاسدا، وحملها على مفاهيم منكرة، تحجب وجه الحق فيما فى كتابهم من دلائل تدلّ على النبىّ، وتحدد صفته، وصفة رسالته. وقوله تعالى: «إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» حكم على أهل الكتاب، الذين ظلموا الحقّ، وظلموا أنفسهم، فضلوا وأضلوا.. وذلك هو الخسران المبين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 الآيات: (22- 24) [سورة الأنعام (6) : الآيات 22 الى 24] وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) التفسير: ومن هذا الموقف الذي دعى إليه المشركون وأهل الكتاب إلى مواجهة الرسول الكريم، وأخذ شهادتهم فيه، وفى الكتاب الذي بين يديه- من هذا الموقف ينتقل هؤلاء جميعا انتقالا سريعا إلى موقف آخر، هو موقف الحشر يوم القيامة.. وإذا هم يلقون الجزاء الذي يستحقونه، لكفرهم بالله، وتكذيبهم لرسول الله. «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» ؟ ويتلفت القوم إلى هؤلاء الشركاء الذين يسألهم الحقّ جلّ وعلا عنهم، فلا يجدون لهم أثرا، ويخيّل إليهم من ضلالهم أن جسم الجريمة قد اختفى، وأنهم لن يؤخذوا بهذا الجرم الذي لا يقوم شاهد على وجوده.. فيقولون كذبا، وبهتانا: «وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ» .. يقسمون بالله ويؤمنون به، ويدعونه ربّهم، إمعانا فى الكذب، وتعلقا بالوهم، للفرار من هذا الموقف الرهيب! وفى قوله تعالى: «ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ» إشارة إلى أن هذا القول الذي قالوه هو فتنة أخرى، إذ ما زالوا على ضلالهم القديم، وتصورهم الفاسد، وأنه تعالى لا يعلم ما قدّموا وما أخّروا، وما أسرّوا وما أعلنوا.. فسمّى سبحانه وتعالى هذا القول منهم فتنة.. ولم يقل سبحانه: ثم لم يكن قولهم، أو جوابهم.. إذ كان قولهم هذا، هو فتنة لهم وضلال مبين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 وفى قوله تعالى: «انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ» تشنيع عليهم، وفضح لسوء معتقدهم فى الله، ودعوة للناس أن يروهم وهم متلبسون بهذا الضلال المبين.. وإنهم إذ قالوا هذا القول المفضوح، قد كذبوا على أنفسهم، وغذّوها بالخداع والضلال، أما الحقيقة فهى قائمة عليهم، ممسكة بهم، «يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ» (4: البقرة) . وقوله تعالى: «وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» إشارة إلى أن ما كانوا يعبدونهم من دون الله، قد أخلوا أيديهم منهم، وتبرءوا من الصلة التي أقامها هؤلاء المشركون معهم. «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ» قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ» (40- 41 سبأ) ... «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ» (166: البقرة) . الآيات: (25- 26) [سورة الأنعام (6) : الآيات 25 الى 26] وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26) التفسير: ومن هذا الموقف الذي سيقوا فيه إلى يوم القيامة، وإلى الحساب والمساءلة، وقطع الحجة عليهم- من هذا الموقف ردّوا إلى موقفهم الأول، حين كانوا فى مواجهة النبىّ، وفى عنادهم له، وتصدّيهم لدعوته.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 وكان الجدير بهم- لو عقلوا- أن تتأثر وجداناتهم بهذه الإثارات التي تتغيّر بها معالم الوجود فى أعينهم، حين ينقلون من الدنيا إلى الآخرة، ثم يردّون من الآخرة إلى الدنيا.. ولكنهم ظلوا على حال واحدة، حتى لكأنهم أحجار لا تحسّ ولا تعقل. وفى قوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ» استحضار لهؤلاء المشركين الضالين من موقف الحشر، الذي نقلتهم إليه الآيات القرآنية السابقة نقلا قاهرا، وأحضرتهم مشاهد المحاكمة والمساءلة- إلى ما كانوا فيه من مواجهة النبىّ، وتحدّيه، وتكذيبه، والاستهزاء به.. فمن هؤلاء المشركين الضالين من يستمع إلى النبىّ، وما يرتّل من كلمات الله، ولكنه استماع لا يحدث فيهم أثرا.. فلا تنفذ كلمات الله إلى آذانهم، ولا تبلغ مواطن الإحساس من قلوبهم، فقد أصمّ الله آذانهم، وأعمى قلوبهم.. «إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً» . (57: الكهف) والأكنّة جمع كنان، مثل قناع وأقنعة، وزنا ومعنى، أي أنه ضرب على قلوبهم حجاز يقطع ما بينها وبين موارد العالم الخارجي، فلا تحسّ شيئا، ولا تنفعل لشىء. والوقر: الصمم يصيب حاسة السّمع. فقد ختم الله على قلوب هؤلاء القوم، وعلى سمعهم، فلا يسمعون خيرا، ولا يعقلونه، فهم- والحال كذلك- لن يهتدوا أبدا، «وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها» .. «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ» (41: المائدة) . وختم الله على القلوب، هو تركها على ما هى عليه من ضلال وعمى.. دون أن يمدّها بأمداد لطفه، وعونه، إذ كانت هى لا تستجيب لخير، ولا تتقبل هدى: «وَلَوْ عَلِمَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ» (23: الأنفال) . وقوله تعالى: «حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ» يكشف عن طبيعة هؤلاء القوم. وأنهم لا يتحركون إلا إلى الشرّ، ولا يعملون إلا لما هو شرّ.. فهم إذا جاءوا إلى النبىّ، لم يجيئوا لطلب حق، أو تعرّف على خير، وإنما هم يجيئون للمجادلة، والسّفاهة، والاستهزاء.. إن الحال التي تتلبس بهم، وتستولى عليهم، وهم يسعون إلى لقاء النبي، والاستماع إليه- هى المجادلة، والمماحكة، ولا شىء غير هذا.. وقوله تعالى: «يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» هو بيان لما تكشفت عنه حالهم، وانتهى إليه أمرهم، من هذا الموقف الذي جاءوا فيه إلى النبي، مستمعين مجادلين، لا طلاب علم واستفادة.. والأساطير جمع أسطورة، وهى ما كان من واردات الخيالات والأوهام، وملفقات الأحاديث.. فهذا هو حكمهم على ما استمعوا إليه من كلام الله: «إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» وتلك هى أسلحة المكابرين المعاندين فى معركتهم الخاسرة مع الحق.. فحين تسقط من أيديهم كل حجة، يلقون بهذه الترهات وتلك الأباطيل، لتكون وقاية لهم مما لبسهم من خزى وما لحقهم من هزيمة.. وفى وصفهم بالكفر، هكذا: «يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا» بدلا من أن يقال: «يقولون» هو حكم عليهم بالكفر، وإدانة لهم به، إذ قالوا عن القرآن الكريم: «إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» . وقوله سبحانه: «وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ» .. الضمير فى «عنه» يعود إلى القرآن الكريم، الملحوظ فى قوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ» . وجناية هؤلاء المشركين هنا جناية غليظة، وجرمهم فظيع شنيع.. إذ لم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 يكتفوا بأن يكفروا بالقرآن، ويقولوا فيه ما يقولون، من زور وبهتان، وإنما وقفوا فى وجه من يطلبون الهدى منه، وحالوا بينهم وبين النبىّ أن يلقوه وأن يسمعوا كلمات الله منه.. وفدّم نهيهم الناس وصدّهم عن لقاء النبىّ والاستماع إليه، على نأيهم هم بأنفسهم عنه، وعزل عقولهم وقلوبهم عن لقائه، وهم إنما صدّوا أولا وكفروا، ثم كانت فعلتهم بعد هذا هى نهى غيرهم، وضمهم إلى جانبهم- ولكن لما كان صدّهم الناس عن رسول الله أمرا واقعا، وحكما قاطعا، ولم يكن أمرا مستحدثا منهم، وإنما الذي استحدثوه بعد أن أخذوا هذا الموقف لأنفسهم، هو أنهم جاءوا إلى غيرهم ليأخذوا معهم هذا الموقف الذي هم فيه- فكان من الحكمة فى لقاء المجرمين بجرمهم، أن يواجهوا أولا بما أحدثوا من جرم وهو صدّ الناس، ثم يساق إليهم بعد ذلك ما كان لهم من سابقة فى هذا الباب، وهو صدّ أنفسهم. وقوله تعالى: «وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ» كشف للمصير السيّء الذي صيّرهم إليه هذا الموقف الذي ارتضوه لأنفسهم، من الصدود عن دعوة الإسلام، وصدّ الناس عنها.. إنهم أهلكوا بذلك أنفسهم، وأوردوها موارد البوار والخسران، وإن كانوا لا يشعرون أنهم إلى هذا المصير هم صائرون، لما استولى عليهم من غفلة، وما غشيهم من ضلال. وإن فى قوله تعالى: «وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ» نافية، بمعنى ما. الآيات: (27- 29) [سورة الأنعام (6) : الآيات 27 الى 29] وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 التفسير: قوله تعالى: «وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» . هو ردّة أخرى لهؤلاء المكذبين الضالين، إلى موقف الحساب والجزاء فى الآخرة.. وفى كل مرّة يواجهون فى الآخرة، التي حشروا إليها حشرا وهم أحياء فى ديارهم وبين أهليهم- يواجهون مرحلة من مراحل الحساب فى هذا اليوم العظيم.. ففى المرّة الأولى ووجهوا بشركهم: «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» .. ففى هذه المواجهة كشف لهم عن التهمة، وعن تلبّسهم بها، دون أن يستمعوا إلى الحكم وإلى العقوبة التي يؤخذون بها.. ثم ردّوا إلى الدنيا مرّة أخرى، ليواجهوا النبىّ من جديد بكفرهم وعنادهم وليصلوا ما انقطع، بهذه الرحلة التي حشروا فيها للحساب والمساءلة، وليلقوا النبي بما كانوا يلقونه به من تكذيب واستهزاء.. ثم هؤلاء هم يردّون مرة ثانية إلى موقف الحساب يوم القيامة، ولكن لا ليحاسبوا من جديد، فقد حوسبوا من قبل، وأسقط فى أيديهم، وقامت الحجة عليهم، وإنما ليستمعوا إلى الحكم فى جنايتهم التي جنوها على أنفسهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ» .. فهاهم أولاء على حفير جهنم، يساقون إليها سوقا عنيفا.. ولكنهم ما إن يعاينوا هذا البلاء الذي يفتح فاه ليبتلعهم، حتى يضطربوا ويفزعوا. ويقولون: «يا لَيْتَنا نُرَدُّ» ؟ وأنّى لهم أن يردّوا؟ ثم ماذا تنفعهم الرّدّة إلى الحياة مرة أخرى؟ ألم يكن فيما عرض الله عليهم من موقف الحساب والجزاء، وهم فى دنياهم التي كانوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 فيها- ألم يكن فى هذا تجربة لهم، لو أنهم أحسنوا النظر إليها، وانتفعوا بمعطياتها؟ إنهم لن يرجعوا أبدا عما هم فيه من ضلال.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى الآية الواردة بعد هذا فى قوله سبحانه: «وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» . وفى قوله تعالى: «يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا» ما يسأل عنه.. وهو: ما وجه النصب للفعل «ولا نكذب» مع عطفه على الفعل المرفوع قبله: «يا لَيْتَنا نُرَدُّ» ؟ القراءة المشهورة: «ولا نكذب بالنصب» وقد قرئ «ولا نكذب» بالرفع عطفا على «نردّ» . ووجه النصب أن «ليت» تفيد التمني، بمعنى نتمنى أن نردّ، ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين.. فسلّطت على الفعل «نردّ» باعتبار، لفظها، ثم سلطت على الفعل «نكذب» باعتبار معناها! وقوله تعالى: «بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ» هو إضراب على أمانيّهم التي تمنوها، وتيئيس لهم منها، لأنها أمان لم تجىء إلا عن خوف وهلع من هذا الموقف الذي هم فيه، حين انكشف لهم ما كانوا يخفون من شرك بالله، وما يجرّهم إليه هذا الشرك من مصير مشئوم، وعذاب أليم.. وقوله تعالى: «وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» هو فضح لكلماتهم الكاذبة، التي أجراها على ألسنتهم سوء الموقف، ولفح السعير!! وقوله تعالى: «وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» . هكذا كان دينهم فى الحياة الدنيا، دين يقطع أصحابه عن النظر فيما وراء هذه الحياة الدنيا التي استغواهم فيها الغىّ، وركبهم الضلال، فأضافوا وجودهم كله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 إلى هذه الأيام التي يعيشونها من مولدهم إلى موتهم.. ومن هنا أخذوا كل ما قدروا على أخذه فى الحياة، بحق أو باطل، وأغرقوا أنفسهم فيما وقع لأيديهم من مطعوم أو مشروب، حلالا كان أو حراما.. إنهم أشبه بالجنود ليلة الحرب.. يقضونها ليلة صاخبة معربدة، ينفقون فيها كل درهم معهم، ثم يغدون إلى الحرب مفلسين، إذ لا ينتظرون حياة بعد يومهم هذا! الآيات: (30- 32) [سورة الأنعام (6) : الآيات 30 الى 32] وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32) التفسير: وهذا مشهد آخر من مشاهد القيامة، يساق إليه المشركون، وهم أحياء فى دنياهم التي آمنوا بها وأنكروا ما وراءها.. من بعث، وحساب وجزاء.. وهم فى هذا المشهد يتقلّبون فى النار، التي حكم عليهم بها، فى المشهد السابق، حيث قال تعالى: «وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ ... الآية» وحيث كان لهم قبل مشهد الحكم مشهد آخر، هو مشهد المحاكمة، فى قوله تعالى: «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 فهم وقد انتهى بهم المطاف إلى النار، يصلون سعيرها، ويذوقون عذابها- لن يتركوا هكذا وما هم فيه من بلاء، بل يسألون سؤال تأنيب، وتعذيب: «أليس هذا بالحق؟» أي أليس هذا اليوم وما تلقون فيه، قد جاءكم بالحق الذي كنتم تكذبون به؟ وفى حسرة قاتلة، وفى أنفاس لاهثة مبهورة، وفى كلمات حزينة متقطعة دامية، تتحرك شفاههم بها فى إعياء وتثاقل- يجىء منهم هذا الصوت الخفيض فى أنين ذليل: «بلى وربنا» .. هذا هو جوابهم، وهذا هو ما استطاعوا أن يحركوا شفاههم به.. كلمتان من أخف الكلمات، وأقلها حروفا، ولو استطاعوا النطق لأكثروا من القول والاعتذار فى هذا المقام، ولو جدوها فرصة فى إظهار النّدم، والاستعطاف! ولكن أنّى لهم ذلك وهم فى هذا البلاء العظيم؟ «بلى وربنا» هكذا جوابهم.. نبرتان هامستان، يخطفانهما من كيانهم خطفا، ثم يعودون إلى أنفسهم فى لهفة، حتى لكأنهم يحاولون إطفاء النار المشتملة عليهم..! ولكنهم ما يكادون ينصرفون إلى أنفسهم، يعالجون الهمّ الذي هم فيه، حتى يقرعهم صوت الحق: «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» ، وإذا النار تشتد سعيرا، وتعلوا لهيبا، لتذيقهم العذاب الذي آذنها به الله سبحانه وتعالى أن تذيقهم إياه!! وفى قوله تعالى: «وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ» هو مقابل لقوله تعالى: «وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ» فالمراد بالوقوف هنا الحبس المقيم، يقال وقف فلان نفسه على هذا الأمر، أي لزمه، ولم يتحوّل عنه- ومنه قول إمرئ القيس: وقوفا بها صحبى علىّ مطيّهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجمل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 وقوله تعالى: «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها» هو تقرير عن هذا الموقف، الذي انكشف فيه للكافرين ما كانوا فيه من غفلة وضلال، وفى هذا التقرير، يرى كل ضال غافل، المصير الذي ينتهى به ضلاله وغفلته إليه، وهو الخسران والضياع والهلاك.. «حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً» أي فجأة على غير انتظار، إذ كانوا على تكذيب قاطع بهذا اليوم، فإذا طلع عليهم كان ذلك مباغتا لهم ومفاجئا.. «قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها» وإنها لحسرة تطول، لا نهاية لها، حيث أفلت من أيديهم ما كان يمكن أن يعدّوه لهذا اليوم الذي أنكروه، ولم يعملوا له حسابا.. والتفريط: التقصير، بخلاف الإفراط، الذي هو المبالغة فى المطلوب، وتجاوز الحدّ فيه. والضمير فى قوله تعالى: «فِيها» يعود إلى الساعة، وهى يوم القيامة قوله تعالى: «وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ» . الأوزار: جمع وزر، وهو الحمل الثقيل.. أي أنهم يجيئون إلى يوم القيامة محملين بأحمال ثقيلة، من الآثام، تنوء بها ظهورهم.. «أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ» فما أشأم ذلك الحمل، وما أسوأه، إذ كان هو الجريمة التي تدين حامله، والشهادة التي تشهد عليه، وتجرّه إلى النار.. وقوله تعالى: «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ» هو تعقيب على هذا الحكم الذي حكم به سبحانه على أهل الضلال والكفر.. فقد غرّتهم الحياة الدنيا، وألهتهم عن الآخرة، فلم يعملوا لها ولم يقدموا ليومها، زادا ينفعهم فى هذا الموقف العصيب.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 وهكذا هى الدنيا، لعب ولهو، إذا وقف الإنسان نفسه عليها، وحبس وجوده على مظاهرها، دون أن يلتفت إلى ما بعدها، من لقاء الله، وموقف الحساب بين يديه.. ولكنه إن التفت إلى الآخرة التي وراء هذه الحياة الدنيا، لم تكن هذه الحياة الدنيا لعبا ولهوا، وإنما تكون حياة جادّة عاملة، تجمع الدنيا والآخرة معا، وبهذا تتفتح أمام الإنسان آفاق فسيحة للعمل الطيب المثمر، الذي إن فاته حظّه منه فى الدنيا، فلن يفوته ثوابه العظيم منه فى الآخرة.. ومن هنا كانت حياة المؤمنين بالله واليوم الآخر، حياة عامرة بالعمل والكفاح والجهاد.. إذ كان على المؤمن أن يملأ بوجوده وكفاحه دنياه وآخرته جميعا.. أما الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، فإن حياتهم فراغ فى فراغ، يدورون فيه حول أنفسهم، كما يدور الأطفال فى لهوهم ولعبهم. قوله تعالى: «وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» إذ عملوا لها، وآثروها على الدنيا، وقدّموا ما يبقى على ما يفنى، فكانت عاقبتهم السلامة والعافية، والخلود فى جنّات النعيم.. وفى قوله تعالى: «أَفَلا تَعْقِلُونَ» إثارة لذوى العقول أن ينظروا لأنفسهم، وأن يزنوا أمرهم مع الدنيا على ميزان سليم.. فإنهم لو فعلوا لعرفوا أن الدار الآخرة خير وأبقى! الآيات: (33- 34) [سورة الأنعام (6) : الآيات 33 الى 34] قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 التفسير: بعد أن عرض الله للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- هذا العرض الكاشف للمشركين، وما يلقون فى موقف الحساب من خزى وهوان، وما يذوقون فى جهنم من نكال وعذاب- بعد هذا العرض الذي يرى فيه النبىّ عاقبة المكذبين به- يلقى الله سبحانه النبىّ الكريم بهذه المواساة الكريمة، وهذا العزاء الجميل، لما يلقاه من قومه من تكذيب له، واستهزاء به.. وفى قوله تعالى: «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ» استجابة لسكاة النبىّ قبل أن يشكو، وفى هذا تطمين لقلبه، وتثبيت لقدمه، وأن الله يرعاه، ويعلم ما يجد فى نفسه من حزن وألم، لما يرميه به قومه من باطل القول، وزور الكلم.. وهم يعلمون أنه الإنسان الذي لا يكذب أبدا.. وفى قوله تعالى: «فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» ردّ اعتبار للنبىّ عند هؤلاء الذين اتهموه بالكذب زورا وبهتانا.. وقد كشف الله ما فى نفوسهم عن النبي ورأيهم فيه.. فهم فى دخيلة أنفسهم لا يكذبون «محمدا» .. إنهم يعلمون عن يقين أنه ما قال ولن يقول كلمة الكذب. بل هو عندهم فوق مستوى الشبهة فيما يشين الناس، وينزل من قدرهم.. «وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» .. إنهم لظلمهم، وعنادهم يرون الحق ويستيقنونه، ثم لا تطاوعهم أنفسهم على الإقرار به، والولاء له.. ولو جاءتهم كل آية لا يؤمنون بها.. وهكذا يفعل العناد بأهله، ويقطع عليهم الطريق إلى الحق والهدى، ويحجزهم عنه الخبر والفلاح. وفى قوله تعالى: «وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين.. إنهم لا يكذبون محمدا ولكنّهم يكذبون بآيات الله التي بين يديه.. فانظر كيف هذا التناقض العجيب منهم.. يؤمنون بمحمد وبصدقه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 كإنسان، ويأخذون شهادته على كل ما يقول فيما هو من شئون دنياهم.. فإذا جاءهم بآيات ناطقة من عند الله، وقال لهم إنها كلام الله، وأنه رسول الله بها إليهم، أنكروا عليه هذا القول بنسبتها إلى الله، وقالوا: إنها سحر ساحر، وتلقيات ممسوس! ولو عقلوا لما وجدوا لهذا القول مستندا من عقل أو منطق.. إذ كيف لا يتّهم إنسان بالكذب فى حال، ثم يتهم به فى حال أخرى؟ إن الإنسان وحدة متكاملة، فى خلقه، فإمّا أن يكون صادقا لا يكذب، وإما أن يكون ممن لا يتحرّى الصدق فى كلّ قول.. وقد عرفوا «محمدا» أنه صادق على وجه واحد، مدة حياته معهم، من مولده إلى مبعثه.. لم تجرب عليه كذبة قط.. فكيف يكذب بعد الأربعين؟ وكيف يكذب أشنع الكذب، وأفحشه، بتلك الدعوى التي يدعيها على الله ربّ العالمين؟ ذلك محال، بل وأكثر من محال، لأن شواهد الصّدق ودلائله ناطقة فى كلام الله، مستغنية عن صدق من يجىء إلى الناس بها ويعرضهم عليها.. فكيف إذا كان من يجيئهم بها ويعرضها عليهم، غير متّهم بكذب، أو مجرب عليه شهادة زور عندهم؟ قوله تعالى: «وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا» (34: الأنعام) هو عزاء بعد عزاء للنبىّ الكريم، ورحمات من ربّ رحيم تتنزّل عليه، وهو فى مواجهة هذا العناد والعنت الذي يلقاه من قومه.. وفى هذا العزاء يرى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- مشاهد كثيرة لهذا المشهد الذي يعيش فيه.. فهناك رسل كثيرون من رسل الله قد كذّبوا من أقوامهم، وأوذوا فى أنفسهم من سفهاء قومهم، ولكنهم اعتصموا بالصبر، واحتملوا الأذى فى سبيل الرسالة الكريمة التي شرفّهم الله بها.. فهذا نوح عليه السلام- يلقاه قومه بالنكير والاستهزاء، ويلاحقونه بالأذى والضرّ- وفى هذا يقول الله على لسانه: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ» (35: هود) . وقد أخذهم الله بهذا المنكر.. فأغرقهم ونجّى نوحا ومن معه: «فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ» (119- 120: الشعراء) . وهذا هود- عليه السلام- يلقى قومه داعيا إلى الله، مبشرا ومنذرا بآياته، فتكون قولتهم له: «يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ» (53- 54: هود) .. ثم كانت عاقبتهم عاقبة كل ظالم.. فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية: «وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ» (6- 8: الحاقة) . وهكذا كان الشأن مع صالح، ولوط، ومع كلّ نبى أعنته قومه، وكذبوا بآيات الله التي بين يديه.. النجاة والسلامة للنبىّ والمؤمنين به، والهلاك والدّمار لمن كذبوا به، وبآيات ربه.. وفى هذا أسوة للنبىّ، وللمؤمنين معه.. فليحتمل الأذى، وليصبر على الضرّ، وليحتمل المؤمنون الأذى وليصبروا على الضرّ، فإنّ العاقبة له ولهم، وإن النصر للحق ولمن ينصرون الحق.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا، وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ» فتلك هى سنّة فى الذين خلوا، ولن تتخلّف آثارها فى حاضر أو مستقبل.. فإن أحكام الله لا تنقض وكلماته لن تتبدّل.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 وقوله تعالى: «وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ» تذكير للنبىّ بما قصّ الله- سبحانه- عليه من قصص الأولين، فليعد النبىّ إلى هذا القصص، ولينظر إلى ما فيه من عبر وعظات.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ» (120: هود) . ويقول: «لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ» (111: يوسف) . الآية: (35) [سورة الأنعام (6) : آية 35] وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) التفسير: وإذ استمع النبي إلى كلمات ربه، وما تحمل إليه من مواساة كريمة، وعزاء جميل، فقد وجب على النبي أن يطمئن قلبه، وتسكن نفسه ويذهب حزنه وحسرته، على ما يلقى من قومه.. فإذا كان قد بقي فى نفس النبي شىء من تلك العوارض التي عرضت له من قومه، وإن كانت لا تزال به توازع الحزن والحسرة عليهم، فإن السماء ليس عندها ما تقدمه لهم من وسائل الإقناع، بعد أن قدمت لهم ما قدمت من آيات، وما ساقت إليهم من نذر! فإن وجد النبي القدرة من نفسه على أن يأتيهم بما يقنعهم، ويحملهم على التصديق به، وبما يدعوهم إليه، فليفعل!! وهذه هى الأرض تحت قدميه، والسماء فوق رأسه، فإن استطاع أن يشق الأرض أو يرقى السماء بسلّم ليأتيهم بآية مقنعة، فليفعل وهيهات هيهات!! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 «وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ؟» أي إن شقّ عليك إعراض قومك عنك، فحاول- إن استطعت- أن تشق الأرض، أو ترقى فى السّماء، لتأتيهم بما يقترحون عليك من آيات! وليس هذا دعوة من الله سبحانه للنبىّ أن يفعل هذا، وإنما هو صرف له عن هذا اللغو الذي يلغوا به قومه، من مقترحات يقترحونها عليه، وتيئيس لهم من أن يكون لهذا اللّغو قبول عنده.. وفى قوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى» إشارة إلى أن ما قدمته السّماء من آيات هو القدر المطلوب لهداية من فيه استعداد لقبول الحق، حين تلوح أماراته، وتظهر له دلائله.. وليس من حكمة السّماء أن تقهر الناس قهرا على الإيمان، ولا أن تحملهم حملا على الهدى، فإن مثل هذا الإيمان الذي يجىء إليه الإنسان قهرا وقسرا، هو إيمان لا دخل لكسب الإنسان فيه، ولا جزاء له عليه، إذ أنه ليس من سعيه وكسبه، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى» (39- 41: النجم) .. ولو أراد سبحانه وتعالى أن يدخل الناس جميعا فى الإيمان لفعل، ولوضع بين يدى المعاندين والكافرين والمشركين من الآيات القاهرة ما يحملهم على الإيمان، حيث لا يجدون معها سبيلا إلى الإنكار والجحد.. ولكنّه سبحانه أراد أن يكون للإنسان تقديره وتفكيره، فيما يحمل إليه رسل الله من آيات، يرى فيها العقلاء دلائل الحق، وأمارات الهدى، ولا يرى فيها الضّالون والمعاندون شيئا يفتح لهم الطريق إلى الله.. وفى هذا ابتلاء وامتحان، «لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» .. «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى» فما قوة فى هذا الوجود تردّ مشيئة الله، ونفاذ ما يشاء.. ولكنّه سبحانه وضع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 الإنسان بهذا الوضع الذي يكون له فيه مجال للاختيار، «فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ، وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» . وفى هذا يقول الله تعالى: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (99: يونس) . قوله تعالى: «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ» هو عزل للنبىّ عن أن يكون ممن يجهلون حكمة الله هذه، وسنّته فى خلقه، وفى هذا وقاية للنبىّ من أن تطرقه طوارق الأسى والحسرة على من تخلّف عن الدعوة التي يدعو بها، ولوى وجهه عن الحق الذي بين يديه، من ذوى قرابته، ومن يريد لهم الخير ممن يحبّهم.. «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» (56: القصص) . الآيات: (36- 38) [سورة الأنعام (6) : الآيات 36 الى 38] إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) التفسير: فى قوله تعالى فى الآية (35) «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى» إشارة إلى أن هؤلاء الكافرين المعاندين، قد أضلّهم الله لعنادهم وكفرهم، وتركهم وما اختاروا من ضلال وشرك.. ذلك لأنهم عموا عن آيات الله، وأبوا أن يفتحوا عقولهم وقلوبهم لها.. وفى قوله تعالى: «إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ» بيان لحال هؤلاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 الكافرين المعاندين، وأنهم لن يسمعوا كلمة الحق، ولن يعطوها آذانا واعية، ولهذا كان من الحكمة ألا يلحّ عليهم أحد بما يدعوهم إليه من حقّ وهدى، فإنهم لن يسمعوا، ولو سمعوا ما استجابوا.. «إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ» أي الذين يسمعون سمعا عاقلا متدبرا.. يصغى، ويفكر، ويعقل.. أما هؤلاء وإن كانت لهم آذان يسمعون بها فإنها تصبح ثقيلة عند سماع الحق، كأن بها وقرا، لأن قلوبهم مريضة، وعقولهم سفيهة، «وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ» (23: الأنفال) . وقوله تعالى: «وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ» معطوف على قوله سبحانه: «إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ» أي أن هذين الأمرين من واد واحد، إذ هما ممكنان واقعان فى قدرة الله: استجابة الذين يسمعون ويعقلون، لما يسمعونه ويعقلونه، وبعث لأموات من قبورهم يوم القيامة. وفى الجمع بين الأمرين دلالتان: أولاهما: أن الناس لهم كسب ولهم إرادة، وقدرة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ» وأن الله سبحانه وتعالى لم يكلّف الناس إلّا ما هو ملائم لطبيعتهم، مناسب لقدرتهم، أما ما فوق ذلك فلم يكلّفوا به، ولم يحاسبوا عليه، كبعث الموتى، الذي هو مما لله وحده «والموتى يبعثهم الله» . وثانيتهما: أن الضّالين المعاندين من الناس، الذين لم يستمعوا للحق، ولم يستجيبوا له، قد وضعوا بذلك أنفسهم موضع العجز المطلق، أمام هذا الأمر الممكن الذي دعوا إليه، فكأنهم والأموات سواء.. فكما يستحيل على الأموات أن يبعثوا من تلقاء أنفسهم، كذلك يستحيل على هؤلاء الضالين المعاندين أن يستمعوا للهدى وأن يستجيبوا له بطبيعتهم.. والأموات يبعثون حين يريد الله بعثهم ودعوتهم إليه، والضالون الشاردون عن الله، يهديهم الله، إذا أراد لهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 الهداية، ودعاهم إلى طريقه.. ولكن هؤلاء الضالين المعاندين لن يدعوهم الله إليه، ولن يهديهم إلى الحق، كما يقول سبحانه: «أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ» .. فهم وقد كان الإيمان بالله من الممكنات لهم، قد جعلوه بعنادهم وضلالهم مستحيلا يحتاج إلى قدرة فوق قدرتهم، هى قدرة الله تعالى، وإذ تخلّى الله عنهم وأخلاهم لقدرتهم، فلن يهتدوا إذن أبدا.. وإن الله- سبحانه- يبعث الموتى، ولكنه لا يهدى هؤلاء الضالين العاندين. وفى هذا تيئيس لهم، وخذلان مبين، وخزى فاضح، ووعيد بالحساب الشديد، والعذاب الأليم. وقوله تعالى: «ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» الضمير فى «يرجعون» ، يعود إلى هؤلاء المعاندين، الذين لن يهتدوا أبدا، إلى أن يموتوا، ثم يبعثوا مع الموتى.. ثم يرجعون إلى الله، للحساب والجزاء.. وهذا هو سرّ العطف «بثم» الذي يفيد التراخي الزمنيّ.. فهم إذ خوطبوا كانوا أحياء.. ثم يبعثون، ثم يحشرون» قوله تعالى: «وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» هو بيان لموقف هؤلاء الضالين المعاندين، الذين أبوا أن يستجيبوا لله ولرسوله، وأصبح قبولهم الإيمان أمرا مستحيلا فى مواجهة ما جاءهم به النبىّ، ولن يكون لهم نظر وكسب فيما كان يدعوهم إليه من إيمان، بعد أن تأتيهم الآيات التي يقترحونها.. «وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ» والآية التي يقترحونها هى معجزة مادية، يرونها بأعينهم. كما يقول الله تعالى: «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا» (الإسراء: 90- 91- 92) وفى قولهم «من ربّه» كفر صريح بالله، واتهام للنبىّ بأن له ربّا غير الرّبّ الذي يعرفونه، ويتقربون بالأوثان إليه. وفى قوله تعالى «نُزِّلَ» إشارة إلى أن الآية التي يطلبونها هى آية حسّية، تتحرك بين الناس، ويتحرك الناس بين يديها.. فهى- والأمر كذلك- شىء مغاير للآيات القرآنية التي تنزل على النبىّ، فلا يكون لها هذا الأثر الحسّى، الذي يبعث فى الحياة هزّة، وثورة ظاهرتين للعيان! وقوله تعالى: «قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً» فليس أمام قدرة الله ما يعجز، وقد نزّل الله كثيرا من الآيات الحسّية كهذه الآيات التي يقترحونها، ولكن كثيرا من الناس كفر بها، وخادع حواسه وخان عقله فيها.. وفى قوله تعالى: «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» إشارة إلى جهل هؤلاء المكذبين، فوق ما هم فيه من ضلال وكفر.. ولو علموا لرأوا أن هذا المقترح الذي يقترحونه. فيه هلاكهم ودمارهم.. حيث ذلك هو الجزاء الذي يعقب التكذيب بالمعجزات الحسيّة، التي هلك المكذبون بها، حين جاءتهم على يد الأنبياء.. نوح، وهود، وصالح، ولوط، وموسى، وعيسى. قوله تعالى: «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ» إشارة إلى أن عالم الأحياء، من إنسان، وحيوان، وطير، يرجع إلى أصل واحد، كانت منه جميع هذه المخلوقات، فى أنواعها وأجناسها.. وفى قوله تعالى: «إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ» تسوية بين عالم الإنسان، وعالم الحيوان، فى إقامة كل جنس من أجناس الحيوان، على نظام فى حياته، وفى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 أسلوب معيشته، وتوالده، وصلات أفراده بعضها ببعض أو صلاته بالقريب والبعيد منه من أجناس الحيوان- أشبه بنظام المجتمع الإنسانى. فكما أن الناس يمسكهم نظام، ويضبط حياتهم سلوك، وتربط بينهم عادات، وتحكمهم قوانين، فكذلك كل جنس من أجناس الحيوان، وكل نوع من أنواعه.. له عالمه الذي يعيش فيه، وله تقاليده، وعادانه، ولغته التي يتفاهم بها، وله سلطانه الذي يأخذ به الخارجين على نظام الجماعة، المتمردين على أوضاعها المستقرة فيها.. وفى قوله تعالى: «وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ» - ما يسأل عنه: لماذا كان ذكر الجناحين هنا، مع أن الطائر لا يطير إلا بجناحيه؟ وهل هناك طائر يطير بغير جناحين؟ وإذا كان من الطير ما يطير بلا جناحين، فهل يخرج من هذا الحكم الذي قضى الله به على الدواب والطير؟ والجواب على هذا، هو أن أجناس الطير كثيرة، متفاوتة القدر، مختلفة الحجم والصورة، من النّسر، والصقر، إلى البعوضة، والذرّة.. وكلها ذات جناحين تطير بهما، ومن هذه الطيور ما لا ترى العين جناحيه، ولا يكاد يتصور العقل أنه يحمل أجنحة، وفى ذكر القرآن للأجنحة التي لكل طائر، ما يدعو الإنسان إلى إعادة النظر وإمعانه فى هذه المخلوقات الضئيلة، وفى دقة تركيبها، وروعة بنائها، وأنها- على صغر جرمها- عالم متكامل، فى تكوينه، قد أودعت يد القدرة فيه من الأجهزة، والحواس، ما أودعته فى أرقى الكائنات الحية، من قوى، ومشاعر، ومدركات.. وفى القرآن الكريم كشوف رائدة، رائعة، عن عالم الحيوان، وما أودع الخالق العظيم فيه من قوّى وأسرار، لا تقلّ روعة وإحكاما، عما فى الإنسان، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 الذي ينظر إلى وجوده بين هذه المخلوقات وكأنه إله، وكأنها هى من نافلة الحياة، أو من نفاياتها بالنسبة له!! فهذه النملة- على صغر جرمها، وضآلة شأنها.. تقف من سليمان موقف الندّ للندّ، وتتصدى له، وهو فى بهاء ملكه، ومظاهر عظمته، وقد حشر له الجنّ والإنس والطير، فى مظاهرة ولاء، واستعراض انقياد وخضوع، وإذا النملة التي يمرّ بها سليمان، فلا يأبه لها، ولا يحفل بها، بل ولا يكاد يذكر عن أمرها شيئا، وهو متخم بهذا السلطان العظيم الذي بين يديه- إذا هذه النملة تلقى سليمان لقاء مثيرا، وتحاجّه فى منطق قاهر، لا يقلّ عن منطق سلطانه القوى المبين، فيعجب لهذا الذي يأتيه من قبل أضعف المخلوقات شأنا، وأهونها قدرا، وإذا سلطانه الذي بين يديه يهتزّ، ثم يتهاوى، وإذا هو والنملة على سواء.. إنها تقوم على دولة لا تقلّ عن دولته، نظاما وإحكاما وروعة، وإنها لتقوم على رعية تسوسها بالرأفة والحكمة، وتحوطها بالرّعاية والعناية، وتوفر لها الأمن والسلامة، بما لا يكون إلا من القلّة القليلة من أصحاب الحكم والسلطان..! ونستمع إلى قوله تعالى: «وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ» (17- 19: النمل) وإذا نستمع إلى كلمات الله هذه، نكاد ننصرف بأبصارنا ومشاعرنا عن سليمان، عليه السلام، وحشوده الحاشدة، من الجنّ والإنس والطير، إلى هذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 المجتمع الضئيل من النمل، وإلى هذه النملة التي تقوم على سياسته، وتدبير أمره.. بل إن سليمان نفسه، لينصرف عن حشوده تلك، حين تلقاه النملة هذا اللقاء المثير، وإذا هو منها بين يدى قدرة القدير، وحكمة الحكيم، فلا يملك إلا أن يتوجه بكيانه كله إلى الله، ضارعا بالحمد والشكر: «رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ» .. وليس ببعيد أن تكون النملة- فيما رأى سليمان- ممن عدّهم من عباد الله الصالحين، الذين دعا الله أن يلحقه بهم، ويدخله فى زمرتهم! والهدهد، وقصته مع سليمان، لا تقل روعة وعجبا من قصة النملة، فقد جاء إلى سليمان، وهو فى أبّهة ملكه، وعظمة سلطانه، وبين يديه ما سخّر الله له من الجن والإنس والطير- جاءه وهو فى هذا السلطان العظيم، ليلقاه بهذا الخبر، وليلقى به إليه فى صورة من هو أكثر منه علما، وأكبر سلطانا، وإن كان- فيما يظهر منه- ضئيل الشأن، باهت القدر، فيقول لسليمان: «أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ» !! هكذا المتمكّن من نفسه الواثق من وجوده، يقول قولة الحق، فى غير خوف أو تردد! وكأن الهدهد إنما يثأر بهذا لنفسه، وللجماعة المسخرة لسليمان، حين توعّد الهدهد على ملأ منها بقوله: «لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» .. فجاءه بهذا الجواب القوىّ المبين! ففى هذه النملة التي تمثّل الدوابّ على الأرض، وهذا الهدهد الذي يمثل ما طار بجناحيه فى السماء، شاهدان يشهدان بأن هذه الكائنات التي تعيش معنا على هذا الكوكب الأرضى، من دواب الأرض، وطير السماء، هى أمم مثل الأمة الإنسانية، فى وحدة التكوين والتنظيم، والمشاعر، والمدارك، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 وغيرها، من تلك التي لا تكون الأمة أمة إلا بها.. فالأمة لا تسمى أمة، إلا إذا كان بناؤها الذي تقوم عليه ينتظم جميع الأفراد الذين يدخلون فى حسابها، وينتسبون إليها، بمعنى أن يكون بين أفراد الأمة من قوى التلاحم والترابط ما يجمع بعضهم إلى بعض، ويؤلّف منهم جسدا اجتماعيا أشبه بجسد الكائن الحىّ وما بين أعضائه، من ترابط، وتساند، وانسجام! ومن هنا يمكن أن تتغير نظرة الإنسان إلى عالم الحيوان، وأن يفتح له العلم الحديث آفاقا جديدة فى دراسة علم الحيوان، فلا يقف عند حدود دراسة جسدية له، تدور حول الوظائف العضوية وما يتصل بها، بل ينبغى أن يتجاوز العلم هذه الدراسة إلى دراسات نفسية، وعقلية أيضا.. بحيث يكون من موضوعات هذه الدراسات: لغة الحيوان.. بجميع أجناسه وأنواعه، وعن طريق التعرف إلى هذه اللغة يمكن التعرّف على معارف عالم الحيوان، ونظرته إلى الكون، وصراعه مع الطبيعة، ووسائله التي بلغها فى التغلب عليها.. ولربما يقع للعلم فى هذه الدراسات، من أسرار وعجائب، ما لم يقع له إلى اليوم من أسرار وعجائب!. وإنّ عجزا من الإنسان، وقصورا فى علمه، هو الذي وقف به على شاطىء هذا المحيط العظيم من عالم الحيوان، فلم يعرف كيف يتفاهم مع الحيوانات، ويترجم مشاعرها وإحساسها، ويفسّر حركاتها وسكناتها.. وليس بغير العلم تنفتح مغالق هذه العوالم.. ويوم يبلغ الإنسان من العلم ما يستطيع به الالتحام مع عالم الحيوان والتفاهم معه، يومئذ يكون الإنسان بحق هو سيد هذا العالم الأرضى، وخليفة الله فيه، وإلا فهو ليس بالسيد ولا بالخليفة، إذ لا سيادة لمن لا يعرف كيف يخاطب المسودين له، ولا خلافة لمن لا يحسن الفهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 عمن هو خليفة عليهم.. وإنه ما انقادت تلك الجماعات من الجن والإنس والطير لسليمان، إلا بعد أن أوتى من العلم ما أقدره على فهم هذه الجماعات، والتفاهم معها.. وقوله تعالى: «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ» . اختلف فى الكتاب هنا: أهو اللوح المحفوظ، أم هو القرآن الكريم..؟ ولعل الأقرب إلى مفهوم الآية الكريمة هنا، هو «القرآن الكريم» حيث يبيّن فى آياته هذه أصولا، وأحكاما، ومقررات تندرج تحتها جميع المعارف الإنسانية، التي بلغها العقل، والتي فى مقدوره أن يبلغها يوما ما.. وإذا لم يكن القرآن الكريم قد كشف الغطاء عن هذه المعارف، فإنما ذلك ليثير فى الإنسان دوافع النظر والبحث، وليترك لعقله مجال الحركة والصراع، فينتصر حينا، وينهزم حينا، وهو فى انتصاراته وهزائمه، سيّد نفسه، وقائد سفينة حياته، وحسب القرآن الكريم فى هذا أن يومىء إليه من بعيد إلى مواطن الصيد، التي يلقى بشباكه فيها، فتجىء إليه بصيد وفير. وقوله تعالى: «ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ» الضمير فى ربهم يعود إلى هذه المخلوقات كلها، من دواب الأرض، وطيور السماء.. وقد اختلف فى حشر هذه الكائنات من حيوان ووحش وطير.. وهل تحاسب؟ وإذا حوسبت فهل تعذّب أو تنعّم، كما يحاسب الإنسان ويعذب أو ينعم؟ ولا شك فى أنها ستحشر إلى الله، فهذا صريح بنص القرآن فى هذه الآية، وفى قوله تعالى: «وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ» (5: التكرير) .. أما ما وراء هذا فأمره إلى الله، وعلمه عند علام الغيوب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 الآيات: (39- 41) [سورة الأنعام (6) : الآيات 39 الى 41] وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41) التفسير: «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ» استدعاء لهؤلاء المكذبين الضّالين، من بين عوالم الأحياء كلها، التي عرضها الله سبحانه وتعالى فى الآية السابقة، فى قوله تعالى: «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ» . وفى هذا الاستدعاء، ينعزل الضالون المكذبون بالله وآياته، عن هذا الوجود، كما يعزل المرضى بأمراض خبيثة عن الأصحاء! وهؤلاء الضالون المكذبون، هم فى حقيقتهم مصابون بأمراض خبيثة، لا فى أبدانهم، ولكن فى عقولهم.. إنهم كما وصفهم الحق جلّ وعلا: «صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ» . وانظر إلى هذا الإنسان الأصم الأبكم الذي يحتويه الظلام ويشتمل عليه! إنه أصمّ لا يسمع.. أي لا يصل إليه من العالم الخارجي مسموع. وإنه أبكم، لا ينطق.. أي لا يصل منه إلى العالم الخارجي منطوق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 فهو- والحال كذلك- مصمت مغلق، لا يتصل بشىء، ولا يتصل به شىء. ثم إنه- بعد هذا كله- أعمى، لا يرى شيئا، حتى جوارحه التي معه، من يد أو رجل!! هذا هو حال الذين كفروا بآيات الله.. إنهم كائنات ميّتة، وإن بدت حيّة، فى صورة الأحياء.. فقد تعطلت حواسّهم، وأظلمت قلوبهم وعقولهم، وبهذا لم يكن بينهم وبين آيات الله تعامل، بسمع، أو نظر، أو عقل! وقوله تعالى: «مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» هو عرض لمشيئة الله، وقدرته، وحكمته.. وأنه سبحانه وتعالى هو مالك الملك، إليه يرجع الأمر كلّه.. وهؤلاء اللذين عصوا الله، وضلّوا عن سبيله، لا يظنون أنّهم أصحاب قوة وسلطان.. إنهم أذلّاء ضعفاء لا يملكون شيئا.. حتى هذا الضلال الذي هم فيه.. إنه ليس لهم، وليس من واردات حولهم وقوّتهم.. إن هناك سلطانا فوق سلطانهم، وقدرة فوق قدرتهم، وبذلك السلطان وبتلك القدرة هم محكومون، وهم صائرون إلى هذا المصير المشئوم الذي هم فيه.. فليموتوا كمدا وحسرة.. إنهم ممن شاء الله أن يضلّهم، لأنهم أهل لما أراده الله بهم! وهؤلاء الذين استجابوا لله، وآمنوا، واستقاموا على طريقه القويم، إنما كانت استجابتهم، يدعوة من الله، وتوفيق لهم منه، إلى الإيمان، وأن الله سبحانه وتعالى، هو الذي أخذ بأيديهم إليه، وأدخلهم فى عباده الصالحين، ولولا ذلك لكان شأنهم شأن هؤلاء الضالين، الذين لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 وأن ينزلهم منازل الإكرام عنده.. فليهنئهم هذا الرضوان، وليسعدوا بما آتاهم الله من فضله.. وفى مشيئة الله، ومشيئة العباد، كثر القول، واختلفت المقولات، وتعدّدت الآراء، وتشعبت مذاهب الرأى، فكان من ذلك مقولات كثيرة: فى الجبر والاختيار، وفى القضاء والقدر، وفى الثواب والعقاب، إلى غير ذلك مما يتّصل بمشيئة الله، ومشيئة عباده.. وهل للعباد مع مشيئة الله مشيئة؟ وهل إذا كانت لهم مشيئة أفلا ينقص ذلك من كمال الله وقدرته؟ وإذا لم يكن لهم مشيئة فكيف يثابون ويعاقبون على ما لا مشيئة لهم فيه؟ إنهم مسيّرون لا مخيّرون.. وعدل الله يقضى ألا يحاسب إنسان على ما ليس من كسبه؟ وهكذا تتشعب مذاهب القول، وتختلف وجوه الرأى، ويحتدم الصراع بين أصحاب المقولات، ويلتحم القتال زمنا طويلا، يترامى فيه المقاتلون بكل ما يقع لأيديهم من أسلحة، فى مجال الرأى حينا، وفى ميدان الحرب بالرماح والسيوف حينا.. هذا، وسنعرض لهذا الموضوع، فى بحث خاص إن شاء الله. وقوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» تسفية وتجريم لهؤلاء الذين أشركوا بالله، وضلّوا عن سبيله.. فإن هؤلاء الضالّين المشركين، إذا كربتهم الكروب، وأحاط بهم البلاء، وعاينوا الموت، تنبهت فيهم قوى الإدراك التي كانوا قد عطلوها، ووضحت لهم الحقيقة التي ضلّوا الطريق إليها، فرأوا أنه لا إله إلا الله وحده، وأنه هو الذي يملك دفع هذه الشدائد، ويقدر عليها.. هنالك يدعون الله، ويضرعون إليه، أن يكشف الضرّ، ويرفع البلاء! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 وتلك هى حال الإنسان، فى الشدائد يجتمع رأيه، وتتفتح ملكاته، فيرى الواقع على حقيقته، فإذا زالت الشدة، وانفسح الأمل، أعطى زمامه لهواه، وأسلم وجوده لشيطانه، وعاد إلى ما كان فيه من ضلال وكفر.. «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ» (8: الزمر) وقوله تعالى: «أَرَأَيْتَكُمْ» .. الاستفهام يراد به التقرير.. أي أجيبوا على هذا السؤال الذي أنا سائلكم عنه.. وأصل هذا الفعل «أرأيتم» مخاطبا به هؤلاء المشركين خطابا مباشرا.. ولكن لما كان بين هؤلاء المشركين وبين عقولهم حواجز من الضلالات والمنكرات، فقد جاء خطابهم على تلك الصورة، الفريدة، التي تجمع بين مخاطبين، والمخاطب واحد، حتى لكأنه ذاتان، أو ذات منقسمة على نفسها. وفى قوله تعالى: «إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ» .. المراد بالعذاب هنا هو ما يأخذهم به لله من عقاب شديد فى الدنيا، كما أخذ به الضالين المكذبين من قبلهم.. وعطف قوله تعالى: «أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ» على قوله تعالى: «عَذابُ اللَّهِ» لبيان أن هذا العذاب الذي يندرون به، هو عذاب شديد، أشبه بأهوال يوم القيامة.. ومن أجل هذا، كان وقوع المشركين تحت وطأة هذا العذاب داعية لهم إلى أن ينخلعوا عما كانوا فيه من غفلة، واستخفاف، بما يشغلهم من مطالب الحياة الجسدية، التي أعطوها وجودهم كله..، وأن يولّوا وجوههم إلى الله. ففى مواجهة الشدائد القاسية التي تتهدد وجود الإنسان، وتشرف به على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 الهلاك، تنحلّ قوى الجسد، وتتبخر الأهواء المتسلطة عليه، وهنا يجد العقل سماء صافية تسطع فيها أنواره، كما تجد الروح مجالا للحركة والعمل، وإذا الإنسان بعقله وقد تخلص من الضباب الذي انعقد عليه، وبروحه التي انطلقت من قيود هذا الجسد المعربد، وإذا الإنسان هنا، يعاين الحقيقة، ويرى الحق، فيؤمن، إن كان كافرا، ويستيقن، إن كان مؤمنا. وهذا أشبه بحال من يعالج سكرات الموت، فإنه يرى ماوراء المادة من شواهد الحياة الآخرة، فيؤمن إن كان كافرا، حيث لا ينفعه إيمانه، ويتوب إن كان عاصيا، حين لا تنفعه التوبة.. وفى هذا يقول الله سبحانه وتعالى لفرعون، وقد آمن بعد أن أدركه الغرق، وأشرف على الموت: «آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» (91: يونس) ويقول سبحانه فيمن يتوب وهو فى مواجهة الموت: «وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ» (18: النساء) . وقوله: «أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ» هو استفهام تقريرى، يراد به أخذ اعتراف هؤلاء المشركين بالله. وجوابهم فى تلك الحال التي يسألون فيها، وهم فى أمن عافية، لا يذكرون معها تلك الحال التي يكونون فيها تحت قهر البلاء والشدة، أو فى مواجهة أهوال القيامة- جوابهم فى تلك الحال، لا يكون إلا جحودا لله، وكفرا به، واستغناء عنه. وقوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» إشارة إلى هذا الجواب الذي سيعطونه فى تلك الحال، وأنه ليس الجواب الذي يعطونه لو كانوا فى مواجهة المحنة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 والبلاء، ولهذا جاء قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» كاشفا عن حالهم تلك، وأنهم لو صدقوا أنفسهم، وتدبروا الموقف وتصوّروه على حقيقته، لكان جوابهم: لن ندعو غير الله، ولن نشرك به أحدا.. ولكنهم لم يفعلوا ولن يفعلوا.. ولهذا ضرب الله على الجواب المنتظر منهم، وتولّى سبحانه الجواب عنهم، وألزمهم به إلزام من يؤمنون بالله، ويقدرونه حق قدره، فقال تعالى: «بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ» أي إنكم مع ما تقولون الآن من كذب وشرك، وأنتم فى سعة من أمركم، ستقولون هذا القول الحق، وأنتم فى يد البلاء والمحنة.. وقوله تعالى: «فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ» أي أنه سبحانه هو الذي سيكشف الضرّ الذي نزل بكم، وصرعتم به إليه، على حين هرب من وجوهكم، وفرّ من بين أيديكم، تلك الآلهة الباطلة التي كنتم تتعاملون معها، وتركنون فى أموركم إليها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ» لأنها تفاهات لا تذكر فى ساعة الجدّ، ولا يتعامل معها سفيه حين يثوب إليه عازب عقله. الآيات: (42- 45) [سورة الأنعام (6) : الآيات 42 الى 45] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 التفسير: فى هذه الآيات عرض لمقطع من مقاطع الحياة، قبل عصر النبوّة، وفيه تتمثل مواقف المعاندين والملحدين بالله، والمكذبين برسله، وما أخذهم به من نكال وعذاب. وفى قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ» عزاء للنبىّ الكريم، ومواساة له، فيما يلقى من سفاهة السفهاء، وتطاول الحمقى.. فقد كان قبل النبىّ الكريم رسل كرام، بعثهم الله بالرحمة والهدى لأقوامهم، فكذبوهم، وبهتوهم ومدّوا أيديهم إليهم بالضرّ والأذى.. وقوله تعالى: «فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ» هو تعقيب على كلام محذوف دل عليه سياق النظم، أي فكذبوا بآيات الله، ومكروا برسل الله «فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ» أي فأخذهم الله «بالبأساء» أي بالمحن والشدائد، كتسليط العدوّ عليهم، ووقوعهم ليده، يقتل ويسلب، «والضراء» أي الفقر والجدب، ونقص الأموال والأنفس والثمرات.. وذلك لتتفتح قلوبهم إلى الله، وترفع أكفّهم بالضراعة إليه، ومن ثمّ يكون لهم إلى الله عودة، لو عقلوا، وتدبّروا. إذ أن من شأن الشدائد أن تصفّى النفوس من شوائب الضلال العالقة بها، وتنقّى القلوب من الوساوس المستولية عليها، وتكشف عن العقول الظلام المحيط بها.. هذا إذا كان كيان الإنسان سليما، وكانت تلك الأمور عللا عارضة، تقبل الدواء المرّ وتنتفع به، وتجد فيه الشفاء والعافية.. أما إذا كان الكيان فاسدا بطبيعته، فلا دواء ولا شفاء.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ» أي لعلّهم حين ترهقهم الشدة، ويكربهم الضرّ، يتذلّلون لله، ويضرعون إليه. وفى هذا الترجي «لعلّ» إشارة إلى المطلوب منهم فى تلك الحال، إذ هى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 حال من شأنها أن تقيم الضالّين والمنحرفين على رجاء من رحمة الله، فتخبت له قلوبهم، وتلهج بالضراعة إليه ألسنتهم. وقوله تعالى: «فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا» تحريض لهؤلاء الضالين أن يتداركوا أنفسهم، وأن يعودا بها إلى الله من قريب، تائبين ضارعين.. ولم يذكر الضرّ هنا مع البأس، لأن البأس أعمّ من الضرّ، إذ هو ضر، وأكثر من ضر.. وقوله سبحانه: «وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ» فلم يتضرّعوا، ولم يعودوا إلى الله، مع ما أخذهم به من بأساء وضراء، بل ظلوا على ما هم فيه من عمّى وضلال.. «وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» أي حبّب إليهم الشيطان، بغوايته، وخداعه، هذه المنكرات التي يعيشون فيها، فلزموها، وتعلقوا بها.. وقوله تعالى: «فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ» بيان للوجه الآخر الذي أراهم الله من آياته، وأخذهم به من عبر وعظات، لتتفتح مغالق قلوبهم إليه، ويؤمنوا به.. والذي ذكّروا به ونسوه، هو «البأساء والضراء» وقد أخذهم الله بهما ليكون لهم منهما عبرة وعظة، ولكنهم لم يعتبروا، ولم يتعظوا.. ولكن الله سبحانه- مع هذا- لم يعجّل لهم العقاب، بل أخذهم بحلمه، وقدّم لهم الدواء الحلو السائغ، بدلا من هذا الدواء المرّ، الذي لم يستسيغوه، ولم ينتفعوا به.. فساق إليهم النعم، وأغدق عليهم العطاء، «فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ» مما تشتهى أنفسهم، وتهوى أفئدتهم.. ومع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 ذلك فما نفعهم هذا الدواء، ولا ذهب بما بهم من داء.. بل زادهم هذا الرزق الكريم، كفرا بالله، ومحادّة له.. وإنه إذ لم يكن فى البأساء والضراء، ولا فى النعمة والرخاء، ما يصحح معتقد هؤلاء القوم فى الله، ويقيمهم على طريقه- كانت الثالثة، وهى القاضية، التي فيها الهلاك والدمار.. وهذا هو حكم الله فيهم، وأخذه لهم: «حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ» وإنه لأخذ أليم شديد.. إذ كانوا على حال من البهجة والمسرّة، وفى مقام من الأمل المزهر والرجاء العريض، فتهبّ عليهم عاصفة جائحة، تنتزعهم انتزاعا على حين غفلة، وهم على تلك المائدة الحافلة بشهىّ الطعام والشراب، وإذا الأيدى الممدودة إلى المائدة تتجمد فى طريقها إليها، وإذا الشّفاه المترشفة للكئوس المترعة تيبس عليها، وإذا العيون السارحة بين ألوان الطعام والشراب تجمد حدقاتها، وينطفىء بريقها.. «وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ.. إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» (102: هود) .. فلو أن هؤلاء المشركين، أخذوا وهم فى لباس البأساء والضرّاء لخفّف عليهم مرارة الموت، ما هم فيه من مرارة الحياة التي يحيونها، ولكنهم تجرعوا كأس المنية مرّا مترعا، وفى أفواههم، وعلى ألسنتهم، طعوم وطعوم، من كل حلو وشهىّ! والإبلاس: الحسرة الشديدة، والمبلس: الذي وقع فى معصية ولا حجة له، ولا عذر بين يدى العقاب الذي وقع به. وقوله تعالى: «فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» هو آخر ما يشيّع به هؤلاء الهالكون، وما يتبعهم من دنياهم إلى المصير الذي هم صائرون إليه.. لقد قطع دابرهم، أي اجتثّ كل شىء لهم، ومحيت آثارهم، ولم تبق منهم باقية.. إنهم وباء وبيل، ومرض خطير، يتهدد الإنسانية بالفساد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 والضلال، فكان خلاص الإنسانية منهم نعمة من نعم الله، تستوجب الحمد والشكران.. «فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا» ، أي لم تبق منهم باقية، من أصول وفروع «وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» الذي وقى النّاس هذا الشرّ المستطير، وعافاهم من هذا البلاء المبين! الآيات: (46- 47) [سورة الأنعام (6) : الآيات 46 الى 47] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) التفسير: بعد أن عرض الله سبحانه وتعالى فى الآيات السابقة (42- 45) مصارع القوم الظالمين، بعد أن جاءتهم رسل الله، فكذّبوهم، وأخذوهم بالضرّ والأذى- أمر الله سبحانه وتعالى نبيّه الكريم أن يلقى المشركين المعاندين من قومه بقوله تعالى: «أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ؟» . والضمير فى «به» يعود إلى المأخوذ، المفهوم من قوله تعالى: «أَخَذَ» والمعنى: أجيبوا أيها المكابرون المعاندون، والمشركون بالله- أجيبوا عن هذا السؤال: إذا أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم، أي ضرب عليها سدّا، وعطّل وظيفتها، فلم يكن لها ما للقلوب من مشاعر ومدارك- فهل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 هناك إله غير الله يأتيكم بهذا الذي أخذه الله منكم؟ وفى التعبير بالفعل «أخذ» إشارة إلى أن هذه النعم هى منحة لهم من عند الله، وفضل من أفضاله على عباده، ولله- سبحانه وتعالى- أن يأخذ منهم ما أعطى، ويستردّ ما منح، ولا اعتراض لهم عليه.. وإذا كانوا لا يحيون بغير هذه الحواس من سمع وبصر، ولا يكونون من عالم البشر إلا بهذه القلوب، فإن عليهم أن يبحثوا عن جهة تعيد إليهم ما أخذ منهم، أو مثل هذا الذي أخذ منهم، إن كان بهم حاجة إلى وجودهم فى عالم البشر. وإنهم مهما جدّوا فى البحث، واجتهدوا فى السعى، لن يجدوا غير الله لهذا الذي يطلبونه.. فما لهم لا يؤمنون به؟ وما لهم يعبدون من دونه ما لا يملك لهم ضرا ولا نفعا؟ أليس ذلك ضلالا وسفها؟ وبلى إنه الضلال والسّفه والخسران المبين.. وفى إفراد السّمع، وجمع الأبصار والقلوب، إعجاز من إعجاز القرآن، وآية من آياته، على علوّ متنزّله، وأنه تنزيل من ربّ العالمين. فالسّمع من وظيفته أن يتلقى الأصوات، وأن يميز بينها، ويمسك بالواضح المميز منها، وإنه لن يحقق هذا، أو يتحقق له هذا، إلا إذا عزل الصوت الذي يريد استقباله، عن كل ما يتصل به من أخلاط الأصوات الأخرى.. وهذا يعنى أن السّمع وإن اتسع لمئات الأصوات المختلطة، فإنه لا يميز إلا واحدا منها، بالإصغاء إليه، وعزل ما سواه عنه، وإلا كان المسموع له، أصواتا لا مفهوم لها، إلا على أنها دوىّ كدوىّ النحل مثلا! ومن هنا كانت الحكمة فى إفراد السّمع، فى القرآن، وفى جميع الآيات التي ذكر فيها، وذلك من القرآن، هو توجيه لوظيفة السمع، وإقامتها على الوجه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 الذي ينتفع به صاحبه، فالكلمة التي تدخل على الإنسان من طريق سمعه، لا تثير تفكيرا، ولا تحرك وجدانا، ولا تهزّ شعورا، إلا إذا كانت ذات مدلول محدّد واضح.. وهذا لا يكون إلا إذا استقلّت بذاتها، واتخذت طريقها من السمع إلى مواطن الإدراك والشعور من الإنسان، غير مختلطة بغيرها، مما يسبقها أو يلحقها من كلام. ومن هنا أيضا ندرك السّرّ فى قوله تعالى: «وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا» .. فإن أبرز ما فى هذا الأمر من حكمة، هو نقل كلمات الله، من اللسان، إلى الأذن، ثم إلى العقل والقلب، فى صورة سويّة واضحة، ليكون مفهومها سويّا واضحا.. فالإنسان له سمع، وإن بدا أن هذا السمع هو أسماع، فى استقباله لعشرات الأصوات ومئاتها، دفعة واحدة.. والمطلوب من الإنسان أن يستعمل سمعا واحدا، ليكون لما يسمعه معقول، ومفهوم، وثمر! أما حاسّة البصر، فهى على خلاف حاسّة السمع.. إذ أن العين تستطيع أن تضبط كثيرا من صور المرئيات فى نظرة واحدة، كما أنها تستطيع أن تعاود النظر فى الشيء المرئي لها، مرّة ومرة، ومرات كثيرة، حتى تتحققه وتستيقنه.. ومن هنا كانت العين مجموعة من الأعين، بتردّدها على الشيء، ومعاودتها النظر إليه، حالا بعد حال، وليس كذلك الأذن التي إن أفلت منها الصوت الملقى إليها، لم يكن فى الإمكان ردّه، فقد ذهب أدراج الرياح، ولا يمكن أن يعود، وإن أمكن استدعاء مثله، من مصدره الذي جاء منه.. والقلب، فى تأثّره بالمحسوس، من مرئى، ومسموع، ومشموم، وملموس، هو أشبه بالعين، فى قدرته على معاودة النظر إلى تلك الصور التي تلقى بها الحواس إليه، فيعيش معها زمنا، على هيئة خواطر ومشاعر ووجدانات، يشكّل منها جميعا عالمه الذي يعيش فيه، ويستملى منه نزعاته وسلوكه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 وقوله تعالى: «انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ» . تصريف الآيات: تنويعها، وبسطها، لتنكشف وتتضح. ومعنى يصدفون: أي ينصرفون، ويميلون عن الحق الذي تحمله آيات الله- إلى ما يشتهون من الباطل والضلال. وفى هذا المقطع من الآية الكريمة تشنيع على هؤلاء الضالّين، وفضح لسفاهتهم، على أعين الناس، ودعوة لكل ذى عقل أن يرى ويحكم. وقوله سبحانه: «قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ» استحضار لهؤلاء المشركين فى موقف آخر من مواقف المساءلة، ومواجهة العذاب المعدّ لمن يدينهم الحساب فى هذا الموقف، بعد أن ذكّروا بنعم الله التي تلبسهم ويلبسونها، والتي إن سلبها الله إياهم لم يكن لقوة فى الوجود أن تأتيهم بها.. وهنا فى هذا الموقف، هم مجرمون، قد حكم بتجريمهم من قبل، وها هم أولاء يهدّدون بعذاب الله، الذي يؤخذ به كل متكبر جبار، وأن هذا العذاب غير موقوت بوقت لديهم، وإنما أمر ذلك إلى الله، فقد يأتيهم على حين غفلة، من حيث لا يشعرون أو يتوقعون، كما فعل ذلك بقوم لوط وقوم عاد، أو قد يأتيهم العذاب بعد أن ينذروا به، ويحدّد لهم وقته، تلميحا، كما فى قوم نوح، أو تصريحا، كما فى قوم صالح، إذ يقول الله تعالى: «فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ» (65: هود) . وفى قوله تعالى: «هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ» دفع بهم إلى يد الهلاك، ليلحقوا بالظالمين، الذي أهلكهم الله من قبل، ودمدم عليهم بذنبهم.. فتلك سنّة الله فى الذين خلوا من قبل.. وأنه إذا كان سبحانه وتعالى لم يعجّل لهم الهلاك، ولم يوردهم موارد الظالمين، فذلك إملاء لهم، ومظاهرة لحجة الله عليهم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 ليذوقوا العذاب ضعفين يوم القيامة «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ» (16: فصلت) . الآية: (48- 49) [سورة الأنعام (6) : الآيات 48 الى 49] وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49) التفسير: فى قوله تعالى: «وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ» تعقيب على ما فى الآيات السابقة، من دعوة الناس إلى الله على لسان رسله، وأمهل الله- سبحانه- للمكذبون منهم، وأخذهم بالبأساء والضراء حينا، وبالنّعماء والسراء حينا آخر. وذلك ليكون لهم فى أنفسهم نظر، ولهم إلى الله رجعة، حتى إذا بلغ بهم الكتاب أجله، ولم تنفعهم الآيات والنّذر، أخذهم الله بعذاب بئيس، وأوردهم موارد الهالكين. وفى هذه الآية، بيان لموقف الرسل ممن أرسلوا إليهم.. فما للرسل سلطان على الناس، أن يؤمنوا أو يضلّوا، وإنما هم دعاة إلى الخير والهدى، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها.. وليس الرسل كذلك، هم الذين يملكون العفو والمغفرة، أو يسوقون العذاب والهلاك للمعاندين والمشركين، فذلك إلى الله وحده، لا يملكه أحد غيره، وما على الرسل إلا البلاغ. وقوله تعالى: «فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» هو بيان لأثر من آثار الرسل فى الناس، وأن هناك فى الناس من يهتدى بهم، ويؤمن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 بالله عن طريقهم.. وهؤلاء الذين اتبعوا الرسل وآمنوا بالله، وعملوا الصالحات، قد فازوا وسعدوا، وأمنوا من هول يوم القيامة، ولم يقع فى نفوسهم حزن وحسرة على فائت فاتهم من حظوظ لدنيا، وخير الآخرة.. فما فاتهم فى الدنيا مما كان يعدّه المشركون بالله نعيما استهلكوا فيه أنفسهم، هو رذل خسيس إلى جانب النعيم المقيم المعدّ لهم فى جنات الخلد، أما خير الآخرة فلم يفتهم منه شىء. فقد آمنوا بالله، وهذا هو رأس كل خير.. ثم هداهم الإيمان إلى الأعمال الصالحة، التي ترضى الله الذي آمنوا به، وتدخلهم فى جنّاته. وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» هو كشف للوجه الآخر من دعوة الرسل، وأنه إذا آمن بهم كثير من الناس، فقد كفر بهم كثير من الناس أيضا.. ولكل من المؤمنين والكافرين حسابه وجزاؤه.. وقد بينت الآية السابقة عاقبة المؤمنين وجزاءهم، وأنه لا خوف عليهم، ولا هم يحزنون.. وأما الذين كفروا وكذبوا بآيات الله، فأولئك «يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» . والفسوق، هو الخروج، يقال فسق الفرخ من البيضة: إذا خرج منها، والفاسق هو من يخرج عن حدود الله، وفى هذا يقول الله تعالى عن إبليس «إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ» . وفى قوله تعالى: «يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ» إشارة إلى أن عذاب الله شديد لا يطاق، وأن مسّة من هذا العذاب، تحيل حياة من تصيبه إلى شقاء دائم، وبلاء متصل.. نعوذ بالله من عذاب الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 الآيات: (50- 52) [سورة الأنعام (6) : الآيات 50 الى 52] قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) التفسير: وإذ بيّن الله سبحانه وتعالى فى الآيات السابقة، محامل الرسالة التي يحملها رسله إلى عباده، وأنها رسالة قائمة على البلاغ بما يؤمر الرسول بتبليغه إلى قومه.. وأن من استجاب منهم فقد فاز، ومن أبى واستكبر فقد خاب وخسر. إذ بين الله سبحانه وتعالى هذا الذي كان بين الرسل وأقوامهم، فقد بيّن سبحانه وتعالى موقف النبىّ الكريم من قومه، وأنّه ليس بدعا من الرسل، فما هو إلا بشير ونذير، وأن هذه المقترحات التي يقترحها عليه السفهاء من المشركين، ليست من وظيفة الرسول، ولا من محامل رسالته.. فالرسول مبلّغ وليس منشئا لرسالته.. فما جاءه من عند الله بلّغه، وما لم يجئه أمسك عنه، وإلا كان متجاوزا الحدود المرسومة له.. وقوله تعالى: «قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ» هو إقرار على لسان الرسول نفسه، يواجه به الذين يرون فى الرسول قوى لا يراها الرسول نفسه.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 ومن شأن الإنسان أن يستكثر من الفضائل التي تضاف إليه، فإذا لم يتحدث بها هو عن نفسه دعا الناس إلى أن يتحدثوا بها عنه، فإذا تحرّج من هذا، لم يتحرج مما يراه الناس فيه ابتداء، من غير أن يحملهم عليه.. وهنا نجد الرسول الكريم يعرض نفسه على قومه، نازعا عنه كل تلك الأثواب الفضفاضة، التي يلبسونها إياه، من نسج خيالاتهم وأوهامهم، مجرّدا من كل قوة إلا قوة إيمانه بالله، واستقامته على الحق الذي يدعو إليه. فالنبىّ لا يملك للناس سعة فى الرزق، لأنّه يرزق مثلهم، ولا يرزق غيره: «لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ» فخزائن الله الله، يعطى منها ما يشاء لمن يشاء!. والنبىّ لا يعلم الغيب، ولا يدرى ما يطلع به يومه، أو غده، عليه أو على الناس، مما يحمد أو يسوء.. فعالم الغيب والشهادة هو الله وحده. والنبىّ.. بشر من البشر، وإنسان من الناس، هو مثلهم، مقيّد بقيود هذا الجسد البشرى، وليس هو ملك من ملائكة الرحمن يستطيع أن يفعل مالا يفعله الإنسان، من خوارق ومعجزات. والنبىّ ملزم بالوقوف عند حدود رسالته، يبلغها كما أنزلت إليه، لا يزيد عليها شيئا، ولا ينقص منها شيئا.. «إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ» . وهذا الإقرار من النبي، والاعتراف على نفسه هذا الاعتراف الواضح الصريح، هو دليل من أدلة النبوة، وآية من آيات صدق النبىّ، وأنه مأمور بأن ينقل إلى النّاس ما يوحى إليه من ربّه، ولو كان أمرا متعلقا به، فى خاصة نفسه، أو أهله.. وقوله تعالى: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ» هو تعقيب على هذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 الاعتراف من النبىّ، يلقى به إلى أسماع من يستمعون إلى هذا الاعتراف، وأن هؤلاء المستمعين، بين أعمى لا يرى مواقع الخير، ولا يهتدى إلى طريق الحق، وبصير، يتهدّى إلى الخير، ويستقيم على طريق الهدى.. وأنه لا يستوى الجاهل والعالم، ولا الأعمى ولا البصير، ولا الضال ولا المهتدى.. وفى الاستفهام الإنكارى تنبيه للغافلين من غفلتهم، وإيقاظ للنائمين من نومهم، ليستقبلوا هذا النور الذي بين يدى النبىّ، وليفتحوا عيونهم عليه، وليسيروا على هديه، إن أرادوا لأنفسهم النجاة والسلامة والخير. قوله سبحانه: «وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ» هو توجيه للنبىّ الكريم أن يتّجه بدعوته إلى حيث تجد آذانا تسمع، وقلوبا تعى، فإنه حينئذ يرجو لدعوته استجابة ونجحا فى نفوس مهيأة للاستماع والتعقل.. والضمير فى «به» يعود إلى القرآن الكريم. والنبي- صلوات الله وسلامه عليه- وإن كان مأمورا بأن يدعو النّاس جميعا إلى الله، وأن يقوم فيهم بشيرا ونذيرا، إلّا أن الفاته إلى من فيهم الاستعداد للاستماع والاستجابة، أولى ممن لا يسمع ولا يعقل، ولا يجيب.. أو قل إن دعوته وما تحمل من هدى ونور- وإن كانت موجهة إلى الناس جميعا- إنّما يفيد منها، وينتفع بهديها، هم أولئك الذين يخشون ربهم، ويخافون عذابه، وبهذا يبدو غيرهم وكأنه غير مدعوّ إلى هذا الخير المساق إلى الناس كلّهم، وفى هذا ما فيه من تضييع لهؤلاء الصادّين عن سبيل الله، وإهدار لوجودهم بين الناس..! وقوله تعالى: «لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ» جملة حالية، وصاحب الحال هو الضمير فى «يحشروا» .. أي أن هؤلاء الذين يخافون أن يحشروا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 إلى ربهم، فى حال لبس معهم فيها ولىّ يتولى أمرهم عند الله، أو شفيع يشفع لهم، فيخلصهم من عذابه- هؤلاء هم الذين يعملون للقاء الله حسابا، ومن ثمّ فإنهم يستمعون لكلمات الله، ويستجيبون لرسول الله، فيكونون ممن رضى الله عنهم، ووقاهم عذاب الجحيم. وقوله سبحانه «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» الرجاء هنا معلق بهؤلاء الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم غير مصحوبين بولىّ أو شفيع، فهذا الخوف من شأنه أن يبعث الإيمان والتقوى فى أصحابه.. فهم- والحال كذلك- على رجاء من التقوى، وعلى مداناة منها، إن هم استقاموا على هذا الطريق، واحتملوا ما يلقاهم عليه من مشقة وأذى. قوله تعالى: «وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» . هنا سؤال: هل طرد النبىّ من يدعون ربهم بالغداة والعشىّ يريدون وجهه؟ أو هل همّ بطردهم؟ وإلا فما معنى هذا النهى من الله تعالى للنبىّ الكريم؟ والجواب: أن النبىّ صلى الله عليه وسلم لم يكن منه طرد لجماعة مؤمنة تدعو ربها بالغداة والعشى، بل ولم يكن منه همّ بهذا الأمر.. وكيف يساغ هذا؟ ورسالته- عليه الصلاة والسلام- قائمة على دعوة النّاس أن يدعو ربهم بالغداة والعشى؟ فكيف يدعو إلى أمر، ثم يقف هذا الموقف ممن يأتون هذا الأمر؟ وإذن فما معنى هذا النهى الموجه من الله سبحانه إلى النبي الكريم؟ الواقع أن هذا النهى، وإن كان فى ظاهره موجها إلى النبي- هو ردّ على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 المشركين من زعماء قريش، الذين كانوا يأخذون على النبىّ أنه لا يألف إلا هؤلاء الفقراء المستضعفين، ولا يألفه إلا هؤلاء.. وأن مجلسا يضم مثل تلك الجماعة فى فقرها، وضعفها، ليأنف زعماء قريش أن يكون لهم مكان فيه.. ولهذا جاء النهى إلى النبىّ الكريم، ليقرع أسماع المشركين، وليريهم أن محمدا لن يتخلى أبدا عن هؤلاء الفقراء الذين تزدرى أعينهم، وأنه إذا كان ألف صحبة هؤلاء الفقراء وأنس بهم قبل أن يتلقى أمر ربه بشأنهم- فإنه الآن وقد جاءه من ربّه هذا النهى الذي يلبس صورة الأمر بالحفاظ على تلك الجماعة الفقيرة المؤمنة، وملء يده منها، وإعطائها وجهه كله- إنه لن يتخلّى أبدا عن تلك الجماعة، ولو وقعت السماء على الأرض.. إنه لن يعصى أمر ربّه، ولن يخرج عنه بحال أبدا.. هذا ما تعرفه قريش فيما عرفت من محمد، وأخذه بكل كلمة جاءته من ربه، أو يقول أنها جاءته من ربه، كما تزعم قريش. إذن، فهذا النهى هو كبت لقريش، ولزعمائها خاصة، واستخفاف بهم، وأنهم أقلّ شأنا، وأخفّ ميزانا عند الله الذي يدعوهم محمد إليه، وأن حساب النّاس فى هذا الدين الذي يدعو إليه، ليس بجاههم وسلطانهم، وأنسابهم، وأحسابهم، وإنما هو مائدة ممدودة من الله لعباد الله، فمن أخذ مكانه منها، لم يكن لأحد أن يزحزحه عنه.. إنه فى ساحة الله، وعلى مائدة الله.. وعلى ما تطول يد الإنسان من هذه المائدة يكون حظه من الخير، ومكانه من الله.. وفى قوله تعالى: «ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ» - فى هذا بيان كاشف لحساب الناس عند الله، وأنهم عنده بأعمالهم، لا بأحسابهم وأموالهم.. وهذا هو النبىّ الكريم، حامل رسالة السماء، ومبعوث ربّ العالمين، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 هو والناس عند الله فى ميزان العمل على سواء.. كلّ مجزىّ بعمله، من إحسان أو إساءة.. فهؤلاء الفقراء المستضعفون الذين يدعون ربهم بالغداة والعشىّ، يرجون رحمته، ويخشون عذابه- إنما يعملون لأنفسهم، كلّ يطلب لها السلامة والنجاة، فكيف يطردهم النبىّ- كما تتوهم قريش- من هذا الميدان الذي اختاروا العمل فيه، طالبين النجاة من عذاب الله، والفوز برضوانه؟ إن النبىّ لا يحمل عنهم ما يكون منهم من تقصير فى جانب الله، إذا هم طردوا من هذا المورد العذب الذي يتزودون منه فى طريقهم إلى الله.. فكيف يطردهم؟ أيحمل عنهم وزرهم يوم القيامة؟ إنهم محاسبون على أعمالهم، وإنهم لمجزيّون عنها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ» أي إن النبىّ لن يضارّ بما يحملون من سيئات، إذ أن كلّ نفس تحمل ما كسبت.. والله سبحانه يقول: «وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى» (18: فاطر) .. «وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ» أي إنك لن تحمّلهم شيئا من حسابك.. وإذن، فدع هؤلاء يعملون لأنفسهم، كما تعمل أنت لنفسك، وإنه لمن الظلم أن يرفع أحد يدهم عن العمل الذي يريدون به وجه الله، وحسن المآب إليه.. ولهذا جاء قوله تعالى: «فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ» - حكما قاطعا بالظلم على من يتصدّى لمن يؤمن بالله، ويشغل قلبه ولسانه وجوارحه بذكره. ولا شك أن المشركين من زعماء قريش إذ يرون هذا الحساب الذي بين النبىّ- صاحب الرسالة- وبين أضعف الناس شأنا، وأنزلهم منزلة فى نظرهم- إنهم إذ يرون هذا الحساب، يجدون أنه قائم على العدل والإحسان، وأن الناس عند الله- حتى الأنبياء- بأعمالهم، وليس بمالهم من رياسات دينية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 أو مادية.. إنهم ليرون ذلك لو عقلوا.. وقد عقل كثير منهم، وأسرع إلى الإسلام، يأخذ لنفسه مكانا مع السابقين الأولين إليه. الآيات: (53- 55) [سورة الأنعام (6) : الآيات 53 الى 55] وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) التفسير: كان أكثر ما دخل على زعماء قريش وسادتها الذين آثروا الكفر على الإيمان، واستحبّوا العمى على الهدى- كان أكثر ما دخل عليهم من دعوة الإسلام، وصدّهم عنها، أن سبقهم إليها جماعات ممن لم يكونوا أصحاب سيادة أو رياسة فيهم- بل كانوا من الفقراء والمستضعفين والأرقّاء من الرجال والنساء- فأنف هؤلاء السادة أن ينضموا إلى ركب العبيد، وحسبوا أن الدين والدنيا على سواء، وأن من كان عزيزا فى الدنيا، فهو سيد وعزيز فى الدّين، وبدا لهؤلاء السادة أن ما جاء به محمد ليس فيه ما يرفع من مقام السادة، أو حتى يحتفظ لهم بمكانهم الذي هم فيه- وإذن فزهدهم فى هذا الدين، وصرف وجوههم عنه هو الموقف، الذي ينبغى عليهم أن يلتزموه، وأن يدعو هذا الدين للعبيد والإماء، ومن هو مثلهم ضعفا وفقرا، فلن يزيدهم هذا الدين، إلا فقرا وضعفا.. هكذا كان تقدير السادة والزعماء من مشركى قريش، وهكذا كان تصورهم للرسالة الإسلامية، وما تحمل من هدى ونور.. وهذا ما حكاه القرآن عنهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 فى قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ» (11: الأحقاف) . وقوله تعالى: «وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ» هو بيان لهذا الموقف الذي وقفه سادة قريش وكبراؤها من دعوة الإسلام، وأنهم إنما ضلّوا الطريق إلى الإيمان بالله بسبب أنّ جماعة من المستضعفين والفقراء قد سبقوهم إليه، فقد كان ذلك فتنة لهم، وكان لسان حالهم يقول ما حكاه القرآن عنهم: «أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا؟» يقولونها تهكما وسخرية.. إذ كيف يختار الله لدينه منهم من هم أنزل الناس منزلة فيهم؟ وقد ردّ الله عليهم بقوله: «أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ» .. فالله سبحانه وتعالى هو الذي اختار هؤلاء الذين سبقوا إلى الإسلام، ودعاهم إلى مائدته، وأقامهم فى الصفوف الأولى منها، لما علم سبحانه وتعالى من قبولهم لدعوته، وشكرهم لفضله ونعمته. أما هؤلاء السادة المتكبرون، فليسوا أهلا لأن يدعوا من الله، ولا أن يكونوا فى السابقين إلى مائدة الإسلام، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ» . (23: الأنفال) . قوله تعالى: «وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» - هو بيان لوجه كريم من وجوه الدعوة الإسلامية، وأنها لا تصدّ أحدا يرد شريعتها، ويريد الارتواء منها.. وهؤلاء الذين وقفوا من النبىّ ومن أصحابه هذا الموقف العنادىّ العنيف- هؤلاء لن يغلق الإسلام بابه دونهم، ولن يقبض الله يد رحمته عنهم.. بل هم حيث طرقوا باب الإسلام فتح لهم على مصراعيه، واستقبلتهم على عتباته رحمة الله ومغفرته، فمحت كل ما علق بهم من آثام وسيئات، وإذا هم مواليد جدد فى الإسلام، يدخلونه وصفحات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 كتابهم بيضاء لم يمسسها سوء.. وأنهم منذ اليوم هم الذين يملون ما يكتب فى هذه الصفحات، من خير أو شر. وفى قوله تعالى: «وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا» استدعاء لأولئك الذين تخلّفوا عن الإسلام، وحثّ لخطاهم على أن يسبقوا حتى لا يكونوا فى مؤخرة الركب.. وهذا هو السرّ فى التعبير بقوله تعالى «يُؤْمِنُونَ» الذي يدل على الحال المتجددة فى المستقبل الممتدّ.. وفى قوله تعالى: «فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ» هو التحية الطيبة المباركة التي يلقاهم بها الله على لسان رسوله، وهم على عتبة الإسلام.. وفى هذا الترحيب بهم أنس لهم، وطمأنينة لمستقبلهم، فهم فى أمن وسلام، وفى خير وعافية: «سلام عليكم» .. أي سلام يشتمل عليكم، ظاهرا وباطنا. فإذا أنسوا لهذه التحية الكريمة، تلقّوا تحية أعظم وأكرم.. «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» فهذه الرحمة التي أوجبها الله على نفسه، رحمة منه وكرما وفضلا، هى التي تضفى على الداخلين فى الإسلام، لأمن والسلام، بالتجاوز عمّا قترفوا من قبل من آثام.. فهم أبناء لإسلام منذ اليوم الذي دخلوا فيه، ولا شىء عليهم مما اقترفوه من قبل.. «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» وهذا السوء الذي فعلوه بجهالة، هو ما كان منهم من حرب على الإسلام، وأذى للمسلمين، الأمر الذي جعلهم يدخلون الإسلام وأشباح هذه المنكرات تقضّ مضاجعهم، وتكاد تفسد عليهم حياتهم مع الدين الذي دخلوا فيه.. فكان قوله تعالى: «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» - كان هذا ردّا لاعتبارهم، وتصحيحا لوجودهم، وسكنا لنفوسهم، وبردا وسلاما على قلوبهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 قوله تعالى: «وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ» هو بيان لما تحمله دعوة الإسلام من آيات بينات، وبيان مبين، بحيث ينفضح على أضوائها أولئك الذين يسلكون طريقا غير طريقها، إذ يرى كل عاقل أنهم يمشون فى ظلام، ويعيشون فى ضلال. الآيات: (56- 58) [سورة الأنعام (6) : الآيات 56 الى 58] قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) التفسير: قوله تعالى: «قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» التفات إلى هؤلاء المشركين، الذين أرادوا النبىّ على أن يطرد من اجتمع إليه من الفقراء والمستضعفين، ثم ليتحدث بعد هذا إليهم هم، إن كان له معهم حديث! وقد أمر الله النبىّ أن يلقى هؤلاء المشركين بهذا القول الفصل فيما بينهم وبينه: «إِنِّي نُهِيتُ» أي تلقيت نهيا من ربى «أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» من أصنام، أو ملائكة أو جنّ، أو كواكب، وما أشبه ذلك.. وقوله تعالى: «قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ» بيان لضلال هؤلاء المشركين، وأنهم إنما يعبدون آلهة من صنعة أهوائهم، ونزغات شياطينهم، لا يقلبها عقل، ولا يتعامل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 معها عاقل.. وتكرار الأمر «قل» هو- كما قلنا- مزيد من عناية الله- سبحانه- بالرسول الكريم، وإشعار له بأنه مأنوس برحمة الله، إذ يضع سبحانه وتعالى على فمه كلماته، وآياته، ليلقى بها المشركين، ويفضح باطلهم، ويكشف ضلالهم. وقوله تعالى: «قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ» هو تتمة مقول القول، فى قوله تعالى: «قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ» لأن من يتبع أصحاب الهوى يضلّ ولا يهتدى أبدا. وأنتم أيها المشركون أصحاب هوى وضلال، فلو اتبعتكم كنتم مثلكم من الضالين، وحاشا لله أن أفعل هذا، وأن ألقى بنفسي إلى التهلكة. وقوله تعالى: «قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي» أي على أمر واضح مشرق من صلتى بربّى ومعرفتى به، تلك المعرفة التي لا يدخل عليها شك أو ريب، ولا يلحقها وهن أو ضعف.. وحرف «على» هنا يفيد الاستعلاء والتمكن، وهذا يعنى أن معرفة النبىّ بربّه معرفة كاملة، تملأ القلب يقينا واطمئنانا، فلا يتحول عنها أبدا. وقوله سبحانه: «وَكَذَّبْتُمْ بِهِ» هو عطف على قوله تعالى: «إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي» من عطف الجمل.. أي إنى على معرفة بربّى وقد آمنت به، وأنتم على ضلال وعمى فكذبتم به، ولم تتخذوه إلها واحدا تعبدونه. وقوله تعالى: «ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ» أي ليس فى يدىّ العذاب الذي تستعجلونه، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ» (53: النمل) .. وما حكاه سبحانه وتعالى على لسانهم فى قوله: «وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (32: الأنفال) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 وقوله سبحانه «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» أي أن إلى الله سبحانه مرجع هذا الذي تستعجلون به من عذاب، إن شاء عجّل لكم العذاب، وإن شاء أخره، وإن شاء رحمكم وأخذ بكم إلى طريق الهدى.. أما أنا فلا أملك من هذا كله شيئا.. «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ..» «يَقُصُّ الْحَقَّ» أي يقضى به، «وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ» فما قضى به فهو الخير كله، وهو العدل كله. وقوله تعالى: «قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان فى يده هذا المقترح الذي يقترحونه عليه، ليكون آية صدقه عندهم، لجاءهم به، ولأرسل عليهم العذاب الذي طلبوه، ولقضى الأمر بينه وبينهم، ولم يعد ثمّة جدال، أو خلاف.. ولكن الأمر بيد الله، وهو حكيم حليم، لا يعجّل لكم ما تطلبون، مما فيه هلاككم، وقد اقتضت حكمته أن يمهلكم، فلعل فى امتداد الزمن بكم ما يفسح المجال أمام الكثير منكم، ليهتدى، ويؤمن بالله، ويفوز برضوانه.. فكل يوم يمر بكم دون أن يأتيكم هذا العذاب الذي تطلبونه، هو رحمة من الله بكم، ودعوة مجدّدة منه سبحانه إليكم، أن ترجعوا إليه، وتؤمنوا به، وتكونوا فى عباده المخلصين.. وهذه فرصتكم.. إن أفلتت منكم فلن تعود أبدا. وقوله تعالى: «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ» تهديد ووعيد لهؤلاء الذين أمهلهم الله، ولم يعجل لهم العذاب، ليصححوا عقيدتهم، ويرجعوا إلى ربهم.. ولكن الظالمين ظلوا على عتوّهم، وكفرهم، وعنادهم.. والله عليم بهم، وسيأخذهم بذنوبهم: «يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا» .. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 الآيات: (59- 62) [سورة الأنعام (6) : الآيات 59 الى 62] وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62) التفسير: بدأت السورة بآيات فيها عرض لجلال الله، وعظمة ملكه، وبسطة سلطانه، وسعة علمه، ثم جاءت بعد ذلك بمواجهة النبي وقومه، وخاصة المشركين منهم، الذين أنفوا أن يستجيبوا للرسول، لأنه بشر مثلهم، وأبوا أن يدخلوا فى دين يجعلهم والأرقاء والفقراء على سواء.. ثم تجىء الآيات بعد ذلك، لتعرض جانبا من جلال الله وعظمته، ليكون فى ذلك ذكرى لمن غفل عن الله، ونسى ما ذكّر به من قبل. وقوله تعالى: «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ» الضمير فى «وعنده» يعود إلى الله سبحانه وتعالى، حيث جاء لفظ الجلالة فى قوله تعالى: «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ» .. الآية (58) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 ومفاتح الغيب: مفاتيحه التي تفتح بها خزائنه المودع فيها الغيب.. والغيب: ما غاب عنا إدراكه بحواسنا أو بعقولنا. والمعنى: أن الغيب المحجب عنا فى أطواء الزمان أو المكان، هو مما استأثر الله- سبحانه- بعلمه وأن ما يضمره هؤلاء الظالمون، من شر، وما يبيتونه من سوء، هو واقع فى علم الله، وسيحاسبون على كل صغيرة وكبيرة منه والتعبير عن الغيب بأنه مودع فى خزائن، وأن هذه الخزائن لها مفاتيح، وأن هذه المفاتيح لا يعلمها إلا الله- فى هذا إشارة إلى أن الغيب الذي استأثر الله بعلمه، أبعد من أن ينال، أو أن يطلع عليه أحد، إلا لمن أذن له الرحمن، ممن اصطفاه من خلقه. وفى هذا يقول سبحانه: «عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ» (26- 27: الجن) . وإظهار الرسول على الغيب، هو إعلامه به من قبل الله تعالى، بما يوحى إليه من أنباء الغيب، كما يقول سبحانه: «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا» (49: هود) . وقوله تعالى: «وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» هو بيان لبعض علم الله.. وتخصيص البر والبحر، لأنهما مما يقعان تحت حواسنا، وقوعا دائما متصلا.. ومع هذا فإنهما مما هو غيب عنا، إذ أن كل ما نعلم من أمرهما هو قليل قليل إلى ما لا نعلم.. ثم إن هذا العلم الذي نعلمه هو جهل بالنسبة لعلم الله، الذي يعلم حقائق الأشياء، وما أودع فيها من أسرار، أما علمنا فهو واقف عند ظواهرها، لا ينفذ إلى الصميم من أعماقها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 وقوله سبحانه: «وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ» هو تفصيل، بعد تفصيل، بعد إجمال.. فقد جاء علم الله عاما شاملا: «وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ» ثم جاء مفصلا.. «وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» ثم فصل هذا المفصل «وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ» إلا يعلمها، وإلا هى «فِي كِتابٍ مُبِينٍ» أي أن كل شىء وجد أو سيوجد، هو فى علمه منذ الأزل، مسجل فى كتاب محفوظ، لا يتغير ولا يتبدل: «وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ» (34: الأنعام) والكتاب المبين، هو الواضح، المحكم، المتمكن من كل شىء ... «وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً» (29: النبأ) . قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ» إشارة إلى نعمة النوم، واليقظة، وأن النوم أشبه بالموت، حيث تسكن فيه الحواس، وتتعطل ملكات الإنسان.. ونوم الإنسان ويقظته كل يوم، فيه تذكير له بالموت والبعث، إن كان مؤمنا، وتصوير لهما إن كان شاكا، ومظاهرة للحجة عليه، إن كان منكرا كافرا.. وفى قوله تعالى: «وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ» بعد قوله تعالى «وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ» إمساك بالإنسان وهو فى حال النوم، كميّت بين الأموات، ووضعه أمام ما كسب فى حال يقظته، قبل أن يحتويه النوم أو يمسكه الموت.. وتلك عملية يرى فيها الإنسان صورة مصغرة لما يكون عليه حسابه يوم القيامة، وأنه ما هى إلا نومة كهذه النومة، حتى يجد نفسه هو وما عمل، بين يدى الله، للحساب والجزاء، وللجنة أو النار.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 وفى هذا ما يحمل الإنسان على أن يتدبر أمره، ويراجع حسابه، ويستعد لليوم العظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين.. وفى التعبير عن أعمال الناس (بالجرح) «وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ» إشارة إلى الأعمال السيئة، وأنها عدوان على حرمات الله، وجرح لها، حتى لكأنها كائن حىّ، يصاب بطعنة رمح، أو ضربة سيف.. وإذ كانت كذلك فإنه لا بد من قصاص، كما يقول سبحانه: «وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ» . والسؤال الوارد هنا: إذا كان علم الله عامّا شاملا لكل ما يعمل الإنسان من خير وشر، فلم اقتصر به هنا على ما اكتسب الإنسان من سيئات، وما اجترح من حرمات؟. والجواب على هذا، هو أن سلامة الإنسان قائمة على تجنبه المعاثر، ووقوفه على حدود الله.. فإذا كفّ يده عن اجتراح المحارم، فقد فاز ونجا.. ذلك أنه إذا خلّص نفسه من دواعى الإثم والشر، استقامت طريقه على الحق والهدى، وانطلق فى حرية إلى حيث أمر الله من خير وإحسان. وقوله تعالى: «ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ» الضمير المجرور بحرف الجر «فى» يعود إلى النهار.. «وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ.. ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ» والمراد بالنهار ليس نهارا بعينه، وإنما هو مطلق النهار، حيث تكون فيه يقظة الإنسان والكائنات الحية.. وحيث تقع فيه كل أعمال الإنسان من خير أو شر. وقوله: «لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى» أي أن هذا البعث الذي يكون باليقظة من النوم إنما هو لاستيفاء الأجل الذي قدره الله للإنسان فى حياته الدنيا.. وقوله تعالى: «ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» أي أنه بعد استيفاء الأجل المقدور لكم، يرجعكم الله إليه بالموت، ثم يبعثكم بعد الموت لتروا أعمالكم، وتحاسبوا عليها.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 قوله تعالى: «هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً» بيان لقدرة، وهو أنه- سبحانه- بهذه القدرة، قائم على عباده، آخذ بنواصيهم، لا يملكون شيئا معه من أنفسهم، وأن عليهم حفظة من عنده، يكتبون ما يفعلون، ويحصون عليهم ما يعملون.. «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ» . (10- 12: الانفطار) وقوله تعالى: «حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ» مجىء الموت: هو حلول وقته، بانتهاء عمر الإنسان.. فإذا انتهى أجل الإنسان، أدّى رسل الله مهمتهم معه، بانتزاع روحه، دون إمهال أو تفريط.. وقوله سبحانه: «ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ.. أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ» إمارة إلى أن الموت ليس هو نهاية الإنسان، وإنما هو بداية مرحلة جديدة، ونقلة إلى عالم آخر، حيث يبعث الناس، ويردون إلى الله مولاهم الحق، كما هو حق سبحانه فى ذاته، وكما يراه المؤمنون والكافرون يومئذ.. حيث ينادى منادى الحق: «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟» فيكون جواب المخلوقات جميعها بصوت واحد: «لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» . الآيات: (63- 65) [سورة الأنعام (6) : الآيات 63 الى 65] قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 التفسير: وهذا مظهر آخر من مظاهر جلال الله وقدرته، وبسطة سلطانه، وسعة علمه.. فهو سبحانه، هو الذي يرجى لكشف الملمّات، ويدعى عند الشدائد. حيث تضل عن العقول كل تلك الخرافات التي يعبدها الضالون، ويتعامل معها المشركون.. وقوله تعالى: «مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» ؟. استفهام تقريرى، مطلوب الجواب عليه، ممن يدخلون فى مثل هذه التجربة القاسية، التي لا يسلم منها إنسان، فى جميع أحواله وظروفه.. وفى قوله تعالى: «مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» إشارة إلى أن الشدائد التي تصيب الإنسان فى البر والبحر، هى ظلمات تحجب عنه الرؤية، وتعمّى عليه طريق النجاة، فلا يجد إلا الاستسلام، واللّجأ إلى الله. والتضرع: التذلل والمسكنة.. والخفية: التخافت، والهمس.. وهذا ما يفعله الكافرون والمشركون، خوفا من أن يفتضح حالهم، وذلك حين تكون الشدة الممسكة بهم غير قاهرة، فإذا كانت الشدة مطبقة ضاغطة، كان منهم الضّراعة والتذلل.. علانية وصراخا.. وفى قوله تعالى: «لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ» ما يكشف عن تلك الطبائع المنكرة، وهذه القلوب القاسية، التي تأبى أن تخلص الإيمان، حتى وهى فى مواجهة الموت، فلا يدعون الله دعاء من هو حاضر فى نفوسهم، مستول على كيانهم، بل يدعونه دعاء الغائب، البعيد عنهم.. «لَئِنْ أَنْجانا» ولم يقولوا لئن أنجيتنا.. لأنهم لا يعرفونه، ولا يعلمون أنه قريب منهم، يسمع سرّهم ونجواهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 ومع هذا، فقد أوسع الله لهم فى باب رحمته، فكشف عنهم الضرّ، ودفع عنهم البلاء.. فلما اطمأنوا، عادوا إلى ما كانوا عليه من شرك وكفر.. «قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ» . وقوله سبحانه: «قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ» . فالله الرحمن الرحيم، هو منتقم شديد العقاب.. قادر على أن يبعث على هؤلاء المشركين المحادّين لله ورسوله، صواعق مهلكة من السماء، أو بحارا مغرقة من الأرض، أو أن يلبسهم شيعا، أي يجعلهم أهواء متفرقة، ومذاهب متقاتلة، يضرب بعضهم بعضا، ويذيق بعضهم بأس بعض.. وقوله تعالى: «أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً» أي يخلطكم شيعا وفرقا، حتى ليكاد يلبس بعضكم بعضا، كما يلبس الجسد الثوب، مع تفرقكم مشاعر وعواطف ونزعات.. وهذا هو البلاء، أعظم البلاء، يصاب به مجتمع، يحويه مكان واحد، وحياة واحدة.. وإنه لا نعمة أعظم من نعمة الألفة بين قلوب الجماعة، تلك الألفة التي تجمعها على الحب والمودة والرحمة، وفى هذا يقول الله تعالى: «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً» . وقوله تعالى: «انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ» . إلفات لكل ذى عقل أن ينظر إلى هذه الآيات التي تكشف عن جلال الله، وقدرته، وعلمه وحكمته، والتي يجلّيها فى معارض شتّى، بحيث يرى منها كل ذى نظر، وجه الحق، ويتعرف طريقه إلى الله.. وما ذلك إلا ليتنبه هؤلاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 الغافلون، ويفقه أولئك الجاهلون.. لعلّ لمعة من لمعات الهدى والإيمان، تضىء ظلام عقولهم، وتكشف ضلال قلوبهم.. الآيات: (66- 67) [سورة الأنعام (6) : الآيات 66 الى 67] وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) التفسير: ومع هذه الآيات البينات، وتلك المعارض المشرقة التي ترفعها لأعين الناس، فإن كثيرا من الناس ضلّوا عنها، وكفروا بها، وأنكروا الواقع المحسوس الذي يجابه حواسّهم من نورها السنىّ، وأريجها العطر. وفى قوله تعالى: «وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ» تشنيع على هؤلاء المعاندين من زعماء قريش وساداتها.. وأنّهم إذ جحدوا الحقّ، فقد جحدوا كذلك معه عاطفة القرابة والرحم.. وأنهم بدلا من أن يكونوا إلى جانب النبىّ المبعوث منهم، ينصرونه ويشدّون أزره- كانوا حربا عليه، وعلى من ظاهره، وآمن به. وفى كلمة «قومك» تسفيه لهؤلاء القوم الذين لم يستنّوا مع النبىّ سنّتهم فى الحياة التي يحيونها، بل لقد خرجوا عليها خروجا فاضحا.. ذلك أن من عاداتهم التي تكاد تكون طبيعة فيهم، الانتصار للقريب، والاستجابة لدعوته.. ومن مأثور أقوالهم فى هذا: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» ومنه قول شاعرهم: لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... فى النائبات على ما قال برهانا فكيف وداعيهم هو هذا النبىّ، الذي يدعوهم إلى ما فيه خيرهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 وسعادتهم.. «يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ» . وقبل هذا وذاك، هو يدعوهم إلى أن يرفعوا وجوههم إلى السماء، وأن يرتفعوا بأنفسهم عن هذا الامتهان المهين، وهم عاكفون على قطعة حجر، أو خشب، يعبدونها، ويعفّرون وجوههم بالتراب بين يديها؟ وقوله تعالى: «قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ» هو تهديد لهؤلاء المشركين بأن يتركوا ليد الضياع والهلاك، بعد أن أدّى النبىّ رسالة الله إليهم، فهم الذين جنوا على أنفسهم تلك الجناية التي أمسكت بهم على مواقع الشرك والضلال.. والنبىّ ليس وكيلا عنهم، بل هم راشدون يتولّون أمر أنفسهم، ويحاسبون على ما يقع منهم. وقوله سبحانه: «لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» إما أن يكون من مقول القول الذي قاله النبىّ لهم، وأسمعه إياهم، وإما أن يكون من الله سبحانه ابتداء.. والمعنى أن لكل أمر عاقبة ونهاية، وسوف تعلمون أيها المشركون عاقبة أمركم، وسوء مصيركم..! الآيات: (68- 70) [سورة الأنعام (6) : الآيات 68 الى 70] وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 التفسير: بعد أن صرّف الله الآيات للنّاس، وأبان لهم فيها معالم الطريق إليه، فآمن من آمن، وكفر من كفر، أمر سبحانه النبىّ الكريم، أن يخلص بنفسه وبدينه من المشركين، وألا يتحكك بهم، حتى لا يسمع منهم ما يكره، أو يرى منهم ما يسوء. وإذ كان النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- حريصا على هداية قومه، وإذ كان بينه وبينهم هذه الرابطة من صلات القربى والمخالطة فى الحياة، الأمر الذي يشق على النبىّ ويعنته، إذا هو اعتزلهم عزلة كاملة، وقطع ما بينه وبينهم من صلات- فإن الله سبحانه وتعالى قد قصر هذا الأمر للنبىّ باعتزال قومه والإعراض عنهم، على الحال التي يخوضون فيها فى آيات الله، ويتخذونها هزوا وسخرية، ففى تلك الحال ينبغى على النبىّ ألّا يخوض معهم فى هذا الحديث، وألا يجادلهم فيما يخوضون فيه، بل يترك هذا المجلس الذي هم فيه، لأنهم على منكر، وهو لا يستطيع أن يغيّر هذا المنكر بيده، أو لسانه، فليغيّره بقلبه. بتلك الصورة التي يريهم منها منطقا عمليا لما ينكره عليهم.. «وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ» .. والخوض فى الحديث، معناه إرسال القول جزافا، بلا حساب ولا تقدير، وذلك لا يكون إلا فى مجال الاستهزاء والاستخفاف بالحديث الذي يدار. وليس الإعراض الذي يكون من النبىّ فى تلك الحالة، هو إعراض دائم متصل أبدا، وإنما هو إعراض موقوت بهذا المجلس، وبكل مجلس يكون فيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 مثل هذا الخوض فى آيات الله من المشركين.. فإذا كان منهم بعد هذا مجلس يجرى فيه حديث جدّ، ووقار، والتزام عقل ومنطق، فلا بأس على النبىّ من أن يعود إلى الجلوس معهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ» أي فى حديث غير حديث الدّين الذي يدعون إليه، أو الدّين الذي هم فيه.. فإذا خاضوا فى أمور غير أمور الدّين، مما يتصل بحياتهم الخاصة، من تجارة، وحرب، وسلم، وغير ذلك، فإن الخوض هنا لا يمسّ الدّين، ولا يجرح مشاعر النبىّ.. وإنه لا بأس على النبي من الجلوس معهم. وقوله تعالى: «وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» هو تنبيه للنبىّ، وتحذير له من تلك المجالس، التي تدور فيها أحاديث المشركين، هازئة عابثة بالدين، وأنه إذا كان النبىّ فى مجلس مع هؤلاء المشركين، ثم جرى الحديث بينهم فى هذا الاتجاه، ثم كان من النبىّ أناة واستماع، طلبا لكلمة حق تجرى على لسان أحدهم، أو التماسا لمدخل يدخل به إلى الحديث معهم فيما هو حق وخير، فإن هذا الموقف من النبىّ هو مما يدخل فى أمر الحظر الذي جاء فى قوله تعالى «وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ» وأن هذا أيضا مما يغفره الله للنبى، ويتجاوز له عنه، إذ كان ذلك عن سهو ونسيان، لما وقع فى نفسه من رجاء فى هداية القوم.. ولكن إذا ذكر النبىّ فى تلك الحال ما أمره الله به من الإعراض عنهم، فليعرض عنهم فى الحال، وليأخذ نفسه من بينهم بلا مهل، حتى لكأنه وقع تحت خطر يتهدّده، ويطلب النجاة منه.. وفى هذا إشعار للنبىّ بأن مجالسة القوم- وهم فى تلك الحال- شر مستطير، يجب أن يكون على ذكر منه دائما، وعلى حذر منه أبدا.. وفى قوله تعالى: «وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ» إلفات قوىّ للنبىّ، لحراسة نفسه من هذا الخطر، وتحريض شديد له على أن يكون على حذر دائما من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 هؤلاء القوم، ومن مجالسهم، التي لا تنضح بغير الشر والسوء.. والشيطان لا سلطان له على النبىّ، بل لا سلطان له على أىّ مؤمن صادق الإيمان، كما يقول الله سبحانه: «إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (99- 100 النحل) . والباء فى «به» هنا للسببية، أي أنهم أصبحوا مشركين بسبب متابعتهم للشيطان، واستسلامهم لغوآياته. وفى نسبة هذا النسيان من النبىّ إلى الشيطان، وإضافته إليه، زيادة فى تقبيح هذه المجالس التي يخوض فيها المشركون فى آيات الله، وأنها تحت سلطان الشيطان، يمسك فيها زمام الموقف، ويجرى على ألسنة القوم ما يتساقط منها من هزء وسخرية.. ومجلس هكذا يحضره الشيطان، ويدبر الحديث فيه، لا ينبغى للنبىّ أن يكون من شهوده، فإن كان فيه لحظة- تحت أي ظرف- وجب أن ينتزع نفسه منه انتزاعا. وقوله تعالى: «وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» إشارة إلى أن ما يقع من المشركين فى تلك المجالس الهازئة الهازلة من منكر، لا يمسّ المتقين بسوء، ولا يحمّلهم شيئا من أوزار هؤلاء القوم. ولكن تجنّب هذه المجالس هو حماية للمؤمنين من أن تصيبهم عدوى هذه الأحاديث، وإن من الخير لهم، والسلامة لدينهم، أن يتّقوا هذه المجالس، ويحذروها.. وهكذا فى كل شر، من قول أو عمل.. إنه واقع بأهله أولا وقبل كل شىء، وما يصيب غيرهم منه، لا يخفف من آثاره السيئة الواقعة بهم، بل إنه ليضاعف من إثمهم، ويضيف إلى جرمهم جرما.. وما يجب على المؤمنين فى تلك الحال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 هو أن يعزلوا أنفسهم عن تلك المآثم، وأن يتقوا الخطر الذي قد يصيبهم من مداناتها.. وهذا الأمر المتوجّه به إلى النبىّ، هو أمر عام، متوجّه به إلى كلّ مؤمن، وأنه إذا كان النبىّ- وهو من هو فى وثاقه إيمانه، وقوة يقينه، وعصمة ربّه له- مدعوا إلى تجنب هذه المجالس الآثمة، خوفا عليه فى نفسه ودينه، فإن غيره من المؤمنين أولى بمحاذرة هذه المجالس، واجتنابها.. وقوله تعالى: «وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا» هو توكيد لهذا الأمر الذي أمر به النبيّ، من اجتناب المشركين، وقطع كل ما فى نفسه من أمل أو طمع فى هدايتهم، بهذه اللقاءات التي يحرص على لقائهم فيها.. فإنهم ليسوا من أهل الدين، ولا يرجى أن يكون لهم دين، لأن دينهم الذي يملك عليهم نفوسهم، هو اللعب واللهو، والعكوف على هذه الحياة الدنيا، التي أعطوها كل وجودهم، بحيث لا تتسع نفوسهم لشىء آخر غير هذه الدنيا، وما فيها من لهو ولعب! وليس معنى هذا أن يطوى النبىّ كتاب دعوته، وأن يعتزل الناس والحياة، إنما المطلوب منه هو أن يذكّر بدعوته، وأن يبشر وينذر، وأن يسمع النّاس جميعا كلمات ربّه.. «وذكر به» أي بالقرآن الذي معك، مجرّد تذكير، وليس للنبىّ أن يحمل الناس حملا عليه، وأن يقطع أنفاسه بالجري وراء من لا يستمع إليه، ولا يستجيب له.. وقوله تعالى: «وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها» أي أن دعوة النبىّ هى البلاغ، والتذكير بيوم الحساب، والتخويف من هذا الموقف الذي تبسل فيه كل نفس بما كسبت، أي تعزل وتفرد، ليس معها إلا ما كسبت من خير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 أو شر.. والأصل فى الباسل، أنه الكريه، المخيف، الذي يتجنبه الناس، ومنه سمىّ الفارس الشجاع: باسلا، لأن المحاربين يتجنبونه، ويصدّون عن لقائه، وفى هذا يقول عنترة: فإذا ظلمت فإن ظلمى باسل ... مرّ مذاقته كطعم العلقم وقوله تعالى: «وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها» أي أن النفس- كل نفس- لا ينفعها إيمان، ولا عمل يوم القيامة، فهى فى دار حساب وجزاء، وليست فى دار إيمان وعمل.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً» (158: الأنعام) والمراد ببعض آيات ربك، هو ما يكون بين يدى الساعة من علامات وإرهاصات. وقوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ» هو إمساك بمخانق هؤلاء الذين أشركوا بالله، وعرض لهم فى هذا الموقف العظيم على رؤوس الأشهاد، والإشارة إليهم وهم فى قفص الاتهام: «أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا» من سيئات، لا شىء معهم غيرها.. والباء هنا للإلصاق، مثل قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ» (21: الطور) هؤلاء الذين أشركوا بالله، وأفردوا، بما كسبت أيديهم من آثام، ووضعوا موضع المساءلة والحساب- ما تكاد العيون تأخذهم، وترى ما على وجوههم من غبرة ترهقها قترة، حتى يؤذّن مؤذّن الحق، بالحكم الذي حكم عليهم به أحكم الحاكمين: «لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون» لا شىء لهم غير هذا، فليذقوه حميما وغسّاقا.. فتلك هى عاقبة الكافرين. والحميم: هو الماء الحار الذي اشتدّ غليانه، ومنه الحمم، وهى القطع الملتهبة من النار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 الآيات: (71- 73) [سورة الأنعام (6) : الآيات 71 الى 73] قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) التفسير: فى هذا المعرض الذي يؤخذ فيه المشركون بشركهم، حيث يلقون فى جهنم، ويصلون نارها، ويشربون حميمها- يتلفت المؤمنون إلى أنفسهم، ويتلمسون طريق الخلاص من هذا المصير المشئوم، فيلقاهم على أول الطريق، النبىّ الكريم، بقول الله تعالى: «أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا» . والاستفهام هنا إنكارى، ينكر فيه المؤمنون على أنفسهم أن يأخذوا طريق هؤلاء القوم الضالين، الذين ساقهم الضلال إلى هذا المصير المشئوم، وأن يتخلّوا عن هذا الطريق المستقيم الذي أقامهم الرسول عليه، ليأخذوا وجهتهم فيه إلى رضوان الله، وإلى جنات لهم فيها نعيم مقيم. وإنه لخسران مبين، وسفه جهول، أن يرى المؤمن هذا الذي يلقاه المكذبون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 بالله، من بلاء ونكال ثم يسلك طريقهم، ويتبع سبيلهم.. إنه بهذا يردّ إلى الوراء، على وضع مقلوب: «وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا» .. وليس ثمة عذر يقوم لهذه العودة إلى القهقرى، «بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ» وأرانا الهدى مشرقا وضيئا، وأقامنا على الصراط المستقيم.. أفبعد هذا ينتظم المؤمنين ركب مع هؤلاء الضالين، الذين لم يعرفوا غير الظلام لونا، ولا غير الضلال طريقا؟ أنردّ على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، ونكون كالذى استهوته الشياطين فى الأرض حيران، وله أصحاب يدعونه إلى الهدى، ويمدّون إليه أيديهم بحبل النجاة، فلا يستجيب لهم، ولا تعلق يده بحبالهم؟. وفى قوله تعالى: «لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا» إشارة إلى أن المؤمنين هم دعاة هدى مع النبىّ، يحملون إلى الناس هذا الخير الذي بين أيديهم، ويطعمونهم مما طعموا منه.. إن ذلك أشبه بالزكاة المفروضة على المسلمين للفقراء والمساكين.. وهؤلاء المشركون هم فقراء ومساكين، يستحقون العطف والإحسان.. ولكن كثيرا منهم يموت على ضلاله وكفره، دون أن يمد يده إلى تلك اليد التي تقدم له مركب النجاة! وقوله سبحانه: «قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى» يحتمل وجهين: الوجه الأول: هو أنه وصف للقرآن الكريم، ولما حمل من شريعة، وأنه هو هدى الله، وكل ما سواه باطل وضلال.. وهذا الوصف الذي وصف به القرآن هو وصف لكل كتاب سماوىّ، ولكل شريعة سماوية.. والوجه الآخر هو أن الهدى الذي يؤثّر أثره فى النفوس، فيستجيب المدعوون إليه- هو ما وقع فى نفوس أراد الله لها الخير، ويسر لها السبيل إليه.. أما من لم يرد الله أن يهديه فلا هادى له أبدا.. وفى هذا يقول الله تعالى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 «فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ» (125: الأنعام) ويقول سبحانه: «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً» (17: الكهف) ويقول سبحانه: «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» (56: القصص) وقوله تعالى: «وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» معطوف على مقول القول: «قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» . ووجه آخر.. وهو أن يكون المراد بالواو فى قوله تعالى: «وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» واو الحال، والجملة بعدها حال.. وهذا الوجه يؤيد ما ذهبنا إليه فى فهمنا لقوله تعالى: «قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ» على الوجه الآخر، بمعنى أن من أراد الله له الهدى اهتدى.. ومع هذا فإن الله قد كلفنا أن نهتدى بهداه الذي ندعى إليه، وأنّ كون الأمر كله لله لا يرفع عنا هذا التكليف، ولا يعفينا من مسئولية الجمود على ما كنّا فيه من ضلال، فهذا الإيمان الذي دخل قلوبنا هو من هدى الله لنا، ومع هذا فهو من كسبنا. إذا استجبنا لأمر الله، واستقمنا على ما دعانا إليه. وقوله تعالى: «وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ» معطوف على جملة «لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» .. أي أمرنا بأن نسلم لرب العالمين، ونستجيب لدعوته، وأن نقيم الصلاة، وأن نتقيه، ونتجنب محارمه، ونلتزم حدوده.. وفى عطف الأمر فى قوله تعالى: «وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ» على الخبر فى قوله تعالى: «وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» إشارة إلى أن الخبر يتضمن الأمر والإلزام، وأن قوله تعالى: «وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ» معناه: أسلموا لله رب العالمين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 والحكمة فى المخالفة بين المطلبين، مطلب الإسلام لله والإيمان به، ومطلب إقامة الصلاة وتقوى الله، إذ جاء المطلب الأول بصيغة المتكلم، على حين جاء المطلب الثاني فى صيغة المخاطب- هى أن الإيمان بالله مطلوب من الإنسان أولا أن يبحث عنه بنفسه، وأن يهتدى إليه بعقله، فإذا هو أصبح فى المؤمنين، كان مهيأ لأن يتلقى شريعة هذا الدين الذي آمن به، وأن يتعرف على ما ينبغى أن يؤديه لله الذي عرفه، وأسلم له.. من عبادات، وطاعات.. فكانت الصلاة بعينها، هى المطلوب الأول من المؤمن أن يؤديه لله، ويتصل به عن طريقه.. ثم كانت «التقوى» على إطلاقها، هى المطلوب الذي يجمع جميع الطاعات والعبادات، ومنها الصلاة، التي أفردت بالذكر، لعظم شأنها فى تحقيق التقوى. وقوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» هو تذكير بالله، وبالموقف الذي يقفه الناس بين يديه يوم القيامة. وقوله سبحانه: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ» عرض لقدرة الله وجلال عظمته، وأنه قادر على أن يبعث الناس بعد موتهم، ويحشرهم إليه، ويوفّيهم حسابهم عنده.. وفى قوله تعالى: «بِالْحَقِّ» إشارة إلى أن هذا الخلق الذي خلقه الله من سماوات وأرض، وما فى السموات والأرض، وما هو غير السموات والأرض- كله خلق بالحق، أي متلبسا بالحق.. كل ذرة فيه عن تقدير وعلم، وحكمة، وليس عن مصادفة عابثة أو هوى لاه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ» (38- 39: الدخان) وقوله سبحانه «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ..» (115- 116 المؤمنون) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 وقوله تعالى: «وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ» إشارة إلى أن هذا الخلق الذي خلقه الله سبحانه، كان عن أمره وتقديره، وأن لا شىء يعجزه، وأن تقدير المخلوقات، ومجيئها على صفاتها وأحوالها وأزمانها، كل ذلك كان بالحق، وبالحساب، وبالتقدير. وقوله سبحانه: «قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ» تقرير لهذه الحقيقة، وأنه سبحانه حين ينفخ فى الصور لم يكن هذا النفخ إلا عن أمره، وقوله الحق لنافخ الصور: «أن انفخ فيه» وليس عن مصادفة عمياء. وقوله تعالى: «عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ» عرض آخر لسعة علم الله، وسلطان قدرته، فهو «الحكيم» الذي لا يصدر عنه إلا ما كان متلبسا بالحكمة، قائما على الحق، «الْخَبِيرُ» الذي تقوم حكمته على علم شامل بما هو حق وخير. الآيات: (74- 79) [سورة الأنعام (6) : الآيات 74 الى 79] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 التفسير: فى هذه الآيات أمور: أولا: صلتها بالآيات التي قبلها. فهنا قضية، يعرض فيها موقف الإنسان من الإيمان بالله، وأن النّاس ليسوا سواء فى الانتفاع بما أودع الخالق فيهم من قوى العقل والإدراك، للتهدّى إلى الخالق والبحث عنه، والإيمان به.. وهناك فى الآيات السابقة مواقف للمشركين من الدعوة الإسلامية، وتأبّيهم عليها، وإعراضهم عنها، بعد أن جاءتهم بآياتها المشرقة، وأقامت بين أيديهم شواهد ناطقة تشهد بوجود الله، وتوقظ قلوبهم النائمة، وتنبه عقولهم الغافلة، إلى النظر إليه فى ضوء تلك الآيات البينات.. فما أبعد الشّقة بين الموقفين، وما أشد التباين بين الحالين! وهنا إبراهيم، الذي هو الأب الأكبر لهؤلاء المشركين من قريش، والذين يدّعون- كذبا- أنهم على دينه، يطوفون بالبيت الذي طاف به، ويعبدون الإله عبده أبوهم الأول، إبراهيم عليه السلام. وهناك هؤلاء المشركون من أبناء إبراهيم، وتلك أصنامهم التي شوّهوا بها معالم البيت العتيق، وأفسدوا بها الدّين الحنيف، الذي عبد الله عليه فى هذا البيت، الذي لا يزال قائما يشهد هذا السفه الذي هم فيه. وهنا داع يدعو إلى الله، هو إبراهيم عليه السلام، ويقف من الأصنام وعبّادها هذا الموقف الذي تتهاوى فيه الأصنام، حين يفضحها بمنطقه، قولا، وعملا. وهناك داع يدعو إلى الله، بدعوة إبراهيم، هو محمد، صلوات الله وسلامه عليه، ويقف من تلك الأصنام وقفة إبراهيم، فيفضحها ويكشف ضعفها وعجزها، ثم يدعها لتدفن فى غياهب الضّياع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 ثانيا: «آزر» .. ومن يكون هذا الإنسان؟. القرآن الكريم يقول: «وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ» . ولكن المفسّرين يذهبون فى هذا الأب مذاهب شتّى. فمن قائل: إن اسمه «تارح» ومن قائل: إن آزر اسم جدّه، أو عمّه، والعمّ والجدّ يسميان أبا مجازا!! وذهب بعضهم أن «آزر» اسم صنم، وهذا القول ينسب إلى ابن عباس، وقد فسّره الزمخشري: أتعبد آزر! منكرا عليه ذلك! (أي أن إبراهيم ينكر على أبيه أن يعبد هذا الصنم آزر) . وذهب آخرون إلى أنه وصف فى لغة قومه، ومعناه المخطئ، وقيل بل معناه: الأعوج. وقيل معنى «آزر» الشيخ الهرم. ويقول الزجاج: ليس بين النسّابين اختلاف أن اسم أبى إبراهيم «تارح» ! والذي دعا المفسرين إلى تلك المقولات، هو ما جاء فى التوراة من نسبة إبراهيم إلى أبيه الذي تسميه التوراة «تارحا» وقد اعتمد المفسرون هذه النسبة وأخذوا بها، وتأولوا لها ما جاء فى القرآن.. ولم تحدثهم أنفسهم بأن يتأولوا هذه النسبة التي جاءت فى التوراة كما تأولوها فى القرآن.. ولم تحدثهم أنفسهم بأن فى التوراة تحريفا وتبديلا تناول كل شىء، حتى العقيدة..! والذي ينبغى أن يكون عليه الأمر فى هذا الموقف، هو الوقوف عند ما جاء به القرآن الكريم، الذي يقول الله سبحانه وتعالى فيه: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ» (48 المائدة) فالقرآن هو الذي يهيمن على ما سبقه من كتب، ولا تهيمن عليه، ويقضى عليها، ولا تقضى عليه.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 وقد جاء القرآن الكريم فى الحديث عن إبراهيم منسوبا إلى أبيه، باسم هذا الأب، وهو «آزر» : هكذا: «وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ» . فكيف يجوز لقائل أن يقول فى هذه النسبة، وفى مسمى هذا الاسم قولا؟ إنه أبو إبراهيم بلا شك، وإنّ اسمه «آزر» بلا ريب.. هكذا قال القرآن، وهكذا يجب أن نقول. وليس هذا فحسب، فإن القرآن قد ذكر مواقف بين إبراهيم وأبيه هذا، فقال تعالى: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً» (41- 42 مريم) . وقال سبحان على لسان إبراهيم: «وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ» وقال جلّ شأنه: «وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ» (114: التوبة) فالجدل والحوار كان دائما بين إبراهيم وأبيه، وفى مواجهته، وليس مع جده، أو مع صنم! وقد أثرنا هذه المسألة، لأنها تمس الصميم من القرآن الكريم، وتنبىء عن مدى صدقه، وأنه تنزيل من العالمين، كما يقول هو عن نفسه، أو أنه من عمل «محمد» ومن تلقياته التي أخذها من أهل الكتاب وغيرهم، كما يتخرص المتخرصون. وهنا اختبار عملى لهذه القضية، ومقطع من مقاطع القول فيها.. فإما أن يكون آرز هو الاسم المعروف به أبو إبراهيم، وفى ذلك حكم قاطع بأن القرآن هو كلام الله، يقول الحق، ويأتى بأنباء الغيب، وإما ألا يكون «آزر» على غير هذا الوصف، فيكون القرآن كما يقول فيه المكذبون به، والكائدون له.. وهذا أمر يمكن أن يحقّق تاريخيا.. ولا أحسب أن اليهود تركوا هذه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 المسألة دون أن يحققوها، ولا أن المتربصين بالقرآن غفلوا عن هذا الخلاف الذي بينه وبين التوراة.. ولو أنهم وجدوا فى هذا مطعنا على القرآن لكان ذلك من أقوى حججهم عليه. وطعناتهم له، الأمر الذي لم يقله اليهود، الذين لم يتركوا قولا يقولونه فيه. ويفترونه عليه، ولم يقله أحد من غير اليهود، الذين رصدوا للقرآن، وجعلوا يتصيدون كل سانحة من وهم أو خيال تسنح لهم فيه.. ثالثا: الطريق سلكه إبراهيم فى التعرف على الله.. وهو الطريق الاستدلالي بالنظر فى ملكوت السموات والأرض.. وهو نفس الطريق الذي جاءت الرسالة لإسلامية به، فى دعوتها إلى التعرف على الله والإيمان به.. وقد سلك القرآن المنهج نفسه، الذي تعرف به إبراهيم على الله، فى دعوة المشركين إلى التعرف عليه.. فكان أول ما لفت القرآن نظر المشركين إليه، هو النظر إلى آلهتهم تلك التي يعبدونها، من أصنام وأوثان، وأن يعيدوا النظر إليها مرة بعد مرة، ليروا إن كانت تدفع عن نفسها ضرا، أو إن كانت تسمع أو تعقل ما يناجيها به العابدون لها، أو تستجيب لما يرجى منها من دفع ضر أو جلب خير..! وفى هذا يقول الله تعالى على لسان نبيه الكريم مخاطبا المشركين: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ» (73: النحل) ويقول سبحانه: «وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» (22: العنكبوت) ويقول سبحانه على لسان المشركين: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» (3: الزمر) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 وهكذا يلقاهم القرآن فى كل سبيل مع هذه الآلهة، حتى ينفضح أمرها لهم، وتزول مشاعر الهيبة والتوقير لها فى نفوسهم.. وهذا ما فعله إبراهيم إذ يقول لأبيه: «أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً؟ إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» وإذ يقول: «يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ» . فإذا وهت هذه المشاعر، وتقطعت تلك الأسباب التي بين المشركين وبين آلهتهم تلك- جاء القرآن إلى هؤلاء المشركين ليجيب على هذا السؤال الذي فرضه هذا الفراغ الذي أصبحت فيه قلوبهم، بعد أن تبخرت منها سحب الأصنام التي كانت مخيمة عليها.. وكان السّؤال المفروض هو: وأين الإله الذي نعبده إذن، إذا كانت أصنامنا هذه ليست آلهة أو شبه آلهة؟ .. ويجىء الجواب من القرآن الكريم بأن الله قريب منهم، وما عليهم لكى- يروه- إلا أن ينظروا فى هذا الوجود، وفيما فيه من مبدعات تدلّ على قدرة الخالق، وتحدّث عن سعة علمه، وبسطة سلطانه، وروعة حكمته. والقرآن المكىّ يكاد يكون كلّه معرضا لآيات الله، ودعوة مثيرة للعقول، مغرية لها بالنظر فى ملكوت السموات والأرض.. ولا نستشهد لهذا حيث آيات القرآن أكثر من أن تحصى فى هذا الأمر.. وفى سورة الأنعام هذه التي نحن بين يديها، عشرات الآيات. وقد كانت نظرة إبراهيم إلى الله قائمة على هذا الوجه الاستدلالىّ، للتعرف على ربّه، والإيمان به. «وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» أي نفتح نظره، وعقله، وقلبه، على هذا الوجود، ليتعرف إلى الله.. والملكوت، هو الملك الخاضع لسلطان الله. وقد وجّه إبراهيم نظره، وعقله وقلبه، إلى ملكوت السموات والأرض.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 فماذا رأى؟ «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً» أي كوكبا من تلك الكواكب السيارة، كالزهرة مثلا.. وقد رصد إبراهيم هذا الكوكب منذ أطلّ على هذا العالم من الأفق الشرقي، وتبعه فى مسيره، وكان كلما علا فى السماء وازداد ألقا وإشراقا، ازداد إبراهيم به تعلقا وشغفا، إذ حسبه أنه الكائن الأعلى، القائم على هذا الوجود.. فلمّا هوى إلى الأفق الغربي خفق قلب إبراهيم خفقة الخوف على هذا الذي تصوّره إلها، أن يهوى وراء هذا الأفق، فلمّا هوى أخلى إبراهيم بصره، وعقله، وقلبه منه، ونفض يديه من هذا الإله، كما ينفض الحىّ يديه من ميت عزيز، أودعه القبر، وهال عليه التراب.. وقال: «لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ» ..! «فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي» .. وتبعه فى مسيرته من الأفق إلى الأفق.. حتى إذا هوى إلى المغيب، ودفن وراء الأفق الغربي، كاد يؤرقه اليأس من أن يعثر على الإله المنشود، وقال: «لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ» . والسؤال هنا: كيف يطلب إبراهيم الهداية من ربّه، وهو يبحث عنه؟ والجواب: أن إبراهيم كان على يقين بأن لهذا الوجود ربّا، وأن لتلك المصنوعات صانعا، قادرا، مدبّرا.. ولكن من هو؟ وأين هو؟ وكيف هو؟ هذا ما يبحث عنه إبراهيم.. وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: «وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ» فهو يؤمن بحدسه ومشاعره أن لهذا الوجود إلها، وهو فى بحثه هنا إنما ليعرف هذا الإله، ويستيقنه.. وذلك قبل أن يختاره الله لرسالته.. وسؤال آخر: لماذا كان أوّل ما نظر إليه إبراهيم من ملكوت الله، هو الكوكب، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 أي النجم، ثم القمر، ثم الشمس؟ ولم لم يتجه نظره أولا إلى الشمس إذ كانت أعظم ما يواجه الإنسان من هذه المخلوقات؟ والجواب.. أن وحشة الليل، ورهبة ظلامه، تجعل لأى لمعة من لمعات الأنوار، وقعا على النفس، وتأثيرا على المشاعر، وليست كذلك النظرة إلى الشمس التي تكاد سطوة أضوائها، تذهب بكل إحساس بوجودها! وهذا ما نراه فى نظر إبراهيم إلى هذا الكوكب أولا، ثم إلى القمر ثانيا.. ذلك أن هذا الكوكب، وهو نجم من تلك النجوم التي يتلألأ ضوؤها كلّما اشتدّ ظلام الليل، وأطبقت حلكته، هو فى تلك الحال أفعل فى النفس، وأكثر إلفاتا للنظر من القمر، الذي يغمر نوره ما احتواه الليل كله.. وإذ لم ير إبراهيم فى ملكوت الليل وما يبزغ فيه من نجم أو قمر- إذ لم ير فى هذا الملكوت إلهه الذي ينشده، شخص ببصره إلى ملكوت النهار، فرأى الشمس تبسط سلطانها عليه، فعلق بها نظره، واحتواها عقله وقلبه، وقال: «هذا ربى.. هذا أكبر!!» .. ولكن الرّب الكبير لم يكن إلّا خدعة خدع لها إبراهيم، حتى إذا أفلت ودّعها غير آسف، وأشرق قلبه بنور الإله الحق، الإله الذي يسيّر هذه الكائنات ويصرّفها كيف شاءت إرادته، واقتضت حكمته.. «فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ.. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» . وهكذا عرف إبراهيم ربّه، وهكذا يعرف كل ذى عقل ربّه، إذا هو نظر، وفكّر، وعقل..! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 الآيات: (80- 82) [سورة الأنعام (6) : الآيات 80 الى 82] وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) التفسير: وإذ يعرف إبراهيم ربّه، ويملأ قلبه من الإيمان به، يقف من قومه مسفّها أحلامهم، زاريا عليهم عبادتهم لهذه الأحجار التي ينحتونها بأيديهم، ثم يعبدونها، ويذلّون بين يديها.. «أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟» (95: الصافات) . «وَحاجَّهُ قَوْمُهُ» أي جادلوه فيما يقول فى شأن آلهتهم، وفى الإله الذي يدعوهم إليه.. هو يريدهم على أن يدعوا هذه الأصنام، ويعبدوا ربّ السموات والأرض، وهم يريدونه على أن يعبد آلهتهم، ويدع الإله الذي يعبده، ويحذّرونه أن يتخذ غير هذه المعبودات معبودا، وإلّا مسّه منها ضرّ، وأصابه سوء.. فكان جوابه: «أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ؟» . إنه قد عرف الحق واستيقنه، فكيف تقوم لهم حجة عنده، تصرفه عن هذا الإله، الذي شهد آياته، وعرف ما عرف، من علمه، وقدرته وحكمته..؟ ثم كيف يخاف هذه الأحجار الصّماء أن تصيبه بسوء.. إنها لا تملك شيئا، وإن شرّا لن يصيبه منها، إلّا أن يكون ما يصيبه هو مما أراد الله له، وما أراد الله له فكلّه خير.. وكيف يخاف إبراهيم أحجارا صمّاء، على حين أنهم لا يخافون إلها خالقا رازقا، له ملك السماوات والأرض؟ «وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً؟ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 ويجىء قول الحق جلّ وعلا بالحكم الفصل فى هذه القضية.. «الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ» . ولبس الإيمان بالظلم، هو خلطه به.. والظلم هو الشرك بالله، كما يقول سبحانه: «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» : فالإيمان المصفّى من الشرك، هو الإيمان الذي يقبله الله من أهله، ويجزيهم عليه الجزاء الأوفى، ويجعلهم فى أمن وسلام، يوم يكون الكافرون فى فزع وكرب وبلاء.. الآيات: (83- 87) [سورة الأنعام (6) : الآيات 83 الى 87] وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) التفسير: قوله تعالى «وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ» .. الإشارة هنا إلى الحجة، أي هذه حجتنا، والمراد بالحجة ماملأ الله به قلب إبراهيم من إيمان، بما أراه- سبحانه- فى ملكوت السموات والأرض، من دلائل القدرة الإلهية، وسلطانها القوىّ الممسك بكل ذرة فى هذا الوجود.. وبهذا الإيمان وقف إبراهيم وحده، فى وجه هذا الكفر الذي طوى تحت جناحيه مجتمعه كلّه الذي يعيش فيه.. ومع هذا فإنه بالحق الذي يملأ كيانه، قد أخرس كل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 ناطق، وأفحم كل منطيق، وسقطت بين يدى حجته الدامغة كل مقولة لملحد، وكل حجة لمشرك، وبهذا استحق إبراهيم أن يلقى من ربّه هذا التكريم، وأن ينعته هذا النعت العظيم بقوله سبحانه: «إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (120: النحل) . فهو أمة وحده، ومجتمعه أشبه بفرد واحد إزاء هذه الأمة العظيمة، أو هو الأمة، وقومه لا شىء، إذ كان هو الإنسان الوحيد فيها، الذي يحمل عقل الإنسان وينتفع به. وقوله تعالى: «نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» هو تنبيه إلى أن هذا الذي كان عليه إبراهيم من قوة الإيمان، ووثاقة اليقين، هو من فضل الله، يضعه حيث يشاء. وفى قوله سبحانه: «إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» التفات من رب كريم إلى النبىّ الكريم، وقد نازعته نفسه، وهفت به أشواقه إلى فضل الله وإحسانه، الذي رأى آثاره فى إبراهيم عليه السلام.. فجاء قوله سبحانه: «إِنَّ رَبَّكَ» ليشعر النبي أنه فى ضيافة ربه، وكفى ما يلقاه الضيف الذي ينزل فى ضيافة ربّ العالمين.. «الحكيم» فى تقدير الأمور «العليم» بعباده، وبمن هم أهل لمزيد فضله، وعظيم إحسانه. ومن فضل الله على إبراهيم- عليه السلام- أن بارك عليه فى ذريته، وجعل من نسله الأنبياء والمرسلين.. «وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا، وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» .. فهذا هو جزاء المحسنين، وتلك هى عاقبة الإحسان، تمتد آثاره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 إلى صاحبه، وإلى من يتصل بصاحبه، من أهل وولد.. كالشجرة الطيبة تؤتى أكلها كل حين بإذن ربّها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان العبد الصالح لموسى، عليهما السلام: «وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» (82: الكهف) . وفى الجمع بين نوح وإبراهيم إشارة إلى أنهما الأبوان لهؤلاء الأنبياء، كما يقول سبحانه: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ» (26: الحديد) . وقوله تعالى: «وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ» .. معطوف على قوله تعالى: «وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ» أي أن هؤلاء المصطفين من عباد الله، هم من ذريّة هذين النبيين الكريمين: نوح وإبراهيم، إذ كان من هؤلاء الأنبياء من ليس من ذرية إبراهيم كلوط مثلا. وقوله تعالى: «وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ» أي كلّ واحد من هؤلاء فضّل على عالمه الذي كان يعيش فيه، إذ كان رسول الله المبعوث لهداية عالمه هذا، وهو بهذه الصفة صفوة هذا العالم، والإنسان المتخيّر لرسالة السماء. وقوله تعالى: «وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ» إشارة إلى أن هؤلاء الذين اختصهم الله بهذا الذكر، ليسواهم وحدهم الذين شملهم فضل الله، ومسّتهم رحمته، بل إن من آباء هؤلاء وأبنائهم وإخوانهم من شمله هذا الفضل، ومسّته تلك الرحمة.. سواء من كان منهم نبيّا أو رسولا، أو عبدا من عباد الله الصالحين.. وحسب ذريّة هؤلاء الذين لم يذكروا هنا- حسبهم شرفا وذكرا أن يكون منهم خاتم النبيين، محمد صلوات الله وسلامه عليه.. فهو من ذرية إسماعيل، ومن حفدة إبراهيم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 وقوله سبحانه وتعالى: «وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» هو معطوف على محذوف، يفهم من سياق النظم فى قوله تعالى: «وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ» والتقدير: ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم من ألحقناهم بهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم. وأمر هنا نحب أن نقف عنده ونلتفت إليه: وهو أن الترتيب الزمنى لم يكن هو الأساس الذي قام عليه النظم القرآنى فى ذكر هؤلاء الأنبياء، من ذرية نوح وإبراهيم. والملحظ الذي نود أن نشير إليه، هو أن إسماعيل لم يذكر مع إسحق، مع أنهما ولدا إبراهيم، لم يكن له ولد غيرهما، ومنهما كانت جميع ذريته، وإسماعيل هو البكر، وولد له بعده إسحق. هذه حقيقة لا خلاف عليها عند أهل الكتاب، من يهود ونصارى، كما أنها حقيقة مقررة فى القرآن الكريم.. فلم لم يجىء النظم القرآنى هكذا: «ووهبنا له إسماعيل وإسحاق ويعقوب..» ؟ ولا جواب لهذا إلّا أنه كلام رب العالمين، وأنه لو كان من عمل بشر لما جاء هكذا فى النظم القرآنى، بل لالتزم فيه واضعه الترتيب الزمنيّ.. أما «محمد» فلو أن هذا الكلام كان من وضعه، لكان أول ما يعمله هو أن يبدأ بإسماعيل، لأنه أبوه.. أولا، ولأنه أسبق ميلادا من إسحق.. ثانيا! أليس فى هذا عبرة لمعتبر؟ أليس فى هذا إخراس لكل مقولة تقال فى القرآن الكريم، إنه من قول بشر؟ وبلى، ذلك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده..! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 الآيات: (88- 90) [سورة الأنعام (6) : الآيات 88 الى 90] ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90) التفسير: قوله تعالى: «ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» الإشارة هنا إلى هذا الفضل الذي فضل الله به تعالى على إبراهيم، ومن اجتباهم الله من ذريته، وأن ذلك لم يكن إلا من هداية الله لهم، وشرح صدورهم للإيمان به، ولولا ذلك لما كانوا من المهتدين. وقوله سبحانه: «وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» إنكار للشرك، ووعيد للمشركين، وأنه مما يجب على الإنسان العاقل أن يحذره كما يحذر النار التي تمد ألسنتها لتعلق به، وأن هؤلاء المكرمين من عباد الله لم ينالوا هذه المنزلة إلا بالإيمان بالله، ولو أنهم كانوا من المشركين لما نالوا شيئا من هذا، ولكانوا من الخاسرين. وهذا يعنى أن الهدى وإن كان من الله الذي يهدى به من يشاء من عباده، فإن ذلك لا يعفى الإنسان من أن يطلب الهدى، ويلتمس مواقعه، كما يطلب تحصيل الرزق ويلتمس وجوهه، وألّا يسلم نفسه إلى التواكل والاستنامة، الأمر الذي لا ترضاه البهائم لنفسها، ولا تتخذه موقفا لها فى الحياة، وإلا هلكت، وماتت جوعا، مع أن الله سبحانه وتعالى، كفل لها رزقها، وضمن لها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 معاشها، إذ يقول جل شأنه: «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها» (6: هود) فالموقف السلبي أو العنادىّ من سنن الله، هو الذي يخرج الكائن الحىّ- بل وغير الحىّ- عن طبيعته، وفى هذا ضياعه، وفساد أمره. وهؤلاء رسل الله، والمصطفون من عباده.. إنهم لو أهملوا عقولهم، وعطّلوا ملكاتهم، لما فتح الله لهم طريق الهداية، ولما يسّر لهم التعرف إليه، ولكنهم أخذوا بالوسائل الموصلة إلى الهدى، فأخذ الله بنواصيهم إليه، ومكّن لهم من الإيمان.. ولو أنهم كانوا على مثل هذا الموقف الذي وقفه ويقفه المشركون والكافرون، لكانوا فى مربط الشرك والكفر، ولضلوا وضل عنهم الطريق إلى الله، وإلى صراطه المستقيم. وفى قوله تعالى: «وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» ، وفى تعدية الفعل «حبط» بحرف الجرّ «عن» وهو فعل لازم لا يتعدى- فى هذا إشارة إلى أن الأعمال التي يعملها الإنسان من شأنها أن تكون درعا يحميه، ووقاية يتقى بها ضربات الحياة، أمّا أعمال المشركين فإنها سراب خادع، يتخلّى عنهم وقت الحاجة والشدة، وهذا هو السرّ فى تضمين الفعل «حبط» معنى الفعل: تخلى، أو ذهب، أو غاب.. ونحو هذا. وقوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ» .. الإشارة هنا إلى هؤلاء الأنبياء والرسل الذين ذكروا فى الآيات السابقة، فبعضهم آتاه الله الكتاب، فكان رسولا بهذا الكتاب الذي بعثه الله به، وبيّن فيه أحكام شريعته.. وبعضهم أوتى الملك والحكم، وهو نعمة من نعم الله، وسلطان مبين يقيم به- من وفّقه الله- ميزان العدل والحق بين الناس، فيهدى ضالّهم ويقوّم سفيههم، ويحفظ أمنهم وسلامتهم.. وتلك رسالة لها خطرها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 وأثرها فى إصلاح المجتمع الإنسانى، الأمر الذي جاءت به وله رسالات السماء.. ولهذا كان ذلك مما وصّى به الله سبحانه وتعالى نبيّه داود عليه السلام فى قوله: «يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.. إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ» (26: ص) .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى اصطفائه طالوت ملكا، إذ يقول سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ» (247: البقرة) . وبعض هؤلاء المصطفين آتاه الله النبوة، بلا كتاب، ولا ملك، وإنما هى نور سماوى تشرق به نفس النبىّ، فيكون فى الناس منارة هدى، ومعلما من معالم الخير، يتمثله الناس، ويتأسّون به. وفى ترتيب هذه النعم على هذا الوجه: الكتاب.. والحكم.. والنبوة، إشارة إلى ما بينها من تفاوت وتفاضل.. فالرسول، صاحب رسالة سماوية، يعالج بها أرواح الناس، ويطبّ لعلهم النفسية.. والملك صاحب رسالة دنيوية، يعالج بها شئون الناس فى الحياة، ويقيمهم على صراط مستقيم، فهو بهذا الوصف- مكمل لرسالة الرسول، ومطبّق للقانون السماوي الذي جاء به الرسول.. والنبىّ- بلا رسالة، ولا حكم- هو «صيدلية» يأخذ منها من يشاء الدواء لروحه وجسده، معا، بالعبرة والعظة، فيما يرى من هذا المثل الكريم للإنسان الكريم.. وقوله تعالى: «فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ» .. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 الإشارة هنا بهؤلاء مراد بها مشركو قريش.. والضمير فى «بها» يعود إلى تلك الآيات والنعم التي حملها أنبياء الله، والتي حمل مثلها محمد صلوات الله وسلامه عليه إلى هؤلاء المشركين.. والمعنى، فإن يكفر هؤلاء المشركون بمحمد وبما بين يديه من آيات الله، فقد وكّل الله بها قوما، يؤمنون بها، ويدافعون عنها، ويحرسونها من كل عدوان.. فهم وكلاء الله وأمناؤه عليها- وهؤلاء هم الطليعة الأولى من المؤمنين، من المهاجرين والأنصار، ثم هم كل من يدخل فى الإسلام إلى يوم القيامة. وقوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ» والذين هدى الله: هم الذين سبقوا إلى الإسلام، وكانوا درعا حصينة له.. والأمر فى قوله تعالى: «فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ» متوجه إلى كل من لم يستجب لدعوة الإسلام، ولم يكن فى هذا الركب الميمون الذي استقبل فجر الإسلام، واكتحل بنور الله.. وهم الذين أشار إليهم الله سبحانه بقوله «فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ» ، فمطلوب من كل إنسان يريد الخير، أن يهتدى بهؤلاء الذين هداهم الله. وهذا الفهم الذي فهمنا عليه الآية الكريمة، هو الذي وقع فى إدراكنا الشخصي، وهو فهم لم نجد من المفسرين من التفت إليه! والذي عليه إجماع المفسّرين، هو أن الأمر فى قوله تعالى: «فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ» موجّه إلى النبي الكريم، وأن الذين هداهم الله فى قوله تعالى. «أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ» هم من ذكرهم الله من الأنبياء والرسل فى الآيات السابقة. ولهذا كان خروج هؤلاء المفسّرين من الاعتراض الذي استقبلهم به من يقول: كيف يدعى النبىّ إلى الاقتداء بمن سبقه من أنبياء ورسل، وهو إمامهم وقدوتهم؟ - كان خروجهم من هذا ضيّقا حرجا، ومقولاتهم فيه متهافتة مضطربة.. وقوله تعالى: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً» هو التفات للنبى الكريم من الله سبحانه وتعالى، ودعوة له أن يلقى قومه الذين دعوا إلى الاقتداء بمن سبقهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 من إخوانهم إلى الإسلام، وأن يحثّهم على أن يسرعوا ليلحقوا بهم، وليدخلوا فى دين الله مع الداخلين فيه، وذلك أمر لا يتكلّفون له مالا، لأن ما مع النبىّ من كتاب، لا يباع، وإنما هو ذكرى وموعظة للعالمين، أي للناس جميعا.. قريبهم وبعيدهم، على السواء «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ» . الآيتان: (91- 92) [سورة الأنعام (6) : الآيات 91 الى 92] وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92) التفسير: وهنا لا نلتقى مع المفسرين أيضا فيما ذهبوا إليه من أن قوله تعالى: «وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» هو موجه إلى اليهود.. ويحكون لذلك قصة، مضمونها: أن النبىّ صلى الله عليه وسلم، سأل حبرا من أحبار اليهود، يقال له مالك بن الصّيف، فقال: «أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين؟ فأنت الحبر السمين! قد سمنت مما يطعمك اليهود!» فغضب اليهودي، وقال: «ما أنزل الله على بشر من شىء» ! فكان قوله تعالى: «وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» ردّا على هذا القول المنكر.. ونستبعد هذا الخبر من وجوه: أولا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن قد التقى باليهود لقاء مواجها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 وقت نزول هذه السورة، المجمع على أنها مكية.. ويقوّى من هذا الإجماع على مكيتها، أن اليهود لم يواجهوا فيها مواجهة صريحة متحدّية. وثانيا: أن النبىّ أعفّ وأكرم من أن يجابه حبرا، هذه المجابهة، التي لا تكشف عن غرض إلا سبّ هذا الحبر، وحقره، وما كان النبىّ سبّابا ولا لعّانا، ولا فاحشا، ولا متفحشا، بل كان فى جميع أحواله على هذا الوصف الكريم الذي وصفه الله به: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» . ثالثا: جاء فى الآية: «وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ» .. واليهود الذين عاصروا النبىّ لم يعلّموا ما لم يعلموا هم ولا آباؤهم.. بل كانوا أسوأ حالا، وأكثر غباء وجهلا مما كان عليه آباؤهم، حين واجههم القرآن. ورابعا: غير مستساغ عقلا أن يقول اليهود مثل هذا القول، وأن يقوله حبر منهم، وبين أيديهم التوراة التي لا يختلفون أنها نزلت على موسى، بل وبين أيديهم أسفار أنبياء كثيرين ضمتها التوراة، والتي أطلق عليها «العهد القديم» .. ثم كيف يقول الحبر هذا القول والرسول الكريم يسأله بحق الذي أنزل التوراة على موسى؟ والذي نطمئن إليه فى فهم هذه الآية، أن المخاطبين بها هم هؤلاء المشركون من أهل مكة. وأن الله سبحانه وتعالى ينكر عليهم قولهم: «ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ» إذا كان ذلك من مقولاتهم التي يعذرون بها لأنفسهم فى انصرافهم عن النبىّ وتكذيبهم له، كما يقول الله تعالى عنهم: «أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ؟ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ» (24: القمر) وقوله سبحانه: «وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا؟» (94: الإسراء) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 فهؤلاء المشركون الذين ينكرون أن ينزّل الله على بشر هديا من السماء يهديهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم- هؤلاء لم يقدروا الله حق قدره، ولم ينظروا إلى آثار رحمته، فيما يسوق الله سبحانه إلى عباده من نعم وما يحفّهم به من ألطاف، ينعمون فيها، ويتمتعون بها، فكيف ينكرون على الله أن يسوق إلى عقولهم وقلوبهم، من رحماته، ما يضىء ظلامها ويغسل أدرانها..؟ وفى قوله تعالى: «قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ» تحريض للمشركين أن يكونوا أهل كتاب، مثل هؤلاء اليهود الذين كانوا يحسدونهم على أنهم أهل كتاب، وأصحاب شريعة، وأنهم كانوا يتمنّون قبل بعثة النبىّ أن يكون لهم كتاب سماوى، كما يقول تعالى على لسانهم: «لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ» (157: الأنعام) أي لكنا أهدى من هؤلاء اليهود. وفى قوله تعالى: «تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً» هو إشارة من بعيد إلى اليهود، بهذا الالتفات إليهم فى هذه المناسبة، وإرهاص بما سيلقاهم به النبىّ بعد هذا من آيات الله، التي تفضح مخازيهم، وتكشف فساد عقيدتهم.. وقد قرئ: «يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا» . والقراطيس جمع قرطاس، وهو الورقة.. إذ كان اليهود لا يتعاملون ولا يعملون بالكتاب الذي بين أيديهم، ولا يعرضونه على الناس كما هو، بل يعرضون منه قراطيس، فيها ما يوافق أهواءهم، ويخفون الكثير مما لا يشتهون.. وقوله تعالى: «وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ» هو خطاب لهؤلاء المشركين من العرب، فقد جاءهم الرسول الكريم بعلم جديد، أذاعه فيهم، ونشره عليهم، فيما يتصل بالألوهية وما ينبغى لها من جلال وتفرد بالوجود.. وقد عرف المشركون هذا، وكانوا يسمعونه ويردّدونه، وإن كانوا لا يؤمنون به.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 فهم- مع هذا العلم- لا عذر لهم فى أن لم يؤمنوا بالله، بعد أن أراهم الرسول الكريم الطريق إليه، وهذا علم جديد قد جاء إلى العرب، ولم يكن لآبائهم شىء منه. وقوله تعالى: «قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ» هو دعوة للنبىّ أن يحدّث هؤلاء المشركين عن الله، وأن يكشف لهم الطريق إليه.. أي قل: «هذا هو الله الذي أدعوكم إليه، فإن آمنوا فقد اهتدوا، وإن تولوا فإنما هم فى ضلال، يخوضون فيه خوضا.. فذرهم فى خوضهم يلعبون. وقوله تعالى: «وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» هو ردّ على القائلين: «ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ» فجاء تكذيب الله لهم، وردّه عليهم بقوله: «وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ» أي القرآن وهو كتاب «مبارك» فيه رحمة وهدى وخير لمن آمن به، واهتدى بهديه.. وهو «مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» من كتب سبقته، وهما التوراة والإنجيل. وقوله تعالى: «لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها» أم القرى هى مكة، وهى منارة الإسلام، ومتوجه كل مسلم فى صلاته وحجّه.. وهى بهذه المثابة أمّ بلاد الإسلام كلها، ومركز دائرتها، وهكذا تكون على هذا الوصف أبدا. وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ» . الضمير فى به، يعود إلى هذا الكتاب المبارك الذي أنزله الله، وهو القرآن. وخصّ الذين يؤمنون بالآخرة، بالإيمان به، لأن من لا يؤمن بالآخرة، وما بعد هذه الدنيا من بعث وحساب، وثواب وعقاب، لا يؤمن بالله، ولا بكتاب الله، ولا يوقّر حرماته، ولا يقع فى قلبه خشية من منكر.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 وخصّت الصلاة والمحافظة عليها بالذكر، لأنها أبرز ملامح المؤمنين، وأوثقها صلة بين المؤمن وربه. الآيات: (93- 94) [سورة الأنعام (6) : الآيات 93 الى 94] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) التفسير: فى قوله تعالى: «وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ» اتهام للقائلين بهذه المقولة، فى تصورهم للألوهية، وفى فهمهم القاصر لها، كما أنه تقرير ضمنى بأن بعث الرسل، وإنزال كلمات الله عليهم، هو مما اقتضته حكمة الله ورحمته بعباده. وهنا فى قوله سبحانه: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ» حماية للرسل- عليهم الصلاة والسلام- من أن يكونوا مظنّة تهمة فى صدقهم، وصدق ما جاءوا به من عند الله.. إذ أن الافتراء على الله، والتلبيس على الناس باسمه، وادعاء النبوة واختلاق ما يكون بين يديها من كلمات الله وآياته- كل هذا عدوان على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 الله، وتطاول على ما تفرد به سبحانه من قدرة وعظمة، وفى هذا مهلكة وضياع لكل من يتلبّس بمنكر من هذه المنكرات.. وليس ثمة عاقل تسول له نفسه أن يقف هذا الموقف المفضوح، ويعرّض نفسه للفضيحة الفاضحة، والخزي المبين بين الناس! فكيف بأنبياء الله ورسله، وهم دعاة هدى، لا يبغون عليه من أحد أجرا- كيف يكون منهم الكذب على الله والتقوّل عليه بما لم يقل؟ وإذن فالذين يصطفيهم الله لحمل رسالته، ويضع بين أيديهم وعلى ألسنتهم كلماته وآياته- لا يختلط أمرهم على ذى عقل، ولا تلتبس دعوتهم بدعوة أدعياء النبوة، لما بين النبىّ والدعىّ من مفارقات بعيدة، سواء فى ذات النبىّ والدعىّ، أو فى محامل دعوة النبىّ ودعوة الدعىّ. ففى سلوك النبىّ، استقامة، وصدق، وعفّة، وكمال، فى كل أموره، ظاهرها وباطنها جميعا، مما لا يكون موضع شك أو إنكار عند أعدائه، فضلا عن أوليائه.. وليس كذلك الدعىّ الذي لا يمكن أن يقف هذا الموقف المخزى إلّا إذا كان على قدر كبير من الوقاحة، والتجرد من الحياء، وعدم المبالاة باتهام الناس له، وتشنيعهم عليه.. وفى محامل رسالة النبي.. النور والهدى، والخير، والعدل، والإحسان.. للناس جميعا.. لا لطائفة من الطوائف، ولا لطبقة من الطبقات.. أما ما تحمل رسالة المدعى- إن كان له رسالة- فهو الملق والرياء، والاستجابة للعواطف الخسيسة فى الناس، وإباحة المنكرات لهم، ودعوتهم إلى تلك المنكرات باسم هذا الدين الكاذب، الذي يباركها ويبارك أهلها.. وفى قوله تعالى: «وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ. تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ» عرض لهؤلاء الظالمين الذي افتروا على الله الكذب، وقالوا بما لم يقبله الله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 وفى هذا العرض يبدو المصير الذي يصير إليه كل ظالم، حين تنتهى أيامه القصيرة فى هذه الدنيا، بحلوها ومرها، وبلهوها وعبثها، وإذ هو على مشارف الحياة الآخرة، وملائكة الرحمن يمدّون أيديهم لانتزاع ثوب الحياة الذي يلبسه هذا الجسد، الذي كان يمشى فى الأرض مختالا فخورا، يحسب أن ماله أخلده.. وما هى إلا لحظات، يعالج فيها سكرات الموت، حتى يكون جثة هامدة، كأنه لقى ملقى على الطريق، بل إنه يصبح سوأة يجب أن تختفى وتتوارى عن الأنظار، وتغيّب فى باطن الأرض.. وليس هذا فحسب، بل إن ذلك هو بدء لمرحلة جديدة، لحياة أخرى غير الحياة التي كان فيها.. إنه سيبعث من جديد، ويلبس ثوب الحياة مرة أخرى، ولكن لا ليكون مطلق السّراح، يلهو ويعبث، بل ليلقى به فى جهنم، وليكون وقودا لجحيمها المتسعر! وفى قوله تعالى: «أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ» إشارة إلى هذا الأمر الملزم، الذي يحمله الملائكة، لقبض أرواح الظالمين، وأن الملائكة، وهم الموكلون بقبض هذه الأرواح، يحملون هؤلاء الظالمين حملا على انتزاعها بأنفسهم، وإعطائها لهم بأيديهم، وفى هذا تنكيل بهم، وإذلال وقهر لهم، بأن يحملوا حملا على انتزاع حياتهم بأيديهم.. هكذا «أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ» .. وهل يعطى الإنسان نفسه بيده؟ إنه لأهون عليه كثيرا أن ينتزعها أحد منه قهرا وقسرا، من أن يكون هو الذي يقدّم بيديه أعزّ شىء يملكه، بل كل شىء يملكه.. قوله تعالى: «وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» هكذا يجد الظالمون أنفسهم يوم القيامة.. فى وحشة قاتلة، لا يلتفت أحد إلى أحد، ولا يفكر إنسان فى إنسان. «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» ، عن أن يشغل بغيره، أو ينظر إليه نظرة. «وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ» فليس مع الإنسان فى هذا اليوم شىء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 مما جمع فى الحياة الدنيا، من مال، وما استكثر من متاع، وما اتخذ من أخدان وخلّان.. وفى قوله تعالى: «خَوَّلْناكُمْ» تذكير لهم بأن كل ما كان لهم فى هذه الدنيا هو مما لله عندهم، فهو الذي خوّلهم أي أعطاهم هذا الذي كان لهم، وهم يحسبون أن ذلك كان من صنع أيديهم، ومن معطيات حولهم وحيلتهم. وقوله تعالى: «وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ» هو تنبيه لهؤلاء الغافلين، وإلفات لهم أن يخرجوا من هذا الوجوم الذي هم فيه، ومن تلك السّكرة المستولية عليهم، حتى يديروا أنظارهم إلى ما حولهم، ليبحثوا عن معبوداتهم التي كانوا على ولاء لها، واطمئنان بها.. يفزعون إليها فى كل شدّة، ويهرعون إليها عند كلّ ملمّة. وهذه هى ملمة الملمات، وشدة الشدائد.. فأين هؤلاء الشفعاء؟ وأين ما كان يرجى منهم عند كل بلاء؟ .. فليدعوهم. فليجيئوا لهم.. إن كانوا صادقين! إنه لا شىء هنا، إلا الوحشة المطبقة، والحسرة القاتلة، والخسران المبين..! فهذه الأبصار الزائغة، التي تدور هنا وهناك تبحث عن هؤلاء الشفعاء، لا تلبث أن تغيم الرؤية عليها، فلا ترى شيئا مما حولها من شفعاء أو غير شفعاء.. وهنا يدخل على الظالمين من أسماعهم، صوت الحق، يجيئهم بجواب ما كانوا يبحثون عنه: «لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» . وفاعل الفعل «تقطع» محذوف دلّ عليه السياق.. ومن السرّ فى حذفه أنه أكثر من فاعل.. فالذى «تقطع» بين الظالمين وبين ما كان لهم، هو أكثر من أمر.. لقد تقطع ما بينهم وبين ما كان لهم من مال وبنين، وتقطع ما بينهم وبين ما كان لهم من آلهة اتخذوهم شفعاء لهم عند الله. وتقطع ما بينهم وبين كل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 وسيلة يتوسلون بها إلى الخلاص من هذا البلاء الذي هم فيه. وهكذا: لقد تقطعت الأسباب بينهم وبين كل ولىّ من أوليائهم، أو قوة من قواهم. الآيتان: (95- 96) [سورة الأنعام (6) : الآيات 95 الى 96] إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) التفسير: بعد أن شهد الظالمون المشركون هذا المشهد الذي تقطت له أنفاسهم، من مشاهد يوم القيامة، ردّوا إلى ما كانوا فيه من تلك الحياة التي كانوا يحيونها، مع أموالهم وأولادهم وأصنامهم، وما كانوا عليه من عناد وخلاف مع النبىّ، وما كان يدعوهم إليه من التعرف إلى الله والإيمان به.. وهنا تلقاهم كلمات الله وآياته، يرتّلها المؤمنون، تمجيدا لله وتسبيحا بحمده، وإذا هذه الآيات، وتلك الكلمات، هى استعراض لجلال الله، الذي كانوا منذ لحظات بين يديه، فى هذا الموقف العظيم، الذي طلع عليهم منه ما لم يكونوا يحتسبون، من شدة وبلاء.. «إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ» .. ذلكم هو الله، وتلك هى بعض آثار قدرته.. فلينظروا فى هذا الذي أبدعته القدرة القادرة، التي قام سلطانها على كل شىء، ونفذ علمها إلى كل شىء..! فهذه الحبة الصغيرة، التي لا تكاد تمسك بها العين، يفلقها الخالق العظيم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 فيخرج من كيانها الضعيف، وجرمها الصغير، شجرة عظيمة مورقة مزهرة مثمرة..! وهذه النواة اليابسة، التي لا يتجاوز جرمها جرم حصاة صغيرة، يفتّقها الخلّاق العليم، فيخرج من أطوائها نخلة باسقة، تطاول السماء، وتناطح السحاب.. «إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ» وفلق الحبّ والنوى.. شقّه، حين يغرس فى مغارس الإنبات، فيفتّق كما تفتّق الأرحام عند الولادة لتخرج ما فيها من أجنّة.. ومن بين هذا الحبّ والنوى.. الميت الهامد.. تخرج الحياة ممثلة فى شجيرة صغيرة، أو نخلة باسقة، أو دوحة عظيمة. وقوله تعالى: «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ» هو خبر ثان ل (إنّ) فى قوله سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى» . وقوله سبحانه: «وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ» عرض لصورة أخرى من صور الإبداع فى الخلق.. وهو أنه سبحانه إذ يخرج الحىّ من الميت، فإنه سبحانه يخرج الميت من الحىّ، كهذا الحبّ وذلك النوى فإنهما من مواليد النبات الحىّ النامي.. وفى هذا العرض للإحياء والإماتة، والإماتة والإحياء، مثل ظاهر يرى فيه الإنسان العاقل صورة لحياته هو.. وأنه كان فى عالم الموات، ثم إذا هو كائن حىّ عاقل.. ثم إذا هو مردود إلى عالم الموات مرة أخرى.. فهل تعجز القدرة الإلهية عن ردّه مرة ثانية إلى الحياة؟ إن ذلك- فى تقدير الإنسانية- أمر أهون مما سبقه من إيجاد الحياة من العدم!! «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» (28: البقرة) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 وقوله تعالى: «ذلِكُمُ اللَّهُ» إشارة إلى الله، سبحانه، وأنه هو الإله الحق الذي لا ينبغى لعاقل أن يتخذ إلها غيره.. فذلكم هو الله، وتلك هى بعض آثار قدرته. وقوله سبحانه: «فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ» إنكار على هؤلاء الضالين، أن يكون لهم متجه غير الله، ثم هو دعوة مجدّدة لهم أن يتركوا هذا الطريق الآثم الذي هم فيه، وإلا كانوا فى الهالكين. والإفك، هو الباطل والبهتان، والميل عن طريق الحق إلى الضلال. قوله تعالى: «فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً» هو استمرار لعرض آيات من قدرة الله، حتى إذا كان هناك من تنبّه من غفلته من هؤلاء الضالين، بعد أن رأى ما رأى من آيات الله فى خلق الحب والنوى، وخلق الحىّ من الميت، والميت من الحىّ، وبعد أن نبهه صوت الحقّ إلى ما هو فيه من ضلال وغفلة- إذا كان هناك من تنبّه لهذا، وجد بين يديه هذا النور الذي يكشف له معالم الطريق إلى الله، فيما يشهد من آثار صنعته فى هذا الوجود.. «فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً» فذلك مما خلق، الخالق، وأبدع البدع.. وفى قوله تعالى: «فالِقُ الْإِصْباحِ» مقابلة بين فلق النواة التي تخرج منها أجنّة الحياة ومواليدها، من عالم النبات، وبين فلق الإصباح، أي الصبح الذي يتفتق من تفتّقه الحياة، التي يستولى عليها سلطان النهار، ويغذيها ضوء الإصباح.. فهذه الكائنات المتحركة فى ضوء الإصباح، والمنتشرة على بساط ضوئه فى النهار، هى المواليد التي تفتح عنها الضوء، وبعث فيها الدفء والحياة، كما يتفق الحبّ والنوى عن هذه الحياة التي تتمثل فى عالم النبات. وقوله تعالى: «وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً» هو فى مقابل: «وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 حيث يكون الليل همودا وسكونا أشبه بالموت الذي يسبق الحياة.. وقوله سبحانه: «وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً» أي وجعل الشمس والقمر ليتعرف بهما على حساب الأيام والشهور، إلى جانب ما لهما من آثار كثيرة أخرى فى الحياة.. فالحسبان، هو الحساب والتقدير. وقوله تعالى: «ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» إشارة إلى أن وضع هذه المخلوقات بموضعها الذي هى فيه، وتسخيرها على هذا الوجه الذي تقوم به فى الحياة- هو من تدبير الله، ومن تقدير حكمته وسلطان علمه وعزته. الآيات: (97- 99) [سورة الأنعام (6) : الآيات 97 الى 99] وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) التفسير: تتابع الآيات فى عرض مبدعات القدرة الإلهية وتدبيرها أمر هذا الوجود، والهيمنة على نظامه البديع.. فمن مبدعات القدرة الإلهية، هذه النجوم التي هى زينة للناظرين فى هذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 السقف المرفوع، وهى علامات للسائرين ليلا فى البر أو البحر. وفى إضافة الظلمات إلى البر والبحر إشارة إلى أن الظلام هو الذي يلبسهما ويستولى عليهما، فكأن السائر فى الليل، يقطع قطعا من الظلام، سواء أكان فى البر أو البحر. والمراد بالظلمات هنا، ليس هو الظلام الذي يلبس الوجود فى الليل، وإنما هى هذا التيه الذي يستولى على راكب البحر، أو راكب الصحراء أو نحوها، فى الليل، حيث لا يعرف الإنسان أين يتجه، وهو فى هذا الكون الفسيح الذي لا معلم فيه.. والنجوم هى المعالم التي تكشف لراكب البحر أو الصحراء طريقه، وتشير له إلى متجهه، نحو الشرق أو الغرب، أو الشمال أو الجنوب وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ» (16: النحل) ومن مبدعات القدرة الإلهية أن عالم الإنسان- وهو واحد من عوالم كثيرة لا تحصى- هو ثمرة نفس واحدة، كان منها هذا العالم الإنسانى كله، فى أممه، وشعوبه، المنتشرة فى آفاق الأرض كلها. «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ» . وقوله تعالى: «فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ» أي فمستقر ومستودع هو الذي تتوالدون منه وتتكاثرون، والمستقر هو النطفة فى صلب الرجل، والمستودع هو النطفة تستودع فى رحم المرأة.. ومن المستقر والمستودع يكون التناسل والتوالد.. أو فمستقر على الأرض مدة حياتكم، ومستودع فى باطنها بعد موتكم.. وفى فاصلة الآية هنا: «قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ» ، وفى الفاصلة قبلها «قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» توافق كلّ فاصلة مع الحال الداعية إليها فى آيتها.. فعملية الخلق، والتوالد، والتناسل، عملية تحتاج إلى دقة نظر، ومزيد علم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 ولهذا كان مطلوبها أن ينظر فيها من يعلم، ويتدبر ما لا يعلم، وهو الفقيه.. «لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ» . أما النجوم وما يأخذ النظر منها من هداية فى الظلام، فلا يحتاج من يريد التعرف على هذه الخاصة منها إلى أكثر من نظر يفيد علما بالواقع كما هو: «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» . ومن مبدعات هذه القدرة، هذا الماء المنزل من السماء، أي من جهة عالية، تعلو وجه الأرض، فكل ما علا الأرض فهو سماء.. فمن هذا الماء يخرج كل حىّ، من إنسان وحيوان ونبات.. كما يقول سبحانه وتعالى: «وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» (30: الأنبياء) ثم خصّ الله سبحانه بالذكر هنا عالم النبات، إذ كان أكثر الكائنات الحية تفاعلا مع الماء واعتمادا عليه.. إذ هو غذاؤه وحياته، لا شىء له غيره، به يحيا، وبفقده يذيل ويموت.. أما الكائنات الأخرى، وإن كان الماء حياتها كالنبات تماما، إلا أنها تعتمد على أشياء أخرى تقوم إلى جانب الماء لتمسك عليها الحياة، وهو ما يتغذّى من طعام.. وقوله تعالى: «فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً» أي نباتا ذا خضرة، حيث الخضرة هى الروح السارية فى حياة النبات، وبغير تلك الخضرة لا ينبض فيه عرق الحياة أبدا. وقوله سبحانه: «نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً» أي من هذه الخضرة التي تمسك حياة النبات وتمده بالقوة والنماء- من هذه الخضرة يبلغ النبات غايته من النماء، فيزهو، ويثمر، ويخرج حبا متراكبا، أي يركب بعضه بعضا، كما هو الشأن فى سنابل القمح، وعناقيد العنب ونحوهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 وقوله سبحانه: «وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ» أي كما أخرجنا من الخضر حبا متراكبا، كذلك كان شأن النخل، الذي نخلق من طلعه قنوانا دانية.. والطلع، لقاح النخل، والقنوان: جمع قنو، وهو العذق، أي سباطة البلح أو الكباسة. وفى هذا الذي بين طلع النخل، وما يتخلق منه من قنوان دانية الثمر، ما يلفتنا إلى الخضر الذي فى النبات وما ينشأ عنه من حبّ متراكب.. وكأن هذه الخضرة هى اللقاح الذي لولاه ما أثمر نبات. وفى وصف القنوان بأنها قنوان دانية، مع أنها قد تكون والنخلة سابحة فى السماء- فى هذا الوصف ما يشير إلى اشتهاء النفس لهذا الثمر الذي يحمله النخل، وتطلعها إليه، ورغبتها فيه- الأمر الذي يجعل بعيده قريبا، وكلّ صعب فى الوصول إليه هينا.. هكذا المحبوب المشتهى أبدا. وقوله سبحانه: «وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ» معطوف على قوله تعالى: «فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ» أي وأخرجنا به- أي بالماء- جنات من أعناب وقوله تعالى: «وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ» معطوف على جنات من أعناب. وقوله سبحانه: «مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ» أي أن الزيتون والرمان، منه ما يشبه بعضه بعضا، ومنه ما يختلف بعضه عن بعض.. فى اللون، أو الحجم، أو الطعم. ويمكن أن يفهم قوله تعالى: «مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ» على وجه آخر.. وهو أن هذه الأشجار من الزيتون والرمان، وإن بدت أفراد كل جنس منها متشابهة فى هيئتها وثمارها، إلا أنها فى حقيقة أمرها غير متشابهة، فبين كل شجرة وأخرى فروق دقيقة، فى هيئنها، وفى ثمارها.. وهذا من بديع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 صنع الله، ومن كمال قدرته.. حيث تتنوع أفراد الجنس الواحد.. شجرة شجرة، وتختلف ثمرات الشجرة.. ثمرة ثمرة.. وعلى هذا تكون «الواو» فى قوله تعالى: «وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ» وهى واو الحال، والجملة بعدها حالية. وذلك فى قراءة من قرأ وغير بالرفع، أي يبدو مشتبها، والحال أنه غير متشابه، وهذا هو السرّ فى اختلاف النظم بين مشتبه ومتشابه!! وقوله تعالى: «انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ» إغراء بتوجيه النظر، وإعمال الفكر فى هذه المخلوقات، وما يجىء منها إلى الناظر إليها وهى فى حال إزهارها وإثمارها، من جمال رائع، وحسن فتّان، يشيع فى النفس البهجة والمسرّة، ويثير فى العقل أشواقا وتطلعات إلى التعرف على أسرار هذا الجمال واستكشاف ينابيعه ومصادره الأولى التي يجىء منها. والإنسان إذ يلقى الطبيعة وهى فى نضارة شبابها، وروعة حسنها، إنما يتيح له ذلك مجالا فسيحا للاندماج بها، والتعايش معها، الأمر الذي يسمح للطبيعة أن تبوح له بكثير من أسرارها، وتأتمنه على الكثير مما احتفظت به فى كيانها، وضنّت به على من لا يدنون منها، ولا يتعاطفون معها. أليس هذا شأن كل أمر يريد الإنسان أن ينتفع منه، ويملأ يديه من الخير الذي فيه؟. إنه لن ينال شيئا من أي أمر يعالجه، ويريد فتح مغالقه، إلا إذا تألّفه وأحبّه وأنس به، وأقبل عليه فى حبّ وشوق! ومن هنا كانت دعوة القرآن بالنظر إلى الطبيعة وهى فى حلل جمالها وبهائها- هى فى الواقع دعوة ضمنية إلى التزود من العلم والمعرفة، إذ يكون النظر إليها فى تلك الحال نظرا جادّا، باحثا، مستلهما، لا نظرا عابثا، لاهيا، متفكها بألوانها، وأصباغها. وانظر إلى معارض هذه الآيات الكريمة، وما يحمل كل معرض منها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 من دعوة إلى أناس كلّهم طلاب علم، ولكنّهم درجات متفاوتة، فيما يعلمون!. النجوم ... «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» . وخلق الناس من نفس واحدة ... «لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ» . والماء وأثره فى الحياة، وفى عالم النبات.. «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» . فهذه النظرات المردّدة فى الكون.. تجىء أول ما تجىء بالعلم، فإذا كان لصاحب هذا العلم نظرة تجمع الحقائق الجزئية، وتقيم منها حقائق كلية.. كان علمه هذا فقها. فإذا اتخذ من هذه الفقه مادة لجمع الحقائق الكلية ودرجها تحت حقيقة كليّة كبرى، كان فقهه هذا هو الإيمان.. الإيمان القائم على النظر الاستدلالي، والبحث الاستقصائى، لا على الإيمان التقليدى، الذي يعتمد على مشاعر غامضة، ووجدانات باهتة، لا تصل الإنسان بالله إلا بخيط واه ضعيف ينقطع عند أول هزّه تمرّ به. الآيات: (100- 103) [سورة الأنعام (6) : الآيات 100 الى 103] وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) التفسير: وإذ انتهت المعارض التي عرضها الله سبحانه وتعالى فى الآيات السابقة، شاهدا يشهد لوجوده، ودليلا يدل على قدرته وعلمه وحكمته- إذ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 انتهت هذه المعارض بأرباب العقول إلى أن يهتدوا بها، ويؤمنوا بالله على هديها- فإن كثيرا من الناس قد عموا عن هذه الآيات، فلم يروا فيها بصيصا من النور يقودهم إلى الله، ويفتح قلوبهم وعقولهم للإيمان به، ولهذا جاءت الآيات بعد هذا تنعى على هؤلاء موقفهم، وتفضح على الملأ حمقهم وجهلهم.. فقال تعالى: «وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ» .. ويلاحظ أنه لم يجر لهؤلاء الذي تحدّث عنهم الآية الكريمة، ذكر من قبل، بل جىء بهم هكذا فى هذا الموقف، حتى لكأنهم كانوا قد أعدّوا من قبل لهذا الذي هم فيه الآن فى موضع التجريم، والاتهام.. وهذا ما يشير إلى أن هؤلاء المشركين بالله كاوا على حال ظاهرة من الشرك، بحيث يعرفهم كل أحد، ويستدل عليهم كل من يريد أن يمسك بأهل الشرك، ويضع يده عليهم، دون بحث أو معاناة. وفى اتخاذهم الجنّ شركاء، إشارة إلى أن الجنّ هم الذين زينوا لهم الشرود عن الله، وعبادة كل من عبدوه من دون الله. وفى قوله تعالى: «وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ» .. التعبير بخرقوا فى مقابل «خلق» إشارة إلى أن هذا الذي نسبه المشركون إلى الله من بنين وبنات، حين قالوا عن الملائكة إنهم بنات الله، كما قال الله، تعالى عنهم: «وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً» (19: الزخرف) - هذا الذي نسبوه إلى الله، هو من تلقيات أوهامهم الضالة، وأهوائهم الفاسدة، وأنه خرق واختلاق، لا يقوم على علم، ولا يستند إلى معرفة.. إنه خرق لناموس الحقّ، وسلطان العقل. قوله تعالى: «بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 صاحِبَةٌ» هو ردّ على هذا الافتراء الذي افتراه المشركون على الله، بنسبة الولد إليه.. إذ كيف يكون له ولد، وهو سبحانه الخالق لكل شىء، مبدع السموات والأرض وما فيهن، أوجدهما من عدم، على غير مثال سبق..؟ فكيف يصح فى عقل ذى عقل أن يتخذ الله ولدا، والولد إنما يطلبه الوالد ليكون سندا له، وامتدادا لحياته من بعده..؟ والله سبحانه وتعالى قوىّ لا يحتاج إلى سند، حىّ حياة أبدية سرمدية لا تنقطع.. فما الداعي لطلب الولد؟ وما الحاجة إليه؟ .. ثم كيف يكون له سبحانه ولد، ولم تكن له صاحبة- أي زوج-؟ ولو كانت له صاحبة لكانت إلهة مثله.. إذ أن التوالد لا يكون إلا بين المتماثلين.. والله- سبحانه- منزّه عن المثل والشبيه! وقوله تعالى: «وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» تقرير لهذا الحكم، وتوكيد له.. إذ أن الخالق لكل شىء، لا يناسبه ولا يماثله شىء من مخلوقاته، وإذن فلا يكون له من تلك المخلوقات صاحبة ولا ولد.. وقوله سبحانه: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» الإشارة إلى الله سبحانه وتعالى هنا إشارة إلى المعبود الذي ينبغى أن تتجه إليه وجوه العابدين جميعا، فهو ربّهم الذي أوجدهم من عدم، وأمسك عليهم وجودهم بمقدرته، وأفضاله عليهم، وليس إله غيره كان له هذا الأثر فيهم، فهو خالقهم، وخالق كل شىء عبدوه. أو لم يعبدوه.. فهو المستحق لأن يمجّد وأن يحمد، ويعبد.. وهو سبحانه قائم على كل شىء وكيل على ما يجرى فى ملكه، وما يقع من مخلوقاته، من استقامة أو انحراف، ومن ولاء له، أو كفر به.. وسيجزى كلّ حسب عمله. ووكالة الله سبحانه على هذا الوجود ليست كوكالة الوكيل عن الأصيل، وإنما هو وكيل عن هذه المخلوقات كلها، حيث وكلت إليه أمرها، وفوّضت إليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 تصريف وجودها كيف يشاء، إذ كان كل موجود- أيّا كان سلطانه، وأيّا كانت قوته- عاجزا عن أن يملك لنفسه نفعا، أو ضرا. وقوله سبحانه: «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» إشارة أنه سبحانه لطيف لا يرى، إذ لو رؤى لتحدّد، ولو تحدّد لتجسّم، ولو تجسّم لكان مركبا، ولو كان مركبا لكان مخلوقا.. سئل الإمام علىّ: هل رأيت ربّك؟ فقال: «نور أنّى أراه؟» أي هو نور يملأ الوجود، ترى فى نور أنواره الموجودات.. أما النور فلا تمسك به عين، ولا يحدّه نظر.. فكيف يرى هذا النور؟ أما الله سبحانه وتعالى، فهو يرى كل موجود، ويبصر كل مبصر، فهو سبحانه يملأ عين المبصرين بنوره، ولكنهم لا يبصرونه.. «وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» الذي جلّ بلطفه عن أن يرى، وعلا بعلمه أن يغيب شىء عنه.. الآيات: (104- 107) [سورة الأنعام (6) : الآيات 104 الى 107] قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) التفسير: البصائر: جمع بصيرة، والبصيرة الآية التي يتكشف للناظرين فيها عبرة وعظة، ويقع لهم من الوقوف إزاءها علم ومعرفة.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 وقوله تعالى: «قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها» أي قد جاءتكم آيات بينات، فيها تبصرة وعظة لأولى الألباب.. «فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ» حيث يرى طريقه، ويعرف الاتجاه السليم الذي يسير فيه «وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها» حيث يضل الطريق، ويتخبط فى متاهات الضلال، وتكون عاقبته الهلاك والضياع.. وقوله سبحانه: «وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ» أي ليس على النبىّ إلا أن يعرض هذه البصائر التي تلقاها من ربه، ثم إنه ليس عليه بعد هذا أن يتولى حراسة الناس وحمايتهم من أهوائهم الغالبة، ونزعاتهم المستبدة.. فهذا نور الله بين أيديهم، وفى مواجهة أبصارهم.. فمن أبصر فلنفسه، ومن عمى فعليها.. والله سبحانه وتعالى يقول: «أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ» (43: يونس) قوله سبحانه: «وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» .. تصريف الآيات، تنويعها، وتعدد وجوهها، بحيث يرى الناظر فيها مشاهد متعددة الألوان، مختلفة الأشكال.. لجلال الله، وكمال علمه، وسلطان قدرته، وبحيث من أخطأه التهدّى إلى الله من واحدة منها لم يخطئه ذلك فى كثير غيرها.. وفى قوله تعالى «وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ» إشارة إلى معطوف محذوف يدل عليه سياق النظم، وتقديره، «وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ» ونعدّد وجوهها لتلقاهم فى كل متّجه، ولتأخذ عليهم كل سبيل «وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ» أي وليقولوا جهلا وسفاهة: إن هذا العلم الكثير الذي تحمله تلك الآيات إنما هو مما درسه «محمد» وتلقّاه من علماء أهل الكتاب، وأنه ما كان له وهو الأمىّ، أن يجىء إليهم بهذا العلم الذي لم يكن لهم هم ولا آباؤهم.. وفى هذا تشنيع على هؤلاء الضالين المشاغبين، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 وتسفيه لعقولهم، إذ لو عقلوا لكان أقرب إلى العقول أن يضيفوا هذا العلم إلى الله، وأن يروا فى أميّة «محمد» وفى هذا العلم الغزير الذي حمله إليهم شاهدا على أن هذا القرآن هو من عند الله، لا من تلقّيات محمد عن غيره.. وقد كان فيهم كثيرون اتصلوا بأهل الكتاب، ولم يكن لهم شىء من هذا العلم الذي جاءهم به هذا الأمىّ الذي لم ينقطع للعلم، ولم يجلس إلى أهل العلم.. وقوله تعالى: «وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» تعليل آخر لمجىء آيات الله مفصّلة هذا التفصيل، ومبيّنة هذا التبيين.. وذلك ليكون فيها مزيد بيان ومعرفة وعلم «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» أي لقوم من شأنهم أن يتعلموا ويعلموا.. والضمير فى قوله تعالى: «وَلِنُبَيِّنَهُ» يعود إلى القرآن الكريم، الذي هو مجمع هذه الآيات كلها، والكتاب الذي احتواها، واشتمل عليها جميعا، وفى تفصيل هذه الآيات، وتعدد وجوهها بيان وتوضيح لقوم يعلمون، وبلاء وفتنة للضالين. وقوله سبحانه: «اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ» التفات من الله سبحانه للنبىّ الكريم، وتثبيت له على الكتاب الذي تلقّاه من ربّه، دون أن يلتفت إلى شىء من تخرصات المشركين، واستهزاء المستهزئين. وفى إضافة النبي الكريم إلى ربّه- سبحانه وتعالى- تكريم للنبى الكريم، واحتفاء به، واستدعاء له من بين هؤلاء الضالين إلى حيث ينزل هذا المنزل الكريم، من رحمة الله ورضوانه. وفى قوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا» إخلاء لمشاعر الأسى والحزن التي يعالجها النبىّ، وهو يدعو قومه إلى الهدى والخير، وهم يتفلّتون من بين يديه إلى الضلال والهلاك.. فهذا الضلال الذي هم فيه هم أهل له، وهو أشكل بطبيعتهم النكدة، وقلوبهم المريضة.. ولو شاء الله لهم الهداية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 لهداهم، ولما كانوا من المشركين.. فذلك إلى قدرة الله ومشيئته، وليس لك- أيها النبي- من الأمر شىء.. «وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ» إذ لست مرسلا من عند الله لتقهرهم على الإيمان، ولتدفع عنهم بالقوّة هذا الضلال الذي هم فيه.. وما أنت عليهم بوكيل، إذ هم راشدون مسئولون عن أنفسهم، وعن اختيار الطريق الذي يسلكونه.. «إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ» فتنبّه الشارد، وتهتف بالضال.. فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضلّ فإنما يضل عليها، وما أنت عليهم بوكيل. الآيات: (108- 110) [سورة الأنعام (6) : الآيات 108 الى 110] وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) التفسير: أمر الله سبحانه نبيّه الكريم فى الآيات السابقة أن يقف على حدود ما أنزل إليه من ربّه، وأن يدع المشركين وشأنهم، بعد أن بلغهم رسالة ربّه، وأن ليس للنبىّ أن يكرههم على الإيمان، إن عليه إلا البلاغ.. وهنا فى قوله تعالى: «وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ» يحذر الله النبىّ والمسلمين معه، أن يدخلوا فى معارك جدليّة مع المشركين، تنتهى بهم إلى التراشق بالكلمات الجارحة، فيشتم بعضهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 بعضا، ويسبّ بعضهم بعضا.. وهنا يجدها المشركون فرصة للتعدّى على الله، والتطاول على ذاته الكريمة، وكان ذلك أشدّ ما يصيبون به المسلمين فى مشاعرهم، لما لله سبحانه وتعالى فى أنفسهم من تعظيم وتوقير، ولما يعلمه المشركون من تعلّق المسلمين بالله، وحبّهم له، ورعايتهم لأوامره ونواهيه.. وليس كذلك شأن المشركين مع آلهتهم التي لا ينظرون إليها تلك النظرة الخاشعة، التي ينظر بها المسلمون إلى الله، ولا يرون فى آلهتهم ما يرى المسلمون فى الله، من قدسية، وعظمة، وجلال. وقد تنبّه العقلاء إلى مثل هذه الحال، فبعدوا بأنفسهم عن تلك المواطن التي يقفون فيها مع السفهاء موقف الخصومة والتلاحي، لأن السفيه الساقط المروءة، يجد فى التطاول على أهل الحكمة وأصحاب الشأن فى الناس فرصته، فى الاستعلاء بنفسه، حين يكون هو ومن فوقه فى منزلة سواء.. وفى هذا يقول الشاعر: بلاء ليس يعد له بلاء ... عداوة غير ذى حسب ودين يبيعك منه عرضا لم يصنه ... ليرتع منك فى عرض مصون فإذا سبّ المشركون الله فى مجلس من مجالسهم مع المسلمين، شعروا أنهم أصابوا من المسلمين مقتلا، وإذا سبّ المسلمون آلهتهم لم يكن فى ذلك ما يزعجهم أو يقلقهم، وإن يكن شىء من ذلك فهو شىء قليل لا يكاد يحسّ له أثر! شأن الخسيس يتطاول على الكريم، فإذا ناله الكريم بأذى لم يتأثر له. «وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ» والعدو: العدوان والبغي. فى حمق وسفاهة وطيش. أي ولا تتعرضوا للآلهة الذين يدعوهم المشركون من دون الله، فيسبّوا الله عدوا، أي أنهم يسرعون إلى سبّ الله، ويجدونها فرصة لهم لينالوا منكم بالتعرض بالسبّ لأقدس المقدسات، وأكرم الحرمات عندكم.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 وفى قوله تعالى: «عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ» إشارة إلى أن هؤلاء المشركين لا يقدرون الله حق قدره، ولا يعلمون ما تعلمون أنتم أيها المؤمنون من جلاله وقدسيته وعظمته. فلا يتوقفون عند أية سانحة تسنح لهم للتطاول على الله. وقوله تعالى: «كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ» هو عزاء للمسلمين لما ينالهم من تطاول المشركين على الله، واستخفافهم به.. فذلك لأنهم لم يعرفوا الله حق المعرفة، وأنهم مشغولون عنه بآلهتهم تلك، وأنها- على ما هى عليه ضعف وهوان- ذات شأن عند المشركين، الذين آمنوا بها وعبدوها.. وهكذا الناس وما يحبّون ويبغضون.. هم فى هذا مذاهب شتّى.. من يحبه قوم، يبغضه آخرون، ومن يبغضه أناس، يحبّه أناس غيرهم.. «كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ» . وقوله تعالى «ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» الضمير فى «ربهم» يعود إلى الناس الذين تضمهم هذه الأمم.. أي أن الناس جميعا على اختلاف معتقداتهم ومذاهبهم وأعمالهم سيردّون إلى الله.. وهنا يعرف كل إنسان حقيقة ما كان عليه.. من حق أو باطل، وصفة ما كان يعمل.. من خير أو شر.. قوله سبحانه: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها» . الآية التي أقسم المشركون على أنهم يؤمنون بها لو جاءتهم، ووقعت تحت حواسّهم- هى التي كانوا يقترحونها على النبىّ، فيما حكاه القرآن عنهم فى قوله تعالى: «فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ» (5: الأنعام) وقوله سبحانه: «لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً، أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها» (7- 8: الفرقان) .. وقوله تعالى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا (90- 92: الإسراء) . هذه هى بعض الآيات التي أقسموا بالله جهد أيمانهم- أي قسما مؤكدا بكل المؤكدات- لو جاءتهم آية منها ليؤمننّ بها، ويتخذونها دليلا على صدق النبىّ! وقوله تعالى: «قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ» هو ردّ من الله تعالى عليهم، أمر النبىّ الكريم أن يلقاهم به.. فإنه- أي النبىّ- لا يملك من تلك الآيات شيئا، وإنما هى من الله سبحانه وتعالى، ينزّلها بقدر، وتدبير وحكمة، على من يشاء، متى يشاء. وقوله سبحانه: «وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ» هو التفات للمؤمنين الذين سمعوا الجواب الذي أجاب به النبىّ على ما يقترحه المشركون عليه من آيات.. وفى هذا الالتفات ردّ على تطلّعات بعض المسلمين الذين كانوا يتوقعون أن يجىء النبىّ بمثل هذه الآيات، ليقطع على المشركين حجتهم، ولينهى الخصومة التي بينه وبينهم، وبهذا تنطفىء نار الشرّ المحتدم بينهم وبين المؤمنين، حين تدخلهم تلك الآية فى دين الله، ويكونون من المؤمنين. وقد كشف الله سبحانه وتعالى فى هذا الردّ عن طبيعة هؤلاء المشركين، وأنهم ليسوا طلاب هدى يملأ صدورهم طمأنينة وإيمانا، ولكنهم أصحاب هوى، وأتباع ضلال، لا يريدون بهذه المقترحات التي يقترحونها إلّا اللجاج فى العناد، والضلال. وفى قوله تعالى: «وَما يُشْعِرُكُمْ» إشارة إلى أن ما بالمسلمين من أمر هؤلاء المشركين فى هذا الموقف، هو مجرد مشاعر وأحاسيس، وليس إدراكا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 ولا علما.. إذ أن المسلمين كانوا يعلمون من عناد هؤلاء المشركين أنهم لن يؤمنوا بأية آية، ولكن ما كان يجده المسلمون منهم من عنت وإرهاق ألقى فى شعورهم شيئا من الأمل، يتعلّلون به، فى مجىء تلك الآية المقترحة، التي إن لم يؤمن بها هؤلاء المشركون، فلا أقلّ من أن تخفف من عداوتهم للمؤمنين وعدوانهم عليهم. وقوله تعالى: «وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» . هو توكيد لعدم إيمان المشركين بهذه الآيات التي تتنزل عليهم حسب مقترحاتهم، وأنهم إذا التقوا بها، فإنما يلقونها بقلوب مريضه، وأبصار زائغة، وألسنة تردد كلمات الزور والبهتان، كما كان ذلك شأنهم مع آيات القرآن الكريم التي التقوا بها، وقالوا فيها ما قالوا من زور وبهتان.. ثم ينتهى موقفهم مع الآيات التي اقترحوها كما انتهى مع الآيات التي جاءهم بها النبىّ.. طغيان، وعناد. وكفر وضلال.. «وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً» (41: الإسراء) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 الآية: (111) [سورة الأنعام (6) : آية 111] وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) التفسير: فى هذه الآية يكشف الله سبحانه وتعالى عن هذا المدى البعيد الذي بلغه أولئك المشركون من إمعان فى الضلال والطغيان، وأنهم إن يروا كلّ آية لا يؤمنوا بها.. فلو أن الله- سبحانه- أنزل عليهم الملائكة، يمشون بينهم، ويتحدثون إليهم لقالوا فيهم مقالا، ولو جدوا للزور والبهتان علّة يعتلّون بها.. ولو أن الله سبحانه بعث الموتى من قبورهم يكلمونهم، كما كانوا يكلمونهم وهم أحياء، لكان لهم فيهم لغط وجدل. ولو أن الله- سبحانه- بعث إليهم كل شىء يقترحونه، وجاءهم به عيانا ومواجهة «قبلا» ، ما كانوا ليؤمنوا، ولقالوا من الزور والبهتان ما حكاه الله عنهم فى قوله تعالى: «وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ» (14- 15: الحجر) وفى قوله تعالى: «إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» هو استثناء من جميع الأحوال، أي أنهم لا يؤمنون فى أي حال إلا فى تلك الحال التي يشاء الله لهم فيها أن يؤمنوا، وهى حال تتعلق بمشيئة الله، ولا تتعلق بما يساق إليهم من آيات ومعجزات، فإيمانهم معلق بمشيئة الله، لا بتلك الآيات التي يقترحونها.. «وَلكِنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 أَكْثَرَهُمْ» أي أكثر النّاس، وهم هؤلاء المشركون جميعا، ومعهم كثير من أولئك المؤمنين الذين طمعوا فى إيمانهم، واستشعروا أنهم قد يؤمنون إذا جاءهم النبي بما يقترحون عليه من آيات- أكثر هؤلاء لا يعلمون مشيئة الله المتسلطة على هذا الوجود، القائمة على تصريفه وتدبيره.. فلا يقع شىء إلا على الوجه الذي شاءه الله- سبحانه وتعالى- وقدّره. مبحث: فى مشيئة الله ومشيئة العباد وهنا نودّ أن نقف وقفة قصيرة، مع هذه القضية، التي شغلت الناس منذ عرفوا الله فآمنوا به.. من علماء، وفلاسفة، وفقهاء، ومتدينين بل وملحدين.. هل للإنسان إرادة؟ هذا سؤال لا يكاد يتردد أحد فى الإجابة عليه «بنعم» !! فكل إنسان يعلم من نفسه، ومن تصرفات الناس حوله، أن للإنسان إرادة.. بها يتحرك ويعمل، وبها يأخذ ويدع. ولكن حين يصبح السؤال هكذا: هل للإنسان إرادة مع إرادة الله؟ هنا تأخذ المسألة وضعا آخر، وتدخل القضية فى مجال النزاع والخلاف.. إنها قضية القضايا.. فهى ليست من القضايا ذات الصبغة «المحلّية» كما يقولون.. بين الإنسان والإنسان، أو بين الإنسان والطبيعة.. ولكنها بين الإنسان وبين الله.. بين العبد والرب.. بين المخلوق والخالق! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 وما ظنّك بقضية يكون العبد فيها خصما لربّه، أو محاجّا لخالقه؟ إنها حينئذ تكون قصية شائكة محرجة.. فيها لجاجة وخروج على مقتضى العبودية.. فيها تجديف وضلال، وفيها مزالق وعثرات! ونعم.. الطريق شائك، ملىء بالمزالق والعثرات.. ولكن هيهات أن يمسك الإنسان نفسه عن السير فيه.. فإن استطاع أن يمسك قلمه، أو لسانه، فإنه ليس بمستطيع أن يمسك زمام خواطره ووساوسه.. بحال أبدا.. أما والأمر كذلك، فخير للمرء أن يواجه المشكلة، وأن يقتحم عليها موطنها، قبل أن تفجأه على غرّة، وتهجم عليه على حين غفلة، فتنال منه، وتفسد عليه رأيه، أو تدخل الشك والوسوسة على عقيدته. وأما وقد رضينا أن نواجه المشكلة، ونقتحم عليها حماها، فإنه يجب علينا أن نأخذ لها حذرنا وأسلحتنا.. شأن من يتهيأ لصراع عنيف، ويدخل فى معركة حاسمة..! وزادنا فى هذه المعركة، هو إيمان بالله.. إيمان وثيق، لا تزعزعه الأعاصير العاتية، ولا تنال منه الأحداث المزلزلة.. وأمّا سلاحنا فهو عقل يقظ، وقلب سليم، ننظر بهما فى كتاب الله، وفى سنّة رسول الله، فى حدود ما وهبنا الله من استعداد فطرى، دون التطويح بالعقل، والشرود به فى مجال غير مجاله الذي خلق له.. ذلك هو زادى، وهذا هو سلاحى.. فإن أردت أن تصحبنى على هذا الطريق، فخذ من الزاد والسّلاح ما أخذت.. وإلا فأنصح لك أن تكون حيث أنت، ولا تصاحبنى.. وحسبك أن تعود أدراجك ونحن على أول الطريق، وأن تطوى هذه الصفحات، لتستقبل ما بعدها مما نحن بسبيله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 من الوقوف بين يدى الله، وكلماته، على ما عهدت منا، قبل أن نأخذ فى هذا الحديث.. فإن كنت قد رضيت صحبتى على ما اشترطت عليك فهيّا بنا إلى غايتنا.. ولكن مهلا.. هل اختبرت إيمانك؟ وهل أيقظت عقلك، وأحليت قلبك من كل شك ووسواس؟ لا بأس من أن تعيد النظر.. فإننا- كما قلت لك- لا نزال على الشاطئ، وقد يكون العود أحمد لك..! وبعد، فإن كنت على عزيمة أن تسير معى، فلى عليك ما اشترط العبد الصالح على موسى، عليهما السلام: «فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً» .. أنتحرك إذن؟ ليكن.. وعلى بركة الله. هل للعبد إرادة مع الله؟ سنجيب على هذا السؤال بالجوابين المحتملين له.. فنقول: «نعم» مرة، ونقول: «لا» .. مرة أخرى.. وننظر. القول بأن للعبد إرادة مع الله وهذا القول قالت به القدريّة من المعتزلة.. ويبنى على هذا القول أمران: أولا: أن العبد خالق لأفعاله، مسئول عنها مسئولية كاملة.. وثانيا: أن ما يناله العبد من نعيم أو عذاب فى الآخرة هو بسبب عمله الحسن، أو السيّء.. وقد بنى هذان الأمران عند القدرية على ما يأتى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 أولا: أن العبد لو لم يكن خالقا لأفعاله، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلقها، وأضافها إلى الإنسان، ثم عذّبه عليها- مع أنه لم يفعلها- لكان ظالما له، والظلم نقصان، لا يليق بالله الموصوف بالكمال المطلق. وكيف يفعل الله شيئا، ثم يلوم الإنسان عليه، ويقول له: كيف فعلته؟ ولم فعلته؟ وهو لم يكن له كيف، ولا فعل؟ إن الله عادل، وعدله يقضى بأن يحاسب العبد على ما فعل.. وإذن، فأفعال العبد مخلوقة له، ومحسوبة عليه.. وثانيا: أوجب القدريّة على الله أن يثيب الطائعين، كى لا يظلمهم، فإن الظلم نقصان لا يليق بربّ الأرباب! هذه هى حجة أو حجج من يقولون إن للعبد إرادة خالقة، مع إرادة الخالق.. القول بألا إرادة للعبد مع إرادة الرب وأهل السنة، هم أصحاب هذا القول.. وقد بنوه على أمرين كذلك: أولا: أن كمال الإله هو فى التفرد بكل شىء.. ونفى القدرة عيب، ونقصان.. والكمال يقتضى أن يكون كل شىء خاضعا لقدرة الله، جاريا على ما تقضى به حكمته ومشيئته.. وثانيا: إثابة المحسن، ليس لإحسانه وحده، وإنما ذلك من فضل الله عليه. وتعذيب من يعذبهم الله، ليس لذنوبهم وحدها، وإنما ذلك لحكمة يعلمها الله، وحسب نظام قدّره، وليس فى هذا ظلم.. لأن الظلم إنما ينسب لمن يتصرف فى غير ملكه، والله سبحانه إنما يتصرف فيما خلق.. وأهل السّنة- مع هذا- لا ينفون إرادة العبد أصلا، كما سنرى بعد، ولكن يرونها إرادة خاضعة لإرادة الله، جارية على تقديرها.. وهناك فريق ثالث- وهم الجبرية- لا يرون للعبد إرادة مطلقا، فيقولون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 إن أفعال الإنسان اضطرارية، وأن كل ما يفعله لا إرادة له فيه، وإنما هو أشبه بآلة تعمل بلا وعى ولا عقل.. وأن المأمورات والمنهيات ليست موصوفة بالحسن والقبح، وإنما هى أوامر ونواه صادرة من جهة عليا، وعلى الإنسان أن يمتثل من غير أن يفكر فى حسن المأمور به أو قبح المنهىّ عنه.. فالإنسان لا يقدر على شىء، ولا يوصف بالاستطاعة، وإنما هو مجبور على أفعاله، لا قدرة له، ولا إرادة، ولا اختيار، بل يخلق الله تعالى الأفعال فيه، كما يخلقها فى سائر الكائنات، وتنسب إليه الأفعال مجازا كما ننسبها إلى الجمادات، كما يقال: أثمرت الشجرة، وجرى الماء، وتحرك الحجر، وطلعت الشمس.. والثواب والعقاب جبر، كما أن الأفعال جبر. هذا هو مجمل القول فى إرادة العبد وإرادة الله، بين أطراف الخصومة عند جماعات المسلمين. وأنت ترى بعد الشّقة بينهم.. فبينا يقول القدرية: إن العبد خالق لكل أفعاله، وأن إرادته مطلقة من كل قيد- إذ يقول الجبرية: إن العبد لا يفعل شيئا، وإنما الله سبحانه هو الذي يخلق ما يفعل العبد، وأن الإنسان والجماد فى هذا سواء، كلاهما مسيرّ إلى غاية لا يملك من أمره معها شيئا. أما أهل السنة، فقد ذهبوا بين الفريقين مذهبا وسطا.. قالوا بإرادة الله العامة الشاملة، وقالوا بإرادة العبد المحدودة الواقعة فى محيط الإرادة العامة. وقد دخلت هذه الآراء فى مجال للصراع العنيف، واجتمع على كل رأى أنصار يدافعون عنه، ويحتجون له.. وكان الفلاسفة والمتكلمون فرسان الحلبة فى هذا الصراع، يصولون ويجولون، ويحومون حول الكتاب والسنة، يأخذون منهما الحجة على خصومهم، فخلطوا فى هذا بين فطرة الإسلام، وفلسفة اليونان، وما وصل إليهم من معتقدات فارس والهند وغيرهما.. وكان من هذا أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 اتسعت شقّة الخلاف بين المتخاصمين، وانقسمت الفرق المختلفة على نفسها، فكان لكل فريق مقولات تدور حول الأصل الذي قام عليه الرأى فى المذهب. تفصيل بعد إجمال ولكى نتعرف إلى وجه الحق فى هذه القضية، يجب أن ننظر فى آراء هذه الفرق، وفى الأدلة التي قدموها بين يدى هذه الآراء، ثم إن لنا بعد هذا رأينا، الذي نفقهه من ديننا، بعيدا عن التعصب المذهبى، أو التحزّب الطائفي، وخالصا من كل غرض، إلا ابتغاء الحق، وإلا إقامة العقيدة على الحق الذي نزل به الكتاب، وبيّنه الرسول.. كلّ هذا فى إيجاز شديد، لأننا نعالج قضية شغل بها العقل الإنسانى منذ كان، وإلى أن يخلى مكانه من هذا العالم، وقد خلّف وراءه محصولا من الآراء والمقولات لا حصر لها. آراء القدرية برز من المعتزلة عدد غير قليل من ذوى اللّسن والرأى.. قالوا بالقدر، وسمّوا بالقدرية، لأنهم يقولون إن العبد قادر على خلق أفعاله، مختارا غير مضطر.. وقد استطاعوا بما لهم من فصاحة وعقل أن يصوروا آراءهم فى منطق، وأن يصوغوها فى قوالب من الفصاحة والبلاغة، بما كان لهم من نظر فى كتب الفلسفة والمنطق، وبما اطلعوا عليه من المعتقدات الدينية الوافدة مع الداخلين فى الإسلام من كل أمة.. فكانت لهم فلسفة، وكان لهم أدب.. وحسبك أن يكون من رجال هذه الطائفة.. واصل بن عطاء، والنّظّام، وأبو الهزيل العلّاف، والجاحظ، وجميعهم أئمة فى الأدب، كما أنهم أئمة فى الرأى.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 وهذه مقولات لبعض رجالهم رأى واصل بن عطاء: يقول واصل بن عطاء: «إن الله تعالى حكيم عادل، ولا يجوز أن يضاف إليه شر وظلم، ولا يجوز أن يريد من العباد خلاف ما يأمر به، وأن يحكم عليهم شيئا ثم يحازيهم عليه» ! وهذا الذي يقوله واصل، حق لا شك فيه.. فالله حكيم عادل، ولكن مع حكمة الله وعدله، قدرته وإرادته، والقدرة والإرادة يقضيان بألا يقع فى ملكه غير ما يشاء ويريد.. والسؤال هنا: هل الإنسان من القدرة والاستطاعة بحيث يتحكم فى الأسباب الخارجة، التي تصادم القوى التي أودعها الله فيه.. من عقل وإرادة..؟ يقول واصل: «فالعبد هو الفاعل للخير والشر، والإيمان والكفر، والطاعة والمعصية، وهو المجازى على فعله، والرب أقدره على ذلك كله» . ونقول: إذا كان الله أقدر العبد على كل ما يفعل من خير وشر، وإيمان وكفر، وطاعة ومعصية- فماذا بقي للعبد إذن؟ وكيف يضاف إليه كل ما يفعل، وهو إنما يفعل بالقدرة التي أقدره الله بها على فعل ما يفعل؟ كيف يتفق هذا مع ذك.؟ ويقول واصل أيضا: «ويستحيل أن يخاطب الله العبد «بافعل» وهو لا يمكنه أن يفعل..؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 «وهو- أي العبد- يحسّ من نفسه الاقتدار والفعل.. ومن أنكره فقد أنكر الضرورة» ! ونقول: إن مفهوم هذا القول يقتضى أن يقوم إزاءه قول آخر.. وهو: إنه يستحيل أن يخاطب الله العبد بألا تفعل ثم لا يمكّنه من ألّا يفعل! وإذن، فيكون الوضع الصحيح للمسألة على مقتضى هذا الرأى، هو: أولا: أن الله يأمر العبد بأن يفعل، ويمكنّه من أن يفعل.. وهذا فى باب الخير والمعروف، فيفعل كل ما هو خير ومعروف. وثانيا: أن الله ينهى العبد ألا يفعل المنكر، ويمكّنه من ألا يفعله.. وهذا يشمل المنهيات جميعا، فلا يفعل العبد ما هو شر ومنكر أبدا.. وهذا غير واقع.. فما أكثر ما يأتى الإنسان ما نهى الله عنه من فواحش وعلى هذا، فالعبد إنما يفعل ما يفعل من خير أو شر بما أودع الله فيه من قدرة، فإذا فعل العبد خيرا فبما أودع الله فيه من قدرة على فعل الخير، وإذا فعل شرّا فبما فيه من قوة لا تستطع أن تدفع الشرّ الذي فعل. ما ذنب العبد إذن؟ أهذا يتفق مع العدل الذي يقوم عليه مذهب المعتزلة؟ ألا ينتهى هذا الرأى إلى القول بالجبر؟ «ويكاد واصل» يقول هذا.. ولكنه يردّه عن ذلك ما يرى من عدل الله وحكمته، فهو يريد أن يدفع عن عدل الله تبعة الأعمال السيئة التي يجازى عليها المسيئون، كما يدفع عن حكمة الله هذه الشرور التي تقع فى محيط الناس. أترى أن واصلا كان عادلا فى هذا الحكم؟ إنه نظر إلى المسألة من جانب واحد.. جانب الإنسان العاجز الضعيف، وعلّق فى عنقه كل هذه الشرور والآثام.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 رأى أبى علىّ الجبّائى وابنه أبى هاشم يقولان: «إن الله تعالى لم يدّخر عن عباده شيئا يعلم أنه إذا فعل بهم أتوا بالطاعة والتقوى.. من الصلاح والأصلح، واللطف، لأنه- تعالى- قادر، عالم، جواد، حكيم، لا يضرّه الإعطاء، ولا ينقص من خزائنه المنح، ولا يزيد فى ملكه الادخار.. ولا يقال إن الله تعالى يقدر على شىء هو أصلح مما فعله بعبده ثم لم يفعله.. والتكاليف كلها ألطاف!!» وواضح أن هذا القول يجعل أفعال العبد كلها مرضيّة عند الله، خيرها وشرها، لأن الله لم يدخر عن عباده شيئا من الصلاح والأصلح واللطف.. وإذن.. فلا خير ولا شر.. فالتكاليف- كما يقولان- كلها ألطاف، وما يأتى العبد منها وما يدع، إنما هو غاية ما أعطى الله العبد من قوى، وليس وراء هذا شىء يمكن أن يمنحه الله العبد غير الذي منح. ونقول: هل على هذا يقال: إن العبد حرّ مختار، يفعل ما يشاء؟ نعم: إنه يفعل ما يشاء فى حدود هذه الطاقة التي أمدّه الله بها، والتي هى كل ما عند الله له.. كما يقولان! وإذن فلم يحاسب العبد ويعذّب على الشرّ الذي يفعله، وهو لم يفعل إلا بما مكن الله له منه، وأقدره عليه..؟ رأى النّظام يرى النظام أن القدر خيره وشرّه منّا، وأن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على الشرور والمعاصي، وليست هى مقدورة للبارىء تعالى.. ويرى النظام أن الله لا يقدر أن يخلق أكثر مما خلق بالفعل، وإلا فمن ذا الذي يستطيع أن يحول بينه وبين أن يظهر كلّ ما عنده من الجود والجمال؟» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 ونقول: كيف يقف شىء أمام قدرة الله؟ وهل تقع هذه الأمور التي نراها شرّا إن لم تكن من تقدير الله؟ وهل يدخل على نظام هذا الملك شىء لا يريده الله؟ لقد ردّ أصحاب «النظام» أنفسهم على هذا، فقالوا: إن الله قادر على الشرور والمعاصي، ولكنه لا يفعلها لأنها قبيحة. ونقول: إذا كانت تلك الأمور التي يصفونها بأنها قبيحة، هى قبيحة فعلا.. فلم يدعها الله سبحانه تدخل فى نظام ملكه الذي أقامه؟ هذا قول متهافت، لا يستقيم أوله مع آخره.. ونستطيع بعد هذا أن نقول: إن أقوال المعتزلة فى قدرة الإنسان لم تقم على منطق سليم، ولم نستقم على طريق واضح. الله عادل.. ما فى ذلك شك. ومقتضى هذا العدل أن تجزى كل نفس بما كسبت.. فالعبد كاسب لأفعاله، أي أنها جرت على يديه. وبمحض إرادته.. ولكنه مع هذا واقع تحت إرادة الله، خاضع لمشيئته. وللنظام رأى فى إرادة الله، وأن معنى الإرادة عنده ليس هو معنى المشيئة، لأن الإرادة بمعنى المشيئة تستلزم حاجة من جانب المريد، ولهذا يقول: «إن الله إذا وصف بأنه مريد لأفعاله، فمعنى ذلك أنه خالقها ومنشئها، وإذا وصف بأنه مريد لأفعال عباده أو وقوع أمر، فمعنى ذلك أنه حاكم بذلك، أو آمر، أو مخبر» . وهذا الفهم للإرادة بأنها تستلزم حاجة من جانب المريد، إنما هو فهم مقيس على المستوي الإنسانى، حيث إرادتنا محصورة فى دائرة حاجاتنا ومطالبنا.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 فلا نريد إلا ما نحن فى حاجة إليه.. ذلك فهم يتفق مع عالم النقص الذي نحن فيه، فتكون إرادتنا متحركة فى هذا العالم حسب حاجتنا، ساعية إلى سدّ ما نشعر به من نقص.. إننا نريد كذا، لأجل كذا.. أما عالم الكمال، فما يصدر عنه لا يصدر لحاجة، وإن صدر بإرادة ومشيئة، ولن يصدر بغير إرادة ومشيئة.. إنه يجرى مع الحكمة التي يطلبها الكمال.. مما تقدم يمكن أن نقول: أولا: إن المعتزلة قد بالغوا فى رفع قيمة الإنسان، وكادوا يجعلون منه إلها مستقلا بسلطان وجوده، لا يلتفت إلى ماوراء وجوده فى صراعه مع الحياة، وفى تقلبه بين خيرها وشرها. ولا شك أن هذه «الانعزالية» عن العالم العلوي، تحرم الإنسان كثيرا من أمداد الاستعانة بالخالق جلّ وعلا، كما أنها تدفع داعية التوكل على الله، والرضا بقضائه وقدره، بعد أن ينفذ القضاء، ويقع المقدور، فيكون فى هذا عزاء جميلا عما وقع للإنسان مما يكره ويسوء. ثانيا: أن المعتزلة فى دفعهم للإنسان إلى هذا الحدّ، قد جاروا على الإنسان نفسه، وخلّوا بينه وبين ذاته، وألزموه أمورا وحمّلوه أوزارا يلقى بها ربه فى غير رجاء، كما جعلوا صوالح أعماله حقّا ملزما لله، يطالبه به العبد فى غير حياء! وتلك حال يدخل فيها الضيم على الإنسان من كل وجه.. فإن أي إنسان مهما بلغ من التقوى والكمال، ومهما قدّم من خير وبرّ، فهو فى حاجة أبدا إلى فضل الله، وإنّه لن يدخل الجنة بعمله، لأن أعماله مهما عظمت لن تفى بالقليل من بعض نعم الله وفضله عليه.. وفى هذا يقول الرسول الكريم.. «إنكم لن تدخلوا الجنة بأعمالكم» .. قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلّا أن يتغمّدنى الله برحمته» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 ولهذا وجد كثير من أنصار المعتزلة حرجا فى الأخذ بقولهم هنا، من إطلاق قدرة الإنسان وإرادته.. فهذا إمام من أئمتهم، وهو «الجاحظ» لا يرضى أن يقرر مذهب المعتزلة فى هذه المسألة على هذا الوجه.. بل إنه ليصل إرادة العبد بإرادة الله.. يقول الجاحظ: «لا فضل للإنسان إلا بالإرادة» . ومعنى هذا أن للإنسان إرادة، وأنه بغيرها لا يكون أحسن من الحيوان حالا، ولا أكرم منزلة.. ولكن هذه الإرادة التي يحملها الإنسان فى كيانه لا تعمل وحدها، هكذا مطلقة من كل قيد، فهى متصلة أولا بكيان الإنسان كله، وهى ثمرة من ثمرات التفاعل الذي يجرى فى هذا الكيان، الذي هو متصل بهذا الوجود كلّه، مقيد به، ومؤثر فيه، ومتأثر به.. وفى هذا يقول الجاحظ: «لأن أفعال الإنسان كلها داخلة فى نسيج حوادث الطبيعة من جهة، ولأن علم الإنسان كلّه اضطراري يأتيه من أعلى.. من جهة أخرى» . ومعنى هذا أن الإرادة التي يعمل بها الإنسان ليست كلها له، لأنها فرع العلم الذي يحصّله اضطرارا، والذي يأتيه من أعلى.. ونسأل: وأين إرادة الإنسان إذن؟ نكاد نقول إن الجاحظ يقول بالجبر والاختيار معا..! ثالثا: إن المعتزلة وهم يحاولون أن يدافعوا عن «عدل الله» بإضافة أقوال الإنسان كلها- خيرها وشرها- إلى الإنسان- أقول: إنهم بهذا الدفاع قد أنكروا على الله أن يكون قادرا ومريدا، مطلق القدرة، ومطلق الإرادة، أي ذا قدرة وإرادة شاملتين.. والقدرة والإرادة بهذا الوصف- من صفات الكمال. فكيف لا يتصف الخالق بهما؟ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 ثورة على المعتزلة لهذا لم يرتض كثير من المسلمين آراء المعتزلة، وإن حمدوا للكثير منهم دفاعهم عن الدّين، وكسرهم من حدّة السلبيّة، التي استولت على المجتمع الإسلامى، بعد تلك الفتن الكثيرة، والجراحات القاتلة، التي أصابت الصميم من الجسد الاجتماعى الإسلامى، التي أصابت المسلمين، بعد مقتل الإمام علىّ- كرم الله وجهه- ومصارع أهل البيت- رضوان الله عليهم- وامتحان كثير من صحابة رسول الله، والتابعين، على يد الخلفاء الأمويين والعباسيين على السواء.. فكان الاستسلام للأحداث، والتسليم بالهزيمة هو العزاء لكثير من النفوس، حتى لقد كان لسان حال الناس فى كل أمر هو: هذا ما قضى الله وقدّره! وكان هذا القول- وهو قول حق- يقال فى كل حال داعية إليه، أو غير داعية، يتعزّى به الناس عند كل مصيبة، ويستدعونه عند كل نازلة، دون استحضار هممهم، وبذل جهدهم.. والقول بأن هذا قضاء الله وقدر الله، هو قول حق، ولكن الاستنامة فى ظل هذا القول، وإلقاء كل أخطائنا على القدر، هو الذي لا يرضاه، عقل، ولا يقرّه دين «1» . من أجل هذا قام المعتزلة فى وجه هذه الظاهرة، وتصدّوا لتلك الدّعوة المريضة، ولكن بدلا من أن يقتصدوا فى تقرير مسئولية الإنسان، وفى إبراز شخصيته، وإثبات وجوده مع أحداث الحياة- بالغوا أيّما مبالغة فى هذا الأمر، فبعد أن كان القول الذائع بأن إرادة الله فوق كل شىء، وإرادة العبد لا شىء- أصبح القول عند المعتزلة هو: إن إرادة العبد هى كل شىء، وإن إرادة الله لا شىء!.   (1) انظر بحثنا فى القضاء والقدر فى كتابنا «القضاء والقدر بين الفلسفة والدين» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 وهكذا اندفع المعتزلة زمنا وراء هذه الدعوة، وجروا بها أشواطا بعيدة، حتى وقع الخلاف بينهم، وقام فيهم من يردّ عليهم، ويوقف انطلاق دعوتهم.. وكان «الأشعري» فارس هذه الحلبة، ورجل هذا الميدان!. رأى أهل السنة الأشعري: هو تلميذ أبى علىّ الجبّائى- أحد ائمة المعتزلة. ولكنّه لم يرتض قول المعتزلة فى إطلاق إرادة الإنسان واختياره،.. فكان له رأيه الذي أصبح- فيما بعد- الرأى الذي تقول به الجماعة، (أي أهل السنّة) . يقول «دى بور» فى كتابه تاريخ الفلسفة الإسلامية: «وظهر من بين صفوف المعتزلة رجل كانت رسالته أن يتوسط بين مختلف الآراء، ويقيم بناء المذهب الذي عرف فى الشرق، ثم فى بلاد العالم الإسلامى، بأنه مذهب السنّة.. «استطاع الأشعري أن يجعل لله ما يليق به، دون أن يتحيّف حق الإنسان.. فالإنسان عنده يمتاز بأنه يستطيع أن يضيف إلى نفسه ما يخلقه الله فيه من الأفعال، وأن يعتبر ذلك من كسبه» .. وليست مكانة الأشعري عند جمهور المسلمين فى هذا الرأى الذي قرّره.. كما يقول «دى بور» - فإن هذا الرأى فى ذاته غير واضح المعالم، وغير مقنع فى قضية القدر- كما سنرى- ولكن قيمة الأشعري ومكانته، إنما هى فى خروجه على المعتزلة، ووقوفه فى وجههم، وتصدّيه لهم وهم أوج قوتهم. يقول «طاش كبرى زاده» فى كتابه: «مفتاح السعادة» : «ودفع- أي الأشعري- الكتب التي ألّفها على مذهب أهل السنة، وكانت المعتزلة قبل ذلك قد رفعوا رءوسهم، فجحرهم الأشعري، حتى دخلوا فى أقماع السمسم» !! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 ويعلّق المرحوم الشيخ مصطفى عبد الرازق على هذا بقوله: «إذا كان مذهب الأشعري فى محاربة المعتزلة بمثل سلاحهم، من أساليب النظر العقلي- قد أضعف الاعتزال، وأذلّ سلطانه، فإن السياسة كان لها كبير الأثر فيما ناله الاعتزال من القوة والسيادة أولا، وكان لها أثرها فى نزوله عن عرشه أخيرا» . إن الأشعري، قد وقف فى وجه المعتزلة، فانتزع منهم الإنسان الذي جعلوه فى بعض أحواله خالقا، منفردا بخلق أفعاله وتدبير وجوده، حتى لكأنه يطاول إله العالمين، وينازعه سلطانه- انتزع الأشعري هذا الإنسان الإلهى، ونزل به إلى واقع الحياة البشرية، فجعله «كاسبا» لأفعاله، لا خالقا لها، عاملا بإرادته، ولكن فى ظلّ من إرادة الله ومشيئته.. [كسب الإنسان] فتح الأشعري بنظرية «الكسب» التي أحلها محل «الخلق» الذي تقول به المعتزلة- نقول: فتح بابا دخل منه كثير من الفلاسفة والمتكلمين على هذا الشيء الذي سماه الأشعري كسبا، والذي يراه فى الإنسان، متلبسا بإرادته، معلقا بمشيئته.. وقد عدّ كثير من العلماء والباحثين قول الأشعري لغزا تندّروا به، ووضعوه موضع العقد التي لا يعرف لها حلّ، وذلك أنهم لم يروا فارقا واضحا بين «الخلق» الذي تقول به المعتزلة، وبين «الكسب» الذي يقول به الأشعري، ويراه مناقضا للقول بالخلق. يقول ابن تيمية فى تفنيد نظرية الكسب: «ولا يقول الأشعري: إن العبد فاعل فى الحقيقة، بل كاسب، ولم يذكر بين الكسب والفعل فرقا معقولا، بل حقيقة قولهم- أي الأشعرية- قول جهم: (هو جهم بن معبد، رأس الجبرية) إن العبد لا قدرة له، ولا فعل ولا كسب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 وقد نظم بعضهم هذا شعرا، وقرن نظرية القول «بالكسب» إلى نظرية القول «بالطّفرة» عند النظام، والقول «بالحال» عندهم أبى هاشم: فقال: مما يقال ولا حقيقة عنده ... معقولة تدنو إلى الأفهام الكسب عند الأشعري والحال ... عند البهشمىّ وطفرة النظام «1» والذي جعل الأشعري يقول «بالكسب» هو ما رآه فى الإنسان من إرادة وقدرة على الفعل أو الترك، ثم ما يراه من جهة أخرى من قدرة الله المطلقة الشاملة، وعلمه المحيط بكل شىء، فلم يرتض أن يقول إن العبد خالق لأفعاله، لأن الخلق لله، ولم يقبل أن يجعل العبد آلة مسخرة، لأنه يراه يعمل بإرادة، ويتحرك بقدرة، ويقدم أو يحجم عن تقدير وتفكير.. فلا بد- والأمر كذلك- أن يضيف إلى الإنسان شيئا مما يعمل، لا كل ما يعمل، وسمّى هذا «كسبا» . يقول الأشعري: «والعبد قادر على أفعال العباد.. إذ الإنسان يجد من نفسه تفرقة ضرورية، بين حركات الرّعدة والرعشة، - التي هى حركات اضطرارية- وحركات الاختيار والإرادة.. إن الحركات الاختيارية حاصلة من اختيار القادر.. والمكتسب هو المقدور بالقدرة الحادثة» . وعلى أىّ، فإن نظرية «الكسب» هذه، قد أثارت جوّا من التفكير عند الباحثين فى هذه المشكلة، وكانت معتمد الذين لا يقولون بقول المعتزلة، من أن للإنسان اختيارا مطلقا فى أفعاله، وإنّما للإنسان نوع من الاختيار، ودرجة من الإرادة، حيث يضعون الإنسان فى منزلة بين الاختيار والجبر،   (1) البهشمى: هو أبو هاشم ووالده أبو على الجبائي من شيوخ المعتزلة.. وقد ركب اسمه «أبو هاشم» تركيبا مزجيا «بهشمى» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 فلا هو مختار مطلق، ولا هو مجبر ملزم.. إن له إرادة، ولكنها إرادة مقيدة بأكثر من قيد. ولقد صار الأشعري بقوله هذا زعيما لحركة أطلق عليها لفظ «الأشاعرة» نسبة إليه، ثم أصبحت هذه الحركة معبرة عن رأى أهل السنة. وقد ظاهر هذه الحركة كثير من علماء السنّة وفقهائها.. منهم إمام الحرمين.. أبو المعالي الجويني، والقاضي أبو بكر الباقلاني، وفخر الدين الرازي، والإمام الغزالي، ولسان الدين بن الخطيب.. وكثير غيرهم. حركة الأشاعرة يدور رأى الأشاعرة- كما أشرنا من قبل- على القول بأن الإنسان فى «منطقة» حرام، بين الجبر والاختيار.. فالإنسان مختار فى قالب مجبر، وأنه أشبه براكب سفينة تمخر عباب المحيط، فهو حرّ مختار يسير كيف يشاء، وأين يشاء، داخل هذه السفينة، ولكنه مجبر مسيّر هو وسفينته بعوامل خارجية تحيط به وبالسفينة.. كالأنواء، والعواصف وغيرها.. مما يتصل بسلامة السفينة وقوة احتمالها.. كذلك الإنسان فى سفينة الوجود! هو حرّ مطلق، ولكنه مقيد بالنظام العام للوجود! فالأشاعرة هنا قريبون من الفلاسفة الغربيين القائلين بنظرية الاتفاقية، أو الظروف والمناسبات.. ومعناها أن كل فعل إنما هو فى الحقيقة لله، ولكنه يظهر على النحو الذي يظهر فيه، إذا تحققت ظروف خاصة: إنسانية، أو غير إنسانية، حتى لكأنّما يخيل للإنسان أن الظروف هى التي أوجدت هذا الفعل.. والأشعري، يرى ألا تأثير للقدرة الحادثة فى الأحداث، وإنما جرت سنّة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 الله بأن يلازم بين الفعل المحدث وبين القدرة المحدثة له، ويسمّى هذا الفعل كسبا، فيكون خلقا من الله تعالى، وكسبا من العبد، فى متناول قدرته واستطاعته.. هذا هو المحتوى الإجمالى لمذهب «الأشاعرة» غير أن لكل صاحب قول فى هذا المذهب اتجاها خاصا فى تقرير هذه القضية، وتحريرها.. كما سنرى فى عرض هذه النماذج من المقولات. لسان الدين بن الخطيب ورأيه فى الكسب يرى لسان الدين بن الخطيب، أن الكسب فعل يخلقه الله فى العبد، كما يخلق فيه القدرة، والإرادة، والعلم.. فيضاف الفعل إلى الله «خلقا» لأنه خالقه، وإلى العبد «كسبا» لأنه محلّه الذي قام به.. يقول ابن الخطيب: «وإذا كانت العرب تقول: حرّكت القضيب فتحرك، فتجعل الحركة بين فاعلين، حركة للمتحرك، وفعلا للمحرّك، فذلك- أي ما يصدر عن الإنسان- أقرب، لوجود القصد، والعلم، والقدرة.. فى محيط الإنسان.. ثم إن الطاعة والمعصية للعبد من حيث الكسب. ولا طاعة ولا معصية- أي للعبد- من حيث الخلق! «والخلق لا يصح أن يضاف إلى العبد، لأنه إيجاد من عدم، والفعل موجود بالقدرة القديمة، لعموم تعلق القدرة الحادثة بها.. فالقدرة الحادثة تتعلق ولا تؤثر.. وهذه- أي القدرة الحادثة- تصلح للتأثير لولا المانع، وهو وجود القدرة القديمة، لأنهما إذا تواردا- أي اجتمعا: القدرة القديمة والحادثة- لم يكن للقدرة الحادثة تأثير!!» فابن الخطيب، يرى للإنسان قصدا، وعلما، يلقى بهما ضروب الأمور الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 فى الحياة.. فهذا جانب حر، أو منطقة حرّة فى كيان الإنسان.. ولكنه يرى من جهة أخرى أن الأفعال كلها مخلوقة لله، بإرادة أزلية سابقة شاملة، وأن إرادة الإنسان لا تؤثر فى القدرة القديمة.. فالإنسان محكوم عليه أن ينفّذ ما وقع فى إرادة الله، وأن إرادة الإنسان، وقصده، وعلمه- كل هذا، لا يغيّر من المقدّر عليه شيئا.. فالإنسان حر إلى أن يفرغ من الفعل الذي قدّر عليه بإرادة سابقة أن يقع على يديه. وتسأل: ما قيمة هذه الحرّية مع ما سبق من إرادة الله وقدرته؟ إن الإنسان فى ظاهر الأمر يبدو حرّا طليقا، ولكن قوة غير ظاهرة هى التي تقوده إلى ما سبق به علم الله، وقضت به إرادته.. ومرة أخرى: ما قيمة هذه الحريّة؟ أتراها تدفع شيئا مما قضى به الله وقدّره؟ والجواب: كلا.. إنها لا تدفع قضاء ولا تردّ قدرا.. ولكنها حرية تتيح للإنسان أن يبرز ذاته، وأن يعمل قواه كلها، وأن يفرض وجوده على الحياة، وأن يبسط سلطانه على الأشياء، وإن تفلّتث منه وخرجت من يديه! وذلك شىء ليس بالقليل فى وجود الإنسان الذي لا قيمة له بغير هذه الحرية التي تمنحه الاستعلاء على الأشياء، وتريه من نفسه أنه قادر، مستطيع، عالم، مريد.. وإن لم يكن قادرا، ولا مستطيعا، ولا عالما، ولا مريدا. إمام الحرمين ورأيه فى الكسب هو أبو المعالي، عبد الملك بن عبد الله الجويني، المعروف بإمام الحرمين (توفى سنة 478 هجرية) . وقد نزع بنظرية الكسب منزعا آخر.. إنه يطلق حرّية الإنسان من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 جانب، ويربطه بالأسباب الخارجة عن محيطه من جانب آخر.. ثم يجعل أفعال الإنسان- تبعا لهذا- قسمة بين إرادته وبين الأسباب الملازمة. يقول: «نفى القدرة والاستطاعة عن الإنسان، مما يأباه العقل والحسّ.. فلا بدّ إذن من نسبة فعل العبد إلى قدرته حقيقة، لا على وجه الإحداث والخلق.. فإن الخلق يشعر باستقلال فى إيجاد الفعل من العدم، وذلك من شأن الله وحده.. «والإنسان كما يحسّ من نفسه الاقتدار، يحسّ من نفسه أيضا عدم الاستقلال.. فالفعل يستند وجودا إلى القدرة- أي القدرة الإنسانية. «والقدرة تستند وجودا إلى سبب آخر يكون نسبة القدرة إلى ذلك السبب كنسبة الفعل إلى القدرة! «وكذلك يستند سبب إلى سبب، حتى ينتهى إلى مسبب الأسباب.. فهو- أي الله- الخالق للأسباب ومسبباتها، المستغنى على الإطلاق.. على خلاف الأسباب، فإن كل سبب مستغن من وجه، محتاج من وجه، والباري تعالى، هو المطلق الذي لا حاجة له ولا افتقار.» ورأى إمام الحرمين- كما ترى- غير صريح فى حرّية الإنسان واضطراره، إنه يضع الإنسان فى منطقة الذبذبات الاختيارية المقيدة فى مجال الاضطرار.. انظر: الفعل يستند وجودا إلى القدرة، أي القدرة التي تحمل الإنسان على اختيار فعل دون فعل.. وهذا واضح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 والقدرة تستند وجودا إلى سبب! ومعنى هذا أن القدرة التي يواجه بها الإنسان أىّ أمر هى وليدة سبب، وهذا السبب الذي به أصبح الإنسان ذا قدرة، يتولد من أسباب كثيرة، بعضها وراثي، وبعضها كسبى، وهى فى الواقع كل كيان الإنسان، الذي ليس للإنسان- فى الواقع- أثر كبير فى تكييفه. فهذه الأسباب التي توجد القدرة، هى موضع النظر فى هذه القضية.. فمن أوجدها وقدّرها؟ هذا هو أساس المشكلة التي يطلب علاجها.. ثم أليس هذا هو رأى «الجاحظ» المعتزلي، الذي يقول: إن أفعال الإنسان كلها داخلة فى نسيج حوادث الطبيعة، وإن إرادة الإنسان هى القوة العاملة فيه، وإن هذه الإرادة هى فرع العلم، وثمرة من ثمراته، وإن العلم اضطراري يأتى من أعلى؟ فالإنسان بمقتضى هذا القول، عند إمام الحرمين، مجبر فى صورة مختار، أو مختار فى حال مقيد! رأى الغزالىّ في الكسب يذهب الغزالي فى قضية القدر مذهب التسليم، فيأخذ بظاهر آيات الكتاب، ولا يرضى لعقله الفلسفي أن يتناول هذه القضية. يقول الغزالي: «الله تعالى خلق القدرة والمقدور جميعا، وخلق الاختيار والمختار جميعا.. فأما القدرة فوصف للعبد، وخلق للرب، وأما الحركة، فخلق للربّ، ووصف للعبد وكسب له» . ومعنى هذا- كما يقول الغزالي- أن الله خالق كل شىء.. القدرة والمقدور الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 جميعا.. فليس للعبد شىء إذن، إن له بالعمل نوعا من الصلة، وهو الكسب الذي يقول به الأشعري! ثم يقول الغزالي: «واعلم أن من ظنّ أن الله تعالى أنزل الكتاب، وأرسل الرسل، وأمر ونهى ووعد وتوعّد، لغير قادر مختار- فهو مختلّ المزاج، محتاج إلى علاج» !! وهذه حجة اعتمد فيها الغزالي على النقل، أكثر من اعتماده على العقل.. رأى الفارابي فى الكسب يقول الفارابي: «وللنفس بطبيعتها نزوع، ولمّا كانت تحسّ وتتخيّل فلها إرادة كسائر الحيوان، غير أن الاختيار للإنسان فقط.. لأن الاختيار يقوم على الرويّة، وميدانه ميدان العقل الخالص.. فالاختيار متوقف على أسباب من الفكر.. فكان الاختيار والاضطرار فى وقت واحد.. لأنه- أي العقل- بحسب أصله الأول، مقدّر فى علم الله. ثم يقول: «والاختيار الإنسانى، إذا فهم على هذا النحو لا يستطيع أن يقهر الشهوة إلا قهرا ناقصا، لأن المادة تقف فى سبيله، وعلى هذا لا تكتمل حرّية النفس الناطقة إلا إذا تحررت من قيود المادة، أعنى إذا صارت النفس عقلا!» وواضح أن رأى الفارابي يتفق مع رأى إمام الحرمين.. لأن الاختيار الذي يقول به، متوقف على أسباب من الفكر.. والعقل مقدّر فى علم الله، والإنسان إنما يعمل بما وهبه الله من عقل.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 رأى الفيلسوف محمد إقبال ويقول الفيلسوف الباكستانى محمد إقبال فى هذا الموضوع: «ولا شكّ أن ظهور ذوات لها القدرة على الفعل التلقائى، ومن ثمّ يكون فعلها غير متلبّأ به- يتضمن تحديدا لحرية الذات المحيطة بكل شىء» يريد إقبال أن يقول: إن إرادة الإنسان التي تخلق من تلقاء نفسها، فيها تحديد لإرادة الله المطلقة، إذ كانت هناك إرادات تعمل مستقلّة عن تلك الإرادة الشاملة.. ثم يقول إقبال: «ولكنّ هذا التحديد لم يفرض على الذات الأولى- ذات الله- من خارج، بل نشأ عن حريتها الخالقة التي شاءت أن تصطفى بعض الذوات المتناهية- أي ذوات البشر- لتقاسمه.. فى الحياة، والقوة، والاختيار!» . ومعنى هذا- كما يقول إقبال- أنه لا تعارض بين إرادة الله وإرادة الإنسان، فالله سبحانه بإرادته الشاملة خلق إرادات تعمل فى حدود معينة، هى حدود الإمكان البشرى. ثم يقول إقبال: «وربّ سائل يقول: ولكن كيف يكون فى الإمكان التوفاق بين التحديد، وبين القدرة المطلقة؟ ويجيب على هذا بقوله: «وكل فعل، سواء أكان متصلا بالخالق، أم غير متصل به، هو نوع من التحديد، يستحيل بغيره أن نتصوّر الله ذاتا فعّالة متحققة الوجود فى الخارج.. ولو أننا تصورنا القدرة المطلقة تصورا مجردا، لكانت مجرد نوع من قوة عمياء، متقلبة الأهواء، ولا حدّ لها.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 «والقرآن يصوّر الطبيعة تصويرا واضحا محددا، بوصفها عالما يتألف من قوّى يتعلق بعضها ببعض، وعلى هذا، فهو- أي القرآن- يعتبر قدرة الله المطلقة وثيقة الصلة بحكمته الإلهية، ويرى أن قدرة الله غير المتناهية، تتجلّى لا فيما هو متعسف صادر عن الهوى، وإنما فى المتواتر، المطرد، المنظم» . يريد إقبال أن يقول: إن كل الحوادث الواقعة فى الوجود، هى فى الواقع تحديد لقدرة الله، لأنها- أي القدرة- تجرى بما قتضته الحكمة الإلهية التي أودعت فى الوجود نظاما مطردا، والنظام فى ذاته قيد من غير شك! ثم يقول إقبال فى موضع آخر: «فالمعصية الأولى للإنسان- معصية آدم- كانت أول فعل- أي للإنسان- تتمثل فيه حرّية الاختيار، ولهذا تاب الله على آدم، وغفر له.. «وعمل الخير لا يمكن أن يكون قسرا، بل هو خضوع عن طواعيّة للمثل الأخلاقى الأعلى، خضوعا ينشأ عن تعاون الذوات الحرة المختارة، عن رغبة ورضى. «والكائن الذي قدّرت عليه حركاته كلها، كما قدرت حركات الآلة، لا يقدر على فعل الخير.. وعلى هذا فإن الحرية شرط فى عمل الخير.. «ولكن السّماح بظهور ذات متناهية لها القدرة على أن تختار ما تفعل بعد تقدير القيم النسبية للأفعال الممكنة لها- هو فى الحق مغامرة كبرى، لأن حريّة اختيار الخير، تتضمن حرية اختيار عكسه.. «وكون المشيئة الإلهية اقتضت ذلك، دليل على ما لله من ثقة فى الإنسان..» (ولقد بقي على الإنسان أن يبرهان على أنه أهل لهذه الثقة!) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 286 «وربما كانت مغامرة كهذه، هى وحدها التي تيسّر الابتلاء، والتنبيه للقوى الممكنة لوجود «خلق» «فى أحسن تقويم» ثم ردّ إلى «أسفل سافلين» وكما يقول القرآن: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً» .. وهذا- فى رأينا- أعدل رأى فى هذه القضية!! ويعجبنى فى هذا المقام رأى للفيلسوف الأمريكى «رويس» يصوّر به الصلة بين الله الإنسان، وهى صلة- كما يراها الفيلسوف، تجعل لله- سبحانه- القدرة المطلقة، كما تجعل للإنسان قدرة عاملة داخل قدرة الله.. ويضرب الفيلسوف لهذا مثلا محكما من الرياضيات، التي تعتبر أكثر المعارف دقة وانضباطا.. والمثل الذي ضربه «رويس» هو أنه وضع لله سبحانه وتعالى دلالة من الأعداد، هى سلسلة- تبدأ بالواحد، ولا تنتهى.. هكذا: 1، 2، 4، 5، 6، 7 ... إلى ما لا نهاية.. وهو الله سبحانه فهذا هو المطلق الذي يشتمل كل شىء.. أما الموجودات، فقد صورها «رويس» فى سلاسل عددية على هذا النحو الآتي: - 2- 4- 8- 16 ... إلى ما لا نهاية. 3- 9- 27- 81 ... إلى ما لا نهاية. 5- 25- 125- 625 ... إلى ما لا نهاية. 7- 49- 343- 2401 ... إلى ما لا نهاية. وهكذا تتولى سلاسل الأعداد إلى ما لا نهاية أيضا.. وكل عدد من هذه الأعداد يمثل فرادا من أفراد الناس.. ويلاحظ فى هذه الأعداد الإنسانية: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 أولا: أنها داخلة جميعها فى السلسلة الأولى، إذ جميع ما فيها من أعداد تشتمل عليه السلسلة الأولى «المطلق» . وثانيا: أنها تتميز بطابع فريد، يجعلها وحدة قائمة بذاتها، ليس بينها وبين غيرها اتفاق مطلق. هذا المثل يعطينا تصورا واضحا للصلة التي بين الإنسان وبين الله، من جهة، وبين الإنسان وبين غيره من الناس من جهة أخرى. ففى كل سلسلة إنسانية شىء من السلسلة الأولى «الله» أو المطلق، وهى واقعة فى مضمونها.. وهذا يعنى أن للإنسان ذاتية خاصة، وإن كانت تلك الذاتية ضمن مشتملات الذات الأولى، ومعنى هذا أيضا أن الإنسان مطلق من جهة، ومقيد من جهة أخرى.. ثم إن الاختلاف بين هذه السلاسل يعنى أن الناس لا بد أن يكونوا مختلفين فيما بينهم.. كل إنسان كون مستقل بذاته، داخل هذا الكون العظيم «المطلق» . والفيلسوف «وليم چيمس» يحقق ذاتية الإنسان، مع وجود الله.. فلا يلغى إرادة الإنسان مع إرادة الله، ويرسم لهذا صورة قريبة من الصورة التي رسمها «رويس» .. ولكنها صورة كلامية، وليست عددية. يقول «چيمس» : «الإله الذي هو عقل، يشمل سائر العقول، وليس منفصلا عن الكون انفصال الخالق عن خلقه، كما تصورت الديانات التقليدية، كلا، ولا هو حالّ فى الوجود كله، كما تصورت فلسفة وحدة الوجود. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 «ولكن إله بينه وبين سائر العقول الفردية قسط مشترك، هو الاشتراك فى إدراكات بعينها، لكنه فى الوقت نفسه يتميز بفردية مستقلة، كما يتميز كل فرد من الأفراد الصغرى بفرديته المستقلّة.. فالصورة، أقرب إلى سلّم متدرج من عقول.. فعقل أكبر من عقل، لأنه يدرك إدراكات هذا العقل ثم يزيد عليها، ثم عقل ثالث أكبر من هذا العقل، فرابع أكبر.. وهكذا دواليك صعودا، دون أن يتحتم أن يكون هناك عقل مطلق يسع كل شىء.. فالعقل الأعلى فيه كل ما فى الأدنى مع الاحتمال دائما بأن يكون هناك ما هو أعلى» . ومنطق هذا القول يقضى بأن لا تنتهى درجات السلّم العقلي عند نهاية ليس بعدها شىء، بل هناك احتمال دائما بأن يكون هناك ما هو أعلى.. ومع وجود هذا الاحتمال، فإن الواقع المحقق هو أن هناك عقلا أعلى يسع العقول جميعا، وهو الذي يمكن أن يطلق عليه العقل المطلق، مادام ليس هناك ما هو فوقه. فإذا وقع الاحتمال المتوقع، وهو ظهور عقل أعلى، كان هو العقل المطلق.. وهكذا. ولعل ماحدا بوليم چيمس إلى هذه الفكرة التي تجعل العقول متصاعدة، دون أن تضيع فى ذلك شخصية العقل الأدنى فى العقل الأعلى- هو أنه أراد أن يحتفظ لكل فرد بإرادته المستقلة، لتقع عليه مسئوليته الخلقية.. وهذا ما يجعل لكفاح الأفراد نحو الخير معنى، لأنه يجعل فى مستطاع الأفراد تغيير ما هو كائن، إذا كان ذلك الكائن شرا، ليصبح أفضل مما هو وأكمل.. الله والإنسان.. مرة أخرى لا يستطيع عاقل أن ينكر إرادة الإنسان المستقرة فى كيانه، والتي بها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 يتعامل مع الحياة، فيقبل على الشيء أو يعرض عنه، حسب تقديره وإرادته.. ولا يستطيع مؤمن بالله أن ينكر قدرة الله الشاملة، وإرادته النافذة، وأن كل شىء بيد الله، وتحت مشيئته.. هذان الأمران يكاد يتفق عليهما جميع المؤمنين بالله، وهما: أن لله إرادة وقدرة، وأن للإنسان إرادة وقدرة.. ولكن الخلاف يقع ويشتد بين المؤمنين بالله، حين ينظر الناظرون منهم إلى الإرادتين معا، وإلى القدرتين معا، فى مجال التصريف والعمل.. وقد رأينا ألوانا مختلفة من التفكير، ومذاهب متعددة من الرأى، فى تقدير إرادة الإنسان وقدرته، إلى جانب إرادة الله وقدرته.. فذهب قوم إلى أن إرادة الإنسان وقدرته لا أثر لهما إزاء إرادة الله وقدرته، بينما ذهب أقوام إلى عكس هذا، فقالوا: إن إرادة الإنسان لا تلغيها إرادة الله، ولا تعطّل عملها.. فالإنسان حرّ مختار يفعل ما يشاء، كيف يشاء. وقد كان يمكن أن يمضى القول بهذا الرأى أو ذاك، أو بالرأيين معا، دون أن يبدو أثر ظاهر فى واقع الحياة إذا انتقلت من رأى إلى رأى.. فسيّان أن يكون الإنسان فى واقعه يعمل فى أمور مطلقة يخلقها كيف يشاء، ويدبّرها حيث يريد، أو فى أمور قدّرت من قبل، وأخذت صورتها كاملة قبل أن يلتقى بها- مادام الإنسان لم يؤت قدرة على كشف الغيب والتحقق من نتائج الأعمال قبل معالجتها ووقوعها.. إن الإنسان يعالج أمور الحياة حسب تقديره، ويمضيها حسب إرادته، ثم تجىء نتائجها التي لا يعلم علمها إلا بعد أن تقع.. وكون الإنسان يعمل فى أمور قدّرت، أو فى أمور لم تقدّر، فإن ذلك لا يؤثر على إرادته العاملة، ولا يتدخل تدخلا محسوسا فى تدبيره أموره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 أقول: إن القول بأن الإنسان مختار أو مجبر، والقول بأنه يعمل فى أمور مقدرة أو غير مقدرة- إن هذا القول أو ذاك لا يظهر لهما أثر إلا إذا نزلت أعمال الإنسان منزل الحساب والجزاء، حين يحاسب على عمله، فيجزى عن الخير خيرا، وعن الشر شرا. هنا يتغير الموقف، ويصبح للقول باختيار الإنسان أو جبره، وللقول بالقدر أو بألّا قدر- نتائج خطيرة، يتعلق بها مصير الإنسان، وتتقرر بها سعادته أو شقاؤه فى الدار الآخرة.. فإذا قيل إن الإنسان حر مختار، كان معنى هذا أنه مسئول عن عمله الحسن أو السيّء، وأنه سينال ثوابه وعقابه على ما قدم من عمل، ولا حجة له أمام الله .... وإذا قيل إنه مجبر مكره، وإنه يعمل بإرادة غالبة، وبقدر سابق، كان معنى هذا ألّا تبعة عليه، وبالتالى ألا ثواب على حسن، ولا عقاب على سيىء! ولكن الذي يقال هو غير هذا.. فهناك دار الآخرة، وفيها ثواب وعقاب، وجنة للمؤمنين المتقين، ونار للعصاة المذنبين. وهنا تجىء التساؤلات والاعتراضات.. ما ذنب الإنسان؟ وكيف يسأل عن أعمال مقدورة، محكوم عليه أن يعملها؟ .. وهنا تبرز مشكلة القضاء والقدر، وتصبح هذه المشكلة فى مجال النظر والامتحان. وهنا تتفتح للكثير من الناس أبواب المنازعة فى تدبير الله وفى حكمته، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 وفى قضائه وقدره.. فمن مستسلم لحكمة الله وتدبيره، وقضائه فيه، مؤمن بأن ما أصابه من خير أو شر فهو بقضاء الله وقدره، راض بما قسم الله.. ومن متخبط متسخّط، يضيف إلى نفسه الأعمال الطيبة الناجحة، ويرمى القدر بما لا يرضيه وما لا يرضى عنه من الأعمال.. وقد كان إبليس- لعنه الله- أول من احتج «بالقدر» بعد أن عصى أمر ربه، فلم يسجد لآدم كما أمره، فلما حل غضب الله عليه، لم يرجع على نفسه باللأئمة، ولم يستشعر الندم فيتوب كما تاب آدم، بل غلبت عليه شقوته، فقال: «رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ» . وقد تلقى كثير ممن غلب عليهم الشقاء من بنى آدم، هذه الحجة الضالة، عن إبليس، فتخلّوا عن كل خير، وغرقوا فى كل ضلال، وبين أيديهم هذه الحجة الخادعة، التي يرددونها عند كل قولة ناصح، ينصح لهم، ويدعوهم إلى الإيمان والهدى، فيقولون ما حكاه الله عنهم فى قوله تعالى: «لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ» (35: النحل) وقوله: «سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا» (148: الأنعام) وقوله سبحانه: «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ» (47 يس) انظر كيف يفترون على الله الكذب؟ يؤمنون بقضائه وقدره، ويحتجون بمشيئته، ثم يكفرون به؟ فالذين يحتجون بالقدر هذا الاحتجاج، لا يؤمنون بالله، ولو آمنوا بالله لآمنوا بقضائه وقدره، ولامتثلوا أوامره، واجتنبوا نواهيه.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 فالقول بأن لو شاء الله ما أشركوا قول حق، ولكنه لا يصدر عن القائلين به لتقرير عموم إرادة الله وشمول مشيئته، ولو كان هذا متوجّه قولهم لكان ذلك إيمانا خالصا.. فالله سبحانه وتعالى يقول: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً» (99: يونس) ولكنهم يقولون هذا القول فى سفسطة خبيثة، تهوى بهم إلى مهاوى الهالكين.. ولهذا أنكر الله عليهم قولهم الذي قالوه فى مشيئته، لأنهم- كما يقول ابن القيم- «لم يذكروا ما ذكروا إثباتا لقدرة الله وربوبيته ووحدانيته، وافتقارا إليه، وتوكلا عليه، ولو قالوا ذلك لكانوا مصيبين، وإنما قالوه معارضين لشرعه، ودافعين لأمره، فعارضوا أمره وشرعه ودفعوه بقضائه وقدره.. أباطيل بعض المتصوفة ولبعض المتصوفة فلسفة مريضة، تذهب بهم هذا المذهب الأعوج الأهوج، الذي يقود إلى الضلال والهلاك.. إنهم ينسبون إلى الله كل شىء من طاعات وسخافات معا.. إن كل ما يفعلونه حسن، لأنهم- حسب تصورهم المخبول- لا يعملون شيئا، وإنما هم ينفذون إرادة الله ومشيئته.. فكل أعمالهم طاعات، وكل سخافاتهم قربات، حتى ليقول قائلهم مخاطبا ربه فى غير حياء: أصبحت منفعلا لما تختاره ... منىّ، ففعلى كله طاعات! فهذا الغبي الأحمق، هو منفعل- كما يقول- وليس فاعلا.. وليته انفعل بالطاعات.. وإنما هو منفعل بما يمليه عليه شيطانه الذي يوسوس له حين يفطر رمضان! وهو منفعل بمشيئة الله، حين يترك الصلاة عمدا، أو حين يشرب الخمر، ويأتى كل فاحشة جهارا فى غير حياء! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 هو فى تلك الأحوال- كما زيّن له الشيطان- قائم فى محراب العبادة، لأنه ينفذ إرادة الله ويحقق مشيئته! «كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (12 يونس) طريق المؤمنين أما المؤمنون حقا فمدعّوون إلى الإيمان بقضاء الله وقدره.. فالله خالق كل شىء، وهو على كل شىء قدير، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.. عن أبى هريرة- رضى الله عنه قال: لما نزل قوله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم: «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ» قالوا- أي المؤمنون «الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن لم نشأ لم نستقم» فأنزل الله عز وجل: «وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» . وعن ابن عباس- رضى الله عنهما- فى قوله تعالى: «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ، فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ» .. قال: «وكذلك خلقهم حين خلقهم: مؤمنا وكافرا، وسعيدا وشقيا، وكذلك يعودون يوم القيامة، مهتدين وضلّالا» . وقال مالك بن أنس: «ما أضلّ من كذب بالقدر، لو لم يكن عليهم حجة إلا قوله تعالى: ( «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» لكفى بها حجة) . وعن أبى حازم، قال: قال الله عز وجل «فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها» .. أي فالتقىّ ألهمه التقوى، والفاجر ألهمه الفجور» . وفوق هذا كله، وقبل هذا كله، قول الرسول الكريم: «لا يؤمن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 أحدكم حتى يؤمن بالقدر خيره وشرّ، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه» . وكان الحسن البصارى- رضى الله عنه- يقول: «من كذّب بالقدر فقد كذّب بالحق، إن الله عز وجلّ، قدّر خلقا، وقدّر أجلا، وقدّر بلاء، وقدّر مصيبة، وقدّر معافاة.. من كذب بالقدر فقد كذّب بالقرآن» . فالإيمان بالقدر، والتسليم بالمقدور والرضا به، هو الصميم من الإيمان، وهو دعوة الإسلام، وهو سبيل المؤمنين، وبغير هذا لا ينعقد إيمان، ولا يكمل دين. يقول ابن تيمية: «وما قدّر من المصائب يجب الاستسلام له، لأنه من تمام الرضا بالله ربّا.. وأما الذنوب، فليس للعبد أن يذنب، وإذا أذنب فعليه أن يستغفر ويتوب.. فيتوب من المعايب، ويصبر على المصائب.. «فإذا عمل العبد بطاعة الله عزّ وجل علم أنها بتوفاق الله، فيشكره على ذلك ويحمده، وإذا عمل بمعصية ندم على ذلك، وعلم أنها بمقدور جرى عليه، فذمّ نفسه، واستغفر ربه.. وليس لأحد على الله حجة، بل لله الحجة على خلقه: «قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ، فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ» .. فالله سبحانه وتعالى خلق الخلق كما شاء، فجعلهم شقيا وسعيدا، قبل أن يخرجهم إلى الدنيا: «لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ» (23: الأنبياء) . وعلى هذا، فمطلوب من العبد أن يقول فى كل ما يقع له، أو يقع منه: هذا بقضاء الله، ومشيئة الله.. يقول ذلك عن يقين لا شك فيه، فذلك هو الإيمان الذي يشدّ عزمات الإنسان فى الشدائد، ويعينه على الحق، ويجعل منه إنسانا غير ضائع فى الحياة.. إن زلّ فذلك بقدر سابق، ولكن يجب أن يرى نفسه فى هذه الحال فى موقف لا يرضى الله، فيبادر بالانسحاب من هذا الموقف بكل ما لديه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 من قوة وعزم وإيمان، مستعينا بالله، تائبا إليه، نادما على ما وقع منه، فتلك هى سبيل المؤمنين، الذين يقول الله فيهم: «وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ» . (135: آل عمران) . يقول ابن تيمية: «كل من احتجّ بالقدر فإنه متناقض.. فإنه لا يمكن أن يدع كل آدمىّ يفعل به ما يشاء.. فلا بد إذا ظلمه ظالم أن يدفع هذا القدر، وأن يعاقب الظالم بما يكفّ من عدوانه، وعدوان أمثاله، فيقال له- أي للمحتج بالقدر-: إن كان القدر حجة، فدع كل أحد يفعل بك ما يشاء، وإن لم يكن حجّة، فبطل قولك: إن القدر حجة..» . ثم يقول: وأصحاب هذا القول الذين يحتجون بالحقيقة الكونية (أي القدر) لا يطردون هذا القول ولا يلتزمونه، إنما هم يتبعون آراءهم وأهواءهم، كما قال فيهم بعض العلماء: «أنت عند الطاعات قدرىّ، وعند المعصية جبرىّ» اه إن الأخذ بالأسباب، ودفع الأقدار، هو مما يقوم عليه نظام الحياة، وتشير به الحكمة، ويقضى به العقل، ومن ترك الأسباب فقد ألغى عقله، وأفسد وجوده، وأدخل الخلل على حياته.. إن الحيوان الأعجم لا يرضى هذه المنزلة التي صار إليها من يحتج بالقدر.. إن الحيوان يدفع الجوع بالأكل الذي يطلبه ويسعى إليه، وينال منه، ويدفع الظمأ بالماء، برد موارده، ويلتمس مواطنه، ويمدّ فمه إليه، وبتقى العدوّ المتربص به، بكل سلاح يقدر عليه، فيقاتل بقرونه، وأنيابه، ومخالبه، وأظفاره.. وبكيانه كله. وإن هو رأى من نفسه العجز عن لقاء عدوّه ومدافعته، طلب النجاة.. فرارا، وهربا. فالإنسان الذي يعطّل جوارحه، ويميت مشاعره، ويلقى بنفسه فى منامة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 العجز والتواكل، محتجا بأن ما قدّر له سيقع، سواء سعى أم لم يسع- هذا الإنسان ليس أهلا لأن يعيش فى الناس، أو يحسب فى الأحياء.. ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجرى على اليبس سأل بعض الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله: أرأيت أدوية لتداوى بها، ورُقى نسترقى بها، وتقى نتقى بها.. هل تردّ من قدر الله شيئا؟ فقال الرسول صلوات الله وسلامه عليه: «هى من قدر الله» . فالأسباب من قدر الله، كما أن المسببات من قدر الله.. فمن لم يأخذ بالأسباب إلى مسبباتها فقد آمن وكفر، وذلك نفاق أشد من الكفر. يقول جعفر الصادق: «إن الله تعالى أراد بنا شيئا، وأراد منّا شيئا، فما أراده بنا طواه عنّا، وما أراده منا أظهره لنا، فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عما أراده منا؟» وذلك هو مقطع القول فى تلك القضية الشائكة! الآيات: (112- 113) [سورة الأنعام (6) : الآيات 112 الى 113] وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) التفسير: «وكذلك» أي ممّا قضت به مشيئة الخالق جل وعلا، أن جعل لكل نبىّ عدوا من شياطين الإنس والجنّ، أي من فسقة الإنس والجنّ، وأهل الفساد منهم، فهؤلاء هم الظلام الذي يتصدى لنور النبوّة، ويزحمها، ويقيم فى وجه الذين يتجهون إليها ستارا من دخان الضلال، يحجب الرؤية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 عنهم، ويعمّى سبل الهداية والإيمان عليهم، إلا من عصمه الله، وثبّت قدمه على طريق الحق. وهكذا الحق دائما، لا تخلص طريقه من المزالق والعثرات التي يقيمها الضّلال على مسالكه، وهذا مما يزيد الحق قوة فى تمرّسه مع الضلال وصراعه معه، ثم صرعه له آخر الأمر. وفى قوله تعالى: «يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً» إشارة إلى التفاهم والتلاحم القائم بين شياطين الإنس وشياطين الجن، وإن كانا من عالمين مختلفين.. إلا أنهما يجتمعان على الباطل، ويغتذيان من الضلال. والإيحاء هو الوسوسة من شياطين الجن، والقبول لهذه الإيحاءات من شياطين الإنس. و «زخرف القول» باطله، وزائفه.. إذ الباطل قبيح المنظر، شائه الوجه، كريه الريح، لا يقبل أحد عليه إلا إذا موّه ببريق خادع، وطلى بطلاء لامع زائف، يخدع به الأغرار، ويغوى به السّفهاء. وقوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ» الضمير فى قوله تعالى: «ما فعلوه» يعود إلى هذا الزخرف من القول الذي يوحى به شياطين الإنس والجن بعضهم إلى بعض، وهو محض باطل وزور وافتراء.. وقوله تعالى: «وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ» إشارة إلى أن هذا الباطل الذي يوحى به شياطين الإنس بعضهم إلى بعض- إنما زخرفه هؤلاء الشياطين، وزينوه، وألبسوه تلك الصورة المموهة، لتصفى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، أي لتميل إليه قلوبهم بما استهواها به بريقه ولمعانه «وليرضوه» ويقبلوا عليه، ويأنسوا به «وليقترفوا» بهذا الباطل «ما هم مقترفون» من شرك وكفر، وما يزيّن لهم به الشرك والكفر.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 الآيات: (114- 117) [سورة الأنعام (6) : الآيات 114 الى 117] أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) التفسير: قوله تعالى: «أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا» هو مما أمر الله سبحانه وتعالى النبىّ أن يلقى به الكافرين والمشركين، منكرا أن يتخذ غير الله حكما يتلقّى منه الهدى والإيمان، على حين أنهم يتلقون الكفر والضلال مما يوحى به إليهم شياطين الانس والجنّ.. فهؤلاء الشياطين هم الحكم الذي يحتكمون إليه. ويلاحظ هنا أن هذا القول الذي يقوله النبىّ فى هذا المقام لم يصدّر بأمر الله «قل» الذي اعتاد النبىّ أن يؤمر به فى كلّ قول يقوله من قبل الله سبحانه وتعالى.. فما السرّ فى أن جاء مقول القول هنا مجردا عن القول؟. والجواب- والله أعلم- أن هذا القول- وإن كان من عند الله سبحانه وتعالى، هو جدير بكل إنسان عاقل أن يقوله، فهو من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى أمر سماوى به، يلفت إليه، وينبّه له. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ» أي أن أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، يعلمون أن هذا القرآن هو من عند الله، وأنه هو حق منزّل من رب العالمين.. وقوله تعالى: «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» استبعاد للنبى الكريم أن يكون من هؤلاء الذين يشكّون فى آيات الله فيجادلون فيها، ولا ينزلون على أحكامها. والمراء، والامتراء: الجدل العقيم، القائم على الهوى. قوله تعالى: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا» .. كلمة الله هى كلمات الله، وآياته المنزلة على النبىّ، وتمت، أي استوفت غاية الكمال والتمام من الصدق والعدل.. أي أن آيات الله التي تلقاها النبىّ من ربّه، هى الغاية فيما هو صدق، وفيما هو عدل.. فكل ما جاءت به كلمات الله هو الصدق المطلق، الذي لا يشوبه كذب أبدا، ولا يأتيه باطل أبدا، وكل ما جاءت به كلمات الله هو العدل.. العدل المطلق، الذي لا يخالطه ظلم، ولا يعلق به جور.. وهى إذ استوفت الحقّ كله، واستولت على العدل جميعه، فلن يلحقها تبديل، ولا يصيبها عارض من عوارض التحريف، لأن تلك العوارض إنما تجد لها طريقا إلى ما كان فى أصله نقص أو خلل، أما ما على الصحة التامة، والسلامة المطلقة، فلن تسكن إليه آفة، أو تمسه علّة.. وإذا كانت آيات الله على هذا التمام والكمال، فهى قائمة بسلطانها على الحياة، لا تنقضها المعارف التي تجدّ، ولا تنسخها الكشوف العلمية التي تقع. قوله تعالى: «وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» أي الذي يسمع كل ما يقول المتقوّلون على كلمات الله، فى سر أو جهر، ويعلم ما يخفون وما يعلنون من المآثم والمنكرات. وقوله سبحانه: «وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ..» هو إشارة إلى أن أكثر الناس فى هذه الدنيا تغلب عليهم أهواؤهم، وتستولى عليهم نزعات الشر والضلال، وأن أصحاب الهدى وأهل التقوى، هم قلة فى هذه الدنيا، وأنهم لو اتبعوا الكثرة لكثرتها لهلكوا مع الهالكين، وضلّوا مع الضالين.. وهكذا الخير قليل فى أهله، كثير فى مضمونه، وأن الشرّ كثير فى أهله، قليل فى محتواه.. وكذلك كل نفيس أو كريم، هو قليل الكمّ كثير الكيف، وكل خبيث وتافه، هو كثير الكمّ قليل القدر، بخس القيمة، وإلى هذا يشير الله سبحانه وتعالى بقوله: «قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (103: المائدة) . فهذه الكثرة الغالبة من الضالين، لا يقوم ضلالهم إلا على أوهام وترّهات، ولا يستند إلا على أهواء ونزوات: «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» والخرص، والتخرص: هو الحكم على الشيء بلا علم، والأخذ به بلا برهان ولا دليل، ومنه خرص النحلة، وهو تقدير ما تعطى من ثمر قبل أن ينضج ويكتمل، وهو ضرب من المقامرة، قد نهى الشرع عنه.. وفى هذا يقول سبحانه وتعالى: «قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ» . (10: الذاريات) قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» بيان لما ينكشف عنه حال الناس عند الله، وأنهم ضالون ومهتدون، وعند الله علم من يضل ومن يهتدى.. ولكل حسابه وجزاؤه عند الله. الآيات: (118- 121) [سورة الأنعام (6) : الآيات 118 الى 121] فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 التفسير: لما كانت المطاعم هى الأمر المتحكم فى حياة الناس، وكانت حياتهم لا تقوم أبدا بغير طعام، وكان سعيهم قائما فى أساسه على تحصيل الطعام- فقد جاءت دعوة الإسلام لتلقى بالناس على هذا المورد الذي يتزاحمون عليه، ولتدعوهم إلى الله عن هذا الطريق.. فالمؤمنون بالله مأمورون بأن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه.. وبغير هذا لا يكونون مؤمنين: «فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين» .. فهذه أول سمة من سمات المؤمنين، وأول تجربة لهم مع الإيمان بالله. وفيما ذكر اسم الله عليه من مطاعم سعة للمؤمنين! وهى كثيرة مغنية، وفى عزل ما حرّم من المطاعم الخبيثة عليهم، حماية للطيب الذي أحلّ لهم أن بخبث ويفسد.. وهذه المطاعم الخبيثة قد بينها الله وفصلها، فى قوله سبحانه: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ.. ذلِكُمْ فِسْقٌ» (3: المائدة) .. وهى محرمة على المؤمنين، إلا أن يضطروا إليها.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 فكيف لا يتسع هذا الطيب للمؤمنين؟ وكيف يمدون أبصارهم إلى غيره من تلك الخبائث التي هى طعام أهل الرجس والفسق..؟ «وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ؟» وفى هذا الاستفهام إنكار على من كان مؤمنا ألّا يستغنى بالطيب عن الخبيث.. إلا فى حال. الاضطرار، الذي هو ظرف استثنائى تباح فيه المحظورات، رحمة بالمؤمنين. وقوله سبحانه: «وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ» إشارة إلى أهل البدع والضلالات، وأنهم هم الشياطين الذين يزينون للناس الشر والغواية بحملهم على ذلك، وأن هوى فاسدا، هو الذي يملى عليهم تلك المفتريات التي يضلون بها الناس، بعد أن غرقوا هم فى لجج الضلال. قوله تعالى: «وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ» هو تحذير للمؤمنين من أن ينخدعوا لتلك الأهواء المضلّة التي تأتيهم من أهل الضلال، بما يزينون لهم منها، فيتأولون الحرام ويلبسونه ثوب الحلال، حتى يجدوا له مساغا.. وهذا هو الإثم أعظم الإثم أشنعه.. فهو إثم خفىّ يتدسس إلى الإنسان، ويغتال إيمانه دون أن يأخذ حذره منه، ويعمل على تجنبه وتوقيه.. فظاهر الإثم، هو الجلىّ الواضح، الذي لا يخطئه نظر، أو فهم.. وباطن الإثم، هو الذي يمكن أن يحجب وجهه بشىء من الخداع، والتمويه، وبقليل من غفلة العقل ووازع الإيمان.. والاقتراف: المداناة والمقاربة. قوله تعالى: «وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ» هو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 نهى عن كل طعام لم يذكر اسم الله عليه، بعد الأمر بالأكل من كل ما ذكر اسم الله عليه.. وقد وقع الأمر والنهى على كل شىء لا يستغنى الإنسان عنه، من المؤمنين وغير المؤمنين على السّواء.. والمؤمنون مطالبون بامتثال أمر الله واجتناب نهيه، حتى يحققوا صفة الإيمان فيهم. وبهذا ينعزلون عن المشركين، وإلا كانوا من المشركين، ولو حسبوا فى المؤمنين.. لأن الإيمان بالله يقتضى امتثال أوامره واجتناب نواهيه، وتلك هى حقيقة الإيمان، وفيصل ما بين المؤمنين وغير المؤمنين. وفى قوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ» تجريم لما لم يذكر اسم عليه من مطاعم، وإن استباحة هذا الحرام الذي حرمه الله هو فسق، أي خروج من الدين، وانسلاخ من الإيمان بالله. وفى قوله سبحانه: «وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ» تحذير للمؤمنين، مما يراودهم عليه أهل الضلال، ويجادلونهم به فى حلّ هذا وحرمة هذا، فذلك مما ألقى به إليهم الشياطين.. أما الحلال وأما الحرام فهما ما بيّنه الله، وليس لأحد أن يحل أو يحرم غير ما أحل الله وحرّم الله. الآيات: (122- 124) [سورة الأنعام (6) : الآيات 122 الى 124] أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 التفسير: الإيمان والكفر، طريقان مختلفان.. الإيمان طريق خير، وهدى ونور.. والكفر طريق شر، وضلال، وظلام.. ومع هذا فقليل هم أولئك الذين يأخذون طريق الخير والهدى والنور، وكثير أولئك الذين يركبون طريق الشر والضلال والظلام. وشتان بين هؤلاء وهؤلاء. فالمؤمنون قد بعثوا بالإيمان، وخلقوا خلقا جديدا به، وعرفوا وجودهم فيه.. فهم أشبه بشموع مضيئة وسط ظلام مطبق.. هم نجوم لا معة فى ظلام ليل بهيم، لا يحجزهم هذا الظلام المتكاثف حولهم، عن رؤية الطريق المستقيم، والسير فيه. والكافرون جثث وأشباح، يلفّها ظلام، ويحتويها ضلال، لا نخرج منه أبدا.. ومع هذا فهم لا يرفعون، أبصارهم إلى النور، ولا يحركون أشباحهم إلى الهدى.. «كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» . قوله تعالى: «وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ» . الجعل: التقدير، وإقامة الشيء على الوجه المراد منه وتوجيهه الوجهة المناسبة له. وهذا فى كل أمر يجعله الله.. «وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ» .. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 «جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً» .. «خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» .. ومعنى الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى كما هدى المؤمنين إلى الإيمان، وجعل لهم نورا يمشون به فى الناس، جعل فى كل قرية أئمة للضلال والكفر، يمكرون فيها، ويفسدون وجوه الخير منها، ويسدّون منافذ الهدى فيها.. وهم فى واقع الأمر إنما يمكرون بأنفسهم، ويوردونها موارد الهلاك، دون أن يشعروا أنهم على طريق الضلال والضياع.. والله سبحانه وتعالى يقول: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» (103- 104: الكهف) . وفى قوله تعالى: «وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ» فضح لبعض ما يعتمل فى نفوس المشركين من مكر وضلال، وأنّهم إذ كانوا أصحاب سلطان ونفوذ فى قومهم، فقد أبوا أن ينقادوا للحق، وأنفوا أن يقبسوا من النور ليضيئوا به ظلام قلوبهم، وقالوا: «لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ» .. حتى لكأن رسالة الله عندهم شىء من هذا الحطام الدنيوي الذي يتنافسون فيه، ويستكثرون منه، وما دروا أنها سفارة بين الله وبين عباده، لا يصلح لها إلا من هم على شىء غير قليل من صفاء النفس، وإشراق الروح.. ثم هى قبل هذا كله وبعد هذا كله، رزق من رزق الله، ونعمة من نعمه، يضعها حيث يشاء: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» .. وقوله سبحانه: «سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ» - هو الجزاء الذي سيقع بهؤلاء المستكبرين، المتعالين.. صغار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 عند الله، وذلة ومهانة.. بعد هذا العلو وهذا الشموخ الذي كان لهم فى دنياهم ... وهؤلاء هم أكابر قريش، ومن كان على شاكلتهم.. وهم رءوس المجرمين الذين تصدّوا لدعوة الرسول، وأبوا أن يقبلوا من يديه الهدى الذي جاءهم به، استكبارا وعلوا.. فكان جزاؤهم الصغار والمهانة عند الله يوم القيامة، والعذاب الشديد يوم يعرضون على ربّهم، ويوفون حسابهم.. وهكذا كل من أخذته العزة بالإثم، فأبى أن ينقاد للحق، وأن يتقبّل الخير من أي طريق أتاه. الآيات: (25- 27) [سورة الأنعام (6) : الآيات 125 الى 127] فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127) التفسير: هذا هو حكم الله فى عباده، وتلك مشيئته فيهم: «فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ» فيقبل عليه، ويتقبله.. «وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ» لا يقبل على خير، ولا يتقبل هدى، فكل كلمة حق يزور بها هذا الصدر الضيق، ويكاد يختنق منها. والضّيّق الحرج: هو الذي كان ضيقه عن علة وداء. والرجس: الدنس، والقذر. وفى قوله تعالى: «كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» أي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 يلقيه عليهم، ويجعله بعضا منهم، فلا يتطهرون منه بالإيمان أبدا.. لأنهم لن يؤمنوا أبدا. قوله تعالى: «وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ» .. والصراط المستقيم هو كتاب الله، وقد جاءت آياته بيّنة مفصّلة، ولكن لا ينتفع بها إلا من أرادهم الله للإيمان، وهيأهم له، وأعانهم عليه.. فهؤلاء الذين دعوا إلى الإيمان فأجابوا، ورأوا الهدى فاهتدوا، هؤلاء «لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ» أي دار الأمن والعافية من كل سوء وبلاء يحل بالكافرين «وَهُوَ وَلِيُّهُمْ» أي يجعلهم أهل ولايته، وكرمه، وإحسانه «بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» أي بما قدموا من أعمال صالحة، نالوا بها رضا الله، وفازوا بجنات النعيم. وانظر إلى عظيم فضل الله، وإلى واسع رحمته، بالمؤمنين من عباده.. لقد دعاهم إلى الإيمان، وأعانهم عليه.. فآمنوا، ودعاهم إلى العمل، ووفقهم له.. فعملوا، ومع هذا فقد أضاف إليهم هذا العمل، وجزاهم عليه، ليذوقوا ثمرة عملهم الذي هو من مغارس فضل الله، وتوفيقه «ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» . الآيات: (128- 129) [سورة الأنعام (6) : الآيات 128 الى 129] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 التفسير: بعد أن يستوفى الناس أعمارهم فى الحياة، ينقلون إلى الدار الآخرة بما قدموا من خير أو شر، وبما كانوا عليه من هدى أو ضلال.. وهناك تكون المساءلة ويكون الحساب والجواب.. وفى قوله تعالى: «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً» إخبار بهذا الأمر الذي لا بد أن يكون، وهو الحشر، بعد الموت.. وإن كان الكافرون ينكرون هذا اليوم فلا يعملون له حسابا.. وفى الحديث عن الله تعالى: «بضمير الغيبة «يحشرهم» بدلا من «نحشرهم» إشارة إلى أن هذا الحشر معلوم مقرر عند المؤمنين، وأنهم مستيقنون أن الله سيحشر الخلائق جميعا، ولهذا صح أن يكون الحديث عن الحشر بين الله والمؤمنين إذ كان غير خاف عليهم، على حين أنه خفى على المشركين.. وقوله تعالى: «يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ» ، هو نداء من قبل الحق سبحانه وتعالى لطائفة من تلك الطوائف التي حشرت فى هذا اليوم، وهى طائفة الجن، ليلقى إليهم بهذا الذي كان منهم، من جذب الكثير من الناس إليهم، وتحويلهم من طبائعهم لانسانية إلى طبيعة الجن. «قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ» أي قد جمعتم أعدادا كثيرة منهم، واستحوذتم عليهم.. ولا يجيب الجن، إذ كان الواقع يغنى عن الجواب، بل يأخذ المبادرة بالجواب أولئك الذين انضموا إليهم من الناس، وصاروا حزبا لهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا» أي قد انتفع بعضنا ببعض، فأخذ وأعطى.. فهؤلاء الضالون قد أخذوا من الجن ما سوّلوا لهم به وما عرضوه عليهم من متاع الحياة، وضلالاتها.. على حين أعطوا الجن ولاءهم وطاعتهم، وذلك إلى أن بلغوا الأجل الّذى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 أجّله الله، وهو عمرهم المقدور لهم فى الحياة.. وفى مبادرة المشركين بالجواب دلالة على أنهم هم المتهمون أصلا، وأنهم هم الذين استجابوا لدعوة الجنّ لهم، وأنهم لو أبوا عليهم ذلك ولم ينقادوا لما دعوهم إليه، لما كانوا فى هذا الموقف.. فزمام الأمر هو فى يد النّاس، وما الجنّ أو غيرهم من المغريات إلا داع يدعوهم إليه، فمن أجاب فعليه وزر عمله.. كالخمر مثلا، فإنها فى مواطنها التي تباع فيها أو تشرب، هى فى ذاتها داع تدعوا الناس إليها، وتغريهم بها، وللناس وحدهم أن يستجيبوا أو يمتنعوا.. وليست الخمر موضع مؤاخذة أو لوم.. كذلك دعاة السوء من الإنس والجنّ.. لا يحملون شيئا من إثم من دعوه فاستجاب لهم، وإن كان عليهم إثم هذه الدعوة المنكرة التي دعوا بها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ» . (22: إبراهيم) وقوله تعالى: «قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» هو الحكم الذي يلقّاه المشركون بعد اعتذارهم بما اعتذروا به.. «النَّارُ مَثْواكُمْ» أي داركم ومقرّكم «خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» أي أن هذا الخلود فى النار مرهون بمشيئة الله، إن شاء جعلها دار خلد لكم، وإن شاء جعلها عذابا موقوتا.. وذلك إلى الله وحده، لا يملك معه أحد شيئا فى مصيركم الذي أنتم صائرون إليه. «إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» يقوم أمره كلّه على الحكمة والعلم.. الحكمة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 التي تحكم كل أمر وتضبطه على موازين العلم، والعلم الذي يحيط بكل شىء، ويعلم ما ظهر وما بطن منه.. قوله تعالى: «وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» .. أي نسلّط بعض الظالمين على بعض، ونجمع بعضهم إلى بعض، كما تسلّط الجنّ على أشباههم من الإنس، وصاروا جميعا إلى هذا المصير المشئوم.. وهكذا يجتمع الشر إلى الشر، وينجذب الأشرار إلى الأشرار، فيكونون جميعا جبهة واحدة.. بعضهم أولياء بعض. الآيات: (130- 132) [سورة الأنعام (6) : الآيات 130 الى 132] يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) التفسير: وفى موقف الحساب يقوم القيامة، يسأل الخلق من جنّ وإنس هذا السؤال التقريرى من ربّ العالمين: َ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ؟» أي من جنسكم، فللجن رسل من الجن، وللإنس رسل من الإنس..َقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي» أي يسمعونكم آياتي، ويعرضون عليكم دلائل قدرتى، ويدعونكم إلى الإيمان بي؟ َ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا» أي يحذرونكم لقاء هذا اليوم الذي أنتم فيه فى موقف الحساب والجزاء؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 ويجىء الجواب من الجن والإنس: َهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا» أي أقررنا بأن رسل الله قد جاءوا إلينا بآيات الله، وأنذرونا لقاء هذا اليوم.. وما كان للمسئولين أن ينكروا، حيث كل شىء ينطق هذا اليوم بالحق.. ثم يجىء التعقيب على هذه الشهادة: َ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ» .. وتلك هى شهادة أهل الموقف عليهم، بعد أن شهدوا هم على أنفسهم.. إنها تعليقات المؤمنين على موقف هؤلاء الضالين، وما كانوا عليه من كفر وعناد، واستخفاف بهذا اليوم الذي هم فيه. وواضح أن المسئولين هنا من معشر الجن والإنس، هم الغواة الضالون منهم، الذين أنكروا رسل الله، وكفروا بما جاءوهم به من عند الله.. وقوله تعالى: «ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ» الإشارة هنا إلى ما كان من رحمة بعباده، من إنس وجنّ، وذلك بإرسال الرسل إليهم، ودعوتهم إلى الله، وكشف معالم الطريق إليه.. فإنه سبحانه وتعالى لا يؤاخذ عباده إلا بعد أن يعذر إليهم بإرسال رسله، مبشرين ومنذرين، حتى ينتبهوا من غفلتهم، فلا يكون لهم عذر إذا أخذهم الله بالعقاب الذي يستحقونه على كفرهم وضلالهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (15: الإسراء) وقوله سبحانه: «وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا (59: القصص) وفى قوله تعالى: «بِظُلْمٍ» إشارة إلى أن عدل الله يقضى بألا يعاقب أحدا من خلقه، حتى ينذره ويقيم الحجة عليه. وقوله سبحانه: «وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا» أي لكل إنسان مكانته ودرجته من عمله، أي تهيّأ له هذه الدرجة من عمله، فإن كان عمله سيئا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 كانت مكانته من السوء بحسب عمله.. «وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ» . فلا يختلط عنده عمل المحسن بعمل المسيء، بل لكل عمله وحسابه، وجزاؤه. الآيات: (133- 135) [سورة الأنعام (6) : الآيات 133 الى 135] وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) التفسير: الخطاب للنبى الكريم، وإضافته إلى ربّه الغنىّ ذو الرحمة، تكريم له، ورفع لقدره ومنزلته عند ربّه، لاختصاصه بتلك الإضافة، وإن كان الله سبحانه وتعالى هو ربّ العالمين جميعا. فإضافة النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- منفردا بهذه الإضافة إلى ربّه، غاية فى التكريم، واللطف والرعاية.. وفى وصف الله سبحانه وتعالى بالغنى والرحمة، مناسبة لما بعد هذين الوصفين الكريمين، من أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يذهب الناس جميعا، لأنه فى غنى عنهم ولكنه ذو رحمة واسعة، فلا يعجل بعقوبة هؤلاء المشركين، ولا يؤاخذ الناس بما كسبوا، بل يمهلهم، ويقيم بين أيديهم دلائل الحق والهدى، لعلهم يرجعون عما هم فيه من ضلال وكفران. وقوله تعالى: «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ» بيان لقدرة الله، وأنه سبحانه قادر على أن يذهب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 المشركين، ويقضى عليهم، ويقيم من بعدهم من يخلفهم على ما فى أيديهم من نعم الله وعطاياه، وأن إمهاله هو رحمة من رحمته وإحسان من إحسانه، ليكون فى هذا مظاهرة للحجة عليهم، وقطع الأعذار دونهم.. قوله تعالى: «إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» هو خطاب للمشركين وما يتوعدهم الله به، وهو انتقالهم مما هم فيه، وقيام من يخلفهم على ما فى أيديهم. فهو أمر كائن، لا بد منه، إن لم يكن اليوم فغدا أو بعد غد، وإنهم مهما استطالوا وبغوا فلن يعجزوا الله، ولن يفتلوا من سلطانه القائم عليهم، وعلى كل موجود فى هذا الوجود. وقوله سبحانه: «قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ» أمر للنبى الكريم أن يلقى قومه بهذا الموقف الصريح، وأن يقطع ما بينه وبينهم من أسباب الجدل والشقاق، وأن يدعهم وما هم فيه.. ليقبل على ما هو فيه من دعوة الناس إلى الله، وليستقم على الطريق الذي هداه الله إليه.. وفى قوله تعالى: «يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ» تهديد ووعيد لهم، بتركهم وما هم فيه من ضلال.. والمكانة: المنزلة التي فيها الإنسان، أيا كانت تلك المنزلة. وفى قوله سبحانه: «إِنِّي عامِلٌ» مع حذف متعلق الخبر «عامل» - إشارة إلى أن للنبى عملا غير عملهم، وطريقا غير طريقهم. وقوله تعالى: «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» تهديد آخر، ووعيد لهؤلاء المشركين، وما سينتهى به عملهم إليه، من البلاء وسوء المصير، و «مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ» .. أهم الذين أسلموا لله، وآمنوا به وبرسوله، وبالكتاب الذي بين يديه؟ أم أنتم أيها المكذبون الضالون؟ فسوف تعلمون لمن عقبى الدار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 والحكم معلوم مقدّما.. «إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» والمشركون ظالمون من غير جدال، إذ ردّوا نعمة الله المرسلة إليهم، وآذوا اليد التي حملتها لهم، والتي لا تطلب منهم أجرا، ولا تريد منهم على ذلك جزاء ولا شكورا.. فأى ظلم أبشع وجها، وأقبح صورة من هذا الظلم؟ فهم إذن المحكوم عليهم بعدم الفلاح، ومن لم يفلح فقد خاب وخسر، وكان من أصحاب الجحيم. الآيات: (136- 137) [سورة الأنعام (6) : الآيات 136 الى 137] وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137) التفسير: وإذ أنهى النبىّ صلى الله عليه وسلم موقفه مع المشركين من قومه على هذا الوجه الذي أنذرهم فيه بأنه معتزلهم وما يعبدون من دون الله، وأنه سيفرغ لنفسه ولدعوته ولمن يستجيبون له، ولا عليه أن يغرقوا فيما هم فيه من ضلال، بعد أن بلغهم رسالة ربّه، وبعد أن بالغ فى هذا الإبلاغ- إذ أنهى النبي موقفه مع المشركين على هذا الوجه، بحيث لا يلقاهم لقاء مواجها بعد هذا الموقف، فإنه صلوات الله وسلامه عليه لم يقطع ما بينه وبينهم من لقاء غير مباشر، أو مواجه، فما زالت آيات الله تتنزل بفضح المشركين، والتشنيع عليهم، وكشف ما هم فيه من جهالة وعمى وضلال.. وفى هذا التدبير السماوي الحكيم يتحقق أمران: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 أولهما: إلفات المشركين إلى أنفسهم، حتى يعيدوا النظر إلى تلك الحال التي تركهم النبىّ عليها.. وذلك فى حال هم فيها فى غير مواجهة صريحة مع النبىّ، الذي يكشف أدواءهم، ويقدّم لهم الدواء، الأمر الذي كثيرا ما تتأباه النفوس المريضة، وتزورّ به العقول السقيمة، على خلاف ما إذا خلا أمثال هؤلاء بأنفسهم، واطمأنوا إلى أن أحدا لن يطلع عليهم، فإنهم عندئذ قد يتعرّون مما ركبهم من ظلام وضلال، وقد يجد أحدهم الجرأة أمام نفسه فيفضحها ويهتك سترها، وينخلع مما هو فيه، ثم ينطلق إلى مطالع النور، ومواقع الهدى.. وثانيهما: أن المسلمين إذ يرون ما تكشف آيات الله من سوء حال المشركين، وما ينتظرهم من مصير مشئوم، يزداد إيمانهم إشراقا وألقا، ويبدو لهم أنهم أثقل ميزانا، وأكرم مقاما من هؤلاء المشركين الذين يسومونهم العذاب، ويأخذونهم بالبأساء والضراء.. وفى هذا عزاء جميل «للمسلمين» وتثبيت لأقدامهم على الطريق المستقيم. وفى قوله تعالى: «وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً» اتهام للمشركين بما افتروا على الله، وما شرعوا لأنفسهم من شريعة، استملوها من أهوائهم الباطلة، وتصوراتهم الفاسدة.. ومن هذا أنهم جعلوا لله نصيبا مما «ذرأ» أي خلق «من الحرث» أي الزرع، «والأنعام» .. فقالوا «هذا لله بزعمهم» أي بما زعموه هم، لا عن أمر سماوىّ من الله.. «وقالوا: «هذا لشركائنا» أي لآلهتهم التي عبدوها، وجعلوها شركاء لله، يقدمون لها القرابين مما رزقهم الله! وقوله تعالى: «فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ» أي فما جعلوه لله جحدوه، ولم يحرصوا على الوفاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 به، ولم يكن له فى أنفسهم حساب أو توقير، وما جعلوه لأوثانهم وأصنامهم لم يترخّصوا فيه، بل أدّوه لهم كاملا. خوفا من أن تحبس عنهم هذه المعبودات الباطلة أسباب الخير، أو تدفع إليهم نذر البلاء والنقمة. وقوله سبحانه: «ساءَ ما يَحْكُمُونَ» تسفيه لهذه الأحكام الخاطئة التي لم يتزموا فيها جانب العدل حتى فيما شرعوه هم بأنفسهم، فلم يسوّوا فى هذه القسمة الجائرة بين الله وبين تلك المعبودات.. من أصنام وأوثان. وقوله سبحانه: «وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ» أي مما افتراه المشركون على الله هذا المنكر الذي زيّنه لهم شركاؤهم، وهو قتل أولادهم ظلما وعدوانا، بل سفها وضلالا. إذ أنهم بهذا العمل المنكر قد نزلوا عن مرتبة الحيوان الذي تأتى عليه طبيعته أن يمدّ يده بأذى إلى صغاره، بل إنه ليجعل نفسه دريئة لهم من كل سوء، ويقدّم حياته دفاعا عنهم من كل عدوّ.. فكيف طوعت لهؤلاء الحمقى السفهاء من الآدميين أنفسهم أن يقتلوا أولادهم بأيديهم؟ إن ذلك لا يكون إلا من إنسان فقد عقله، فلم يدر ما يفعل، حتى ولو قتل نفسه بيده! فليس بعد هذا ضلال، أو خسران.. والله سبحانه يقول: «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ» (140: الأنعام) . وفى كشف هذه الجريمة الشنعاء، كشف لما وصل إليه هؤلاء المشركون من سفه وحمق، لا فى شركهم بالله، وعبادتهم الأحجار، وحسب، بل فى هذا الأمر الذي صاروا به من عالم الجماد الذي لا يعقل، ولا يحس.. وفى إضافة التزيين بقتل الأولاد إلى الشركاء من أصنام وأوثان، إشارة إلى أن هؤلاء المشركين قد صاروا لعبة فى يد هذه الجمادات، يتلفّون من صمتها المطبق دلالات وإشارات، يؤولونها هذا التأويل الفاسد، الذي ينتهى بهم إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 317 عبادتها، وتقديم أبنائهم قربانا لها.. وفى هذا ما يكشف لهم- إن كان فيهم بقية من عقل- أنهم خدعوا وضلّلوا، وأن هذه الأصنام هى التي ضللتهم، وخدعتهم، وقتلت أولادهم وفلذات أكبادهم.. وأنهم إذا كانوا قد فعلوا فعلتهم فى أولادهم وهم فى سكرة من الضلال، فإن هذا الدم الذي لطخت به أيديهم من أبنائهم، جدير به أن يملأ قلوبهم ألما وحسرة، وأن يوقع العداوة والبغضاء بينهم وبين واتريهم فى أبنائهم.. وإن أقلّ ما يثأرون به لقتلاهم هو اعتزال هؤلاء القتلة وإجلاؤهم من عالمهم، بل وتحطيمهم، إن كان هذا التحطيم يشفى غليلا، أو يخفف كمدا وحسرة.. وقوله تعالى: «لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ» أي أن ما فعله الشركاء- من أصنام وأوثان- بهؤلاء المشركين، إنما كانت عاقبته إهلاكهم، وإفساد دينهم عليهم.. فإهلاك أبنائهم هو إهلاك لهم، ثم هو إغراق لهم فى الضلال والبعد بهم عن الدين الصحيح. والسؤال هنا: هل لهؤلاء المشركين دين حتى يعلق به فساد كما يقول الله تعالى: «وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ» ؟ والجواب: أنه كان ينبغى أن يكون للمشركين دين صحيح، لو بقيت معهم عقولهم، ولم يفسدها عليهم شركاؤهم، وأن ما زينه لهم الشركاء من قتل أولادهم هو غاية ما يمكن أن يصل إليه معتقد الإنسان، من فساد لا يرجى له صلاح أبدا.. فهؤلاء الشركاء قد أفسدوا على أتباعهم هؤلاء فطرتهم، وغيّروا معالم إنسانيتهم، ومن كان حاله تلك الحال، فلا صلاح يرجى لشىء فيه أبدا، من دين أو غيره.. فأى دين يدين به هؤلاء القوم، وهم على تلك الحال من السّفه، هو دين سقيم بسقام عقولهم، وفساد فطرتهم. وقوله سبحانه: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ» إشارة إلى أن الله سبحانه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 318 وتعالى لم يرد أن يدفع عنهم هذا البلاء الذي حلّ بهم، لأنهم أهل له.. وأن الله سبحانه لو علم فيهم خيرا لدفع عنهم هذا البلاء، ولما كان للشيطان أن يصل إليهم.. ويفسد عليهم وجودهم! وقوله سبحانه: «فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ» تهديد لهؤلاء المشركين، ومبالغة فى إهمالهم، وتركهم لأهوائهم المضلّة، تغتالهم وتهلكهم، دون أن يخفّ أحد لنجدتهم. الآيات: (138- 140) [سورة الأنعام (6) : الآيات 138 الى 140] وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140) التفسير: ومن مفتريات هؤلاء المشركين صنيعهم بما فى أيديهم من أنعام وزروع.. فقد جعلوا فيها نصيبا لله، ونصيبا لشركائهم.. دون أن يؤدوا لله ما جعلوه فيها، بل قالوا ذلك قولا وجحدوه فعلا.. ثم إنهم من جهة أخرى قد جعلوا لهذه الأنعام وتلك الزروع مراسم معيّنة، ومعالم خاصة، اخترعوها لها من عند أنفسهم.. فهناك أنعام وزروع جعلوها «حجرا» أي محجورة لا يباح طعامها لكلّ طاعم، فمن شاءوا أطعموا منها، ومن شاءوا حرّموها عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 319 وهناك أنعام حرّموا ظهورها، وحموها من أن تركب أو يحمل عليها، إذا جاءت على صفات خاصة عندهم، كما أشار الله سبحانه وتعالى إلى ذلك فى قوله تعالى: «ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ» . (106: المائدة) وقد شرحنا ذلك من قبل عند شرح هذه الآية. وهناك أنعام يذبحونها على مذابح أصنامهم.. لا يذكرون اسم الله عليها.. وكلّ هذا افتراء على الله، والله سبحانه سيجزيهم بهذا الافتراء الذي افتروه، نكالا وعذابا أليما.. ومن مفتريات هؤلاء المفترين، وضلالات أولئك الضالّين، هذا الذي أخذوا به أنفسهم، فيما فى بطون أنعامهم من أجنّة يجدونها عند ذبحها.. فكانوا إذا خرج الجنين حيّا جعلوا لحمه طعاما للذكور منهم دون زوجاتهم، وإن خرج الجنين ميتا أباحوا أكله لذكورهم ونسائهم جميعا. «وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ» . ولا معقول لهذه التفرقة، ولا منطق لها، فيما بين الجنين الذي يخرج من بطن أمه حيّا، وهذا الذي يخرج ميتا، ماداموا قد استباحوا أكلهما جميعا، اللهم إلا أن يكون ذلك عن وهم تسلط على عقولهم، فأراهم فى هذا الحىّ غير هذا الذي فى الميت. وقل فى واردات هذا الوهم ما تشاء. فقد يكون ذلك عن شعور بأن الجنين الذي خرج حيّا يحمل معه روحا تتسلّط على المرأة المتزوجة، فتفسد حملها، أو تختلط به فيجىء الولد منها على صورة غير صورة الإنسان السوىّ.. أو نحو هذا. وذلك كله ضلال فى ضلال. وقوله سبحانه: «سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» أي أنه سبحانه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 وتعالى سيحاسبهم على هذا الوصف الباطل الذي يلحقونه بتلك الأشياء التي يقولون فى حلّها وحرمتها ما تمليه عليهم أهواؤهم، دون أن يكون ذلك مستندا إلى دين أو معتمدا على عقل.. والله سبحانه وتعالى «حكيم» لا يدخل فى شريعته مثل هذا الضلال «عليم» بما يعمل الظالمون، المفترون، الضالون.. وفى عرض أباطيل هؤلاء الضالين ومفترياتهم بلفظ: «قالوا» .. و «قالوا» مع أنهم فعلوا هذه الأشياء فعلا، إشارة إلى أن هذه الأفعال هى وليدة أقوال تقال، وهى أوهام وظنون، لا تلبث حتى تستولى على عقول سامعيها فتتشكل منها أفعال، ويقوم عليها سلوك.. وهذا ما يشير أيضا إلى ما للكلمة من أثر فى تقويم سلوك المرء أو اعوجاجه.. فالكلمة ليست مجرد صوت يطرق السمع، ثم يذهب أدراج الرياح، وإنما هى- فى حقيقتها- رسول هدى، وداعية خير، أو هى قذيفة مدمرة، وجرثومة مهلكة. وقوله سبحانه: «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ» هو تعقيب على تلك الشناعات التي تلبس المشركين، وتستولى على وجودهم، وهو حكم بالخسران واقع عليهم من الله سبحانه جزاء لما اقترفوا من سيئات، وما ارتكبوا من آثام.. ومن أبرز هذه الآثام وأشنعها قتلهم أولادهم «سفها بغير علم» أي عن ضلال، وسفه، وجهالة، ولهذا قدّم قتل الأولاد على كل جناية غيرها.. وقوله تعالى: «وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ» معطوف على قوله تعالى: «قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ» أي أن هذا الخسران الذي حكم الله به عليهم، هو لجنايتهم الغليظة فى قتل أبنائهم، ثم لتحريم ما حرموا مما رزقهم الله من أنعام وحرث، افتراء على الله، وادعاء عليه بأن هذا مما شرعه الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 لهم، وهو مما وكّدته خيالاتهم المريضة، ومدركاتهم السقيمة.. تماما كما قتلوا أولادهم سفها بغير علم. وقوله تعالى: «قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ» هو حكم عليهم بالضلال والسفه بعد الحكم عليهم بالخسران والضياع. فإن كان لهم إلى أنفسهم حاجة، فيبادروا إلى استنفاذها من هذا الضلال، وإقامتها على طريق الحق والعدل والإحسان.. الآيات: (141- 144) [سورة الأنعام (6) : الآيات 141 الى 144] وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) التفسير: فى هذه الآيات، يعرض الله سبحانه وتعالى مشاهد من آيات قدرته، وروائع علمه وحكمته فيما أبدع وصوّر فى هذا الوجود، من نعم سابغة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 وعطايا جزيلة، كان لكثير من الناس مكر فيها، وكفر بها.. وهى التي كان من شأنها أن تقابل منهم بالولاء لله، والتمجيد له، والتسبيح بحمده.. فهذه الجنات المعروشات، أي القائمة على عروش: وهى العنب الذي يفترش سقوفا تتدلّى منها ثماره المهدّلة، وهذه الجنّات غير المعروشات التي تظلل الأرض بأغصانها، وأوراقها وثمارها، وهذه النخيل السابحة فى أعنان السماء، تحمل على رءوسها ثمرا مختلف الألوان، متشاكل الطعوم، وهذه الزروع التي تفترش الأرض، وتكسو أديمها ببساط سندسى يحمل على ظهره الحبّ والثمر، وهذه الأشجار من الزيتون والرّمان، فى صوره المختلفة، وأشكاله المتعددة- كل هذا الذي يملأ الأرض من حياة، وجمال، ومن خير عميم ورزق كريم، هو من صنع الخالق العظيم، ومن فيض كرمه وإحسانه.. وهو مائدة ممدودة لعباده جميعا.. وربّ المائدة يضيفهم إليه، ويدعوهم إلى مدّ أيديهم إلى هذا الرزق الكريم.. «كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» . وفى قوله تعالى: «كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ» تذكير للناس بهذه النعم التي أفاضها الله عليهم، وإلفات للغافلين منهم إلى ما لله سبحانه وتعالى عليهم من فضل وإحسان، وإلا فإن الناس فى غير حاجة إلى دعوة للأخذ من هذا الثمر والأكل منه.. ولكن فى دعوة الله سبحانه وتعالى تذكير لهم بأنهم فى ضيافة صاحب هذا الثمر، وأنهم لن يأكلوا منه إلا بعد أن يأذن لهم، إذن تكريم وتفضّل وإحسان.. وفى القيد الوارد على الأكل من الثمر بقوله تعالى: «إِذا أَثْمَرَ» تقييد للأنظار بهذه الجنات وتلك الزروع، وملاحظة أطوار الحياة التي تتنقل فيها، وأنها لم تصل إلى هذا الطور الذي تحمل فيه الثمر الذي يصلح للأكل إلا بعد أن قطعت طريقا طويلا، فى نموّها وتطورها، شأنها شأن الإنسان يكون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 بذرة فى بطن أمه، ثم ينشق عنه الرحم وليدا، فطفلا، فغلاما، فصبيّا، فشابا، فكهلا، فشيخا.. وبهذه الملاحظة لتلك الجنات وهذه الزروع تتجلى قدرة الله، وتتكشف آيات إبداعه وخلقه، فيكون من ذلك كله عبرة لأولى الألباب، وتبصرة وذكرى لقوم يؤمنون. وقوله سبحانه «وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ» أمر بأداء الحق المفروض على هذه النعم التي يعيش فيها أهلها.. وحق هذه النعم هو شكر الله عليها، إذ هو المنعم بها، ومن شكر الله عليها، مشاركة الفقراء والمحتاجين لهم فيها، وإعطاؤهم ما أوجب الله على الأغنياء للفقراء فى أموالهم فى قوله تعالى «وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» (24- 25: المعارج) وفى إضافة الحقّ إلى الله سبحانه وتعالى هكذا: «حقّه» إشعار بأن هذا الحق هو لله، صاحب هذه النعم، وأنه سبحانه قد جعل هذا الحقّ الذي له، لهؤلاء الفقراء من عباده.. وإذن فليس لأحد من الأغنياء منّة على هؤلاء الفقراء، ولا فضل له عليهم، إذا هو أعطاهم مما لله عنده.. فذلك من حقّ الله عليه، والله سبحانه وتعالى يجزيه عما أعطى، فضلا منه سبحانه وكرما.. لأنه تعالى يأخذ مما له، ويجزى الثواب الجزيل عليه، أضعافا مضاعفة.. فسبحانه سبحانه، ما أعظم فضله، وما أوسع رحمته، وأكثر مننه على عباده.. وفى قوله سبحانه: «وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» ذهب أكثر المفسّرين إلى أنّ النهى هنا وارد على إتيان حق الله فى هذا الثمر، وجعلوا الحقّ مضافا إلى الزرع على معنى: وآتوا حقّ الثمر يوم حصاده بالصدقة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 324 على الفقراء فى قصد دون إسراف. وهذا- فى رأينا- مردود من وجوه: فأولا: إضافة الحق إلى الله سبحانه وتعالى أولى من إضافته إلى الثمر، لأنه بالنسبة إلى الله حق أصيل، وهو بالنسبة للثمر حق تبعىّ، بعد تعلق حق الله به. وثانيا: أنه ليس من طبيعة الناس الإسراف فى الإحسان، وإنما الغالب عليهم هو البخل والشحّ فى هذا الباب، ولهذا كانت دعوة الله إليهم دائما متجهة إلى التحريض على الإنفاق، والإغراء به، بما وعد الله المحسنين من الخير العظيم على إحسانهم فى الدنيا، بنماء أموالهم، وفى الآخرة، بحسن المثوبة وعظيم الجزاء. مثل قوله تعالى «فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى» (5- 10 الليل) .. وقوله سبحانه: «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» (261: البقرة) . فالشحّ هو الغالب على الناس، وليس السّخاء، ولا الإسراف فى هذا المقام، مقام التصدّق على الفقراء.. وعلى هذا، فإنه من غير المتفق مع دعوة القرآن، أن تحمل آياته دعوة إلى التحذير من الإسراف فى البذل والعطاء، للفقراء والمساكين. وثالثا: إذا كان فى المؤمنين من يبالغ فى الإحسان، ويسرف فى البذل، فإن ذلك زيادة فى الخير، ومبالغة فى الإحسان، فلا تجىء دعوة سماوية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 325 بالتحذير للمؤمن أن يعلى مقامه عند الله بالمبالغة فى الإحسان، وبذل العطاء للفقراء والمحتاجين.. ورابعا: إذا فرض أن الإسراف مكروه حتى فى باب الإحسان، فإن المسرفين هنا قلّة قليلة جدا، لا يحمل التحذير لها بهذه الصيغة العامّة المطلقة، التي تنسحب آثارها على المسرفين، والمعتدلين، بل وعلى الأشحّاء جميعا.. حيث يجد الشحيح مدخلا إلى المبالغة فى شحّه، حين يسمع دعوة تقول: «وَلا تُسْرِفُوا» . وخامسا: إذا كان من الحكمة التحذير من الإسراف فى جميع الأحوال، فإنه مما يجانب الحكمة فى تلك الحال التي يطعم فيها الطاعمون من هذا الثمر الذي ملأ الله أيديهم منه- أن يدعوا إلى ترك الإسراف هنا- الذي يحمل فى مضامينه دعوة إلى الإمساك- وهم يطعمون، ويتخيّرون ألوانا مما يطعمون، وعيون الفقراء ترقبهم، ببطون خاوية، ولعاب يسيل!! وعلى هذا فإن الفهم الذي نستريح إليه لقوله تعالى: «وَلا تُسْرِفُوا» هو أنه قيد وارد على قوله سبحانه: «كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ» .. أي كلوا من ثمره فى غير إسراف، حتى يكون فى أيديكم فضلة تؤدون فيها حق الله فى هذا الثمر الذي تطعمون منه، وحتى لا تمتلىء البطون، وتبلغ حدّ التخمة، فلا يذكر المرء حينئذ شهوة جائع إلى هذا الثمر. أما قوله تعالى: «وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ» فهو معطوف على قوله تعالى: «كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ» .. معترضا بين صاحب الحال وهو الفاعل فى الفعل «كلوا» وبين جملة الحال وهى قوله تعالى: «وَلا تُسْرِفُوا» .. ويكون المعنى: كلوا من ثمر هذه الجنات وتلك الزروع عند ما ينضج ثمرها، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 326 وآتوا حق الله فى هذا الثمر الذين تأكلون منه، غير مسرفين فى الأكل.. والسرّ فى اقتران الأمر بالأكل من الثمر والأمر بإتيان حق الله منه، ذلك الاقتران الذي يفصل بين صاحب الحال والحال.. السرّ فى هذا هو- والله أعلم- تذكير بحق الله، وشغل النفس به، وهى تتذوق بواكير ثمر هذه الجنات وتلك الزروع، وذلك قبل أن تشبع وتتخم.. وهذا من شأنه أن يقيم فى كيان الإنسان عزيمة صادقة موثّقة على الوفاء به عند حصاد هذا الثمر، فى حين أن ذلك يدعو أيضا إلى المبادرة بإعطاء شىء من حق الله فيه قبل الحصاد، ومشاركة الفقراء، للآكلين من بواكيره، حتى لا يطول بهم الحرمان والانتظار إلى يوم الحصاد.. «كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ» .. فإذا جاء الحال بعد ذلك مقيّدا للأكل، وناهيا عن الإسراف فيه جاء هذا شاملا لجميع الأحوال التي يؤكل فيها هذا الثمر- فى حال نضجه، وصلاحيته للأكل وفى حال حصاده وجمعه، وما بعد حصاده وجمعه. «وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» فى أي حال من الأحوال. وقوله تعالى: «وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً» معطوف على قوله سبحانه: «جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ» أي أنه سبحانه أنشأ كذلك حمولة وفرشا من الأنعام، كما أنشأ جنات معروشات وغير معروشات من الزروع. والمراد بالإنشاء هنا تيسير هذه النعم وتذليلها للإنسان، وهدايته إلى تسخيرها والانتفاع بها على هذه الوجوه.. فتلك نعم أخرى إلى نعمة إيجادها.. فالله سبحانه وتعالى، هو الذي أوجدها، ثم هو سبحانه الذي مكّن للإنسان من أن ينتفع بها، بما منحه من قوى عاقلة، تقدّر وتدبر، وتعرف كيف تسوس هذه النعم، وتستخرج بعض ما ضمت عليه من خير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 والحمولة من الأنعام: ما يحمل عليه من إبل، وخيل، وحمير.. والفرش: ما يتخذ من هذه الأنعام من جلد وصوف، ليفترش.. وقوله تعالى: «كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ» أي كلوا مما رزقكم الله من هذه الأنعام التي تتخذون منها حمولة وفرشا، «وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ» فيما يملى عليكم من أباطيل تحرّمون بها ما أحلّ الله لكم «إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» يحرّم عليكم نعم الله، ويقيم بينكم وبينها حواجز باطلة، تفسد عليكم هذه النعم، فلا ترون فيها كمال النعمة، وسعة الإحسان.. وقوله سبحانه: «ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ» بدل من «حمولة وفرشا» أي «وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً.. ثمانية أزواج» .. أو هو مفعول به لقوله تعالى: «كُلُوا» أي كلوا من هذا الذي رزقكم الله من الأنعام ثمانية أزواج، وقوله سبحانه: «مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» هو بيان لهذه الأنعام التي سخّرها الله للناس، وأباح لهم أكلها، وما كان للمشركين من ادعاءات وافتراءات على الله فيها. فهذه الأنعام التي أحلّ الله أكلها، هى ثمانية أزواج، أي ثمانية متزاوجة، أي هى أزواج.. ذكر وأنثى.. من الضأن اثنين: ذكر وأنثى، ومن المعز اثنين: ذكر وأنثى، ومن الإبل اثنين: ذكر وأنثى، ومن البقر اثنين: ذكر وأنثى.. فهى أربعة ذكور، وأربع إناث.. الضأن، والمعز، والإبل، والبقر. وما يندرج معها من فصائلها.. وهى التي أحل أكلها دون غيرها من الأنعام.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 وفى قوله تعالى: «قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ» إنكار على المشركين هذا الذي شرعوه من حلّ بعضها وحرمة بعضها، كما ذكر الله سبحانه وتعالى عنهم ذلك فى قوله سبحانه: «وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ» .. وقوله سبحانه: «وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا» .. فهذا هو حكم الله فيها.. الإباحة المطلقة. فمن أين جاءهم هذا القول الذي يقولونه فيها؟ «نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» .. وإنه لا علم عندهم، ولكنها أوهام وأباطيل.. وقوله سبحانه: «أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا؟» هو إنكار بعد إنكار.. فبعد أن أنكر الله عليهم أنهم ليس معهم علم من كتاب سماوى بهذا الذي يقولونه، أنكر عليهم أنهم كانوا ممن تلقوا هذا العلم من الله أو كانوا شهودا وحضورا عند تلقّيه! وإذن فلا حجة معهم على هذه المفتريات التي يفترونها على الله.. وإذن فهم مبطلون فيما يقولون فى هذه الأنعام، وهم بهذا الباطل ظالمون معتدون، يضلون أنفسهم، ويضلون غيرهم.. وإذن فليحملوا أوزارهم وأوزارا مع أوزارهم. «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» . الآيات: (145- 147) [سورة الأنعام (6) : الآيات 145 الى 147] قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 التفسير: بعد أن أبطل الله سبحانه وتعالى مفتريات المشركين وما يقولونه فى مطاعمهم عن الأنعام، أمر النبىّ الكريم أن يلقاهم بما بين يديه من شريعة الله فى هذه المطاعم: «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ..» .. فالمطاعم من هذه الأنعام كلها مباح لا حرمة فيه، إلا ما كان ميتا غير مزكّى بالذبح، وإلا ما كان دما مسفوحا أي سائلا مراقا، أو ما كان من لحم الخنزير، فإنه رجس، أي دنس وقذر، أو كان مما لم يذكر اسم الله عليه. وأهلّ- أي ذكر- اسم غير اسم الله عند ذبحه، فإنه فسق وخروج به عن الإيمان بالله، وتلطيخ له بالشرك.. فهذه كلها محرمات مستثناة من عموم الحلّ، لما تلبّس بها من أوضار وأقذار، ما عدا الخنزير فإنه رجس فى أصله. وفى قوله سبحانه «مَسْفُوحاً» قيد وارد على حرمة الدم، وهو أن يكون دما سائلا، مما يجرى فى عروق الحيوان.. فذلك هو الدم الحرام، على خلاف الدم المتجمد أصلا كالكبد والطحال، فهما حلالان، كما جاء فى الحديث الشريف: «أحلت لكم ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطحال..» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 330 وقوله تعالى: «أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ» معطوف على قوله تعالى: «إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ» أي أو فسقا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ» .. وقوله تعالى «فَإِنَّهُ رِجْسٌ» هو بيان للعلة فى حرمة لحم الخنزير. أي فإن لحم الخنزير رجس، أي قذر أصلا، بخلاف المحرمات السابقة فإنها حلال أصلا، ولكن دخل عليها ما أفسدها وجعلها فسقا خارجا عن دائرة الحلال.. وقوله تعالى: «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» هو استثناء من حرمة المحرّمات السابقة التي حرم الله على المسلمين أن يطعموا منها فى حياتهم المألوفة.. أما إذا وقع المسلم فى حال لا يجد فيها ما يأكله وخاف على نفسه التلف، فإنه قد أبيح له أن يتناول من تلك المحرمات ما يسد جوعته، ويحفظ حياته.. «غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ» أي غير متجاوز الحدّ الذي يدفع عنه ضراوة الجوع، وغير معرض نفسه لمثل هذا الموقف قصدا، ليستبيح لحم الخنزير مثلا.. وقوله تعالى: «فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» إشارة إلى سعة رحمة الله ومغفرته لعباده، وما لهما من أثر فى ضبط هذا الموقف الذي يضطر فيه الإنسان إلى الإلمام بهذه المحرمات.. فمن رحمة الله أنه عمل على صيانة النفس الإنسانية من التلف، فأباح لها المحظور عند الاضطرار والحاجة، بعد أن صانها من الدنس فحرم عليها الخبيث. ومن واسع مغفرته أنه شمل هذه المحظورات فى حال الاضطرار، بالمغفرة. وفى تقديم المغفرة على الرحمة كرم ولطف من رب العالمين، حيث جعل المغفرة إذنا يصحبه معه من يأكل من هذه المحظورات عند الاضطرار فلا يتأثم ولا يتحرّج قوله تعالى: «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ» .. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 331 بعد أن بين الله سبحانه وتعالى ما أحل للمسلمين من طيبات، وما حرّم عليهم من خبائث- بين سبحانه ما حرم على اليهود من طيبات أحلها للمسلمين، وقد كانت حلّا لليهود من قبل أن تنزل التوراة، فحرمها الله عليهم، عقابا لهم ونكالا، إذ مكروا بآيات الله، وكفروا نعمه.. فحرّم الله عليهم كل ذى ظفر من الأنعام، أي كل ما كان منفرج الأصابع، كالإبل والنعام والدجاج والبط، كما حرم عليهم شحوم البقر والعنم، إلا الشحم الذي علق بظهورها، وما اشتملت عليه من الحوايا الشحم.. وهى الأمعاء، والكرش أو الشحم الذي اختلط بعظم كشحم الإلية. وقوله تعالى: «ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ» هو تعليل لهذه العقوبة التي أخذهم الله بها، وضيق عليهم ما وسّعه على غيرهم من عباده، وذلك لأنهم بغوا واعتدوا، ولم يقفوا عند الحدود التي حددها الله لهم، فكان عقابهم أن أخذهم الله بالضيق، إذ طلبوا السعة من غير ما شرع الله.. وفى قوله تعالى: «وَإِنَّا لَصادِقُونَ» إشارة إلى أن ما تلقاه النبىّ من آيات ربه، وفيما أخبر به عن اليهود هنا، هو من الصدق الذي لا افتراء فيه، لأنه تنزيل من رب العالمين.. ونلمح فى قوله تعالى: «وَإِنَّا» وهى ضمير الجمع، المراد به الله سبحانه وتعالى فى جلاله وعظمته، نلمح فيه الرسول الكريم، مضافا إلى الله فى هذا الخطاب الموجه إلى اليهود، مؤكدا صدق الله وصدق الرسول.. «وَإِنَّا لَصادِقُونَ» .. وفى هذا تكريم للرسول أي تكريم.. وفى قوله سبحانه: «فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ» التفات إلى النبىّ الكريم، وتلقين له بكلمات الله التي يردّ بها على اليهود الذين يكذبون بما أخبر القرآن الكريم من تحريم ما حرّم الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 عليهم من طيبات، فإنهم سيزعمون مزاعم كثيرة، ويقولون فيما يقولون من زور وبهتان: إن الله لم يحرّم علينا هذا الذي يذكره محمد عنا فى قرآنه! وقد علم الله سبحانه منهم أنهم لن يسلّموا بما أخبر به النبىّ عنهم، ولهذا جاء قوله تعالى مؤكدا هذا الخبر بقوله سبحانه: «وَإِنَّا لَصادِقُونَ» وذلك ليكون لهم من هذا التوكيد رادع يردعهم عن التكذيب بخبر يعلمون صدقه.. فإن أبوا إلا لجاحا وعنادا، لقيهم الرسول بقوله تعالى: «رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ» وفى هذا وعيد لليهود، وتجريم لهم، وأنهم- مع سعة رحمة الله- لا ينالون هذه الرحمة، ولا يدخلون فيمن يرحمهم الله من عباده، لأنهم أجرموا فى حق الله، «وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ» . هذا، ويلاحظ أن الآية الكريمة لم تلقهم بالتجريم لقاء مباشرا، بل جاء الحكم على المجرمين حكما عاما، يشملهم ويشمل غيرهم من المجرمين- وذلك أن الآية مكية، والسورة كلها مكية، ولم يكن الرسول قد التقى باليهود التقاء مباشرا، وإنما هذه الإشارات البعيدة هى إرهاص بما سيكون بينهم وبين الرسول من لقاء مباشر، وأنهم لن يلقوا الرسول، بالسلام، والتسليم، بل سيلقونه- بما عرف عنهم- بالبهت والتكذيب.. وهذا من شأنه: أولا: أن يهيىء نفس النبىّ للمعركة المنتظرة بينه وبين اليهود، وأنها معركة ستكون أسلحة اليهود فيها هى البهت والتكذيب، والافتراء والدس. وثانيا: أن يلفت اليهود إلى النبىّ، وإلى ما سيكون له من شأن معهم، وأنه ليس رسولا إلى العرب وحدهم، بل هو رسول إلى كل من تبلغه رسالته، من عرب وغير عرب، من مشركين وأهل كتاب على السواء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 الآيات: (148- 150) [سورة الأنعام (6) : الآيات 148 الى 150] سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) التفسير: من مفتريات المشركين أنهم يمكرون بأنفسهم، ويسوّغون لها الباطل والضلال بمثل هذه الأقوال التي يقولونها عن مشيئة الله، ويعلقون بها كل آثامهم.. وذلك كقولهم حين يدعون إلى الإيمان، وترك ما هم فيه من شرك: «لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ» .. وفى عطف آبائهم عليهم إشارة إلى أنّهم إنما يتبعون دين آبائهم، وأنهم إذا كانوا هم وآباؤهم على شرك، فذلك مما أراده الله لهم، ولو شاء الله لهم ألّا يشركوا ما أشركوا..» .. هكذا يمكرون بآيات الله، وهكذا يتعلّلون بمشيئة الله، ويسترون شركهم بها.. وهم فى هذا القول كاذبون حتى مع أنفسهم.. فلو أنّهم كانوا مؤمنين بالله على تلك الصفة التي يؤمنون فيها بمشيئته، ويرون أنها المشيئة الغالبة التي يردّ إليها كل شىء- لو أنّهم آمنوا بالله على تلك الصفة لما كانوا مشركين، بل كان إيمانهم بالله إيمانا خالصا مبرأ من الشرك، إذ أضافوا إليه كلّ شىء، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 وردّوا إلى إرادته ومشيئته كل شىء، ولو أنهم فعلوا ذلك لما كان لهم إلى هذه المعبودات التي عبدوها من دون الله وسيلة، ولكانوا هم وهذه المعبودات سواء عند الله، لا يملكون لأنفسهم ضرّا ولا نفعا.. ولكنهم إذ يقولون فى مشيئة الله هذا القول الذي يحسبون أنه يخليهم من مسئولية الشرك، بل ويعفيهم من كل إثم- لا يؤمنون بالله هذا الإيمان، ولا يرونه الإله المتفرد بكل شىء! وقد تحدثنا من قبل عن فساد هذا القول فى بحثنا الذي قدمناه، عن مشيئة الله، ومشيئة الإنسان، عند تفسير قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ..» (الآية: 111) من هذه السورة. وقوله تعالى: «كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا» إشارة إلى ما بين أصحاب القلوب المريضة، والنفوس الفاسدة، من تشابه فى التداعي إلى الشرّ، والتجاوب مع الضلال.. وأنه كما كذّب هؤلاء المشركون وقالوا «لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا» قال كثير ممن سبقوهم إلى الشرك هذا القول، فكان كفرهم وضلالهم ضربا من هذا المنطق الفاسد. وفى قوله تعالى: «حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا» تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين إذا هم ظلّوا على ما هم فيه من شرك وضلال، وأنهم سيلاقون ما لاقى أسلافهم الذين أشركوا، ولم تنفعهم العبر والمثلات، فأخذهم الله بذنوبهم، وصبّ عليهم العذاب فى الدنيا، وسيلقون العذاب الأليم فى الآخرة.. وقوله تعالى: «قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا» مواجهة للمشركين بتهمة الشرك الذي تلبّسوا به متذرّعين بتلك الحجة الفاسدة التي يلقون بها كل دعوة تدعوهم إلى ترك الشرك.. «لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا» . وهم مطالبون هنا بأن يقيموا هذا القول على علم من كتاب سماوى، أو من عقل سليم.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 335 وإنه لا علم عندهم من هذا أو ذاك. وإذ خرسوا فلم يردوا على هذا السؤال، فقد تولّى الله سبحانه وتعالى، الجواب المفحم لهم، الفاضح لسفههم وضلالهم: «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ» وهو جواب يواجههم بالتهمة التي تدينهم، وتلقى بهم فى مهاوى الهالكين. «والخرص» الأخذ بالشيء من غير علم محقق، يقال خرص النخلة. أي قدّر ما عليها من ثمر قبل أن ينضج، وهذا لا يكون إلا عن حدس وتوهّم، أشبه بالرجم بالغيب. قوله تعالى: «قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ» هو ردّ زاجر على المشركين، وإدحاض لافترائهم على الله، والتعلل لشركهم بقولهم: «لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا» .. وكأنهم بهذا القول إنما يقيمون لهم حجّة على الله، فلا يؤاخذهم على ما يقع منهم من شرك أو غيره من الآثام، بحجة أن الله هو الذي أراد لهم الشرك، كما أراد لهم كل فعل منكر، إذ بيده كل شىء، وإليه يردّ كلّ شىء.. أليس هذا هو قول المؤمنين بالله عن الله.؟ فكيف يراد من المشركين أن يخرجوا من شركهم؟ ألهم إرادة مع الله، أو مشيئة مع مشيئته.. هكذا يقولون!؟ وهذا من المشركين ضلال فى ضلال، إذ لو كانوا مؤمنين بالله- كما قلنا- على تلك الصّفة لكان لهم أن يقولوا فى مشيئته هذا القول.. ولكنهم إذ يجعلون لله شركاء يعبدونهم من دونه، لا يجعلون لمشيئته من يشاركه فيها، بل يجعلونها مطلقة، فلا مشيئة لأحد مع مشيئته.. وهذا تناقض مفضوح.. فإمّا إله متفرد بألوهيته، ومشيئته، وإذن فلا يشاركه أحد فى ألوهيته ومشيئته، وإما إله مع آلهة، يشاركونه المشيئة، كما يشاركونه الألوهية، وإذن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 336 فلا يصحّ لهؤلاء المشركين أن يضيفوا إلى مشيئة الله ما يقع لهم من شر وشرك.. وقد ردّ الله عليهم حجتهم الفاسدة بقوله تعالى: «قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ» أي إن حجتكم التي تحتجون بها لشرككم بالله، وإضافة هذا الشرك إلى مشيئته هى حجة باطلة، لا تقيم لكم عند الله عذرا، ولا تدفع عنكم مغبة هذا الإثم الذي غرقتم فيه، ولا تزال حجّة الله قائمة عليكم، آخذة بنواصيكم إلى المصير المشئوم الذي أعدّ لكم.. «فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ» التي لا تنقض أبدا.. وقد أقام الله عليكم الحجة، بأن جعل لكم سمعا وأبصارا وأفئدة، ثم أرسل إليكم رسله مبشرين ومنذرين.. فلم يغن عنكم سمعكم ولا أبصاركم ولا أفئدتكم، ولم تستقبلوا بتلك الجوارح هذا النور المرسل لكم هدى ورحمة.. فحقّ عليكم العذاب، بما كنتم تكسبون.. وقوله تعالى: «فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ» إشارة إلى أن مشيئة الله عامة شاملة، فلا يقع فى الوجود شىء إلا بمشيئته، حتى شرك هؤلاء المشركين، هو واقع بمشيئة الله، كما يقول هؤلاء المشركون، الذين يقولون هذا القول هزؤا وسخرية، ومكرا وتخابثا. ونعم: لو شاء الله ما أشركوا هم ولا آباؤهم.. ولكن قد طردهم الله من مواقع فضله وإحسانه، وعزلهم عن مجتمع أحبابه وأوليائه، لأنهم ليسوا أهلا لإحسانه، ولا موضعا لكرامته.. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ» (22- 23: الأنفال) . قوله تعالى: «قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا» . هلمّ: اسم فعل أمر، بمعنى هات، أو أحضر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 337 والخطاب هنا للمشركين، الذين يقولون: «لو شاء ما أشركنا نحن ولا آباؤنا ولا حرّمنا من شىء» .. فهم مطالبون بأن يأتوا بمن يشهد لهم على هذا الزّور الذي يقولونه على الله، ويضيفونه إلى مشيئته.. فهل عندهم من يشهد لهم بأن الله حرّم هذه المطاعم، التي يقولون إنها حرّمت عليهم بمشيئة الله وتقديره؟ إن الله- سبحانه- لم يحرّم شيئا من هذا الذي حرموه هم.. وإذن فهم الذين شاءوا بمشيئتهم أن يكون لهم موقف مع هذه الأشياء، وأن يصدروا حكمهم عليها بالتحريم، فكيف ينكرون- بعد هذا- مشيئتهم العاملة معهم فى الحياة، فتحلّ لهم الخبائث، وتحرم عليهم الطيبات؟ أليس ذلك عن مشيئة وإرادة منهم؟ إنهم لو كانوا- كما يقولون- بلا مشيئة متحركة عاملة، لما كان لهم أن يبدّلوا ويغيروا شيئا وجدوه قائما على ما أوجده الله، ولكانوا كالحيوان الأعجم، الذي يحرى على طبيعته، ويأخذ الأشياء على ما بها.. فهم- والحال كذلك- أصحاب مشيئة، ولكنها مشيئة فاسدة ملتوية، يعترضون بها سنن الله، ويغيّرون بها شريعة الله، ومن ثمّ فهم معتدون آثمون، قد حقّ عليهم أن يؤخذوا باعتدائهم، وأن يعذبوا بآثامهم. وقوله سبحانه: «فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» تثبيت للنبى الكريم على طريقه المستقيم، الذي أقامه الله عليه، وألا يأخذ بشهادة من يشهدون على هذا الزور، فإن أهل الضلال الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، لا يتحرجون من الكذب والافتراء، ولا يتورّعون أن يدّعوا على الله الكذب والبهتان. وقوله تعالى: «وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» أي يشركون بربهم، ويجعلون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 338 له أندادا، وأعدالا يساوونه، ويتوازنون معه عندهم. وفى إضافتهم إلى «ربهم» توبيخ لهم، وتسفيه لعقولهم، إذ يسوّون ربهم الذي خلقهم، وسوّاهم، ورزقهم، ببعض مخلوقاته، من حيوان وجماد. وهذا لا يكون إلا ممن سفه نفسه، وزهد فى عقله، واستسلم لهواه، واتبع شيطانه.. الآيات: (151- 153) [سورة الأنعام (6) : الآيات 151 الى 153] قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) التفسير: بعد أن فضح الله سبحانه وتعالى حجة هؤلاء المشركين التي أجازوا بها هذا الضلال الذي هم فيه، من شرك بالله، وتحريم ما حرموا من الطيبات التي أحلّها الله لعباده- أمر الرسول الكريم أن يؤذّن فى الناس- الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 ومن بينهم هؤلاء المشركين- بما شرع الله لهم من دين، وما حرّم عليهم من محرّمات، وما أحلّ لهم من طيبات، وتلك هى شهادة الرسول عليهم، بعد أن دعوا إلى أن يأتوا بمن يشهد لهم على هذه المفتريات التي افتروها على الله.. وشهادة الرسول، هى مما تلقاه وحيا من ربّه، وليس منها شىء من عنده: «قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ» . وسواء جاء هؤلاء المدعوون للاستماع إلى تلك الشهادة السماوية أم لم يجيئوا، فإن الرسول مأمور بأن يؤذن بشهادته فى الناس، وأن يبلغ ما أنزل إليه من ربه.. فمن كانت له أذنان فليسمع..! «أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» هذا هو رأس المحرمات التي حرّمها الله على عباده: الشرك به، إذ هو كفران بمن خلق ورزق، وعدوان على صاحب الحق فى الولاء والخضوع له، من عباده. وقد اضطرب المفسرون اضطرابا شديدا، واختلفت بهم مذاهب الرأى فى توجيه الآية الكريمة وجها يستقيم على فهم يوفق بين أمور تبدو فى ظاهر النظم متعارضة، إن هى جرت على قواعد اللغة والنحو.. فأولا: الجمع بين التحريم فى قوله سبحانه: «ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ» ثم وقوع هذا التحريم على النهى عن الشرك فى قوله تعالى: «أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» .. وذلك أنه إذا أخذ بظاهر النظم كان معناه: «ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» أي أن الذي حرمه ربكم عليكم هو أن تتركوا الشرك.. وهذا أمر بالشرك ودعوة إليه، وذلك ما ينزه كلام الله عنه.. وثانيا: مما وقع تحت حكم التحريم أمور واجبة شرعا، يرغّب الإسلام فيها، ويدعو إليها، وقد جاءت بصيغة الأمر فى قوله تعالى: «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 340 وقوله سبحانه: «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ» .. وقوله جل شأنه: «وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا» .. «وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا» .. وهذه الأشياء المأمور بها، على سبيل الوجوب، فى آيات كثيرة من كتاب الله- تبدو هنا فى ظاهر النظم كأنها دعوة إلى ترك هذه الواجبات، وإلباسها لباس المحرمات.. وهذا ما لا يستقيم أبدا.. وقد ذهب المفسرون- كما قلنا- مذاهب كثيرة مختلفة، من التأويل المتعسف، ومن افتراض الحذف والإضافة، والتقديم، والتأخير، وغير ذلك، مما يدخل على الآية الكريمة أجساما غريبة فيها، تفسد نظمها، وتحجب وجوه إعجازها.. ولا نعرض هنا لتلك المقولات، فهى مبثوثة فى كتب التفاسير ولا محصل منها لفهم سليم نستريح إليه.. وحسبنا أن ندلى بما عندنا من فهم للآية الكريمة وما فى نظمها الذي جاءت عليه، من إعجاز، لا يتحقق إلا بالنظر إليها، نظرا مباشرا، من غير أن يدخل عليها ما يغير من صورة نظمها، بحذف أو إضافة، أو تقديم أو تأخير.. فنقول- والله أعلم- إن الآية الكريمة والآيتان بعدها تضمنت مجموعة من النواهي والأوامر.. فمن النواهي: «أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» .. «وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ» «وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ» .. «وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ» .. «وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» .. ومن الأوامر: «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» .. «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ» .. «وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا» .. «وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 ثانيا: إذا لاحظنا أنّ الأمر والنهى هما الصميم من الشريعة الإسلامية، وعليهما تدور أحكام الشريعة ووصاياها- إذا لاحظنا ذلك وجدنا أن لهذا الجمع بين النواهي والأوامر التي حملتها تلك الآيات الثلاث، حكمته، إذ كان الرسول الكريم هنا فى مواجهة الناس جميعا، وخاصة المشركين، وهو فى هذا الموقف مطالب بأن يكشف أصول الشريعة التي جاء بها، وما أحلّ الله للناس وما حرّم عليهم.. وقد جاءت الآيات الثلاث بالأصول العامة لأحكام الشريعة كلها، فيما حرّمت وأحلّت. عن عبادة بن الصامت رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيكم يبايعنى على ثلاث..» ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم..» حتى فرغ من الآيات قال: «فمن وفى فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله به فى الدنيا كانت عقوبته (أي كانت العقوبة كفارة له) ومن أخر إلى الآخرة، فأمره إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه» . وعن ابن عباس رضى الله عنهما، أن هذه الآيات محكمات، لم ينسخهن شىء من جميع الكتب، وأنهن أم الكتاب، من عمل بهن دخل الجنة، ومن تركهن دخل النار. ثالثا: إذا لاحظنا أيضا أن الرسول الكريم لم يكن فى هذا الموقف يواجه الناس بأحكام جديدة، يكشف بها عن وجه رسالته، وإنما كانت تلك الأحكام قد تقررت من قبل، فيما جاء به القرآن، وقد كان ذلك معلوما كلّه هؤلاء المخاطبين، من مؤمنين ومشركين. - إذا لاحظنا ذلك وجدنا أنه لم يكن عمل الرسول هنا إلا تلاوة لنصوص أحكام كانت مقررة من قبل، ولهذا فقد أمر الرسول الكريم بأن يدعو الناس إليه، «قُلْ تَعالَوْا» .. ثم يستحضر الدستور الجزء: 4 ¦ الصفحة: 342 الذي بين يديه من كتاب الله، ويتلو هذه الأحكام المقررة فيه، من أوامر ونواه: «قُلْ تَعالَوْا.. أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ» .. خامسا: وإذ كان المشركون قد شرعوا لأنفسهم شريعة مفتراة، حرّموا بها ما أحلّ الله من طيبات، فقد كانت المواجهة لهم أولا بما حرّم الله من منكرات، وما نهى عنه من خبائث.. وننظر فى الآيات الكريمة فنرى: أولا: قوله تعالى: «قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ» يمثّل الرسول الكريم وقد جاء، وبين يديه، وعلى لسانه، كتاب الله الذي معه، يتلو منه ما حرّم الله على عباده من منكرات.. ثم ها هو ذا رسول الله يتلو عليهم ما حرم الله من منكرات، فيبدأ بقوله تعالى: «أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» . فهذا أول ما يجده الرسول الكريم من منكر نهى الله عنه فى آيات كثيرة أنزلها الله عليه، واستودعها قلبه.. مثل قوله تعالى: «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» . وقوله سبحانه: «فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» . فهذا هو أول ما يتلوه الرسول من كتاب ربه: «أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» .. والرسول فى هذه التلاوة غير ملتفت إلى تلك الدعوة التي دعا فيها الناس إلى أن يستمعوا إليه، وهو يتلو ما حرّم ربهم عليهم.. فتلك دعوة موجهة منه للناس أن يجتمعوا إليه، فإذا اجتمعوا، استقبلهم بما أنزل الله عليه من آياته، من منهيّات.. وإذن فلا اتصال فى النظم من جهة اللغة والنحو بين قوله تعالى: «قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ» وبين قوله سبحانه: «أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 343 فالأول عمل من أعمال الرسول لدعوة الناس إليه، والثاني تلاوة من كتاب الله الذي بين يديه.. ومن هنا نجد أكثر من فاصل يفصل بين المقطعين من الآية: فهناك فاصل زمنىّ- حسىّ ومعنوى- بين الدعوة، وحضور المدعوّين، وبين إسماعهم ما حرّم الله عليهم فى كتابه.. وهناك فاصل اعتباري، حيث أن المقطع الأول هو- فى ظاهره- من كلام الرسول، ومن عمله، على حين أن الثاني من كتاب الله نصّا، يتلوه الرسول من مستودعات الله فى قلبه.. وثانيا: قوله تعالى «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» بالعطف على النهى قبله: «أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً» هو من لوازم هذا النهى ومن مقتضياته.. فإن النهى فى حقيقته أمر سلبىّ، يقتضى الوقوف من المنهىّ عنه موقفا مجانبا له، أو منسحبا منه.. ومن تمام الحكمة أن يعقب تجنّب المنهىّ عنه، الخروج به من هذا الموقف السلبىّ إلى ما يقابله من عمل إيجابىّ.. فإذا امتثل الإنسان النهى عن الشرك بالله، وانخلع عن عبادة من عبدهم من دون الله، كان عليه أن يؤمن بالله، وأن يتقبل أوامره ويعمل بها.. ومن إعجاز القرآن الكريم هنا أن يجىء الأمر بالإحسان إلى الوالدين عقب النهى عن الشرك بالله، ليملأ هذا الفراغ الذي وجد بإجلاء الشرك عن قلوب المشركين، أو بغروب شخصه من آفاق المؤمنين.. فالأمر بالإحسان إلى الوالدين هنا، هو فى المكان الذي كان من المنتظر أن يحلّ فيه الإيمان بالله، محلّ الشرك، بعد أخلى مكانه، وزال شخصه.. وفى هذا ما فيه من تعظيم حق الوالدين، وجعل برهما والإحسان إليهما، أشبه بالإيمان بالله.. أما الإيمان بالله هنا فهو واقع لا شك فيه بعد أن جلا الشرك، الذي كان هو الحاجز الذي يحول بين المشركين وبين الإيمان بالله.. ثالثا: قوله تعالى: «وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 344 وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» هو استكمال لما حرّمه الله من منكرات، مما يتلوا الرسول الكريم على الناس من كتاب ربه.. وفى النهى عن قتل الأولاد خشية الفقر، بعد أمر الأبناء ببرّ الآباء- فى هذا ما يكشف عن تلك المفارقة البعيدة بين ما يكون من الأبناء من برهم بآبائهم، وبين ما يأتيه هؤلاء الآباء من قتل أولئك الأبناء.. وفى هذا ما فيه ضلال وسفه، وخروج على مألوف الطبيعة، فيما بين الكائن الحىّ ومواليده.. من حيوان ونبات!! وفى قوله تعالى: «وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ» قدّم رزق الآباء على الأبناء، لأن الآباء هنا فى فقر واقع بهم، وفى ضيق استولى عليهم، فقتل فيهم مشاعر الإنسانية، حتى طوعت لهم أنفسهم قتل أولادهم، شفقة عليهم، وإراحة لهم من آلام الجوع، وقسوة المسغبة، فجاء قوله تعالى: «نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ» ليشعر الآباء بأن الله متكفل برزقهم ورزق أبنائهم معا، وأن هذا الضيق الذي هم فيه سوف يعقبه فرج، وأن هذا الرزق الضيّق الذي هم فيه فعلا، هو قسمة بينهم وبين أبنائهم، فهم فيه سواء، وأنه ليس للآباء أن يقتلوا أولادهم وهم شركاؤهم فى هذا الرزق المحدود الذي فى أيديهم.. وقد جاء قوله تعالى فى سورة الإسراء: «وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ» بتقديم رزق الأبناء على الآباء، لأن الآباء فى تلك الحال ليسوا فى حال ضيق وفقر، وإنما هم على شعور الخوف من الفقر مستقبلا، فهم يقتلون أولادهم فى تلك الحال لا لفقر وقع، وإنما لخشية الفقر المتوقّع، الذي قد يكون وجود الأبناء سببا فى التعجيل به- فجاء قوله تعالى: «نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ» ليدفع هذا الشعور، وليقيم مكانه شعورا مضادا له، وهو أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 345 الأبناء لهم رزقهم عند الله، وأن هذا الرزق مقدم على رزق الآباء، وأن قتلهم حينئذ يكون عدوانا عليهم، وحبسا لهذا الرزق لذى سيرزقهم الله إياه.. وفى قوله تعالى: «وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ» نهى عن الفواحش، وهى المنكرات، وعلى رأسها لزنا، إذ كانت الصفة الملازمة له فى القرآن هى الفحش.. وما ظهر من الفواحش هو المعالن به منها، وهو فاحشة إلى فاحشة.. إذ كان الزنا فى أصله فاحشة، وكان الإعلان به فاحشة أخرى، لما فى لمعالنة من إذاعة الفاحشة، والتحريض عليها، والله سبحانه وتعالى يقول: «لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ» فكيف بالجهر بالسوء من الفعل؟ .. وما بطن من الفواحش، هو ما كان فى ستر وخفاء، فهو منكر فى ذاته، ولا يرفع عنه هذا المنكر إتيانه فى خفاء، إذ لا تخفى على الله خافية، وإن خفيت على الناس. رابعا: قوله تعالى: «وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ» . هو نهى عن العدوان على مال اليتيم الذي فى يد الأوصياء عليه، وفى النهى عن قربانه تحذير من الدنوّ منه بقصد السوء والعدوان، وفى قوله تعالى: «إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» استثناء من النهى العام بالاقتراب من مال اليتيم، إلا أن يكون ذلك لإصلاحه، واستثماره، أو الأخذ منه بالحق والإحسان، دون جور أو عدوان.. وفى قوله تعالى: «حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ» هو بيان للغاية التي يمتد إليها النهى عن الاقتراب من مال اليتيم، لأنه إلى تلك الحال يكون فى يد الوصىّ، فإذا بلغ اليتيم أشده صار المال إلى يده، وخرج من يد الوصىّ، فلا سلطان له حينئذ للتسلط عليه كيتيم.. ويكون العدوان على ماله بعد هذا، هو عدوان على الإنسان من حيث هو إنسان لا ولاية لأحد عليه، الأمر الذي نهى الله عنه. خامسا: قوله تعالى: «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 346 إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» . هو أمر بعد النهى عن العدوان على مال اليتيم، وفى هذا الأمر تكتمل صورة النهى، ويتمّ المقصود منه.. فإذا امتنع الوصىّ عن العدوان على مال اليتيم، وكفّ يده عن الأخذ منه بغير حق، كان عليه أن يتبع هذا السلوك فى كل ما بينه وبين الناس من معاملات.. فإذا كان الشيء مكيلا أو موزونا، أوفى الكيل والميزان فيما يكيل أو يزن «بالقسط» أي بالعدل.. فإذا نقص المكيل أو الموزون شيئا ما، من غير قصد، فذلك مما عفى الله عنه، ورفع الحرج عن صاحبه.. «لا نكلف نفسا إلا وسعها» إذ ليس مما تتسع له النفس ويقدر عليه الإنسان أن يضبط الكيل والميزان ضبطا مطلقا، بل المطلوب هو تحرّى الحق، وعدم القصد إلى خيانة أو خسران فى الكيل والميزان.. وهذا الأمر وإن كان فى مواجهة الأوصياء، هو أمر عام لكل من يؤمن بالله، وإن كان الأوصياء أولى الناس بالاستجابة له، بعد تلك التجربة التي كانوا فيها مع اليتيم ومال اليتيم. ومما هو من قبيل الأمانة، وتجنب الخيانة، الحكم بالعدل بين الناس، وقول كلمة الحق فى أداء الشهادة، وكذلك الوفاء بالعهود والمواثيق التي بين الإنسان وخالقه، أو بينه وبين العباد.. سادسا- قوله تعالى: «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» هو تعقيب على تلك النواهي والأوامر التي أمر الله سبحانه النبىّ الكريم أن يتلوها على الناس. فهذه المأمورات وتلك المنهيّات هى شريعة لله، وهى الصراط المستقيم الذي دعا لله عباده إلى الاستقامة عليه، فمن اجتنب المنهيات، وأنى المأمورات، فهو على صراط الله، وعلى شريعة الله، ومن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 347 انحرف عن هذا الصراط، فقد ضلّ وغوى، وكان من الهالكين.. وفى قوله تعالى: «فَاتَّبِعُوهُ» أمر بإتيان الأوامر.. وفى قوله تعالى: «وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ» نهى عن إتيان المنهيات.. وفى التعبير عن سبيل الله «بالصراط» والتعبير عن الطرق الخارجة عنه بالسبل- إشارة إلى أن طريق الله «صراط» أي طريق معدّ ومهيأ للسالكين، تقوم عليه منارات هدى، وإشارات هداية.. أما هذه السبل التي لا نستقيم على هذا الصراط، فهى طرق لا معلم فيها، ولا شارة عليها، يركبها الراكب فيتخبط، ويتعثر، ويضلّ.. ولهذا جاء التعبير عن صراط الله بلفظ المفرد، لأنه واحد لا غير، إذ الحقّ حقّ.. وجهه واحد، وطريقه واحدة، وأما الباطل، فهو أباطيل.. متعدد الوجوه، مختلف السبل.. عن ابن مسعود رضى الله عنه قال: «خطّ رسول الله خطا بيده ثم قال: «هذا سبيل الله تعالى مستقيما، ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله، ثم قال: «وهذه السبل ليس فيها سبيل إلا وعليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: «وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله» . الآيات: (154- 157) [سورة الأنعام (6) : الآيات 154 الى 157] ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 348 التفسير: فى العطف بثمّ هنا على الآيات السابقة ما يشير إلى أن هذا الخبر الذي تضمنته، متأخر زمنا عن الأحكام الواردة فى تلك الآيات.. وهذا يخالف الظاهر.. فإن ما نزل على النبىّ من آيات تلاها على الناس، هو متأخر زمنا عن الكتاب الذي نزل على موسى، وهو التوراة.. فما تأويل هذا؟ والجواب: أن هذا الذي يتلوه الرسول الكريم من كلمات ربه هو متقدم حكما على كتاب موسى، وإن جاء متأخرا زمنا.. ذلك أن القرآن الكريم هو أصل الكتب السماوية، وأنه جمع ما تفرق منها. وقد أشرنا إلى ذلك عند تفسير قوله تعالى: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ» (48: المائدة) . فإن ما أنزل الله على موسى، هو مما شرع الله من قبل للأمم السابقة، فيما جاء على لسان نوح وإبراهيم، وغيرهما من الأنبياء.. إذ أن شرع الله واحد، وهذا الذي تلاه النبىّ من كتاب الله هو أصل كل شريعة، وقوام كل دعوة سماوية، سبقت شريعة موسى، أو جاءت بعدها. وقوله تعالى: «تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ» هو وصف للحال الذي نزل عليها الكتاب الذي جاء به موسى، وهو أنه جاء تاما على أحسن ما يكون عليه التمام، كما جاء مفصلا لكل شىء.. ففى التوراة بيان مفصل لكل جزئية جاءت بها الشريعة الموسوية، فيما يتصل بالعقيدة، أو بالأمور الجزء: 4 ¦ الصفحة: 349 الدنيوية، حيث لم تدع مجالا لتأويل أو تفسير، ولا مكانا لعقل ينظر ويجتهد.. وذلك: أولا: ليسدّ على بنى إسرائيل الطريق إلى التأويلات الفاسدة، وإلقاء أهوائهم كلها على كلمات الله، إذا جاءتهم مجملة، تحمل أكثر من محمل.. وذلك لما عرف عنهم من المكر بايات الله والاستخفاف بحرماته.. وثانيا: ليلغى عقول هؤلاء القوم، وليمسك بهم فى دور الطفولة، جزاء لما استولى عليهم من طبائع خبيثة، لا تؤمن إلا بما يقع لأيديهم من محسوسات، فكانت التوراة بهذا التفصيل الذي جاءت به، أشبه بالمحسوسات فى وضوحها، وتحديد دلالاتها.. ومع هذا فقد خرجوا على حدودها، بما أدخلوا عليها من حذف وإضافة ومن تبديل وتحريف. وقوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ» هو تعليل لهذا التفصيل الذي جاءت عليه التوراة، الأمر الذي لا يدع لهم سبيلا إلى التأويل والتخريج، والذي من شأنه أن يكشف لهم الطريق إلى الله، وإلى الإيمان به، وبالدار الآخرة، التي هم فى ذهول عنها، لما يشغلهم من أمور الدنيا، ويحبس عقولهم وقلوبهم عليها.. هذا، وفى خطاب اليهود بضمير الغائب، دون أن يجرى لهم ذكر يعود إليه هذا الضمير- استخفاف بهم، وإهمال لشأنهم، إذ كانوا فى هذا الشرود وذلك الذهول عن الله، وعن كلماته المفصّلة التي بين أيديهم.. قوله تعالى: «وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» هو دعوة للمسلمين، إلى الله، وإلفات لهم إلى هذا الكتاب الذي جاءهم به رسول الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 350 من ربّه، يحمل البركة والخير والرحمة، لمن اتّصل به، وأخذ عنه.. وقوله سبحانه: «أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ» .. بيان للحكمة من إنزال هذا الكتاب على الأمة العربية، بلسانها العربي، وعلى يد رسول عربى، دون إحالة لهم على ما عند غيرهم من أهل الكتاب.. وفى هذا فضل عظيم من الله على هؤلاء القوم، الذين خصهم الله برحمته، ومسهم بفضله، فجعلهم أهلا لخطابه، وموضعا لمغارس السماء فيهم.. فلا حجّة لهم بعد هذا، ولا مكان لقول يقولونه إذا هم حوسبوا على هذا الشرك وذلك الضلال الذي هم فيه، حيث يقولون: إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، ولم ندرس ما عندهم، ولم نتلق عنهم، لأننا أمة لنا كيان واعتبار، وتأبى علينا أنفسنا أن نجىء إليهم متطفلين على ما فى أيديهم.. فها هو ذا الكتاب الذي كانوا يتطلعون إليه، قد جاءهم.. فما حجتهم إذا لم يتبعوه ويؤمنوا به؟. والطائفتان اللتان سبقتا الأمة العربية بالكتب المنزلة، هما: اليهود والنصارى.. وقد خصّا بالذكر لأنهما كانا من المساكنين للأمة العربية، والمتصلين بها، زمانا ومكانا. وقوله تعالى: «أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ» هو من المقولات التي كان يمكن أن يقولها مشركو العرب، لو لم ينزل عليهم القرآن الكريم.. وها هو ذا الكتاب المبارك قد نزل عليهم.. فماذا هم فاعلون به؟ وما حجتهم على الله إذا زهدوا فيه، أو وقفوا منه موقف العداوة، ونصبوا له الحرب، كما هم يفعلون الآن والنبي معهم؟. وقوله تعالى: «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها» هو وعيد لهؤلاء المشركين الذين استقبلوا آيات الله بالتكذيب بها، وبالصدّ عنها، فإنهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 351 قد ظلموا أنفسهم، وحرموها هذا الخير المرسل إليهم، وحجبوها عن تلك الرحمة المهداة لهم.. وقوله سبحانه: «سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ» هو حكم بالعقوبة الرادعة، والجزاء الأليم، لأولئك الذين كذّبوا بآيات الله وصدّوا عنها.. والصّدوف عن الشيء: التولي عنه، والمجانية له. الآيات: (158- 160) [سورة الأنعام (6) : الآيات 158 الى 160] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160) التفسير: بعد أن أعذر الله للمشركين من قريش ومن حولهم، بما بعث فيهم من رسول منهم، وبما أنزل إليهم من كتاب كانوا يتمنونه من قبل ليكونوا أهل كتاب كاليهود والنصارى، وبعد أن كان منهم هذا الذي استقبلوا به الكتاب والنبىّ الذي حمل إليهم الكتاب، من مشاقّة وعناد، وتكذيب- بعد هذا كله لم يكن لهم أن ينتظروا إلا أن يصيروا إلى هذا المصير الذي يقودهم إليه كفرهم وضلالهم، إذ لا هدى لهم بعد هذا الهدى، ولا كتاب بعد هذا الكتاب.. ولهذا جاء قوله تعالى: «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 352 أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ» لينكر عليهم هذا العناد الذي هم فيه، وليدخل اليأس عليهم من أن ينتظروا جديدا، يطلع فى أفقهم بدعوة تدعوهم إلى الله، إذ ليس هناك دعوة أبلغ ولا أبين من هذه الدعوة التي بين أيديهم.. وأنهم إن كانوا ينتظرون أن تأتيهم الملائكة، أو يأتيهم الله، أو تأتيهم بعض آيات الله.. فلينتظروا.. أما الملائكة فلن يأتوا أبدا.. والله سبحانه وتعالى يقول: «قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا» (95: الإسراء) . وأما الله سبحانه وتعالى، فهو معهم أينما كانوا، ولكنهم لن يروه عيانا، لأنه سبحانه منزّه عن أن يحدّ، ولو رؤى لكان محدودا.. وأما بعض آيات الله، وهى نذر الهلاك المرسل إليهم، أو علامات الساعة التي تكون بين يديها- فإنها إذا جاءت لم تكن من تلك المعجزات التي تكشف للناس طريق الإيمان إلى الله، وإنما هى آيات تطلع عليهم بالمهلكات، حيث لا فائدة للإيمان بعدها، ولا أثر له فى حياة صاحبها، لأنها تأتى لتنهى حياة الناس، لا لتجدّد لهم حياة طيبة فى الحياة .... وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ» فالإيمان عند استقبال الموت لا ينفع صاحبه، فهو كإيمان فرعون حين أدركه الغرق. وقوله تعالى: «أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً» .. الضمير فى إيمانها يعود إلى النفس التي آمنت عن مجىء نذر الله، ثم تراخى الموت قليلا عنها حتى ملكت أمرها، واستطاعت أن تتصرف فى الحياة- وهى مؤمنة- تصرفا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 353 يجرى مع الإيمان فى طريق الخير والإحسان.. وهذا من رحمة الله بالناس وفضله عليهم، إذ لم يحرمهم ثمرة الإيمان الذي دخلوا فيه، وهم بين إرهاصات الموت ونذره.. وقوله تعالى: «قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ» هو وعيد للمشركين، وإبعاد لهم من الإيمان الذي دعوا إليه فصدّوا عنه، وتركهم وما هم فيه من ضلال، ينتظرون ما ينجلى عنه كفرهم وعنادهم، وما ينجلى عنه موقف النبي وأصحابه.. معهم! قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ» هو إشارة إلى اليهود والنصارى، وما انتهى إليه أمرهم من تفرق واختلاف فى دينهم الذي بين أيديهم، وقد تفرقوا شيعا وأحزابا.. كلها على غير طريق الحق، لأن الحق طريق واحد، ومن استقام عليه قليل من كثير، وفرقة واحدة من جميع هذه الفرق.. وقد نبّه الله سبحانه وتعالى النبىّ إلى هذا الخلاف الذي بين اليهود واليهود، وبين النصارى والنصارى، ثم بين اليهود والنصارى، وأنه ليس للنبى أن يدخل معهم فى جدال، «إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ» أي يفصل بينهم فيما اختلفوا فيه، ويجزى كلّا بما كسب، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى بعد هذا: «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» - هكذا رحمة الله، وكذلك عدله.. يجزى الحسنة بعشر أمثالها.. فضلا وكرما، ويجزى السيئة بمثلها.. عدلا وصدقا.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 354 الآيات: (161- 164) [سورة الأنعام (6) : الآيات 161 الى 164] قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) التفسير: بهذه الآيات، والآية التي بعدها تختم هذه السورة، التي كانت كلها دعوة إلى الله، ومعارض مختلفة للكشف عن قدرته، وعلمه، وحكمته.. فهى- وإن اختلفت مواقف الدعوة فيها إلى الله- تمثل جميعا موقفا واحدا، ينتهى النظر بعد ترداده فيها، وتطوافه حولها إلى التسليم بأن لهذا الوجود ربا، وأن لهذه الموجودات خالقا مبدعا، قائما على كل كبير وصغير منها.. هكذا ينتهى النظر فى هذه المعارض الكثيرة المختلفة التي عرضتها السورة هذا العرض المعجز المبين- ينتهى النظر وقد امتلأت قلوب المؤمنين إيمانا بالله، وخشية لجلاله وولاء لعظمته وقدرته.. أما المشركون، والكافرون، ومن فى قلوبهم مرض، فلا على المؤمنين من أمرهم شىء.. فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.. والرسول الكريم هو إمام المؤمنين، وقدوة المهتدين، ولهذا فقد كان من فضل الله عليه، ورعايته له أن لقيه- سبحانه- بعد هذه المواقف المتزاحمة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 355 بينه وبين المشركين- لقيه ربه بهذا الهدى السماوي، ليثبت به فؤاده، ويشرح به صدره.. «قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» .. فعلى هذا الصراط المستقيم أقام الله نبيه الكريم من أول خطوه فى الحياة. وقوله تعالى: «دِيناً قِيَماً» هو بدل من «صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» على اعتبار أنه منصوب محلّا.. أي هدانى ربى صراطا مستقيما: «دِيناً قِيَماً.. مِلَّةَ إِبْراهِيمَ» وقوله تعالى: «مِلَّةَ إِبْراهِيمَ» بدل من قوله: تعالى «دِيناً قِيَماً» و «حَنِيفاً» حال من إبراهيم، «وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» حال أخرى ... وقوله تعالى: «قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ» هو بيان لهذا الصراط المستقيم الذي هو الدين القيم، والذي هو ملة إبراهيم، والذي من شأن من يستقيم على هذا الصراط، ويتبع هذا الدّين أن يكون ولاؤه كله لله، وعمله كله لله.. فلا يصلى إلّا له، ولا يتقرب بالطاعات والقربات إلا إليه وحده، وأن تكون حياته كلها لله، مسلما له وجهه، مفوضا إليه أمره، حتى إذا مات كان إلى الله مصيره، وبين يديه موقفه وحسابه.. تلك هى عقيدة من أقامه الله على صراطه المستقيم، وذلك هو ولاؤه لله رب العالمين.. وهكذا كان النبىّ، وهكذا ينبغى أن يقتدى به كل مؤمن بالله وبرسوله.. وقوله تعالى: «وَبِذلِكَ أُمِرْتُ» إشارة إلى أن هذا الذي عليه النبي، من إيمان بالله، وولاء له، ليس من عند ذاته، وإنما هو مما أمره الله به، وأمره أن يبلغ الناس إياه.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 356 وقوله تعالى: «وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ» أي أول من استجاب لدعوة الله التي دعى إليها، وأمر أن يؤذّن بالناس فيها.. فالنبىّ هو صاحب الدعوة الإسلامية، فكان أول من لبس ثوبها، وتوّج بتاجها.. والسؤال هنا: هل كان النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- أول المسلمين عامة، أي أول الإنسانية كلها إسلاما.. أم هو أول المسلمين من أمة محمد وحدها؟. والجواب على هذا- والله أعلم- أنّه- صلى الله عليه وسلم- أول المسلمين فى أمته، إذ أن «الإسلام» هو سمة الرسالة المحمدية وحدها، من بين الرسالات السماوية كلها، وأن «الإسلام» وإن كان هو دين الله، الذي جاءت به رسالاته كلها، إلا أنه لم يأخذ هذا الوصف إلا فى رسالة محمد، التي كانت مجتمع الرسالات، وخاتمتها، وأن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قد دعوا الله بأن يجعل منهما أمة مسلمة، هى أمة محمد عليه الصلاة والسلام.. وفى هذا يقول الله على لسانيهما: «رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ» .. (128: البقرة) : ويقول سبحانه «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ» (78: الحج) وقوله تعالى: «قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ» أمر من الله- سبحانه- للنبىّ أن ينكر على المشركين ما هم فيه من ضلال وشرك بالله، وأنهم إذا ابتغوا غير الله ربّا، فلن يبتغى هو غير الله ربّا، فالله هو ربّ كل شىء، واتخاذ غيره إلها، هو شرود عن الحق الذي استقام عليه الوجود كله.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 357 وقوله سبحانه: «وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» هو تقرير لهذه الحقيقة التي استقام عليها النبىّ ومن تبعه من المؤمنين، إذ أن كل إنسان محاسب على ما عمل، ومجزيّ به، وما تكسبه كل نفس فهو محسوب عليها: «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» أي لا تحمل نفس ذنب نفس أخرى. إذ كل نفس بما كسبت رهينة. والوزر: الحمل الثقيل، ومنه قوله تعالى: «وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ» . وقوله تعالى: «ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» هو تذكير للناس جميعا بربهم الذي أنشأهم، وربّاهم، وأنهم سيعرضون عليه بأعمالهم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. الآية: (165) [سورة الأنعام (6) : آية 165] وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) التفسير: بهذه الآية الكريمة تختم سورة الأنعام.. وهى سورة كلها نعم وأفضال، تحدّث كلماتها وآياتها بما لا يحصى من آلاء الله ونعمه المبثوثة فى الوجود، والتي من شأنها أن تطلع ذوى الأبصار والبصائر على ما فى ملكوت الله من آيات القدرة، وروائع الحكمة، فيخبتوا لله ويخشعوا.. وقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ» بيان لنعمة من نعم الله الكبرى على بنى آدم خاصة، إذ جعلهم «خلائف الأرض» وفى هذا ما فيه من تكريم لهم، وإحسان إليهم.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 358 وفى قوله تعالى: «خَلائِفَ» إشارة إلى مكانة الإنسان، وسموّ قدره، وأنه ليس مكرّما فى جنسه وحسب، بل هو مكرّم فى كل فرد من أفراده.. فكل إنسان هو خليفة الله فى هذه الأرض، وأنه- وإن كان عضوا فى المجتمع الإنسانى- فليس ذلك بالذي يذهب بشىء من مقومات شخصيته، أو يجور على هذا الوضع الكريم الذي وضعه الله فيه.. فهو خليفة الله، أيّا كان مكانه فى المجتمع.. غنيا أو فقيرا، عالما أو جاهلا، قويا أو ضعيفا.. إنه خليفة الله فى الأرض، ومن واجبه أن يعمل بمقتضى هذه الخلافة، ويجمع إلى يديه أسبابها ومقوّماتها.. هذا هو الإنسان كما تنظر إليه شريعة الإسلام.. إنسان كريم على الله، خلع عليه خلع الخلافة، وتوجه بتاجها، وجعل درة هذا التاج هو عقله الذي يستطيع به أن يبلغ من السموّ ما يشاء. وإنه لمن ظلم الإنسان لنفسه، ومن استصغاره لوجوده، أن يسفّ وينحدر عن هذا المستوي الكريم الذي رفعه الله إليه، فيتحول إلى كائن حيوانىّ ذليل، يقاد فينقاد، ويستذل فيذلّ، حتى لينعزل عن العالم الإنسانى، ويصبح على غير الخلق السوىّ الذي خلقه الله عليه.. «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ..» وفى قوله تعالى: «وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ» إشارة إلى أن هذا المستوي الكريم الذي وضع الله سبحانه الإنسان فيه- ليس على درجة واحدة، وإنما هو درجات، بعضها فوق بعض، وإن كان أدنى هذه الدرجات لا ينزل بالإنسان عن درجة الخلافة التي أعده الله لها. فإن نزل الإنسان عن هذه الدرجة فقد نزل عن إنسانيته، وتحلّى عن مكانه بين الناس.. أما هذا التفاوت الذي بين الناس فهو فى مراتب الفضل، ابتداء من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 359 درجة الخلافة، إلى جميع الكمالات التي تمكّن من أسبابها وتؤكد من سلطانها. وفى هذا التفاوت الذي بين الناس، وفى درجات التفاضل المقسومة بينهم، يتحرك الناس، فيلحق المتأخر بالمتقدم، ويسعى المتقدم ليلحق بمن تقدم عليه وفضله، أو ينزل عن مكانه الذي هو فيه ليأخذه غيره.. وهكذا يتحرك الناس فى الحياة صعودا وهبوطا، ويتبادلون المواقف، ويتنازعون منازل الفضل، وبهذا تظل ريح الحياة فى حركة دائمة مجدّدة. يتنفس فيها الناس أنفاس الأمل، والقوة، والحياة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ» أي ليمتحنكم فيما أودع فى كل منكم من قوى، هى رصيد كل منكم فى سوق الحياة، وفى هذه السوق يكون العمل، فيربح من يربح، ويخسر من يخسر.. وفى قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» إشارة إلى أن كل عمل يحمل جزاءه معه، جزاء معجّلا، يجده الإنسان فى الدنيا، قبل أن يلقى الجزاء عليه فى الآخرة. فالأعمال الطيبة تفوح منها ريح طيبة على صاحبها، فيجد فيها رضى النفس، وراحة الضمير، وحسن الأحدوثة، وسلامة العاقبة.. والأعمال الخبيثة تهب منها على صاحبها ريح خبيثة تزكم أنفه، وتخنق صدره، وتفسد حياته، وتضلّ سعيه.. هذا هو الجزاء السريع العاجل فى الدنيا لكل عمل.. «إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ» . أما فى الآخرة، فهناك الحساب والجزاء، لأعمال الإنسان جميعها، حيث تسوّى أعماله خيرها وشرها، ويوفىّ الجزاء العادل عليها. وهذا الجزاء المعجل والمؤجّل معا، تحفّه مغفرة الله، وتمسه رحمته، ولولا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 360 ذلك لهلك الناس جميعا، ولما نجا منهم أحد.. «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ، وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» : (61: النحل) وكون الله بصيرا بعباده، يقتضى أنه عالم بما فيهم من ضعف إنسانىّ، إن لم تمسسهم رحمة الله، وتحفّ بهم مغفرته لم يكن للناس جميعا سبيل إلى الخلاص والنجاة، وهذا ما يكشف عنه سرّ الجمع بين ما عند الله من عقاب سريع، وما عنده من مغفرة ورحمة: «إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 361 7- سورة الأعراف نزولها: نزلت بمكة إجماعا.. عدد آياتها: مائتان وست آيات. عدد كلماتها: ثلاثة آلاف وثلاث مئة وخمس وعشرون كلمة. عدد حروفها: أربعة عشر ألف حرف وثلاثمائة وعشرة أحرف.. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الآيتان (1- 2) [سورة الأعراف (7) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) التفسير: «المص» .. ذكرنا فى أول سورة البقرة الأقوال التي قيلت فى تأويل الحروف التي بدئت بها بعض سورة القرآن الكريم.. وقلنا رأينا الذي ارتضيناه فيها، وأنها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، والراسخون فى العلم، الذين آتاهم الله من فضله علما وحكمة. «كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» .. قوله تعالى: «كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ» خبر لمحذوف دل عليه النظم، وتقديره: هذا الكتاب.. أي هذا الكتاب.. كتاب أنزل إليك. ويجوز أن يكون كتاب مبتدأ، وخبره قوله تعالى: «أُنْزِلَ إِلَيْكَ» .. وفى تنكير الكتاب مبالغة فى التعريف به، وبأنه بذاته مستغن عن كل تعريف، وهذا هو الرأى الذي نميل إليه. وفى إسناد الفعل للمفعول «أنزل إليك» بدلا من أنزلناه، أو أنزله الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 362 إليك- فى هذا توافق بين المبتدأ والخبر، من حيث التنكير والتجهيل، اللذان هما- فى تنكيرهما وتجهيلهما- أعرف وأظهر من كل معروف ومن كل ظاهر.. «كتاب أنزل إليك» أيها النبىّ، فلا تتلّبث فى شأنه، ولا تقف لتقول: ما هذا الكتاب؟ ومن أين جاء؟ .. هو كتاب أنزل إليك وكفى! إنه واضح الدلالة، بيّن القصد.. فى كل كلمة من كلماته، وفى كل آية من آياته، شاهد يشهد له، ويشير إلى متنزّله.. «فلا يكن فى صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين» أي إذا كان هذا الكتاب الذي أنزل إليك على ما ترى من هذا السلطان الذي له، ومن هذا الإعجاز الذي بين يديه، فلا يكن فى صدرك ضيق، أو خشية من لقاء المشركين به، ودعوتهم إليه، وكشف ما يكشف من ضلالاتهم، وسفاهاتهم، ولو ساءهم ذلك فى أنفسهم وفى آلهتهم.. فإنه الحقّ الذي تصدم به الباطل، وإنه النور الذي تجلى به غياهب الشرك والضلال.. فيا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك.. ولا يكن فى صدرك حرج مما يسوء قومك من هذا الحق الذي تكشفه لهم.. لتنذر به المشركين منهم، وتذكّر به المؤمنين الذين اتبعوك.. ولقد كان النبىّ الكريم- صلوات الله وسلامه عليه- كريما مع قومه، محبا لهم، حريصا على أن يلقاهم- كما اعتادوا منه- بالمودة والإحسان.. فلما أكرمه الله بالرسالة، ليحرر قومه من ضلالاتهم، ويجلو العمى عن أبصارهم، بدأ يتلمس طريقه إليهم فى رفق وحذر، حرصا على ألا تنقطع بينه وبينهم وشائج القربى، وصلات المودة.. ولكن سفهاء قومه لم يستقبلوه بالحسنى، بل علا صراخهم فى وجهه، وتطاولت ألسنتهم بقول السوء فيه، ثم سعوا إليه بالأذى المادي، حتى لقد همّوا بقتله.. وهو- مع هذا- حريص على أن يمسك قومه على هذا الخير الذي بين يديه، وأن يفيض عليهم منه، ثم هو من جهة مطالب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 363 بأن يجهر بدعوته، وأن يملأ بها أسماع الدنيا، ولو تقطعت بينه وبين أهله الأسباب. ومن أجل هذا كان صلوات الله وسلامه عليه واقعا فى هذا الحرج، أول الأمر من دعوته، يريد أن يجعل من الزمن جزءا من العلاج، لحلّ هذه العقد التي بينه وبين قومه.. ولهذا كانت آيات الله تتنزل عليه كلما ألمت به حال من تلك الأحوال، التي تدعوه إلى أن يتلبث ويستأنى: فتجىء تلك الآيات لتقطع عليه هذا الشعور الذي يطرقه، ولتدفع به إلى ملاقاة المشركين لقاء مواجها متحديا: «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ» (94: الحجر) ... «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» (67: المائدة) . وقد صدع النبىّ بأمر ربه، وواجه قومه مواجهة صريحة بكل ما أوحى إليه من ربه، غير ملتفت إلى ما يصيبه من ضر وأذى، وغير عابىء بما ينكشف عنه الحال بينه وبين أهله، ولو كانت الحرب وكان القتال، والقتل.. وقد كانت الحرب، وكان القتال والقتل! ومع هذا فقد ظلّ النبىّ الكريم- فيما يتصل بخاصة نفسه- على ما عوّد قومه، وما اعتاد الناس منه.. لا يمس شعور أحد من أصحابه، ولا يجرح حياء أحد من معاشريه ومخالطيه، إلا أن يجار على حق من حقوق الله، أو تنتهك حرمة من حرماته، فإن حق الله فوق كل شىء، وحرمته فوق كل حرمة.. كان بيت الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- مجمع صحابته وملتقى المسلمين من كل أفق.. يجلسون إليه فيطيلون الجلوس، فى ظل هذا النور الهادي، وفى محضر هذا الخير العميم، ويطرقون بيته فى أيّة ساعة من ساعات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 364 الليل أو النهار.. يستخبرون ويخبرون، ويقولون ويقال لهم، غير مقدّرين حاجة الرسول- كإنسان- إلى أن يسكن إلى بيت، أو يفىء إلى راحة.. وكان من هذا أن تولىّ الله سبحانه وتعالى التخفيف عن النبىّ من هذا الحمل الذي ينوء به، ولا يجد من نفسه القدرة على أن يواجه أحدا بكلمة تردّه عن بيته، أو تنزعه من مجلسه.. وفى هذا يقول الله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ» (53: الأحزاب) . ويقول سبحانه فيما أدب به المؤمنين فى حديثهم مع الرسول: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ» .. لقد قالتها السماء، ولم يقلها الرسول الكريم.. هكذا كان الرسول مع الناس- فى خاصة نفسه- يحتمل الجهل والسفه من الجاهلين والسفهاء.. وعلى هذا يفهم الحديث الشريف: «إنا لنهشّ فى وجوه قوم وقلوبنا تلعنهم» ففى هذا الأدب النبوي دعوة إلى مداراة الناس، وعدم مجابهتهم بما نكره منهم، فإن فى هذا تأليفا بين القلوب وتواصلا بين الناس، ولو أننا لقينا الناس أو لقينا الناس بما نكره منهم وما يكرهون منّا لما التقى إنسان بإنسان إلا على عداوة وبغضاء، ثم مشاحنة وخصام.. وفرق بين هذا الموقف وموقف الملق والريا، الذي يتخذ منه صاحبه وسيلة للخداع والتمويه، بتزييف الحقائق، وطمس معالم الأمور.. أما هذا الموقف فلا يعدو أن يكون صورة كريمة من صور دفع السيئة بالحسنة، مع ما يصحب ذلك من كظم الغيظ، ودفن الألم.. وأما اللعنة التي يشير إليها الرسول الكريم فى قوله: «وقلوبنا تلعنهم» فهى كناية عن هذا الغيظ المكظوم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 365 أو هذا الألم الدفين، الذي يحبسه لإنسان فى نفسه، ويحملها عليه من غير أن يظهر شىء من ذلك على وجهه أو لسانه.. كما يقول سبحانه: «وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ» . الآيات: (3- 9) [سورة الأعراف (7) : الآيات 3 الى 9] اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9) التفسير: بعد أن بيّن الله سبحانه وتعالى لنبيّه الكريم الموقف الذي ينبغى عليه أن يقفه من الناس فى تبليغ دعوته، وأنه موقف لا حساب فيه لمشاعر القربى، ولا مدخل فيه لما يسوء المكابرين والمعاندين منه- بعد هذا جاء أمر الله سبحانه إلى الناس أن يتبعوا هذا الذي أنزل إليهم من ربّهم، والذي يعرضه الرسول عليهم، ويبلغهم إياه: «اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ» فما يبلّغه الرسول إليهم ليس من عند هذا الرسول، وإنما هو من كلام رب العالمين.. فها هو ذا لرسول يدعوهم إلى الله بكلمات الله، وها هو ذا الشيطان يدعوهم إلى الغواية والضلال، بالزور من القول، والزّيف من الأمانى.. «اتَّبِعُوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 366 ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ» .. فهما دعوتان.. دعوة إلى حق وهدى، ودعوة إلى باطل وضلال.. وقليل من الناس أولئك الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وكثير أولئك الذين لا يسمعون، ولا يعقلون.. «قليلا ما تذكرون» إذ استولى الفساد على الناس، وصرفهم عن الحق، إلا قليلا ممن هدى الله. وهذه الثلاث وتلك النذر قائمة بين الناس، تريهم منها ما حلّ بالظالمين من بلاء، وما وقع بهم من سوء.. «وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ..» فما أكثر الأقوام الذين أخذهم الله بظلمهم، وما أكثر القرى العامرة التي دمّرها الله ودمدم على أهلها، فأصبحوا ترابا فى ترابها!. والبأس، هو البلاء المسلط من قوة قادرة لا تدفع. وفى هذه الآية ما يسأل عنه، وهو: كيف قدّم الإهلاك على مجىء البأس: «أهلكناها فجاءها بأسنا» مع أن البأس هو عامل الإهلاك وأداته؟. والجواب، أن الإهلاك حكم واقع مقرر قبل مجىء البأس، وأن هذه القرى الظالمة كانت تحت حكم لإهلاك قبل أن تهلك بزمن طويل، لما كان عليه أهلها من ضلال، وعناد، وإفساد فى الأرض وأن الله سبحانه وتعالى أمهلهم، وبعث فيهم الرسل، مبشرين ومنذين، فلم يلتفتوا إلى هدى الله، ولم يقبلوا على دعوته، بل صدّوا عنه، وازدادوا كفرا إلى كفر وضلالا إلى ضلال.. حتى إذا بلغ الكتاب أجله، جاءهم بأس الله، فأخذهم العذاب وهم ظالمون.. وفى قوله تعالى: «فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ» إشارة إلى أن هذا البلاء قد وقع على تلك القرى الظالمة حين كانت فى غفلة من أمرها، لا تتوقع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 367 شرّا، حيث لفّها الليل فى سكونه، واشتمل عليها النعاس بسلطانه، أو حيث هجعت فى قيلولة، وفاءت إلى ظلّ ظليل.. فالضربة هنا ضربة مفاجئة لا تدع لأحد سبيلا إلى استجماع نفسه، أو لمّ شمله، أو إلقاء نظرة إلى ماله وأهله وولده.. «وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» . وقوله تعالى: «فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ» إشارة إلى أن الكلمة التي استقبل بها القوم هذا البلاء، لم تكن إلا إدانة لأنفسهم، وحجة يقيمها بعضهم على بعض، بأن ما حلّ بهم لم يكن إلا بما ساقهم إليه سفهاؤهم من كفر بالله، وصدّ عن سبيله.. والدعوى هنا بمعنى الدّعاء، الذي يدعو به بعضهم بعضا.. فيقول كل منهم: هذه فعلة فلان وفلان بنا!! وإذا كانت دعوى أهل السلامة والعافية فى الجنة هى الحمد لله رب العالمين، كما يقول الله تعالى: «وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» - فإن دعوى أهل العطب والضياع.. «يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ» .. ولكن هيهات.. فلن يقبل منهم عذر، ولا يسمع لهم قول: «فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» . قوله تعالى: «فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ» .. فها هو ذا يوم القيامة، وها هم أولاء الناس جميعا فى موقف الحساب والجزاء.. يسألون: ماذا كان منهم فى دنياهم التي خلفوها وراءهم؟ وماذا كان موقفم من رسل الله؟ .. وهاهم أولاء رسل الله يسألون: «ماذا أجبتم؟» وماذا لقيتم من أقوامكم؟ ومن الذي آمن بكم وآزركم ومن صدّ عنكم وتصدّى لكم؟ .. وتخشع الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا، وتنشر صحف العباد، ويرى كل إنسان ما عمل من خير أو شرّ، «فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ» فما سئل الناس، وما استشهد الرسل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 368 عليهم ليقولوا شيئا غاب عن الله سبحانه وتعالى أمره، ولكن ليستحضرواهم وجودهم كله، حتى يشهدوا هذا الذي كان كثير منهم فى شك منه، من قدرة الله، وسعة علمه الذي لا تخفى عليه خافية.. «ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا..» قوله تعالى: «وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ» . فى هذا إشارة إلى أن أعمال الناس التي عرضت عليهم، لم تكن لمجرد عرضها، والعلم بها، وإنما لتكون موضع حساب ومناقشة، فتوزن أعمال كل إنسان بميزان الحق والعدل.. فمن ثقلت موازينه، ورجحت حسناته على سيئاته، فقد نجا وأفلح، وكان من الفائزين برضوان الله وجنات النعيم، ومن خفت موازينه فرجحت سيئاته على حسناته، فقد خاب وخسر، وكان العذاب جزاءه والنار مثواه.. والباءان فى قوله تعالى: «بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ» : الأولى للسببية، والثانية للاستصحاب، بمعنى أنهم خسروا أنفسهم بسبب كونهم كانوا ظالمين مع استصحاب آياتنا، ووجودها بين أيديهم، وفى مواجهة حواسّهم ومدركاتهم لها.. والآيات هنا، هى آيات الله المنزلة على أنبيائه، والآيات الكونية التي تبدو فى كل ما أبدع الخالق وصوّر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 369 الآيات: (10- 13) [سورة الأعراف (7) : الآيات 10 الى 13] وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) التفسير: بعد أن عرض الله سبحانه وتعالى الناس على مشاهد القيامة، وما سيكون لهم فيها من مواقف، بين سعداء وأشقياء- بعد هذا العرض استقبلهم سبحانه- بتلك الآيات الكريمة التي تذكرهم بما كانوا فى غفلة عنه من أمرهم، ومالله من فضل عليهم، فيما مكن لهم من أسباب الحياة فى هذه الأرض، وفيما كان قبل ذلك من إيجادهم من عدم، وخلقهم على تلك الصورة الكريمة، التي صار بها الإنسان أهلا ليكون خليفة الله فى الأرض.. وهذا من شأنه أن يلفت الإنسان إلى هذه النعم، وإلى أداء حق المنعم بها، وذلك بحمده، والولاء له، وخاصة بعد هذه المشاهد المثيرة التي طلعت على الناس من مشاهد يوم الحساب.. وقوله تعالى: «وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» هو عرض لبعض تلك النعم التي أنعم الله بها على الناس، فقد مكن لهم سبحانه وتعالى فى الأرض، وجعل لهم سلطانا على كائناتها، من حيوان ونبات وجماد، بما منحهم من عقل، يفكر، ويقدّر، ويسخر قوى الحيوان والطبيعة لخدمتهم، ولتوفير أسباب الحياة الطيبة لهم.. ولكن أكثر الناس لا يشكرون لله فضله، ولا يقدرونه حق قدره، بل إن كثيرا منهم ليحارب الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 370 بهذه النعم، ويتخذ من دونه شركاء، يتعبّد لهم، ويجعل ولاءه إليهم، دون خالقه، ورازقه، ومالك الملك كله. وقوله تعالى: «وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ» . هو بيان لخلق الإنسان وتقلّبه فى أطوار الخلق.. ومن أين جاء؟ وكيف نشأ؟ وإلى أين يصير؟ كان الخلق أولا، ثم التصوير ثانيا.. والخلق عملية ذات مراحل طويلة، تنقل فيها الإنسان من طور إلى طور، ومن خلق إلى خلق، حتى دخل طور الإنسان الذي فيه كان التصوير على تلك الصورة الإنسانية الكاملة.. وفى العطف بثمّ بين الخلق والتصوير، ما يشير إلى هذا الفاصل الزمنيّ الطويل، الذي قد يبلغ ملايين السنين، بين بدء بذرة الخلق للكائن الحي، وبين الثمرة التي أعطتها شجرة الحياة.. فى صورة هذا الإنسان..! ثم إن هذا الإنسان حين أطل برأسه إلى هذا العالم، لم يكن إلا إشارة باهتة إلى هذا الإنسان العاقل المدرك، الذي يحمل أمانة التكاليف، ويناط به عبء خلافة الله على هذه الأرض.. ولهذا جاء العطف بثم فى قوله تعالى: «ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ» .. فهذا الآدم الذي أمر الله سبحانه الملائكة أن يسجدوا له، هو الإنسان العاقل الرشيد، لا الإنسان فى طفولة الإنسانية التي لم تنسلخ من جلد الحيوان بعد.. وهذا ما يؤيد الرأى الذي ذهبنا إليه من قبل فى خلق آدم وتطوره «1» .   (1) انظر هذا البحث فى الجزء الأول من «التفسير القرآنى» : الآية: 34: سورة البقرة) ص: 54 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 371 وفى قوله تعالى: «ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ» موضع لسؤال.. هو: كيف يكون الإنكار على إبليس بترك السجود، بهذا الاستفهام عن السبب الذي منعه من عدم السجود.. وهو على خلاف المراد من الاستفهام الذي يطلب إليه فيه أن يجيب عن سبب المنع عن السجود، لا عن سبب المنع من عدم السجود.. كيف يكون هذا؟ يجيب المفسّرون على هذا بأجوبة كثيرة.. منها القول بأن «لا» النافية زائدة.. وهو أرجح الآراء عندهم..! والقول بزيادة اللام لا معقول له إلا- عند القائلين به- أنه يسوّى النظم القرآنى، ويمنع اضطراب المعنى، أو فساده! ولا يشفع لهذا القول ما جاءوا به من شواهد من الشعر العربي بزيادة حرف النفي «لا» . فالقرآن حجة على الشعر، وليس الشعر حجة على القرآن.. ثم إن القرآن ليس شعرا حتى تباح فيه الضرورات التي تباح فى الشعر.. ثم إن القرآن ليس من قول بشر حتى تحكمه الضرورة، وتلتمس لقائله المعاذير.. ولكنه كلام ربّ العالمين.. «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» .. وإذن فحرف النفي «لا» حرف أصيل، هو من صميم النظم القرآنى فى الآية الكريمة، له مكانه من الإعجاز الذي تحمله الآية الكريمة، ولو حذف لحذف معه بعض ما فى الآية من إعجاز. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 372 هذا ما يجب أن يتقرر ويتأكد أولا، قبل أن نجد لهذا الحرف «لا» مفهوما. إذ لا بد من أن يكون له مفهومه فى الآية الكريمة، حيث هو، وكما هو، سواء اهتدينا إليه أو لم تهتد، فإنه لا بد أن يهتدى إليه الباحثون، بالكثير أو القليل من البحث والنظر.. أما القول بزيادة حرف أو كلمة فى القرآن الكريم، فهو- على أقل تقدير- هروب من مواجهة كلمات الله وآياته. وننظر، فنجد: أولا: أن «لا» إذ قيل بزيادتها كان المعنى حسب منطوق النظم بعد الحذف، هكذا: «ما منعك أن تسجد» ؟ وهذا يعنى أن مع إبليس حجة على منعه من السجود! ولقد أجاب إبليس على هذا، وقدّم الحجة التي معه، فقال: «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» . ولكن.. أية حجة لمخلوق أمام الخالق؟ لقد أمره الله سبحانه وتعالى بالسجود.. وكان عليه أن يمتثل لهذا الأمر وأن يسجد كما سجد الملائكة كلهم أجمعون.. أما التردد فى الامتثال لهذا الأمر، أو النكوص عنه، فهو عصيان صريح لله، وتحدّ وقاح لأمره، لا تقوم لصاحبه حجة، ولا يقبل منه قول.. وثانيا: إذا بقيت «لا» بمكانها من النظم- وهى باقية أبد الدهر- مؤدية وظيفة النفي- وهى مؤدية له إلى ما شاء الله- فإن المعنى حينئذ يكون هكذا حسب منطوق النظم: ما منعك من ألا تسجد إذ أمرتك؟ أي ما حملك على ألا تسجد؟ وبهذا يكون النظر إلى كلمة «المنع» لا إلى الحرف «لا» .. وهل هو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 373 منع قائم على حواجز وحوائل، تمنع من امتثال الأمر، وتحول بين المأمور وبين إتيان ما أمر به، أم أنه منع قائم على أوهام وضلالات، ومستند على محامل وعلل من الوهم والضلال؟ والجواب، أنه ليس هناك منع على الحقيقة، وإنما هى علل فاسدة، ومحامل باطلة، اتخذ منها هذا الشقىّ ذريعة يتذرع بها إلى عصيان ربّه، وعذرا يعتذر به إليه. ولهذا كان النفي للمنع مطلوبا هنا، حيث لا سبب للمنع على الحقيقة. ثالثا: فى مساءلة الله سبحانه وتعالى لإبليس، فى غير هذا الوضع، جاء قوله تعالى: «قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ» (32: الحجر) فقوله تعالى: «ما لَكَ» هو بمعنى «ما منعك» ؟ حيث لا منع، وإنما هو- كما قلنا- ضلالات وأوهام من قبل إبليس، لا وزن لها، ولا معتبر فى ميزان الحق.. هذا، وقد جاء فى موقف آخر قوله تعالى: «قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ» (75: ص) - جاء من غير حرف النفي «لا» ولكن جاء بعده، ما يكشف عن تعلّات إبليس وأوهامه المندسّة فى صدره، فقال تعالى: «أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ» ؟ فهو الاستكبار والتعالي، وتلك موانع اصطنعها إبليس، وأقامها من ضلاله وجهله.. رابعا: فى النظم القرآنى جاءت مساءلة إبليس فى ثلاث مواضع.. هكذا.. 1- «ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ» .. (11: الأعراف) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 374 2- «يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ» .... (75: ص) 3- «يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ» ... (3: الحجر) وهذه المواضع الثلاث، لم يكن تكرارها لمجرد التكرار، وإنما لتعطى الصورة الكاملة لموقف الاتهام الذي وقفه إبليس بين يدى الله.. وأنه تلقى هذه الأسئلة جميعا فى تبلّد ووجوم، وكان جوابه عليها فى وقاحة فاجرة.. هكذا: «ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ؟» ... «لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ» . «ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك؟ ... أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين» .. «ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدىّ؟ .. أستكبرت أم كنت من العالين؟» ... «أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين» .. وتتردد هذه الإجابات فى صدر إبليس، وتضطرب على لسانه، وإذا هى كما انتزعها الله سبحانه وتعالى من صدره، وضبطها على لسانه.. وقد تكررت إجابته: «أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين» إذ كان هذا الاختلاف فيما بين النار والطين، هو الذي أضلّ إبليس وأغواه، حين قدّر أن النار خير من الطين.. وأن الأعلى لا يسجد للأدنى.. من هذا نستطيع أن نخلص إلى القول بأن قوله تعالى: «ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ» هو بمعنى قوله تعالى: «ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ» .. وأن فعل المنع هنا بمعنى الدافع الذي دفع إلى ترك الفعل المأمور به، والتقدير: ما حملك أو ما دفعك على أن يكون منك هذا الموقف الفاجر الذي وقفته، وهو أنك لم تكن من الساجدين..؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 375 وأما قوله تعالى: «ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ» فهو مطالبة لإبليس ببيان المانع الذي منعه، إن كان هناك مانع.. فلما لم يجد المانع طولب بأن يبيّن الدافع الذي تولّد فى نفسه وحمله على ألا يسجد.. ثم لما اضطرب وتلجلج فى الكشف عن هذا الذي ضلّ عنه وهو يحاول الإمساك به، قيل له: مالك- إذن- ألّا تكون مع الساجدين؟. وهكذا يؤخذ بمخانقه، ويسقط فى يده، فينهار ويهوى، ثم يتخبط فى هذا الهذيان المحموم، وقد عرف ألا نجاة له، وأنه من الهالكين..! قوله تعالى: «قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ» . الضمير فى منها يعود إلى المنزلة التي كان فيها إبليس قبل هذه المعصية، وكذلك الضمير فى قوله تعالى: «فِيها» .. والهبوط هنا هبوط معنوى.. والمعنى: اخرج أيها الشيطان المريد من هذه النعمة التي خولتك إياها، ورفعت بها منزلتك حتى اتخذت منها حجة على هذا العصيان الوقاح لأمرى، فتأبى أن تسجد لمن دعوتك إلى السجود له.. فما يكون لك أن تتكبر فى هذه النعمة، وتختال بها.. وها أنت ذا قد أصبحت من الصاغرين، قد نزع عنك ما كنت تدّعيه لنفسك من منزلة تعاليت بها على هذا المخلوق الآدمي، الذي خلق من طين..! وهكذا كل من ألبسه الله نعمة من نعمه فلم يرعها، ولم يؤدّ حق شكرها لله، من الطاعة والولاء- إنها تنزع منه، ويلبس بدلها ثوب النقمة والبلاء.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 376 وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» (53: الأنفال) الآيات: (14- 18) [سورة الأعراف (7) : الآيات 14 الى 18] قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) التفسير: وقع الحكم بالإدانة على المجرم. فلم يستسلم، ولم يتقبل الأمر بالهبوط على إطلاقه هكذا! فطلب من الله سبحانه أن ينظره أي يؤخر هلاكه إلى نهاية الحياة الإنسانية على هذه الأرض، ليكون فى صحبة الإنسان.. بتحدّاه، وينتقم منه، إذ كان سببا فى هذه اللعنة التي وقعت عليه. ولقد سوّلت لهذا الرجيم نفسه أن يتحدى الله بهذه التجربة التي بينه وبين الإنسان، والتي قدّر أنه سينتصر فيها على الإنسان، ويقيم من ذلك حجة على الله فى امتناعه عن السجود لآدم، لأنه خير منه، وأن بيده سلطانا متمكنا عليه، حين يأمره فيطيع، ويدعوه إلى الإثم فيجيب، وبهذا تنكشف التجربة عن كائن بشرى يتمرغ فى الوحل والطين، متمردا على الله محاربا له! .. لا يستحق من الله هذا التكريم، وسجود الملائكة له. وهذا موقف يدعو الإنسان أن ينتصر فيه لنفسه، وأن يجزى إبليس، ويتحدّى سفاهته، ويقف منه موقف العدوّ لعدوّه، فى ميدان القتال.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 377 «قال أنظرنى إلى يوم يبعثون.. «قال إنك من المنظرين.. «قال فبما أغويتنى لأقعدن لهم صراطك المستقيم.. إن هذا اللعين يتحدى الله، ويثأر لنفسه فى شخص هذا الإنسان الذي أراده الله ليكون خليفته فى أرضه، فيفسد عليه أمره، ويشوّه وجه خلافته.. وها هو ذا يقعد على صراط الله المستقيم، الذي أقام الله الإنسان عليه، ثم يترصد الإنسان، وبنحرف به عن سواء السبيل.. «ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ» . هكذا يتربص الشيطان بالإنسان، يلقاه فى كل وجه، ويأتيه من كل طريق، ويدخل عليه من كل باب، ليضله عن سبيل الله، فيشرك بربه، ويكفر به، ويتخذ الشيطان وليا له من دونه. «قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً» . المذءوم: المطرود، والمذموم، والمعيب، يقال: ذأمه يذأمه ذآما، وذأما، إذا عابه. والمدحور: المنهزم المغلوب. «لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ» . اللام هنا فى «لمن تبعك» موطئة للقسم، و «لأملأن جهنم منكم أجمعين» جواب القسم.. وفى هذا استخفاف بأمر الشيطان، وبما معه من كيد وغواية، كما يقول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 378 الله سبحانه: «إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً» بالإضافة إلى ما مع الإنسان من عقل، وعزم.. فمن أعطى الشيطان زمامه، واتخذه وليا، فهو من حزب الشيطان، يضاف إليه، ويصير إلى المصير الذي هو صائر إليه، وهو بهذا غير جدير بأن يكون فى ضيافة الله، ومن حزب الله. الآيات: (19- 25) [سورة الأعراف (7) : الآيات 19 الى 25] وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25) التفسير: وفى مواجهة إبليس، وفى مقابل تحدّيه لله فى شخص آدم- يدعو الله آدم إلى أن يسكن فى تلك الجنة التي هو فيها، وهى جنة أرضية (كما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 379 أشرنا إلى ذلك من قبل) «1» . وفى الجنة رزق موفور وخير كثير.. ولآدم وزوجه أن يأكلا من كل فاكهة فيها، إلا تلك الشجرة التي أشار الله سبحانه إليها، ونهاهما عن الأكل منها. ولم تكن هذه الشجرة إلا واحدة من أشجار الجنة، ولم يكن النهى عن الأكل منها إلا ابتلاء لآدم وزوجه، وإلا تحريكا لأشواقه إليها، وإلا تعجيلا بإظهار إرادته، وترددها بين امتثال أمر الله وعصيانه.. وفى هذا الموقف الذي يتأرجح فيه آدم بين الإقدام والإحجام، تجيئه دفعة مغرية بيد الشيطان، تدفعه إلى الخروج عن أمر ربه، فيأكل من الشجرة التي نهى عن الاقتراب منها!! وهنا يبدأ آدم وزوجه يعرفان أن لهما إرادة، وأنهما قادران بتلك الإرادة على أن يتصرفا كيف يشاءان، ولو كان فى ذلك عصيان ربهما. ومن هنا يولد آدم ميلادا جديدا.. فإذا هو الإنسان العاقل، المدرك، المريد.. وإذ يفتح هذا المولود الجديد عينيه على الوجود، يرى كل شىء على غير ما كان يراه من قبل.. وها هو ذا يرى أنه عريان لا يستره شىء كسائر الحيوان، فيخجل من نفسه، ويرى سوأته- وكأنه يراها لأول مرة- فيحاول سترها بما يقع ليده..   (1) انظر الكتاب الأول من: «التفسير القرآنى للقرآن» فى بحثنا: «آدم، مادة خلقه، وجنته» ص: 54 [ ..... ] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 380 وليس بين يديه، ولا فى ملك قدرته إلا ورق الشجر، فيتخذ منه ساترا يستر به سوأته- تماما كما يفعل الإنسان البدائى، الذي لم يخرج من عالم الغابة أو «الجنة» التي هى كل دنياه! ونقرأ الآيات: «فوسوس لهما الشيطان ليبدى لهما ما وورى عنهما من سوآتهما وقال ما نها كما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين» .. فالملائكة عالم لا يعرف الشر، بل قل إنه لا يعرف الخير أيضا.. فمن لا يعرف الشر لا يعرف الخير.. وإلى اللحظة التي لم يأكل فيها آدم من الشجرة كان أشبه بالملائكة، لا يعرف خيرا ولا شرا.. أما إبليس فقد عرف الشر وواقع المعصية، وبهذا خرج من عالم الملائكة، وكان عليه أن يضم آدم إلى عالمه هذا الذي تحول إليه.. ولا يتم هذا إلا إذا كانت لآدم إرادة تعمل فى مواجهة الإرادة الإلهية.. «وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ» أي أقسم لهما أنه ناصح، لا يبغى إلا الخير لهم.. وهكذا كل منافق، يتكثّر من الحلف، ولو لم يشك فيه أحد.. إنه يشعر بما فى قلبه، وما على لسانه، من كذب وزور، فيحاول جاهدا أن يؤكده ويقويه بالأيمان.. وفى قوله تعالى: «وَقاسَمَهُما» إشارة إلى تنازع الأقسام بينه وبينهما، وكأنّ فى سكوتهما عنه قسما منهما باتهامه والحذر منه، ولهذا صح أن تكون المقاسمة شركة بينهما وبينه.. «فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 دلّاهما أي أنزلهما من مرتبهما، التي كانا فيها على السلامة والبراءة، إلى حيث كانت منهما مواقعة الخطيئة وارتكاب المعصية.. والتدلية: السقوط من عل، يقال: دلّى الدلو وأدلاه إذا ألقى به فى البئر.. والغرور: الخديعة والاحتيال.. والباء فى قوله تعالى: «بِغُرُورٍ» باء الاستعانة أي أنزلهما مستعينا بالتغرير والخديعة.. والسوأة: العورة، وما يسوء الإنسان أن يطلع عليه أحد.. وفى قوله تعالى: «وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ» إشارة إلى موالاة الخصف من ورق الشجر.. والخصف جمع الشيء إلى الشيء، وخياطته به. «قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» ذلك هو جوابهما واعتذارهما، لما كان منهما.. إنهما ظلما أنفسهما بما فرط منهما بارتكاب المعصية، والخروج عن أمر ربهما، فهما فى معرض الهلاك والخسران، إن لم يغفر لهما ربهما ويرحمهما.. والخطيئة التي وقع فيها آدم هى التي اكتمل بها وجوده كإنسان، ولولا هذه الخطيئة لظل- كما قلنا- فى عالم الحيوان، الذي هو ليس أهلا للتكليف وحمل الأمانة.. ولعل هذا المعنى هو ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا» (72: الأحزاب) وهذا الوصف للإنسان بأنه ظلوم جهول، يلتقى مع قول آدم فيما ذكره الله تعالى عنه: «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا» فقد ظلم آدم نفسه، وظلم ذريته معه بحمل هذه الأمانة التي أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 382 وأحب أن أفهم قول الرسول الكريم: «كل ابن آدم خطّاء» فهما متسقا مع هذا المعنى الذي أشرنا إليه، وهو أن لإنسان خلق خلقا مشوبا بالمعصية والخطيئة.. هكذا أراد الله له، وهكذا خلقه.. فالمعصية من آدم لم تلبسه ثوب للعنة، هو وذريته- كما تقول بذلك بعض الديانات- وإنما ألبسته لباس الإنسان، الذي أراده الله، ليكون خليفة له فى الأرض.. ولقد عرف الملائكة- بما أخبرهم الله- أن الإنسان سيكون على هذا الخلق الذي يجتمع فيه الخير والشر، والطاعة والمعصية.. عرفوا هذا قبل أن يخلق آدم، وذلك حين قال الله تعالى لهم: «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً.. قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ .... » قوله تعالى: «قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ» .. وقد هبط إبليس من قبل، هذا الهبوط المعنوي، حين نزل عن رتبته فى العالم العلوي إلى هذا العالم السفلى.. فلما عصى آدم ربه ألحق بإبليس فى أن عوقب على هذه المعصية بخروجه من عالمه الذي كان فيه.. فخرج من عالم اللاشعور إلى عالم الوعى والشعور، وهو عالم امتحان وابتلاء.. ولكن شتان بين هبوط آدم، وهبوط إبليس، فهبوط آدم، فى حقيقته صعود، ولكنه صعود يحمّله أعباء ثقالا، تبهظه، وتنقض ظهره.. إنه يحمل بهذا الهبوط- أو هذا الصعود- أمانة عرضت على السموات والأرض والجبال «فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا» . أما هبوط إبليس فهو هبوط مطلق إلى عالم الإثم والمعصية، لا يتحول عنه أبدا.. والمستقر والمتاع إلى حين: هو الحياة الإنسانية على هذه الأرض إلى أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 383 ينفخ فى الصور، ويقوم الناس لرب العالمين.. وقد بيّن هذا قوله تعالى: بعد ذلك: «قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ» .. فعلى هذه الأرض يحيا آدم وأبناؤه، وفى هذه الأرض يموت ويدفن آدم وذريته، ومن هذه الأرض يبعث الموتى، ويعرضون على رب العالمين.. للحساب والجزاء.. الآيات: (26- 30) [سورة الأعراف (7) : الآيات 26 الى 30] يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) التفسير: وإذ هبط الإنسان أو قل صعد، وأخذ مكانه على هذه لأرض، فقد كان عليه أن يتعرف على الدستور الذي يسوس به خلافة الله فى الأرض.. وها هو ذا يتلقى من السماء المواد الأولى لهذا الدستور.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 384 1- «يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ، لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» . فأول ما ينظر فيه هذا الخليفة، هو أن ينظر إلى نفسه، وأن يخرج من عالم الحيوان العاري، إلى هذا الإنسان الذي ينبغى أن يبدأ بستر عورته أولا، ثم يتجمل بما يقدر عليه مما بين يديه، من هذا الخير الكثير الذي بثّه الله فى الأرض.. ثانيا. وإذن فعلى الإنسان أن ينسج له من خيوط هذه الموجودات المبثوثة فى الأرض، حياة غير حياة الحيوان، وأن يصنع بعقله وبيده وجودا كريما، وبهذا يحق له أن يجلس على كرسى الخلافة، ويمسك بيده، زمام الكائنات التي تعيش معه. والريش هو الزينة، وكذلك الرياش، وهو شىء إضافى، فوق الحاجة الضرورية، ولهذا جاء بعد اللباس الساتر للعورة.. فهو مأخوذ من الريش الذي يكسو الطائر ويزينه. ثم بعد أن يأخذ الإنسان لجسده ما يستره ويجمّله، عليه أن يحصّل لكيانه الداخلى، من المشاعر والأحاسيس والوجدانات والمدركات- ما يستره ويجمّله، وذلك هو لباس التقوى، وهو خير لباس يتزيا به الإنسان، ويتجمل.. وفى قوله تعالى: «وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ» إشارة إلى أن هذا اللباس إنما هو مما ينسجه الإنسان من ذات نفسه، إذ لا وجود له فى العالم الخارجي، ولهذا لم يعطفه الله سبحانه وتعالى على قوله: «أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ» حيث مادة هذا اللباس هى مما يراه الإنسان ويلمسه بحواسه فى النبات أو الحيوان، على حين أن مادة التقوى شىء مطوى فى ضمير الإنسان، مدسوس فى كيانه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 385 وقوله تعالى: «ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ» لإشارة هنا إلى هذه النعم التي يجمّل بها الإنسان وجوده الخارجي ولداخلى، أي الجسدى والروحي معا، وهذه النعم هى من الآيات الدالة على قدرة الله، الناطقة بجلاله وعظمته.. بها يصبح الإنسان إنسانا كريما على الله، عظيما فى الناس.. وقوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» فى العدول عن الخطاب من «لعلكم تذكرون» إلى الغيبة «لعلهم يذّكرون» إشارة إلى ما فى الناس من غفلة، وأنهم وهم بمحضر من هذا المعرض الذي تعرض فيه آيات الله، وتتحدث فيه نعمه- هم غافلون، لا تصفى منهم الأفئدة، ولا تستيقظ منهم العقول. فلعلّ هؤلاء النائمون يستيقظون، ولعل هؤلاء الغافلون ينتبهون..! 2- والمادة الثانية من مواد هذا الدستور، هى أن يحذر أبناء آدم هذا العدوّ المبين المتربص بهم، وأن يكونوا على يقظة دائمة من أباطيله وضلالاته التي يغريهم بها، ويزينها لهم، ليفتنهم فى دينهم، وليخرجهم من الإيمان بالله والاستقامة على طاعته، إلى الشرك به، والتعدّى على حرماته، فيعيد معهم سيرته مع أبويهم اللذين أخرجهما من الجنة، بما زين لهما من ضلال، وبما أغراهما من غرور. وفى هذا يقول الله تعالى: «يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ.. الآية» . وفى قوله تعالى: «إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ» تحذير بعد تحذير، من وساوس الشيطان ومغرياته، وأنه عدوّ خفىّ يرى الإنسان، ويرصد حركاته وسكناته، ويطلع منه على مواطن الضعف، فينفذ إليه منها.. ومن هنا كان خطره داهما، وشره مستطيرا، ومن هنا أيضا كانت حاجة الإنسان إلى اليقظة الدائمة، والمراقبة المستمرة، من هذا العدو الخفىّ المتربص، الذي لا يعرف الإنسان متى يهجم عليه، ويجعل منه صيدا يقع ليده.. وقوله تعالى: «إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» إشارة إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 386 أن الإيمان بالله هو القلعة التي يتحصن فيها الإنسان من الشيطان، وليس عليه بعد ذلك إلّا إغلاق أبوايها وإحكام غلقها، حتى لا يكون للشيطان سبيل إليه.. أما من لا يؤمن بالله، فهو شيطان مع الشيطان. لا يريد الشيطان منه أكثر مما هو فيه من فتنة وضلال، وهو بهذا قد سبق الشيطان إلى الغاية التي يريدها منه، ولهذا كان الشيطان وليّه، وهو تابعه.. وهذا ما يكشف عنه قوله تعالى: «إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» .. قوله سبحانه: «وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» .. الخطاب هنا للضالين والمشركين، الذين إذا جاءهم من يدعوهم إلى الهدى أبوا أن يستجيبوا له، واستمسكوا بما هم فيه من ضلال وشرك، وليس بين أيديهم من حجة على هذا الذي هم فيه إلا أن ذلك مما كان عليه آباؤهم، وأنهم على آثارهم مقتدون، وأن ذلك الذي كان عند آبائهم هو مما أمر الله به، لأن آباءهم لم يجيئوا بهذا من عند أنفسهم، بل هو مما شرع الله لهم.. هكذا يقولون، وهكذا يفترون.. وقد ردّ الله عليهم هذا الافتراء بقوله: «إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ.. أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» .. وفى هذا لردّ حكم على ما هم فيه بأنه فاحشة، لا يخفى على عاقل أمرها من السوء والفحش، ومحال على الله أن يأمر بالفاحشة.. وإذن فهذا الضلال الذي هم فيه ليس من الله قطعا، بحكم العقل، ولو كان هؤلاء على شىء من العقل لما قالوا على الله هذا القول المنكر: «وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها» ، ولهذا كان هذا الإنكار عليهم والفضح لجهلهم بقوله تعالى: «أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» .. إنهم لا يعلمون ما لله من جلال وكمال، ولو كانوا يعلمون شيئا من هذا لما نسبوا إلى الله الأمر بهذه المنكرات، فإن الكامل لا يصدر منه هذا النقص المعيب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 387 قوله سبحانه: «قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» - هو بيان لما أمر به من طيب وجميل. فقد أمر الله بالقسط، وهو العدل، وإقامة موازين الحق، حتى لا يظلم الناس بعضهم بعضا، ولا يعتدى بعضهم على حق بعض.. الأمر الذي لو استقام عليه الناس لا استقام أمرهم جميعا، ولجرت سفينة الحياة بهم فى ريح رخاء.. ومما أمر الله سبحانه به بعد هذا، إقامة الصلاة، إذ هى أكثر العبادات توثيقا للصلة بين العبد وربّه. حيث يمكن أن يأتيها كل إنسان.. فقير أو غنى، كبير أو صغير، فى أي وقت، وعلى أي حال.. ومن هنا كان من الإمكان أن يكون العبد على صلة دائمة، مع الله، بالصّلاة، فى الليل والنهار، فى السّر والجهر، خاليا مع نفسه، أو منتظما فى جماعة. وقوله تعالى: «وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» معطوف على ما قبله: «أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ» .. إذ كان معنى: «أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ» أقسطوا.. فصحّ أن يعطف عليه: «وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» .. أي أفسطوا، وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد. وإقامة الوجوه عند كل مسجد، إخلاص العبادة لله، وإقامة الوجوه إليه وحده، دون التفات إلى أحد غيره، وهذا هو الذي يعطى الصلاة ثمرتها المطلوبة منها، إذا هى أقيمت على هذا الوجه، من الولاء لله، واستحضار القلب لجلاله وعظمته. وقوله تعالى: «وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» معطوف على «وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» .. والدعاء صلاة، وعبادة، بل هو مخّ العبادة، كما يقول العابدون.. إذ هو التطبيق العملي للإيمان بالله، والإقرار بالعبودية له، وتعلق الرجاء فيه، والتماس الخير منه وحده، والانقطاع عما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 388 سواه.. وهذا هو التوحيد الخالص، والإيمان المصفّى، ولهذا اقترن الدعاء بالصلاة، وجاء بعدها، ليكون التطبيق العملىّ، لما تركت الصلاة فى نفس المصلّى من ولاء لله، وقرب منه. وقوله سبحانه: «كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» تذكير بالبعث والجزاء والحساب، حتى يعمل الإنسان لهذا اليوم حسابا، وحتى يكون هذا الحساب دافعا قويّا يدفعه إلى العمل.. كما أن فى هذا تقريرا للبعث، وأنه أمر ممكن، وإذا وقع فى نظر بعض الغافلين أنه مستحيل، فلينظروا إلى المصدر الذي جاءوا منه، وليذكروا أنهم كانوا بعد أن لم يكونوا شيئا، وأن إعادة الكائن إلى ما كان عليه، أيسر- فى تقديرنا نحن البشر- من خلق الكائن من العدم. وقوله سبحانه: «فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ» هو بيان للحال التي يعود عليها الناس يوم القيامة، إنهم يعودون فريقين: فريقا هداه الله ووفقه للإيمان والعمل الصالح، وفريقا ضلّوا، وأغواهم الشيطان.. «إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ» .. وهكذا كل ضالّ، يزيّن له ضلاله الفتنة والغواية، ويريه أنه على الصراط المستقيم، والله سبحانه وتعالى يقول: «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً؟» (8: فاطر) . الآيات: (31- 34) [سورة الأعراف (7) : الآيات 31 الى 34] يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 389 التفسير: فى الآيات السابقة جاء قوله تعالى: «يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ» ليلفت الناس- وهم فى أول لقائهم بهذه الحياة- إلى ما فى الأرض وما عليها من خير كثير، بثّه الله فيها، وأن أول ما ينبغى أن يحصّلوه من هذا الخير، أن يستروا سوآتهم، ليخرجوا من عالم الحيوان، وليكونوا الإنسان الذي جعله الله خليفة له فى الأرض. ثم ليتجملوا بعد هذا، ويتزينوا بما شاءوا، ثم ليستروا كيانهم الداخلى ويجملوه بالتقوى. وفى هذه الآيات يدعو الله النّاس- بعد أن استوفوا حظوظهم من زينة الحياة، وصار إلى أيديهم الكثير منها- يدعوهم إلى ألّا تكون هذه الزينة التي اتخذوها حلى يتحلّون بها فى أوقات لهوهم، أو فى محافلهم وأنديتهم، وحسب، وإنما الذي ينبغى أن يتزينوا له، ويحتفوا بلقائه قبل كل شىء، هو بيت الله الذي يقفون فيه بين يدى الله، يناجونه ويوجهون وجوههم إليه. فهذا الاحتفاء ببيوت الله، وهذا الإعداد والتجمّل للقاء الله فيها، هو مما يقيم فى كيان المؤمن مشاعر التوقير والإجلال لهذا اللقاء، وممّا يهيئ كيان الإنسان الداخلى لمناجاة ربّه، بعد أن تطهّر وتزيّن لهذا اللقاء العظيم.. وقوله تعالى: «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 390 هو دعوة إلى أن يأخذ الناس حظّهم من طيبات الحياة، وأن يذوقوا من نعم الله التي وضعها بين أيديهم، ولكن فى غير إسراف، بل فى قصد واعتدال، فإن الإسراف يفسد النعمة، ويفقدها طعمها الطيّب، حين يمتلىء الإنسان منها، ويلحّ على جسده بها.. إنها لا تلبث- حينئذ- أن تتحول إلى شىء تزهد فيه النفس، بل وتعافه. وهذا هو بعض الحكمة من النهى عن الإسراف. وقوله تعالى: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ؟» هو إغراء بالتنعم بنعم الله، والتجمل بها، وأخذ حاجة النفس منها.. ثم هو إنكار على من يأخذون على أنفسهم أو على الناس الطريق إلى نعم الله، ويزهدونهم فيها، أو يحرمونهم منها.. فلمن إذن هذه النعم؟ والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» .. ويقول سبحانه هنا فى هذه الآية: «هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ» أي زينة الله هذه التي أخرج لعباده، وهذه الطيبات من الرزق، هى للذين آمنوا فى الحياة الدنيا، ينعمون بها، ويرون فضل الله عليهم فيها، فيزداد حمدهم له، ويقوى إيمانهم به.. ثم إن هذه النعم سينعمون بها يوم القيامة، تأتيهم من غير أن يبذلوا لها جهدا، خالصة من كل شائبة مما كان يشوبها فى الدنيا.. فلا تزهد فيها نفس من شبع، ولا تملّها عين من نظر.. «كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً» . وتخصيص المؤمنين بالذكر هنا: «قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ» إشارة إلى أن المؤمنين هم الذين يتعرفون على الطيبات من الرزق وينعمون بها، أما غير المؤمنين فلا يفرّقون بين طيب وخبيث، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 391 إذ لا دين لهم يحجزهم عن الخبيث، ويحول بينهم وبينه، فالطيب والخبيث على سواء عندهم. قوله تعالى: «قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» . هذه هى المحرمات التي حرّمها الله على عباده، وكلها خبائث، تفسد الطيّب إذا دخلت عليه. والفواحش هنا، يراد بها الزّنا خاصّة، وما اتصل به من شهوة الفرج. والإثم: المحرّمات التي حرّمها الله، من مأكولات، والتي توقع مقترفها فى عداد الآثمين.. والبغي بغير الحق: العدوان على حدود الله، والتعدّى على حقوق العباد.. كالقتل، والسرقة، والخيانة للأمانة، وغيرها. وفى وصف البغي «بغير الحق» على أن البغي لا يكون إلا بغير الحقّ أبدا- إشارة إلى هذا الوصف الملازم له، وتذكير به، وأنه عمل مجاف للحق، خارج عليه.. وقوله تعالى: «وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً» هو مما نهى الله عنه، بل هو أول المنهيات، لأن الشرك بالله رأس الكبائر، حيث لا يقبل عمل من مشرك.. وأخّر النهى عن الشرك هنا لأن الخطاب فى مواجهة المؤمنين الذين دعوا إلى أخذ زينتهم عند كل مسجد، وإلى عدم التحرّج من أن ينالوا من طيبات ما أخرج الله لعباده من رزق، ثم بيّن الله سبحانه وتعالى لهم بعد ذلك ما حرّمه عليهم بعد أن رفع الحظر عن جميع المطعومات، ودعاهم إلى التمتع بها- فكان أول هذه المحرمات الفواحش، وهى شهوة غالبة من الشهوات المتمكنة فى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 392 الإنسان، والتي كثيرا ما تفسد عليه دينه، ثم الإثم والبغي بغير الحق، وهما آفتان من الآفات المتسلطة على الناس فى الحياة، حيث تدفع أهواء النفس وشهواتها بالناس إلى مقارفة الآثام، وإلى عدوان بعضهم على بعض، لإشباع تلك الشهوات، واسترضاء هذه الأهواء.. ثم الشرك بالله، والمراد هنا هو ليس الشرك الصريح، القائم على عبادة غير الله، والإقرار بألوهية إله أو آلهة غيره، فذلك كفر بالله، لا يعدّ صاحبه فى المؤمنين أبدا، وإنما المراد بالشرك هنا الشرك الخفىّ الذي يتدسّس إلى الإنسان من غير أن يشعر به، وذلك كالاستدلال للناس استذلالا يقرب من العبادة، والنظر إليهم نظرة من يملكون التصرف فى ملك الله، بما صار إلى أيديهم من سلطان أو بسطة فى المال وسعة فى الرزق، وكالاستظلال بظلّ ولىّ أو دعىّ، يدّعى الولاية أو تدّعى له لولاية، حيث يذهل المستظل به، عن إقامة وجهه خالصا لله.. فهذا ونحوه هو من قبيل الشرك بالله، وإن لم يكن شركا صريحا.. ولهذا وصف الشرك هنا بقوله تعالى: «ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً» أي هو شرك لا حجة عليه، ولا دليل بين يديه، وإنما هو وهم وضلال.. وكل شرك لا حجة له، ولا دليل عليه، وإنما وصف الشرك هنا هذا الوصف ليلفت المؤمنين إليه، وليحذروا منه، لأنه شرك خفىّ، والمؤمن حريص على أن يتجنب الشرك كلّه، جليّه وخفيّه، فإذا قيل له احذر الشرك الذي لا حجة، له جعل يقلب وجوه الأمور التي بين يديه إذ ربما يكون فيها ما هو من هذا الشرك الخفي، وحاول أن يزن هؤلاء الأشخاص الذين استذل لهم، أو استظل بهم، بميزان الحق والعقل، وهل لهم مع الله ما يملكون به ضرّ أو نفعا، وهنا ينكشف له الأمر، ويرى أن كل شىء لله، وأنه ليس لأى مخلوق- مهما بلغ من جاه أو سلطان- سبيل إلى شىء من ملك الله.. أما المشركون شركا صريحا فإنهم يجعلون لمن أشركوا به سلطانا، لأنهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 393 لا يعرفون الله حق معرفته، ولا يقدرونه حق قدره.. وقوله تعالى: «وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» هو إلفات إلى مالله سبحانه وتعالى من كمال مطلق فى صفاته، وأفعاله، وأن على المؤمن بالله أن يتعرّف إلى الله سبحانه، وأن يعرفه حق معرفته، فإن من شأن هذا التعرف، وتلك المعرفة أن يصلاه بالله، وأن يعزلاه عن مظان الشرك الخفي به، فلا يجعل لمخلوق مكانا مع الله فى قلبه.. وبهذا الإيمان يستغنى بالله، ويستعلى بوجوده عن الاستذلال أو الاستظلال بأى مخلوق، وإن عظم قدرا، وعلا فى الناس شأنا.. والقول على الله بغير علم، هو من قبيل الفهم الخاطئ لله، ومن هما يجىء الالتفات إلى غيره، والاعتماد على سواه. الآيات: (35- 39) [سورة الأعراف (7) : الآيات 35 الى 39] يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 394 التفسير: قوله تعالى: «يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» . تكرار المناداة بقوله تعالى: «يا بَنِي آدَمَ» لاختلاف المنادون من بنى آدم: من بين مؤمن، وكافر، ومشرك، وبين منتبه وغافل، وراغب فى الهوى وزاهد فيه.. فهم أنماط شتى، وطوائف مختلفة، وكأن كل طائفة منهم تنادى نداء خاصا، وإن كان النداء عاما موجها للجميع.. وفى مخاطبة الناس بأبناء آدم تذكير لهم بأصل وجودهم، وأنهم كانوا فى عالم التراب، وأن من هذا التراب جاء هذا الإنسان العاقل، السميع، البصير، وفى هذا ذكرى وموعظة لأولى الألباب. وفى قوله تعالى: «إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ» أصل إمّا: إن، وما، وهما شرطيتان، للتوكيد. وفى قوله تعالى: «يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي» قصّ الآيات: حكايتها كما هى، دون تبديل أو تحريف فيها، ومنه قصّ الأثر وهو تتبعه. وفى هذا إشارة إلى أن الرسل إنّما يبلغون ما أنزل إليهم من ربهم، وأنهم لا يأتون بشىء من عند أنفسهم. والناس فيما يلقاهم به الرسل من آيات الله وكلماته- فريقان: مصدّق ومكذب.. مؤمن وكافر.. فمن صدّق وآمن، وعمل بمقتضى صدقه وإيمانه، فاتّقى الله، واستقام على شريعته، فأنى ما تأمر به، وانتهى عما تنهى عنه، فقد سلم، ونجا، وأمن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 395 الخوف والحزن، يوم يخاف المكذبون، ويحزنون.. يخافون من عذاب الله الراصد لهم، ويحزنون على ما فاتهم من استجابة لرسل الله، واستقامة على شريعة الله. ومن كذّب وأبى فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.. فقد ظلموا أنفسهم بافترائهم على الله، وقولهم إذا فعلوا فاحشة: وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ» . وقوله تعالى: «أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ» .. المراد بالكتاب هنا الكتاب الذي خطّت فيه أعمال الناس وأرزاقهم.. والمعنى أن هؤلاء الظالمين لن يحرمهم الله بسبب ظلمهم ما قدّر لهم فى كتابه من أعمار وأرزاق، فهم سيوفّون ما قدّر لهم فى هذه الدنيا. «حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ» أي حتى إذا انتهت أعمارهم وجاءتهم رسل الموت من عند الله ليقبضوا أرواحهم: «قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ» . أي أنهم إذا حضرهم الموت، انكشف لهم ما كانوا فيه من ضلال، واطلعوا على هذا المصير السيّء، الذي هم صائرون إليه، وهنا يتلفتون إلى من أشركوا بهم فلم يجدوا لهم وجودا معهم: «ضلّوا عنّا» ! .. إنهم يبحثون عنهم فى هذا المزدحم، فلا يرون لهم ظلّا.. لقد تركوهم ليلاقوا مصيرهم المشئوم..! وقوله تعالى: «وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ» الشهادة هنا هى استيقانهم بواقع أمرهم، وأنهم كانوا على ضلال وكفر.. وتلك هى الشهادة التي شهدوا بها على أنفسهم، فكان حكما عليهم أدانوا أنفسهم به، قبل أن يدينهم الديّان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 396 قوله تعالى: «قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ» . إشارة إلى الرحلة الجديدة التي سيأخذ فيها هؤلاء الظالمون طريقهم إلى جهنم.. فمنذ اللحظة التي تنتزع فيها أرواحهم، يدخلون فى عالم جديد، ويأخذون مكانهم بين من سبقهم من الظالمين، من الجنّ والإنس.. وهذه الأمم من ظلمة الجنّ والإنس، يعيش بعضها مع بعض فى شقاق واختلاف، إذ لا تفاهم بينها، لما اشتملت عليه نفوسهم من أمراض خبيثة، تزعج أصحابها، وتزعج من يتصل بها.. «كلّما دخلت أمة لعنت أختها» فهم يتلاعنون، ويتشاتمون، كما يفعل المجرمون، تضمهم جدران السجن.. ثم لا يقف أمر هذه الجماعات عند هذا، بل إنهم حينما تجتمع جموعهم للحساب والجزاء، يتراشقون بالتهم، ويلقى بعضهم على بعض جريمته التي يحملها بين يديه: «حتّى إذا أدركوا فيها جميعا» أي إذا أدرك بعضهم بعضا، ولحق آخرهم بأولهم فى ساحة الحساب والجزاء: «قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ» وإضلال الأولين للآخرين هو بسبب متابعة الآخرين للأولين، وجريهم على ما كانوا فيه من ضلال، كما كانوا يقولون فى الدنيا إذا جاءهم الهدى: «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ» . وفى طلب الآخرين للأولين مضاعفة العذاب لهم، محاولة يائسة لدفع العذاب الواقع بهم هم، وإلقاء ذنوبهم على آبائهم وأجدادهم الذين اقتفوا آثارهم، وكانوا بهذا من أصحاب السعير.. وفى قوله تعالى: «قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ» ردّ على أوهام أولئك الذين تابعوا آباءهم وجروا على آثارهم، فإن لهم ضعفا من العذاب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 397 كما لآبائهم وأجداهم العذاب المضاعف، لأن كلّا منهم ضلّ وأضلّ.. فالأبناء الذين ضلوا بمتابعة آبائهم، قد ضلّوا، إذ لم يستعملوا عقولهم، كما أنّهم أضلّوا أبناءهم من بعدهم.. وهكذا السابق منهم يضلّ اللاحق، واللاحق يضلّ من بعده. وقوله تعالى: «وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ» هو دفع لهذا الاتهام الذي اتهم به اللاحقون السابقين.. وأنه إذا كان السابقون قد ضلّوا فإن اللاحقين قد ضلوا أيضا، ولم يكن لهم من عقولهم ما يحجزهم عن هذا الضلال، فهم إذن جميعا على سواء فى الضلال.. فلم يضاعف العذاب للسابقين ولا يضاعف للاحقين؟ إنهم- سابقهم ولا حقهم- ضالون مجرمون.. ولكلّ ضعف من العذاب. وفى قوله تعالى: «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ» هو من مقول القول الذي قاله السابقون للاحقين.. وأن هؤلاء اللاحقين إنما يذوقون العذاب بما كسبت أيديهم، ولن يحمل عنهم وزرهم أحد. وهذا الخصام الذي بين أهل النار هو عذاب إلى عذاب، حيث يتبرأ بعضهم من بعضهم، ويتمنّى بعضهم لبعض مضاعفة البلاء والعذاب، وقد كانوا فى دنياهم أصدقاء، وأحباء، وأقارب.. وفى هذا يقول الله تعالى: «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» (67: الزخرف) . الآيات: (40- 43) [سورة الأعراف (7) : الآيات 40 الى 43] إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 398 التفسير: وإذ يساق أهل النار إلى النار، ويدخل أهل الجنة الجنة، يكون بين هؤلاء وهؤلاء ما بين الأشقياء والسعداء فى الدنيا، من مشاعر مختلفة، ونظرات متصادمة! وفى هذا ما فيه من الكشف عن حال كل منهما، فيعرف أهل النار ما يجد أهل الجنة من نعيم، فتشتدّ حسرتهم وتتضاعف آلامهم، على حين يطّلع أهل الجنة على ما يلقى أهل النار من شدة وبلاء، فيزداد نعيمهم، ويتضاعف رضوانهم.. وفى قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ» تيئيس لأصحاب النار، وقطع لكل خيط من خيوط الأمل الواهية التي ينسجونها من الأوهام ليخلصوا من هذا البلاء الذي هم فيه.. وإنهم لن يخلصوا أبدا، ولن يخرجوا من النار أبدا.. ولقد سدّت عليهم منافذ السماء، فلا يقبل لهم عمل، ولا يسمع لهم دعاء: «لا تفتح لهم أبواب السماء» وأنهم لن يدخلوا الجنة التي ينظرون إليها وإلى أهلها، وما يلقون فيها من نعيم، وأنه إذا دخل الجمل فى سم الخياط، دخلوا هم الجنة، وهذا تعليق بمستحيل، حسب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 399 طبيعة الأشياء، فلن يدخل الجمل فى ثقب الإبرة أبدا، ولن يدخلوا هم الجنة أبدا.. «وكذلك نجزى المجرمين» . وقد قرىء «الجمّل» وهو الحبل المجدول، الذي جمع عدّة حبال، فكان حبلا واحدا فى جملته.. والسمّ: الثقب، ومنه سمى السّمّ لأنه ينفذ إلى جسم الإنسان من ثقب تثقبه حمة النحلة أو زنابى العقرب فى جسد اللديغ. وقوله تعالى: «لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ» . المهاد: الفراش، يمهد ويعدّ للنوم عليه، ومنه: المهد، وهو فراش المولود.. والغواشي: جمع غاشية، وهى ما يغشى الإنسان ويظلله، حتى يكسر عنه حدّة الضوء أو يحجبه، ومنه الغاشية بمعنى الداهية التي تهجم على الإنسان، وقد همه. فهؤلاء الأشقياء الذين ألقوا فى جهنم، سيكون لهم مهاد، كما لأهل الجنة مهاد، ولكن هذا المهاد من النار! وسيكون فوقهم ظلّة تظلهم، كما لأهل الجنة ظلال تظللهم، ولكنها ظلة من لهيب جهنم ودخانها..! وفى قوله تعالى: «وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ» تعليل لهذا التنكيل بهؤلاء المجرمين، لأنهم فوق أنهم مجرمون، قد جاوزوا حدود الإجرام، وبالغوا فيه، فبجرمهم دخلوا النار، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى فى الآية السابقة «كَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ» وبظلمهم ومجاوزتهم الحدّ فى الجرم نكلّ بهم فى جهنم، وضوعف لهم العذاب «وكذلك نجزى الظالمين» أي نبالغ فى عذابهم كما بالغوا هم فى إجرامهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 400 ومما يضاعف فى عذاب أهل النار، هذا النعيم الذي ينعم به أهل الجنة فى مواجهتهم، فإذا هم أغمضوا أعينهم عن أن ينظروا إلى هذا النعيم، حسدا لأهله، امتلأت أسماعهم بكلمات تناجى أهل الجنة بنعيمهم، وتدعوهم إلى التمتع به كما يشاءون، غير مضيق عليهم فى شىء منه، ولا محظور عليهم منه شىء، فهو ملك خالص لهم، وفى هذا يقول الله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» . فهذا هو شأن أهل الجنة، وما يلقون فيها من تكريم وتنعيم.. إنهم أصحاب الجنة، وملّاكها، لا ينازعهم فيها أحد، شأن المالك فيما يملك.. وإذا كان أصحاب النار فى خصام وشقاق، وفى تراشق بالسب واللعن، فإن أصحاب الجنة فى مودة وسلام، وفى أنس وإخاء.. «ونزعنا ما فى صدورهم من غل» فلا أضغان ولا أحقاد، ولا حسد، ولا بغضة.. وفيم يتحاسدون؟ وعلام يتباغضون؟ والخير يملأ كل ما حولهم، ليس لأحد منهم حاجة فى شىء إلا وجدها بين يديه.. فليس فيهم غنى وفقير، وشقى وسعيد، إذ كلهم أغنياء من فضل الله، سعداء برحمته ورضوانه.. لا يجرى على ألسنتهم إلا الحمد والشكران، لله رب العالمين، الذي هداهم إلى الإيمان، ووفقهم لمرضاة الله، والفوز بهذا النعيم الذي هم فيه. «إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ» يشغلهم حمد الله والثناء عليه والتقلب بالنعيم الذي هم فيه، عن النظر إلى ما خلفوا وراءهم فى الدنيا، وما أصابهم فيها من خير أو بلاء.. وفى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ- لا نُكَلِّفُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 401 نَفْساً إِلَّا وُسْعَها- أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» ما يكشف عن فضل الله، ورحمته بعباده، وأن ما يكلّفه المؤمنون من أعمال صالحة، من طاعات وعبادات، هو مما تحتمله النفس، ويطيقه كل إنسان.. فلكل إنسان عمل على قدر طافته، وما تسع نفسه، إذا هو آمن وأخلص الإيمان لله.. فقد رفع الله الحرج عن عباده، وأخذهم بلطفه فيما فرض عليهم من تكاليف.. فليس العمل الصالح المطلوب من لنؤمن عملا على إطلاقه، وإنما هو مقدور بقدر كلّ نفس وما تحتمل. فالمريض.. غير المعافى، والأعمى.. غير المبصر، والمقيد.. غير المطلق.. وهكذا.. فقوله تعالى: «لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» - اعتراض بين المبتدأ والخبر، وهو بهذه الصفة قيد وارد على الإطلاق المفهوم من قوله تعالى: «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» .. فما أوسع رحمة الله، وما أعظم فضله وكرمه!. وفى قوله تعالى: «وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» هو نداء من قبل الحقّ سبحانه وتعالى، يدعو به عباده المؤمنين إلى رحاب جناته، ثم يخلى بينهم وبينها، ويجعلها ميراثا لهم، يرثونه بسبب ما قدموا من أعمال صالحة، كما يرث الولد ما خلّف ولده، وما ثمّر له من مال.. فهذه أعمالهم التي عملوها فى دنياهم قد ثمّرت لهم هذا الميراث، وإنه لميراث عظيم.. جنات تجرى من تحتها الأنهار.. وذلك فضل من فضل الله، ورحمة من رحماته، وما تلك الأعمال التي عملها المؤمنون إلا أسباب موصلة إلى مرضاة الله، أما هى فى ذاتها، فلا تعدّ شيئا إلى جانب هذا النعيم المقيم.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 402 الآيات: (44- 51) [سورة الأعراف (7) : الآيات 44 الى 51] وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51) التفسير: تعرض هذه الآيات مشهدا من مشاهد المناظرة والمحاورة، بين أصحاب الجنة وأصحاب النار، كما كان ذلك الشأن بين المؤمنين والكافرين، فى الدنيا.. وفى هذا المشهد نرى: أولا: أصحاب الجنّة ينادون أصحاب النار، ويذكّرونهم بما كانوا يجادلونهم به فى الدنيا.. حيث كان المؤمنون يقولون: إننا نعمل على وعد من ربنا، بأن من آمن وعمل صالحا، فله جزاء الحسنى، وأن من كفر وصدّ عن سبيل الله، فقد حبط عمله، وهو فى الآخرة من الخاسرين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 403 وها هم أولاء جميعا- المؤمنون والكافرون- فى يوم الحساب، والجزاء، ولقاء ما وعد الله.. وها هم أولاء المؤمنون قد أنجز الله لهم وعده، وأدخلهم جنته، وها هم أولاء الكافرون، قد أخذهم الله بوعيده، فألقى بهم فى جهنّم.. وفى سؤال أهل الجنة أصحاب النّار هذا السؤال: «قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟» خرى لأصحاب النار، وتقريع لهم، وعذاب فوق العذاب الذي هم فيه.. وفى قوله تعالى على لسان أهل الجنة: «فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا» بلفظ الوعد مطلقا من غير ذكر الموعودين- إلفات لأهل النار إلى ما وعد الله المؤمنين به، من رضوان، وليحققوا ما تم فى هذا الموعد.. وإنه لنعيم عظيم، يراه أصحاب النار، ولا يدنون منه.. وفى جواب أصحاب النار بقولهم: «نعم» - يقولونها فى ذلة واستخزاء- فى هذا ما يكشف عن مضاعفة آلامهم وإذلالهم.. وإنهم ليقولون هذه الكلمة فى حشرجة أشبه بحشرجة الموت، من هول ما يلاقون من عذاب. ثم ما يكادون ينطقون بهذا الجواب الذي يشهدون به على أنفسهم ويدينونها بما هم فيه من عذاب، حتى يقرع آذانهم هذا الصوت الذي يملأ الآفاق من حولهم: «أن لعنة الله على الظالمين» .. إنه صوت الوجود كله، يلعن الظالمين ويخزيهم، ويفضح ما كان منهم من كفر بالله، وصدّ عن سبيله: «الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ» لقد كانوا هكذا فى دنياهم، يصدّون أنفسهم ويصدّون الناس عن طريق الحق المستقيم، ويريدونها طريقا معوجّة، قائمة على الضلال، والبغي والعدوان.. إذ كانوا يكفرون بالآخرة، ولا يرجون لقاء الله. ثانيا: بين أهل الجنة وأصحاب النّار حجاب، يعزل كل فريق عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 404 الآخر، عزلة، لا ينفذ منها شىء من نعيم الجنة، إلى أصحاب النار، كما لا ينفذ منها شىء من لفح جهنم، إلى أهل الجنة، ولكنهم- مع هذا- بمرأى ومسمع من بعض.. وبين الفريقين سور يشفّ عما وراءه وأمامه.. وعلى هذا السور رجال، ليسوا من أهل الجنة، ولا من أصحاب النار.. إنهم لم يتقرر مصيرهم بعد، إذ لم تكن سيئاتهم بالتي تدفع بهم إلى النار، ولم تكن حسناتهم بالتي تفتح لهم أبواب الجنة، فأوقفوا هكذا «على الأعراف» . والأعراف: ما ارتفع من الأمكنة، ومنه عرف الديك الذي هو أعلى شىء فيه، ومنه المعرفة بالشيء، حيث تكشفه، وتستولى على حقيقته.. وهؤلاء «الرجال» أشبه بالنظّارة الذين يشهدون موقفا بين فريقين متناقضين.. ينظرون إلى هؤلاء نظرة، وإلى هؤلاء نظرة أخرى، فيكون لهم فى ذلك حال من العجب والدهش، ومن المسرّة والغم، ومن الرجاء والخوف.. إنه نوع من العقاب الذي يمسّه لطف الله، وتحفّ به رحمته.. وليس يخفى على هؤلاء «الرجال» من هم أهل الجنة، ومن هم أصحاب النار، فلكلّ من الفريقين سمات ظاهرة تدل عليه، وتكشف عن حاله.. وشتّان بين وجوه يجرى عليها ماء النعيم، وتسفر فيها شموس الأمن والسلامة والرضا، وبين وجوه عليها غبرة ترهقها قترة.. قد كربها الكرب، واستولى عليها البلاء.. ومن هؤلاء الرجال، أو النظارة، تنطلق كلمات الإعجاب بتلك التحية الطيبة إلى أهل الجنة: «سلام عليكم» .. تماما كما يفعل النظارة على مسارح الحياة.. يحيّون الفائزين، ويرجمون المنهزمين!! وإذ يلتفت أهل الجنة إلى هذه الأصوات التي تجيئهم من بعيد، وإذ يرون أنها صادرة من أناس ليسوا من أهل النار، وليسوا كذلك من أهل الجنة- الجزء: 4 ¦ الصفحة: 405 إذ ذاك يتساءلون: ما بال هؤلاء القوم؟ وما شأنهم فى هذا الوضع؟ وإذا كانوا قد نجوا من عذاب جهنم، فلم لم يدخلوا الجنة مع من دخلوها؟. وعلى هذه الأسئلة وأشباهها يجىء الجواب من قبل الحق سبحانه وتعالى: «لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ» أي لم يدخل هؤلاء الجنة بعد، ولكنهم على طمع من دخولها، وعلى رجاء من رحمة الله بأن يصيروا إليها، ولن يخيّب الله رجاءهم فيه.. ولكن صبرا.. وثالثا: ما يكاد هؤلاء الرجال «النظارة» يرفعون أبصارهم عن أهل الجنة، ويلقون بها إلى أصحاب النّار، ليروا كيف يفعل الزمن بهم، وكيف تستمسك حياتهم وهم فى هذا البلاء- ما يكادون يلقون بهذه النظرة حتى تضطرب قلوبهم فزعا ورعبا، وحتى تنطلق ألسنتهم بهذا الصوت المكروب: «رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» ! وفى قوله تعالى: «وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ» إشارة إلى أن هذه النظرة التي ألقوا بأبصارهم إليها نحو أصحاب النار، لم تكن إلا عن قهر وقسر، بداعي حبّ الاستطلاع، الكامن فى طبيعة الإنسان.. فهم قد صرفوا أبصارهم صرفا، وحوّلوها بقوة عن مكانها الذي كانت فيه، من النظر إلى أهل الجنة.. رابعا: وإذ يفزع رجال الأعراف- أو النظارة- إلى الله سبحانه، ألّا يجعلهم مع هؤلاء القوم الظالمين من أصحاب النار- إذ ذاك يذكرون أهل الجنة وما هم فيه من نعيم، وكيف كان استهزاء هؤلاء الظالمين بهم فى الدنيا، وأنهم لم يكونوا أهلا لكرامة الله، إذ لو كانوا أهلا لتلك الكرامة لما وضعهم بهذا الوضع الذليل من الحاجة والفقر والضعف.. هكذا كان المشركون والكافرون يلقون المؤمنين بمثل هذه المقولات- وعندئذ يسأل هؤلاء «النظارة» أصحاب النار فى سخرية واستهزاء، مشيرين لهم إلى أهل الجنة: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 406 «أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ؟» انظروا كيف أورثهم الله جنات النعيم، وكيف ألقى بكم فى أفواه جهنم؟ «ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ» . وخامسا: وفى كلب البلاء، وكظمة العذاب، يتلفت أصحاب النار إلى هؤلاء النظارة الذين يرشقونهم بسهام الاستهزاء والسخرية، ويفتحون عليهم هذه الأبواب المغلقة، من ذلك الماضي الأسود الذي كانوا فيه على طريق الشرك والضلال- وتحدثهم أنفسهم أن ينتقموا من هؤلاء الذين يهزءون بهم ويسخرون، وأن يجذبوهم إليهم ليكونوا معهم فى هذا البلاء، وليذوقوا ما يذوقون من عذاب السعير!! وما يكاد هذا الإحساس يجتمع فى كيانهم، ويتحول إلى رغبة متحركة تسعى إلى الغاية التي يريدونها، حتى يفجؤهم هذا الصوت السماوي المنطلق إلى هؤلاء النظارة، يحملهم فى سرعة خاطفة إلى الجنة، وقد فتحت لهم أبوابها، ومدت إليهم يد الرحمة من تلقائها، وإذا هم وقد أخلوا هذا المكان الذي كانوا فيه، وإذا هم فى جنات النعيم: «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ» .. وإذن فكل الناس فى الجنة، إلا هؤلاء الظلمة.. حتى هؤلاء النظارة الذين كانوا على مشارف جهنم.. قد نجوا من هذا العذاب، وصاروا إلى جنات النعيم.. أما هم فباقون فى هذه الوحشة القاتلة، ومع هذا اليأس المطبق، ومع هذا العذاب الأليم.. وهكذا تتغاير صور العذاب، وتتنوع وجوهه وأشكاله.. كلما تجرع منه الظالمون كأسا، وكادوا يستمرئون مرارتها، سقوا كأسا أخرى غيرها، أمرّ مرارة وأشنع طعما.. وهكذا يتقلبون فى العذاب، على حين كما يتقلب أهل الجنة فى ألوان النعيم.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 407 وسادسا: إذ يخلو الموقف إلا من أصحاب النار فى النار، وأهل الجنة فى الجنة، وإذ يصير أصحاب النار إلى هذا اليأس القاتل، بعد أن يخلى رجال الأعراف مواقفهم التي كانوا فيها- إذ ذاك لا يجد أصحاب النار إلا أهل الجنة، يشخصون إليهم بأبصارهم ويمدّون إليهم أيديهم، طالبين النجدة والغوث: «وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ» ! .. هكذا تبدلت بهم الحال، وقد كانوا من قبل فى دنياهم بأنفون أن ينظروا إلى الناس إلا من آفاق عالية، حتى لكأنهم آلهة، والناس عبيد أذلاء لهم.. وها هم أولاء اليوم، يمدون أيديهم فى ذلة وانكسار إلى هؤلاء الذين كانوا عبيدا أو أشبه بالعبيد لهم، يطلبون شيئا من تلك الموائد الحافلة التي بين أيديهم.. «أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله!» ويجيئهم الجواب مفحما مخرسا موئسا.. «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ..» ولا يكاد هذا الجواب يبلغ أسماعهم، ويملأ قلوبهم يأسا، وهما وكمدا.. حتى يصادق على هذا الجواب من عند الله، فتجىء كلمات الله مكملة لهذا الحكم، مصدقة عليه، شارحة لأسبابه: «الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ» .. وهكذا يدل الستار على هذا المشهد العظيم من مشاهد القيامة.. لقد انتهى الحساب وفضّت المحاكمة، ووقع الجزاء.. وصار أصحاب النار إلى دارهم التي أعدت لهم، يلقون فيها الويل والبلاء، وصار أهل الجنة إلى دارهم ينعمون فيها، بما أعد الله لهم من نعيم ورضوان مقيم.. والمشاهد لهذه المشاهد من خارج، يرى فى كلمات الله التي صورتها، ما لا يراه على مسرح الحياة، ولو أتيح لهذه المشاهد من أبرع المخرجين من يخرجها ويتخير لها كل ما فى الحياة من إمكانيات.. فى الممثلين وأدوات التمثيل! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 408 الآيات: (52- 53) [سورة الأعراف (7) : الآيات 52 الى 53] وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53) التفسير: وفى الانتقال من مشاهد القيامة إلى الحياة الدنيا، يقوم طريق يصل بين هذين العالمين.. عالم الحياة، وعالم ما بعد هذه الحياة.. وعلى امتداد هذا الطريق، وفى نهايته، يرى المشركون مصائرا لجبابرة والمتجبرين، وكيف تزلوا منازل الهون والعذاب.. يستغيثون فلا يغاثون، ويستجدون فلا يجود عليهم أحد ولو بقطرة ماء.. لقد سمع المشركون آيات الله تلك التي صورت لهم مشاهد القيامة، وشهدوا منها تلك المشاهد التي تنخلع لها القلوب، مما نزل بأمثالهم من المعاندين والمتجبرين، وأنهم إذا كانوا اليوم مجرد نظارة ومشاهدين، فإنهم فى غد على موعد مع هذا المكان الذي أطبق على أمثالهم، ولن يفلتوهم منه أبدا.. وإذ يخرج المشركون من بين يدى آيات الله، التي صورت تلك المشاهد، وإذ لا تزال صور هذه المشاهد تملك عليهم مشاعرهم، وتستولى على أفكارهم- وإذ هم فى تلك الحال يلقاهم قوله تعالى: «وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» فماذا هم فاعلون بهذا الكتاب، الذي أنزله الله عليهم مفصلا مبينا، على علم.. من لدن حكيم عليم؟ فلم يكن بيانه وتفصيله من عمل بشر.. هكذا تنطق آياته، وتتحدث وتتحدّى كلماته.. فيه هدى ورحمة لقوم يتقبلون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 409 الحقّ، وينتفعون بالخير الذي يساق إليهم.. أما من أعرض وتولى، فقد حرم حظّه من الحق والخير.. فما موقف هؤلاء المشركين مع هذا الكتاب المعين؟ قوله تعالى: «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ» .. الاستفهام هنا إنكارى، ينكر على أهل الشرك والضلال توفّقهم فى الاستجابة لهذا الكتاب، والإيمان به، والعمل بما فيه.. فماذا ينظرون؟ أو ماذا ينتظرون؟ أينتظرون تأويل هذا الكتاب، ووقوع ما أخبر به من وعد ووعيد؟ إن تأويله- أي ما تؤول إليه أخباره- لا تكون إلا يوم القيامة.. فهل إذا جاء هذا اليوم، ووقع بهم الوعيد الذي أوعدهم الله به، أينفعهم إيمان أو يقبل منهم عمل؟ وكلّا.. فإن الله سبحانه وتعالى يقول: «يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً» (158: الأنعام) .. إنّهم فى هذا اليوم لا يملكون إلا أن يردّدوا الأمانىّ الباطلة: «فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ؟» .. وكلّا.. فلا شفعاء، ولا رجعة إلى الحياة مرة أخرى. لقد رفعت الأقلام، وجفت الصحف، وطوى الكتاب على ما عمل العاملون من خير أو شرّ.. وهؤلاء المشركون لم يسجّل لهم فى كتابهم إلا الشرّ، وإذن فهم: «قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» .. لقد ذهبت مفترياتهم أدراج الرّياح، إذ كانت كلها من واردات الخيال والأوهام.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 410 الآيات: (54- 58) [سورة الأعراف (7) : الآيات 54 الى 58] إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) التفسير: ويترك المشركون فى موقفهم مع أنفسهم، من هذا النداء الكريم الذي يدعوهم به الله سبحانه إلى كتابه، وإلى الإيمان به، قبل أن تنقضى آجالهم ويختم على أعمالهم، ويأتيهم تأويل ما فى الكتاب من وعيد، وعذاب شديد- يتركون هكذا ليتدبروا أمرهم وليأخذوا الطريق الذي يشاءون.. ثم إن لهم بعد هذا أن يستمعوا إلى آيات الله، وما يتنزل فيها من هدى ونور، يهدى إلى الله، ويكشف الطريق إليه، بما يتجلّى فيها من سلطان الله، وقدرته، وحكمته، ورحمته.. وفى هذا يقول الله تعالى: «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» فهذه بعض مظاهر قدرة القدير، وحكمة الحكيم.. «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» .. وقد أشرنا من قبل إلى هذه الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض، وقلنا إنها ليست بيانا للزمن الذي عملت فيه القدرة هذا الخلق للسموات والأرض- الجزء: 4 ¦ الصفحة: 411 كما يذهب إلى ذلك أكثر المفسّرين- فذلك فهم خاطئ لقدرة الله، التي تحكم الزمن ولا يحكمها.. «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» . فهذه الأيام الستة، هى المدة التي ينضح فيها خلق السموات والأرض، وهى الوعاء الحاوي لخلق السموات والأرض، وتسويتهما على الصورة التي أرادها الله وذلك كما يتخلّق الجنين فى بطن أمّه، ويتم خلقه فى تسعة أشهر.. وهكذا الشأن فى كل مخلوق.. له وعاء زمنى يتخلق فيه، وأجل محدود ينتهى إليه.. وقوله تعالى: «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» .. اختلف المفسرون فى العرش وفى صفته، وفى وظيفته.. كما اختلفوا فى الاستواء.. ما هو؟ وكيف يتصور؟ أما العرش، فقد ذكر فى القرآن أكثر من مرة.. مثل قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ» (7: هود) . فالعرش هنا موجود قبل خلق السموات والأرض، فكيف يجىء فى الآية السابقة معطوفا على خلق السموات والأرض بحرف العطف «ثم» ؟. جاء ذكر العرش فى قوله تعالى: «قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» (86: المؤمنون) وفى قوله سبحانه: «وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ» (75: الزمر) وفى قوله تعالى: «وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ» (15: 16- البروج) . فالعرش إذن كون من هذه الأكوان التي خلقها الله سبحانه، كما خلق السموات والأرض وغيرهما.. إنه مربوب لربّ الأرباب. ولكن ما صفة هذا العرش؟ وما وظيفته؟. جاء فى قوله تعالى عن عرش ملكة سبأ: «قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 412 بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ» (38: النمل) وجاء فى قوله سبحانه: «فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ» (42: النمل) . فالعرش هنا هو مقصورة الملكة، أو مجلس الملك، حيث تتخذ منه الملكة مجلسا تتولّى فيه إدارة ملكها، هى وأعوانها.. فهل العرش الذي خلقه الله هو شىء من هذا القبيل، على بعد بعيد، فيما هو لله، وفيما هو لعباد الله؟ ليس ببعيد أن يكون لهذا الوجود فلك يدور فيه، وأن يكون لهذا الفلك مركز، وأن يكون العرش هو مركز هذا الوجود، وهى جميعها من خلق الله، وفى يد القدرة القادرة.. بقي معنى استواء الله على العرش.. وهذا أمر يتعلق بذات الله، فكما لا يمكن تصور ذاته، لا يمكن تصور أفعاله.. وقد سئل الإمام مالك رضى عنه- عن معنى الاستواء، فقال قولته المشهورة: «الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة» .. قوله تعالى: «يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ» أي يجلّل الليل بالنهار، أي يجعله جلالا له، وساترا، وغطاء، حيث يحجب ظلامه نور النهار.. ومنه قوله تعالى: «إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ» أي يلبسكم النعاس، وكذلك قوله سبحانه: «وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ» أي دخلوا فيها، وأخفوا أنفسهم. قوله تعالى: «يَطْلُبُهُ حَثِيثاً» جملة حالية من اللّيل، أي أن اللّيل يتبع النهار ويقتفى أثره، فينسخ نوره بظلامه. وهكذا النهار والليل فى دورة الفلك، حيث تدور الأرض حول نفسها، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 413 تحت سلطان الشمس مرة كل يوم، من الغرب إلى الشرق.. وفى تلك الدورة اليومية بتناسخ كل من الليل والنهار، أي ينسخ كل منهما الآخر، وذلك بتحرك الأرض شيئا فشيئا، بحيث يكون دائما نصفها المقابل للشمس نهارا، والنصف الآخر ليلا، ففى كل لحظة، ضوء ينسخ ظلاما، ويلبسه، ويغشيه.. فالظلام الذي يخيم على الأرض شىء أصيل، والضوء الذي يلبسها كائن جديد داخل عليها.. الظلام منسوخ، والضوء ناسخ له. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً» (12: الإسراء) . وهناك حقيقة علمية مقررة، تتكشف من النظر فى قوله تعالى «يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً» وذلك بعد أن أصبحت كروية الأرض ودورتها حول الشمس من الغرب إلى الشرق من الحقائق المسلّمة، التي لم تعد موضع بحث أو خلاف.. تلك الحقيقة، هى أن الليل، أي الظلام، كان مستوليا على الأرض كلها، فلما أخذت الأرض مكانها من الشمس مع المجموعة الشمسية، انتسخ نصف الظلام الذي كان يغطى هذه الأرض، أو هذه الكرة، فكان نهارا، وبقي النصف الآخر ليلا.. وفى الحركة التي تتحركها الأرض فى مواجهة الشمس من الغرب إلى الشرق- يتناسخ الليل والنهار، فما يكون ليلا يتحول إلى نهار، وما يكون نهارا يتحول إلى ليل.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ» (37: يس) . وسلخ النهار من الليل، تعريته منه، كما يتعرى الحيوان من جلده الذي يكسوه.. فالنهار إذ يكسو وجه الأرض بضوئه يكون أشبه بالغشاء الجلدى الذي يكسو الجسد، فإذا انسلخ النهار، انكشف الليل بظلامه الكثيف. وفى الحساب الزمنى بتقدم النهار الليل أبدا، حيث كان الشرق هو مطلع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 414 الشمس، فحيث تشرق الشمس يكون أبدا وراءها ظلام، أو ليل، هو متخلف زمنا عن النهار.. فالنهار فى الشرق هو ناسخ لليل لذى كان فى الغرب، والليل الذي يستولى على الشرق، هو فى مقابل النهار الذي انسحب منه.. أو بمعنى جغرافى آخر.. أننا إذا فرضنا أن الوقت الآن نهار فى نصف الكرة الشرقي، كان معنى هذا أن وراء هذا النهار ليل هو قائم فى النصف الغربىّ من الأرض، وأنه بحكم دورة الأرض حول نفسها من الغرب إلى الشرق، سيأخذ كل من النهار والليل مكان صاحبه بعد نصف دورة كاملة من دورة الأرض.. فبين الشرق والغرب فرق زمنى هو مدة نهار كامل، وهذا ما يمكن أن يفهم عليه قوله تعالى: «لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» (40: يس) .. فالنهار يسبق الليل أبدا، والعكس لا ينبغى أن يكون، لأن سلطان الشمس قائم على الأرض مسلط عليها، أو بمعنى أصح على النصف المواجه للشمس منها دائما.. وقوله تعالى: «وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ» معطوف على قوله سبحانه: «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» أي وخلق الشمس والقمر والنجوم، وهى كائنات مسخرات لأمره، لا سلطان لها، ولا فعل لها من ذاتها.. ومن هنا لا تصح عبادتها، ولا ينبغى أن يتعلق مخلوق بمخلوق مثله، وينشد الرزق منه. فقوله تعالى: «مُسَخَّراتٍ» حال من الشمس والقمر والنجوم. وقوله سبحانه: «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» الخلق: خلق الكائنات جميعها، العلوىّ منها والسفلىّ.. «والأمر» التدبير والتسخير وإجراء كل مخلوق على التقدير الذي قدّره الله له.. فالمخلوقات جميعها صنعة الخالق، وحركاتها وسكناتها كلها بتقدير الله، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 415 وبأمره.. «تبارك» أي علا وتقدّس وتمجّد وعظم.. «الله ربّ العالمين» .. هذا لسان حال الوجود كله، يسبح بحمد الله، ويمجده ويقدسه ويعظمه. قوله سبحانه «ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» أي إذا كان هذا الوجود كله هو صنعة الله، وكل حركة وسكون فيه هى بتقدير الله وبتدبيره وأمره، فإنه ينبغى ألا يكون لمخلوق متوجه إلا إلى الله وحده إليه تتجه لوجوه، وله ترفع الأكفّ وتبسط لأيدى.. «ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً» أي ادعوه فى تذلل وخضوع، وفى همس وخفوت، فهذا أجمع للجوارح، وأدعى إلى سكن النفس وطمأنينة القلب، وليس كذلك.. الصراخ والهتاف، حيث تتوزع المشاعر، وتتفرق الجوارح، ويدخل على الإنسان شعور يبعد الله عنه، وبأنه يملأ هذا الفراغ الذي بينه وبين الله، بهذا الهتاف والصراخ. وقوله تعالى: «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» الاعتداء هنا هو الالتفات إلى غير الله، وللجأ إلى وجه غير وجهه.. فذلك عدوان على الله، وما له من حق على العباد فى الولاء له، والطلب منه.. قوله تعالى: «وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها» .. الإفساد فى الأرض هو اتخاذ الطرق المعوجة فيها، بعد أن أقامها الله على السلامة والفطرة.. فمن الإفساد العظيم فى الأرض، الشرك بالله، أو الكفر به، أو الانحراف عن شرائعه.. والله سبحانه وتعالى يقول: «أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً» . قوله سبحانه: «وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» أي إذا انتهيتم عما نهاكم الله عنه، وهو الإفساد فى الأرض، فوجهوا وجوهكم إلى الله، وادعوه وأنتم على إشفاق وطمع.. إشفاق من عذابه، وطمع فى مغفرته.. هكذا هو شأن المؤمنين بالله.. حالهم أبدا معه على خوف منه، ورجاء فيه.. فالخوف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 416 يدفع الإنسان إلى العمل والاجتهاد فى الطاعات.. والرجاء يشدّ عزمه، ويقوّى يقينه، ويثبت خطوه.. يقول بعض الصالحين: «لو أنزل الله كتابا بأنه معذب رجلا واحدا لخفت أن أكونه، أو أنه راحم رجلا واحدا لرجوت أن أكونه» .. وهذا أعدل موقف يقفه الإنسان، بين خوفه من ربّه وطمعه فى رحمته. قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» . فى الآية الكريمة عرض لمظهر من مظاهر قدرة الله، وما تحمل هذه القدرة إلى الناس من رحمة.. فهذه الرياح، يرسلها الله رسل رحمة إلى الناس، حيث تحمل السحاب مثقّلا بالماء، فتسوقه إلى الأرض الجديب والبلد الميت، ثم تنزل ما حملت من ماء، فتسيل به الوديان، وتجرى منه العيون، وإذا هذا الجدب، وذلك الموات، حياة تدبّ فى أوصال الكائنات، من جماد، ونبات، وحيوان.. تلك بعض مظاهر القدرة.. القادرة تلبس الجماد ثوب الحياة، وتخرج من الأرض الجديب زروعا ناضرة، وثمارا دانية القطوف، مختلفة الطعوم.. فهل تعجز هذه القدرة عن إحياء الموتى، ونشر الهامدين من القبور؟ ذلك ما لا يقول به عاقل إذا نظر نظرة هناك، ثم نظر نظرة هنا: «كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون» .. ولكن أين من يعقل ويتذكر؟. قوله تعالى: «وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً» .. وهكذا الناس، يصوبهم الغيث الإلهى من آياته وكلماته بين يدى الرسل، فيكون منهم ما يكون من الأرض الجديب يصوبها المطر، فبعضها طيب كريم، يقبل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 417 الماء ويتفاعل معه، فيخرج الثمر الطيب، والعطر الزكىّ، وبعضها لا يخرج شيئا، أو ينبت الحسك والشوك والمرار!. والنكد: السيء الرديء، الذي يتأذى الناس منه، طعما أو ريحا.. الآيات: (59- 64) [سورة الأعراف (7) : الآيات 59 الى 64] لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64) التفسير: بعد هذا العرض الذي تتجلى فيه قدرة الله وسلطانه المتمكن فى هذا الوجود، ورحمته المبثوثة فى كل أفق- بعد هذا جاءت آيات الله لتحدّث عن مشاهد من الكفر والضلال والمكر، بآيات الله، ولتقيم منها عبرة وعظة لهؤلاء المشركين الذين كذبوا رسول الله وبهتوه، وأخذوه ومن آمن معه بالبأساء والضراء.. وفى هذا عزاء للنبىّ وللمؤمنين معه، ووعيد للمشركين والضالين أن يحلّ بهم ما حلّ بأقوام سالفين، كذبوا رسل الله، ومدّوا إليهم ألسنتهم وأيديهم بالضر والأذى.. فهذا نوح- عليه السلام- يدعو قومه إلى الله، ويحذرهم من عذاب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 418 يوم عظيم، إذا هم لم يستجيبوا له، ويستقيموا على الطريق الذي يدعوهم بآيات الله إليه.. والقوم فى عمى وضلال.. يلقون هذا الدّاعى الكريم بالتكذيب والسفه: «إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .. أهكذا يجزى المحسنون على ما يقدمون من إحسان؟ ذلك ظلم مبين، وعدوان آثم على البر والإحسان..! والرسول الكريم حريص على سلامة قومه، ضنين بهم أن تغتالهم الضلالة ويفتك بهم الكفر، فيلقى سوءهم بإحسان، ويدفع الشر بالخير: «يا قوم ليس بي ضلالة ولكنى رسول من رب العالمين، أبلغكم رسالات ربىّ وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون.» ولا تبلغ كلمات الرسول منهم أذنا واعية، ولا تصادف قلبا متفتحا للخير.. إنهم يحسدون نوحا أن يكون الرجل الذي يتولى مكان القيادة والتوجيه، ولو كانت قيادته لهم ستفتح عليهم كنوز الأرض، وأبواب السماء.. «أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون» فذلك هو الداء المتمكن فيهم، والذي يعزلهم عن نوح، ويقطع بينهم وبينه الطريق إلى اللقاء، ويسد بينهم وبينه منافذ التفاهم والفهم. «فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ» .. فهذا هو الجزاء العادل، لمن انقاد لهواه، وأبى أن يفتح عينيه على هذا النور الذي يملأ الآفاق من حوله.. إن تلك هى جنايته على نفسه، وذلك هو مصيره الذي اختاره وارتضاه.. والملأ: الجماعة من الرجال خاصة. و «عمين» جمع عم، وهو الأعمى، يقال: عمى عمّى فهو أعمى، وعم.. وأصل «عم» عام، صيغة مبالغة من اسم الفاعل، مثل: حاذر وحذر، وهذا يعنى أن العمى الذي عليه القوم، ليس عمى طبيعيا، وإنما هو تعام عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 419 الحق، ومبالغة فى هذا التعامي.. فهو عمى البصيرة، وليس عمى البصر. الآيات: (65- 72) [سورة الأعراف (7) : الآيات 65 الى 72] وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72) التفسير: وهذا رسول آخر من رسل الله الكرام، هو «هود» عليه السلام، يجىء بعد نوح إلى قومه «عاد» فيدعوهم دعوة نوح إلى الله، ويلقى منهم ما لقى نوح من قومه من تكذيب وتسفيه، ولكنه يمضى معهم- كما مضى نوح مع قومه- ناصحا، متلطفا، يلقى السيئة بالحسنة، والشر بالخير، وهم- مع هذا- لا يزدادون إلا عنادا وإصرارا على ما هم فيه من عمى وضلال.. وتجىء الخاتمة التي لا تختلف أبدا.. نجاة للمؤمنين، وهلاك للمكذبين المعاندين.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 420 «سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» (62: الأحزاب) والسفاهة. خفة الحلم والطيش. والبسطة فى الخلق: الزيادة فى بناء الجسد، وقوته. ذلك نعمة من نعم الله، إذا صادفت عقلا راشدا، وقلبا سليما.. والآلاء: النعم، وهى جمع: إلى، على وزن معى، وألى على وزن قفا.. والرجس: القذر والنجس.. ووقع عليهم: أي حلّ بهم، وأصابهم. والدابر: ظهر الشيء وخلفه.. ودابر القوم: آخرهم.. والمراد أنهم أخذوا عن آخرهم، فلم تبق منهم باقية. والقطع: الاستئصال من الجذر.. وفى قوله تعالى: «وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ» إشارة إلى أنهم لن يكونوا أبدا من المؤمنين، ولو جاءتهم كل آية.. حتى يروا العذاب الأليم. الآيات: (73- 79) [سورة الأعراف (7) : الآيات 73 الى 79] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 421 التفسير: وبعد «هود» جاء «صالح» إلى قومه «ثمود» . وتتكرر الأحداث، ويشهد صالح ما شهد النبيّان الكريمان من قبله، نوح، وهود.. من البهت والتكذيب، والإصرار على الضلال والكفر.. وتجىء الخاتمة المنتظرة.. غضب الله وعذابه للقوم المجرمين، ورحمته وإحسانه للرسول ولمن اتبعه من المؤمنين.. ولدعوة التي يحملها الأنبياء إلى أقوامهم دائما، هى الإيمان بالله، والانخلاع عن عبادة لأوثان والأصنام: «اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» . تلك هى رأس دعوتهم. ويجىء صالح إلى قومه بآية محسوسة يضعها بين أيديهم: «هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» . والناقة التي جاءهم بها صالح- عليه السلام- هى البينة، وهى الآية، التي تشهد له بأنه رسول الله، وقد اختلف فى أوصاف هذه الناقة، وفى الوجه الذي جاءت منه، فقيل إنهم اقترحوا عليه ناقة تخرج من صخرة أشاروا له إليها، فخرجت منها الناقة. وقيل إنها كانت على شىء عظيم من بسطة الجسم، حتى لقد كانت تشرب الماء الذي كان يشربه القوم كلهم فى يوم.. وقد حملوا هذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 422 المعنى على قوله تعالى: «هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» . (155: الشعراء) . وليست العبرة فى خلق الناقة، ولا فى أوصافها التي كانت عليها، وإنما العبرة فيما ابتلوا به منها.. إنها ناقة الله.. وربما لا يكون فيها شىء يختلف عن جنسها من النياق، ولكن هكذا أضافها الله إليه تكريما وتشريفا، لتكون معلما من معالم الحق، له احترامه، وتوقيره.. والبلوى فيها هو ألا يمسوها بسوء.. فإن هم مسوها بسوء أخذهم العذاب.. وهذا هو وجه التحدي من تلك الآية، وتلك هى المعجزة المتحدية منها. ولم يصبر القوم على هذا البلاء، ولم يدعوا الناقة تأكل فى أرض الله كما تأكل جميع النياق، ولكنهم تحدوا هذه المعجزة، واستعجلوا العذاب الذي يأتيهم من جهتها، فمقروها. وقد أغراهم على ذلك ما أغرى أباهم آدم بالأكل من الشجرة التي نهى عن أكلها.. وإنه لو لم ينه عنها فلربما لم يلتفت إليها ولم يأكل منها.. وكذلك هم، كان نهيهم عن ترك الناقة تأكل فى أرض الله إلفاتا لهم إليها، وابتلاء لهم بعدم الامتثال لما أمروا به فى شأنها.. «فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ» أي مقلوبين على وجوههم، كما يجثم الطائر على الأرض والرجفة التي أخذتهم هى الزلزلة.. وقد وصفت بالطاغية فى قوله تعالى: «فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ» (5: الحاقة) ووصفت بالصيحة فى قوله تعالى: «وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ» (68: هود) وفى قوله تعالى: «قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ» إشارة إلى أن صالحا كان ذا جاه فى قومه، وأن سفاءهم لم يواجهوه مواجهة بالتجريح والتكذيب، بل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 423 كان ذلك منهم للذين آمنوا من مستضعفيهم.. وإلى هذا يشير قوله تعالى: «قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا» (62: هود) فهو قد كان فى مكانة ظاهرة فى قومه، وفى منزلة عالية من الاحترام والتقدير.. فلما جاءهم يدعوهم إلى الله، تغيّرت نظرتهم إليه، وساءت حاله عندهم.. وذلك لسابق ما أراد الله لهم من فتنة! وفى قوله تعالى: «فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ» - وذلك بعد أن أخذتهم الرجفة فأصبحوا فى ديارهم جاثمين- فى هذا ما يكشف عما كان فى نفس صالح من أسى وحسرة على هلاك قومه، وأن عزاءه عند نفسه أنه أبلغهم رسالة ربه ونصح لهم ولكنهم لم ينتصحوا.. فأخذهم الله بذنبهم: َ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» . وفى التعبير بلفظ التولّى الذي يدل على الإعراض- إشارة إلى أنه أعطاهم ظهره، غير آسف عليهم، بعد أن عزّى نفسه هذا العزاء.. ثم مضى فى طريقه مع من آمن به، وترك هؤلاء جثوما هامدين. الآيات: (80- 84) [سورة الأعراف (7) : الآيات 80 الى 84] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 424 التفسير: وهذا لوط وقومه.. ولكل قوم داؤهم الذي جاء الرسول ليطبّ لهم منه.. وداء هؤلاء القوم هو أنهم يأتون الرجال شهوة من دون النساء، وقد كانوا فى هذا الفعل المنكر أول أناس فعلوه.. فهم أئمة فى هذا الضلال، عليهم وزر هذا الإثم ووزر من عمل به إلى يوم القيامة! والقوم- شأنهم شأن كل معتد أثيم- يستمرئون هذا الضلال، ويقيمون له منطقا يقع من نفوسهم موقع اليقين والاطمئنان، وبهذا عدّوا أنفسهم أصحاب دعوة راشدة، ودعاة فلسفة حكيمة، وأن لوطا ومن معه قوم منحرفون، متجمدون على القديم، لا يتحولون عنه.. ومن هنا سوّل لهم منطقهم هذا أن يؤذنوا لوطا ورهطه بالخروج من بينهم: «فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ» . وتجىء الخاتمة، كخاتمة كل صراع بين حق وباطل، وهدى وضلال.. «فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ» أي كانت من هؤلاء القوم الذين هلكوا ومضوا.. فالغابر، هو الماضي، إذ كان من شأنه أن تعلوه الغبرة بفعل الزمن.. وقد أصبح هؤلاء القوم فى حكم الغابرين، إذ قضى الله بإهلاكهم وليس لقضائه من مردّ. وهذا لوط وأهله إلا امرأته قد نجوا، وسلموا من هذا البلاء. وأما قومه فقد أمطروا مطر السّوء.. مطرا من نوع لم يعرفه أحد.. ولهذا جاء النظم القرآنى: «وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً» .. هكذا مطرا منكرا على غير مألوف الحياة.. إنه حجارة من سجيل، قلبت المدينة وما فيها ظهرا لبطن، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى سورة هود: «فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ» فهو، مطر ولكنه من حجارة، وهى حجارة ولكنها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 425 من سجّيل (أي من صوّان) وهى سجّيل ولكنها منضودة (أي مهيّأة ومعدّة لهم، فى أحجام منتظمة) وهى منضودة، ولكنها مسوّمة (أي معلّمة، يعرف كل حجر منها المكان الذي يقع عليه والأثر الذي يحدثه) . وقوله تعالى: «فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ» دعوة إلى النظر المتأمل المتفحص، الذي يأخذ العبرة من الأحداث ... ففى هذا الذي حدث لقوم لوط عبرة وعظة. الآيات: (85- 87) [سورة الأعراف (7) : الآيات 85 الى 87] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87) التفسير: وهؤلاء قوم شعيب، وداؤهم أنهم يختانون فى الكيل والميزان، فإذا كالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون. وقد جاء شعيب يدعو قومه دعوة الحق، ويقيمهم على طريق العدل فيما بينهم.. وها هو ذا يقول لهم: «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 426 فمن آمن بالله كان من شأنه ألا يظلم، ولا يعتدى، «قد جاءتكم بينة من ربّكم» .. والبينة هى الآية والمعجزة المتحدية، ولم يذكر القرآن الكريم نوع هذه المعجزة، ولكن الذي ينبغى التصديق به أنه كان بين يديه معجزة ما، تحدّى بها القوم، وأراهم قدرة الله منها.. «فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ» والبخس هو الغمط، والنقص، والخيانة.. «وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» أي إن كنتم مؤمنين بالله، ومؤمنين بالحق والعدل الذي يدعو إليه الإيمان.. «وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ» والقعود بكل صراط: هو التصدي لمن يريدون الحق، ويطلبون الهدى، والإبعاد: الوعيد بالشرّ والتهديد به. «وتبغونها عوجا» أي تريدون أن تكون هذه السبيل- سبيل الله- معوجّة، أي ينحرف الناس عنها إلى سبيل الضلال والغىّ.. فهكذا أهل السوء والضلال، يحرصون دائما على أن يكون الناس جميعا على شاكلتهم، حتى لا يظهر سوؤهم، ولا ينكشف ضلالهم.. وهكذا الشرّ دائما موكّل بالخير، يريد أن يشوّه معالمه، ويفسد طبيعته، ليتوازى معه على كفتى ميزان. ولكن الله بالغ أمره.. فما كان قائما على الشرّ والفساد، مستنبتا فى منابت الضلال، فلا بقاء له، وما كان قائما على الحق والخير، مغروسا فى مغارس الهدى والنور، فهو شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها فى السماء، تؤتى أكلها كلّ حين بإذن ربّها.. «كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ، فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ.. كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 427 تم هذا الكتاب، ويليه- إن شاء الله- الكتاب الخامس فى تفسير الجزءين التاسع والعاشر.. وعلى الله قصد السبيل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 428 [الجزء الخامس] [تتمة سورة الأعراف] الآيات: (88- 93) [سورة الأعراف (7) : الآيات 88 الى 93] قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93) التفسير: بلّغ شعيب قومه رسالة ربّه، ونصح لهم، واستقبل إساءاتهم بالحسنى، وسفاهاتهم بالصفح والمغفرة- هكذا الأنبياء والمرسلون، ينظرون إلى من أرسلوا إليهم نظرة الطبيب الحكيم إلى مريض، استبدّ به مرضه، فأفقده صوابه أو أفسد تفكيره ... وإن مهمة الرسل لهى أشقّ من هذا، وأكثر حاجة إلى الرفق والملاطفة، وإلى الحكمة والكياسة فى اتصالهم بأقوامهم، وفى تألّفهم واستئناسهم، حتى يسمعوا لهم، ويقبلوا منهم، إن كان فيهم بقيّة من خير، أو إثارة من عقل ... وفى هذا يقول الله تعالى لنبيّه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 429 الكريم: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (125: النحل) . وها هم أولاء سادة القوم، وأصحاب الكلمة فيهم، والسلطان عليهم، يتصدّون لشعيب، ويقفون لدعوته بالمرصاد، إذ كانت هذه الدعوة تنزلهم من النّاس منزلة الآدميين، لا الآلهة المتسلطين، وتغلّ أيديهم عن هذا الكسب الحرام الذي يغتالون به حقوق الضعفاء، ويمتصون به دماء الفقراء ... وإنه لو قدّر لشعيب أن يمضى بدعوته إلى غايتها، لسدّ على هؤلاء السّادة منافذ البغي والعدوان، ولما بقي لهم في الناس هذا السلطان المبسوط لهم على رقاب العباد. ولا يكتفى هؤلاء السادة أن يعرضوا عن شعيب وعن دعوته، بل إنهم يجاوزون هذا إلى تهديده ووعيده بأن يخرجوه من بينهم، هو ومن آمن معه، إن لم يرجع عمّا هو فيه، وإن لم يعد إلى حاله الأولى قبل أن يطلع عليهم بتلك الدعوة التي يدعوهم إليها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا» .. إنها لقريتهم! هكذا يقولونها صريحة في غير مواربة.. «قريتنا» بحالها التي هى عليها، وبكل ما كان يموج فيها من ظلم وفساد.. أما شعيب والذين آمنوا معه، فهم شىء غريب، دخل على هذا الكيان الفاسد، وهم دواء مرّ يأبى أن يقبله هذا الجسد العليل.. وينكر شعيب على هؤلاء السفهاء من قومه أن يدعوه إلى تلك الدعوة المنكرة.. إنه يدعوهم إلى الحق والخير، وهم يدعونه إلى الضلال والهلاك، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 430 وشتّان بين دعوته ودعوتهم.. وإنه إذا لم تكن منهم استجابة له، فلا أقلّ من أن يدعوه وشأنه، وأن يدعوا النّاس وما يختارون لأنفسهم من موقف إزاء دعوته ودعوتهم، وألا يحولوا بينه وبين من يستجيب له منهم، وألا يتسلطوا على الذين آمنوا معه، ويحملوهم على السير معهم في هذا الطريق الذي ارتضوه، وأبوا أن يتحولوا عنه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان شعيب: «أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ؟» أي أيكون هذا موقفكم منّا، ووعيدكم لنا بالإخراج من القرية، إن كنا مصرّين على موقفنا، متمسّكين بعقيدتنا، كارهين لما تدعوننا إليه من العودة إلى ملّتكم؟ إنّ الدّين لا يكون عن إكراه، وإن العقيدة لا تقوم على التسلط والقهر.. فكيف تكرهوننا إكراها على دين لم نقبله، وعلى عقيدة لم نرضها؟ إنّه لا إكراه فى الدين، وإننا لن نكرهكم على ما ندعوكم إليه، فكيف تكرهوننا على ما تدعوننا إليه؟ ثم تهددوننا بالطرد من قريتنا إن لم نستجب لكم؟ ذلك ظلم مبين، وعدوان آثم. «قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها» .. أي إننا وقد عرفنا الحق، وآمنا به عن فهم واقتناع، فإن الحيدة- بعد هذا- عن طريق الحق، هى افتراء على الله، وكذب صراح في وجه تلك الحقيقة المشرقة.. «وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا» . إذ كيف يقبل عاقل أن يرد موارد الهلاك بعد أن خلص منها، وسلك مسالك النجاة؟ «وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً» . إنّنا لن نعود أبدا إلى ملتكم بعد أن نجانا الله منها، إلّا أن يكون ذلك عن مشيئة سابقة لله فينا، وعن قدر قدّره علينا، فذلك من شأن الله وحده، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 431 هو الذي يملك من أنفسنا ما لا نملك، فإذا كان الله قد شاء لنا أن نعود القهقرى إليكم، ونردّ على أعقابنا معكم، فنحن مستسلمون لأمر الله، راضون بحكمه، أما نحن فى ذات أنفسنا، فعلى عزم صادق ألّا نعود فى ملتكم أبدا، إلا أن ينحلّ هذا العزم بيد الله، لأمر أراده الله، وقضاء قضى به.. «وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً» .. فهو- سبحانه- وحده الذي يعلم مصائر الأمور، ولا يدرى أحد قدره المقدور له، ولا مصيره الذي هو صائر إليه، فذلك علمه عند علام الغيوب.. أما نحن فمطالبون بأن نستقيم على الحق، وأن نفوّض الأمر لمالك الأمر.. «عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ» .. والفتح هو الحكم، وتلك قضية بين شعيب وقومه، هو يدعوهم إلى الهدى، وهم يدعونه إلى الضلال، وهو يلقاهم بالحسنى، وهم يتهدّدونه بالبغي والعدوان، والله سبحانه وتعالى هو الذي يحكم بين الفريقين، ويدين من هو أهل للإدانة، ويأخذه بما يستحق من عقاب. وقول شعيب: «رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ» - مع أن فتح الله أو حكمه لا يكون إلا بالحق- هو تقرير للواقع، وإشعار للخصوم بأنهم لا يؤخذون بغير الحق، وأنهم وشعيب على سواء بين يدى من يفصل بينه وبينهم فيما هم مختلفون فيه. ومع هذا الموقف العادل الذي يقفه شعيب من قومه، وفى موقفه معهم فى ساحة القضاء الذي يقول كلمة الحق بينه وبينهم- فإنهم لم يقبلوا هذا منه، ولم ينتظروا ما ينجلى عنه هذا الموقف، بل جعلوا إلى أنفسهم أمر القضاء فى هذا الخلاف، وأعطوا لأنفسهم كلمة الفصل فيه، وأنهم هم وحدهم أصحاب الحق.. فأدانوا شعيبا، وحكموا عليه بالخروج من القرية هو ومن آمن معه، واستعجلوا إنفاذ هذا الحكم فيه وفيهم.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 432 «وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ» . هذا هو محتوى الحكم الذي حكموا به. من اتبع شعيبا فهو من الخاسرين، لأن شعيبا على باطل، وهم على حق، وإذن فلن يخلص من أيديهم إلا بأن يخرج من القرية، ويمضى حيث يشاء.. هكذا قدّروا، وهكذا حكموا. وما أن همّوا بإنفاذ هذا الحكم، حتى جاء الحكم الذي لا يردّ، الحكم الذي حكم به أحكم الحاكمين.. «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ» . إنه الحكم الذي أدين به من قبل أشباه لهم، كذبوا رسول الله، وعقروا ناقة الله.. إنهم قوم «صالح» ، الذين أخذتهم الرجفة من قبلهم فأصبحوا فى دارهم جاثمين.. والرجفة هى الاضطراب والزلزلة ... فلقد زلزلت بهم الأرض، ودمدم عليهم ربهم بذنبهم، فأصبحوا فى ديارهم جاثمين، أي جثثا هامدة، لاحراك بها.. «الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ» تلك هى عاقبة المكذبين.. لقد أقفرت منهم الديار، حتى كأنهم لم يكونوا من عمّارها يوما. يقال: غنى بالمكان، أي أقام فيه، وسكن إليه، بما اجتمع له من وسائل تغنيه عن التحول عنه.. ويتلفّت شعيب إلى ما حلّ بقومه، وما صار إليه أمرهم بعد أن أصبحوا جثثا هامدة وأشلاء مبعثرة، فيأسى عليهم، ويحزن لهم، ولكن سرعان ما يدفع عنه مشاعر الأسى والحزن، حين يراجع حسابه مع قومه، وما كان منه ومنهم، فيجد أنهم ليسوا أهلا لدمعة رثاء تدمعها عينه عليهم.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 433 «يا قَوْمِ ... لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ» ؟. إنه ليس أرحم من الله بهم، ولقد أرسل الله إليهم غيوث رحمته على يد رسول كريم، فأبوا أن يقبلوها، وتهدّدوا من حملها إليهم، وآذنوه ومن آمن معه بالطرد من القرية، فكان ما أخذهم الله به، هو الجزاء العادل الرحيم.. الآيات: (94- 99) [سورة الأعراف (7) : الآيات 94 الى 99] وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) التفسير: بعد أن عرضت الآيات السابقة بعضا من قصص الأنبياء مع أقوامهم، وما كان من هؤلاء الأقوام من كفر وضلال، ومن تطاول على رسول الله، وتحدّ وقاح لهم، ثم ما أخذ الله به هؤلاء الأقوام من نكال وبلاء فى الدنيا، وما أعدّ لهم من عذاب شديد فى الآخرة- بعد هذا جاءت آيات الكتاب لتقرر هذا الحكم العام، الذي يجريه الله على الظالمين، الذين يقفون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 434 فى وجه الحقّ ويتصدّون لدعاة الخير، وهذا الحكم هو الخذلان للظالمين، والتنكيل بهم، حيث لا يردّ عنهم بأس الله ما لهم من جاه وسلطان، وما بين أيديهم من بأس وقوة. «وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ» . فتلك هى سنة الله فى الأمم الخالية، قبل بعثة النبي «محمد» خاتم الأنبياء، عليه وعليهم الصّلاة والسلام. فما كان يبعث نبى إلى قرية من القرى، أو جماعة من الجماعات إلا كذّبوه، وبغوا عليه، وأنكروا مقامه فيهم، وهمّوا بإخراجه من بينهم، أو قتله، إن هو ظلّ على موقفه منهم.. وهنا تجىء الخاتمة، ويقع بهم ما أنذروا به من قبل إن هم أبوا إلا كفرا، وإلا عنادا وإصرارا على الكفر، وما هى إلا عشية أو ضحاها حتى يصبح القوم أثرا بعد عين، «فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها وَلا يَخافُ عُقْباها» وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ» (5: غافر) وقوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ» تعليل لهذا العقاب الذي أخذهم الله به، من بأساء وضراء ... والبأساء ما يقع على الأموال من ضرّ، والضراء ما يصيب النفوس من بلاء ... والتضرّع: الخضوع، والتذلل والاستسلام. والسؤال هنا: كيف يتضرّعون، وقد أصبحوا فى الهالكين، بهذا الأخذ المستأصل الذي أخذهم الله به؟ والجواب: أن هؤلاء الذين هلكوا، هم عبرة ومثل لمن بعدهم ... والتضرّع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 435 واللّجأ إلى الله إنما هو ممن يجىء بعدهم ويخلفهم من ذريتهم.. إذ أن هلاك الهالكين وإن كان عامّا شاملا، إلا أن هناك بقية باقية، من حواشى القوم، المنتشرين هنا وهناك بعيدا عن المجتمع، كما أن هناك أعدادا قليلة من المؤمنين، الذين نجاهم الله من هذا البلاء ... فهؤلاء وهؤلاء هم البقية الباقية من القوم، وهم الذين ينبت منهم وينمو، هذا الجيل الذي يخلفهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ» .. أي أن الله سبحانه وتعالى قد رفع هذا البلاء الذي نزل بالسّلف، وجعل مكانه نعمة وعافية تلبس الخلف، ليكون فى نعمة الله عليهم، حجة بين يدى الرسول الذي يجيئهم ليدعوهم إلى الله، وليلفتهم إلى فضله عليهم كما قال هود لقومه، وهو يدعوهم إلى الله: «وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» وكما قال صالح لقومه: «وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» .. فهذه النعم التي يلبسها الخلف، بعد النقم التي حلّت بالسلف، هى حجّة بين يدى الرسول، يذكرّ بها قومه، ليذكروا ما كان لله عليهم من فضل، وأنه لم يأخذهم بما جنى آباؤهم.. وقوله تعالى: «حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى قد أمهل هذه البقية الباقية من القوم الهالكين- أمهلهم حتى «عفوا» أي نموا، وكثروا، ومسّتهم العافية.. فالعفو أصله من العافية، التي يتبعها النماء والزيادة، كما جاء في قوله تعالى: «وَيَسْئَلُونَكَ ماذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 436 يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ» ومنه قوله صلى الله عليه وسلّم «احفوا الشوارب واعفوا اللّحى» أي قصّروا الشوارب، وأطيلوا اللّحى، أي اتركوها حتى تنمو أصول الشعر، وتطول. وفى قوله تعالى: «وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ» إشارة إلى أنهم أدركوا ورشدوا، وعرفوا ما حلّ بآبائهم من شر وخير.. وفى هذا إشارة أيضا إلى أن الله قد أمهلهم حتى تتابعت أجيم، وكثرت مواليدهم، ونمت أموالهم، وكان لهم بعد الآباء آباء.. وهذا هو السرّ فى تقديم الضّراء على السّرّاء هنا.. فالضراء هى ما أصيب به القوم الهالكون من آبائهم الأولين، والسرّاء هى النعم التي أفاضها الله على آبائهم الأقربين.. فهم فى نظرتهم إلى الوراء يرون على مسيرة الماضي وجهين من وجوه الحياة، تغايرا على موطنهم الذي هم فيه.. يرون آباء لهم كانوا فى نعمة من الله، وعافية من البلاء، فكفروا بأنعم، وعصوا رسله، فأخذهم الله بالبأساء والضرّاء، وآباء خلفوا هؤلاء الآباء فألبسهم الله لباس النعمة والأمن ولم يبلهم بعد حتى يعلم ما عندهم من إيمان أو كفر.. وهؤلاء الآباء، هم وأبناؤهم هؤلاء، لم ينتفعوا بهذه المثلات التي حلّت بآبائهم الأولين، إذ حين ابتلاهم الله، وبعث فيهم رسله، كفروا بنعم الله، ومكروا بها، وأخذوا الطريق الذي أخذه أسلافهم مع رسل الله الذين بعثهم الله فيهم. وهذه هى سنّة الله فيهم، كما هى فى آبائهم.. الهلاك والدمار للقوم الظالمين.. وفى هذا يقول الله تعالى: «فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ..» وفي النظم القرآنى إعجاز الحذف، الذي دل عليه ما سبق.. والتقدير: «حَتَّى (إذا) عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ» (أرسلنا إليهم رسولا كما أرسلنا إلى آبائهم رسولا، فكذبوه، وسخروا منه، وتوعدوه) «فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 437 وفى قوله تعالى: «وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى أمهلهم حتى كانت لهم فسحة من الوقت ينظرون فيها، ويتأملون فيما بين أيديهم وما خلفهم، ويرون ما حل بآبائهم.. وقد بسطنا القول فى شرح هذه الآية، إذ لم نر أحدا من المفسرين أقامها على وجه نرضاه ونطمئن إليه. قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» . هو تعقيب على ما حل بالظالمين من بلاء ونكال.. ثم هو وعيد المشركين من أهل مكة وما حولها من القرى.. فهؤلاء الذين أخذوا بظلمهم، لو أنهم آمنوا بالله، وصدقوا رسله، واتقوا محارم الله، وأقاموا شريعته، لكانوا فى عافية من أمرهم، وفى سعة من رزقهم، ولفتح الله عليهم بركات من السماء التي رمتهم بالصواعق، وبركات من الأرض التي زلزلت بهم، ورجفت، وفغرت أفواهها لابتلاعهم.. أفلا يكون فى هؤلاء القوم عبرة لمعتبر، وذكرى لمن يتذكر؟ وماذا تنتظر أمّ القرى ومن حولها، وقد استغلظ فيها الشرك، وعاث فيها المشركون؟ والسؤال هنا: هل من مقتضى الإيمان والتقوى أن تفتح على المؤمن التقىّ بركات من السماء والأرض؟ أو بمعنى آخر: هل المؤمنون الأتقياء هم أكثر الناس رزقا وأوفرهم مالا؟ وكيف؟ والمشاهد أن الذين يجتمع إلى أيديهم الغنى والجاه والسلطان، هم الذين لا يؤمنون بالله، أو الذين يؤمنون به ولكن لا يتقونه ولا يوقرون حرماته؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 438 فما تأويل قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ..؟» والجواب: أن المؤمن بالله، المتقى لحرماته، هو أكثر الناس غنى فى قلبه، وقناعة فى نفسه، ورضى بقدره ... فالقليل فى يد المؤمن التقىّ هو كثير مبارك فيه، يسدّ حاجته، ويجلّى عن نفسه هموم الدنيا، ويقيمه على رضى دائم، واطمئنان متصل، وسلام مقيم مع نفسه، ومع الناس، ومع الوجود كله.. وهذا هو السرّ فى وصف الرزق المنزل من السماء، والنابت من الأرض- بالبركة.. فهو رزق ممسوس بنفحات البركة التي تجعل القليل كثيرا، ينمو على الإنفاق، كما تنمو النبتة المباركة فى الأرض الطيبة. فالمجتمع المؤمن التقىّ، مجتمع مثالىّ فى حياته، وما يرفّ عليها من أرواح السلام، والأمن، والاستقرار، حيث لا ظلم، ولا بغى، ولا عدوان، وحيث الناس إخوان على طريق الله، وعلى التناصح والتواصي بالحق والخير.. فأى بركة أعظم من تلك البركة وأي حياة أطيب وأكرم من هذه الحياة، التي يجتمع فيها الإنسان إلى الإنسان، بقلب سليم، ونفس مطمئنة، لا يحمل لأحد شرا، ولا يتربص له أحد بسوء؟ وفى هذا يقول الشاعر العربي: لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ... ولكن أخلاق الرجال تضيق فحيث كان الإيمان والتّقى، كان الإخاء، والأمن والسلام، والعافية.. قوله تعالى: «أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 439 إنه نذير للمشركين من أهل مكة ومن حولهم.. إنهم قد أشركوا بالله، وبغوا فى الأرض، ولم يكن لهم نظر ينظرون به إلى ما حل بالبغاة الظالمين.. وها هو ذا رسول الله يدعوهم إلى الله، ويمدّ يده إليهم بالهدى.. وها هم أولاء يكذبونه، ويسخرون منه، ويأتمرون به.. فماذا ينتظرون غير سنّة الأولين؟ .. وفى هذا يقول الله تعالى عنهم: «وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ» (15: ص) . وعلام يعوّل هؤلاء القوم فى تماديهم فى الضلال، واطمئنانهم إلى ما هم فيه؟ أهناك من يدفع عنهم عذاب الله، ويردّ عنهم بأسه؟ ذلك ضلال إلى ضلال، وعمى بعد عمى، وفتنة مع فتنة.. وكيف يأمنون مكر الله، ومعاجلتهم بالعذاب من حيث لم يحتسبوا؟ «أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ؟ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ» .. وأي خسارة أكثر من أن يرى الإنسان نذر الشر والهلاك مقبلة إليه، ثم يخدع نفسه، ويخيّل إليها أن هذه النذر لن تتجه إليه، ولا تنال منه.. ثم يظل هكذا يرتوى من هذا السراب الخادع حتى تقع به الواقعة، وينزل بساحته البلاء.. فلا يجد له مهربا.. ولو أنه تنبه لهذا الخطر المشير إليه، وأخذ حذره منه، واتخذ له طريقا غير هذا المؤدى به إلى مواقع الهلاك والتلف- لو أنه فعل ذلك فلربما سلم ونجا، فإن لم يسلم ولم ينج، كان قد أعذر لنفسه، وأدّى المطلوب منه نحو ذاته.. وفى توقيت العذاب الواقع بهؤلاء الظالمين من أهل القرى.. بالبيات، وهو الليل، وبالضحى، وهو ضحوة النهار وشبابه- فى التوقيت بهذين الوقتين إشارة إلى أن بلاء الله ينزل فى أي وقت.. فى غفلة من الناس وهم نيام، قد استولى عليهم النعاس، ولفّهم الليل بردائه الأسود الكثيف.. أو فى ضحوة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 440 النهار- عند الضحى- وقد اكتملت أسباب الحياة، واليقظة للناس، وللحياة من حولهم، وعندئذ يشهدون الهلاك عيانا، وهم في أحسن أحوالهم من الاتصال بالحياة، والأخذ بكل قواهم، مما يطلبون ويشتهون منها.. وكلا الضربتين من ضربات النقمة والبلاء، تجىء فى وقت يجعل أثرها مضاعفا، ووقعها مزعجا، بالغ الغاية في الإزعاج. إن النائم الذي استغرق فى النعاس، لتزعجه الهمسة تطوف به، حتى ليخيل إليه منها أنها صوت رعد قاصف، أو هدير إعصار ثائر.. فكيف إذا كان ذلك بلاء نازلا من السماء يرمى بحجارة من سجيل، أو عذابا فائرا من الأرض يرمى باللهب، ويقذف بالحمم. وإن الإنسان الذي لبس ثوب النهار، واستروح أنسام الصباح، واستحضر كل وجوده ليتصل بالحياة، وليقيم وجهه على ما يشتهى منها، ويمسك بكلتا يديه على ما يقدر عليه من لهوها وجدّها- إن مثل هذا الإنسان ليكرب أشدّ الكرب أن يعرض له فى تلك الحال ما يقطع عليه حبل اتصاله بالحياة، أو يلفته عن طريقه الذي أخذه معها- فكيف إذا كان ذلك بلاء مدمرا يهلك الحرث والنسل، ويطوى السهل والوعر، ويأتى على كل ما جمع الجامعون، وملك المالكون؟ واستمع مرة أخرى إلى قوله تعالى: «أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ» . وانظر إلى أهل القرى، وهم نائمون.. ثم انظر إليهم وقد جاءتهم الضربة القاضية، فإذا هم بين يديها قيام ينظرون، وكأنهم أصحاب القبور، يوم ينفخ فى الصور فيقولون: يا ويلنا.. من بعثنا من مرقدنا؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 441 وانظر إلى أهل القرى، وهم فى ضحوة النهار يلعبون.. ثم انظر إليهم وقد جاءهم أمر ربك على حين غفلة، فقطع عليهم ما هم فيه من لهو ولعب، وقلب بين أيديهم مائدة الحياة وما عليها من أدوات اللعب واللهو! وصدق الله العظيم: «وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» (102: هود) . الآيات: (100- 102) [سورة الأعراف (7) : الآيات 100 الى 102] أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102) التفسير: هذه الآيات والآيات التي قبلها هى تعقيب على ما حلّ بالقوم الظالمين، الذين عصوا رسل الله، واسترهبوهم بصور مختلفة من الوعيد. وهذه التعقيبات هى مما يمكن أن يرد على الخواطر، ويتردد على الألسنة ممن يمرّ من عقلاء الناس بمصارع القوم الظالمين، ويجوس خلال الديار التي عمروها، أو يقصّ عليه خبرها، وتكشف له أنباؤها، ففيها العبرة، وفيها العظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.. وقوله تعالى: «أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 442 وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ» .. إنه يكشف عن وجه من وجوه العظة والاعتبار.. فهؤلاء الذين سكنوا مساكن القوم الظالمين الذين هلكوا، وورثوا أرضهم وديارهم وأموالهم.. ألم يهد لهم وينكشف لأبصارهم أو بصائرهم أن الله سبحانه وتعالى لو شاء لأخذهم بذنوبهم كما أخذ القوم الظالمين قبلهم بذنوبهم؟ ولساق إليهم نذر الدّمار والهلاك كما ساقها إلى الهالكين من قبلهم؟ فما حجتهم على الله حتى يدفع عنهم هذا البلاء الذي هم جديرون بأن يؤخذوا به؟ وما وجه فضلهم على من أهلكوا قبلهم حتى لا يصيروا إلى مثل مصيرهم، وقد فعلوا فعلهم، وأخذوا طريقهم؟ إنه لا لحجة لهم على الله، ولا لفضل ظاهر فيهم، أن عافاهم الله من هذا البلاء، وأن صرف عنهم عذابه، ولكن لمقام رسول الله بينهم، ولفضل الله على نبيه الكريم ألا يعذب قومه وهو فيهم، كما وعده ربّه هذا الوعد الكريم: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» (33: الأنفال) وهذه خصيّصة لمحمد صلوات الله وسلامه عليه، من بين رسل الله جميعا، ألّا يرى عذاب السّماء ينزل على قوم هو منهم، أو يصيب بلادا هو فيها.. وفى قوله تعالى: «وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ» إشارة إلى أن العذاب الذي سيقع بهؤلاء الظالمين ليس عذابا ظاهرا، ينزل من السماء، أو يخرج من الأرض، ولكنه بلاء خفىّ، يغشى قلوب الظالمين، فيحجب عنها الهدى، فلا تتهدّى إليه، ويصرف عنها الخير، فلا تعرف له وجها.. وفى النظم القرآنى حذف دلّ عليه المقام، والتقدير: «أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ» (وأخذناهم بما أخذنا به القوم الظالمين قبلهم من بلاء ونكال، ولكنا لا نفعل بهم هذا، تكريما للنبي الكريم، «وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ» كلام الله، ولا ينتفعون به) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 443 وهذا عقاب خفىّ، لا يراه الرسول، حتى لا يحزن ولا يأسى.. وفى قوله تعالى: «فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ» إشارة إلى أن المعجزة التي بين يدى هؤلاء القوم، والتي تكشف لهم الطريق إلى تصديق الرسول والإيمان بما جاء به- ليست معجزة منظورة تراها العين، ولكنها معجزة مقروءة تسمعها الأذن، ويعيها القلب.. وتلك المعجزة هى القرآن الكريم، والمستمعون لها هم هؤلاء القوم المشركون، ولكنهم لا يسمعون السمع الذي ينفذ إلى القلب، ويتصل بالعقل.. قوله تعالى: «تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ» . القرى المشار إليها للنبىّ، هى تلك القرى التي قصّ الله سبحانه وتعالى أخبارها من قبل، وما حلّ بأهلها، بعد أن كذّبوا الرّسل.. وهؤلاء مشركوا أمّ القرى ومن حولها، قد سمعوا ما قصّ الله من أنباء القرى التي أهلكها الله حين كذبوا رسل الله، وهاهم أولاء يكذبون النبيّ ويمثّلون معه الموقف نفسه الذي وقفه من سبقهم من أهل القرى التي أهلكها الله- هؤلاء المشركون وتلك حالهم، هم بين أمرين: إما أن ينتظروا البلاء الذي حلّ بمن سبقهم، وإما أن يؤمنوا بالله، ويستجيبوا للرسول. أما البلاء، فلن يقع بهم والنبيّ فيهم.. وأما الإيمان، فلن يؤمنوا، لأن الله قد طبع على قلوبهم.. وإذن فليس لهم إلا الخزي فى الدنيا، وعذاب السعير في الآخرة.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 444 والمراد بهؤلاء القوم هو رءوس الكفر، من مشركى مكة، الذين علم الله أنهم لن يؤمنوا، كما يقول سبحانه وتعالى فيهم: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا. (57- 58: الكهف) . فقوله تعالى: «فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ» مراد به هؤلاء العتاة من رءوس المشركين من قريش.. إنهم لا يؤمنون أبدا بهذا الرسول الذي كذّبوا به، وبما أنزل إليه من آيات ربّه، فما ينزل من آيات الله بعد هذا، وما يساق إليهم فيها من عبر وعظات فى قصص الأولين- كل هذا لن يزيدهم إلا نفورا.. «كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ» ذلك الطبع الذي لا ينفذ منه إلى القلب لمعة من نور الحق أبدا. وقوله تعالى: «وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ» هو وصف كاشف لهؤلاء الرءوس من أهل الشرك فى قريش. وأمّا العهد الذي نقضوه مع الله فهو قولهم الذي حكاه القرآن عنهم: «أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ» (156- 157: الأنعام) فهم قد عاهدوا أنفسهم أن لو جاءهم كتاب كما جاء أهل الكتاب كتاب، لآمنوا بالله، وكانوا أهدى سبيلا من أهل الكتب السابقة. وقوله تعالى: «وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ» ..: «إن» هنا هى المخففة من إنّ الثقيلة المؤكدة، واللام فى قوله تعالى: «لفاسقين» هى اللام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 445 المؤكدة، الداخلة على الخبر، والمعنى، وإنّا وجدنا أكثرهم لفاسقين، ينقضون العهد الذي وثقوه مع أنفسهم، وذلك خيانة منهم لوجودهم. الآيات: (103- 116) [سورة الأعراف (7) : الآيات 103 الى 116] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) التفسير: فى الآيات التي مضت، ذكر فيها قصص الأنبياء: نوح، وهود، وصالح، وشعيب عليهم السلام، وقد تخللت هذه القصص لمحات وإشارات إلى مشركى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 446 مكة، تلفتهم إلى مصارع القوم الظالمين، الذين كذبوا رسل الله وأعنتوهم، وأن هؤلاء المشركين من قريش إذا أصروا على ما هم عليه من عناد وشرك، بعد هذا الهدى الذي جاءهم من عند الله، على يد رسول الله- فلن يكونوا بمأمن من هذا المصير المشئوم الذي صار إليه الظالمون من قبلهم. ولم تذكر الآيات السابقة قصة موسى، مع فرعون، ثم قصته مع قومه بنى إسرائيل.. وهذا ما عرضت له تلك الآيات التي نحن بين يديها الآن.. «ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ» .. أي ثم بعث الله سبحانه وتعالى، من بعد هؤلاء الرسل الذين ذكرتهم الآيات السابقة- بعث موسى بآيات معجزات إلى فرعون وملائه، أي الوجوه البارزة من قومه، من وزرائه وقواده، وأصحاب الرأى والكلمة عنده، فلم ينتفع هو ولا قومه بهذه الآيات، ولم يروا فيها طريقا يصلهم إلى الله ويدعوهم إليه، بل ظلوا على ما هم عليه من ظلم ومن بغى، بل لقد كانت تلك الآيات باعثة لهم على المبالغة فى الظلم والبغي، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَظَلَمُوا بِها» أي اتخذوها أداة من أدوات الظلم، وذريعة من ذرائعه، كما سنرى ذلك فى موقف فرعون بعد أن التقى به موسى، وعرض عليه ما بين يديه من معجزات. وفى قوله تعالى: «فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ» .. فى هذا ما يسأل عنه وهو: كيف يجىء الأمر بالنظر إلى ما صارت إليه حال القوم المفسدين، ولم تأت عاقبتهم بعد؟ وماذا ينظر الآن من عاقبة هؤلاء المفسدين؟ والجواب: أن المبادرة إلى هذه الدعوة بالنظر إلى مصير المفسدين، هى لإثارة التطلعات إلى تلك الخاتمة المثيرة التي ستختم بها هذه القصة، وما ينتهى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 447 إليه الصراع بين الحق والباطل، ففى هذه المبادرة إعداد للنفس، وإثارة لأشواقها، وإخلاء لها من الشواغل، حتى تلتقى بتلك الخاتمة وهى على حال تامة من الوعى واليقظة، فلا تفوتها من مواقع العبرة والعظة فائتة. ومن جهة أخرى، فإن فى المبادرة بهذا الحكم، على هؤلاء القوم بأنهم مفسدون- إشعارا بأن القضية هنا قضية صراع بين حق وباطل، وبين دعاة إصلاح وأهل فساد، وفى هذا ما يقيم شعور المستمع لهذه القضية على هذا الموقف منها، وهو موقف بين المحقين والمبطلين. «وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ» . فهذا هو مبدأ القصة.. يلتقى موسى بفرعون لقاء مباشرا ... ثم يبدؤه بهذا الخبر: «يا فِرْعَوْنُ ... إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» .. ويفعل هذا الخبر فعله فى نفس فرعون، ومن حوله.. ثم لا يكاد فرعون يفيق من صدمة هذا الخبر غير المتوقع، حتى يسد عليه موسى منافذ القول بالتكذيب أو الاتهام، فيتبع الخبر بخبر آخر، يؤكده ويوثقه: «حقيق على ألا أقول على الله إلا الحق» فإن من كان رسولا لربّ العالمين، لا ينبغى له أن يقول غير الحق، إذ الرسول وجه كاشف عن وجه من أرسله.. والله سبحانه وتعالى منزه عن كل نقص، فكذلك ينبغى أن يكون الرسول الذي يرسله، على حظ موفور من الكمال البشرى، فلا يكذب، ولا يخون.. فهو أحق الناس وأجدرهم ألا يقول غير الحق.. وتثور فى نفس فرعون تساؤلات، لا يكاد يمسك بواحدة منها حتى يلقاه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 448 موسى بالجواب لما تفرق أو اجتمع فى خاطره من تلك التساؤلات: «قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ» . فالأسئلة التي تواردت على خاطر فرعون كثيرة، كان منها وأهمها: ماذا يريد موسى بهذه الدعوى التي يدعيها؟ وما شأن فرعون به وبرسالته؟ ليكن رسولا من عند الله أو من عند غير الله.. فما لفرعون وهذا الذي يقتحم عليه مجلسه، ويلقى إليه بمثل هذه المقولات؟ وجواب موسى على هذه الأسئلة: «قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ» وكان الجواب المنتظر هو: أرسل معى بنى إسرائيل.. فهذه هى رسالة ربه، المطلوب منه أن يبلغها فرعون.. فإن أبى فرعون أن أن يصدقه، عرض عليه من آيات ربه ما يقيم الدليل على صدقه، ويؤكده.. ولكن جبروت فرعون وتسلطه يحدّثان بأنه لن يقبل من موسى قولا، ولن يسلّم له بشىء مما يقول، بل سيجبهه بالزجر، ويتوعده بالعقاب، ويرميه بالكذب.. ولهذا كان من الحكمة- لكى يطفىء بعضا من غضب فرعون وثورته عليه- أن يلقاه أولا بالدليل الذي يسند دعواه، ويدل على صدقه، وأن يدير تفكيره- ولو مؤقتا- إلى تلك للمعجزات التي يحملها موسى بين يديه من ربّه، وأن يثير فيه غريزة حب التطلع إلى هذا المجهول الذي يخفيه موسى عنه.. ولهذا كان ردّ فرعون: «إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» .. ولم يعرض فرعون لما طلبه موسى فى شأن بنى إسرائيل، وإرسالهم معه، بعد إطلاقهم من يده.. وهو المطلب الأول، بل هو كل ما طلب من فرعون فى هذا الموقف. وإنّما كان همّه كله هو الاطلاع على ما عند موسى من آيات! الجزء: 5 ¦ الصفحة: 449 ولم يمهل موسى فرعون، بل طلع عليه فجأة بما ملأ عليه وجوده كله، هولا، وفزعا ودهشا!! لقد كان فرعون ينتظر من موسى شيئا من الحوار والجدل، والأخذ والردّ، فيما سيعرضه عليه من معجزات.. كأن يستحضرها أولا، ويتخير لها الزمان والمكان ثانيا.. فما كان مع موسى شىء يتوقع أن تخرج منه معجزة، وإلا فأين أدوات هذه المعجزة؟ وأين أجهزتها ومعداتها والأيدى التي تعمل فيها؟ .. ولكن هكذا كان تدبير الحكيم العليم وتقديره! «فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ» .. هكذا تقع المعجزة، وتكون المفاجأة!! العصا التي يمسكها موسى بيده.. يلقى بها إلى الأرض فإذا هى ثعبان مبين.. يفغر فاه حتى ليكاد يبتلع فرعون ومن حوله! ويد موسى التي أدخلها فى جيبه (أي فى فتحة قميصه على صدره) يخرجها، فإذا هي بيضاء من غير سوء، لم يتغير شىء من خلقها، إلا أنها ترسل ضوءا مشرقا كضوء الكوكب الدرىّ فى فحمة الليل.. لقد ألقى موسى بكل ما معه دفعة واحدة، حتى يضرب فرعون الضربة القاضية، التي لا تدع له فرصة يلتقط فيها أنفاسه.. وواحدة من هاتين الضربتين تكفى لكى يستسلم لها كل جبار عنيد.. ولكن فرعون كان أكثر من جبار عنيد..! ولا يذكر القرآن هنا ما وقع فى نفس فرعون من فزع، وذعر، بل يدع ذلك لتصورات الناس، يأخذ كل إنسان ما يقدر عليه الخيال من الصور المرعبة المفزعة، لهذا الهول الذي وقع.. وإذ يفيق القوم من هذا الهول العظيم، بعد أن يدعو موسى الثعبان إليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 450 فيكون عصا فى يده، ويردّ يده إلى مكانها الذي كانت عليه- إذ ذاك يأخذون فى التفكير لمواجهة هذا التحدّى الذي جاءهم به موسى، ويجدّون فى التماس السبل للوقوف فى وجهه، قبل أن يتصل خبره بالناس، فتكون الفتنة، ويكون البلاء ... كما وقع فى ظنونهم وأوهامهم. «قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ» .. أي ساحر يقوم سحره على علم ومعرفة، وهو من أجل هذا مصدر خطر عظيم على فرعون وعلى مكانته فى قومه. «يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ» .. فمثل هذا الإنسان الذي يملك تلك القوة، وهذه البراعة، لا يعجز عن أن يفعل ما هو أكثر مما فعل، وليس ببعيد أن يحيل الناس إلى أحجار ودمى، كما أحال العصا ثعبانا مبينا.. وليس ببعيد أن يطوّح بفرعون، ويلقى به فى مكان خارج ملكه، ويستولى هو على هذا الملك! ويدور بين القوم حديث طويل متصل، تتوارد فيه الآراء، وتكثر وجوه العروض والحلول.. ثم ينتهى فرعون إلى موقف يسأل فيه الملأ: ماذا عندهم من قول فى موسى، وفى هذا الذي شهدوه منه..؟. «فَماذا تَأْمُرُونَ» ؟ إن فرعون يريد منهم موقفا حاسما، ورأيا قاطعا، وأمرا نافذا فى هذا الموقف، الذي لا يحتمل غير المواجهة الحازمة الحاسمة.. وفى قول فرعون لقومه: «فَماذا تَأْمُرُونَ» خروج على المألوف بينه وبينهم، فما اعتادوا أن يسمعوا منه غير كلمة واحدة، هى «الأمر» منه، والطاعة والتنفيذ منهم.. أمّا هنا فى هذا الموقف، فهو متخاذل متهالك، قد هزّته الصدمة، وأذلّت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 451 من كبريائه، فذهل عن نفسه، ونسى أنه «فرعون» الذي يأمر ... ولا يؤمر، ويقول ... ولا يقال له. إنه هنا فى معرض الهلاك، وفى مواجهة البلاء الذي يتهدّده، ويتهدّد ملكه ... وإنه هنا ليواجه الضعف الإنسانىّ الذي يتعرّى فيه من كل مظاهر العظمة الكاذبة، والاستعلاء المصطنع، حين يصطدم بواقع الحياة، ويواجه أهوالها وشدائدها ... إنه هنا، هو هذا الإنسان الذليل الضعيف المستكين، الذي يقبل الصدقة من أي يد تمتدّ إليه..! ويجىء جواب القوم أمرا حاسما.. لقد نسواهم كذلك أنهم فى مجلس فرعون، وبين يدى جبروته وكبريائه، إنهم لا يرون منه الآن إلّا إنسانا مثلهم، قد أدركه الفزع، واستولى عليه الذعر، وأنهم وهو على سواء فى هذا الموقف الأليم.. وهل حين تغرق السفين، ويلقى براكبيها فى لجة البحر، يكون هناك ملك وسوقة؟ وسيد ومسود؟ إنهم جميعا فى يد الهلاك سواء! «قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ» . «أرجه» أي أنظره وأخّر الأمر فيه إلى أن نجمع ما فى المدن من السحرة، أصحاب العلم، والتخصص فى هذا الباب، وبهذا نلقى سحره بسحر مثله، يستند إلى علم ومعرفة. والحاشرون: هم الذين يتولّون جمع السحرة وحشدهم، وحشرهم إلى ساحة فرعون.. والتعبير بالحشر هنا، يشير إلى أن الأمر عظيم، وأنه لا بد له من حشر الناس إليه، وبعثهم سراعا من كل أفق، ليلقوا موسى، ويقفوا فى وجه هذا الخطر الذي دهمهم به. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 452 وحشر السحرة على عجل، وأقبلوا من كل أفق، وغصّت بهم ساحة فرعون.. وما كانوا قد رأوا رأى العين ما كان من فعل موسى بعصاه ويده، مع فرعون، وإن كانوا قد سمعوا به، وتصوروه على ما روى لهم.. ومن هنا وقع فى أنفسهم أنه ساحر مثلهم، وأنّه إذا كان على شىء من القوة بالنسبة لهم، فإن فى جمعهم هذا ما يتغلب على كل قوة.. ومن هنا أيضا وقع فى أنفسهم أنهم أصحاب الموقف المنتظر بينهم وبين موسى، فكانت لهم بذلك دالّة على فرعون، وقد أطمعهم فيه، ما وجدوه عليه من ذلّة وانكسار، فجاءوا إليه يسألونه الأجر مقدّما، ويسألونه الجزاء الذي لهم عنده، بعد أن يكون لهم الغلب!! «وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ» !. ولا يملك فرعون فى هذا الموقف إلا أن يستجيب لهم، ويترضّى مشاعرهم، حتى يبذلوا كل ما يملكون من حول وحيلة.. إنهم الآن لا يعملون إلا بأجر، وقد كانوا من قبل هذا الموقف عبيدا مسخّرين! «قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» . فليس الأجر وحده، ولا المال وحده، هو الذي سيبذله لهم، إن هم انتصروا على موسى، وأبطلوا كيده، وأفسدوا تدبيره، ولكن لهم إلى هذا المال الوفير الذي سيغدقه عليهم- أن يقرّبهم إليه، ويدنيهم منه، ويجعلهم أعوانه، وأصحاب الكلمة والرأى عنده. ولا يذكر القرآن هنا اجتماع السحرة بموسى، والاتفاق معه على موقع المعركة وزمانها.. فذلك متروك لتقدير من يتلو هذه القصة، وتصوره لملء هذا الفراغ الذي لا يغيب عن فطنته، فإن لم يسعف الإنسان ذكاؤه هنا، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 453 وجد القرآن الكريم فى معرض آخر من معارض هذه القصة، يعرض الصورة المثلى التي تملأ هذا الفراغ وتغطيه!. ومن أجل هذا جاء اللقاء المواجه بين السحرة وموسى هكذا. «قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ» . إن المعركة قد بدأت، وإنها الآن فى أول جولة من جولاتها.. ولقد خيّر السحرة موسى، بين أن يبدأ هو الجولة، أو هم الذين يبدءونها.؟ وأجابهم موسى أن يكونوا هم البادئين.. وهذا أدب من أدب الحرب.. أعطوه الفرصة، فأعطاهم هو إياها.. ولقد جاءوا بأدوات كأدوات موسى.. عصىّ وحبال أشبه بالعصىّ، كما جاء هو بعصاه.. فتلك هى أصول منازلة الخصم لخصمه.. أن يحاربه بمثل سلاحه.. وقد أعطاهم موسى الفرصة ليظهروا كل ما عندهم، وكان ذلك عن حكمة وتدبير وتقدير.. فلو بدأ موسى- وقد جعلوا هم الأمر إليه فى اختيار من يأخذ المبادرة- لكان غير عادل معهم، إذ بدءوه بالإحسان.. ولهذا فقد ردّ إليهم إحسانهم بإحسان، وأعطاهم حقّ المبادرة التي كان له أن يأخذها لنفسه. ثم- من جهة أخرى- إن موسى كان واثقا من تأييد الله له، ومن نصره فى هذا الموقف.. ولو بدأ هو الجولة، وضرب السحرة ضربته، وأوقع بهم الهزيمة من قبل أن يعطوا ما عندهم، لكان فى نصره هذا الذي أحرزه مقال لقائل أن يقول: إنهم لو أظهروا السّحر الذي فى أيديهم أولا، لشلّوا حركة موسى، وضربوه الضربة القاضية.. ولكنه عاجلهم فكانت الضربة له، ولم تكن لهم!! هذا قول يقال، فى مثل تلك الحال، وفيه يجد أصحاب الضلال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 454 وأهل العناد متعلقا يتعلقون به، ويتخذون منه مثارا للشغب على موسى حين ينتصر بالضربة القاضية.. ويلقى السحرة حبالهم وعصيتهم، ويأنون منها بألوان من السّحر، وضروب من الشعوذة، فيها مهارة وبراعة، أخذت بألباب الناس، وسحرت عقولهم، وألقت الرعب فى قلوبهم.. ويأخذ موسى شىء من هذا الذي يأخذ الناس، من خوف واضطراب، فى مواجهة الغرائب من الأحداث، ويكاد يفلت زمام الموقف من يده.. وهنا تتدخل السماء، ويجىء وعد الله.. وتبدأ الجولة الثانية، وفيها تتبدل الأحوال وتنقلب موازين الأمور.! الآيات: (117- 122) [سورة الأعراف (7) : الآيات 117 الى 122] وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122) التفسير: ويبدأ موسى الجولة الثانية، بعد أن يتلقى أمر ربّه بأن يلقى عصاه! ويلقى موسى عصاه «فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ» أي تبتلع كلّ هذا الافتراء، وتبطل كل هذا الباطل، فإذا هو هباء فى الهباء. وينجلى غبار المعركة عن حق وقع، وباطل بطل.. وفي التعبير عن ظهور الحق بأنه وقع، إشارة إلى علوّ متنزّله، وأنه جاء من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 455 السماء، فوقع على الأرض، كما يقع ضوء الشمس على معالم الكون الأرضىّ، فيبدّد الظلام، وينسخ معالمه.. أو كما تقع الصواعق بالرجوم، فتهلك القوم الظالمين.. ورأى السّحرة شيئا لم يكن من واردات السّحر الذي معهم، واستيقنوا أن ما مع موسى ليس من السحر فى شىء، وأنه ليس فى مقدور بشر أن يأتى به.. فهو إذن عمل من أعمال السّماء، وقدر من أقدارها، وضعته إلى يد موسى، ليكون شاهد صدق على أنه رسول من ربّ العالمين.. تلك هى شهادة أهل الخبرة، وأصحاب الكلمة فى هذا الأمر.. وليس لأحد قول بعد الذي قالوه.. «فَغُلِبُوا هُنالِكَ» أي فى ميدان المعركة، وكان غلبهم تسليما وإذعانا، كما يستسلم الأسير لآسره. «وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ» أي رجعوا أذلّاء، يواكبهم الخزي والصّغار، وتصحبهم الذلّة والمهانة. والضمير هنا يعود إلى فرعون والملأ الذين معه، إذ كان الأمر أمرهم، والمعركة معركتهم. وفى التعجيل بهذا الحكم، تلخيص لما وقع فى نفوس الناس ساعتئذ.. لقد خسروا المعركة. ما فى ذلك شك.. وإن كان هناك جيوب فى المعركة لم يصفّ حسابها بعد، فإنها لا تؤثر أي أثر فى الحكم الواقع على المعركة، وهو أن الهزيمة قد حلّت بفرعون وملائه «فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ» .. هذا هو شعار الموكب الذي يسبق القوم إلى المدينة، ليذيع فى أهلها هذا النبأ المثير المخيف، وليبعث فى النّاس المشاعر التي يستقبلون بها هذا الموكب المهزوم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 456 وبين يدى موسى يقع السحرة ساجدين. مؤمنين بالله، معلنين ولاءهم له، بعد أن كان ولاؤهم وسجودهم لفرعون الذي كان يقول لهم: «يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» . «وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ» . وهكذا تنجلى المعركة، وقد وقع الحق وبطل ما كانوا يعملون.. وفى التعبير عن استسلام السحرة بالإلقاء ما يكشف عن القوة القاهرة التي استولت عليهم. ثم يجىء الحساب الختامى للمعركة، فيمسك فرعون بمخانق السحرة، متهددا متوعدا.. كما سنرى فى الآيات التالية. الآيات: (123- 126) [سورة الأعراف (7) : الآيات 123 الى 126] قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) التفسير: «قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ» ؟ يعجب فرعون أشد العجب، وينكر غاية الإنكار، أن يتصرف أحد من قومه فى أي شىء من شئونه، ولو كان فيما يتصل بكيانه الروحىّ، وبعقيدته التي يعتقدها، وبالدّين الذي يرتضيه- إلا أن يكون ذلك ممّا يأذن به فرعون ويرضاه.. وأما وفرعون لم يرض عن الدّين الذي جاء به موسى، ولم يأذن لأحد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 457 به، فكيف يجرؤ هؤلاء السحرة على أن يعلنوا إيمانهم بموسى، ومتابعتهم له؟ ذلك عدوان على حق فرعون الذي له فى رقاب العباد! وسرعان ما يأخذ فرعون السحرة بتهمة الخيانة له وللوطن: «إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» .. إذن فالسحرة متّهمون بالتواطؤ مع موسى على إخراج الناس من المدينة، ليشهدوا هذا الذي مع موسى من سحر يتحدّي به سحر الساحرين، ويبطل ما معهم من كيد يكيدون له به، وذلك بما وقع بين السحرة وبينه من اتفاق، حتى تكون الفضيحة مدوّية، يشهدها الناس جميعا، ويتحدث بها القوم كلّهم.. هكذا صاغ فرعون التهمة، ورمى بها فى وجه السحرة.. تم ها هو ذا يقضى قضاءه فيهم.. إنه يخلق التهمة،، ويحكم بالإدانة فيها، ويقدر العقوبة المناسبة لها. «لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ» . إنها قتلة شنعاء، يجد فيها فرعون بعض الشفاء، لما فجعه به هؤلاء السحرة، الذين خذلوه فى موقفه من موسى، ثم خانوه فى متابعتهم لموسى، واستسلامهم له. وتقطيع الأيدى والأرجل من خلاف، لا يقضى على الكائن الحىّ فورا، بل تظل الحياة ممسكة به زمنا يعالج فيه آلام الموت وسكراته، فقطع اليد اليمنى، مع الرجل اليمنى، أو العكس، من شأنه أن يقضى على الإنسان فى الحال، وليس كذلك إذا قطعت اليد اليمنى مع الرجل اليسرى أو اليد اليسرى مع الرجل اليمنى، فإن الإنسان يظل على الحياة وقتا أطول، حيث يحتفظ الإنسان بنصف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 458 نصفه العلوي، ونصف نصفه السفلى المخالف له، وبهذا الخلاف تتم الحركة الدموية، ويظل القلب عاملا بشريان واحد من شريانى الحياة.. ولهذا أتبع فرعون هذه العملية الشنيعة بالصّلب، حتى يظل المصلوب قائما على خشبة الصلب زمنا يعالج فيه آلام الموت وسكراته.. ولا يأخذ هذا الوعيد شيئا من إيمان السحرة، ومن انعقاد قلوبهم على ما انعقدت عليه من تسليم لموسى، وإيمان بالإله الذي يدعو إليه، إذ كان إيمانهم قائما على علم، وبعد بلاء وتمحيص. «قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ. وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا» . هذا هو عزاء المؤمنين فى ساعة العسرة، وفى مواجهة البلاء وتحدّيه.. إنهم منقلبون إلى الله، راجعون إليه، نازلون فى ضيافته.. فليس يفزعهم الموت، ولا ترهبهم المثلات التي يأخذهم بها الظالمون.. إن حياتهم إذا انتهت بتلك النهاية، فإنها ستبدأ مرحلة جديدة، فى عالم أرحب، وفى رحاب ربّ كريم، عرفوه، وآمنوا به، فلا ينكرهم يوم لقائه، ولا يحجب عنهم فضله ورحمته، بل يلقاهم برحمة منه ورضوان، وجنات لهم فيها نعيم مقيم.. إن هذا الانتقام الذي يأخذهم به فرعون، لم يكن عن جناية جنوها عليه، وإنما كل ذنبهم أنهم رأوا النور فاهتدوا به، وعرفوا الحق فاتبعوه.. إنهم قد اختاروا لأنفسهم الخير، وليس لأحد سلطان عليهم فى أن ينزع الإيمان من قلوبهم، وإن كان لسلطانه أن ينزع أرواحهم من أجسادهم، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 459 فذلك شىء لا يلتفتون إليه، بعد أن أخذوا خير ما في هذه الدنيا، وهو الإيمان.. فليكن الموت، وليكن التمثيل والتنكيل بهم، إنهم لصابرون على المحنة، موطنون النفس على البلاء، يرجون من الله أن يمدهم بأمداد من الصبر والعزم: «رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ» . وإفراغ الصبر: صبّه صبّا عليهم، حتى يمتلىء كيانهم به.. فإن المحنة قاسية، والبلاء شديد، وذلك أمر يحتاج إلى كثير من أمداد الصبر من ربّ العالمين. الآيات: (127- 129) [سورة الأعراف (7) : الآيات 127 الى 129] وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) التفسير: وإذ يحذل فرعون في معركة المنطق والعقل، وإذ تفحمه الآيات التي طلع بها عليه موسى، فإنه يلجأ إلى منطق القوة، ويعمد إلى سلاح البغي والعدوان، فيسلطه على خصمه، ويضرب به في غير مبالاة.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 460 وانظر كيف يعمى البغي أهله عن مواقع الحق، وكيف يزيّن لهم الضلال فيرونه هدى. «قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ» . موسى إذن هو الذي يفسد في الأرض؟ وهو الذي ما جاء إلا ليخلّص أناسا استذلّهم فرعون، وسامهم سوء العذاب؟ إنه ما جاء ليشارك فرعون في ملكه، ولا لينازعه سلطانه.. وإنما جاء ليستنقذ أناسا من العبودية، ويرفع عنهم يد التسلط والبغي.. فكيف تصح تلك الدعوى التي يدعونها عليه؟ وفي قول الملأ من قوم فرعون: «وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ» تحريض قوى لفرعون على أن يضرب ضربته، وأن يعجّل بها قبل أن يتابع الناس موسى، ويدخلوا في دعوته، ويؤمنوا بالله كما آمن السحرة، فلا يبقى إلا فرعون وتلك المعبودات التي يعبدها..! وينظر فرعون في هذا القول، وترتسم له الصورة التي يطل بها عليه، لو أنّه ترك موسى وشأنه.. إن فرعون إذا صبر على تلك الحال، فسوف يتخلّى عنه كل شىء، حتى هذ الملأ الذين حوله من أعوان ووزراء.. إنه وحده الذي سيظل على دينه.. هذا إذا لم ترغمه الظروف وتقهره على أن ينقاد لموسى ويصبح من أتباعه!! وتغيم الدنيا في وجه فرعون، ويستبدّ به جنون الكبر والسلطان، فيصدر حكمه على موسى وقومه جميعا: «قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ» .. إنه استئصال لهؤلاء القوم، وقتل بطيء لهم بقتل أولادهم، وإذلال شديد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 461 لهم، باستباحة نسائهم، وبهذا تظل يد فرعون عليهم قاهرة متسلطة.. وفي هذا نذير لمن تسوّل له نفسه أن يتابع موسى أو يتصل به. واستحياء المرأة، هو تعرّضها لما يخدش حياءها أو يجرحه.. وذلك باستدعاء حيائها، حين تواجه بما تنكره الحرّة وتأباه العفيفة. ويقع البلاء بقوم موسى وتنزل الضربات عليهم من كل وجه، فى أنفسهم، وفي أبنائهم، وفي نسائهم.. ونذكر هنا قول الله سبحانه في الآيات السابقة: «ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها» أي فظلموا ومعهم هذه الآيات التي جاءهم بها موسى، فكانت تلك الآيات في أيديهم أداة من أدوات الظلم والبغي. ويدعو موسى قومه إلى الصبر والاحتمال في مواجهة هذه المحنة: «قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» وتكون العاقبة دائما للمتقين.. ويجزع القوم- قوم موسى- ولا يصبرون على هذا البلاء الذي أخذهم فرعون به ويلقون موسى لائمين ساخطين «قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا» .. ويجيبهم موسى متلطفا مترفقا: «عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» . أي اصبروا، فلعل الله يرفع عنكم هذا البلاء، ويهلك عدوكم، ويجعلكم أصحاب جاه وسلطان، ليبلوكم فيما آتاكم، فينظر كيف تعملون وأنتم في لباس الجاه والسلطان.. هل ترعون حق الله، وتؤدّون بعض ما لفضله عليكم من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 462 حق؟ أم تكفرون بالله، وتفسدون في الأرض كما يفسد كثير من أصحاب الجاه والسلطان؟ ذلك ما تكشف عنه الأيام منكم.. وإنها لتكشف عن أسوأ عباد الله، وأكثرهم بغيا وفسادا، إذا لبستهم نعمة، ووقع ليدهم سلطان! الآيات: (130- 133) [سورة الأعراف (7) : الآيات 130 الى 133] وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) التفسير: ويقيم بنو إسرائيل على ضربات الذل والاستبداد، يرميهم بها فرعون.. وموسى يدعوهم إلى الصبر، حتى يحكم الله بينهم وبين فرعون.. ويتلقى فرعون وآله ضربات السماء، ضربة بعد ضربة، وكل واحدة منها تحمل شارة من شارات السماء، بأنها آية من عند الله، وعقاب واقع بالقوم لهذا الموقف المتحدّى الذي وقفوه من موسى، بعد أن جاءهم بآيات الله. وأول ضربة نزلت بالقوم كانت بلاء حلّ بأقواتهم، فيما تجىء به الزروع من غلات وثمرات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 463 «وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» . والمراد بالسنين هنا، هو الجدب الذي يجىء من نقصان النيل، وقلة الماء الذي يجىء به، الأمر الذي يترتب عليه جفاف الزرع، وقلة الثمر.. يقال أسنت القوم أي دخلوا في سنة جدباء. وهذه ضربة ربما لم ينكشف للقوم فيها وجه العبرة سافرا، إذ كثيرا ما كان يفعل النيل شيئا من هذا معهم، وإن كانت فعلاته في تلك المرّة أمرّ وأقسى. وقد عرفت مصر سبع سنين عجافا كما ذكر القرآن الكريم ذلك في زمن يوسف عليه السلام، وكان ذلك من قلة ماء النيل في هذه السنين. فإذا فاض النيل في سنة قالوا هذا مما هو من حظنا ورزقنا، وإذا أمسك النيل في سنة أخرى تشاءموا بموسى ومن معه، وعدوّا ذلك من شؤم موسى وجماعته. «فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ» . والحسنة هنا هى السنة المعاطاة للخير ووفرة الثمر، والسيئة، هى السنة الجديب التي لا يحيا فيها زرع، ولا يجىء ثمر.. والتطير: هو التشاؤم على عادة العرب من زجر الطير، فكانوا إذا أطلقوا طائرا، فطار إلى اليمين.. تيامنوا به، واستبشروا، وسمّوه «سانحا» فإذا طار إلى اليسار تشاءموا به وسمّوه «بارحا» . وقوله تعالى: «أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ» إشارة إلى أن ما ينزل بهم من خير أو سر، وما يحل بهم من بلاء أو عافية، هو من عند الله، وأن ليس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 464 لموسى ولا لقومه شىء في هذا الأمر كله.. وأن الطائر الذي تتعلق به الأبصار، وتتعرف على وجه الخير أو الشرّ منه، ليس هو هذا الطائر السابح في السماء، ولكنه طائر من عند الله، إن شاء أرسله عليهم رزقا وخيرا، وإن شاء أرسله نحسا وبلاء. وفي التعبير عنه بالطائر، إشارة إلى أنه يتنزّل من عل. والصورة كلها قائمة على «المجاز» جريا على عادة العرب.. وإن كان لكل قوم أسلوبهم في التفاؤل والتشاؤم. ويمضى فرعون وقومه في العناد والتحدي، على رغم هذه النّذر التي تطلع عليهم «لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» ولكنهم لا يتذكرون، ولا يتعظون! «وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ» . وتجىء الضّربات بعد هذا: «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ» . والطوفان هنا هو فيضان النيل، وتدفق مياهه في غزارة وجنون، حتى ليغرق السّهل والوعر، وبكاد ينتزع البلاد والعباد، ويهلك الحرث والنسل.. ومن هنا يمكن أن ندرك أن «الطوفان» الذي كان في عهد نوح عليه السلام، لم يكن طوفانا عاما شاملا العالم كله، وإنما كان طوفانا محدودا فى هذه الرقعة من الأرض، التي كان يعيش فيها هو وقومه.. والجراد: آفة مهلكة إذا طلعت أسرابه على الزرع أتت عليه، فلم تبق منه ثمرا ولا ورقا.. والقمّل: حشرة صغيرة، تسكن الأجساد القدرة، وتعيش على ما تمتصه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 465 من الدم.. وقيل هى صغار الجراد، وهى أشدّ فتكا وأكثر بلاء من كباره. والضفادع: جمع ضفدع، وهى حيوان مائى، برّى.. بشع المنظر، مزعج الصوت. والدم: سائل يجرى في عروق الكائن الحىّ، إذا خرج من العروق تجمّد.. وقد سلّط الله هذه الآفات على فرعون وملائه، واحدة بعد أخرى، فكانوا إذا نزل بهم البلاء طلبوا إلى موسى أن يسأل ربّه رفع هذا البلاء، وأنه إذا استجاب له ربّه فيهم، وعافاهم مما نزل بهم، آمنوا به، وصدقوا رسالته، واستجابوا لدعوته فى إرسال بنى إسرائيل معه.. حتى إذا رفع عنهم البلاء نكثوا العهد، وساروا سيرتهم في بني إسرائيل، فيرسل الله عليهم آفة أخرى. وهكذا.. تأخذهم الشدة، فيفزعون ويؤمنون، فإذا مستهم العافية، تمردوا على الله، وكفروا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ.. آياتٍ مُفَصَّلاتٍ» أي آيات ظاهرة واضحة بينة، كل آية منفصلة عن الأخرى زمنا، ومختلفة أثرا.. حتى يكون في الانفصال الزمنى فرصة للمراجعة والرجوع إلى الله، وحتى يكون في اختلاف الأثر، وفي تذوّق تلك الطعوم المرّة المختلفة لهذه المحن، ما يجعل البلاء شاملا لهم جميعا، على اختلاف معايشهم، وتنوع أحوالهم، وتباين طبائعهم.. فمن لم يصبه الطوفان في ماله، أو نفسه، أصابه الجراد أو القمّل، أو الضفادع، أو الدم.. وهكذا لا يسلم أحد منهم من أن تلبسه المحنة، وتشتمل عليه. وهذه الآفات.. من طوفان، وجراد، وقمّل، وضفادع، ودم- إنما تكون بلاء حين تجاوز الحدّ، وتخرج على غير المألوف، بحيث تغطى وجه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 466 الحياة على الإنسان، وتسدّ عليه منافذ التحرك إلى أي اتجاه.. إنها حينئذ تكون نقمة من أقسى النقم، ولو كانت في أصلها مما يطلبه الإنسان ويحرص عليه..! وقد قيل عن الضفادع مثلا، إنها كانت من الكثرة بحيث لا يجد الإنسان مكانا يضع عليه قدمه ... فكيف إذا أراد النوم، أو الطعام، أو نحو هذا؟. وقالوا في الدم، إنه كان مسلطا على أي طعام أو شراب لهم.. فإذا مدّ الإنسان يده إلى الطعام، ثم رفعه إلى فمه تحول إلى مادة ملطخة بالدم، منغمسة فيه، وإذا تناول شربه من ماء، وأراد شربها استحالت دما مسفوحا..! فما أعظم هذه البلاء، وما أشد هذا الكرب.! الآيات: (134- 137) [سورة الأعراف (7) : الآيات 134 الى 137] وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 467 التفسير: الرجز ما يسوء وجهه، وأثره.. من الأمور، وهو مقلوب كلمة «زجر» فكأنه رجز ينقلب زجرا لمن يحلّ به. وقوله تعالى: «وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ» أي لما نزل بهم البلاء، وحلّ بهم العذاب. «قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ» أي لجئوا إلى موسى، ومدوا أيديهم إلى مصافحة عدوّهم، يسألونه العون والنّجدة.. ولكن في كبر وعناد.. «يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ» .. فهم ما زالوا على كفرهم، لا يؤمنون بالإله الذي آمن به موسى ودعاهم إليه، فهو رب موسى لا ربهم: «ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ» أي بما بينك وبينه من صلة، ومالك عنده من عهد باستجابة ما تدعوه به. «لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ» أي لئن استطعت بما بينك وبين ربك من صلة، أن تكشف عنا هذا البلاء لنؤمنن لك ولنرسلنّ معك بنى إسرائيل، ونطلقهم من أيدينا، لينطلقوا إلى حيث تشاء. والقوم مبيتون النية على الغدر بهذا العهد والنكوص عنه، وفي كلماتهم ما يفضح هذا الغدر الذي ضمّت عليه صدورهم.. فهم- أولا- ينسبون إلى موسى أنه هو الذي يكشف عنهم البلاء، بحيلة أو بأخرى من حيله، «فيقولون لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ» ولم يقولوا «لئن كشف ربّك عنّا الرجز» .. إنهم لا يعترفون- فى قرارة أنفسهم- بأن هناك ربّا غير الأرباب التي يعبدونها.. وهم- ثانيا- لا يؤمنون بالله إذا انكشف عنهم البلاء، بل يؤمنون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 468 بموسى، فيقولون: «لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ» ولم يقولوا: لنؤمننّ بإلهك!. «فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ» .. فلقد كشف الله عنهم الرجز إلى أجل، أي كشفا مؤقّتا، لينكشف ما هم عليه من غدر ومكر.. وقد انكشف غدرهم ومكرهم، فنكثوا هذا العهد، ولم يؤمنوا بموسى، ولم يرسلوا معه بنى إسرائيل.. بل عادوا معهم سيرتهم الأولى، فى صورة أشدّ وأنكى. «فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ» وتلك هى عقبى الدين ظلموا.. لقد أغرقهم الله بذنوبهم، بسبب تكذيبهم بآيات الله، وغفلتهم عن مواقع العبرة والعظة منها.. «وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ: مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها» .. القوم الذين كانوا يستضعفون هم قوم موسى، وقد منّ الله عليهم بالخلاص من يد فرعون بعد أن أهلكه. وفي قوله تعالى: «وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها» إشارة إلى أن فرعون هذا الذي كان يحسب أنه من الخالدين، قد أهلكه الله، وأن هؤلاء القوم الذين كانوا شيئا مرذولا في الحياة لعين فرعون ولآل فرعون، قد ورثوا هم الحياة بعده، وها هم أولاء على الأرض أحياء، على حين أصبح فرعون وملأه في الهالكين. والمراد بمشارق الأرض ومغاربها: سعة هذه الأرض، وقدرتهم على التحرك فيها، والتنقّل بين شرقها وغربها، غير مضيّق عليهم من أحد.. فهى أرض ذات آفاق متعددة، كل أفق منها مشرق ومغرب، فهى بهذا الاتساع، مشارق ومغارب. والمراد بالأرض التي بارك الله فيها، هى الأرض المقدّسة التي دعاهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 469 موسى بعد ذلك إلى دخولها، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى على لسان موسى: «يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ» . والمراد بالكلمة الحسنى في قوله تعالى: «وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا» هى الكلمة التي وعد الله بها بنى إسرائيل على لسان موسى، وهو أنهم سيخلصون من هذا البلاء كما قال الله تعالى: «قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» .. فهم إذا استعانوا بالله وصبروا كانت العاقبة لهم. وتمام الكلمة، إنجاز ما فيها من وعد كريم.. وكون الكلمة حسنى لأنها تحمل إلى بنى إسرائيل الرحمة والنعمة، لا البلاء والنقمة، وكلمات الله كلها حسنى، ما حمل منها الرحمة، وما حمل البلاء.. ولكن حين تكون كلمة الله مبشرة هى غيرها حين تكون منذرة ... وذلك في واقع حياة الناس، وفي حسابهم.. أما كلمات الله فكلها الحسن والكمال. وقوله تعالى: «وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ» إشارة إلى ما حلّ بدولة فرعون، وما وقع فيها من اضطراب وفساد بعد أن هلك، وهلك رءوس القوم معه، فقد صار أمر الناس إلى فوضى واضطراب، ففسد كل شىء كان صالحا، وخرب كل مكان كان عامرا، من ديار وزروع.. معروشات وغير معروشات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 470 الآيات: (138- 141) [سورة الأعراف (7) : الآيات 138 الى 141] وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) التفسير: ما كاد بنو إسرائيل يخلصون من يد فرعون وتزايلهم مشاعر الخوف والفزع التي كانت مستولية عليهم- حتى تنبّهت فيهم غريزة المكر واللؤم، وحتّى تحرك فيهم داء اللّجاج والعناد.. فإنهم ما إن رأوا أناسا يتعبدون لأوثان وأصنام، حتى سألوا موسى أن يأخذ لهم نصيبهم من هذا الباطل الذي بين يدى هؤلاء النّاس! إنهم يحسدون الناس على أي شىء يقع لهم حتى ولو كان بلاء وشرّا! وقوله تعالى: «وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ» أي نقلناهم من شاطئه الغربي إلى الشاطئ الشرقي، فجاوزوه وخلّفوه وراءهم.. «فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ» أي فمروا بقوم منهمكين فى عبادة الأصنام التي اتخذوها آلهة لهم. «قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ» .. إنهم مع إيمانهم بأن الله واحد لا شريك له، فإنهم لن يعبدوه، بل ولن يؤمنوا به حتى يتجسّد لهم ويروه رأى العين.. فهم يطلبون إلى موسى أن يجسّد لهم الله، وأن يصوره لهم على أية صورة محسوسة مجسّده. وذلك ضلال مبين، وجهل جهول.. فكيف تكون لله صورة؟ وكيف يحويه شىء؟ إنه لو تصوّر لتحدّد، ولو تحدّد لاحتواه المكان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 471 والزمان، وهذا يعنى أنه دون المكان والزمان، إذ اشتملاه واحتويا عليه!! ولهذا كان جواب موسى: «إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ» إذ لا يقول هذا القول فى الله إلا من جهل قدر الله، ولم يعرف ما لله من كمال وجلال.. «إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» .. ثم زاد موسى القوم علما وبيانا، فكشف لهم عن عبدة الأصنام هؤلاء، وأن هذا الذي هم فيه من عبادة الأصنام ليس إلا غيّا وضلالا، وإلا عبثا ولعبا.. والمتبّر: الهالك الضائع، والتبار: الهلاك والفساد.. وهذا هم فيه ضلال وبوار.. لا يثمر إلا ضلالا وبوارا.. «قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ» أعاد موسى القول هنا لأنه في مواجهة مباشرة لبنى إسرائيل، بعد أن كان الخطاب متجها إلى عبدة الأصنام.. وقوله: «أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً» أي أأطلب لكم إلها غير الله الذي رأيتم آياته فيكم، وكيف فعل بعدوّكم؟ وقوله: «وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ» المراد بالعالمين، الجماعات التي كانت معروفة لهم يومئذ، وقد فضلهم الله عليهم لأنهم كانوا أهل كتاب، وعلى إيمان بالله، على حين كانت الأمم المتصلة بهم أمما وثنية، تدين بعبادة معبودين غير الله. «وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ» أي إذا لم تعرفوا الله في جلال ذاته، وفي عظمة ملكه، فاعرفوه بما أنعم به عليكم، وبما له من آثار واضحة فيكم.. فقد كنتم في بلاء يصبّ عليكم صبّا من آل فرعون.. «يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ» أي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 472 يكرهونكم إكراها على هذا العذاب الأليم، الذي يسوقونكم سوقا إليه، كما تساق السائمة، لا تملك من أمرها شيئا.. «يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ» أي في هذا الذي كنتم فيه، وفى هذا الذي صرتم إليه، بلاء من ربكم واختبار لكم.. ففى الحال الأولى اختبار لصبركم على الضرّ، وفي الحال الثانية اختبار لقيامكم بالشكر. الآيات: (142- 144) [سورة الأعراف (7) : الآيات 142 الى 144] وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) التفسير: الواو في قوله تعالى: «وَواعَدْنا» ، للاستئناف، حيث بدأت الآيات تعرض وجها آخر من وجوه قصة موسى مع بني إسرائيل.. وقوله تعالى: «وَواعَدْنا» المواعدة لا تكون إلا بين طرفين، والله سبحانه وتعالى هو الذي جعل لموسى هذا الموعد للقائه. ولكن لما كان موسى هو الذي تلقّى هذا الموعد وامتثله دون مراجعة، فكأنه كان عن اتفاق ورضى بينه وبين ربه على هذا الموعد، فصح أن يكون طرفا فيه. وفي هذا تكريم لموسى، واحتفاء به! الجزء: 5 ¦ الصفحة: 473 وفي قوله تعالى: «ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» - فى هذا ما يسأل عنه، وهو: -لماذا جاء النظم هكذا: «وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» ولو جاء من أول الأمر: «وواعدنا موسى أربعين ليلة» لكان ذلك مؤديا المعنى، مع الإيجاز، الذي هو أسلوب القرآن الغالب فيه؟. والجواب: أن الله سبحانه وتعالى ذكر ذلك الموعد في سورة البقرة بقوله تعالى: «وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» (51: البقرة) وسورة البقرة مدنية، وسورة الأعراف مكية.. أي أن ما ذكر هنا في سورة الأعراف هو الذي نزل به القرآن أولا، فجاء به مفصلا.. «ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ» .. ثم لما جاء ذكر هذا الموعد مرة أخرى جاء مجملا: «وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» وذلك بإحالة المجمل على المفصّل.. وإذن فلا بد أن يكون لهذا التفصيل حكمة.. فما هى هذه الحكمة؟. ونقرأ النصّ القرآنى: «وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ» فنجد أن الثلاثين ليلة لم تكتمل لتكون موعدا تاما حتى أضيفت إليها الليالى العشر، فتمت حينئذ، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَأَتْمَمْناها» . والإتمام في مقام الفضل والإحسان، هو زيادة على المطلوب من الفضل والإحسان.. فضلا وكرما.. وهذا يعنى أن موسى- عليه السلام- كان على موعد ليكون فى ضيافة ربّه ثلاثين ليلة.. وهذا ما أذن به لموسى في أول الأمر، فلمّا أنس بألطاف ربّه، ووصل نفسه بأنوار السماء، وأضاف وجوده إلى العالم العلوي- عزّ عليه أن تنقطع رحلته بعد هذه المدة، وأن يعود إلى عالم التراب والظلام، ولكن لمّا لم يكن بدّ من أن يعود إلى قومه، ويتمم رسالته التي بدأها معهم، فقد كان من لطف الله به، ومن تمام نعمته عليه أن مدّ ضيافته عشر ليال أخرى..! فكانت ضيافته أربعين ليلة.! وكان ذلك من تمام النعمة.. حيث أن هناك نعمة، وتمام نعمة! الجزء: 5 ¦ الصفحة: 474 والله سبحانه وتعالى قدّر هذا الموعد بأربعين ليلة في علمه الأزلى، ولكنه سبحانه أعطى منها موسى أولا ثلاثين ليلة، ثم أتمّ عليه وعده، بما كشف له من سوابغ فضله، ومزيد نعمائه، بهذه الليالى العشر، التي وقعت من نفس موسى أكثر مما كان للثلاثين ليلة من وقع في نفسه، إذا أنها جاءت على شوق ولهفة، ووقعت على غير انتظار وتوقع.. وهكذا يكشف الله لأوليائه، وأصفائه، من ألطافه التي قدّرها لهم في علمه، على هذا الأسلوب الذي يضاعف من آثارها، حين تجىء في أنسب الأحوال الداعية لها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى للنبى الكريم: «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً» .. وقوله سبحانه ليوسف على لسان يعقوب: «وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ (6: يوسف) فإتمام النعمة هو البلوغ بها إلى غايتها، من التمام والكمال.. فهذه الليالى العشر، هى إحسان، ونعمة إلى نعمة.. فإنها وإن بدت أنها نافلة هى أوقع من الأصل، لأنها- كما قلنا- جاءت على غير انتظار، ووقعت أكثر مما كان يؤمّل ويرجى..! ففى بشارة الله سبحانه وتعالى لامرأة إبراهيم بالولد، بعد اليأس منه، جاءت إليها البشرى، لا بالولد وحده، بل بالولد، وولد الولد، حيث يقول الله تعالى: «فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ» .. ومع أن مولودها هو «إسحق» وهو غاية ما كانت تتمنىّ على الله.. فإنّ مما يضاعف من فرحتها أن ترى لإسحق ولدا.. وهذا الولد هو- فى الواقع- الذي وجدت فيه ريح الولد، الذي تنسى به أنها عاقر، وأنها قد بلغت من الكبر عتيّا.. فهى بهذا الولد الذي يولد لإسحق، يردّ إليها اعتبارها بأنها أنثى كاملة، وأنها تستقبل أول حياتها كأنثى ولود، يكون لها أولاد وحفدة!. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 475 وهذا الذي كان من الله سبحانه لامرأة إبراهيم كان لإبراهيم، إذ يقول الله سبحانه: «وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً» (72: الأنبياء) .. أي زيادة في الفضل والإحسان. فكلمة «نافلة» حال من يعقوب قوله تعالى: «وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ» هو بيان لما كان عليه الموقف في بنى إسرائيل بعد أن ذهب موسى لموعده مع ربّه.. فلقد جعل موسى أخاه هرون خليفة عليهم من بعده: إذ يقول له «اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي» ووصّاه بما ينبغى أن تكون عليه سيرته فيهم، فقال «وأصلح» وهرون عليه السلام، نبىّ كريم، لا يكون منه إلا ما هو صالح، ولكنه توكيد لرسالته، وتحذير له مما يقع من القوم من مفاسد وشرور، فالقوم- كما يعرفهم موسى- لا يستقيمون على حقّ، ولا يصبرون عليه، ومن هنا كان تحذيره لأخيه بقوله: «وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ» . قوله تعالى: «وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي» . الميقات: الموعد الذي أقّت له وقت، فهو مكان وزمان معا.. مكان معلوم، ووقت محدود.. وحين سمع موسى كلام ربّه، كلاما مباشرا من غير واسطة، اشتاقت نفسه أن يرى ربّه الذي أسمعه صوته، وأطمعه ذلك في أن يطلب مالا يطلب، وذلك حين قدّر أن الذي يسمعه بأذنه يمكن أن يراه بعينه، على أيّة حال تكون هذه الرؤية..! ولهذا لم يطلب موسى الرؤية إلا بعد أن سمع الكلام.. فقال: «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» وهذا ما يشير إلى أن موسى لم يكن يطلب رؤية كتلك الرؤية التي تقع له من عالم الأشياء.. وإنما هى رؤية من نوع فريد، كما أن الكلام الّذى سمعه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 476 كان على صورة لم يعهدها فيما يسمع من أصوات.. فمعنى قوله «رَبِّ أَرِنِي» أي بيّن لى طريق النظر إليك، فإن بيّنت لى أنظر إليك، وإلّا فلا سبيل إلى النظر.. ومثل هذا قول إبراهيم عليه السلام: «رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى» . وقد أجاب الله موسى بقوله: «لَنْ تَرانِي» .. هكذا حكما قاطعا مؤبدا.. إذ أن ذلك أمر مستحيل.. ثم كشف الله- سبحانه- لموسى عن وجه الاستحالة هذه فقال له: «وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي» .. وينظر موسى إلى الجبل.. «فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً» . وهكذا يرى موسى بعينيه، الشاهد الذي يكشف له وجه الاستحالة في رؤية ربّه.. إن الجبل، فى ضخامة كونه، وشدة أسره، لم يتحمّل لمحة من لمحات تجلّى الذات الإلهية له.. لقد استشعر هذا الحجر الأصمّ جلال الله وعظمته، فتهاوى، وتفتت، وصار حطاما.. فكيف بالإنسان وضالة جسمه، وما فيه من مشاعر وأحاسيس؟ أيحتمل شيئا من هذا الجلال وتلك الخشية التي تصدّع لها الجبل، وتشقق، ثم هوى؟ لقد صعق موسى مما رأى من الجبل، ومن تصدعه وتشققه وتهاويه.. فكيف لو كان ما نزل بالجبل نزل به؟. وهنا يدرك موسى أن ما طلبه كان أمرا فوق المستحيل.. فيفزع إلى الله تائبا من تلك الجرأة التي دعته إلى هذا الطلب. «فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» بك، وبجلالك وعظمتك.. قوله تعالى: «قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 477 وهكذا يرجع موسى بهذا العطاء الجزيل، وهذا الفضل الكبير.. لقد اصطفاء الله واختاره من بين قومه، وجعله رسولا إليهم برسالاته، وهى ما ضمت عليه التوراة من أسفار ... وأسمعه كلامه من غير واسطة.. وكلها نعم وأفضال، لا يفى بها شكر الشاكرين، وحمد الحامدين، ومع هذا فإن الله يقبل شكر الشاكرين، ويرضاه لهم. الآيات: (145- 147) [سورة الأعراف (7) : الآيات 145 الى 147] وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147) التفسير: ثم بيّن الله سبحانه وتعالى محتوى ما حمله موسى من رسالات ربّه، فقال تعالى: «وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ» فهذه الألواح التي أنزلها الله على موسى، هى التوراة، وفيها مواعظ وعبر، بما تقصّ من أنباء السابقين، وبما تحدّث به من قدرة الله، وكيف خلق الخلق وأقام هذا الوجود، على ذلك النظام البديع، بعد أن كان عدما لا وجود له.. ثم لقد جاءت التوراة فى أحكامها، وتشريعها وآدابها، على صورة مبسوطة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 478 مفصلة تفصيلا، يتناول الكلّيات والجزئيات، وجزئيات الجزئيات، بحيث يكون كل شىء فيها واضحا مفهوما لكل إنسان، أيّا كان حظه من الفهم والإدراك. وهذا التفصيل الذي جاءت عليه التوراة إنما يكشف عن طبيعة بنى إسرائيل، وأنهم على شىء غير قليل من بلادة الحسّ وجفاء الطبع، وسوء الفهم، بحيث يعاملون كما يعامل الأطفال فى كشف معالم الأشياء لهم، كشفا لا يحتاجون معه إلى عقل يفكر.. كما أن هذا التفصيل يراد لغاية أخرى، وهى حصر هؤلاء القوم فى حدود ما ترسم لهم الكلمات من حقائق، رسما محددا واضحا، يتناول أدق التفاصيل، حتى لا يكون لأهواء القوم ونزعاتهم سبيلا إلى التأويل الفاسد لمضامين الكلمات ومحتوياتها، الأمر الذي لا يعين عليه هذا التفصيل المبيّن لكل شىء.. ومن هنا جاء بنو إسرائيل إلى التوراة بالتحريف، والمسخ فحذفوا وأضافوا، وغيروا وبدّلوا، ليبلغوا بذلك ما لم يكن لهم إليه سبيل بالتأويل والتخريج. وقوله تعالى: «فَخُذْها بِقُوَّةٍ» .. الضمير هنا للألواح، وهى التي كتبت فيها التوراة.. وأخذها بقوة، هو شدّ العزم على القيام لها، والعمل بها، والوفاء بما فيها من أمر ونهى.. فليست الشرائع والأحكام فى نصوصها وعباراتها، وإنما هى بالعمل بما تحمل هذه النصوص وتلك العبارات، من شرائع وأحكام، وبتحويل هذه الشرائع وتلك الأحكام إلى واقع الحياة، فتكون سلوكا تظهر فى الناس آثاره وشواهده. وقوله تعالى: «وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها» أي بأحسن ما فى هذه الألواح، والمراد بأحسن ما فى الألواح المثل الطيبة للناس، وهى التي تعرضها التوراة لأهل الإيمان، والاستقامة والتقوى.. فهؤلاء هم الذين ينبغى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 479 أن يقتدى بهم، كما يقول الله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ» .. وفى التوراة غير هذه المثل الطيّبة من الناس، مثل للقوم الظالمين، الذين يفسدون فى الأرض ولا يصلحون، وتلك المثل هى التي ينبغى للعاقل أن يحذرها، ويتجنب الأخذ بها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى بعد ذلك: «سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ» ففى تلك الديار التي ضمّت الفاسقين مثل ظاهرة، تحدّث بما حلّ بأهلها من بلاء ونكال.. فليحذر بنو إسرائيل أن يحلّ بهم ما حلّ بمن فسق عن أمر ربّه، واعتدى على حدوده، واستباح حرماته. وقوله تعالى: «سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ» . فى هذا تحذير لبنى إسرائيل وتهديد لهم، إن هم سلكوا سبيل الظالمين، واستكبروا فى الأرض بغير الحق، ومكروا بآيات الله، وعصوا رسله، وتنكبوا طريق الخير، وركبوا طرق الغىّ والضلال. فهؤلاء الذين يتخذون هذا الموقف اللئيم مع آيات الله، سيصرفها الله عنهم، كما انصرفوا هم عنها، فلا ينالون منها خيرا، ولا يجدون فيها هدى، كما يقول الله تعالى: «وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» (127: التوبة) لقد حجبهم الله عن مواقع رحمته، بعد أن أخذوا من آياته هذا الموقف، فأغمضوا أعينهم عنها، وجعلوا أصابعهم فى آذانهم فلم يستمعوا لها.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 480 إذ كذبوا بها قبل أن ينظروا فيها ويعرفوا وجهها.. «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ» . وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ» تهديد بعد تهديد، لمن كذّب بآيات الله، ولم يرج لقاء الله.. فمن كان هذا شأنه، فقد حبط عمله، وساء مصيره، وذلك جزاء الظالمين: «هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ» ؟ وإنهم لم يعملوا إلا شرّا، ولم يقدموا إلّا سوءا، فلم يكن جزاؤهم إلا ما يسوؤهم ويفسد عليهم وجودهم. الآيات: (148- 150) [سورة الأعراف (7) : الآيات 148 الى 150] وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) التفسير: لم يكد بنو إسرائيل يفلتون من يد فرعون، بتلك المعجزة القاهرة التي رأوها وعاشوها، حتى غلبت عليهم طبيعتهم.. من كفر النعم، ومحاربة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 481 المنعم، وإذا هم يأتمرون فيما بينهم، فيما كانوا قد طلبوه من موسى من قبل فردّهم عنه، ونصح لهم.. فقد سألوا موسى حين رأوا قوما يعكفون على أصنام لهم، أن يجعل لهم إلها كما لهؤلاء القوم آلهة.. فأجابهم موسى: «إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.» ثم قال لهم: «أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ؟» . فلما ذهب موسى لميقات ربّه، انتهزوها فرصة، فأخرجوا هذه الضلالات التي كانت تدور فى رءوسهم، إلى واقع الحياة.. فصنعوا عجلا من ذهب على يد رجل منهم، قد أعدّ نفسه لهذه الفعلة، وأخذ لها وسائلها، وقد ذكر القرآن الكريم اسمه فى موقف آخر فى قوله تعالى: «قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً» (85- 86: طه) .. فهذا الرجل هو «السامري» ، وقد فعل ما سنرى بعد. وقوله تعالى: «وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ» هو خبر عن تلك الفعلة النكراء التي كانت من هؤلاء القوم.. وقد أضافهم الله إلى موسى هكذا: «قَوْمُ مُوسى» تذكيرا لهم بتلك الآيات التي أجراها الله على يديه، تلك الآيات التي لم يكن لهم منها عبرة أو عظة.. وفى هذا توبيخ لهم، واسترذال لعقولهم، وأنه ما كان لقوم ينتسبون إلى موسى الذي جاءهم بهذا الخير الكثير، وبتلك الآيات المشرقة، أن يفعلوا هذا الفعل المنكر الذي فعلوه.. وفى قوله تعالى: «مِنْ حُلِيِّهِمْ» إشارة إلى المادة التي صنع منها العجل، وهى مما يتحلى به القوم ويتزينون، وهو الذهب، والفضة ونحوها. وكان بنو إسرائيل عند خروجهم من مصر قد عملوا على أن يخفوا أمرهم على المصريين، فتخيّروا يوم عيد من أعيادهم كانوا قد رصدوه لخروجهم من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 482 مصر خفية.. ثم إنهم لكى يضلوا المصريين عنهم، طلبوا إلى نسائهم أن يستعيروا من جاراتهن المصريات ما يقدرن على استعارته من الحلىّ، على ما جرت به العادة من التزين فى الأعياد.. ثم حين خرج بهم موسى، وجاوز بهم البحر، ونجاهم من فرعون، ذكر لهم ما كان منهم من سلب ما سلبوا من حلىّ، وأراهم أن ذلك خيانة للأمانة، وعدوان على غيرهم، وأنه لا يجوز لهم وقد خلصهم الله من البغي، أن يكونوا من الباغين.. وقد تحرّج كثير منهم من هذا الحلىّ المسلوب، ولكنهم ظلّوا ممسكين به، لا تطاوعهم أنفسهم على أن يفلت من أيديهم.. إنّه الذهب والفضة، يبيع اليهودىّ عمره من أجل قبضة منهما! ثم إنه لمّا أخلى موسى مكانه فيهم إلى مناجاة ربّه، تناجوا هم مع شياطينهم، وانتهى الرأى بينهم إلى أن يقيموا لهم معبودا، وجعلوا هذا المعبود عجلا مصنوعا من ذهب، وهان فى أعينهم هذا الذهب الذي سلبوه وأمسكوه، حين جعلوه مادة لهذا الإله الذي تصوروه.. فصوروه وجسّدوه! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى سورة طه: «قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ» (86- 88) .. ففى قولهم «حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ» إشارة إلى أن هذا الذي كانوا يحملونه من زينة المصريين هو أوزار تثقلهم، وأنهم انتهزوا هذه الفرصة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 483 فتخلصوا منها على هذا الوجه الغبي.. إنّها- كما علموا- أوزار، وسيئات، ومع هذا فقد صاغوا منها إلها يعبدونه!! فما أغبى غباءهم، وما أضلّ ضلالهم. يسرقون، ويتصدقون.. كالزانية تزنى وتتصدق!! ولكن التوراة تحكى قصة هذا الحلىّ الذي أخذه بنو إسرائيل من المصريين ليلة خروجهم من مصر- تحكى هذه القصة على وجه غريب، فتنسب هذا الفعل إلى الله، وتجعله أمرا من عنده إلى بنى إسرائيل، لينتقموا من المصريين بهذا الفعل الدنيء، الذي تأباه النفس الكريمة، فكيف يجوز أن يكون هذا أمرا من أمر الله، ووصاة من وصاياه؟ تقول التوراة على لسان الرب: «وأعطى نعمة لهذا الشعب فى عيون المصريين، فيكون حينما تمضون أنكم لا تمضون فارغين، بل تطلب كل امرأت من جارتها ومن نزيلة بيتها أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثيابا تضعونها على بنيكم وبناتكم، فتسلبون المصريين!!» (3: خروج) . وهكذا تبلغ الجرأة بالقوم على الله، فيحرفوا كلمه عن مواضعه، ويغيروا ويبدلوا فى كلماته، حتى تستقيم مع أهوائهم المريضة، وتجرى مع نزعاتهم الفاسدة، وحتى ليضيفوا إلى الله كل إثم لهم، ويجعلوا شريعته مغرسا لكل فسق منهم.. فهم إذا سرقوا غيرهم أو نهبوه كان ذلك عن أمر الله، إذ أباح لهم دماء الناس وأموالهم.. حسب ما أدخلوه على التوراة من تحريف. وفى قوله تعالى: «لَهُ خُوارٌ» أي صوت كصوت البقر.. وذلك أن «السامري» .. كان قبض قبضة من أثر الملك الذي كان يخاطب موسى، ثم قذف بهذه القبضة على هذا العجل الذي صوره من الحلىّ الذي قذفه القوم فى النّار، فإذا هو عجل له حياة، وله خوار!! الجزء: 5 ¦ الصفحة: 484 وسنعرض لهذه القصة فى موضعها من سورة «طه» إن شاء الله.. وقوله تعالى: «أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا» إشارة إلى غفلة القوم، وإلى إغراقهم فى الجهل والضلال.. ذلك أنه إذا كان قد أخذ «السامري» على عقولهم بهذا الذي فعله، فإنه لم يزد على أن جاء بعجل كسائر العجول التي تملأ السّهل والوعر.. فكيف يصح أن يكون هذا العجل بالذات إلها لهم يعبدونه من دون الله؟ إنه لا أكثر من حيوان، فكيف يعبد الإنسان ما هو أقل منه شأنا؟ «أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا؟» . وقوله تعالى: «اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ» هو جواب لسؤال مقدر هو: «وهل اتخذ القوم هذا العجل إلها مع أنه لم يكلمهم، ولم يكشف لهم طريقا إلى الحق؟» فكان الجواب: نعم، اتخذوه، وهم فى اتخاذهم إياه ظالمون، معتدون على الله، ملقون بأنفسهم فى البوار والهلاك.. قوله تعالى: «وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» أي حين وقعت الواقعة، وظهر العجل بينهم، ووقفوا منه موقف العابدين، بان لهم ضلالهم، وانكشف لهم سوء فعلتهم، ولكنهم لم يدروا ماذا يصنعون بهذا الإله القائم بينهم..! وقوله تعالى: «وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ» . كان موسى قد علم- وهو فى مناجاة ربّه- أن قومه قد فتنوا من بعده، وضلوا، وذلك كما أعلمه الله تعالى بقوله: «وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 485 قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ» (83- 85: طه) . وقوله تعالى: «بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي» زجر لهم، وتشنيع لفعلهم، وما أحدثوه من بعده، وقد كانوا خلفاءه على شريعة الله التي تركها فى أيديهم. وقوله: «وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى» إشارة إلى أنهم لم ينتظروا حتى يجيئهم موسى من الميقات، حاملا لهم شريعة الله إليهم، كما وعدهم من قبل. وقوله: «وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ» إشارة لمظاهر الغضب والأسف التي نفّس بها موسى عن نفسه، لما رأى ما عليه قومه من كفر وضلال.. فلم يجد إلا هرون، الذي أقامه على القوم، وقال له: «اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ» فأمسك به من رأسه يجرّه إليه فى عنف، ويؤنبه فى غضب. وقوله: «قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» هو استعطاف من هرون لأخيه الذي ثار عليه ثورته تلك، وأخذه من ناصيته يجرّه إليه.. وفى نسبته إليه بأمّه زيادة فى الاستعطاف، إذ يذكر موسى بهذا النسب، فترة الطفولة التي كانت تضمه هو وهرون تحت جناح أمهما، فيرقّ له وتأخذه الشفقة به. ومن عجب أن التوراة تنسب إلى هرون عليه السلام، أنه هو الذي صنع العجل لبنى إسرائيل ودعاهم إلى عبادته!! ولا تعجب لهذا، فإن فى التوراة أمورا منكرة، أدخلها اليهود عليها لحاجات فى أنفسهم.. ولا أدعك لتذهب بك الظنون كل مذهب.. وها ذا هو بين يديك ما تقول التوراة هنا: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 486 «ولما رأى الشعب أن موسى أبطأ فى النزول من الجبل اجتمع الشعب على هارون، وقالوا له: قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا، لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ماذا أصابه.. فقال لهم هارون: انزعوا أقراط الذهب التي فى آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وآتوني بها، فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي فى آذانهم وأتوا بها إلى هارون، فأخذ ذلك من أيديهم وصوره بالإزميل وجعله عجلا مسبوكا» (22: سفر الخروج) .. فيا لله من هذا الافتراء على رسول كريم من رسل الله! الآيات: (151- 152) [سورة الأعراف (7) : الآيات 151 الى 153] قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) التفسير: وتقع كلمات هرون موقعها من نفس موسى، فيرقّ له، ويأسف لما أخذه به، فيدعو الله له ولأخيه بالمغفرة: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» ولم يدخل أحدا من بنى إسرائيل معهما فى هذا الخير الذي طلبه من ربّه، لأنهم على حال ليسوا هم فيها أهلا لرحمة أو مغفرة، لهذا الإثم العظيم الذي أغرقوا أنفسهم فيه، والذي استحقوا به أن يتوعدهم الله تعالى بقوله: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ» .. فهكذا يجزى البغاة الظالمون، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 487 الذين يتخذون العجل إلها معبودا.. وهكذا يقع هؤلاء الذين عبدوا العجل تحت غضب الله، ولعنته، فتضرب عليهم الذلّة والمسكنة فى هذه الدنيا، فهذا حكم واقع عليهم لا يرفع عنهم أبدا بتوبة أو استغفار، وقد كان من غضب الله عليهم أن أمرهم بأن يقتل بعضهم بعضا، كما قال تعالى: «وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ، فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ» (54: البقرة) فليس غير القتل سبيلا إلى إصلاح ما أفسدوا.. إنهم بهذا الإثم الذي تلبسوا به قد أصبحوا كيانا فاسدا، لا يصلح للحياة، ومن الخير للإنسانية القضاء على هذا الداء الخبيث الذي نجم فيها؟ أما فى الآخرة فأمرهم إلى الله، فإن تابوا ورجعوا إلى الله- وليست توبتهم إلا بأن يقتلوا أنفسهم- كانوا فى معرض رحمته ومغفرته، وإن ظلوا على ما هم عليه من ضلال وكفر، فإن الله أعدّ للكافرين عذابا مهينا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» . والضمير فى «مِنْ بَعْدِها» يعود إلى السيئات، أي تابوا وآمنوا من بعد فعل هذه السيئات، وقد جعل الله توبتهم بأن يقتلوا أنفسهم، بعد أن يؤمنوا بالله، ويبرءوا من عبادة العجل الذي عبدوه! الآيات: (154- 155) [سورة الأعراف (7) : الآيات 154 الى 155] وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 488 التفسير: فى التعبير عن ذهاب الغضب عن موسى بالسكوت هكذا: «وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ» إشارة إلى أنه كان غضبا عارما، مجسّدا، حتى لكأنه كائن حىّ، له صوت مسموع، يهتف بموسى: أن اغضب! وفى قوله تعالى: «لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ» توكيد للرهبة وإضافتها إلى الله،، وقصرها عليه وحده.. والرهبة: الخوف من الله، والخشية له.. وقوله تعالى: «وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا» أي تخيّر موسى من قومه سبعين رجلا ليكونوا معه فى ميقاته مع الله، وليروا معه الله الذي طلبوا إليه أن يريهم إياه، فلما تجلى الله سبحانه وتعالى للجبل وجعله دكّا، وخرّ موسى صعقا- صعق معه هؤلاء السبعون الذين اختارهم من رءوس بنى إسرائيل.. وحين أفاق موسى، ورأى القوم صرعى حوله، هاله الأمر، وخشى أن يلقى قومه وبين يديه هذا الخبر بمصرع رؤسائهم.. وهنا يناجى موسى ربه: «رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ» إنه يتمنى لو أن الله كان أهلكهم وأهلكه معهم، وهم بين القوم، حتى لا ينظر إليه القوم نظرة الجاني على هؤلاء الصرعى. وقوله: «أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا» هو استفهام استعطافى، يفيد الدعاء، أي ربّ لا تهلكنا بما فعل السّفهاء منّا. وقوله: «إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ» .. الفتنة: الابتلاء والاختبار، أي ما يبتلى الناس به من خير أو شر، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً» .. فما يبتلى به الناس من نعم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 489 ونقم، ومن عافية وبلاء، هو امتحان لإيمانهم، وابتلاء لحمدهم للخير أو كفرهم به، ولصبرهم على الضرّ أو جزعهم منه.. فالذى ابتلى به بنو إسرائيل بعد خروجهم من مصر هو نعمة وعافية، ولكنهم كفروا بهذه النعمة، وتمردوا على الله بتلك العافية، فابتلوا بالبلاء والنقمة. وقوله: «أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ» هو تضرع من موسى إلى الله أن يغفر لهم ويرحمهم، «وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ» ؟ .. إنه هو ولىّ من يتوب إليه، ويلجأ إلى حماه.. وفى النظم القرآنى تقديم وتأخير.. فاختيار موسى لمن اختارهم من بنى إسرائيل لميقاته مع ربه، كان قبل أن تقع هذه الأحداث التي وقعت فى بنى إسرائيل، من عبادة العجل، وما كان بين موسى وهرون، من لوم، ومؤاخذة، وفى هذا إلفات إلى ما ينبغى الالتفات إليه من أمر القوم، على حسب ما يقع للناظر إليهم، وما يطلع عليه من منكراتهم وآثامهم..! الآيات: (156- 159) [سورة الأعراف (7) : الآيات 156 الى 159] وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 490 التفسير: هنا يدعو موسى ربّه أن يكتب له ولقومه فى هذه الدنيا حسنة، وفى الآخرة حسنة، أي يجعل لهم حظّا من رحمته فى الدنيا والآخرة، بعد أن تابوا إليه وقالوا: «إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ» أي رجعنا إليك بعد أن فارقناك بعبادة غيرك.. والمراد بالحسنة فى الدنيا: النعم، وسعة الرزق، وعبّر عنها بالحسنة، لأنها مما يحسن وقعه وأثره فى النفوس. وقوله تعالى: «قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» .. هو بيان لحكم الله تعالى فى عباده.. فعذابه واقع على من يشآء من عباده، وليس على كل عباده، وإنما هو نازل بأهل الكفر والضلال.. وأما رحمته فهى عامة شاملة، تسع الوجود كلّه، وهى على سعتها، وعمومها وشمولها، لا ينالها إلا أهل طاعته الذين آمنوا واتقوا.. وقوله تعالى: «فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ» هو ردّ على طلب موسى فى قوله مخاطبا ربّه: «وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ» .. المراد بالكتابة التقدير والوقوع، والجعل، والشمول، وعبّر عن ذلك بالكتابة لأنها أوثق وأثبت. والمعنى: إن رحمة الله مع أنها عامة شاملة، تسع الوجود كلّه- لا تنال إلّا الذين آمنوا بالله، وأخلصوا دينهم لله. والذي ينبغى الالتفات إليه هنا، هو أن الله سبحانه وتعالى لم يستجب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 491 لموسى ما سأل فى قومه أن يكتب لهم فى الدنيا حسنة، وفى الآخرة حسنة، إذ كان قول الله لموسى: «عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» حكما عاما يقع على الناس جميعا، ولا يتعلق بهذا الدعاء الذي دعا به موسى ربّه. وفى هذا ما يدلّ على أن الله سبحانه لم يشمل بنى إسرائيل بتحقيق هذا الدعاء فيهم، بل وضعهم جميعا تحت الحكم العام الذي يأخذ الله به عباده، وهذا يعنى أن الله سبحانه وتعالى يعلم من هؤلاء القوم أنهم لن يستأهلوا هذه النعمة التي لو استجاب الله لموسى فيها، لكانت بركة تحفّ بهم إلى يوم القيامة.. ذلك أن القوم قد مسّتهم لعنة الله قبل ذلك، ونزل بهم غضبه، فكان ذلك هو الثوب الذي يلبسونه، وتلبسه أجيالهم المتتابعة أبد الدهر.. وانظر.. إن الله سبحانه وتعالى استجاب لجميع أنبيائه فيما سألوه لأقوامهم من خير أو شر. فهذا نوح عليه السلام يدعو ربه بهلاك قومه: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» (26- 26: نوح) . فيهلكهم الله بالطوفان. وإبراهيم- عليه السلام- يقول: «رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ» فيكون جواب الله له: «فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ» (100- 101: الصافات) ويقول: «رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ..» فيجىء حكم الله: «قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (136: البقرة) وموسى عليه السلام، يدعو ربّه ليأخذ فرعون وملأه، وهرون- عليه السلام- يردد معه الدعاء: «رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 492 عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» فيلقاهما الله سبحانه بقوله: «قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما» (88- 89: يونس) . أما هنا، إذ يدعو موسى ربه له ولأخيه ولقومه، فلا يقبل الله هذا الدعاء على إطلاقه، بل يقبله فى المؤمنين، الذين يستقيمون على طريق الإيمان والخير: «عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» وفى تقديم العذاب إشارة إلى أن العذاب هو الجزاء المرصود لبنى إسرائيل، وأن الرحمة التي تنالهم، هى الرحمة العامة التي تسع الوجود كله، حتى أهل النار فى النار! والسؤال هنا: ما معنى «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» إذا كانت لا تنال العصاة والضالين والكافرين؟، أليس هؤلاء العصاة الضالون الكافرون من أشياء هذا الوجود؟. فكيف لا تسعهم رحمة الله التي وسعت كل شىء؟. والجواب على هذا: أن كتابة الرحمة شيء، وسعتها للناس شىء آخر. فالكتابة لمن كتبت لهم الرحمة تعنى- كما قلنا- تقريرها ووقوعها، وشمولها، فمن كتبت لهم الرحمة- جعلنا الله منهم- فهم السعداء، الذين تفتح لهم أبواب الجنة، ويلقّون فيها تحيّة وسلاما.. وأما سعة الرحمة فإن الوجود جميعه- علوه وسفله- والناس جميعا- برّهم وفاجرهم- داخلون فى رحمة الله، التي وسعت كل شىء.. وقد قلنا من قبل إن الوجود فى ذاته- على أسوأ وجه يراه الإنسان- هو فى ذاته نعمة، ورحمة، لأنه خير من العدم.. ثم إن العصاة- فى الدنيا- لم يحجب الله عنهم نعمه، ولم يحرمهم رزقه، ولم يصبهم فى جوارحهم التي يعيشون بها مثل سائر الناس. وأصحاب النار وهم فى النار، هم ممن وسعتهم رحمة الله، إذ هناك عذاب فوق هذا العذاب، وبلاء أكبر من هذا البلاء، وقد وقف الله بهم عند هذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 493 الحدّ من العذاب الذي هم فيه، وذلك رحمة من رحمته، ولولا ذلك لضاعف لهم هذا العذاب الذي هم أهل له بما ارتكبوا من آثام. وقوله تعالى: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ» . فى هذه الآية أمور.. منها: أولا: أنها بيان لمن يستجيب الله لموسى فيهم من قومه، ويكتب لهم فى هذه الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة، وأنهم هم الذين يتقون الله ويؤتون الزكاة، ويؤمنون بآياته، ويعملون بها ويستقيمون عليها.. وذلك فى عهد موسى، وإلى أن يأتى النبيّ الأمى الذي يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل. وثانيا: إذ جاء هذا النبىّ الأمىّ الذي يجدون صفته عندهم فى التوراة والإنجيل. فإن الله لا يكتب لهم الرحمة ولا يدخلهم مداخل المؤمنين، حتى يتبعوا هذا النبىّ ويؤمنوا به.. «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ» فهؤلاء هم اليهود والنصارى، وقد عرف الفريقان صفة هذا النبىّ فى كتبهم التي بين أيديهم، وأمروا بالإيمان به عند ظهوره.. وثالثا: من صفات هذا النبيّ.. أنه رسول، ونبىّ، وأمي، وأنه يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحلّ لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم، أي العهود التي أخذها الله عليهم، وهى الأحكام التأديبية التي أدّبهم بها، وفرض عليهم التزامها، كتحريم كل ظفر، وكتحريم شحوم الغنم والبقر إلا ما حملت ظهورها، أو الحوايا أو ما اختلط بعظم، وكتحريم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 494 العمل فى يوم السبت.. وهذه كلّها قيود وأغلال قيدهم الله بها، وغلّ أهواءهم الجامحة عن الحركة.. وهذا فى شأن اليهود، أما النصارى- وهم يهود أصلا- فقد كان فى شرع المسيح لهم ما هو أقسى من هذا قسوة وأشدّ تنكيلا، ويكفى ما جاء فى وصاة المسيح لهم فى قوله: «من لطمك على خدّك الأيمن، فحوّل له خدّك الآخر أيضا، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا» (5: إنجيل متى) ! رسالة الإسلام ونسخها للرسالات السابقة فالنبى الأمّىّ هو الذي جاء رحمة عامة شاملة للناس جميعا، قد جعل الله محامل دعوته عامة إلى جميع الأمم والشعوب ... ومن هنا كان مبعثه إيذانا برفع هذه القيود التي قيّد الله بها أولئك الذين جعل سبحانه من شريعته لهم، هذا التأديب الشرعىّ، الذي لا يرفع عنهم ثقله أبدا، إلا إذا ظهر النبي الأمّى، وإلا إذا اتبعوا هذا النبىّ الأمى، وعندئذ فقط يسقط عنهم هذا الحمل الذي وضعه الله على ظهورهم، ويرفع هذا العهد الذي أخذه الله عليهم، وتوعّدهم بالعذاب الأليم إن هم نقضوه، قبل ظهور هذا النبي الأمى، والإيمان بهذا النبىّ الأمّىّ، والأخذ بشريعته.. «فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» .. ومعنى عزّروه: منعوه من أعدائه، وكانوا سندا له ووقاية، والمراد بالنور الذي أنزل معه، القرآن الكريم.. وهو نور وهدى لمن طلبه، وفتح عينه وقلبه له. وهذه الآية تقرر فى صراحة صريحة أن رسالة الإسلام رسالة عامة شاملة، وأن اليهود والنّصارى لن تكتب لهم رحمة الله، ولن يكونوا من المؤمنين، إلا إذا تابعوا النبىّ الأمىّ، واستجابوا لدعوته، ودخلوا فى دين الله، وهو الإسلام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 495 ويتقرر هذا الحكم من وجهين: أولهما: ما نصّ عليه القرآن فى هذه الآية، وما أسمعه الله تعالى موسى، وهو يطلب إلى الله أن يكتب له ولقومه فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة.. فإن الله سبحانه وتعالى ما استجاب هذه الدعوة على إطلاقها، بل استجابها للمتقين الذين يؤمنون بآيات الله التي نزلت على موسى، وعلى من جاء إلى بنى إسرائيل بعده من أنبياء، وخاصة عيسى عليه السلام، حتى إذا جاء النبي الأمىّ- محمد صلوات الله وسلامه عليه- لم يكتب لأتباع التوراة والإنجيل حسنة فى الدنيا ولا فى الآخرة حتى يؤمنوا به.. وهذا هو بعض السرّ فى وصل قوله تعالى: «فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ» بقوله سبحانه بعد هذا: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ ... » فالذين يتبعون الرسول النبي الأمى، بدل من قوله تعالى: «فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ» .. ومعنى هذا أن حكم كتابة الحسنة مشروط بشرطين: يتحقق أحدهما فى عهد موسى، ومن جاء بعده من أنبياء بنى إسرائيل، إلى عيسى. والشرط هو تقوى الله والإيمان بآياته التي يحملها رسله.: وهذا الشرط وحده يكفى لتقرير الحكم إلى أن يبعث النبي الأمى، فإذا بعث هذا النبىّ، أضيف إلى هذا الشرط الشرط الآخر، وهو الإيمان بهذا النبي الأمى، الذي لا يتحقق الشرط الأول، وهو التقوى والإيمان بآيات الله إلا بالإيمان به، وبالكتاب الذي معه! وثانيهما. أن هذين الشرطين قد حملتهما التوراة، التي هى شريعة أتباع موسى وأتباع عيسى معا، وأن الإيمان بعد ظهور محمد لا يتم إلا إذا تحقق الشرطان معا، وإلا إذا آمن اليهود والنصارى بما فى كتابيهما اللذين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 496 دعواهم إلى الإيمان بهذا النبي، فإذا لم يؤمنوا به، فقد كفروا بالكتاب الذي فى أيديهم، وبهذا لم يكونوا من المؤمنين.. وفى قوله تعالى: «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» توكيد لعموم رسالة النبيّ الأمىّ، وأنه مبعوث للناس جميعا، ولهذا أمر الله نبيه الكريم أن يؤذّن فى الناس، بما أمره الله أن يؤذن به فيهم: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً» . وهذا القول ليس من قول النبىّ الذي حكاه القرآن عنه، وإنما هو مما أمره الله به، فقال تعالى: «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً..» ثم أتبع هذه الدعوة بعرض بعض ما لله الذي يدعو إلى الإيمان به، من صفات: «الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ» .. فالله سبحانه له ملك السموات والأرض، لا شريك له فى ملكه، ولا إله معه- بيده الحياة والموت، «فَآمِنُوا بِاللَّهِ» الذي هذا ملكه، وذلك سلطانه، «وَرَسُولِهِ» الذي يحمل رسالته إلى الناس جميعا.. «النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ» فهذا الرسول، من صفاته أنه نبىّ أمي، لا يقرأ ولا يكتب، وأنه يؤمن بالله، ويؤمن بكلمات الله التي نزلت عليه، وعلى رسل الله من قبله.. «وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» فإن فى الإيمان بالله ورسوله، وفى اتباع هذا النبىّ والاستجابة له- الهداية والرشاد، ولن يكون لمخالفه والمتأبّى عليه، والمحادّ له، رجاء فى هدى أو مطمع فى نجاة. وقوله تعالى: «وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ» هو تحريض لليهود على متابعة النبي والاستجابة له، والانتصار لدعوته، وذلك أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 497 هؤلاء القوم، وإن كانوا كما عرفتهم الحياة، وكما سيكشف القرآن الذي سينزل فيهم بعد هذا، كثيرا من وجوه بغيهم وضلالهم- فإن فيهم قلة قليلة تحتفظ فى كيانها بمعالم الإنسانية السليمة، قد عرفت الحق واستقامت عليه، وحكمت به حكما عادلا بعيدا عن الهوى.. والمراد بهؤلاء، هم بعض علماء اليهود والنصارى وأحبارهم ورهبانهم، وقد دخل كثير منهم فى الإسلام وأصبحوا فى عداد المسلمين.. وإذا عرفنا أن هذه السورة مكية، وأن النبي صلوات الله وسلامه عليه، لم يكن قد واجه اليهود بعد، ولم يكن بينه وبينهم لقاء مباشر بدعوته- إذا عرفنا هذا أدركنا سرّ هذه الإشارات البعيدة التي كان يشير بها القرآن إلى اليهود، حيث كانت هذه الإشارات إرصاصا بالمواجهة الصريحة التي ستكون بين النبي واليهود، بعد أن يهاجر النبي إلى المدينة، ويلتقى باليهود، ويقع بينه وبينهم هذا الصراع العنيف الذي عرضه القرآن الكريم، والذي انتهى بإجلاء اليهود من المدينة، فى عهد النبي، ثم بإجلائهم من الجزيرة العربية كلها فى خلافة عمر بن الخطاب.. رضى الله عنه، وأرضاه. الآيات: (160- 162) [سورة الأعراف (7) : الآيات 160 الى 162] وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 498 التفسير: الأسباط: جمع سبط، وهو الحفيد، والمراد بالأسباط هنا هم الذرية التي ولدت لأبناء يعقوب الاثني عشر، الذين دخلوا مصر فى عهد أخيهم يوسف، والذين كان منهم بنو إسرائيل الذين أخرجهم موسى من مصر.. ويظهر من هذا أن القوم لم ينزعوا عنهم عصبية البداوة، التي دخلوا بها مصر، بل ظلت متحكمة فيهم طوال تلك الأجيال التي عاشوها بين المصريين، فاحتفظ كلّ ولد من أبناء يعقوب الاثني عشر بنسب ذريته إليه من بعده، فكما كانوا اثنى عشر ولدا، صاروا فيما بعد اثنتي عشرة قبيلة! وفى قوله تعالى: «وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى ابتلاهم بهذا التمزق فى عواطف المودة والإخاء بينهم، فقطّع أوصال هذه الأخوّة، التي كان من شأنها أن تجمع بعضهم إلى بعض، وأن تجعل منهم كيانا واحدا، خاصة وهم فى دار غرية، وليس هذا فحسب، بل هم فى وجه محنة قاسية بما رماهم به فرعون من بلاء.. وفى قوله تعالى: «أَسْباطاً أُمَماً» إشارتان: الأولى: أن أعدادهم المقطعة إلى اثنتي عشرة قطعة، كانت أعدادا كثيرة، وأن كل قطعة منها هى أمة، فى كثرة عددها.. أولا، وفى تمايزها عن غيرها.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 499 ثانيا. ولهذا كان الملاحظ فى العدد هو الأمة لأ الأسباط، لذلك أنّث العدد بجزئيه، كأنه قال: «وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً» .. فأمة هى التمييز لهذا العدد لا الأسباط، وقد جاء التمييز جمعا ولم يجىء مفردا كما هو الشأن فى تمييز الأعداد المركبة، للدلالة على أن الأمة الواحدة من هؤلاء القوم هى أمم، فى مختلف مشارب أفرادها، وتنازع أهوائهم.. فكل جماعة فى داخل هذه الأمة هى أمة، فى اتجاه أهوائها، واختلاف مشاربها. ثانيا: أن ذكر الأسباط، يشير إلى أن هذا التقطيع لتلك الجماعة قام على أسلوب خاص، وهو أن كل قطعة ترجع فى أصلها إلى أبيها الأول من أبناء يعقوب.. وقوله تعالى: «وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ» . استسقاه قومه: طلبوا السّقيا منه، حيث كانوا فى الصحراء، ولا ماء هناك.. وقد ثارت ثائرتهم فى وجه موسى، وكادوا يكونون عليه لبدا، فأوحى الله إليه أن يضرب بعصاه الحجر، فيخرج منه الماء الذي يشربون منه.. وقد ضرب موسى بعصاه الحجر، فانبجست منه اثنتا عشرة عينا، بعدد أسباطهم، أو أممهم. والانبجاس: تدفق الماء من محبسه فى رفق ولين.. ثم كان التدفق الهادر بعد أن أخذ الماء مجراه، وقد جاء قوله تعالى: «فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً» (60: البقرة) - جاء بالوصف الذي يضبط هذه الصورة كلها.. وقوله تعالى: «قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ» إشارة إلى أن كل جماعة من تلك الجماعات الاثنتى عشرة قد علمت المشرب الذي لها من تلك العيون التي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 500 انبجست، فلا تشرب جماعة إلا من المشرب الذي هو لها.. وهكذا يظل القوم فى عزلة مادية، إلى جانب تلك العزلة النفسية التي اشتملت عليهم. وفى قوله: تعالى «وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى.. كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ» .. عرض لنعم الله عليهم، وإلفات لهم إليها، حتى يوجّهوا وجوههم إلى الله وحده، ويستقيموا على صراط مستقيم. وقوله تعالى: «وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» كشف لمساوىء هؤلاء القوم، وما فيهم من ضلال وعناد ومكر بآيات الله.. فإنهم لم يرعوا هذه النعم المرسلة عليهم من السماء، ولم يلتفتوا إلى تلك الألطاف التي تحفّهم من كل جانب، وتطلع عليهم من كل أفق، بل كفروا بالله، وعاثوا فى الأرض فسادا.. وهم بهذا إنما يظلمون أنفسهم، ويوردونها مورد الهلاك والضياع، حين يعرضونها لسخط الله ونقمته، ولن يضرّ الله شىء من هذه المآثم التي يغرقون فيها، ويغرقون فيها أنفسهم، بل إن فى هذا البلاء العظيم الذي يشتمل عليهم. وقوله تعالى: «وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ» هو بيان لوجه من وجوه بنى إسرائيل المنكرة، التي كانوا يتعاملون بها مع الله، حيث يلبسهم النعمة، فتزيدهم بالله كفرا وضلالا.. ولقد دعاهم الله سبحانه أن يدخلوا القرية، وأن يسكنوها، حتى ينتقلوا من الصحراء الجديب، إلى حياة الاستقرار والسّكن، وأن ينعموا بما تخرج أرضها من جنات وزروع.. وأوصاهم الله حين يدخلون هذه القرية أن يكونوا على حال خاصة، هى أن يدخلوا بابها ساجدين لله، قائلين «حطّة» أي مغفرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 501 لذنوبنا، وتكفير لسيئاتنا.. ولكنّهم حين دخلوا القرية أبوا إلا أن يغيّروا ويبدلوا فى هذا الأمر الذي أمرهم الله به، ولم يدخلوها على تلك الصورة التي رسمها الله لهم، ولم يكن ذلك بالذي يعنتهم أو يثقل عليهم، ولكن هكذا الطباع اللئيمة، والنفوس المريضة، لا تقبل الخير ولو كان الهواء الذي تتنفسه وتعيش عليه.. إنها طباع أطفال، تأبى إلّا الخلاف والشرود. وفى قوله تعالى: «فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ» وصف فاضح مخز لهؤلاء القوم، فقد دمغهم الله بالظلم، وأدخلهم مداخل الظالمين، ولهذا جاء النظم القرآنى مصرحا بهم هكذا: «فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ» ولم يقل: «فبدلوا» .. وقد أخذهم الله بظلمهم، وعجّل لهم العذاب، بأن أنزل عليهم رجزا من السماء، أي لعنة ومقتا، «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ» بدلا- مما كان ينزل عليهم من المنّ والسلوى، وما كان يظللهم من غمام. فالسماء التي كانت تتنزل منها الرحمة عليهم، هى السماء التي تصبّ عليهم البلاء والنقم.. والمراد بالسماء هنا الإشارة إلى متنزل الأقدار التي تنزل بالناس، من خير وشر، وأنها من مصدر عال متمكن، يشرف على الوجود كله، ويمسك به. و «الْقَرْيَةَ» التي أمر بنو إسرائيل بالسّكن فيها لم يذكر القرآن اسمها، ولم يبيّن صفتها، ومع هذا، فقد كانت معروفة لبنى إسرائيل، مشارا لهم إليها هكذا: «هذِهِ الْقَرْيَةَ» .. وقد تكلف المفسرون البحث عنها، واختلفوا فيها.. ونحن نحترم سكوت القرآن عنها، وحسبها أنها قرية يسكن الناس فيها، ويجدون مطالب الحياة ميسرة فى أرضها، إذ لا متعلّق لاسم هذه القرية، ولا لصفتها فيما أمر به بنو إسرائيل عند دخولها.. وغاية ما يمكن أن يقال فى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 502 تحديد مكان القرية- لا اسمها- هو أنها فى الأرض المقدسة من فلسطين، حيث أشار الله سبحانه إلى هذا بقوله تعالى فى سورة المائدة على لسان موسى: «يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ» (الآية: 21) . الآيات: (163- 167) [سورة الأعراف (7) : الآيات 163 الى 167] وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) التفسير: لم تكن قصة موسى وبني إسرائيل هنا حديثا مباشرا لليهود الذين عاصروا البعثة النبوية، إذ كانت الدعوة لا تزال فى مواجهة قريش، لم تحدد مكانها من اليهود بعد، ولم تنتقل إلى مطلعها الجديد فى المدينة التي سيهاجر إليها الرسول، ويواجه فيها اليهود مواجهة مباشرة. ومع هذا، فإن الدّعوة الإسلامية- وهى فى مكة- كانت تشير إلى أهل الكتاب، وإلى اليهود خاصة، إشارات تنبىء عن أن للرسالة الإسلامية شأنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 503 معهم، وأن عليهم أن يهيئوا أنفسهم لها منذ اليوم، وأن ينظروا فيها، ويحدّدوا موقفهم منها.. وهذا من أنباء الغيب التي حملها القرآن، وأخبر بها قبل أن تقع. وإذ انتهت قصة موسى وقومه، وإذ تكشف الآيات القرآنية عن القوم وعما فى قلوبهم من مرض، وما فى طباعهم من لؤم ومكر- فقد ناسب ذلك أن تأتى آيات أخرى تكشف عن طبيعة القوم، وتعرض صورا من كفرهم بنعم الله، ومكرهم بآياته، وفى هذا نذير لمشركى مكة إن هم جروا على سنّة هؤلاء القوم مع رسل الله، وإن هم أخذوا عنهم ما يلقون به إليهم من زيف القول، يكيدون به للرسول الكريم. وقوله تعالى: «وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ» .. هو سؤال إلى اليهود لم يلقهم به النبي لقاء مباشرا، وإنما نقل إليهم من كفار قريش الذين كانوا يتعاملون مع اليهود فى التّصدّي للنبىّ، وفى نصب المزالق والعثرات له.. إذ كان اليهود يلتقطون أخبار النبىّ وما ينزل عليه من قرآن، أولا بأول، فيجدون القرآن يحدّث عنهم، ويفضح تاريخهم الأسود مع أنبيائهم دون أن يلتفت إليهم النبىّ الكريم، وأن يلقاهم بوجهه.. وهذا مما يثير القلق والاضطراب فى نفوسهم، ويجعلهم والقرآن وجها لوجه، من غير أن يكون للرسول موقف معهم، يمكنهم من أن ينالوا منه منالا..!! والقرية التي كانت حاضرة البحر، هى إحدى القرى التي كانت لبنى إسرائيل، على شاطىء بحيرة طبرية، أو شاطىء البحر المتوسط.. وكونها حاضرة البحر، أي قائمة عليه، وبمحضر منه، أي ليست بعيدة عنه، بل هى مشرفة عليه. «إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ» .. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 504 وذلك أنهم كانوا قد ابتلوا بيوم السبت، فلا يعملون فيه عملا، وإلا وقعوا تحت لعنة الله.. وفى هذا تقول التوراة: «اذكر يوم السبت لتقدّسه، ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك، وأما اليوم السابع ففيه سبت للربّ إلهك، لا تصنع عملا ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك لأن فى ستة أيام صنع الربّ السماء والأرض والبحر وكل ما فيها واستراح فى اليوم السابع لذلك بارك الربّ يوم السبت وقدّسه» [سفر الخروج.. الإصحاح العشرون] . وقد مكر أصحاب هذه القرية بهذا اليوم، فكانوا يحتالون على العمل فيه، وخاصة فيما يتصل بصيد السمك الذي كان العمل الغالب عليهم.. ولهذا فقد ابتلاهم الله فى هذا اليوم بابتلاء آخر، وهو أن الحيتان كانت لا تظهر فى شاطىء البحر طوال أيام الأسبوع إلا يوم يسبتون، أي يوم السبت. فإذا كان يوم السبت جاءت الحيتان من كل صوب، تتراقص أمام أعينهم، حتى لتكاد تلقى بنفسها إلى اليابسة.. وفى ذلك ابتلاء لهم أىّ ابتلاء.. فإما أن يصبروا على حكم الله فيهم، فلا يمدّوا أيديهم إليها، وإما أن يأخذوا منها ما يشاءون، وفى هذا هلاكهم، فلا تبقى منهم باقية.. وقد وقف القوم موقفا وسطا، خيّل إليهم فيه أنهم يخدعون الله، وأن الله سينخدع لهم، فجعلوا ينصبون شباكهم يوم الجمعة بالليل ليقع فيها السمك نهار السبت، حتى إذا كان آخر النهار، ومضى يوم السبت، أخرجوا شباكهم وقد امتلأت صيدا! ولهذا فقد صيّر الله- سبحانه- السبت لعنة عليهم، فحرّم عليهم فيه أي عمل، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 505 ومن خرج منهم عن هذا الأمر فقد حلّ قتله، كما تقول التوراة، فى الإصحاح الخامس والثلاثين من سفر الخروج. «ستة أيام يعمل عمل، وأما اليوم السابع ففيه يكون لكم سبت عطلة مقدس للربّ، كل من يعمل فيه عملا يقتل، لا تشعلوا نارا فى جميع مساكنكم يوم السبت» . وهكذا كان الأمر إليهم أولا أن يقدسوا يوم السبت، وألا يباشروا فيه عملا من أعمال الدنيا.. فلما خرجوا عن هذا الأمر أوجب الله عليهم القتل إذا عملوا أي عمل فى هذا اليوم.. وهكذا انقلبت تلك النعمة شرّا ووبالا عليهم. فوقعوا منها تحت هذا الإصر الذي لا يحتمل!! وقوله تعالى: «يَوْمَ سَبْتِهِمْ» أي يوم يدخلون فى السبت، وقوله: «وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ» أي يوم لا يكون السّبت، وذلك بقية أيام الأسبوع. وأصل «السبت» السكون، وعدم الحركة. وقوله تعالى: «شُرَّعاً» أي شارعة ظاهرة، ومنه شراع السفينة.. سمّى بذلك لظهوره، ومنه الشّرع، والشريعة، لظهورهما، ووضوح أمرهما.. وقوله تعالى: «كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» الإشارة هنا إلى ما ابتلاهم الله به من يوم السبت، ثم ما ابتلاهم به فى يوم السبت نفسه، بما يتعرض لهم فيه من حيتان، لا تظهر لهم إلا فى هذا اليوم.. وذلك الابتلاء إنما هو بسبب فسقهم، وخروجهم على أحكام الله، واحتيالهم على التفلّت منها. قوله تعالى: «وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» . لم يكن أهل القرية كلّهم على سواء فى الخروج على يوم السبت، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 506 والاحتيال على التخلص من هذه البلوى التي ابتلاهم الله بها.. فهناك أمّة منهم، أي جماعة أرادت أن تنصح للقوم وتدعوهم إلى الصبر على حكم الله فيهم، فقامت جماعة أخرى تحاجّ تلك الجماعة، وتدعوها إلى أن تترك القوم وشأنهم، ليلقوا المصير الذي أعدّه الله لهم، وقالوا: «لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ» فى الدنيا «أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً» في الآخرة؟ وقد ردّت عليهم الجماعة التي أرادت أن تنصح وترشد بقولها: «مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» أي إنما ننصح لهم لئلا يكون لهم على الله حجة، ولعلّ فى هذا النصح ما يذكرهم بالله، وبانتقامه من المعتدين، فيفيئوا إلى الرشد والهدى.. وانظر كيف يمكر القوم بعضهم ببعض؟ وكيف يضنّ بعضهم على بعض حتى بالكلمة التي تنبّه إلى الخطر، وتوجّه إلى السلامة؟ إن هذا الجدل الذي ذكره القرآن هنا، إنما هو بين أهل العلم والرأى فيهم، فقد انقسم هؤلاء إلى فريقين: فريق يريد أن ينصح ويرشد، وفريق يعترض هذا العمل، ويقول بعدم جدواه، وأن يترك القوم لمصيرهم المشئوم! «فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» . وقد مضى الناصحون فى طريقهم ينصحون ويدعون إلى التزام أمر الله فى حرمة السبت، ولكن القوم ظلّوا على ما هم فيه من بغى وعدوان. أما الذين نصحوا، وكانوا ينهون عن السوء فقد نجاهم الله، وأما الذين ظلموا واعتدوا فأخذهم الله بعذاب بئيس، أي قاهر مذلّ.. بما كانوا يفسقون.. «فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ» . العتوّ: مجاوزة الحدّ فى البغي والعدوان، والخروج عن حدود الله فى غير تحرّج. فقد بغى القوم أولا، فاعتدوا على حرمات الله، فى خوف وحذر.. فأخذهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 507 الله بالعذاب البئيس، أي المذلّ، المهين.. فى الدنيا، ورصد لهم هذا العذاب ليوم القيامة.. ثم لما استمرأ القوم هذا البغي، وصاروا يأتونه فى غير تحرّج أو تأثم- أخذهم الله بعذاب عاجل فى هذه الدنيا، مع هذا العذاب الذي أعدّه لهم فى الآخرة: «قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ» .. فقد ردهم الله إلى عالم الحيوان، ومسخهم فى طبائع القردة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «خاسِئِينَ» أي مطرودين إلى الوراء، مزجورين من هذا الموقف الإنسانى الذي كانوا فيه، إلى حيث ينزلون إلى عالم القردة.. تقول: خسأت الكلب، أي زجرته، فرجع إلى الوراء.. وفى قوله تعالى: «قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً» أمر بخلق جديد لهؤلاء القوم، «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» . فالقوم لم يلبسوا خلقة القردة، وإنما لبسوا أخلاقها وطباعها.. وفى ردّة القوم إلى طبائع القردة إشارة إلى النسب الذي بين الإنسان وبين القردة فى سلسلة التطور، وأن القردة درجة نازله فى الخلق المتطور للإنسان.. وهكذا يعود القوم إلى الوراء ملايين السنين، ويكون بينهم وبين عالم الناس هذا الحاجز الزمنى الطويل.. فهم خلق فى طبائع القردة، وفى أجسام الآدميين.. وهكذا يعيشون فى الناس، يمثلون حركات القردة وإشاراتها، حتى ليخيّل لمن يراهم أنهم كائنات مدركة عاقلة، وما هم فى الواقع إلا قرود تمثل أفعال الآدميين. قوله تعالى: «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 508 «تَأَذَّنَ رَبُّكَ» أي قضى وحكم.. والواو واو القسم، تأكيدا لهذا الحكم الذي أوقعه الله عليهم.. «لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ» جواب القسم، أي أن الله حكم حكما قاطعا بأن يبعث عليهم من عباده، ويسلط عليهم من خلقه، من يأخذهم بالعذاب الأليم، والهوان والذلة، وذلك فى أجيالهم المتعاقبة.. إلى يوم القيامة!! وهنا سؤال: هذا عقاب استحقه القوم بأفعالهم.. فما بال أبنائهم من بعدهم، جيلا بعد جيل إلى يوم القيامة؟. والجواب: أن الله سبحانه قد ردّ هؤلاء القوم إلى عالم القردة، ونكسّهم فى الخلق، فهم- بهذا- خلق آخر غير خلق الإنسان السّوىّ- فما تناسل منهم لا يكون إلا على هذا الخلق إلى يوم القيامة.. فإذا ذهبت تسأل: ما ذنب هذه الذّرية التي نتجت من هؤلاء القوم؟ فاسأل: ما ذنب القردة أن تكون قردة؟ وما ذنب ذريتها أن تجىء على صورتها؟. إن هذا من ذاك.. سواء بسوء..!! فالله- سبحانه- يخلق ما يشاء: «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» . وانظر إلى «اليهود» فى مسرح الحياة.. إنهم لم ينزع عنهم أبدا هذ الثوب الذي ألبسهم الله إياه، ثوب القردة.. إنهم بين الناس عالم آخر، فى طباعه، وفى تدبير شئون حياته.. إنهم لعبة فى يد الناس، يحركونهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 509 لكل مأرب يبغونه.. للتسلية حينا، وللعضّ أحيانا، وللسّرقة والخطف فى أكثر الأحيان..! «إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» فهو- سبحانه- سريع العقاب لمن حادّه، وحاربه، ونقض عهوده، واستباح حرماته، وهو- سبحانه- غفور رحيم لمن أذنب، ثم تاب، ولمن عصى، ثم أناب. الآيات: (168- 171) [سورة الأعراف (7) : الآيات 168 الى 171] وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) التفسير: من عقاب الله- سبحانه- لليهود الذين مسخهم قردة، إذ قال لهم: «كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ» فكانوا- أن قطّعهم فى الأرض أمما، حيث لا يحتويهم مكان واحد، ولا يشتمل عليهم وطن واحد، كبقية الأمم والشعوب، وإنما هم مبعثرون فى الأرض، شأن القرود التي يجدها الناس حيث كانوا، فى شرق الأرض وغربها..! الجزء: 5 ¦ الصفحة: 510 وهذا التقطيع هو حكم من أحكام الله فيهم. «مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ» أي منهم من كان فى هذا الخلق الجديد- خلق القردة- مستقيما مع خلقته تلك، أو منحرفا عنها، كما هو الشأن فى كل صنف من أصناف الخلق.. فيه السليم، وفيه المنحرف الشرس.. «وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ» أي ومنهم من ليس صالحا حتى فى مسلاخه الجديد، الذي لبسه.. مسلاخ القردة! «وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» . أي أن الله سبحانه وتعالى قد ابتلاهم بالخير والشرّ، وأذاقهم الحلو والمرّ، ليروا العافية بعد البلاء، والبلاء بعد العافية، لعلّهم يذكرون الله، ويرجعون إليه. «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ» . خلف: أي جاء من بعد السّلف خلف. و «الخلف» السيء من الخلف، والرذل الرديء من الذريّة. والكتاب الذي ورثه هؤلاء الخلف، هو التوراة، ومعنى ميراثهم له أخذهم به، وجعله شريعة لهم، كما هو شريعة لآبائهم.. «يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا» . أي أنهم يأخذون الخبيث الحرام من متاع هذه الحياة الدنيا، متأوّلين ذلك بأن الله سيغفر لهم ما وقعوا فيه من حرام، وقد زيّن لهم الشيطان أعمالهم، فجعلوا لهم إلى الله نسبا، إذ قالوا ما قال القرآن على لسانهم: «نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ» (20: المائدة) . وبهذا النسب الذي ادّعوه- كذبا وبهتانا- استباحوا كل حرام، وركبوا كل منكر، والله سبحانه وتعالى يقول فيهم: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 511 لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» (24: آل عمران) . والعرض: المتاع الزائل.. و «الْأَدْنى» الخسيس من المتاع.. والإشارة إلى هذا المتاع الذي أخذوه. «وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ» أي أنهم يستمرئون الخبيث، ويجعلونه الطعام الدائم لهم، والحياة التي يحيون عليها.. فهم يدخلون إلى الحرام أولا بهذا الشعور الخبيث، وهو أنهم لا يتناولون منه إلا هذا القليل، وفى تلك المرّة.. ثم إذا هم- مع الزمن- قد جعلوا هذا الخبيث أصلا، لا يستسيغون غيره.. «أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ» .. فالميثاق الذي أخذه الله على أتباع شريعته هو أأن يحفظوها، وألا يبدّلوا وجهها، ويحرفوا كلماتها.. وقد حرّف هؤلاء القوم كلمات الله، وبدلوا شريعته، فاستحلّوا ما حرّم الله، وقالوا: «سَيُغْفَرُ لَنا» . «وَدَرَسُوا ما فِيهِ» أي درسوا ما فى هذا الكتاب، وعرفوا ما جاء فيه من حرام وحلال. «وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» حرمات الله.. ولكن القوم لا يتقون الله، ولا يعملون للدار الآخرة حسابا.. «أَفَلا تَعْقِلُونَ» انتقال من الغيبة إلى الخطاب والمواجهة، ليلتفت هؤلاء الغافلون إلى ما هم فيه من ضلال وعمى. «وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 512 فهذا حكم الله فيمن يرعون عهده، ويحفظون شريعته، ويتمسّكون بكتابه.. إنهم محسنون، والله لا يضيع أجر المحسنين، فقد عملوا وأحسنوا، وعند الله حسن الجزاء لمن عمل وأحسن.. وقد سمّى الله سبحانه الجزاء أجرا، فضلا منه وكرما، حتى لكأن العامل فى مجال الخير، وهو يعمل لنفسه، إنما يعمل لله، وعن هذا العمل يستحق الأجر من ربّه.. فسبحانه من ربّ كريم. «وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ» . وهذا من نعم الله التي يبتلى بها عباده، وقد ابتلى الله هؤلاء القوم بأن جعل لهم من الجبل وقاية من الشمس، والمطر، والعواصف، وغيرها، فهو سكن لم يعملوا له، ولم يجهدوا أنفسهم فيه، بل أقامه الله لهم.. لقد نتقه الله فوقهم، أي شقّه، ورفعه. ومن قدرة الله أن رفع هذا الجبل فوقهم كأنه سقف، ولكن بغير عمد، حتى لقد ظنّوا أنه واقع بهم.. وفى قوله تعالى: «واقِعٌ بِهِمْ» إشارة إلى شعور الخوف الذي كان مستوليا عليهم أول الأمر من هذا الجبل الذي قام فوقهم، وأنه إذا وقع لم يقع عليهم وحسب، بل إنه سيحملهم معه، ويهوى بهم إلى الأرض.. «خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» .. وهذه دعوة من الله إلى هؤلاء القوم، حين نتق الله بهم الجبل، ووضعهم أمام هذه الآية المتحدية.. فليؤمنوا بالله، وليأخذوا هذا الكتاب الذي فى أيديهم بقوة، أي يمسكوا به، ويشدّوا أيديهم عليه، وألا يخرجوا عنه، ويترخّصوا فى أحكامه، ففى هذا داعية لهم إلى أن يكونوا من المتقين.. وإلى هنا تنتهى الآيات التي عرضت قصة موسى، وقومه.. وهى- فيما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 513 نقدّر- أول ما ذكر القرآن عن بنى إسرائيل، فى سوره المكيّة.. ثم جاءت بعد ذلك موارد أخرى لهذه القصة فى كثير من السّور المدنية، تحدّث عن موسى، وفرعون، وعن السحرة وإيمانهم، وعن فرعون وغرقه، وعن نجاة بنى إسرائيل من يد فرعون، وما كان منهم من مكر بآيات الله، وكفر به.. وهذا ما دعا كثيرا من الذين يشنئون الإسلام، أولا يعرفون اللغة العربية وأسرارها، إلى الطعن فى كتاب الله، وإلى اعتبار هذا التكرار قصورا فى الأداء، وعجزا فى البيان. ومن أجل هذا، كان علينا أن نقف وقفة، مع التكرار فى القصص القرآنى عامة، ومع قصة موسى خاصة.. وسنرى وجها مشرقا من وجوه المعجزة الكبرى لآيات الله، التي سجد أهل الفصاحة والبيان بين يدى إعجازها المبين. ونرجو أن نحقق هذا فى موضع آخر.. إن شاء الله. الآيات: (172- 174) [سورة الأعراف (7) : الآيات 172 الى 174] وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) التفسير: فى الناس فطرة تدعوهم إلى الإيمان بالله، حيث يتهدّون بهذه الفطرة إلى التعرّف على الله، وإفراده بالألوهية، ولكن هذه الفطرة تتعرض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 514 لآفات كثيرة، فيصيبها الفساد والعطب، فتتعطل منها القوى المدركة لآلاء الله، القادرة على الاتصال به، فيكون الضلال والتّيه فى عوالم الشرك والكفر.. وفى الحديث: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، وينصرانه، ويمجّسانه» فقد خلق الله عباده حنفاء، ولكن شياطين الإنس والجنّ دخلوا عليهم بالغواية والضلال، فأغووهم وأضلوهم.. وهذا ما أحبّ أن أفهم عليه قول الله تعالى عن إبليس لعنه الله «.. وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ..» (117- 119: النساء» .. ففى قول إبليس- لعنه الله- «وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ» إشارة إلى أن من دعوته إلى من يستمعون إليه، ويستجيبون له- أن يغيروا فطرتهم التي فطرهم الله عليها، وأن يدخلوا عليها من الأباطيل والضلالات ما يفسدها. وفى قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا» - فى هذا إشارة إلى أن الله- سبحانه وتعالى- قد أخذ أي أخرج من أبناء آدم، أي من ظهورهم ذريتهم، وأنه- سبحانه- أشهدهم على أنفسهم، وهم فى عالم الأرواح- حيث تشعر كل روح بذاتها ووجودها- أليس الله سبحانه وتعالى هو ربكم وخالقكم؟ فشهدوا جميعا وقالوا: بلى أنت ربّنا وخالقنا. والله سبحانه وتعالى، يخاطب عالم الخلق جميعا، من حىّ وغير حىّ.. «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» (11: فصلت) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 515 فليس بعجيب أن يكون بيننا وبين الله- سبحانه- هذا الموقف الذي شهدته أرواحنا، ولم تشهده أجسادنا.. كما شهدته المخلوقات جميعا، من حىّ وغير حىّ. وهذه الشهادة إقرار سابق بولائنا جميعا لله، وإيماننا بوحدانيته. وإن من شأن هذا الإقرار أن يقيم وجوهنا إلى الله، بعد أن نلبس هذه الأجساد التي نعيش فيها.. فهذا الإقرار رصيد من الإيمان نستقبل به الحياة، ونتلاقى به على طريق الإيمان مع دعوة العقل الذي أوجده الله فينا، ومع دعوة الرسل الذين أرسلهم الله إلينا.. ولهذا جاء قوله تعالى: «أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ» أي ليقطع عليكم العذر أن تقولوا يوم القيامة إنا كنّا عن الإيمان بالله والتعرف عليه غافلين، فذلك عذر غير مقبول.. إذ كيف تغفلون وفيكم داع يدعوكم إلى الإيمان بالله، وهى تلك الفطرة التي أشهدها الله عليكم.. «أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ» . وهذا العذر أيضا غير مقبول منكم، فلا يحمل عنكم تبعة شرككم بالله شرك آبائكم من قبلكم، إذ كنتم ومعكم فطرتكم، وكنتم ومعكم عقولكم، ثم كنتم ومعكم دعوة الرسل الذين يدعونكم إلى الله! فإذا أهلككم الله فإنما يهلككم بأفعالكم لا بأفعال آبائكم. «وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» . أي بمثل هذا التفصيل، وذلك البيان المبين، يفصّل الله الآيات، ويبينها للناس، ويكشف لهم عن ذخائر الإيمان المطموسة فى كيانهم، والتي أهملوها، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 516 وغفلوا عنها، وذلك لعلّهم يرجعون إلى أنفسهم، ويحسنون الانتفاع بتلك القوى التي أودعها الله فيهم، فيكون لهم إلى الله عودة من قريب، إذا هم خرجوا عن جادّة الطريق، وحادوا عن الصراط المستقيم. الآيات: (175- 179) [سورة الأعراف (7) : الآيات 175 الى 179] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179) التفسير: فى هذه الآيات: أمور يسأل عنها: فأولا: من هو هذا الذي آتاه الله آياته؟ وما هى تلك الآيات؟ وكيف كان انسلاخه منها؟ وثانيا: ماذا يتلو الرسول من أخبار هذا الإنسان؟ وثالثا: على من يتلو الرسول هذه الأخبار؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 517 والجواب- والله أعلم-: أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه كان يعرف هذا الإنسان، ويعرف إشارة القرآن إليه، كما كانت قريش تعرفه، وكما كان هو يعرف نفسه، وأنه المقصود بهذا الحديث.. ومعنى هذا أنه من كفار قريش ومن رءوسهم البارزة، التي كانت تقف فى وجه الدعوة الإسلامية، وتكيد للنبىّ، وتؤذيه فى نفسه، وفى أصحابه. وأقرب رجل يدعى هنا ليكون بهذا المكان الذي يطلع منه على الناس، فيرون فيه ما يقصّه الرسول عليهم من حاله تلك التي رسمها القرآن الكريم له- أقرب رجل يدعى هنا، هو «الوليد بن المغيرة» الذي انتدبته قريش ليلقى محمدا، وليكون سفيرها عنده، وليقول له كلمتها إليه، وليبلغه وعدها له بالملك والمال، وما أحبّ مما يطلب من جاه، ومال وسلطان.. فإن لم يستجب «محمد» لهذا، فليسمع وعيدها، ونصبها الحرب له، ولأهله الأدنين، ولكل من اتصل به. وقد جاء «الوليد» إلى النبىّ، وعرض عليه ما عرض من وعود، فرفضها، لأنه- صلوات الله وسلامه عليه- ما بعثه الله ملكا على الناس، وإنما بعثه هدى ورحمة للعالمين، لا يسألهم أجرا عمّا يقدم إليهم من هدى ونور.. ثم عرض على النبىّ وعيده، وما تتهدّده به قريش من ضرّ وبلاء، فما وجد عند النبىّ إلا ثباتا على موقفه، وإلا رضى وصبرا على ما يلقى فى سبيل رسالة ربّه.. حتى يحكم الله بينه وبين قومه، وهو خير الحاكمين.. ثم دعاه النبي صلوات الله وسلامه عليه أن يسمع منه، كما سمع هو منه.. ثم تلا عليه الآيات الأولى من سورة «فصلت» . فلما سمع «الوليد» ما سمع من كلمات الله استخزى، ثم خنع، ثم خشع وضرع.. وركبته حال لا يدرى معها ماذا يقول فى هذا الكلام الذي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 518 لم يقع لأذنه كلام مثله، فى جلاله، وبهائه، وامتلاكه زمام المشاعر، واستيلائه على مجامع القلوب. وقام الوليد متخاذلا، منكسرا ... لم يقل شيئا.. ومضى يجرّ شخصه جرّا إلى القوم، الذين كانوا ينظرون إليه من بعيد، ويرقبون ما يقع بينه وبين «محمد» .. وما كادوا يلمحونه، وقد اقترب منهم، حتى رأوا منه إنسانا غير هذا الذي خرج من بينهم آنفا.. لقد خرج متعاليا شامخا.. ثم ها هو ذا يعود إليهم حطام رجل، أو شبح إنسان.. وهنا يقول قائلهم: «لقد جاءكم الوليد بوجه غير الوجه الذي ذهب به!» . وأقبل الوليد على القوم، وكلهم أذن له، وعين على شفتيه، انتظارا لما يقول!. وجلس «الوليد» فى مكانه الذي أفسحه له القوم، وهو شارد، مذهول، لا يدرى من هو؟ ولا أين هو؟ ولا مع من هو؟ حتى دعاه داعيهم أن يأتيهم بما عنده من خبر محمد، وماذا وقع بينهما من حديث.. وهمهم «الوليد» ولم ينطق، والأصوات من حوله تهتف به: ما شأنك؟ وماذا عندك؟ .. وصحا «الوليد» ودار بعينيه يتفرس وجوه القوم، وكأنه يراهم لأول مرة، وإذا وجوه منكرة، تطل من شخوص أعماها الجهل، واستولى عليها الضلال، وركبها الشيطان.. وود «الوليد» لو أن به قوّة.. إذن للطم هذه الوجوه المنكرة، وحطّم تلك الرءوس الفارغة.. ولكن أنّى له القوّة، وقد تهدّم بناؤه المشمخرّ، وهربت عزيمته المتوثبة؟. ولم يكن بد أن يتكلم «الوليد» ليزيح عن نفسه هذا الهمّ الذي يعالجه، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 519 ولينفث عن صدره هذه المشاعر المضطربة، فقال: «وماذا أقول؟ والله ما فيكم رجل أعلم بالشعر منّى، لا برجزه ولا بقصيده، ولا بأشعار الجنّ، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا.. وو الله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، ومغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى» . وصعق القوم لما سمعوا.. وهالهم أن ينفرط عقدهم، ويتبدّد جمعهم، إذا خرج الوليد من بينهم، ولم يأخذ مكانه فى المعركة التي نصبوها لمحمد ودعوته.. وقد رأوا أن يلاينوا «الوليد» ويلاطفوه، حتى لا يمضى فى طريق غير طريقهم، بعد أن سحره محمد بقرآنه، كما يقولون! فمن قائل لقد سحرك محمد! ومن قائل: لقد أخطأنا إذ جعلناه ينفرد بك، وينفث سمومه فيك! ومن قائل.. ومن قائل ... والوليد صامت واجم لا ينطق بكلمة ... وخشى القوم أن ينفضّ مجلسهم على تلك الحال، وأن يسمع الناس ما حدث، وأن تتناقل القبائل ما قال الوليد فى محمد.. وفى ذلك بلاء لا تحتمله قريش، ولا تصبر عليه ... فأبوا أن ينحلّ مجلس القوم حتى يقول الوليد فى محمد قولا ترضاه قريش، ويشيع أمره فى الناس، إذ يكون قوله الذي يقوله هنا فى محمد، قد جاء عن احتكاك به، واختبار له! فقال الوليد: تزعمون أن محمدا «مجنون» فهل رأيتموه يحمق؟ وتقولون إنه كاهن.. فهل رأيتموه قط يتكّهن؟ وتزعمون أنه شاعر.. فهل رأيتموه يتعاطى الشعر؟ وتزعمون أنه كذاب.. فهل جربتم عليه شيئا من الكذب؟ فقالوا فى كل ذلك: اللهم لا، ثم قالوا: فما هو؟ ففكر فقال: ما هو إلا ساحر؟ أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله، ومواليه، وما الذي يقوله إلا سحر يأثره عن سحرة بابل!!. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 520 ورضيت قريش بما أخذت من الوليد، ومضى الوليد محموما إلى بيته، محمولا على رجلين لا تكاد ان تمسكان به.. ويغلق عليه بابه، ويخلو بنفسه ليلا طويلا مسهّدا، لا تغمض له عين.. وما تكاد تطلع الشمس، وتأخذ مسيرتها إلى الضحى، حتى يجىء إلى الوليد من بطرق على بابه فى طرقات صارخة، كأنها النذير العريان.. ويدخل الطارق، ويلقاه الوليد مستنبئا.. فيقول له: اجلس أسمعك: ويجلس الوليد، فيسمع: «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا.. إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ» (11- 30: سورة المدّثّر) - ما هذا؟ يا هذا؟ يقولها الوليد مبهور الأنفاس، مختنق الصوت، ينتفض انتفاض الغصن تحت وابل منهمر! - إنه الذي يتحدث به محمد، ويتصايح به أصحابه، ويتغنّى به الصبيان فى طرقات مكة وشعابها.. من قرآن محمد! - أوقد فعلها محمد؟ أو أنا الذي من بين قريش كلّها الذي يجعلنى محمد هزأة وسخرية على الملأ؟ والله لأفعلنّ به ولأفعلنّ!! ويظل هكذا يهذى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 521 هذيان المحموم، ترتعد فرائصه، وتختلج قدماه، ثم ينعقد لسانه، وتسكن حركته، فلا يلقى قريشا ولا قريشا تلقاه فى مجلس بعدها أبدا..! وقد ذكرنا هذه القصة، لنقول: إنّ الوليد بن المغيرة هو المشار إليه فى قوله تعالى: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها، فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ» . وهذا القول لم نجد أحدا من المفسّرين قال به، أو أشار إليه.. بل لقد تضاربت بهم مذاهب القول، فمن قائل: إنه «بلعم بن باعوراء» من الكنعانيين، وقيل إنه من بنى إسرائيل، ومن قائل إنه: «أمية بن الصلت» ، ومن قائل: إنه «النعمان بن صيفى الراهب» .. ولا نرى قولا من هذه الأقوال يعطى مفهوما للآية من قريب أو بعيد.. ولولا أننا استشعرنا أن القرآن لا يقول مخاطبا النبي: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا» إلا إذا كانت هناك قصة يتلوها النبىّ عليهم فى شأن هذا الرجل، فإن لم تكن هناك قصة يذكرها القرآن عن هذا الرجل فى هذا الموقف فلا بد أن تكون هناك قصة مذكورة مشهورة فى موضع آخر، يعلمها القوم عن يقين، ولا يحتاج الأمر إلى ذكرها مرة أخرى- لولا أننا استشعرنا هذا لما كان لنا قول نقوله فى رجل هذه القصة. ثم إذا نظرنا فى قوله تعالى: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها» وفى قوله تعالى عن الوليد بن المغيرة: «إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً» ثم ذكرنا مع هذا ما كان للآيات التي تلاها الرسول الكريم عليه، وأثرها فيه، واستيلاءها على كيانه، ثم نكوصه عنها بعد ذلك، وانسلاخه منها بعد أن لبسها- الجزء: 5 ¦ الصفحة: 522 - إذا نحن ذكرنا ذلك، رأينا أن هذا الرجل هو ذلك الإنسان عينه، بلحمه ودمه، وبكل مشخصاته، فى جميع أحواله.. ومعنى قوله تعالى: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها» أي اتل عليهم ما نقص عليك من خبر هذا الإنسان الذي أسمعناه آياتنا، فعرف وجه الحق فيها، واطلع على علو متنزلها، وأنها من الله ربّ العالمين.. فآمن بها، وسجد بين يديها، ولكن التوفيق لم يكن رفيقه، إذ سرعان ما نكص على عقبيه، وأسلم نفسه لشياطين قومه، فاستجاب لما دعوه إليه، وانسلخ من آيات الله بعد أن كانت مستولية عليه.. «فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ» أي جرى وراءه، يوسوس له بالضلال، ويزيّن له الباطل، ويغويه بالكفر.. «فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ» . «وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها» أي ما أراد الله له الخير، وما شاء سبحانه أنه يتمّ نعمته عليه، لأن طبعه نكد، وقلبه سقيم.. «ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه» .. أي لصق بالأرض، ونزل منزل الحشرات والهوام فيها، ولم يرد أن يسمو بنفسه، ويرتفع بوجوده ويعلو بإنسانيته.. ولو أنه فعل لأعانه الله على ذلك، وسدّد خطاه، وأمسك به على الطريق المستقيم، الذي وضع قدمه عليه. فمطلوب من الإنسان أن تكون له إرادة عاملة، تلتقى مع إرادة الله.. فإن أراد خيرا، وعمل له، وتمسك به، أراد له الخير، وأعانه عليه، ووفقه له.. «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ.. وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ» (11: الرعد) . «فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ» .. ذلك هو مثل أهل الزيغ والضلال.. لا يجىء منهم إلا ما هو شر وضلال.. إنهم على تلك الحال دائما.. لو لم يدعهم أحد إلى الضلال لدعواهم أنفسهم إليه.. فحالهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 523 كحال الكلب: يلهث دائما، ويدلق لسانه فى كل حال.. سواء أترك لشأنه فلم يعرض له أحد بسوء، أو طارده أحد وأجهده.. إنه كهذا.. يلهث دائما.. فى سكونه واستقراره، أو فى جريه وجهده.. والتشبيه للإنسان الضالّ بالكلب، تشبيه يصيب كبد الحقيقة منه.. ظاهرا وباطنا.. فهو كلب فى خسار سعيه، وضياع جهده، حيث يرى فى صورة الكلب يلهث دائما كأنه موكّل بعمل مثمر.. ولكنه يلهث، ولا عمل، ويعمل ولا ثمرة لعمل..! «ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» أي ذلك المثل، هو مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله، حيث كل ما يعملون إلى تباب وضياع.. والقوم هنا، هم قريش، وخاصة أصحاب الكلمة فيها، كالوليد بن المغيرة، ومن على شاكلته منهم.. ثم من كان على طريق هؤلاء القوم المكذبين بآيات الله.. «فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» ففى هذا القصص عبرة لمن تفكر واعتبر. وإذ تقرع آذان قريش هذه الآيات، وإذ يشوقهم نبأ هذا الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين- وإذ هم على تلك الحال، تتنزل آيات القرآن الكريم بنبإ هذا الإنسان، وإذا هو الوليد بن المغيرة، فيسمعهم الرسول الكريم قول الله تعالى فيه: «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً.. الآيات» . والفاصل الزمنى بين قوله تعالى: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها» وبين قوله سبحانه: «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً.. الآيات» - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 524 هذا الفاصل- طال أو قصر- هو إثارة لأشواق القوم إلى هذه القصة التي لم تقصّ بعد، وتعليق لنفوسهم بها، حتى تطلع عليهم بهذا الإنسان العجيب الذي مثله كمثل الكلب.. إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث.. فمن هو هذا الإنسان يا ترى؟ إنه لا شك واحد من زعماء قريش، الذين نصبوا لرسول الله، وكادوا له.. قد يكون أبا لهب، أو أبا جهل، أو أبا سفيان أو الوليد بن عتبة، أو الوليد بن المغيرة.. وهكذا إلى من تضم هذه الجماعة من رءوس ورؤساء..! فإذا كانت حادثة الوليد بن المغيرة، وإذا كان القرآن الذي نزل فيه.. عرفت قريش من رجلها الذي علقت به حبالة محمد، وربطته مربط الكلب على رءوس الأشهاد.. فتهدأ نفوس، وتثور نفوس.. على أن الجميع يجدون شيئا من الرضا إذ لم يصبهم هذا الذي أصاب الوليد بن المغيرة، وجعله حديثا مخزيا يجرى على كل لسان.. وهكذا تأكل قريش بعضها بعضا، كما تأكل الذئاب ذئبها الجريح! «ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ» . ذلك تعقيب على هذه القصة، وربط لرءوس القوم كلّهم إلى هذا الكلب المربوط.. فكلهم مكذّب بآيات الله، وكلهم هذا الرجل العنيد المكابر المشئوم! «وساء» فعل ذم، عكس نعم، والقوم: هو اللفظ المخصوص بالذم. «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» . وفى نسبة الهداية إلى الله تشنيع على القوم الضالين، وكبت لهم، بطردهم من هذا المقام الكريم، وأنهم ليسوا أهلا لأن يهديهم الله، بل هم أهل لهذا الضلال الذي أغرقهم الله فيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 525 «وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ» . الذّرء: الخلق، والزرع. والمعنى أن الله سبحانه وتعالى قد خلق لجهنم خلقا كثيرا من الجنّ والإنس، جعلهم أهلا لها، ووقودا لجحيمها.. هكذا اقتضت إرادته، وشاءت مشيئته.. يخلق ما يشاء لما يشاء.. وفى الحديث عن عائشة رضى الله عنها قالت: أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلّم جنازة صبىّ من صبيان الأنصار، فقلت: يا رسول الله: طوبى له، عصفور من عصافير الجنة!! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك؟ إن الله تعالى خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم فى أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلا وهم فى أصلاب آبائهم» ! وهؤلاء الذين خلقهم الله للنار: «لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها» .. فهم فى صورة الناس، ولكنهم ليسوا مثل الناس.. إذ جعل الله لهم قلوبا لا تعقل، وأعينا لا تبصر، وآذانا لا تسمع.. فإن عقلت منهم القلوب عقلت الشرّ والضلال، وإن أبصرت منهم الأعين فإنها لا تبصر مواقع النور والهدى، وإن سمعت الآذان فإنها لا تسمع كلمات الحق والهدى «أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ» .. لها قلوب، ولها أعين، ولها آذان.. ولكنها لا تكون بهذه الأدوات كائنا بشريا، سوىّ الخلق، سليم الفطرة.. «بَلْ هُمْ أَضَلُّ» من هذه الأنعام، إذ الأنعام تستعمل هذه الأدوات فيما يصلح أمرها، ويحقق ذاتها، ويحفظ وجودها، وهؤلاء لا يستعملون هذه الأجهزة إلا فيما يضرهم، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 526 ويفسد وجودهم «أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ» الذين يسوقهم ضلالهم إلى الهلاك، وهم غير ملتفتين إلى هذا البلاء الذي هم صائرون إليه.. الآيات: (180- 185) [سورة الأعراف (7) : الآيات 180 الى 185] وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) التفسير: يلحدون فى أسمائه: أي يحرفونها، ويميلون بها عن الوجه الذي يليق بجلال الله وكماله، ومنه الملحد، وهو الزائغ عن طريق الحق والهدى.. والله سبحانه وتعالى متصف بكل كمال، منزّه عن كل نقص، ولعباد الله أن يدعوا الله ويتعبّدوا له بكل اسم يفرد الله سبحانه وتعالى بالكمال، والعبودية.. فهو الله لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، الملك القدوس السلام المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور.. إلى غير ذلك من الأسماء التي ينفرد بها سبحانه عن المخلوقين.. فكل ما يدعو به العبد ربّه من أسمائه الحسنى، هو ولاء، وعبادة وتسبيح.. والله سبحانه وتعالى يقول: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» (110: الإسراء) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 527 وقد وقف بعض العلماء بأسماء الله عند ما ذكره القرآن الكريم منها، وهذا لا شك أولى من الخروج عن هذه الأسماء، فهى كثيرة.. أحصاها المحصون تسعة وتسعين اسما.. فلا ضرورة للعدول عنها إلى غيرها لمن يعرف اللغة العربية، أما من لم يحسن العربية، فما يكون فى لغته مقابلا لهذه الأسماء محققا لمعانيها، فهو من الأسماء التي يصحّ أن يدعى الله بها، ويتعبّد بذكرها. «وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ» .. أي دعوهم وما سوّلت لهم أنفسهم من الزيغ والانحراف حتى فى أسماء الله الذي يؤمنون به.. «سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» وسمّى قولهم عملا، لأنه ليس مجرد قول، بل هو فى حقيقته عبادة، ولكنه فى عمل هؤلاء المنحرفين عبادة غير مقبولة، لا يعود منها على صاحبها إلا الإثم والخسران.. «وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ» . فى هذه الآية إشارة إلى أن أهل الحق والعدل، لا يخلو منهم زمان.. وأنهم شهادة قائمة على أهل الزيغ والضلال.. وهم وإن كانوا قلّة فى الناس إلى جانب الكثرة الكثيرة من أهل الضلال، فإنهم مجتمع الله فى هذه الأرض، وورثة أنبيائه على رسالة الإيمان، والحق، والعدل. وقوله تعالى: «وَبِهِ يَعْدِلُونَ» أي وبالحق يحكمون بين الناس، ويقيمون موازين العدل فيهم، كما أنهم يهدونهم بأنوار الحق، ويخرجونهم من الظلمات إلى النور.. بل إنهم قبل هذا يعدلون بالحقّ، ويحكمون به فى نظرتهم إلى الوجود، وفى تعرفهم على الخالق وإيمانهم به. «وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ» الاستدراج إلى الشيء: هو الإغراء به، وتيسير السبل إليه، حتى يقع فيه من استدرج إليه.. واستدراج الله سبحانه وتعالى لهؤلاء الذين كذبوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 528 بآيات الله هو تزيين هذا المنكر لهم، وتيسير سبلهم إليه، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى» . وهم فى هذا الطريق الذي ركبوه لا يدرون أنهم على شفا جرف هار، فقد أعماهم الضلال عن أن يروا وجه الحق أبدا، كما يقول سبحانه: «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً» (8: سورة فاطر) .. إنهم بما زيّن لهم الشيطان، يرون الخير شرّا، والشّرّ خيرا، والحق باطلا، والباطل حقا. قوله تعالى: «وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ» . الإملاء: إرخاء الزمن، وامتداده.. والمراد به إمهالهم، وعدم تعجيل العقاب لهم، والملاوة: الفترة من الزمن. أي أن الله سبحانه وتعالى، إنما يملى لهؤلاء الضّالين، ويمدّ لهم فى أسباب الكفر والضلال، ليزدادوا كفرا وضلالا.. «إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ» أي تدبيرى، وتقديرى للأمور، محكم، لا ينقض أبدا.. وفى هذا تهديد للمشركين، الذين ركبوا رءوسهم، ووقفوا هذا الموقف العنادىّ اللئيم من آيات الله، ورسول الله. قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ» الخطاب لمشركى قريش، وفى الآية التي قبل هذه الآية نذير لهم ووعيد.. أما فى هذه الآية فهو تسفيه لأحلام القوم، وفضح لمنطقهم السقيم.. فهم إذ يعجزون عن مواجهة الحق الذي فى يد «محمد» لا يجدون غير الكلمات الحمقى يرمونه بها، فيقولون فيما يقولون عنه: «إنه شاعر.. وإنه لمجنون» ! فهل عقلوا هذا القول الذي يقولونه؟ وهل رأوا فى محمد، وفى تصرفاته الجزء: 5 ¦ الصفحة: 529 فى الحياة، أثرا من آثار الجنون الذي يرمونه به..؟ «إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ» بعثه الله بالحق بشيرا ونذيرا.. ولو أنهم فاءوا إلى عقولهم، وتصفحوا صحف هذا الوجود، لرأوا أن ما يدعوهم إليه «محمد» من الإيمان بالله، والانخلاع عن عبادة الأوثان، هو الذي يلتقى مع العقول السليمة، ويتجاوب مع معطياتها التي تقع لها من النظر فى ملكوت السموات والأرض. قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ» أىّ شىء، ولو كان نواة، أو ورقة أو شجرة.. ففى كل ذرة من ذرات هذا الوجود، كون عظيم، يشهد لقدرة الخالق، وعلمه وحكمته. «وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ» هو معطوف على قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَنْظُرُوا» والمعنى، أو لم ينظر فى ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شىء، فيروا وجه الحق ويبادروا إلى الإيمان بالله قبل فوات الأوان، فما يدريهم أية ساعة تنقضى فيها آجالهم؟ ومن يدرى فلعل أحدهم لا يبيت ليلته؟ فكيف يلقى الله وهو على تلك الحال المنكرة التي ليس وراءها إلا جهنم وبئس المصير؟ وماذا ينتظر هؤلاء الضالون من مطالع الهدى، وشواهد الإيمان وآياته؟ أحديث أبلغ من حديث الله إليهم، أو بيان أوضح من هذا البيان الذي تحمله آياته وكلماته؟ «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟» الآيات: (186- 188) [سورة الأعراف (7) : الآيات 186 الى 188] مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 530 التفسير: «مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ» .. فمن يهدى من أضلّ الله وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة؟. تلك مشيئة نافذة لله، لا معقّب عليها، وقضاء مبرم لا مردّ له. «وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» أي يخلى بينهم وبين أنفسهم، يتخبطون فى ظلمات الشرك والضلال.. والعمه: التحيّر، والضرب فى الأرض على غير هدى. «يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها» ؟ أي يسألونك عن الساعة.. متى تجىء؟ والتعبير عن مجيئها بمرساها، إشارة إلى أنها غائب ينتظر مجيئه، حيث لا يدرى أحد متى تطلع، وتبلغ الغاية التي تصل إليها، وتلقى مراسيها عندها. ومن سفاهة السائلين أن يسألوا عن الساعة، ولم يعملوا لها، ولم يستعدوا للقائها.. فما سؤالهم عنها- والأمر كذلك- إلا من قبيل الجدل السفيه! ما عندهم للساعة حتى يسألوا عن ميقاتها، ويستعجلوا يومها؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 531 «قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ» .. إن أمرها عند الله، لا يكشفها، ولا يظهرها لوقتها الذي تظهر فيه، إلا ربّ العالمين.. فهى عند الله، سبحانه، فى مستودعات الغيب الذي لا يملك مفاتحه إلا هو وحده. «ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» أي عظم وقعها على السموات والأرض. أي أنها يوم تجىء تثقل على السموات والأرض، فكيف تحتملون أنتم مجيئها يوم تجىء؟ فلم تستعجلونها يومها؟ ولم تلحّون فى البحث عن ميقاتها؟ وثقل الساعة على السموات والأرض يشير إليه قوله تعالى: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ» وقوله سبحانه: «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ» . ففى هذا اليوم تتغيّر معالم الوجود السماوي والأرضى، لما يقع فيه من أهوال، فكيف يستعجلون هذا الهول، وينادون به أن يطلع عليهم؟ .. ألا ما أشد جهلهم وغباءهم.. أما المؤمنون، فإنهم- مع إيمانهم بالله واستعدادهم للقائه- مشفقون من لقاء هذا اليوم العظيم، كما يقول سبحانه وتعالى: «يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها. وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ» (18: الشورى) . «لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً» . البغتة: الفجاءة، أي على غفلة.. أي أن الساعة لا تجىء على حسب موعد معلوم للناس، وإنما تقع فجأة وعلى حين غفلة.. إنها هؤل عظيم، يطلع على غير انتظار من هؤلاء المشركين، الذين يسألون عنها سؤال تهكم واستخفاف.. وفى هذا ما يضاعف بلاءها عليهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 532 «يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها» . كأنك حفى عنها: أي كثير الطلب لها، والسؤال عن وقتها. وهذا يعنى أن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يكن من شأنه أن يتطلع إلى معرفة وقتها المعلوم، وإن كان من دأبه أبدا ذكرها، والإعداد لها.. وفى هذا إنكار على هؤلاء الذين يسألون عن الساعة، ومتى يجىء يومها.. وكان الأولى لهم أن يعملوا لهذا اليوم، ويستعدوا للقاء الله فيه.. «قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» وهذا توكيد لما تقرر من قبل بأن علم الساعة مما استأثر الله به وحده، ولكن أكثر الناس لا يعلمون هذه الحقيقة، ولا يرضون بالتسليم بها، بل يسألون ويلحفون فى السؤال عنها، ولو أنهم عقلوا ما سألوا. وفى التعبير هنا بقوله تعالى: «قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ» على حين كان النظم القرآنى فى هذه الآية نفسها: «قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي» .. مراعاة لاختلاف المقامين.. حيث كان التعبير بلفظ: «عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي» ردّا مباشرا على سؤال السائلين للنبيّ عن ميقات الساعة، وحيث كانوا يحسبون أن ذلك مما يعلمه النبىّ، فجاء الرد عليهم بإضافة العلم إلى ربّ محمد، لا إلى محمد. أما الرد عليهم بقوله تعالى: «عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ» فذلك بعد أن جاءهم العلم بأن علم الساعة ليس مما يطلع عليه «محمد» بل هو مما استأثر به ربّ محمد، وإذن فليعلموا بعد هذا أن الله ربّ العالمين، هو ربّ محمد، وربّ كل مخلوق.. «قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 533 ومن الجهل الذي يستولى على العقول، فيضلّها عن سواء السبيل، أن يرى بعض الناس أن النبىّ إذ كان على صلة بالسّماء، قادر على أن يشارك الله فى سلطانه، وأن يكون بيده ما بيد الله أو بعض ما فى يد الله من قدرة وعلم وسلطان.. ولهذا كان من مقترحات مشركى قريش على النبيّ، أنهم لن يؤمنوا له حتى يأتيهم بما اقترحوا عليه، مما ذكره الله سبحانه وتعالى على لسانهم فى قوله: «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا» (90- 93: الإسراء) . ومن واردات هذا الجهل ذلك السؤال الذي يلحّ به السائلون على النبيّ عن يوم القيامة، ظنّا منهم أن النبىّ غير بشر، وأنه يملك من قوى الغيب ما يجعله عالما بكل شىء، قادرا على كل شىء.. ولو كان النبىّ ممن يعمل لحسابه وممن يطلب المجد والسلطان لنفسه فى الناس- لحمد لهؤلاء الظانين به هذه الظنون رأيهم فيه، ونظرتهم إليه، بل لعمل على الترويج لهذه الظنون، وإذاعتها فى الناس، ليكبر فى أعينهم، ويعظم مقامه فيهم.. ولكنّ النبىّ لا يعمل إلا للحق، ولا يتعامل مع الناس إلا بالحق، ولهذا جاء قوله تعالى: «قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» ليؤذّن به النبي فى الناس، وليريهم أنه بشر مثلهم، لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فالنفع والضرّ بيد الله وحده. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 534 وهذا لا يكون إلا من إنسان قام أمره على الصدق كلّه، فلا يقول إلا ما يوحى إليه من ربّه، ولو كان ذلك مما يشقّ عليه، ويزيد فيما بينه وبين قومه من شقاق. وفى عطف الضر على النفع إشارة إلى أن النبىّ لا يملك لنفسه أي شىء، ولو كان من السّلبيات.. بمعنى أنه لو صح منه العزم على أن يضرّ نفسه ما استطاع أن يصل إلى شىء من ذلك، إلا ما شاء الله له.. وهذا أبلغ فى وصف الإنسان- ولو كان نبيّا- بالعجز، وقصور يده عن أن يبلغ أي شىء إلا ما قدر الله له، ولو كان ذلك الشيء مما يحسب الإنسان أنه ملك خاص له، لا ينازعه فيه أحد، مما لا تنزع إليه النفوس ولا ترغب فيه، كطلب ما يضرّ من الأمور، وهو شيء مقدور عليه بأيسر جهد، بل بلا جهد أصلا.. وحسب من يريد إتلاف نفسه أو إلحاق ضرر بها ألا يتحرك أية حركة، فيجد الشرّ يهجم عليه من كل جهة!! «وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ» . وهذا مثل واضح، شاهد لا يدفع، على أن النبىّ لا يعلم الغيب، إذ لو كان عنده من علم الغيب شيء لعرف عواقب الأمور قبل أن تجىء، ولما اتجه إلى أمر تسوء عاقبته، ولكان كل متجهه دائما إلى ما تحمد عاقبته، وتعظم ثمرته. فمثلا، لو كان يعلم النبىّ من أمر الغيب شيئا لما عرض نفسه على ثقيف قبل الهجرة، ولما تعرض لهذه المواجهة المنكرة التي واجهوه بها، ولجنّب نفسه هذا الأذى الذي أصابه فى جسده وفى مشاعره جميعا! ولو كان يعلم الغيب لما أذن المنافقين الذين جاءوا إليه بأعذار كاذبة للتخلف عن غزوة تبوك. «إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» .. فتلك هى مهمة الرسول، أن يبلّغ ما أنزل إليه من ربّه، منذرا ومبشرا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 535 وفى قوله تعالى: «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» إشارة إلى أن رسالة الرسول إنما تؤثّر أثرها، وتعطى ثمرتها لمن كان على استعداد للتعامل معها والإيمان بها، والانتفاع بالخير الذي تحمله بين يديها.. فكأنّ الرسول- والأمر كذلك- رسول إلى هذا الصنف من الناس، الذين يسمعون، فيعقلون، فيؤمنون.. أما من سواهم من أهل السفاهة والضلال، فليس هو منهم فى شىء، إذ كانت بضاعته كاسدة عندهم، لا يأخذون منها شيئا.. كالأعمى.. ضوء الشمس عنده كظلمة الليل.. فآية الشمس عنده آية غير عاملة..! الآيات: (189- 198) [سورة الأعراف (7) : الآيات 189 الى 198] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 536 التفسير: هنا قضية، تعرضها تلك الآيات، وتقيم الحجة لها وتدحض مفتريات المفترين عليها، وتخرس ألسنة المتمارين فيها.. وهذه القضية، هى قضية الألوهية، وتفرّد الله سبحانه وتعالى بها، أمّا ما سواه، فهو من باطل المبطلين، ومفتريات المفترين. فالله- سبحانه وتعالى- هو الخالق المصور لكلّ مخلوق فى السموات أو فى الأرض.. والإنسان هو من بعض ما خلق الله.. «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها» .. فلينظر الإنسان مم خلق؟ ولينظر كيف كان خلقه، وعلى أية صورة صوّر؟ فهذا العالم البشرى كله، مخلوق من نفس واحدة! والمراد بالنفس الواحدة، الجرثومة أو السلالة التي تكاثر منها هذا النسل، وتوالد، كما تتكاثر وتتوالد حبّات السنبلة من حبّة واحدة، ثم تكون من تلك الحبّات سنابل، ومن تلك السنابلة حبات، ومن الحبات سنابل.. وهكذا.. وفى قوله تعالى: «وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها» إشارة إلى أنّ التزاوج الذي تمّ بين الجرثومة الأولى وأنثاها كان عن توافق بينهما، وتجانس فى الصفات، حتى يكون ذلك داعية إلى اجتماعهما وتآلفهما: «وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها» أي ليجتمع إليها، وليطمئن لها، ويستقر معها.. وقد أشرنا من قبل فى قصة آدم وخلقه «1» أن حواء التي قيل إنها خلقت   (1) انظر الكتاب الأول من هذا التفسير (سورة البقرة) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 537 من ضلعه، ولم تكن إلّا مرحلة من مراحل التطور فى خلق آدم، وأن عملية التكاثر فى تلك المرحلة كانت بانقسام الكائن الحىّ على نفسه، كما هو الشأن فى بعض المخلوقات الدنيا من الديدان. «فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ» . أي فلما اتصل بها زوجها، اتصال الرجل بالمرأة علقت منه بالجنين الذي ولدته بعد أن تم حمله فى بطنها.. وفى التعبير عن اتصال الرجل بالمرأة بقوله تعالى: «فَلَمَّا تَغَشَّاها» أدب من أدب القرآن، وإشارة لطيفة إلى ما يكون بين الزوجين، إذ يغشى الرجل المرأة، أي يكون لها غشاء ساترا، رقيقا، أشبه بالثوب يلبسه الإنسان، أو أشبه بالليل إذ يغشى النهار، ويدخل عليه، فيستر ما فيه من كائنات، ويحجب الأعين عنها. وفى قوله تعالى: حملت «حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ» إشارة إلى أول مراحل الحمل، وأنه يمرّ خفيفا لا نكاد تشعر به. «فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ» أي أنه كلما مرّ الزمن بالجنين فى بطن أمه، نما وكبر، وصار ذا أثر واضح فى حياتها، يتغير به تركيبها الجسدى، فتكبر بطنها، ويثقل خطوها، وهنا يذكر كل من المرأة والرجل أن لهما ولدا محجبا فى ستر الغيب، ستتمخض عنه الأيام، فيضرعان إلى الله أن يكون هذا الولد نبتة صالحة لهما فى هذه الحياة، يجدان فيه قرة العين، وثلج الفؤاد.. وقد قطعا على أنفسهما عهدا أن يحمدا الله ويشكرا له على تلك النعمة. «فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 538 وفى هذا إشارة إلى ما يقع بين المشركين بالله، الذين لا يقدرون الله حق قدره، فيضيفون أولادهم إلى غير الله، ويستمدون لهم أمداد الصحة، والسلامة من غير الله، بما يقدمون من قرابين وصلوات إلى من يتمسحون بهم من أصنام وأشباه أصنام! «فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» أي تنزه الله وعلا وتمجد عن أن يكون له شركاء، يعملون معه، ويشاركون فى تدبير ملكه. «أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ» ؟. فى هذا إنكار على المشركين أن يسوّوا بين الله سبحانه وتعالى وبين هذه المخلوقات، أو المصنوعات، ويتخذونها أربابا لهم. وكيف تسوغ لهم عقولهم أن يشركوا مع الله مخلوقا يخلق ولا يخلق؟ وكيف يرجون نصرا ممن لا يملك أن يدفع عن نفسه ضرّا، أو يجلب لها خيرا؟ ذلك هو الضلال البعيد! وكيف يتعبدون لمن لا يهتدى بنفسه إلى الهدى، ولا يستمع لداع يدعوه إليه.. وسواء إذا دعى إلى الهدى أم لم يدع، فإنه حجر صلد لا يسمع، ولا يجيب: «وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ» ؟. وفى قوله تعالى: «وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ» تشنيع على هؤلاء المشركين، وتسفيه لعقولهم، إذ يجعلون ولاءهم لهذه الدّمى، التي إذا دعاها عابدوها إلى الهدى لا تتبعهم.. وهذا يعنى أن تلك الآلهة قائمة على ضلال، وأنها إذا دعيت إلى الهدى لا تستجيب، لأنها لا تستطيع أن تتحول عن وضعها الذي هى فيه، إلا إذا امتدت إليها يدمن يحولها عن مكانها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 539 وانظر إلى آلهة ضالة يتعبد لها قوم ضالون، ثم يراد لهؤلاء الضالين أن يكونوا دعاة هدى لآلهتهم التي يعبدون؟. إنها أوضاع مقلوبة.. يصبح فيها العابدون قادة وهداة للعابدين.. فبئس العابد والمعبود!. «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» . فهؤلاء الذين يعبدهم المشركون من دون الله- جمادا كانوا أم شياطين أم ملائكة- هم خلق مثلهم، مخلوقون لله، لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا فكيف يكون منهم لغيرهم نفع أو ضرّ؟. وها هو ذا الواقع يكشف عن هذه الحقيقة ويقررها.. فليدع المشركون آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، ثم لينظروا ماذا يبلغ هذا الدعاء منهم؟ هل يسمعون؟ وإذا سمعوا.. هل يعقلون؟ وإذا عقلوا.. هل يقدرون على تحقيق المطلوب منهم؟ وكيف وهم لا يستطيعون لأنفسهم جلب خير، أو دفع ضر؟. وفى قوله تعالى: «فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» هو تسفيه لعقول هؤلاء المشركين، الذين ركبهم الضلال، واستولى عليهم العمى، فاتخذوا هذه الدّمى آلهة لهم من دون الله.. إنهم يفترون الكذب، على أنفسهم، وعلى الله.. فهم المتهمون بهذا الضلال لا آلهتهم التي عبدوها.. ولهذا جاء قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» مخاطبا المشركين ولم يجىء مخاطبا آلهتهم التي أشركوا بها.. ولو كان ذلك لجاء النظم القرآنى.. هكذا: «إن كانوا صادقين» . «أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها؟. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 540 ومن عجب أن هذه الآلهة المعبودة من دون الله، أهون الكائنات شأنا، وأقلها غناء، وأضعفها أثرا.. إنها جماد صامت، ليس فيها حياة، ولا تملك فى وجودها جارحة تعمل، كما تعمل جوارح الكائنات الحية.. فليس لهم أيد يدفعون بها الأذى، ولا أرجل ينتقلون بها من حرور إلى ظل، أو من ظل إلى حرور.. وليس لهم أعين يرون بها ما يرى الكائن الحىّ من الوجود الذي يعيش فيه، ولا آذان يسمعون بها من يدعوهم، أو يلقى إليهم ثناء أو سبابا! فكيف يلقى الإنسان بوجوده بين يدى هذه الجمادات؟ وكيف يعطيها ولاءه وطاعته، وخضوعه؟ أليس ذلك غاية ما يمكن من بلادة الطبع، وسخافة العقل وصغار النفس؟ وقد يجد الإنسان فى مجال الوهم والجهل ما يبرر به عبوديته لكائن أقوى منه وأكثر قوة وسلطانا، ولكن عبوديته لجماد صامت، لا يتسع له عذر أبدا، فى أي باب من أبواب الوهم والجهل!. وقوله تعالى: «قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ» هو تحد من الرسول صلوات الله وسلامه عليه- لهذه الآلهة، وما يدّعى لها عابدوها من آثار عاملة فى الحياة.. فليدع هؤلاء المشركون آلهتهم تلك، وليوجهوها إلى النبىّ- صلى الله عليه وسلم- لترمى بكل كيدها إليه، ولتدفع بكل ما لديها من ألوان الضرّ نحوه، وذلك فى غير انتظار، أو مهل.. ولسوف تكشف هذه التجربة عما يخزى هؤلاء المشركين ويفضح آلهتهم التي يعبدون. «إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ» . فإذا كان هؤلاء المشركون لا يزالون مصرين على ولائهم لهذه الأحجار وتلك الدمى، بعد أن افتضح أمرها، وظهر عجزها- فإن رسول الله يجعل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 541 ولاءه كله لله الذي نزل عليه هذا الكتاب الكريم الذي بين يديه، والله سبحانه وتعالى يتولى من يتولاه، وينصر من يستنصر به ويلوذ بحماه، «وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ» أي ينصرهم ويوفقهم للهدى، ويقويهم على مقاومة الشيطان ودفع كيده!. «وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ» . فهذه هى آلهتكم التي تدعون من دون الله، لا يستطيعون لكم نصرا، لأنهم أعجز من أن ينصروا أنفسهم، فكيف يكون منهم نصر لغيرهم؟ وشتان بين من يدعو الله، ويطلب نصره وعونه، وبين من يدعو هذه الأحجار وتلك الدمىّ. «وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا» . فهذه الآلهة التي يعبدونها من دون الله لا تعقل شيئا، ولا تفرق بين خير وشر فإذا دعاها داع إلى ما فيه خير لم تسمع، ولم تعقل، ولم تعرف ما هو هذا الخير الذي تدعى إليه.. إنها صورة مطابقة لهؤلاء الذين يعبدونهم، فكما لا تعقل هذه المعبودات خيرا، كذلك هؤلاء الذين يعبدونها، لا يعقلون شيئا، فإن دعوا إلى الهدى لا يسمعوه، ولا يستجيبون له، فهم والأصنام سواء بسواء.. «وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» . قد يكون المشار إليهم بضمير الجمع هنا هم أولئك المشركون، أو تلك الأصنام التي يعبدونها، أو هم هؤلاء وأولئك جميعا.. فالمشركون وما يشركون بهم سواء فى أنهم لا يسمعون، ولا يبصرون، ولا يعقلون.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 542 أما الأصنام فلا تسمع ولا تبصر ولا تعقل شيئا أبدا.. إذ كانت جمادا لا حياة فيه، ولا شعور له. وأما المشركون، وإن كانت لهم آذان تسمع، وعيون تبصر، وعقول تعقل، فإنهم لا يسمعون إلا أصواتا، ولا يبصرون إلا صورا، ولا يعقلون إلا أوهاما، ومن هنا كانت حواسهم تلك، معطلة، أو شبه معطلة، لا يفيد أصحابها منها شيئا. الآيات: (199- 206) [سورة الأعراف (7) : الآيات 199 الى 206] خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) التفسير: بهذه الآيات تختم سورة الأعراف، كما بدأت، فتلتقى بالنبيّ الكريم لقاء مباشرا، بعد أن كان مفتتحها ذلك الخطاب الموجه إلى النبىّ بأن يلقى قومه، ويواجههم بآيات ربّه، وبالكتاب الذي نزّله عليه، وإن كان فى ذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 543 القطيعة بينه وبين أهله، إذ لا مهادنة فى الحقّ، ولا حساب لصلات القرابة والصداقة فيه.. «كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ، فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» .. هكذا بدأت السورة.. وبهذا تختتم.. وفيما بين هذين اللقاءين، فى مفتتح السورة ومختتمها، عرضت السورة الإنسان فى معارض الحياة كلها.. كيف خلق الإنسان، وكيف كان تحدّى الشيطان فيه لله، واعتراضه على هذا التكريم الذي كرّم الله الإنسان به، ثم كيف كان عصيان آدم لربّه، وخروجه عن طاعته، ثم ما كان من آدم من ندم وتوبة، وكيف عاد الله بفضله عليه، وقبل توبته، ثم حذّره من الشيطان، وتربصه به، لإغوائه هو وذريته، ودفعهما إلى عصيان الله، والخروج عن طاعته.. ثم جاءت الآيات بعد ذلك لتعرض على أنظار أبناء آدم مشاهد القيامة، وما يلقى الطائعون من نعيم، وما يؤخذ به العاصون من نكال وعذاب، وكيف يستجدى أهل النار أصحاب الجنة، ويمدّون إليهم أيديهم فى لهفة وذلة أن يفيضوا عليهم من الماء أو مما رزقهم الله.. ثم تجىء الآيات بعد هذا فتعرض صورا من مواقف الإنسان مع دعوات الهدى التي يحملها رسل الله إليه، فيلقاها معرضا مستكبرا، ثم كيف كان أخذ الله للظالمين الضالين، الذين عصوا رسل الله وأعنتوهم، ومدّوا ألسنتهم وأيديهم إليهم بالضر والأذى.. ثم تجىء الآيات بعد فضح هذا الشرك الذي هم فيه، وتريهم رأى العين ما عليه آلهتهم التي يعبدونها من ضعف ظاهر، لا تملك معه، أن تتحول من حال إلى حال، ولا أن تنجو بنفسها من أي أذى ترمى به.. وفى هذا العرض ينكشف ضلال المشركين وسفاهة أحلامهم، إذ يعطون وجودهم وولاءهم لهذه الدّمى الصماء.. بعد هذا كله، تجىء خاتمة السورة داعية النبىّ إلى النهج الذي يأخذه فى دعوته إلى الله، بعد أن كان متجه الدعوة إليه فى مفتتح السورة أن ينهض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 544 للدعوة، وليلقى الناس بما أنزل إليه من ربّه- فجاءت الخاتمة هنا لترسم له الطريق الذي يلتزمه فى دعوته.. وهذا الفاصل الممتدّ بين مفتتح السورة وخاتمتها، والذي كان بطبيعة الحال فاصلا بين مادّة الدعوة، وبين المنهج الذي تقوم عليه- هذا الفاصل لم يكن جملة اعتراضية بين مادة الدعوة ومنهجها، وإنما هو- فى الواقع- منهج تطبيقى للدعوة، رأى فيه النبىّ، كما رأى فيه قوم النبىّ، صورا متعددة من الصدام بين الحق والباطل، وكيف كانت مصارع المبطلين، وعاقبة الظالمين. وهذا مما يعين النبىّ على الأخذ بهذا المنهج الذي رسمه الله للدعوة التي أقامه عليها. وقوله تعالى: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» . هو المنهج الذي يسلكه النبىّ مع الناس فى أداء رسالته إليهم، من تبعه منهم ومن عصاه على السواء، وهذا المنهج ذو أصول ثلاثة، يقوم عليها: أولها: المياسرة والرفق، فى أخذ المؤمنين، بأحكام الشريعة، فلا إعنات، ولا إرهاق فى شريعة الله، التي جاءت رحمة لعباده، واستنقاذا لهم من الهلاك.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «خُذِ الْعَفْوَ» أي تقبل من الناس ما تسمح به أنفسهم، ويتسع له جهدهم، مما لا يشق عليهم من أمر أو نهى.. وهذا من شأنه أن يوثق العلاقة بين المؤمنين وبين دين الله الذي دخلوا فيه، حيث يجدون منه وجها سمحا مشرقا، يلقاهم بالصفح الجميل إذا هم أذنبوا، ويفتح لهم باب الرضا والقبول، إذا هم شردوا وضلوا، ثم تابوا، وأنابوا إلى الله من قريب.. وهكذا جاءت شريعة الإسلام، رفيقة بالناس، رحيمة بهم.. ليس فيها ما يعنتهم، أو ينكّل بهم، لأنها لم تجىء إليهم نكالا وانتقاما، وإنما جاءت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 545 إليهم رحمة وإحسانا.. وفى هذا يقول الله تعالى: «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» (1: إبراهيم) ويقول سبحانه: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» (107: الأنبياء) ويقول جلّ شأنه: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (2: الجمعة) .. فالرسالة التي بين يدى رسول الله، هى رسالة خير ورحمة، فلا يكون منها للناس جميعا إلا الخير والرحمة، حتى لأولئك المشركين الذين تصدوا للرسالة وأعنتوا صاحبها، حيث لم يأخذهم الله بما أخذ به الأمم السابقة الذين تحدّوا رسل الله، وكفروا بهم، وبما يدعونهم إليه. وثانيهما: ألا يخرج بالناس عن مألوف الحياة، وطبيعة البشر، وهذا يعنى أن أحكام الشريعة ليست غريبة على الناس، وإنما هى من صميم البناء السليم للحياة الإنسانية، وأنه لو ترك الناس وما تدعوهم إليه فطرتهم السليمة لكان ما تعارفوا عليه، وأخذوا أنفسهم به، هو والشريعة على سواء.. فالشريعة السماوية- فى حقيقتها- ليست شيئا زائدا على الحياة الإنسانية السليمة، وإنما هى تنظيم لها، وضبط لحدودها، وجمع لأصولها التي عرفها الناس فى الحياة.. عن تجربة، وممارسة واختبار.. إن الناس بفطرتهم، يعرفون ما يضرّهم وما ينفعهم، ويفرقون بين ما هو شر وما هو خير.. وهذا ما يشير إليه الحديث الشريف: «الحلال بيّن والحرام بيّن» .. ولكن ليس كل من عرف الشرّ توقّاه، وحرس نفسه منه، وليس كل من عرف الخير أقبل عليه، وأخذ نفسه به، إذ ما أكثر تلك الأهواء التي تتحكم فى الناس، وتغلبهم على ما يدعوهم إليه العقل، وتناديهم به الحكمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 546 ولقد جاءت الشرائع- كما جاءت القوانين الوضعية- لترسم للناس الحدود، وتوضح المعالم، بين الخير والشر، والحق والباطل، ولترصد العقاب الرادع لمن استخفّ بهذه الحدود وعبث بتلك المعالم. فقوله تعالى: «وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ» هو كشف عن وجه من وجوه تلك الشريعة السمحاء، وأنها شريعة إنسانية فى صميمها، تحترم الوجود الإنسانى، وتلتقى بالناس وتتعاطف معهم، فيكون حسابهم عندها قائما على طبيعتهم، وما ركّب فيهم من غرائز، وما استقرّ فيهم من عواطف ومشاعر. فالمعروف، هو ما تتعرف إليه النفوس الطيبة، وتتفتح له الفطر، السليمة، فيقع منها موقع الرضا والقبول، ويصبح من المعروف لها، والمألوف عندها.. وفرق كبير بين ما يتعارف عليه الناس من أهواء، وبدع، ومنكرات، وبين ما يتعارفون عليه من حق، وبر، وخير.. فما كان من واردات الأهواء والبدع والضلال، فإنه وإن فشا فى الناس، وغلب على عامّتهم، هو قلق فى مكانه، غريب فى موضعه، حتى عند أهله المتعاملين به، والمتعاطفين معه.. ذلك أن من يركب الشرّ يعلم أنه على غير الطريق السوىّ، وأنه قائم على منكر، يتطلع إلى اليوم الذي يقهر فيه أهواء نفسه، ودواعى نزواته، ليأخذ طريقه مع الحق والخير، والإحسان.. ومن هنا، كان «الإجماع» فى الشريعة الإسلامية أصلا من أصول الشريعة، ومادة من مواد التشريع لهذه الأمة التي اصطفاها الله سبحانه، لتكون محمل الرسالة الخاتمة لرسالات السماء، إذ كانت كما أرادها الله، «خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» .. وهذا ما يشير إليه قول الرسول الكريم: «لا تجتمع أمتى على ضلالة» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 547 وليس الإجماع فى صميمه إلا ما رضيه أهل الحلّ والعقد من عقلاء الأمة، وأهل الرأى والنظر فيها، وذلك فيما جدّ من أمور لم يكن للشريعة رأى فيه. وهذا من الإسلام، اعتراف بالجماعة الإنسانية، وبحقّها فى المشاركة فى وضع دستور حياتها، الذي رسمت لها الشريعة حدوده.. وفرق كبير بين اعتراف الشريعة الإسلامية بالإجماع، وبين ما تعترف به الديانات الأخرى من سيادة الرئيس الديني لها وحقه فى التشريع.. حيث يقوم الإجماع فى الشريعة الإسلامية على الشورى، التي تعطى كل إنسان حقّه فى إبداء رأيه، وفى قبول ما يقبل، ورفض ما يرفض، على حين تقوم سيادة الرئيس الديني على الاستبداد بالرأى وحده، دون أن يكون لأحد معه حق المراجعة أو المعارضة!! وثالثهما: قوله تعالى: «وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» . وهو من تمام هذا الأدب الربّاني، الذي أدّب الله سبحانه به نبيه صلى الله عليه وسلم، وجعله ملاك أمره فى سياسة الناس، وفى وصل المجتمع الإنسانىّ برسالة الإسلام.. فالإعراض عن السفهاء والجاهلين، تأديب حكيم لهم، وقطع لحبال الملاحاة واللّجاج معهم، وفلّ لأسلحتهم التي لا تحسن العمل إلا فى ميدان السفاهة والجهل.. إذ أنه ليس أرضى لنفوس السفهاء، ولا أهنأ لقلوبهم من أن يجدوا من يمدّ لهم فى حبال السفاهة والجهل، حين يلقى سفاهتهم بسفاهة وجهلهم بجهل.. إنها حينئذ فرصتهم التي تظهر فيها ملكاتهم، وتشحذ بها أسلحتهم، فى هذا الميدان، الذي يصولون فيه ويجولون. ثم إن فى إعراض النبىّ عن السفهاء والجاهلين- فوق أنه حماية له، وحراسة لمقامه الكريم من أن يصيبه رذاذ من هذا الشر المتطاير- إطلاقا للنبى بكل قوته للعمل فى آفاق أكرم وأولى بهذا الخير الذي فى يديه، حيث الجزء: 5 ¦ الصفحة: 548 يكون لقاؤه كاملا مع أولئك الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.. ولهذا عاتب الله- سبحانه- نبيّه الكريم، هذا العتاب الرقيق الجميل، حين أعطى وجهه لهؤلاء الجاهلين المتطاولين من رءوس القوم، طمعا فى هداهم، على حين صرف وجهه عن ابن أم مكتوم- الأعمى- وقد جاء يسأل النبي، ويستزيد من العلم بأحكام دينه، فقال تعالى معاتبا النبىّ هذا العتاب الموصول باللطف والرحمة والإحسان: «عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلَّا.. إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ.» . قوله تعالى: «وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» النزغ: أدنى المسّ، والإلمام بالشيء دون الوصول إلى صميمه.. والمراد بالنزغ الذي يكون من الشيطان للنبىّ، هو أن يدخل على النبىّ فى صفائه وإشراقه، بشىء من ضبابه ودخانه، وهنا يتنبه النبىّ لما وقع فى سمائه الصافية المشرقة، فيعلم أن ذلك من كيد الشيطان، فيستعيذ بالله منه، وإذا الله سبحانه وتعالى معيذ له، صارف عنه كيد الشيطان: «إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» . قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» . والمؤمنون هم الذين أخذوا بهذه السبيل التي أخذها النبىّ عند لمّة الشيطان به.. فهم «إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ» وكاد يستولى على حالهم التي هم فيها مع الله، تذكّروا العداوة التي بينهم وبين هذا الشيطان، وذكروا ما بينهم وبين الله، وعندئذ تنجلى هذه الغمّة عنهم، وينصرف هذا السحاب المتراكم الذي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 549 لفّهم الشيطان به، وإذا نور الهدى يطل عليهم من بين هذا السحاب، وإذا حرارة الإيمان تتحرك فى صدورهم، فتبدّد غواشى هذه السحب، وإذا سماؤهم مشرقة بنور الله.. وإذا هم مبصرون طريقهم إلى الحق والخير.. وفى التعبير بالنزغ فى مقام النبىّ، وبالمسّ وبالطائف فى جانب المتقين، إشارة إلى أن ما يكيد به الشيطان للنبىّ هو شىء عارض، لا يكاد يجاوز اللحظة العابرة، واللمسة المذعورة.. أما ما يكيد به الشيطان للمؤمنين فهو مس يكاد يحتويهم، ويطوف بهم، ويشتمل عليهم.. وذلك لأن النبي الكريم فى مقامه العالي، من التقوى، ومن اليقظة، هو فى حصن حصين، بحيث لا يكاد يجد الشيطان منفذا، وإن وجده فهو أضيق من سمّ الخياط.. وهكذا المؤمنون وما فى قلوبهم من تقوى، فكلما كان رصيد المؤمن من التقوى عظيما، كلما أثر الشيطان فيه ضعيفا، لأن التقوى هى الحصن الذي يحتمى فيه المؤمن من أن يطوف الشيطان به، وكلما كان هذا الحصن متين الأركان، متماسك البنيان كلما ضاقت منافذ الشيطان وسدّت دون كيده الأبواب! قوله تعالى: «وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ» . فهم أكثر المفسرين هذه الآية على أن الإخوان هنا هم إخوان الشياطين، من المشركين وأهل الضلال، وأن الشياطين يمدونهم بالغيّ والضلال، فلا يقصرون، ولا يرجعون عن غيهم وضلالهم، بل يزدادون ضلالا إلى ضلال، وغيا إلى غىّ. والفهم الذي أطمئن إليه فى هذه الآية، هو أن المراد بإخوانهم، هم إخوان المؤمنين، من المنحرفين، وأصحاب الأهواء والبدع، ومن المشركين والضالين.. وأن هؤلاء جميعا هم شياطين مسلطون على المؤمنين، يحاولون جاهدين أن يمدوهم بالغي والضلال، والمؤمنون- مع هذا- فى إعراض عنهم، ولكنهم- مع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 550 هذا- دائبون على هذا الكيد للمؤمنين.. لا يقصرون، ولا ينتهون.. وتسمية هؤلاء الغواة من المشركين والضالين إخوانا للمؤمنين، هو لما بينهم من صلات القرابة والنسب.. ومن جهة أخرى فإن هؤلاء المشركين الضالين، كان من شأنهم- لو عقلوا- أن يكونوا إخوانا لهؤلاء المؤمنين، أخوّة إيمان وتقوى، بعد أن كانوا إخوانا لهم، نسبا وقرابة، ولكن فرّق بينهم هذا الضلال الذي هم فيه.. وقوله تعالى: «وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» . هو عطف على قوله تعالى: «وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ» .. أي أن هؤلاء المشركين إذا لم تأتهم بآية مما يقترحون عليك من آيات، قالوا لك: هلا اجتبيتها، أي اخترتها أنت بنفسك من بين تلك الآيات التي كانت تتنزل على الرسل السابقين، كناقة صالح، وعصا موسى، ويده، ومعجزات عيسى فى إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص؟ فهذه الآيات وأمثالها هى التي نطلب إليك أن تأتينا بواحدة منها أو مثلها، ونحن لا نشق عليك بأن نطلب إليك آية بعينها، بل نترك ذلك لك، لتتخير الآية التي تقدر عليها!! وليس ذلك منهم عن صدق وجدّ، وإنما هو استهزاء، وسخرية، وتحدّ وقاح للنبىّ، وإظهاره بمظهر المغلوب على أمره فى تحدبهم له.. وقد أمر الله نبيّه الكريم أن يلقاهم بقوله تعالى: «قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ» أي أننى لست إلا رسولا من الله إليكم، أبلغكم ما أرسلت به، وأنه ليس ممّا لى أن آتى لكم بما لم ينزّله علىّ ربّى، ويأذن لى به.. «إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ» .. فلو أنكم أيها المشركون قدرتم الله حقّ قدره الجزء: 5 ¦ الصفحة: 551 لما جعلتم إلى عبد من عباد الله- ولو كان رسولا من رسله- أن يكون له شأن مع الله، وأن يأتى بآيات ومعجزات لم يضعها الله سبحانه فى يده، ولم يأذن له بها.. ثم ما لكم- أيها المشركون الضّالون- تطلبون الآيات، وتقترحون منها ما تمليه عليكم أهواؤكم؟ وهذا كتاب الله، وتلك آياته بين أيديكم لو أنها وجدت منكم آذانا صاغية، وقلوبا واعية، لاستغنيتم بها عما تطلبون من آيات ماديّة تلمسونها بأيديكم، فتبهر عقولكم بأفعالها القاهرة المعجزة؟ وفى كل آية من آيات الكتاب الكريم معجزة قاهرة متحدية، تخشع لجلالها القلوب، وتعنو لروعتها الوجوه، ولكن لا ينكشف منها هذا الجلال، ولا تتبيّن منها تلك الروعة إلا لأصحاب البصائر السليمة، التي تتهدّى إلى الحق، وتتّبع آثاره، وتستجيب لدعوته.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» فالبصائر: جمع بصيرة، والبصيرة بمعنى باصرة، أي أنها عيون مبصرة لمن ينظر بها إلى هذا الوجود، ويتخذها دليله وهاديه فى الحياة.. إنه لن يضلّ معها، ولن يجد فى صحبتها غير الهدى والرحمة.. هذا لمن يؤمنون بها، ويصحبونها على وفاق، لا لمن يمكرون بآيات الله، ويتخذونها لهوا ولعبا. وقوله تعالى: «وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» هو إشارة إلى ما ينبغى أن تكون عليه صحبة آيات الله، لمن يبغى الخير منها، ويطلب الهدى عندها.. إنها لا تعطيه من خيرها، ولا تمدّه من أضوائها، إلا إذا أعطاها حقّها من الاحترام والتوقير، فإذا استمع إليها، وهو يتلوها على نفسه، أو يتلوها عليه غيره، وأنصت لها، وأخلى حواسّه وجوارحه وكيانه كلّه من أي شاغل يشغله عنها- عندئذ يؤذن له الجزء: 5 ¦ الصفحة: 552 أن يفيد منها، وينتفع من الخير المخبوء فى كيانها، وفى هذا ما يدنيه من ربّه، ويقرّبه من رحمته. وقوله سبحانه: «وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ» .. هو خطاب للنبىّ الكريم، ينضوى تحته المؤمنون جميعا.. ومطلوب هذا الخطاب، هو ذكر الله، وشغل القلب به، فى صمت وخشوع، وفى ضراعة لكبرياء الله، وخوف ورهب لسطوته وجبروته. وهذا هو ذكر القلب، حيث تسكن كل جارحة، وحيث يكون الإنسان كله مشاعر خاشعة، تلين بها الجلود، وتفيض منها العيون، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ. مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ» (23: الزمر) . وهناك ذكر باللسان، هو فى درجة بعد هذه الدرجة، ومنزلة دون تلك المنزلة، التي هى من شأن القلب وحده.. وليس الذكر باللسان مجرد أصوات تردّد بكلمات الله وآياته، فإن مثل هذا الذكر لا محصّل له، ولا ثمرة وراءه.. وإنما يكون ذكر اللسان موردا من موارد الخير، وطريقا قاصدا إلى الحق والهدى، حين يستملى من قلب خاشع، ويتلقّى من مشاعر مجتمعة ساكنة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ» .. فهو معطوف على قوله تعالى: «فِي نَفْسِكَ» أي اذكر ربّك فى نفسك تضرّعا وخيفة ودون الجهر من القول» .. بمعنى: واذكر ربّك بلسانك كما ذكرته بقلبك، ولكن بصوت خفيض ضارع تناجى فيه ربّك، فى غير ضوضاء أو جلبة، وفى هذا استجماع للقلب، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 553 واستحضار لما عرب من سوانحه وخواطره، فكما فى ذكر الله بالقلب دون اللسان إتاحة الفرصة للقلب أن يصغى إلى نداءاته المنبعثة من داخله، كذلك فى ذكر الله باللسان هو إيقاظ للقلب بتلك الكلمات الرقيقة الهامسة التي تربت عليه فى رفق وتناد به فى عطف ولين. والغدوّ: جمع غدوة، وهى أول النهار، والآصال: جمع أصائل، والأصائل: جمع أصيل، وهو الساعة الأخيرة من النهار. والمراد بالغدو والآصال، ليس هو قصر ذكر الله فى هذين الوقتين، وإنما المراد هو شغل القلب واللسان بذكر الله، ذكرا دائما متجددا، بحيث يخلى الإنسان نفسه من الشواغل ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ليكون بينه وبين الله تلك اللقاءات المسعدة، التي يجدّد فيها إيمانه، ويقوّى بها صلته بخالقه.. ولهذا جاءت خاتمة الآية بهذا الأمر الكريم: «وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ» . وأما السر فى اختيار هذين الوقتين، فلأنهما أصلح الأوقات وأنسبها لذكر الله، واستحضار جلاله وعظمته. ففى أول النهار يتزود الإنسان بهذا الزاد الطيب، الذي يغذّى به مشاعره وأحاسيسه، ويشحن به عواطفه ونوازعه.. ثم يخرج إلى الحياة، ومعه هذا الرصيد العظيم من أمداد الله، ورحماته، فيواجه الحياة بقلب سليم، وعزم موثق، ولسان عفّ، ويد نقية.. فيكون من هذا كله فى حراسة أمينة يقظة، فلا يزلّ ولا ينحرف!. فإذا كان آخر النهار، كان له إلى نفسه عودة ومراجعة، فيعرضها على الله، ويصلح ما وقع لها من خلل أثناء رحلتها مع الحياة طوال اليوم.. وبهذا يظل المؤمن المتصل بالله هذا الاتصال- يظل على الصحة والسلامة أبدا، فيقطع العمر، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 554 معافى فى دينه، سعيدا فى دنياه، طامعا فى رضى الله ورضوانه، يوم يقوم الناس لربّ العالمين.. وقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ» . هو بيان للصورة المثلى لعبادة الله، والتي ينبغى أن ينشدها المؤمن، ويعمل لها، ويستعين الله على بلوغها.. والصورة هنا هى لملائكة الرحمن الذين هم أقرب خلق الله إلى الله.. فهم مع هذا القرب، وفى تلك المنزلة التي هم فيها، لا يفترون عن عبادة الله، بل هم على عبادة دائمة، وذكر متصل، بين تسبيح، وسجود. وفى قوله تعالى: «لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ» إشارة إلى أن هذه المنزلة التي لهم عند الله، لم تدخل عليهم بشىء من الكبر والإدلال على الله، حيث لا متطلع لهم إلى منزلة غير تلك المنزلة، بل إن ذلك كان داعية لهم إلى دوام العبادة، ومواصلة التسبيح، حمدا لله على ما هم فيه، وشكرا له على ما أنعم به عليهم، واستدامة لتلك النعمة. وإذا كان هذا هو شأن هؤلاء العباد المكرمين، فأولى بمن هم دونهم درجة، أو درجات أن يجتهدوا فى العبادة، وأن يسعوا السعى الحثيث إلى الله، بالذكر والتسبيح، حيث لا يزال أمامهم مدى فسيح يسعون فيه إلى الله، لينالوا عنده درجات فوق درجات.. هذا، ويصح أن يكون المراد بالذين عند ربك، هم الذين اصطفاهم واختارهم من بين الناس، وهم المؤمنون الذين عرفوا الله حق معرفته، فأخلصوا له دينهم، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 555 وأسلموا له وجودهم، فعبدوه فى ولاء وخشوع، لا يسبحون غيره ولا يسجدون سواه.. ومعنى أنهم عند الله، أي من أهل ودّه، ورضاه.. كما يقول سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا..» . وهذا المعنى الذي ذهبنا إليه- مخالفين فى ذلك ما أجمع عليه المفسرون- هو المناسب لسياق النظم القرآنى، حيث كانت الآية السابقة على هذه الآية دعوة إلى ذكر الله، على تلك الصورة التي تؤهل الذاكر لأن يكون من أهل الله، ومن عباده المكرمين.. وهى قوله تعالى: «وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ» .. فهذا الذكر هو الذي يقرب الإنسان من ربه، ويرفعه إلى هذا المقام الكريم، وإنه لن يرتفع إلى هذا المقام إلا من ذكر الله هذا الذكر، فلا يستكبر عن عبادة الله، ولا يولّى وجهه إلى غيره فى تسبيح أو سجود.. ثم إن هذا المعنى يناسب مطلع السورة التي جاءت تالية لسورة الأعراف وقد جاء فى هذا المطلع قوله تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» . (2- 4: الأنفال) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 556 8- سورة الأنفال نزولها: نزلت بالمدينة فى أعقاب غزوة بدر فى السنة الثانية من الهجرة، وتسمى سورة «بدر» . عدد آياتها: سبع وسبعون آية. عدد كلماتها: ألف ومائة وخمس وتسعون كلمة. عدد حروفها: خمسة آلاف ومئتان وثمانون حرفا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الآيات: (1- 4) [سورة الأنفال (8) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) التفسير: كانت غزوة بدر أول موقف وقفه المسلمون إزاء الغنائم التي وقعت لأيديهم من يد أعدائهم فى ميدان القتال.. ولهذا اضطربت مشاعر المسلمين فيها، واختلفت أنظارهم عليها.. فمن قائل إنها لمن جمع الغنائم وحازها ليده، ومن قائل إنها لمن قائل والتحم بالعدو.. ومن قائل- إنها لمن شهد القتال، قاتل أو لم يقاتل، حاز غنيمة أو لم يحزها.. ومن قائل إنها للجماعة الإسلامية التي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 557 كانت تضمها المدينة.. وهكذا توزعت مشاعر المسلمين وعواطفهم، فى مواجهة هذا الطارق الغريب، الذي أطلّ عليهم بوجهه، لأول مرة.. ولو ترك هذا الموقف للمسلمين يقضون فيه برأيهم، ويلتقون فيه على رأى، لما كان فى هذا ما يحسم الموقف، ويجمع هذا العواطف المشتتة، وتلك النوازع المختلفة.. فإن أي رأى يلتقى عنده المسلمون، لم يرض نفرا منهم أيّا كان عدده.. وتلك لا شك ثلمة فى بناء الجماعة التي لا تزال على أول الطريق، فى استكمال كيانها، ودعم بنائها، بل هو صدع فى هذا البناء، تزيده الأيام عمقا واتساعا، إن لم يكن فى الحساب توقّيه قبل أن يقع.. حتى يحفظ هذا الجسد سليما معافى من أيّة آفة، تندس إليه، وتنفث سمومها فيه. ولهذا جاءت كلمة الفصل من السماء، حتى لا يكون لقائل قول، ولو كان الرسول الكريم نفسه، والذي لو قال كلمة هنا لتلقاها المسلمون بالقبول والرضا، ولسكن عندها كل خاطر، ولماتت بعدها كل نازعة أو وسواس، لما للرسول فى نفوس المسلمين من حب وطاعة، وولاء.. إذ كانوا على يقين، بأنه- صلوات الله وسلامه عليه- لا يقضى إلا بالحق، ولا يقول إلا بما أراه الله: «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى» . ومع هذا، فإن حكمة الحكيم العليم اقتضت أن تكون كلمة الله هى القضاء الفصل فيما اختلف فيه المسلمون، حتى يعودوا من هذه المعركة، وقد خلت نفوسهم من أي همّ من هموم الدنيا، وحتى يكونوا جندا خالصا لدين الله، لا يجاهدون إلا فى سبيل الله، وفى إعلاء كلمة الله، دون التفات إلى شىء من هذه الدنيا، وما يقع لأيديهم من مغانم الحرب.. فتلك المغانم- وإن كثرت- لا حساب لها فى هذا الوجه الكريم الذي يتجه إليه المجاهدون فى سبيل الله.. ومن أجل هذا، كان حكم الله قاضيا على المجاهدين بألّا شأن لهم بهذه الغنائم، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 558 وأن أمرها إلى الله، ثم إلى رسول الله يضعها حيث يشاء، ويتصرف فيها كما يرى.. تلك هى كلمة الله، وهذا هو قضاؤه.. «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ.. قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ» . وانظر كيف كانت الحكمة فى هذا الحكم، وهذا التدبير الحكيم.. لقد كان ذلك أول الإسلام، ومع أول تجربة يقع للمسلمين فيها خير مادىّ، بعد أن احتملوا ما احتملوا من أذى وضر فى أموالهم وأنفسهم.. ولو كان الذي حدث فى بدر جاريا مع موقع النظر الإنسانى، لكان أول ما يتبادر إلى العقل هو التمكين للمسلمين الذين قاتلوا، أن يحوزوا هذه الغنائم، ليكون منها بعض العزاء لما ذهب منهم، سواء أكانوا مهاجرين أو أنصارا.. حيث هاجر المهاجرون تاركين وراءهم الديار والأموال، وحيث شاطرهم الأنصار ديارهم وأموالهم..! ولكن تدبير الله يعلو هذا التدبير، وحكمته تقضى بغير ما يقضى به هذا النظر البشرى المحدود.. فلو أن المسلمين شغلوا أنفسهم من أول خطوهم بهذه الغنائم، لكان فى ذلك جور على الدعوة التي دعاهم الله إليها، وندبهم لها، ولكان حسابهم معها قائما على الريح والخسارة فى جانب الدنيا، أكثر منه فى جانب الدين..! ولهذا، جاء أمر الله قاطعا على المسلمين هذا الطريق، آخذا على أيديهم أن تمتدّ إلى تلك الغنائم، التي جعلها الله سبحانه له، ثم وضعها بين يدى رسوله.. إنهم مجاهدون فى سبيل الله وحسب، باعوا أنفسهم لله، ورصدوها للجهاد فى سبيله.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 559 أما الغنائم فأمرها خارج عن هذا العهد الذي عاهدوا الله عليه.. فإذا جاء بعد هذا قضاء من عند الله فى شأن ما يقع للمجاهدين من غنائم. وإذا جعل الله للمقاتلين نصيبا مفروضا فيها، فذلك فضل من الله، ومنّة منه على عباده، وبهذا يظل المجاهدون على هذا الشعور الأول الذي أقامهم الله عليه، وهو أن تلك الغنائم هى لله ولرسوله، وأن ما فرض لهم بعد ذلك هو استثناء من الحكم الأصلىّ، جاء برّا بهم، ورحمة لهم.. ومن أجل هذا، فإنه بعد أن انتهت معركة بدر، ومغانمها، وعاش المسلمون مع تلك التجربة زمنا كافيا، اطمأنوا فيه إلى ما تقرر من ألّا شىء لهم فيما يغنمون- جاء حكم الله بعد هذا مقررا لهم نصيبا مفروضا فيما يغنمون، وفى هذا يقول الله تعالى فى هذه السورة: «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» . وقوله تعالى: «قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» . فقوله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» هو تعقيب على هذا الحكم الذي تلقاه المسلمون من الله فى شأن غنائم بدر.. وفى دعوتهم إلى تقوى الله تذكير لهم بالله الذي استجابوا لدينه، ودخلوا فيه، وقاتلوا فى سبيله، فإذا ذكروا هذا، فاءوا إلى السّلامة والعافية، وأقاموا وجوههم على الوجه الذي استقبلوا به الإسلام من أول يوم.. موطنين الأنفس على احتمال الضرّ، والصبر على المكاره، ولم يقع فى نفوسهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 560 شىء من هذه المشاعر، التي وقعت لهم بين يدى تلك الغنائم، قبل أن يتلقوا حكم الله فيها.. ومن هنا جاء أمر الله إليهم بعد ذلك بقوله: «وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ» أي حيث أخليتم أنفسكم من هذا المتاع الذي كان سببا فى التنازع والاختلاف بينكم، فعودوا إلى ما كنتم عليه، إخوانا مجاهدين فى سبيل الله، لا تبتغون بذلك إلا رضا الله ورضوانه.. ثم جاء قوله تعالى بعد هذا: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» أمرا بالطاعة المطلقة، والتسليم الخالص لله، ولرسوله.. فذلك هو شأن المؤمنين، إذ لا إيمان بغير طاعة وتسليم..! قوله تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» . هو كشف للصورة الكريمة للمؤمنين، يعرضها الله سبحانه، لأولئك الذين دعاهم الله إلى طاعته وطاعة رسوله، فى شأن هذه الغنائم ليدخلوا فى عداد المؤمنين، بما استقبلوا به أمر الله سبحانه من طاعة ورضى. فالمؤمن حقا، هو الذي يخشى الله ويتّقيه، فإذا ذكر الله، أو ذكّر به امتلأ قلبه خشية ووجلا- أي خوفا- من جلاله وسطوته، وإذا تلى آيات الله أو تليت عليه، خشع لها، وأشرق قلبه بنورها، فازداد بذلك إيمانا على إيمان، ثم انتهى به ذلك إلى أن يكون عبدا ربّانيا، يسلم أمره كله لمن بيده الأمر كلّه.. وقوله تعالى: «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» .. هو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 561 استكمال لتلك الصورة الكريمة للمؤمن.. فلا يكتمل إيمان المؤمن حتى يقيم الصلاة على وجهها، ويؤديها فى خشوعها وخضوعها، ولا يكمل إيمانه حتى يكون- مع إقامة الصلاة- من المنفقين مما رزقه الله، فى وجوه البرّ والإحسان.. فإذا فعل المؤمن ذلك، فأطاع الله ورسوله، وذكر الله خاشعا متضرعا، وتلا آياته وجلا خائفا، وأقام الصلاة، وأنفق مما رزقه الله فى سبيل الله- إذا فعل ذلك كان من المؤمنين حقّا.. أي كان مؤمنا ظاهرا وباطنا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» . فالمؤمن إيمانا كاملا، ظاهرا وباطنا، هو فى مقام كريم عند ربه، يحفّه بمغفرته ورحمته، ويفيض عليه من إحسانه وفضله.. ويلاحظ هنا أن هذا العرض للمؤمنين، وما ينبغى أن يكون عليه إيمانهم بالله، هو- وإن كان مطلوبا لكل مؤمن بالله، فى جميع الأحوال والأزمان- هو من المطلوبات التي استدعتها تلك الحال التي كان عليها المؤمنون بعد معركة بدر، فى مواجهة الغنائم التي وقعت لأيديهم فى هذه المعركة. فلقد أثارت تلك الغنائم غبارا كثيرا فى آفاق المسلمين، فكان من تدبير الله لهم، وصنيعه بهم، أن أجلى هذا الغبار من سمائهم، وعرض عليهم تلك الصورة الكريمة للمؤمنين، وأراهم- سبحانه- أنه يدعوهم إليه، ويرسم لهم الصورة التي ينبغى أن يكونوا عليها، وهم يستجيبون له، ويقبلون عليه.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 562 الآيات: (5- 8) [سورة الأنفال (8) : الآيات 5 الى 8] كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) التفسير: قوله تعالى: «كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ» - هو طرف من طرفى تشبيه، وقد تقدم المشبّه، والكاف هنا داخلة على المشبه به.. والصورة التي قام عليها التشبيه هنا، هى تشبيه حال بحال.. فالحال التي كان عليها المؤمنون، من اضطراب واختلاف، عند ما وقعت لأيديهم غنائم بدر، هى كالحال التي كانوا عليها حين خرجوا مع النبىّ لملاقاة قريش، وقد وعدهم الله إحدى الطائفتين: إما العير التي كان يقودها أبو سفيان وفيها أموال قريش وتجارتها المقبلة من الشام، وإما النفير، وهو الجيش الذي قاده أبو جهل لينقذ به العير من يد النبىّ وأصحابه، وليثأر لكرامة قريش، حيث كان التصدّي لقوافل تجارتها، امتهانا لها، وتحديّا لمكانتها العرب.. كما كانت تفكر وتقدّر! وقد خرج المؤمنون- من مهاجرين وأنصار- مع النبي على نية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 563 للعير، وقطع الطريق على قريش فى تجارتها مع الشام، انتقاما لما فعلته مع المهاجرين، حين أخرجتهم من ديارهم وأموالهم. وكان خروج المسلمين على وجه المبادرة والاستعجال، حتى لا يفوتهم أبو سفيان والعير التي معه، ولهذا كان الذين خرجوا لهذا الوجه نحو ثلاث مئة، ليس فيهم إلا فارس واحد، وقيل فارسان، أما الباقون فكانوا رجّالة، لا يحمل أحدهم معه غير سيف أو رمح. وقد استطاع أبو سفيان أن ينجو بالعير، ويفلت من يد المسلمين، حين أخذ طريقا غير الطريق الذي اعتادت القوافل أن تسلكه بين مكة والشام.. وتلفّت المسلمون فإذا هم وجه لوجه مع قريش التي جاءت لتستنقذ عيرها، ولتنتقم لكرامتها ممن تصدّوا لها.. وكانت قريش فى أكثر من ألف مقاتل، بينهم أكثر من مائة فارس، والمسلمون- كما علمت- نحو ثلاث مئة ليس فيهم إلا فارس، أو فارسان!. ونظر المسلمون فإذا هم بين أمرين: إما الحرب، وهى تعنى بالنسبة لهم الفناء، والاستئصال.. وإما الفرار، وما معه من خزى وعار.. ولكن إلى أين يفرون؟ إلى المدينة؟ وهل يبعد على قريش أن تدخلها عليهم، وتهلك الحرث والنسل؟ وفى المدينة عدو يتربص بهم هم اليهود الذين يفتحون لقريش حصونهم، ويمدونهم بالعتاد والسلاح!؟ وإذ كان الموقف على هذين الاحتمالين، اللذين لا بد من أحدهما، فقد رأى النبىّ أن يستشير أصحابه، ويسألهم الرأى فيما يأخذون من أي هذين الأمرين.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 564 فجمع- صلوات الله وسلامه عليه- أصحابه إليه، وقال: «أيها الناس أشيروا علىّ!» . وصمت الجميع.. لا يدرون ما يقولون.. وإن كان مع كل واحد منهم قولا يقوله.. إنهم خرجوا على غير أهبة واستعداد، ولم يكن الوقت الذي خرجوا فيه مسعفا للكثير منهم أن يخرج معهم.. لقد كان الموقف حرجا، اضطربت فيه القلوب، واختلطت معه المشاعر، وغامت فيه الرؤية الكاشفة حتى لم يعد أحد يدرى أين موقفه، وأين مجتمع رأيه! .. تماما كما كان ذلك بعد أن وقعت غنائم بدر لأيديهم..! وعاد النبيّ الكريم يسأل أصحابه: «أيها الناس أشيروا علىّ» .. وكانت عين الرسول صلوات الله وسلامه عليه تتطلع إلى الأنصار.. إذ كانوا هم كثرة الناس، وأصحاب البلد الذي يواجه الخطر، ويتلقى الضربة القاضية، كما أنهم حين بايعوا النبي قبل الهجرة، كانت بيعتهم أن يمنعوه فى بلادهم مما يمنعون منه أنفسهم وأبناءهم ونساءهم. ولم يكن فى البيعة أن يقاتلوا معه مهاجمين. وجاءت كلمة الأنصار، فقال سعد بن معاذ: «لكأنك تعنينا يا رسول الله؟ قال: «أجل» ، فقال: قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع الطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر، فخضته، لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد ... » الجزء: 5 ¦ الصفحة: 565 فاستبشر رسول الله بهذا القول الذي جاء على لسان الأنصار، ونطق به رجلها.. وبهذا كان الحسم لهذا الموقف المائج المضطرب.. تماما كما كان حكم الله فيما حكم به في شأن الغنائم التي وقعت للمسلمين بعد هذه المعركة.. حيث سكنت النفوس، واجتمع الرأى الشتيت. ومن هنا صح أن يقع التشبيه بين الحالين: حال المسلمين فى مواجهة العدو بعد أن دارت رءوسهم، واضطربت قلوبهم.. وحالهم فى الغنائم، بعد أن اختلفت آراؤهم فيها، واضطربت مشاعرهم حيالها.. وانظر كيف أمسكت كلمات الله، بكل خالجة كانت تختلج فى نفوس القوم هنا، وهناك.. فى مواجهة العدو، ثم فى مواجهة الغنائم.. ففى مواجهة العدو.. لم يكن المسلمون يتوقعون أن تقع حرب، أو يدور قتال بينهم وبين المشركين.. لقد خرجوا يطلبون العير، ويأخذون ما يقع لأيديهم مما تحمل من أموال ومتاع.. فكان أن جاء الأمر على غير ما قدّروا، فأفلتت من أيديهم العير، وفاتهم ما منّوا أنفسهم به منها.. فواجهوا المعركة، والتحموا فى القتال.. وفى مواجهة الغنائم والأنفال: كان المقاتلون يقدّرون أن ما وقع لأيديهم منها، هو خالص لهم، وأنه لن يخرج شىء منها إلى غيرهم.. فكان أن جاء الأمر على غير هذا التقدير الذي قدّروا، وخرجت الغنائم كلها من أيديهم، حيث وضعها الله سبحانه، فى يد الرسول صلوات الله وسلامه عليه.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 566 وهكذا يصنع الله للإسلام، فيقيم وجه أنصاره على أمره وحده، لا يلتفتون معه إلى شىء آخر غيره.. فمن كان على نيّة الإيمان بالله والجهاد فى سبيله، فهذه هى سبيله: أن يصرف وجهه عن الدنيا، وأن يوطّن نفسه على الجهاد خالصا لله، لا يبغى به إلّا وجه الله، ولا يطلب إلا مثوبته ورضوانه.. ففى قوله تعالى: «كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ» إلفات للمسلمين الذين كسبوا المعركة، وحازوا ما كان مع قريش من سلاح، ومتاع ثم صرفهم الله عن هذا السلاح والمتاع- إلفات لهم إلى تلك الحال التي كانوا عليها، بعد أن صرف الله عنهم العير، وجعلهم وجها لوجه مع العدوّ فى ميدان القتال.. فهذه من تلك، سواء بسواء.. والبيت الذي خرج منه النبىّ هنا، هو المدينة.. فهى بيته- صلوات الله وسلامه عليه- الذي يأوى إليه، ويقرّ فيه. وخروجه- صلوات الله وسلامه عليه- بالحق، أي للحقّ، ومن أجل الدفاع عن قضيّة الحق.. وليست قضية الحق هى هذا المتاع الذي كانت تحمله العير، ولا هذه الأنفال التي خلصت لأيدى المسلمين، وإنما قضية الحق هى إعلاء كلمة الله، وإزاحة العقبات التي تقف فى وجه الدعوة إلى الله، بمحاربة أولئك الذين يحاربون الله، ويصدّون الناس عن سبيله. والحقّ دائما ثقيل الوطأة على الناس، إلّا من رزقهم الله الإيمان الوثيق، والعزم القوىّ، وأمدّهم بأمداد لا تنفد من الصبر على المكاره، والقدرة على احتمال الشدائد.. إذ الحق- فى حقيقته- مغالبة لأهواء النفس، وتصدّ لنزعاتها، وإيثار للآخرة على الدنيا، وذلك من شأنه أن يجعل الإنسان فى حرب متصلة مع نفسه، حتى إذا أقامها على الحق، وأسلم زمامها له، كان عليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 567 أن يواجه النّاس، وأن يجاهد فى سبيل الحقّ الذي عرفه، وآمن به، فيكون حربا على المنكر، بقلبه، ولسانه، ويده.. ومن هنا كان الصبر قرين الحقّ فى كل دعوة يدعو إليها الإسلام، فى مجال الخير، والإحسان، وفى كل ما من شأنه أن يقيم الإنسان، والإنسانية، على صراط مستقيم.. ففى الدعوة إلى الصفح والمغفرة ودفع السيئة بالحسنة، يكون الصبر هو عدّة من يمتثلون هذه الدعوة، ويقدرون على الوفاء بها، إذ يقول الله تعالى: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» ثم يقرن- سبحانه- تلك الدعوة بقوله تعالى: «وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» (24- 25: السجدة) . وفى تنبيه الإنسان إلى الخطر الذي يتهدّده من تسلّط أهوائه، ووسوسة شيطانه، حيث يقول سبحانه: «وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ» لا يستثنى- سبحانه وتعالى- أحدا من الصيرورة إلى هذا المصير «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» (سورة العصر) . وفى قوله تعالى: «كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ» - فى هذا إشارة إلى ما وقع فى نفوس فريق من المؤمنين- لا كل المؤمنين- من مشاعر الكراهية، حين عدل بهم عن وجهتهم التي اتجهوا إليها لاقتناص العير، والاستيلاء على ما تحمل من مال ومتاع، إلى حيث يلقون قريشا وجيشها الجرار فى ميدان القتال.. ولهذا كان منهم هذا الجدال الذي تعللوا به للنكوص عن لقاء العدوّ، فقال قائلهم: ما خرجنا للقتال، ولا أخذنا أهبتنا له، ولاصحبنا إخوانما الذين خلفناهم وراءنا إليه! الجزء: 5 ¦ الصفحة: 568 والسؤال هنا: كيف يجادلون فى الحق بعد ما تبين لهم؟ وكيف يكونون مؤمنين مع هذا؟ وهل من شأن المؤمن أن يجادل فى الحق إذا عرف وجهه، واستبان له طريقه؟ والجواب: أن الحقّ- وهو قتال المشركين- كان أمره ظاهرا لهم، بعد أن أفلتت منهم العير، إذ كان الله- سبحانه- قد وعدهم على لسان نبيّه الكريم بأنّهم سيظفرون بإحدى الطائفتين، إما العير، وإما النفير.. فلما أفلتت منهم العير، لم يبق إلا النفير والحرب.. فهذا حق مستيقن لهم، لاخفاء فيه. ولكن يقوم إلى هذا الحق، تلك الرغبة القوية التي كانت مستولية على المؤمنين من قبل، وهى الاستيلاء على العير، وذلك شأن النفس دائما حين يكون خيارها بين أمرين، أحدهما محبوب، والآخر مكروه.. فإنها حينئذ لا تلتفت إلى غير المحبوب، حتى ليصبح المكروه عندها كأنه غير مفترض أصلا، فتنساه، أو تتناساه.. فإذا فاجأها هذا المكروه الذي أخرجته من حسابها وتقديرها، كان وقعه شديدا عليها، حتى لكأنه حدث طارئ لم تكن تتوقعه.. ومن هنا يكون إنكارها أو تنكرها له. ولهذا جاء قوله تعالى: «كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ» - جاء كاشفا عن تلك الحال التي استولت على بعض المؤمنين، الذين وجدوا أمر القتال ثقيلا باهظا، حيث تمثلت لهم مصارعهم، وشهدوا الموت عيانا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى بعد هذه الآية: «وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 569 فالطائفتان: هما.. العير والنفير.. وقوله تعالى: «أَنَّها لَكُمْ» هو وعد للمؤمنين بأنه ستقع ليدهم إحدى هاتين الطائفتين: العير أو النفير.. وذات الشوكة: أي صاحبة الشدّة والبلاء، وهى «النفير» ووصف النفير بأنه ذو شوكة، لما يلقاه المسلمون فى لقاء النفير من أذى وضر.. إنه القتال والقتل!! وفى قوله تعالى: «وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ» - ما يسأل عنه.. وهو: ما هى كلمات الله التي يحقّ بها الحق، ويقطع بها دابر الكافرين؟ والجواب- والله أعلم- أن المراد بكلمات الله هى أحكامه التي يقضى بها فى خلقه، وأن تلك الأحكام تصدر بقوله- سبحانه- للشىء: كن فيكون، وكل قول لله تعالى، هو حقّ، يحق به حقّا، أي يقيمه، ويظهره.. فإذا قام الحقّ بطل الباطل.. ومعنى آخر لكلمات الله هنا، أحبّ أن أشير إليه، وهو أن المؤمنين الذين يعملون على إحقاق الحق، ويقاتلون فى سبيله، هم أنفسهم كلمات الله، قد جعل الله إليهم الانتصار للحق، وإعلاء كلمته، وإبطال الباطل، وإزهاق أنفاسه.. وفى هذا تكريم للمؤمنين، وإعلاء لقدرهم، ورفع لمنزلتهم، بحيث كانوا كلمات الله، وجند الله.. بهم يحقّ الحقّ ويبطل الباطل، ولو كره المجرمون.. وإرادة الله لا شك غالبة قاهرة. ومن هنا كان النصر دائما للحق، وكان الغلب دائما للمحقين، وفى هذا يقول الله تعالى: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» . ودابر الكافرين: دابر الشيء آخره، والمراد به قطع آخرهم واستئصالهم جميعا، إذ كان أولهم هو الذي يتلقى الضربة، فإذا بلغت تلك الضربة آخرهم كان معنى ذلك القضاء عليهم جميعا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 570 الآيات: (9- 11) [سورة الأنفال (8) : الآيات 9 الى 11] إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) التفسير: يتعلق الظرف «إذ» بقوله تعالى: «وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ» أي إنّ إرادة الله بإحقاق الحق بكلماته، وقطع دابر الكافرين- قد رأيتم تحقيقها فى هذا الوقت الذي كنتم تستغيثون فيه ربكم، وقد التقيتم بالمشركين فى كثرتهم، وقلتكم.. وقوله تعالى: «فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ» أي حين واجهتم العدو، وأفزعتكم كثرته، وفزعتم إلى الله أن يمدكم بنصره- استجاب لكم ربكم، وأمدكم بألف من الملائكة مردفين، أي يردف بعضهم بعضا، ويجىء بعضهم إثر بعض. وقوله سبحانه: «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» الضمير فى «جعله» يعود إلى هذا المدد السماوي.. أي ما جعل الله هذا المدد السماوي الذي أمدكم به إلا بشرى للنصر الذي وعدكم به، ولتطمئن به قلوبكم، فلا يهولنّكم العدو وكثرة عدده، بعد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 571 أن علمتم أن الله معكم، وأن إشارات النصر وبشرياته قد جاءت إليكم، تحملها ملائكة الرحمن التي بعثها الله لتقاتل معكم.. فهل يغلب من كان الله معه؟ وهل يهزم من كانت جنود الرحمن تقاتل فى صفوفه، ولو كان فردا يقاتل الناس جميعا؟ وهذه الجند المرسلة من السماء، ليست إلا ألطافا من ألطاف الله بكم فى هذا الموقف الحرج، ترون منها بشائر النصر، وتجدون فيها ريح السكينة والطمأنينة- أما النصر فهو بيد الله وحده، فهو الذي كتب لكم النصر، وليست الملائكة التي قاتلت معكم.. «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» له سبحانه، العزة، يعزّ بها من يشاء، ويذل من يشاء، وينصر بها من يشاء، ويخذل من يشاء، حسب ما اقتضت حكمته.. هذا، وقد جاء المفسرون بكثير من الأخبار المروية عن الملائكة وقتالهم فى بدر، حتى لقد ذكر فى بعض الروايات، الصورة التي كان عليها الملائكة، وهم يقاتلون، والعمائم البيضاء التي يلبسونها، والخيل البلق التي يمتطونها، كما ذكرت روايات أخرى بعض أفعال الملائكة بالمشركين، وكيف كان بعض المقاتلين من المسلمين يهمّ بأن يضرب بسيفه رأسا من رءوس المشركين، فإذا به يجد هذا الرأس قد سقط عن جسده قبل أن يناله سيفه.. إلى كثير من تلك الأخبار التي يكثر فيها الخيال، حيث وجد القصاص مادة خصبة فى هذا الميدان الذي لم تشهد الحياة مثالا له.. فما أن أمسك القصاص بهذا الخبر السماوي الذي يحدث عن المدد الملائكى للمسلمين، حتى أطلقوا لخيالهم العنان، فنسجوا حول هذه الحقيقة العجيبة ما شاء لهم الخيال أن ينسجوه من عجائب وغرائب!. وفى قوله تعالى: «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ» ما يقطع بأن هذا المدد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 572 الملائكى لم يكن- كما قلنا- إلا قوى من قوى الحق، تظاهر الذين آمنوا وتثبّت أقدامهم، وتربط على قلوبهم، وبهذا يصبح الواحد من المؤمنين برجح عشرة من المشركين، كما يقول الله تعالى: «إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» (65: الأنفال) . فوجود الملائكة بين المؤمنين هو مما يشد أزرهم، ويريهم فى أنفسهم أنهم أكثر من المشركين عددا، وأقوى قوة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى «وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا» (43: الأنفال) فالمسلمون بهذا المدد الروحي يرون المشركين فى كثرتهم قلة، وبهذا يطمعون فيهم، ويثبتون لهم، على حين يراهم المشركون قلة كما هم فى قلتهم، فلا يفرون من بين أيديهم، حتى تقع الواقعة بهم، ويقتل منهم من يقتل ويؤسر منهم من يؤسر: «لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا» . فلو أن الملائكة كانوا هم الذين قاتلوا دون المؤمنين- لما كان للمؤمنين فضل فى هذه المعركة، ولما كان لهم شرف هذا البلاء الذي أبلوه فى هذا اليوم، بل ولما كان من النبىّ هذا الحال الذي استولى عليه ساعة بدء القتال، وهو الذي تلقى وحي السماء بهذا المدد الملائكى.. فإنه عليه الصلاة والسلام- يعلم أن هذا المدد لا يخلى المؤمنين من مسئولية حمل العبء فى لقاء المشركين، وإن كان من ورائهم تلك القوة السماوية التي تظاهرهم.. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ» . وقد جاءت هذه الآية فى غزوة أحد هكذا: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 573 «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» . (126: آل عمران) وبين الآيتين اختلاف فى النظم اقتضته الحال هنا وهناك. ففى آية بدر، جاء قوله تعالى: «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى» على حين جاء هذا المقطع فى آية أحد: «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ» ، مقيدا هذه البشرى بأنها للمؤمنين، وقد جاءت مطلقة فى آية بدر!. وحكمة هذا- والله أعلم- أن إطلاق البشرى فى «بدر» كان حيث لا حساب لأحد غير المسلمين فى هذه البشرى، إذ هى خالصة لهم، إذ كانوا جميعا فى وجه العدوّ صفّا واحدا، ويدا واحدة. أما فى «أحد» فقد انقسم المسلمون على أنفسهم، وهمّت طائفتان منهم أن تفشلا، وانحاز عبد الله بن أبى بن سلول بشطر كبير من المسلمين، وكانت قولته هو وأصحابه: «لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ» .. فجاءت البشرى هنا على غير إطلاقها للمسلمين جميعا، وإنما هى للذين واجهوا العدوّ فى أحد، والتحموا معه فى القتال.. فكان قوله تعالى: «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ» إشارة إلى هؤلاء المؤمنين الذين وجّهوا وجوههم إلى لقاء العدوّ، دون هؤلاء الذين نكصوا على أعقابهم. وفى آية بدر جاء قوله تعالى: «وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ» وفى آية أحد: «وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ» وذلك لأن حاجتهم فى بدر إلى مجرد الاطمئنان كانت هى مطلبهم الذي يطلبونه فى تلك الحال، وينتظرونه من الأفق الذي سيطلع منه.. فالمطلوب أولا هو هذا الذي يبعث فيهم الطمأنينة، وقد جاءهم فى هذا المدد السماوي من ملائكة الرحمن.. وفى آية أحد كانوا قد عرفوا هذا الذي يطمئنهم، وعرفوا الأفق الذي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 574 يجىء منه، فلم يكن ثمّة داع يدعو إلى تقديمه فى النظم، ليفصل بين الفعل وفاعله، فجاء النظم على الأسلوب المألوف. وفى آية بدر جاء قوله تعالى: «وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» وجاءت آية أحد: «وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» حيث جاء الخبر مؤكدا، فى آية بدر، على حين جاء مطلقا من غير توكيد فى آية أحد.. وذلك أن المسلمين فى بدر كانوا يواجهون أول وعد لله سبحانه لهم بالنّصر، فحسن أن يؤكد لهم هذا الوعد.. أما فى أحد فقد كانوا على يقين ثابت بوعد الله، الذي رأوا عزّته، وحكمته، رأى العين، فيما تحقق لهم من نصر يوم بدر.. وقوله تعالى: «إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ» . الظرف «إذ» هنا متعلق بقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» أي من مظاهر عزّة الله وحكمته فى هذا اليوم أن أرسل عليكم النّعاس، فغشيكم، وطرق عيونكم، ولبس أجسادكم، فكان ذلك من بواعث الأمن والطمأنينة لكم.. إذ لا يطوف النوم إلا حيث تكون السكينة، ويكون الاطمئنان. والأمنة: بمعنى الأمن، ولكنها قطعة من الأمن، وليست كلّ الأمن والضمير فى «منه» يعود إلى الله سبحانه وتعالى. وفى الحديث عن النعاس الذي غشّى المؤمنين يومئذ بأنه كان نعاسا، ولم يكن نوما، أو استغراقا فى النوم- إشارة إلى واقع الحال الذي كان يشتمل جوّ المعركة، من اضطراب النفوس، وجزع القلوب، وحيرة العقول، وأن من نعم الله الجليلة فى هذه الحال أن يطوف بالإنسان طائف من الأمن، بحيث يطرقه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 575 النعاس، الذي يذهب بكثير من خواطر الجزع والقلق، ويكسب على كيان الإنسان الجسدى، والنفسي راحة وروحا، يستقبل بهما العدوّ، وهو أكثر نشاطا، وأثبت قدما، مما لو كان قد بات ليلة الحرب يعالج الهموم، ويحارب فى غير حرب، حتى يبدّد قواه، ويستهلك نشاطه، فيلقى العدوّ مهدّما محطّما.. وهذا النعاس- الذي غشى المسلمين- إنما كان ليلة الحرب، لا فى ميدان القتال، كما يرى ذلك بعض المفسّرين.. فإن النعاس مطلوب قبل الالتحام فى القتال، لا ساعة الالتحام، لأنه إعداد «للمعركة» وزاد من الاستجمام والنشاط يتزود به المقاتل.. أما وقوعه والمعركة دائرة والقتال محتدم، فهو عامل من عوامل الخذلان، لا عدّة من عدد النّصر.. والذي يؤيد أن هذا النعاس كان ليلة الحرب، وأنه كان نعمة من النعم التي ساقها الله للمؤمنين فيما ساق إليهم من نعم- الذي يؤيد هذا، أنه وصل بنعمة أخرى، صحبته، أو جاءت بعده، وهو نزول المطر فى تلك الليلة، كما يقول الله تعالى: «إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ» . وقوله تعالى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ» . هو بيان لما ساق الله إلى المسلمين يوم بدر من أمداد نصره وتأييده.. فإلى جانب الملائكة المرسلة إليهم، كان النعاس الذي غشّاهم الله به، فطرقهم جميعا.. ثم كان هذا المطر الذي نزل عليهم، فتطهروا به من الحدث الأكبر والأصغر، فكانوا على طهارة ظاهرة، تلتقى مع طهارة نفوسهم، وصفاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 576 نيّاتهم لله، والموت فى سبيل الله.. وبهذا ذهب عنهم رجز الشيطان ووسواسه، الذي كان يلقى فى روعهم أنهم لو قتلوا لماتوا على غير طهارة، وهذا الشعور من شأنه أن يبعث فيهم شيئا من التخاذل والفتور، عند لقاء العدوّ.. ولهذا جاء قوله تعالى: «وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ» فيكشف عن أثر هذا الماء الذي أنزل الله عليهم فطهرهم به، وأذهب عنهم رجز الشيطان وثبت به أقدامهم، حيث اطمأنت قلوبهم بعد أن طهروا، فثبتت أقدامهم فى موطن القتال، وسعوا إلى لقاء الله طاهرين! ومن جهة أخرى، فإن هذا الماء الذي أنزله الله عليهم ليلة القتال قد كان له أثره فى تماسك الأرض من تحت أقدامهم، حيث اختلط الرمل بذرات التراب، فلما أمسك المطر، وجفت الأرض صار وجهها طبقة صلبة أشبه بالطين اللازب، فثبتت عليه أقدامهم، بعد أن طهرت أجسامهم، واطمأنت قلوبهم.. الآيات: (12- 19) [سورة الأنفال (8) : الآيات 12 الى 19] إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 577 التفسير: قوله تعالى: «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا» هو عطف بيان على قوله تعالى: «إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ» ولم يعطف على ما قبله عطف نسق، إذ كان الأمران كأنهما أمر واحد، إذ وقعا جميعا مرة واحدة، فلم يكن هناك فاصل زمنى بينهما. وذلك دليل على قدرة الله، الذي لا يشغله حدث عن حدث، والذي لا يغيّر من قدرته امتلاء الزمان أو المكان بالأحداث. وقوله تعالى للملائكة: «أَنِّي مَعَكُمْ» إشارة إلى أن الملائكة، وإن كانوا على قوة لا حدود لها بالنسبة لقوة البشر، إلا أنهم مع ذلك يستمدّون القوة والعون من الله سبحانه وتعالى، شأنهم فى ذلك أضعف مخلوقات الله، وأقلها حولا وحيلة. وقوله سبحانه: «فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا» بيان لما كان من الملائكة يوم بدر، وأنهم كانوا قوة معنوية، تبعث الطمأنينة فى القلوب، أشبه بالدرع الواقي الذي يلبسه المحارب، وإن لم يكن له شأن معه فى المعركة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 578 وقوله تعالى: «سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ» إشارة إلى ما وقع فى قلوب المشركين يومئذ من رعب، اضطربت له صفوفهم، وزاغت به أبصارهم.. وبهذا وذاك تمكّن المسلمون من رقابهم، وأوقعوا الهزيمة بهم. وقوله سبحانه: «فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ» هو دعوة للمسلمين أن يحصدوا هذا الزرع الذي أصبحت قطوفه دانية لأيديهم، وبهذا يضاف هذا المحصول كله لهم، ويحسب من عمل أيديهم.. وهذا فضل من الله عليهم، ورحمة واسعة من رحمته بهم. ولو شاء الله سبحانه أن يهلك المشركين من غير أن يبتلى بهم المؤمنين لفعل.. ولكن أين بلاء المؤمنين؟ وأين العمل الذي يضاف إليهم، ويؤجرون عليه؟ إنه من تدبير الله تعالى وحكمته، أن يبتلى الناس بعضهم ببعض، وذلك ليظهر فى كلّ إنسان ما عنده من خير أو شر، وبهذا تنكشف للناس وجوههم، وتتحدد مواقفهم. وفى قوله تعالى: «فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ» إشارة إلى ما ينبغى أن يتجه إليه ضرب المؤمنين فى جبهة المشركين، وهو أن يكون فى المواطن التي تخمد بها أنفاسهم، أو تشل حركاتهم، وذلك بضرب الرءوس التي عشّش فيها الشرك، وأفرخ فيها الضلال، وضرب تلك الأيدى التي كانت تمتد بالأذى إلى المسلمين، وها هى ذى تريد القضاء عليهم. وقوله تعالى: لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» هو بيان للسبب الذي من أجله أمر الله المسلمين بضرب هؤلاء المشركين هذا الضرب الذي مكنهم الله به من رءوس أعدائهم.. فهم قد شاقّوا الله ورسوله، أي خالفوهما، وعصوا أمرهما.. وليس جزاء من يشاقق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 579 الله ورسوله إلّا أن يلقى جزاءه عند الله، والله شديد العقاب. قوله تعالى: «ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ» هو خطاب للمشركين، والإشارة هنا إلى هذا العذاب الذي صبّه الله عليهم، وجرّعهم كئوسه على أيدى المؤمنين.. وذلك هو جزاؤهم فى الدنيا.. أما فى الآخرة فلهم أنكى وأمرّ.. إنه عذاب النار. وقوله سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ» هو درس للمؤمنين، يتلقونه فى هذا الموقف، الذي شهدوا فيه آيات الله، ورأوا بأعينهم أمداد نصره وتأييده، فليكن ذلك درسّا لهم يتلقون منه العظة والعبرة، وليصحبهم هذا الدرس فى كل موقف بعد هذا، يكون فيه بينهم وبين المشركين والكافرين قتال.. فهو نداء عام للمؤمنين، المجاهدين فى سبيل الله، بأن يثبتوا للعدو، وأن يلقوه لقاء جادّا مصمما على النصر، أو الاستشهاد فى المعركة، دون أن يدخل على أحد منهم شعور بالفرار من وجه العدوّ، أيّا كان الموقف، وأيّا كانت قوة المشركين وشوكتهم.. وقوله تعالى: «وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» .. هو وعيد شديد لمن يدخل على نفسه من المؤمنين شعور بالهزيمة، فينكص على عقبه، ويعطى العدوّ دبره، فى أي موقف من مواقف القتال بين المؤمنين والمشركين.. وقوله تعالى: «يومئذ» هو أىّ كان، لا يراد به يوم بعينه، كما يذهب إلى ذلك بعض المفسّرين بجعل، هذا اليوم خاصّا بيوم بدر.. وهذا فوق أنه غير متفق مع الدعوة العامة التي حملها القرآن الكريم إلى المؤمنين فى آيات كثيرة بالثبات فى الجهاد- غير متفق كذلك مع ترتيب الأحداث إذ أن سورة الأنفال، نزلت بعد بدر وأحداثها، وذلك باتفاق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 580 وحال واحدة هى التي يحقّ للمؤمن فيها أن يعطى العدو ظهره، وهو أن يتحرّف لقتال، أي يرى تغيير موقفه الذي هو فيه، ويتخيّر موقفا آخر، أمكن له، وأصلح لموقفه فى القتال، أو أن يتحيز إلى فئة من المؤمنين، فينتقل من جماعة إلى جماعة، حيث يرى فى ذلك مصلحة فى النكاية بالعدوّ.. فهذا التولّى بالوجه عن مواجهة العدوّ هنا، هو لحساب المعركة، لا لحسابه، ولا للضنّ بنفسه عن أن يواجه العدوّ، ولو كان فيه الموت. وفى التعبير عن الصدّ عن العدوّ، والفرار منه بتولية الدّبر، تشنيع على من يأتى هذا الفعل، وفضح له، إذ كان كأنما يكشف سوأته لعدوّه أو يعطيه دبره! وقوله تعالى: «فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى» هو إشارة إلى أنّ الله سبحانه وتعالى هو الذي مكنّ للمسلمين يومئذ من عدوّهم، وأن يد الله هى التي ضربتهم تلك الضربة القاضية، وأن المسلمين لم يكونوا إلا أسبابا ظاهرة، أجرى الله على أيديهم ما أخذ به عدوهم من بلاء فى هذه المعركة.. وكذلك ما فعله النبىّ يومئذ حين قبض قبضة من تراب فرمى بها فى وجه الكافرين، داعيا الله سبحانه أن يعمى أبصارهم، ويطمس على قلوبهم، ويأخذ على أيديهم.. فإن ذلك الذي كان من النبىّ لم يكن ليحدث أثره، إلا لأن الله سبحانه هو الذي جعل لهذه الرمية تأثيرها وأثرها.. وإذن فإن فوق يد المسلمين كانت يد الله.. وفوق يد النبي كانت يد الله.. وإذن فلا يحسب المسلمون أنهم بغير هذا المدد السماوي قد غلبوا عدوهم وقهروه، ولا يحسب النبىّ أنه برميته تلك التي رمى بها فى وجوه المشركين قد فتح للمسلمين طريق النصر، لولا أن يد الله تقبلت رميته وباركتها.. وفى هذا وذلك ما يشعر بأن الله سبحانه مع نبيه ومع المجاهدين معه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 581 وإذا كان الله سبحانه هو الذي مكّن للمسلمين من عدوهم، ومنحهم هذا النصر، فما ذلك إلا «لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً» حيث أعطاهم أجر هذا العمل العظيم، الذي هو فى حقيقة الأمر لم يكن لهم يد فيه، فلو جرت الأمور على ظاهرها لكانت الدائرة عليهم، ولكان القتل والبلاء فيهم.. فليذكروا هذا، وليتزودوا منه يزاد الإيمان بالله، وعقد العزم على الجهاد فى سبيله.. «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» (40: الحج) . وفى وصف البلاء بأنه حسن إشارة إلى الوجه الآخر من وجوه الابتلاء وأنه قد يكون غير حسن كما يقول الله: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً» (35: الأنبياء) . فقد عافى الله المؤمنين من أن يبلوا بالقتل، وأن يمتحنوا بالأسر، فذلك مما يبتلى الله به المؤمنين، ويجزيهم عليه.. ولكن رحمة الله بالمؤمنين فى هذا الموقف الذي يلقون فيه الشرك لأول مرة، وينتصرون فيه لأنفسهم- جعلت الابتلاء بالخير دون الشر، وبالعافية دون البلاء.. فظفروا وانتصروا، وسلموا، وغنموا.. ورجعوا بالحسنيين جميعا.. المغانم فى الدنيا، والجنة ونعيمها فى الآخرة. وقوله تعالى: «ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ» . الإشارة هنا إلى ما لله سبحانه وتعالى من رعاية لأوليائه، وتمكين لهم من أعدائهم.. فأولياؤه، المجاهدون فى سبيله، هم أبدا محفوفون بنصره وتأييده، وأن ما يكيده الكافرون لهم لا يصل إليهم، إلا واهيا، ضعيفا، متخاذلا.. وقوله سبحانه: «إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 582 هو تهديد ووعيد للكافرين، الذين يدلّون بقوتهم، ويعتزّون بكثرتهم.. فهاهم أولاء يشهدون بأعينهم كيف كان فعل الله بهم، وكيف أخذهم الله بيد أوليائه، ورماهم بالبلاء والذلة والهوان..؟ والاستفتاح: طلب الفتح، وهو النصر والغلب. والخطاب فى قوله تعالى: «إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ» هو للمشركين، وهو بلاء فوق البلاء الذي أصيبوا به فى يوم بدر.. فقد جاءوا مستفتحين، أي طالبين النصر والغلب.. فهذا هو النصر الذي طلبوه، وذلك هو شأنهم أبدا مع المؤمنين.. إنهم لن يرجعوا إلا بنصر هكذا النصر الذي انقلبوا به، يحملون الخزي والعار، ويتركون فى ميدان المعركة سادتهم وأشرافهم، أشلاء ممرغة فى التراب! وفى قوله تعالى: «وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ» فى هذا ما يكشف عن المستقبل المظلم الذي ينتظر المشركين، إذا هم أصرّوا على موقفهم من المسلمين، ولم ينتهوا عماهم عليه من بغى وعدوان، فإن كثرة عددهم، وشوكة قوتهم، لن تغنى عنهم شيئا، ولن تدفع قضاء الله فيهم.. وفى قوله تعالى: «وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ» تيئيس للمشركين من أنهم لن ينالوا من المسلمين منالا، وأن العاقبة للمؤمنين، لأن الله معهم.. فلينظروا.. هل ينتصرون على جبهة يكون الله معها؟ فليجربوا!! وقد جربوا فعلا، فكان هذا الذي سجله التاريخ للدعوة الإسلامية، وما كتب الله لأهلها من النصر والفتح المبين.. وكان هذا الوعد من القرآن الكريم فى مطلع الدعوة الإسلامية معجزة من معجزاته، فيما كشف به عن حجب الغيب، وأنباء المستقبل.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 583 الآيات: (20- 26) [سورة الأنفال (8) : الآيات 20 الى 26] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) التفسير: قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ» .. هو إلفات منه سبحانه إلى المؤمنين، ودعوة لهم إلى طاعته وطاعة رسوله، بعد أن أراهم نصره وتأييده، وأطلعهم على ما لقى المشركون وما سيلقون من خزى وخزلان.. وقوله تعالى: «وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ» تحذير للمؤمنين من أن يخرجوا عن طاعة الله، وأن يخالفوا الرسول فيما يسمعون من آيات الله، التي يتلوها عليهم.. وأن يكونوا كالمشركين أو المنافقين الذين يقولون سمعنا «وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ» الجزء: 5 ¦ الصفحة: 584 أي لا يستجيبون للرسول، ولا يمتثلون لما يسمعون منه، من أمر أو نهى.. وفى قرن الإيمان بالطاعة «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» .. إشارة إلى أن الإيمان لا تقوم حقيقته إلا على الطاعة لما تحمل دعوة الإيمان من أوامر ونواه.. فالإيمان ليس مجرد إقرار باللسان، فإن الإقرار باللسان إذا لم يصدّقه العمل، كان نفاقا.. والله سبحانه وتعالى يقول فى ذم المنافقين: «يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ» (167 آل عمران) ويقول سبحانه محذرا المؤمنين من هذا الموقف: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ..» كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ» (3: الصف) والرسول صلوات الله وسلامه عليه، يكشف عن حقيقة الإيمان فيقول: ليس الإيمان بالتّمنّى، ولكن ما وقر فى القلب وصدّقه العمل.. وإن قوما خدعتهم الأمانى وغرهم بالله الغرور.. يقولون: إنا نؤمن بالله!! وكذبوا.. لو صدقوا القول لصدقوا العمل» .. وقوله سبحانه: «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ» هو عرض لتلك الصورة المنكرة التي عليها هؤلاء المشركون، الذين يسمعون كلمات الله تتلى عليهم ثم لا يزيدهم ذلك إلّا ظلما وبغيا وفسادا.. فهم شرّ ما يدبّ على هذه الأرض من أحياء.. إذ كان شأن كلّ دابّة أن تسمع لصوت داعيها، وتستجيب لنداء من يهتف بها، داعيا أو زاجرا.. أما هؤلاء فهم شرّ من الدوابّ.. إذ هم صمّ: لا يسمعون، بكم: لا ينطقون، بهائم لا يعقلون.. وفى هذا يقول الله تعالى: َيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (7- 8: الجاثية) .. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 585 ويقول سبحانه: «وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ» (26: الأحقاف) وقوله تعالى: «وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ» .. أي أن هؤلاء المشركين ممن ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة.. هكذا خلقهم الله، لا يقبلون خيرا، ولا يهتدون إلى خير.. «وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ» أي لو علم سبحانه أنهم يتقبلون الخير وينتفعون به، ويستقيمون عليه، لفتح أسماعهم إلى كلمات الله، ولأمسك آذانهم الشاردة على مورد هذه الكلمات.. ولكنهم لا ينتفعون بشىء مما يسمعون من كلمات الله التي تتلى عليهم، إذ كانت تلك الكلمات لا تعرف طريقها إلى مواطن الوعى والإدراك من قلوبهم وعقولهم، بل ترتدّ عنها كما يرتد مسيل الماء يصطدم بسد منيع.. «وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ» أي لو سمعوا كلمات الله، ونفذت إلى آذانهم، لما استقبلوها إلّا بالجد فى مجانبتها، والتولي عنها والفرار من بين يديها.. فهم لا يلتقون بها إلا وهم معرضون عنها، فإذا صافحت آذانهم نفروا وتولوا معرضين.. وفى هذا يقول الله تعالى: «فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ» «1» (49- 51: المدثر) . وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» - هو نداء بعد نداء للمؤمنين، أن يقبلوا على الله، ويستجيبوا لله ولرسوله، وقد رأوا   (1) الحمر المستنفرة: المذعورة، الفزعة. والقسورة، الأسد.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 586 إعراض المشركين عن الله، ونفورهم من دعوته، فكانوا عند الله شر الدواب وأنكدها حظّا. فالمطلوب من المؤمنين أن يستجيبوا لأمر الله وأمر رسوله، فيما يدعوهم إليه الرسول من أمر ربه. وهذا يعنى التسليم للرسول بالطاعة والولاء، فى كل ما يجيئهم به، ويدعوهم إليه. وفى قوله تعالى: «إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ» إشارة إلى أن ما يدعو به الرسول هو حياة للناس، واستنقاذ لهم من الهلاك والضياع.. والسؤال هنا هو: ما معنى «إذا» وهل هى شرطية، بمعنى أن المؤمنين لا يستجيبون للنبي إلا على هذا الشرط، وهو أن يدعوهم للذى فيه حياة لهم؟ وهل يدعو الرسول بغير ما يحمل الحياة إلى الناس من أمر الله؟ وهل للمؤمن أن يتوقّف عند أي أمر يدعوه الرسول إليه حتى يختبره ويصدر حكمه عليه، بعد أن يرى: إن كان فيه حياة له، أو لم يكن؟ وكيف والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ؟» (36: الأحزاب) .. فما تأويل هذا؟. والجواب- والله أعلم-: أن هذا القيد الوارد على دعوة الرسول، والأمر بالاستجابة لتلك الدعوة على هذا الوصف، وهى أن تكون دعوة فيها حياة وخير، يصيب الإنسان فى جانبيه الروحي والمادي معا- نقول إن هذا القيد يحقق أمرين: أولهما: الدعوة إلى إيقاظ العقل، وحمله على النظر فى كل أمر يواجهه، أو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 587 يدعى إليه، ليزنه بميزان الحق والخير، حتى ولو كان هذا الأمر واردا من جهة لا يرد منها إلا الحق المشرق، والخير الخالص. فذلك لا يحول بين العقل وبين أن يتفحص الأمر، ويقلّبه على وجوهه، ليعرف مدى الخير الذي يحصله، إذا هو أخذ بهذا الأمر، وجعله معتقدا، له، يعمل فى ظله، ويسير على هواه.. فهذا من شأنه أن يجعل لهذا الأمر سلطانا متمكنا فى كيان الإنسان إذ أقامه بيده، ومكّن له بإرادته، ونزل على حكمه طائعا مختارا، يرجو منه الخير، ويتوقع السلامة والعافية. ومن أجل هذا كان الإيمان الذي آمن عليه المسلمون الأولون، إيمانا راسخا متمكنا، جعل منهم أوتاد هذا الدين، وعمده، التي قام عليها صرحه، وامتدّت عليها ظلال دوحته. وهذا يعنى احترام العقل الإنسانى، وإعطاءه الحق فى البحث والنظر حتى فيما يصدر إليه من أحكم الحاكمين، رب العالمين.. وليس بعد هذا عذر لإنسان يمتهن إنسانيته، ويبيع عقله، ويسلم مقوده لكل داع يدعوه، من غير أن يعمل فيه نظره، ويوجه إليه عقله، كما هو حال أولئك المشركين الذين لا يبصرون إلى ما يدعوهم إليه شياطينهم، أو تمليه عليهم أهواؤهم، وإن كان فيه هلاكهم. وثانى هذين الأمرين: أن ما تحمله أوامر الشريعة وأحكامها هو الخير المطلق الذي لا يزداد على البحث والنظر إلا وضوحا وألقا. فمن المطلوب إذن أن تتعلق الأنظار بهذه الأوامر وتلك الأحكام، وأن تتحكك بها العقول، وتتردد عليها الأفهام، حتى تتعرف إلى أسرارها، وتنشق العبير الطيب من أريجها، وبهذا تعرف قدرها، فيشتدّ حرصها عليها، وتمسكها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 588 بها.. وهكذا كل شىء طيب كريم، تتغذّى الأنظار من ترداد النظر فيه، وتنتعش النفوس من كثرة لقاء العقل له.. يزيدك وجهه عجبا ... إذا ما زدته نظرا وفى قوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» .. إشارة إلى ما لله سبحانه وتعالى من قدرة وعلم، وأنه بقدرته قادر على كل شىء، وبعلمه محيط بكل شىء.. فالإنسان لا يملك من أمر نفسه شيئا مع ما لله عليه من سلطان، حتى إن قلبه الذي هو بين جنبيه، والذي هو الجهاز الممسك بزمام الحياة فيه، واقع تحت سلطان الله، يصرفه كيف يشاء، ويحوّله إلى حيث يريد.. وإذا الإنسان فى واد، وقلبه فى واد آخر.. وإذ كان ذلك كذلك، فإن من السّفه أن يتحدى الإنسان أمر الله، ولا يستجيب له إذا دعاه إليه، ولا يطيع رسول الله إذا بلغه رسالة ربه، فإنه بهذا يهلك نفسه، إذ يحول بينها وبين الخير الذي يدعوها الله ورسوله إليه، ويقطع عنها شريان الحياة، كما يقطع الله سبحانه وتعالى عنه أسباب الحياة، حين يمسك قلبه فلا يخفق أبدا.. وقوله تعالى: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» . هو دعوة إلى التناصح بين المؤمنين، وإلى التناهى فيما بينهم عن المنكر، وإلا فإن سكوت الساكتين منهم، عن ظلم الظالمين وبغى الباغين، هو اعتراف ضمنى بهذا الظلم، وذلك البغي، وإجازة لهما، ومن هنا لم يكن ما يحل بالظالمين من بلاء الله ونقمته واقعا بهم وحدهم، بل يصيبهم ويصيب من رآهم ولم ينكر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 589 عليهم تلك المنكرات، ولهذا عمّ الله بنى إسرائيل جميعا باللعنة، لأنهم لم ينصحوا الظلمة فيهم، ولم ينكروا ظلمهم، وفى هذا يقول الله تعالى: «لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ» (78- 79: المائدة) . وهنا سؤال: كيف يؤخذ المحسنون بظلم الظالمين، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى؟» (18: فاطر) ويقول سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ؟» (105: المائدة) .. ويقول فى هذه الآية: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» .. فكيف يكون مع المتقين ثم يأخذهم بما أخذ به الظالمين؟. والجواب- والله أعلم-: أولا: أن سكوت غير الظالمين عن الظالمين هو وزر، له عقابه، فهم وإن لم يظلموا أحدا، فقد ظلموا أنفسهم بحجزها عن هذا المنطلق الذي تنطلق منه إلى رضوان الله، وإلى حماية أنفسهم وحماية المجتمع الذي هم فيه مما يشيعه الظالمون من فساد وضلال، وشر مستطير. وثانيا: أن قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» هو حماية للمؤمنين من أن يجرفهم تيار المفسدين، وأن يسلموا زمامهم لهم، ويسلكوا معهم الطريق الذين سلكوه حين يستشرى الفساد ويغلب المفسدون.. فهنا يكون واجب المؤمن حيال نفسه أن يحميها أولا من هذا الوباء، وأن يمسك عليه دينه حتى لا يفلت منه فى زحمة هذا الفساد الزاحف بخيله ورجله.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 590 ومع هذا، فإنه لن يعفى المؤمنين استشراء الشرّ من أن يقوموا بما يجب عليهم فى تلك الحال، من النصح، والتوجيه، والدعوة إلى الله، فهم أساة المجتمع لهذا الوباء الذي نزل به.. فإذا قصّروا فى أداء هذا الواجب كانوا بمعرض المؤاخذة والجزاء.. وثالثا: قوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» هو توكيد لما يجب على المؤمنين من التناصح، والتناهى عن المنكر فيما بينهم، وإلا لم يكونوا من المتقين، ولم يحسبوا فيهم.. إذ كيف يكون المؤمن ممن اتقى الله، وهو يرى المنكر ولا ينكره، ويرى الظلم ولا يقف فى وجهه؟ ورابعا: إن المجتمع الإنسانى جسد واحد، وما يصيب بعضه من فساد وانحلال، لا بد أن يتأثر به المجتمع كله، كما يتأثر الجسد بفساد عضو من أعضائه وإنه كما يعمل المجتمع على حماية نفسه من الأمراض المعدية والآفات الجائحة، فيحشد كل قواه لدفع هذا الوباء، بتطبيب المرضى أو عزلهم- كذلك ينبغى أن يعمل على إخماد نار الفتن المشبوبة فيه، والضرب على أيدى مثيريها. وإلا امتد إليهم لهيبها، والتهمتهم نارها.. فحيث كان شر، فإنه لا يصيب من تلبّس به وحده، بل لا بد أن ينضح منه شىء على من حوله.. فكان من الحكمة دفع الشر ومحاربته فى أي مكان يطل بوجهه منه. قوله تعالى: «وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» . هو تذكير للمؤمنين بنعم الله، وأفضاله عليهم، إذ ألبسهم لباس الأمن والعافية، بعد أن كانوا قلة مستضعفين، تنالهم يد أعدائهم بالضرّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 591 والأذى، فآواهم، وأيدهم بنصره، ومكّن لهم من عدوهم، وملأ أيديهم من المغانم.. وفى هذا ما يدعو المسلمين إلى الدعوة إلى الله، وإلى إصلاح الفاسدين، وإقامة المنحرفين، وهداية الضالين، حتى يكثر جمعهم، ويصبحوا أصحاب الكلمة فى مجتمعهم، فقد عرفوا القلّة، وما فيها من ذلة وهوان.. وهذا هو السرّ- والله أعلم- فى عطف هذه الآية على قبلها، إذ كانت الآية السابقة تدعو إلى التناصح والتواصي بالخير فيما بين المؤمنين، وكانت هذه الآية تذكيرا بما كان فيه المسلمون وهم قلة، وكيف صار بهم الحال بعد أن كثروا، وتضاعفت أعدادهم.. وهكذا كلّما ازدادوا كثرة، وازدادوا صلاحا وتقوى، كلّما مكّن الله لهم فى الأرض، وملأ أيديهم من طيباتها.. الآيات: (27- 31) [سورة الأنفال (8) : الآيات 27 الى 31] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 592 التفسير: نبّه الله المؤمنين فى الآية السابقة، ولفتهم إلى ما كانوا فيه من قلّة وذلّة، وما أصبحوا فيه من كثرة ومنعة وعزّة.. وذلك ليذكروا فضل الله عليهم، وليجعلوا ولاءهم خالصا له.. وفى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» دعوة للمؤمنين إلى القيام بأمر الله، والتزام طاعته وطاعة رسوله، والوقوف عند الحدود التي بينها الله تعالى، فيما أنزل على رسوله من آياته وكلماته.. فالخروج على أمر الله، والخلاف لرسوله، هو خيانة لله ولرسوله، بعد أن علموا، وتثبتوا مما أمرهم الله به، أو نهاهم عنه.. ثم هو خيانة للمرء نفسه، إذ نقض العهد، وخان الأمانة التي ائتمنه الله عليها.. وهذا مقابل لقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ» . ففى هذه الآية دعوة إلى طاعة الله ورسوله، والاستجابة لما يدعوهم الرسول إليه، ويندبهم له، متى بلغت أسماعهم دعوته.. فالموقف هنا هو فيما بين المؤمنين والنبىّ، حال حياته منهم.. أما ما فى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» فهو امتثال لأوامر الله، وما بيّنه الرسول الكريم للمؤمنين فى أقواله وأفعاله من أمورهم، وذلك فيما بينهم وبين أنفسهم، حيث لا يكون الرسول معهم، أو يكون الرسول قد أخلى مكانه من هذه الدنيا.. وحينئذ تكون أوامر الشريعة، وأحكامها أمانة أؤتمن الإنسان عليها، فإذا ضيع تلك الأمانة بخروجه على أحكام الشريعة، والعدوان على حدودها، فقد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 593 خان الأمانة، وخان الله ورسوله، وخان نفسه، التي هى أمانة عنده، والتي يكون قد ضيّعها، حين عرضها فى معرض التهلكة، إذ عصى الله ورسوله.. قوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ» هو تنبيه للمؤمنين إلى مكمن الخطر، الذي تهبّ منه عليهم ريح السّموم، التي تعصف بإيمانهم، وتنحرف بهم عن الصراط المستقيم.. وفى الأموال والأولاد يكمن هذا الداء، الذي يجور على إيمان المؤمن، ويحمله على مركب الفتنة والضلال، إن لم يأخذ حذره، ويحرس نفسه من هذا العدو المتربص به. فللمال سلطان على النفوس، وشهوة غالبة على القلوب.. حيث لا حدّ للمال الذي يبلغ عنده الإنسان مبلغ الرضا والشبع، بل إنه كلّما ازداد الإنسان جمعا للمال كلما ازداد نهمه وجوعه، بل ازداد سعاره وكلبه، بحيث يصبح جمع المال همّه وغايته، فلا يبغى المال لتحقيق رغبة، أو إشباع شهوة.. وإنما رغبته هو المال نفسه، وشهوته هو المال، لا شىء سواه.. ومن كان هذا شأنه فلن يملأ عينه مال الدنيا كلها، لو اجتمع ليده.. كالحوت لا يكفيه شىء يلقمه ... يصبح ظمآن وفى الماء فى فمه وهذا هو موطن الفتنة، ومهبّ الشر من جانب المال.. فإذا لم يأخذ الإنسان.. حذره، ويصحب المال على خوف ومحاذرة، جرفته شهوة المال إلى لحجج الفتنة والضلال، فلا يعرف شاطىء الأمن والسلامة بعد هذا أبدا.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 594 وللأولاد مثل ما للمال، من سلطان على الوالد، ومن تمكّن فى قلبه، واستيلاء على مشاعره، بحيث يحمله ذلك على أن يؤثرهما على نفسه، وأن يسوق إليهما كل ما وسعه جهده وحيلته، من ألوان البرّ والخير.. وتلك غريزة طبيعية فى الإنسان، بل وفى الحيوان.. وليس مما يحمد فى الإنسان أن تخمد هذه الغريزة أو تضعف، ولكن الذي لا يحمد، هو أن تجنح هذه الغريزة إلى جانب المغالاة، وتعدل بالإنسان عن الطريق السّوىّ، فيحمله ذلك على أن يقتطع من حقوق الناس، ليملأ يد أبنائه مما يشاءون، أو يشاء هو لهم. ومن هنا كانت لفتة القرآن الكريم إلى هاتين الشهوتين: شهوة المال، وشهوة البنين، وإلفات الناس إلى الحذر منهما، ومن الوقوع تحت سلطانهما.. وفى سبيل هذا الجهاد الذي يجاهد به المرء نفسه، فى مغالبة هاتين الشهوتين، يلقى المثوبة والرضوان من الله فى الآخرة، عوضا عما فاته من إشباع شهواته، فى الدنيا «وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ» . قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» . الفرقان: ما يفرّق به بين الشيئين، والمراد به هنا، القوة التي يفرق بها بين الحق والباطل.. وهذه الفرقان، أو تلك القوة إنما يمدّ بها الله أولئك الذين يتقونه، ويحرسون أنفسهم ويراقبونها من أن تتعدى حدوده.. ومن تقوى الله، حراسة النّفس من الشهوات المسلطة عليها، كشهوة المال والبنين، التي نبّهت إليها الآية السابقة.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 595 وفى تقوى الله قوّة يجد منها الإنسان العون على مغالبة الأهواء، ودفع الشهوات أو كسر حدّتها.. وفى تقوى الله نور يهتدى به الإنسان، إلى مواطن الحق والخير، حيث يبدو له وجه الحق واضحا وضيئا، يدعوه إليه، ويغريه بالإقبال عليه، على حين يرى وجه الباطل كاسفا كئيبا، فيعرض عنه، ويفرّ منه. ومن هنا كان مع تقوى الله دائما، الهدى والنور، والمغفرة والرحمة، والفضل العظيم من رب العالمين.. حيث يكون الإنسان فى صحبة التقوى، على نور من ربّه، يميز به الحق من الباطل، فلا تتفرق به السبل، ولا يضل الطريق إلى الله أبدا.. قوله تعالى: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» . الواو، هنا للاستئناف.. والخبر الذي بعدها مستأنف.. ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن تقوى الله تعين الإنسان على اجتياز الصعاب، ومغالبة النزعات، واحتمال الأرزاء.. وقد كان هذا هو موضوع الآية السابقة. وفى هذه الآية، المثل الكامل فى التزام طريق الحق، حيث يتصدّى النبيّ- وهو سيد المتقين- لما يسوق إليه المشركون من ألوان البلاء، وما يرمونه به من صنوف الإعنات والكيد، فيلقى ذلك صامدا صابرا، لا يثنيه الإغراء، ولا ينهنه الوعيد، حتى ليلقى قومه بتلك الكلمة الحاسمة الفاصلة، حين عرضوا عليه ما عرضوا من مال وسلطان: «والله لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر ما تركته، أو أهلك دونه» !! فقد صمد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 596 النبىّ الكريم أمام تلك الفتن العاصفة، التي كانت تهب من آفاق المشركين، ولم ينحرف عن طريقه القويم قيد شعرة. ومن مكر الذين كفروا بالنبيّ ما كشفه الله تعالى فى تلك الآية، وهو أنهم أرادوا به أكثر من شر، فإمّا أن يثبثوه، أي يفسدوا عليه أمره، ويعجزوه عن القيام بدعوته. أو يقتلوه إن هو أبى إلا أن يمضى فى طريقه، ويستمر فى دعوته، وأعجزتهم الوسائل المتاحة لهم عن الإمساك به دون أن يتحرك.. وإما أن يحملوه على أن يخرج من بينهم، ويترك موطنه الذي نشأ فيه.. هذا كان مكرهم، وذلك كان كيدهم. وقد أبطل الله هذا المكر، وأفسد هذا الكيد.. فجاء أمر النبىّ على خلاف ما أرادوا وقدّروا.. لقد حملوه على أن يهاجر من بينهم، ففاتهم بذلك حظّهم من نور الله، الذي جعله الله إلى قوم هم أولى به وأحق منهم.. ثم إن من دخل منهم فى الإسلام من بعد هذا، لم يكن فى المنزلة التي أخذها الذين سبقوا إلى الإسلام وهاجروا، أو أولئك الأنصار، الذين آووا ونصروا.. وفى قوله تعالى: «وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى إنما أخذهم بمثل فعلهم، وقتلهم بالسلاح الذي حاربوا الله ورسوله به.. والمكر: التدبير للأمر، وأخذ الوسائل المحققة له.. وقد يكون المكر شرّا، حيث يراد للشر والضلال، وقد يكون حسنا، إذا أريد به إحقاق حق، أو إبطال باطل.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 597 فالمكر الذي مكره المشركون بالنبيّ، هو من المكر السيّء، ولا حاجة إلى وصفه بالسوء، لأنه مما أبطله الله، وقلب على أهله تدبيرهم الذي دبروه.. وكفى بهذا شناعة وسوءا له. وقوله تعالى: «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» . أي إن هؤلاء الكافرين الذين يمكرون بالنبيّ هذا المكر، ويدبّرون له هذا التدبير، لا يستمعون لكلمات الله ولا يعقلونها، ولو أنهم سمعوها وعقلوها لما كان منهم هذا الضلال الذي هم فيه، ولرأوا أن النبىّ لا يحمل إليهم إلا الهدى، ولا يدعوهم إلا للخير.. فهؤلاء الكافرون، إذا تتلى عليهم آيات الله لم يعطوها آذانا صاغية، بل تقع الكلمات على آذانهم كأنها أصوات لا مفهوم لها، ولهذا إذا قيل لهم استمعوا إلى كلمات الله، قالوا: قد سمعنا ما يكفى، ولسنا فى حاجة إلى أن نسمع جديدا، فما هذا الذي نسمعه إلا كلام من كلامنا، ولو أردنا أن نقول مثله لقلنا، وما يقصّه علينا من قصص: إن هو إلا أساطير الأولين، وخرافات السابقين، وإن عندنا من هذا شيئا كثيرا.. فليس يعجزنا- والأمر كذلك- أن نقول مثل هذا الذي يسمعنا إيّاه محمد من هذا الكلام الذي يقول إنه من عند الله، أو إنه من كلام الله!. والأساطير: جمع أسطور، وأسطورة، وهو ما كان من واردات شتّى، للخيالات والخرافات، وأصلها مما سطّره الأولون، وخلّفوه وراءهم مكتوبا فى ألواح مسطورة.. ولأن الأولين كانت لهم نظرة إلى الحياة وإلى الوجود الجزء: 5 ¦ الصفحة: 598 غير نظرة من جاءوا بعدهم، والذين رأوا فيما كان للأولين من علوم ومعارف، أنها أوهام وخيالات، لا تثبت لتجربة، ولا تستقيم على منطق. وقد وقع فى تقديرهم الخاطئ أن الله سبحانه إذا خاطبهم بكلماته، جاءت هذه الكلمات على غير الكلام الذي ألفوه، حتى يكون كلام الله شيئا يخالف منطق البشر! ولو فكروا قليلا فى هذا المنطق السقيم، لعرفوا أن أبلغ الخطاب ما جاء مطابقا لمقتضى الحال، وأن من أولى مقتضيات الحال فى مخاطبة الإنسان، أن يجىء الكلام على مستوى فهمه ومدركاته، وعلى حدود تصوراته وتخيلاته، وقبل هذا كله أن يكون باللسان الذي يحسن الفهم والإفهام به. ولو أنهم فكروا قليلا فى هذا الكلام الذي خاطبهم الله به، لوجدوا أنه وإن صيغ من لغتهم، ونظم من كلماهم، فإنه ينفرد وحده من بين كل ما نطقوا به من كلام، وما تحدثوا به من لغة، وأنه- وهو كلام، وكلام معروف لهم وجهه، وجار على ألسنتهم التعامل به- هو معجز مفحم، يتحدّى على الزمن كلّه، أرباب البلاغة، وسادة البيان أن يأتوا بسورة من مثله.. وقد نازلهم القرآن فى هذا الميدان، ودعاهم مرة بعد مرة، أن يلقوه على هذا الطريق، وأن يجيئوا بسورة أو بعض سورة من تلك الأساطير التي يقولون إنها مادة هذا الكلام، ونظام عقده، وقد ردّ الله تعالى عليهم بقوله: «أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ» (33- 34: الطور) . وقد خرسوا، وخرس معهم كل بليغ منطبق إلى يوم القيامة!. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 599 الآيات: (32- 35) [سورة الأنفال (8) : الآيات 32 الى 35] وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) التفسير: «الواو» فى قوله تعالى: «وإذ قالوا» للاستئناف. ومناسبة الآية لما قبلها أنها تعرض حالا من أحوال المشركين، وتكشف عن وجه كريه من وجوه ضلالهم وسفههم.. فإنهم بعد أن رموا النبىّ بالكذب على الله، وأن ما جاءهم به ليس إلّا من أساطير الأولين، استملاها من علماء أهل الكتاب، وأنهم لو شاءوا أن يجيئوا بمثل ما جاءهم به لما كان عليهم إلا أن يرجعوا إلى علماء أهل الكتاب، ويردوا المورد الذي ورده، فيجيئون بمثل هذا الذي معه- إنهم بعد هذا، لم يقفوا عند هذا الحدّ، بل أمعنوا فى الاتهام والتكذيب، بأن طلبوا إلى الله أن يمطر عليهم حجارة من السماء أو يأتيهم بعذاب أليم، إن كان هذا الذي جاء به محمد حقا من عند الله!؟ وليس أبعد فى الضلال، ولا أسفّ فى السفه، من أن يحملوا أنفسهم على هذا المركب المشحون بالبلاء، المحمول على صدر بحر متلاطم الأمواج، عاصف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 600 الريح، وقد كان بين أيديهم أن يستقلّوا السفين القاصد إلى شاطىء الأمن والعافية، السابح فوق صفحة ماء رقراق، المسيّر بيد ريح رخاء!. فماذا يدعوهم إلى هذا اللّجاج فى العناد، وإلى هذا التحدي لمنازلة البلاء؟ إنه لا شىء إلا الجهل الذي يعمى البصائر، وإلا الضلال الذي يطمس على القلوب! وماذا عليهم لو جعلوا دعاءهم إلى الله أن يهديهم سواء السبيل، وأن يقيمهم على طريق الحق، إن كان هذا الذي جاءهم به «محمد» هو الحق؟ إنهم لن يخسروا شيئا، لو كان الذي جاءهم به «محمد» هو قول تقوّله، أو أساطير اكتتبها.. فلو استجاب الله لهم لعافاهم من البلاء، ولصرف عنهم السوء.. وإنهم ليربحون الربح أعظم الربح، لو كان الذي جاءهم به «محمد» على غير ما ظنوا وتوهموا.. فكان الحقّ من عند الله، والهدى المحمول فى كلماته، والرحمة المرسلة مع آياته..!! ولكن القوم عتوا عتوّا كبيرا، وضلوا ضلالا بعيدا، فسألوا الله أن يمطر عليهم حجارة من السماء، أو يسوق عليهم البلاء المبين والعذاب الأليم! «وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» . هكذا يقولونها بملء أفواههم.. وهكذا يفعل الجهل بأهله، ويلجّ الضلال بأرباب الضلال!. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 601 ولو أنهم كانوا على شىء من الحكمة والروية، لأخذوا موقفا غير هذا الموقف المشرف بهم على مهاوى الهلاك، ولأخذوا بهذا الأسلوب الحكيم الذي رسمه ذلك الرجل المؤمن من آل فرعون، فى نصحه للضالين المعاندين من قومه، إذ يقول لهم هذا القول الذي حكاه القرآن عنه: «وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ» . (28: غافر) وقد استحق القوم أن يدانوا بما دانوا به أنفسهم، وأن يأخذوا بما شاء الله أن يأخذهم به، وهو أن يمطر عليهم حجارة من السماء، أو يأتيهم بعذاب أليم، إذا كان هذا الذي جاءهم به «محمد» هو الحق من عند الله.. فكيف يكون حكم الله فيهم بعد هذا؟ لقد كان الله سبحانه وتعالى حفيّا بنبيه، الذي أرسله هدى ورحمة للعالمين، فلم يشأ- سبحانه- أن يأخذهم بالعذاب، وأن يعجل لهم العقوبة، والنبي الكريم بين أظهرهم، حتى لا يسوءه الله فيهم، ولا يحزنه بمصرعهم على يديه.. وفى هذا يقول سبحانه: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» وهكذا يفلت القوم من هذا البلاء الذي عرّضوا أنفسهم عليه، وألقوا بأيديهم بين يديه، فلم يعجل الله لهم العذاب، إكراما لرسوله الكريم، وحماية لحمى موطن تعطّره أنفاسه، ولأرض وطئتها قدماه! وأكثر من هذا، فإن هذا الفضل العظيم من الله سبحانه لا يرفع عن هذه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 602 الأمة، بعد أن رفع نبيها إلى الرفيق الأعلى، بل إنه قائم فيها إلى يوم القيامة، ما دامت كلمة الاستغفار تجرى على شفاههم، كلما بعد بهم الطريق عن الله، وتغشاهم الجهل والضلال.. فإن طريقهم إلى الله مفتوح أبدا، ووجهتهم إليه مستقيمة دائما، إذا هم ذكروه، واستغفروا لذنوبهم، وعرضوا أنفسهم عليه، تائبين نادمين. اقرأ قوله تعالى: «وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» - فإنك ستجد فيها أنسام الرحمة والرضوان تهب على هذه الأمة، فتدفع عنها كل بلاء، وتصرف عنها كل جائحة. وهذا هو السر فى تخالف النظم بين قوله تعالى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» وبين قوله سبحانه: «وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» . فإن الفعل «يعذب» مقيد بزمن معين، وهو حال حياة النبىّ فيهم. أما اسم الفاعل «معذّب» فهو غير محدود بزمن، والقيد الوارد عليه هو قيد الاستغفار، وهو عتيد حاضر مع هذه الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وقوله تعالى: «وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» . الاستفهام هنا تهديدى، فيه نذير لهؤلاء المشركين الضالين، الذين يمسكون بما هم فيه من شرك وضلال، لا يستجيبون لله، ولا يدعون المؤمنين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 603 يلمّون بالمسجد الحرام، ويوجهون وجوههم إلى ربهم، بل يصدونهم عنه، ويحولون بينهم وبينه. ثم إنهم من جهة أخرى، ليسوا أولياء الله، حتى يتجاوز لهم عن آثامهم تلك، شأن الولىّ مع من يتولاه، ويغفر له زلاته، ويلقاه بفضله وإحسانه.. فالله سبحانه وتعالى، لا يتولى إلا المتقين، الذين جعلوا لله ولاءهم، فآمنوا به وتعبدوا له، واستقاموا على شريعته: «إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ» .. و «إن» هنا نافية، بمعنى «ما» أي ما أولياؤه إلا المتقون، كما يقول سبحانه: «اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ» . هذا، ويرى أكثر المفسرين أن الضمير فى قوله تعالى: «أولياءه» يعود إلى المسجد الحرام، أي وما كان المشركون أولياء المسجد الحرام، وأهل القوامة عليه.. ذلك أنه بيت الله، بل أول بيت وضع للناس، ومن هنا فإنه لا يستحق أن يكون قائما على خدمته، وحراسته، إلا أهل الإيمان والتقوى.. فكيف يدّعى هؤلاء المشركون القوامة على أمر هذا المسجد الحرام، وهم حرب عليه، وعلى الطائفين به، والمصلّين فيه من عباد الله المؤمنين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ» (17- 18: التوبة) . فهل يعمر مسجد الله هؤلاء المشركون الذين يأتون المنكرات، ويصدون الناس عن سبيل الله، ويجعلون صلاتهم عند البيت مكاء وتصدية، كما يقول الله سبحانه وتعالى بعد هذه الآية؟ وهذا الرأى الذي يقول به أكثر المفسّرين يتسع له النظم الذي جاءت عليه الآية الكريمة، كما يتسع للمعنى الذي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 604 ذهبنا إليه.. فالمشركون ليسوا أولياء الله، ولا أولياء بيت الله. قوله تعالى: «وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» . المكاء: الصفير، ومنه قول عنترة: وحليل غانية تركت مجدّلا ... تمسكوا فريصته كشدق الأعلم أي تضطرب فريصته بالدم المتفجر، ويحدث من اضطرابها صوت كهذا الصوت الذي ينبعث من شدق البعير حين يرغو، وذلك من أثر الضربة النافذة، التي تشبه شدق البعير فى سعتها وعمقها. والتصدية: التصفيق، الذي ينبعث له صدى. والمعنى أن صلاة هؤلاء المشركين التي يؤدونها لأصنامهم عند البيت الحرام- هذه الصلاة ليست إلا ضربا من اللهو والعبث، حيث لا يجدون ما يقولونه لهذه الأحجار المرصوصة، وتلك الخشب المسندة! وإذ يعوزهم القول فى هذا المقام، وتنهزم فى كيانهم مشاعر الجدّ والوقار لهذه المعبودات التي يتعبدون لها- فإنه لكى يكون لصلاتهم تلك، صوت يسمع، وأثر يحسّ، وواقع يرى- فقد استجلبوا لها هذه الأصوات المنكرة، وتلك الجلبة العمياء، حتى حتى يداروا بها عوار هذه المظاهر الكاذبة، التي تفضح المستور مما يدور فى خواطرهم من هزء وسخرية، بتلك الآلهة التي يؤدون لها هذا الولاء الزائف، والذي لو انكشف مستوره لكان صفعا وركلا، ولكنه جاء صفيرا وتصفيقا، أقرب شىء إلى الصفع والركل.. (الصفع بالأيدى، والركل بالأرجل) . وفى قوله تعالى: «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» إشارة إلى أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 605 هذا الذي يأتونه، هو كفر بالله، وصدود عن سبيله، بتولية وجوههم إلى هذه السخافات، وقطع عمرهم فى هذا العبث، الذي يحسبونه عبادة، ويعدونه صلاة، يجزون عليها جزاء العابدين المصلين..!! والعذاب الذي قدم إليهم هنا ليذوقوه، وليطعموا منه، هو ما نزل بهم من هزيمة منكرة يوم بدر، وما أريق فيه من دماء ساداتهم وكبرائهم.. وتلك جرعات عاجلة، فى هذه الدنيا، ولعذاب الآخرة أقسى قسوة، وأمرّ مرارة.. الآيات: (36- 40) [سورة الأنفال (8) : الآيات 36 الى 40] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) التفسير: ومن ضلالات هؤلاء المشركين أنهم ينفقون أموالهم فيما يكيدون به لأنفسهم، ويصرفونها به عن الخير، ويوردونها به موارد الهلكة والبوار. ومن عادة العقلاء ألا ينفقوا أموالهم ألا فيما يعود عليهم منه خير، يجدونه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 606 فى أنفسهم، أو فى أهليهم، أو فى المجتمع الإنسانىّ، خاصة أو عامة. أما أن يشترى الإنسان بماله ما يفسد حياته، ويغتال إنسانيته، ويدمّر وجوده، فذلك هو الذي لا يرى إلا فى عالم المجانين والحمقى. وهؤلاء المشركون قد بذلوا أموالهم فى سخاء، وقدموها فى رضى وغبطة، ليطفئوا بها نور الله الذي أرسله إليهم، وليخفتوا بها صوت الحق الذي بعثه الله ليؤذّن فيهم بآياته، فاشتروا بهذا المال الرجال والعتاد، وجعلوا من هذا جيشا جرارا ساروا به إلى النبىّ الكريم يوم بدر، يريدون القضاء عليه، وعلى الجماعة التي استجابت له، وآمنت بالله وبرسوله.. «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» .. هكذا فعل المشركون، وهكذا وجهوا المال الذي جعله الله فى أيديهم.. «فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً» .. وفى التعبير بفعل المستقبل عما فعلوه فى الماضي، تهديد ووعيد لهم، بأن الأموال التي سينفقونها فيما بعد على هذا الوجه الذي أنفقوه فيها فى موقعة بدر- ستكون عليهم حسرة، وستجرّ عليهم الخزي والبلاء كما جرته عليهم أموالهم التي أنفقوها فى تلك الموقعة.. حيث تذهب هذه الأموال من أيديهم، ثم تعود إليهم على هيئة رزايا ونكبات.. «ثُمَّ يُغْلَبُونَ» هو نذير لهم بما يلقاهم من مصير مشئوم، من هذا المال الذي أنفقوه، وانتظروا الثمر الجنىّ الطيب منه، بالنصر على المسلمين، واستئصالهم، وهذا ما لا يكون أبدا، ولن يكون إلا الهزيمة، وسوء المنقلب للمشركين. «وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ» .. وليست الهزيمة وحدها هى التي تنتظر هؤلاء المشركين، بل سيكون العذاب الأليم فى الآخرة هو مصير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 607 أولئك الذين يمضون فى طريقهم هذا إلى النهاية، فلا يرجعون إلى الله، ولا ويؤمنون به وبرسوله.. وفى العطف «بثم» التي تفيد التراخي فى قوله تعالى: «فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً» وفى قوله سبحانه: «ثُمَّ يُغْلَبُونَ» إشارة إلى أن الحسرة والهزيمة قد لا يكونان بعد كل مال ينفقونه، فقد يقع للمشركين فى بعض مواقفهم من المسلمين ما يحسبونه نصرا، ويرونه وجها نافعا مثمرا لهذا المال الذي أنفقوه، كما كان فى موقعة «أحد» .. ولكن العبرة فى هذا بالموقعة الفاصلة، التي تنكس فيها راية الشرك إلى الأبد، ويخفت صوت المشركين إلى يوم الدين.. وذلك ما انتهى إليه الأمر بين المسلمين والمشركين، فقد دخل رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- يقود جيش الإسلام- دخل على الشرك فى حصنه فاتحا مظفرا، فأجلى عن البيت الحرام ما احتشد فيه من أصنام وأنداد، وألقى بها فى مسالك مكة ودروبها، تدوسها الأقدام، وتحيلها أشلاء ممزقة، يمر بها الناس كما يمرون بالجثث المتعفنة، يتساقط عليها الذباب، وترعى فيها الهوام والحشرات.. قوله تعالى: «لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» . أي أن هذا الصراع الذي يقع بين الحق والباطل، ويدور بين المحقين والمبطلين، هو ابتلاء واختبار، تتبين به مواقف الناس، وتعرف به وجوههم، حيث يجتمع المؤمنون إلى المؤمنين، وينحاز المشركون إلى المشركين والضالين، ويوفى كلّ حسابه وجزاءه.. وفى قوله تعالى: «وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 608 فِي جَهَنَّمَ» إشارة إلى أن مجتمع الكفر والضلال، مجتمع فاسد ليس لإنسان فيه ذاتية، يتميز فيها إنسان عن إنسان، بعقله، ومدركاته، ومشاعره، كما يتميز عقلاء الناس، كلّ بإدراكه وإحساسه وشعوره.. فهم أشبه بقطيع من الحيوان، ليس لأحدها فى حقيقته ما يميزه عن غيره، إلا باللون أو الحجم، أما ما وراء ذلك فهى جميعها سواء فيه.. ومن هنا كان التعبير القرآنى: «وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ» أي يخلط بعضه ببعض خلطا لا حساب فيه لشىء، ولا تقديم لشىء على شىء، وإنما حكمها جميعا حكم حزمة الحطب يحتويها حبل واحد.. ثم كان التعبير القرآن «فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ» أي أن غاية هذا الجمع لتلك الجماعات الضالة هو إعدادها للوقود، وإلقاؤها فى جهنم. هكذا يفعل بالحطب حين يجمع، وحين يقدّم للوقود! وهكذا الخبيث من الأشياء، والنفاية من كل شىء، يلقى به.. بلا حساب ولا تقدير!. وقوله تعالى: «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ» هو تهديد، ووعيد لهؤلاء المشركين الذين أخزاهم الله يوم بدر.. فإن يكن فيما حدث لهم يوم بدر موعظة وعبرة، فيؤمنوا بالله، ويصدّقوا برسوله، ويصحبوا مؤمنين مع المؤمنين- إن يفعلوا ذلك قبلهم الله، وغفر لهم ما كان منهم من منكرات وآثام، وإن يعودوا إلى ما هم فيه من كفر وعناد، ومحادّة لله ورسوله، فقد عرفوا ما سيحل بهم من عذاب الله لهم.. فتلك هى سنة الله فى خلقه، وذلك هو حكمه على الظالمين الآثمين: الخزي والخذلان فى الدنيا، والعذاب والنكال فى الآخرة.. ولقد فتح الله باب التوبة والقبول لمن كان له مع نفسه مراجعة، وله إلى الله عودة.. فماذا ينتظر هؤلاء المشركون الذين ركبوا رؤوسهم، وأوشكوا أن يصبحوا فى الهالكين؟. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 609 وقوله تعالى: «وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» . هو أمر للمسلمين، وبيان لموقفهم الذي يقفونه من المشركين، وهو الجدّ فى قتالهم، وأخذهم بالبأساء والضراء حتى تنكسر شوكتهم، وتضعف قوتهم، فلا تكون لهم يد على المؤمنين، ولا قوة على الوقوف فى سبيل الله، وصدّ الناس عنه، وفتنتهم فى دينهم، وحتى يكون الدين كله لله، لا شريك له مما يشرك به المشركون.. وهذا الأمر الموجه للمسلمين هو احتراس من أن يهادنوا المشركين، ويدعوا أمرهم إلى الله، ليقضى فيهم قضاءه الذي قضاه فى الظالمين من قبلهم. فهذا القضاء وإن كان واقعا لا محالة من قبل الله بأهل المنكر والضلال، إلا أنه مطلوب من أولياء الله أن يعملوا له، وأن يأخذوا بالأسباب المنفّذة لقضاء الله النافذ، ولحكمه الذي لا يردّ.. فذلك هو البلاء الذي ابتلى به المؤمنون، ليكون لإيمانهم أثره وثمرته التي يحصّلونها منه، وينالون الجزاء الحسن عليه.. وقوله تعالى: «فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» تأكيد لهذا الأمر الذي أمر الله به المسلمين، من الجدّ فى جهاد المشركين، وأن الله مطلع على ما يكون منهم من بلاء فى الاستجابة لهذا الأمر، وصدق فى الوفاء به، حتى يكون من المشركين انتهاء عن محاربة الله، بعد أن يضربهم المسلمون الضربة القاضية.. وقوله سبحانه: «وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» .. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 610 هو تطمين للمؤمنين، وتقوية لعزائمهم على مواجهة الكافرين، ولقائهم تحت راية القتال، إذا هم أصروا على ما هم فيه من كفر، ومن محادّة لله ولرسوله وللمؤمنين.. فليثبت المؤمنون فى موقفهم هذا من الكافرين، وليقاتلوهم قتالا لا هوادة فيه، حتى لا تكون فتنة ويكون الدّين كله لله، والله سبحانه وتعالى يتولى المؤمنين، ويمدّهم بنصره وتأييده، ومن كان الله مولاه وناصره فلن يهن أبدا، ولن يخذل أبدا. وقوله تعالى: «نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» إما أن يكون صفة لله سبحانه، وصف بها ذاته، وإما أن يكون مقولة للمؤمنين، يلقون بها هذا الفضل العظيم الذي فضل الله عليهم به، فيما آذنهم به فى قوله: «فاعلموا أن مولاكم» ويكون هذا تلقينا من الله لهم، ولسان شكر يؤدون به لله بعض ما وجب عليهم لله، إزاء هذا العطاء الكريم الجزيل.. وإما أن يكون ذلك مقولة للوجود كله، نطق بها كل موجود، إذ سمع قول الله تعالى للمؤمنين: «فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ» فسبح الوجود كله بحمد الله، ليكون له نصيبه من تلك الولاية، التي تولى بها الله المؤمنين من عباده.. «أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» .. فانضم الوجود كله إلى المؤمنين وشاركهم الاستماع إلى هذا الخطاب الكريم من رب كريم: «فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ» فقال الوجود كله: «نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» .. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 611 الآيات: (41- 44) [سورة الأنفال (8) : الآيات 41 الى 44] وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) التفسير: فى أول هذه السورة جاء قوله تعالى: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ» .. جاء هذا القول حكما فى شأن الأنفال التي وقعت لأيدى المسلمين فى غزوة بدر.، وقد بينا فى شرح هذه الآية أن المسلمين قد اختلفوا فى شأن هذه الأنفال، فكان أن انتزعها الله من أيديهم ووضعها فى يد الرسول، ليضعها حيث يرى. وقد سمّى القرآن الكريم هذه «الغنائم» أنفالا، لأنها جاءت للمسلمين على غير تقدير منهم، حيث كانوا قلة فى وجه العدوّ، الذي جاء بجيش جرار، يريد استئصالهم بضربة قاضية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 612 ولكن الله- سبحانه- صنع للمسلمين فى هذه المعركة، وأراهم نصره وتأييده لأوليائه.. فكانت يد الله هى التي ردّت عنهم هذا العدوّ، وهى التي أظفرتهم بقريش، وما خلّفت وراءها فى المعركة من عتاد ومتاع، وكان المنتظر أن يكون المسلمون غنيمة ليد المشركين يومئذ، لا أن يكون المشركون غنيمة لهم. إذن فهذه المغانم التي وقعت لأيدى المسلمين هى «أنفال» .. والأنفال: جمع نفل، وهو ما جاء زائدا عن المطلوب.. ومنه النوافل فى الطاعات والعبادات، وهو ما جاء زائدا عن المطلوب.. ومن هذا قوله تعالى للنبىّ الكريم: «وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» (79: الإسراء) فتهجد النبي بالقرآن الكريم فى الليل هو تكليف خاص بالنبي، ليرفعه الله بهذه العبادة الواجبة عليه مقاما فوق مقامه.. أما المسلمون فلهم فى النبي الكريم الأسوة والقدوة.. وعلى هذا فالتهجد بالقرآن أمر مطلوب من المسلمين على سبيل الاستحباب لا الوجوب، وليس الشأن هكذا بالنسبة للنبى الذي اختصه الله بهذا التكليف، فجعل التهجد بالقرآن فرضا عليه. ومن ذلك قوله تعالى عن إبراهيم- عليه السلام-: «وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ» (72: الأنبياء) . فإسحق هو ابن إبراهيم، وقد جاءه على كبر، بعد أن بلغ هو وامرأته سنّ اليأس.. فهو أشبه بالنافلة، لأنه جاء على غير انتظار.. وكذلك «يعقوب» وهو ابن إسحق، وقد بشّر به إبراهيم كما بشر بإسحاق.. فهو نافلة النافلة، إذ لم يكن إبراهيم يرجو أكثر من أن يكون له ولد.. أما ولد الولد فهو أبعد ما يكون عن توقعه والتطلع إليه، بعد أن بلغ من الكبر عتيّا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 613 نقول هذا لنتبيّن الفرق بين «الأنفال» و «المغانم» .. إذ كانت «الأنفال» قد وقعت لأيدى المسلمين يوم بدر على غير ما يتوقعون.. أما المغانم التي سيغنمها المسلمون فيما بعد، فهى عن بلاء وعمل ظاهرين منهم، حيث يستقلّ المسلمون بأمرهم- بعد بدر- فى لقاء العدوّ، دون أن يلتفتوا إلى أمداد من الملائكة تقاتل معهم، كما رأوا ذلك فى «بدر» ، وإن كان تأييد الله وعونه لهم غير منقطع عنهم أبدا.. فهذه المغانم التي غنمها المسلمون يوم بدر أقرب إلى الأنفال منها إلى المغانم، ولهذا سمّاها الله سبحانه وتعالى «أنفالا» ليذكر المسلمون بهذه التسمية ما كان لله من فضل عليهم فيها. وإذن فقوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» .. ليس ناسخا لما جاء فى أول السورة فى قوله تعالى: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ» .. كما يقول بذلك أكثر المفسّرين.. فهذه الآية تقرر حكما فى شأن الغنائم، أما آية أول الأنفال، فهى خاصة بحكم الأنفال.. وفرق بين الغنائم والأنفال.. وإذن فلا تناسخ بين الآيتين. والأنفال- كما قلنا- هى التي تقع ليد المسلمين من غير قتال، أو بقتال لم يكونوا فيه إلا مظهرا تختفى وراءه يد الله التي تكتب لهم النصر، وتمنحهم الغلب. ولهذا، فقد ظلّ حكم الأنفال قائما، إلى جوار الحكم الخاص بالغنائم.. فكان ما يقع للمسلمين من غير بلاء هو «أنفال» يكون أمرها لله ولرسول الله.. وما يقع لهم من غنائم فهو على الحكم الذي بينته الآية الكريمة: «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ.. الآية» والتي سنعرض لشرحها بعد قليل. ففى غزوة خيبر سلّم اليهود للنبىّ والمسلمين من غير قتال، وذلك بعد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 614 أن سار إليهم النبىّ والمسلمون بعد صلح الحديبية، فلما استشعروا الهزيمة والهلاك أعطوا يدهم واستسلموا صاغرين.. وفى هذا نزل قوله تعالى: «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً» .. وقد اعتبرت مغانم خيبر أنفالا، كلها ليد الرسول، ينفقها فيما أمره الله به أن ينفقها فيه.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ «1» عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .. ثم يقول سبحانه بعد هذا: «ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» (6- 7: الحشر) . فقد جعل الله سبحانه الفيء هنا كلّه لله وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين، ولم يجعل فيه نصيبا مفروضا للمجاهدين، حيث لم تقع حرب، ولم يكن قتال.. نعود بعد هذا إلى شرح الآيات: فقوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» هو بيان لحكم الله فى الغنائم التي يغنمها المجاهدون بسيوفهم فى القتال.. فهى ثمرة عاجلة من ثمرات جهادهم.. ولو كان القتال لحسابهم لكانت هذه المغانم كلها لأيديهم، وأمّا وهم إنما يقاتلون لحساب الإسلام، ولإعلاء كلمة الله، فقد وجب أن يكون لله حقّ فى هذه المغانم، بل وجب أن تكون هذه المغانم كلّها   (1) قوله تعالى: «فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ» أي فما هجمتم عليه بخيل ولا ركاب، أي إبل.. وأصل الوجيف الاضطراب، ومنه قوله تعالى: «قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ» . وهذا هو شأن الخيل والإبل وخفقها فى السير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 615 حقّا لله.. ولكن الله- سبحانه وتعالى- عاد بفضله على المجاهدين، فعجّل لهم هذه الثمرة من جهادهم، وجعلها حظّا مشاعا بينهم، بعد أن يخرج منها الخمس الذي هو لله ولرسوله ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. فالمغانم التي يغنمها المجاهدون فى القتال تقسمّ هكذا: الخمس: لله ولرسول.. ولذى القربى.. واليتامى.. والمساكين.. وابن السبيل.. فهذا الخمس من الغنائم موزع على خمسة أقسام: قسم لله.. وما كان لله فهو لرسول الله.. وقسم لذوى القربى من رسول الله.. من بنى عبد المطلب وبنى هاشم.. وثلاثة أقسام للفقراء والمساكين وابن السبيل.. أما أربعة الأخماس الباقية من المغانم بعد مخرج هذا الخمس منها، فهى للمجاهدين الذين قاتلوا على تلك الغنائم.. تقسم بالسويّة بينهم.. لكل مقاتل سهم.. وفى التسوية بين المجاهدين، مع اختلافهم فى القوة والضعف، حيث يكون فيهم من يرجح بعشرات الأبطال، على حين يكون فيهم من هو دون ذلك بكثير- فى هذه التسوية احتفاء بالجهاد من حيث هو جهاد، وتكريم للمجاهدين من حيث هم على نية الجهاد، وفى ميدان القتال، ومعرض الاستشهاد.. فهذا هو الذي يحكم النّاس فى هذا المجال.. أما فضل بعض المجاهدين على بعض فى البأس والقوة، والنكاية بالعدوّ، فذلك- وإن كان له حسابه وجزاؤه- إلا أنه لا يصحّ أن يكون بالمكان الذي يجعل من المجاهدين درجات، ومنازل.. فهم جميعا على درجة واحدة، مع تلك النيّات التي انعقدت منهم على الجهاد، ومع هذا الموقف الذي واجهوا فيه الاستشهاد فى سبيل الله.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 616 وقد وقع فى نفس بعض المسلمين شىء من هذا، بل ربّما كان ذلك من أقويائهم وضعفائهم على السواء.. حين نظر بعض الأقوياء فرأوا أن فى التسوية بينهم وبين الضعفاء فى الغنائم غبنا لهم من الجانب المادىّ، الذي ربّما ينسحب على الأجر الأخروى.. على حين نظر الضعفاء إلى حظّهم المادىّ الذي تساووا فيه مع الأقوياء، فوقع فى أنفسهم أن ذلك ربّما لا ينسحب على حظهم الأخروى، فلا يكون لهم من الجزاء الأخروى ما لإخوانهم الأقوياء..! روى أحمد فى مسنده عن سعد بن أبى وقاص، قال: قلت: يا رسول الله.. الرجل يكون حامية القوم.. سهمه وسهم غيره سواء..؟ فقال: «ثكلتك أمّك ابن أمّ سعد! وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟» . ثم كان من عمل الرسول بعد أن اتصل التحام المسلمين بالمشركين أن جعل للفارس سهمين: له سهم، ولفرسه سهم.. أما الراجل فله سهم واحد.. وذلك ليستحثّ المسلمين على اقتناء الخيل، وإعدادها للقتال، لتكون سلاحا عاملا منهم فى الجهاد، ولهذا جاء قوله تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ» - جاء قوله تعالى هنا منبها إلى قيمة الخيل، وملفتا النظر إلى آثارها فى ميدان الحرب، وأنها- وعليها فرسانها- مصدر رهبة، ومثار فزع ورعب للعدوّ، الأمر الذي إن تحقق للمسلمين فى عدوّهم كان أول ضربة، يصيبون بها العدوّ فى مقاتله.. هذا، وقد اختلف فى الخمس الذي كان للرسول، مع الخمس الذي كان لقرابته، مما جعله الله لهما فى خمس الغنائم الذي توزع إلى خمسة أخماس.. وذلك بعد وفاة الرسول صلوات الله وسلامه عليه. أما خمس الرسول، فهو خمس الله الذي أضافه الله سبحانه إلى رسوله.. وعلى هذا يضاف هذا الخمس إلى ثلاثة الأخماس التي لليتامى والمساكين وابن السبيل.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 617 وأما خمس ذوى القربى فقد أباه أبو بكر رضى الله عنه عليهم بعد وفاة النبىّ، واعتبره ميراثا.. فقد كان النبىّ ينفق منه على ذوى قرابته، فلما توفّى- صلوات الله وسلامه عليه- لم يكن لذوى قرابته حق فيه، عملا بقول الرسول الكريم: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث.. ما تركناه صدقة» . وقد أخذ عمر بهذا بعد أبى بكر، كما أخذ به عثمان، ثم علىّ.. رضى الله عنهم، وأبى علىّ كرم الله وجهه أن يخرج على ما سار عليه الخلفاء الراشدون قبله.. وإن كان من رأيه- كاجتهاد له- أن خمس ذوى القربى حقّ لهم بعد الرسول، كما هو حق لهم فى حياته. وبهذا الرأى أخذ الإمام الشافعي، وبعض الأئمة، كما أنه هو الرأى المعتمد عند الشيعة. وقوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .. هو توكيد لتلك الدعوة التي دعى إليها المجاهدون من الله سبحانه، بأن يجعلوا مما يغنمون.. خمس هذه الغنائم، لله وللرسول، ولذى القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل.. فهذا الحكم الذي قضى به الله سبحانه، هو دعوة منه سبحانه إلى من آمن به.. فإن من شأن من آمن بالله أن يتقبل أحكامه راضيا مطمئنا، لا يطوف بنفسه طائف من الضيق أو الحرج.. والإسلام حريص أشدّ الحرص على سلامة نفوس المجاهدين، وتصفيتها من أية شائبة تعلّق بها فى هذا الموطن، الذي ينبغى أن يكون المسلم فيه، على ولاء مطلق للقضية التي يقاتل فى سبيلها، ويستشهد راضيا قرير العين من أجلها، الأمر الذي لا يتحقق إذا تسرب إلى النفوس شىء من دخان الضيق أو الشك. ولهذا، فإن من تدبير الحكيم العليم فى هذا، أنه بعد أن شدّ المؤمنين إلى الإيمان الذي وصلهم بالله، وأقامهم على الجهاد فى سبيله- ذكّرهم بما يمدّهم به من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 618 أمداد عونه ونصره، وهم فى مواجهة العدوّ، وفى ملتحم القتال معه، وأنّهم إنما ينتصرون على أعدائهم بتلك الأمداد التي يمدّهم الله بها.. فإن نسوا هذا فليذكروا ما أنزل الله على عبده «يَوْمَ الْفُرْقانِ» أي يوم بدر، حيث كان يوما فارقا بين الحق والباطل.. بين الإيمان والكفر.. «يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ» جمع المسلمين، وجمع الكافرين.. فقد شهد المسلمون فى هذا اليوم كيف كانت أمداد السّماء تتنزل عليهم، وكيف كانت آثار هذه الأمداد فى عدوّهم، وفى دحره وهزيمته.. «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» لا يعجزه شىء، فإن بيده- سبحانه وتعالى- مقاليد كل شىء: يعزّ من يشاء ويذل من يشاء، وينصر من يشاء، ويهزم من يشاء: «وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» .. فالذى أنزله الله على عبده يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان، هو هذا المدد السماوي من الملائكة.. وإيمان المسلمين بهذا المدد: هو التصديق بنزول الملائكة ومظاهرتهم لهم فى هذا اليوم.، فهذا خبر جاء به القرآن يجب على كل مؤمن أن يؤمن به! وقوله تعالى: «إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ» . «إذ» ظرف متعلق بقوله تعالى: «وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ» .. أي أن هذه الأمداد التي أمدّ الى بها «عبده» محمدا صلوات الله وسلامه عليه، كانت فى ذلك الوقت الذي واجهتكم فيه قريش بقوتها العارمة، تريد أن تضربكم الضربة القاضية.. وقد كنتم «بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا» أي على الجانب الأدنى من الوادي، وهو الجانب الذي يلى المدينة، على حين كان المشركون «بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى» أي بالجانب الآخر من الوادي، وهو الذي يلى مكة.. «وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ» أي العير التي كانت مع أبى سفيان، وقد أفلت بها من يد المسلمين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 619 - كانت لا تزال وراء الوادي تحمى ظهر العدوّ، وتشدّ عزمه على الدّفاع عنها، والموت دونها.. هكذا كان الموقف يومئذ: المسلمون وظهرهم إلى المدينة، والمشركون وظهرهم إلى العير التي يقاتلون من أجلها، وإلى مكة التي تنتظرهم عائدين إليها بالعير وبالنصر معا.. قوله تعالى: «وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا» أي لو كان هذا الموقف عن مواعدة بينكم وبين قريش، لما وقع على تلك الصورة التي جاء عليها كما وقعت، ولما حدثتكم أنفسكم بالخروج للقاء العدوّ وأنتم فى هذا العدد القليل وتلك العدة الهزيلة، ولوقع بينكم الخلاف والتخاذل عن هذا الموقف.. وهكذا دفع الله بكم إلى لقاء العدوّ عن غير اختيار منكم، وذلك «لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا» أي لينفذ قضاؤه فيما أراد كما راد، وتقع هذه المعركة، ويمدّكم الله فيها بأمداد النصر، وأنتم أبعد ما تكونون عنه. قوله تعالى: «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» أي فى الصدام بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر، تتحدّد مواقف النّاس، وينزل كلّ منزلته التي يستحقها، وهو على بيّنة من أمره، سواء أكان فى موكب الحق، أو فى مربط الباطل والضلال.. «وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ» يسمع ما تتحرك به الألسنة، ويعلم ما تنطوى عليه الصدور. قوله سبحانه: «إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» . ومن تدبير الله فى إنجاز هذا اللقاء الذي بينكم وبين المشركين أنه سبحانه أرى النبىّ فى منامه جيش قريش فى أعداد قليلة، وبهذه الرؤيا أخبركم النبىّ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 620 وأطمعكم فى العدوّ، فسرتم إلى لقائه، ولولا هذا لانحلّت عزائمكم، وفترت همتكم و «لفشلتم» أي خفتم وجبنتم، «وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ» فقال بعضكم بقتالهم، وقال آخرون بألّا قبل لكم بقتالهم.. «وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ» إذ أطمعكم فى القوم بعد هذه الرؤيا التي أخبركم النبىّ بها، فلم يقع منكم ضعف عن لقاء العدوّ، ولا تنازع فى الالتحام معه فى ميدان القتال.. «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» أي يعلم ما انطوت عليه الصدور، وما تلبّست به المشاعر. والسؤال هنا: هل كانت رؤيا النبي لجيش المشركين فى المنام على هذا الوجه الذي رآه عليها، من القلّة فى الرجال والعتاد- هل كانت هذه الرؤيا تمثل الواقع؟ وإذا لم تكن ممثلة له- كما هو الواضح- فكيف يرى الرسول الأمر على خلاف الواقع؟ ثم كيف يكون شأنه مع ذلك الذي رآه على خلاف واقعه إذا هو رآه رأى العين على ما هو عليه؟ ألا يحدث ذلك انفصالا عنده بين هذا الذي رآه فى منامه، وذلك رآه فى يقظته؟. والجواب على هذا: أن الرؤيا التي ترى فى المنام ليست هى الواقع فى ظاهره، وإنما هى- إذا كانت صادقة، كما هو الشأن فى رؤياء الأنبياء- هى الواقع فى مضمونه ومحتواه.. وإن كان بين الظاهر والمضمون ما بينهما من بعد بعيد فيما تراه العين منهما.. فالرؤيا الصادقة تمسك من الواقع بأعماقه وصميمه، دون أن تمسك بشىء من ظاهر هذا الواقع!. فقد رأى إبراهيم عليه السلام فى المنام أنه يذبح ابنه «إسماعيل» ، ومع هذا، فإنه لم يذبحه، بل الذي ذبحه فعلا هو ذبح عظيم، أي كبش، جعله الله فداء لذبح إسماعيل، ومع هذا، فقد صدّق إبراهيم الرؤيا وحقق مضمونها.. وذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 621 لأنه قدّم ابنه للذبح فعلا، وأضجعه على وجهه، كما تضجع الشاه للذبح! فماذا بقي بعد هذا من دواعى الاستجابة لأمر الله، وإنفاذ ما كلّفه به؟ إنه لا شىء إلا صورة ظاهرية، يرى منها إبراهيم دم ابنه وقد أريق، وروحه وقد أزهق. وإن كان إبراهيم قد رأى ذلك الدم يراق، وهذا الروح يزهق، رأى ذلك بمشاعره وأحاسيسه، وبما وقع على هذه المشاعر وتلك الأحاسيس من ألم وحزن، تلقاهما إبراهيم بالصبر على المكروه، والرضا المطمئن بقضاء الله وقدره.. فهذه الرؤيا كما رآها إبراهيم مناما، هى الواقع كما وقع مضمونا، وإن لم يكن كما وقع ظاهرا وحسّا. كذلك رأى النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- أكثر من رؤيا منامية، يختلف واقعها الظاهر عن مضمونها الذي تقع عليه، وإن التقى الظاهر والمضمون آخر الأمر فى الدلالات والآثار.. فقد رأى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- رؤيا منامية ليلة غزوة أحد، رأى ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنى قد رأيت والله خيرا..» رأيت بقرا لى تذبح، ورأيت فى ذباب «1» سيفى ثلما، ورأيت أنى أدخلت يدى فى درع حصينة.. فأما البقر فهى ناس من أصحابى تقتلون، وأما الثّلم الذي رأيت فى ذباب سيفى، فهو رجل من أهل بيتي يقتل.. وأما الدرع الحصينة فهى المدينة» . ورأى- صلوات الله وسلامه عليه- ما رواه أبو سعيد الخدري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس على منبره، وهو يقول: «أيها الناس قد رأيت ليلة القدر ثم أنسيتها، ورأيت في ذراعى سوارين،   (1) ذباب السيف: حده الذي يضرب به. والثلم: العطب الذي يلحق حد السيف، والخلل يحدث لأى شىء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 622 فكرهتهما، فنفختهما فطارتا، فأوّلتهما هذين الكذابين» .. وهما مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي.. اللذان ادعيا النبوّة.. وهنا.. هذه الرؤيا التي رآها النبىّ، من قلّة جيش المشركين فى غزوة بدر، هى فى الواقع صورة صادقة لهذا الجيش، ودلالة ناطقة تحدث بجميع الدلالات التي يدل عليها.. فهو جيش كثير كثيف فى ظاهره، ولكنه قليل ضئيل فى مضمونه وصميمه.. هكذا كان تأويل هذه الرؤيا، وقد جاء الواقع ناطقا بأبلغ بيان وأروع وأسلوب بصدق هذا التأويل!. فلقد انهزم هذا الجيش الكثير الكثيف بيد تلك القلّة القليلة، ومنى منها بالخزي والخسران- بما لم يمن به جيش أقل منه عددا وعدّة! فهو جيش كثير كثيف فى كتلته، ولكنه هزيل ضئيل قليل فى محتواه ومضمونه.. وهكذا تصدق الرؤيا صدقا مطلقا، ويجىء تأويلها صبحا مشرقا، لا خفاء فيه.. وغاية ما فى الأمر أن تأويل الرؤيا يحتاج إلى بصر نافذ، وبصيرة مضيئة مشرقة بنور الله، حتى ترى ما وراء الرؤيا، وتكشف عن مضمونها الذي انطوت عليه، وهذا ما كان عليه النبىّ صلوات الله وسلامه عليه الذي كان يرى واقع رؤياه على الصورة التي سيقع عليها.. وبهذا تكون رؤياه دليلا هاديا له، لا يقع له منها فى تصوره، ما يفسد تدبيره، أو يمزّق وحدة رأيه.. قوله تعالى: «وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» . هذه الرؤية الحسّيّة هى أشبه بالرؤيا المنامية، إذ كانت بحيث لا يرى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 623 منها الرائي، الواقع كما هو، بل يراه كدلالة من دلالات الواقع، أو إشارة من إشاراته. وانظر كيف كان تدبير الله، لما أراد من إنفاذ ما أراده، وإيقاع ما قضى بوقوعه.. فلقد أراد- سبحانه- أن يلتحم الفريقان فى القتال، وأن يغرى كلّ من الفريقين بصاحبه، وأن يحمله الطمع فى الظفر به على خوض المعركة معه، وإبلاء بلائه فيها.. فالمسلمون يرون عدوّهم فى قلّة ظاهرة.. قلّة فى العدد، وقلّة فى البلاء والقدرة على احتمال صدمة المسلمين لهم.. وهذا ما يثبّت أقدام المسلمين فى القتال، ويربط على قلوبهم فى المواجهة، ويطمعهم فى عدوّهم ويغريهم به.. ولو أنهم رأوا المشركين على ما هم عليه فى ظاهرهم لزلزلت أقدامهم، واضطربت قلوبهم، ولربّما فرّوا من وجه عدوّهم، واستسلموا له من غير قتال.. «وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ» .. وأما المشركون فقد أراهم الله المسلمين على ما هم عليه من قلّة، وربّما رأوهم فى أعينهم أقلّ من هذه القلّة التي كانوا عليها.. وهذا من شأنه أن يبعث فى نفوس المشركين، أو فى كثير منهم، مشاعر الاستخفاف بالمسلمين، وعدم المبالاة بهم، وأخذ الحذر منهم.. وبهذا يفوتهم كثير من إحكام التدبير، كما تتخلّى عنهم كثير من مشاعر الخوف التي تحمل الإنسان على استجماع قواه، واستخراج كل رصيد فى كيانه لدفع الخطر الذي يتهدده! وهكذا يصنع الله لأوليائه، فيمكّن لهم من أسباب النّصر، ثم يضيف هذا النّصر إليهم، ويدخله فى حسابهم..: «إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» الجزء: 5 ¦ الصفحة: 624 فالمسلمون يعلمون عن يقين كثرة عدوّهم، وعن هذا اليقين وطّدوا العزم على لقائه، وأعطوا المعركة كل ما يملكون من قوة وتدبير.. ثم يدخل عليهم بعد هذا شعور- مجرد شعور- بأن عدوّهم ليس على ما استقرّ فى يقينهم من أنه بهذه الكثرة التي تؤيسهم من الوقوف له، والظفر به.. فإذا التقى هذا الشعور بذلك اليقين، كان منهما كائن جديد من المشاعر التي تجمع بين الخوف والرجاء، والإشفاق والطمع، وتلك أحسن حال، وأحسن موقف يقفه الإنسان فى الحياة، وفى معالجة ما يلقاه من ميسور أمورها ومعسورها على السواء.. هذا على حين رأى المشركون عدوهم فى قلّة ظاهرة، كما وقع ذلك فى حسابهم لهم من أول الأمر، فداخلهم من ذلك شعور بالاستخفاف بهم والتهوين من شأنهم، والقدرة على تناولهم من قريب.. فكان ذلك أسوأ حال يلقى عليه مقاتل عدوّه! الآيات: (45- 48) [سورة الأنفال (8) : الآيات 45 الى 48] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 625 التفسير: شهد المسلمون فى موقعة بدر أمداد السّماء تتنزل عليهم، وتضع بين أيديهم هذا النصر المبين، الذي كان مفتتح انتصاراتهم التي ستجىء بعد هذا، فيما يدور بينهم وبين المشركين والكافرين من قتال.. ولئلا يغلب على المسلمين هذا الشعور الذي استولى عليهم يوم بدر، من عون الله لهم، وإمدادهم بالملائكة تقاتل معهم- لئلا يغلب هذا الشعور عليهم، ويسلمهم إلى التواكل والثقة بضمان النصر من غير إعداد وجهاد وبلاء، فقد أراهم الله فى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» - أراهم الطريق الذي يأخذونه لتحقيق النصر الذي ينشدونه، ورسم لهم الدستور الذي يستقيمون عليه ليكون لهم الغلب الذي يرجونه.. فالثبات للعدوّ، والتصميم على لقائه فى عزم وإصرار، دون أن يقع فى النفس أي هاجس يهجس بها للفرار، أو التراجع، أو أخذ الجانب اللّين من مواقف القتال- هو السلاح العامل بمالا تعمله كثيرة العدد والعدد، لكسب المعركة، وتحقيق النصر.. ولن يكون ذلك الموقف متاحا للإنسان وهو يواجه وجوه الموت، إلا إذا شدّ عزمه بالإيمان بالله، وملأ قلبه يقينا بالجزاء الذي أعدّه الله له، ومن هنا كان ذكر الله، والإكثار من ذكره فى هذا الموطن، هو الزاد الذي يتزوّد به المجاهد، للصبر على الشدائد، والثبات فى وجه الموت الذي يراه رأى العين، فيما يقع بين يديه من جئت وأشلاء.. فذكر الله سبحانه وتعالى، فى هذا الموطن الذي تصرخ فيه فى كيان الإنسان دواعى الحرص على الحياة، وطلب السلامة، وحب البقاء- هو الذي يمسك الإنسان على البلاء، ويسوّغ له طعم الموت، والاستشهاد فى سبيل الله، ابتغاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 626 الفوز برضاه، ولقائه- جلّ شأنه- على الوعد الذي وعد به المجاهدين فى سبيله! ومن أجل هذا كان الفرسان والأبطال، يصحبون معهم من يؤثرون بالحبّ، من زوجات وخليلات، ليكون فى صحبتهم لهم تذكير حىّ بالموقف الذي يجب أن يأخذوه فى ميدان القتال، حتى يكونوا موضع إعجاب وتقدير، عند من يحبونهم ويفعلون الشيء الكثير الذي يرضيهم، وينزلهم من قلوبهم منزل الإعزاز والإكبار.. فإذا لم يكن فى صحبة البطل زوجه أو خليلته، استحضر صورتها فى خياله، وتمثل شخصها حاضرا معه، يشهد بلاءه واستبساله.. يقول عنترة لمحبوبته.. عبلة: ولقد ذكرتك والرّماح كأنها ... أشطان بئر فى لبات الأدهم ما زلت أرميهم بثغرة نحره ... ولباته حتى تسربل بالدّم ويقول أيضا: ولقد ذكرتك والرماح نواهل ... منّى، وبيض الهند تقطر من دم فوددت تقبيل السيوف لأنّها ... لمعت كبارق ثغرك المتبسم ويقول الحارث بن حلزّة أحد أصحاب المعلقات: على آثارنا بيض كرام ... نحاذر أن تفارق أو تهونا يقتن جيادنا ويقلن لستم ... بعولتنا إذا لم تمنعونا فكيف إذ ذكر المؤمن ربّه، واستحضر جلاله، وعظمته، فى هذا الموقف الذي ينتصر فيه لله، ويجاهد فى سبيله، ويعمل على مرضاته، ويطلب المثوبة من جزيل عطاياه؟ إن الذي يذكر الله فى هذا الموطن، ذكرا ينبعث من قلبه، ويتحرك من وجدانه- يستخفّ بالموت، ويلذّ له طعمه، ويجد أن حياته التي يقدمها لله ليست شيئا إلى جانب الحياة الأخرى التي هو صائر إليها، وواجد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 627 ما قدّم لها.. وهذا هو الذي أمسك بالمجاهدين فى سبيل الله على حياض الموت، فكتبوا بدمائهم تلك الوثائق الخالدة على الزمن، فى التضحية والفداء. هذا عن المجاهد مع خاصة نفسه.. ولكن المسلم لا يقاتل وحده، وإنما هو واحد فى جماعة المجاهدين الذين يقاتل معهم، ويستند إليهم، ويستندون إليه.. ومن هنا كان من تمام البناء لتلك القوة التي يلقى بها المسلمون عدوّهم أن يكونوا صفّا واحدا، تمسك به مشاعر واحدة، فلا يتوزعهم الخلاف، ولا يمزق وحدة مشاعرهم النزاع، فذلك أمر إن وقع فى جماعة أذهب ريحها، وحلّ عزيمتها، وأفسد تدبيرها، ومكنّ للعدو منها، مهما كانت القوة التي عليها أفرادها، والبلاء الذي يعطيه كل فرد منها فى ميدان المعركة.. ولهذا جاء قوله تعالى: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» - جاء ليشدّ تلك الجماعة بعضها إلى بعض، بعد أن شدّ كلّ فرد فيها إلى موطن العزم والصبر، من نفسه. ثم إنه لكى يقوم للمسلمين شاهد حسّىّ، يشهد لهم بمفعول هذه الوصاة الكريمة التي وصاهم الله بها، أفرادا وجماعة- فقد أراهم الله ما حلّ بالمشركين من بلاء، وما أصيبوا به من خذلان، وأن ذلك كان لما وقع بينهم من تنازع فى الرأى واختلاف فى الحساب والتقدير.. وقد صحب المشركين هذا التنازع وذلك الخلاف منذ خرجوا من مكة إلى أن التقوا بالمسلمين فى بدر، فكانوا شيعا وأحزابا، لكل شيعة رأيها فى الموقف، وتقديرها له، ولكل حزب حسابه وتقديره.. فكثر فيهم القائلون، بألّا حاجة لهم فى القتال بعد أن سلمت العير، ومن قائل: لا بد من القتال.. ثأرا لكرامة قريش وهيبتها، كما يروى عن أبى جهل حين تنادى بعض المشركين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 628 بالرجوع عن الحرب وقد سلمت لهم العير، فقال: «والله لا نرجع حتى نرد بدرا فنقيم ثلاثا، فننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبدا!!» .. ومن بين هذين الرأيين طارت شرارات الشقاق والخصام، وتناثرت كلمات التلاحي والتنابز، فتحركت فى الصدور عداوات قديمة، وانبعثت من مرقدها فتن كانت نائمة.. وهكذا دخل القوم المعركة، وهم على تلك الحال، من تفرق الكلمة، وتمزق الوحدة، فى الرأى والمشاعر.. وفى هذا يقول الله سبحانه وتعالى محذّرا للمسلمين من أن يكون منهم مثل هذا الموقف، فى لقاء يكون بينهم وبين عدوهم.. يقول الله سبحانه: «وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» . فما خرج هؤلاء القوم دفاعا من حق، أو انتصارا لمبدأ، وإنما الذي أخرجهم هو البطر، أي الكبر، والكفر بنعمة الله، ثم ما يحدّث به الناس عنهم من أنهم أولو قوة وأولو بأس شديد، حين يرى الناس منهم ما جمعوا من مقاتلين، وما حملوا من سلاح وعتاد، ثم ما يقع لهم من هذا التدبير الذي دبروه، وهو الوقوف فى وجه تلك الدعوة التي كانت شجّى فى حلوقهم، وقذى فى أعينهم! هذا ما أخرج القوم للقتال، وهذا ما خرجوا له.. ومن أجل هذا كان الخلاف بينهم، والتفرق فى وحدتهم، والتمزق فى مشاعرهم.. كلّ يأخذ الموقف الذي يشبع غروره وكبره، ويشهد الناس منه منزلته فى قومه، وكلمته المسموعة فى رهطه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ» فهذا هو الشعور الذي غلب على رؤساء القوم وأصحاب الكلمة فيهم.. أما عامتهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 629 فكانوا تبعا لأهواء سادتهم، لا يقوم فى كيان أحدهم شعور بمبدأ يقاتل عليه، وينتصر له.. أما قوله تعالى: «وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» فذلك هو الجرم الذي اشترك فيه القوم جميعا، رؤساء ومرءوسين.. فكانوا جميعا جيشا مقاتلا للدعوة الإسلامية، وحصرها فى أضيق الحدود.. أما البطر، ومراءاة الناس فكان لونا اصطبغ به بعضهم دون بعض، وغاية عمل لها أناس دون آخرين.. ولهذا اختلف النظم، لأن البطر والرياء شأنهم دائما فعبّر عنهما القرآن بالمصدر، الذي يفيد الثبوت والاستمرار، وأما الصدّ عن سبيل الله، فهو أمر جدّ عليهم بعد ظهور النبىّ فعبّر عنه بالفعل، الذي يفيد الحدوث والتجدد: «وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» . وقوله تعالى: «وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ» . الآية معطوفة على قوله تعالى: «وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ» أي لا تكونوا كهؤلاء القوم الذين خرجوا على تلك الصفة، ولهذا الوجه، ولا تكونوا كهؤلاء على تلك الحال التي خرجوا فيها وقد زين لهم الشيطان أعمالهم.. فهؤلاء إنما خرجوا متّبعين أهواءهم، منقادين للشيطان الذي دعاهم، فاستجابوا له، وأعطوه زمامهم، بعد أن ملأ صدورهم أملا كاذبا، بأنهم قوة لا تغلب، بما هم عليه من عدد وعدة! فكيف إذا كان هو جارا لهم، وسندا وظهيرا فى ميدان القتال معهم؟ «فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ» أي التقت الفئتان، ورأى بعضهم بعضا، والفئتان هما: المسلمون، والمشركون.. «نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ» أي رجع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 630 الشيطان إلى الوراء، يمشى القهقرى، وهو ينظر إليهم كما ينظر الغريم إلى غريمه وقد أوقعه فى حفرة، وتركه لمصيره الذي ينتظره. «وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ» إنها أحجار يقذف بها الشيطان فى وجه القوم بعد أن ألقى بهم فى هذه الحفرة.. إنه برىء مما حلّ بهم، أو سيحلّ من بلاء، يراه قبل أن يروه.. فلقد رأى الملائكة تأخذ مكانها فى ميدان المعركة مع المسلمين، وإن ذلك ليعنى عنده أن القوم قد أصبحوا فى الهالكين..! وهكذا يتبرأ الشيطان منهم، كما يتبرأ من فعلته التي فعلها بهم.. إنه يخاف الله، ويخاف ما يحلّ به من عقاب الله، وإنه لعقاب شديد! والسؤال هنا: كيف يعلن الشيطان أنه يخاف الله، ويخشى عقابه الشديد، وهو قائم على عصيان الله ومحادّته، بفتنة الناس، وإغوائهم بالضّلال، وصدهم عن سبيل الله؟ أهذا يكون ممن يعترف بالله، ويخشى عقابه؟ والجواب: أن الشيطان معترف بوجود الله، مؤمن بسلطانه وسطوته، ولكنه مبتلى بعصيان الله فى بنى آدم وإغوائهم، وإفساد ما بينهم وبين الله.. هكذا كان قضاء الله، فيما بينه وبين آدم، وذرية آدم.. لقد عصى الله إذ أمره بالسجود لآدم.. فكان أن لعنه الله، وطرده من مواقع رحمته، ومواطن رضوانه.. ومن هنا بدأ إبليس ينتقم لنفسه من آدم وذريته، إذ كان بسببه، هذا الذي أنزله الله به من عقاب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 631 وقد طلب إبليس من الله أن ينظره إلى يوم يبعثون، ليفسد هذا الإنسان الذي فضّله الله عليه، وطرد إبليس من رحمته بسببه.. وكان هذا من إبليس تحدّيا لله، وإمعانا فى الضلال: «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» . وتزيين الشيطان للمشركين، وقوله لهم: «لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ» هو مما وسوس لهم به فى صدورهم من ضلال، وما ألقى إلى سفهائهم من غرور، حتى لقد تمثلت تلك الوسوسة خواطر تتحرك فى مشاعر القوم، وحتى لقد تخلّقت هذه الخواطر فكانت قولا، يجرى على ألسنة القوم، ويتنادون به.. وأنهم لن يغلبوا.. فموقف الشيطان وأعوانه فى صفوف المشركين، هو مقابل لموقف الملائكة فى صفوف المؤمنين.. ولكن شتان بين موقف وموقف.. فالشيطان يغرى بالباطل، ويمدّ بالضلال، ويعين بالأكاذيب.. أما الملائكة، فقد طلعت على المسلمين بريح القوة، وهبّت بأنسام النصر، فملأت قلوب المسلمين أمنا وطمأنينة، فثبتت من أقدامهم، وقوت من عزائمهم، وأطمعتهم فى عدوّهم.. فكان لهم الظفر بعدوّهم.. وفى هذا يقول الله تعالى: «قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ» (77: 85 ص) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 632 وهكذا يقضى الله سبحانه وتعالى بين إبليس وبين أبناء آدم. يغريه بهم، ويسلطه عليهم، ليخزيه آخر الأمر، وليريه من أبناء آدم ما يزيده حسرة وحزنا، فيما يرى مما لله فى أبناء آدم من أصفياء وأولياء، أنزلهم منازل رضوانه، وفتح لهم أبواب جنّاته، يلقون فيها ما أعدّ لهم من نعيم مقيم.. وفى هذا يقول الله تعالى: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42: الحجر) .. فإذا كان لإبليس أولياء من بنى آدم، يؤدّى فيهم رسالته الضالّة المفسدة، فإن فى أبناء آدم من يقف له بالمرصاد، ويلبسه لباس الذلة والخزي! وعلى هذا، فإن الشيطان إذ يغوى الغاوين من أبناء آدم، وإذ يدفع بهم إلى مواطن الضلال- إنما يؤدى رسالته التي تخيّرها لنفسه فيهم، وهو يعلم أنه على عصيان لله، فيما يأتيه مع أبناء آدم من إغواء وإضلال.. ولكنه- مع هذا- لا يملك من نفسه أن يردّها عن هذا الاتجاه الذي اتخذته، بحكم سابق، وقضاء نافذ.. فهو- والحال كذلك- يؤدّى رسالة الشرّ فى أبناء آدم، كما يؤدّى الأنبياء رسالة الخير فيهم، وللشيطان أولياؤه وأتباعه، كما للأنبياء أولياؤهم وأتباعهم.. ومن جهة أخرى، فإن الشيطان- لحكمة أرادها الله- مغطّى على بصره، لا يرى الشرّ الذي يزرعه فى أبناء آدم، حتى ينبت، ويزهر، ويثمر.. وهنا يدرك أنه اقترف الإثم، ووقع فى المعصية.. وهنا أيضا يري عقاب الله الراصد له، جزاء ما اقترف من آثام.. وفى هذا بلاء عظيم، وعذاب أليم، وتلك هى لعنة الله التي حلّت بإبليس.. يعمى عن الشرّ فيقع فيه، حتى إذا وقع فيه أبصره وتحقق منه، وجنى الحسرة والندامة مما غرس بيديه! الجزء: 5 ¦ الصفحة: 633 الآيات: (49- 54) [سورة الأنفال (8) : الآيات 49 الى 54] إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54) التفسير: الظرف «إذ» متعلق بالفعل «خرجوا» فى قوله تعالى: «وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ» . فالظرف هنا حال من تلك الأحوال التي تلبّس بها خروج المشركين لقتال المسلمين فى بدر.. ففى الحال التي خرج فيها المشركون بطرا ورثاء الناس.. كان هناك المنافقون والذين فى قلوبهم مرض يستصغرون شأن المسلمين، ويسلقونهم بألسنة حداد، ويرمونهم بالغرور.. إذ كيف- وهم فى هذا العدد القليل- الجزء: 5 ¦ الصفحة: 634 يتصدّون لقريش، ويتعرضون لعيرها، ثم لا يقفون عند هذا، بل يخفّون للقائها فى ميدان القتال! وقد ردّ الله سبحانه وتعالى على هؤلاء المنافقين والذين فى قلوبهم مرض، بما يكبتهم ويخرس ألسنتهم، ويملأ قلوبهم حسرة وكمدا.. فقال تعالى: «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» فهؤلاء المسلمون- وإن كانوا قلة- قد كان لهم من التوكل على الله، والثقة فيه، ما يجعل من قلتهم كثرة، ومن ضعفهم قوة. فهم أعزّاء أقوياء، بعزّة العزيز الحكيم، وقوته.. والمنافقون والذين فى قلوبهم مرض: هم من كان فى المدينة من منافقى اليهود، وغيرهم. وقوله تعالى: «وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ» . إشارة إلى ما حلّ بالمشركين الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورثاء الناس، من بلاء ونكال فى يوم بدر الذي خرجوا له، وهم على تلك الحال التي كانت تستولى عليهم من الزّهو والخيلاء.. فهاهم أولاء يتلقّون الصفعات على وجوههم، والضربات على أدبارهم، كما يفعل بعيدهم وإمائهم..! فأين العزّة والمنعة؟ وأين السطوة والجاه؟ لقد تعرّوا من هذا كلّه، ولبسوا ثوب الخزي والمهانة، ونزلوا إلى أسوأ مما كان عليه الأرقاء.. من عبيد وإماء! وإذا كانت تلك الأيدى التي تناولتهم بالصفع على وجوههم، وتلك الأرجل التي أخذتهم بالرّكل على أدبارهم، أيديا خفيّة لا ترى، لأنها يد القوى السماوية التي سلطها الله عليهم يومئذ- فإنّ هناك أيديا شوّهت هذه الوجوه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 635 بضربات السيوف، وركلت هذه الأدبار بأزجّة الرّماح، وهى أيد رآها الناس رأى العين، وشهدوا آثارها وأفعالها فى هؤلاء السادة المتكبرين.. إنها أيدى أولئك المسلمين الذين استرهبهم المشركون بزهوهم وخيلائهم، وغمزهم المنافقون والذين فى قلوبهم مرض بقوارص الكلم، وسيىء القول. وقوله تعالى: «وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ» هو بيان للمصير الذي صار إليه أولئك المشركون الذين أذلّ الله كبرياءهم فى هذا اليوم، يوم بدر، وهو مصير مشئوم، يلقى بهم فى سواء الجحيم، حطبا لجهنم، ووقودا لسعيرها.. وذلك الذي حلّ بالمشركين من هوان فى الدنيا، وعذاب فى الآخرة، هو جزاء لما كان منهم، وما قدّمت أيديهم من سوء.. «ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» ! وقد اختلف فى المراد بالخطاب فى قوله تعالى: «وَلَوْ تَرى» أهو خطاب خاص للنبى؟ أم هو لكل من شهد المعركة؟ أم هو خطاب عام غير مقيد بشخص أو بوقت، بل هو لكل من يستمع إلى هذا الخطاب؟ والرأى، أنه خطاب عام لكل من استمع أو يستمع إليه. وفى قوله تعالى: «وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» - ما يسأل عنه؟ لماذا جاء التعبير بنفي الظلم عن الله بصيغة المبالغة «ظلّام» ؟ وهل إذا انتفت المبالغة فى الظلم أينتفى معها الظلم نفسه؟ والجواب- والله أعلم- أن صيغة المبالغة هنا إنما تكشف عن وجه البلاء الذي وقع بالمشركين، وأنه بلاء عظيم، وعذاب أعظم، وأن الذي ينظر إليه يجد ألا جريمة توازى هذا العقاب وتتوازن معه، فى شدّته، وشناعته، حتى ليخيّل للناظر أن القوم قد ظلموا، وأنه قد بولغ فى ظلمهم إلى أبعد حد، فجاء قوله تعالى: «وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» ليدفع هذا الوهم الذي يقع فى نفس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 636 من يرى هذا البلاء الذي حلّ بهؤلاء القوم الضّالين، وهو بلاء فوق بلاء، فوق بلاء!! قوله تعالى: «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ» . الدّأب: الحال والشأن.. أي أن ما فعله الله بهؤلاء المشركين، الذين علوا فى الأرض، وبغوا، قد فعله- سبحانه- بأمثالهم ممن علوا وبغوا.. ومن هؤلاء آل فرعون، ومن كان قبلهم من الطّغاة والظالمين- قد أخذهم الله بذنوبهم، ولم يعصمهم من عقاب الله، ما كانوا عليه من جبروت وقوة، فإن قوة الله لا تدفعها قوة، وبأسه لا يردّه بأس: «إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ» . هذا، ويرى بعض المفسرين أن قوله تعالى: «كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ» هو عائد إلى المشركين، لا إلى آل فرعون.. أي أن شأن المشركين كشأن آل فرعون.. قد كفروا مثل كفرهم.. والرأى عندنا أن هذا الوصف عائد على آل فرعون، حيث يبرز من هذا الوصف حال المشبّه به- وهم آل فرعون- على صورة كاملة، يستغنى بها عن وصف المشركين بأية صفة بعد أن ألحقوا بآل فرعون فى كل مالهم من صفات، كان الكفر أظهر ألوانها.. والسؤال هنا: لم كان حكم الله هذا واقعا على آل فرعون ومن كان قبلهم، مع أنه حكم واقع على كل جبار مفسد متكبر، سواء أكان قبل آل فرعون أو بعدهم؟ والجواب- والله أعلم- أنّ من كان قبل آل فرعون، قد وقعوا تحت هذا الحكم فعلا.. أما من بعدهم، فمنهم من أخذه الله بهذا العقاب، ومنهم من ينتظر دوره مع حركة الحياة، وسير الزّمن.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 637 وهذا يعنى أن من بعد آل فرعون من الظّلمة والآثمين، وإن أخذ بعضهم بهذا العقاب، فإن آخرين- ومنهم المشركون والمنافقون الذين عاصروا النبوة- ينتظرون وقوع هذا الحكم بهم، وأن الباب قد فتح لهم ليدخلوا فيما دخل فيه الظالمون قبلهم.. وفى هذا تهديد، ووعيد لمن كان على هذا الطريق، أو سيكون عليه، لينجو بنفسه، ويأخذ سبيلا غير هذه السبيل التي هو عليها. وقوله سبحانه: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» . - هو دعوة عامة للناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم، طائعهم وعاصيهم أن يوجهوا وجوههم إلى الله، وأن يستقيموا على طريق الحقّ والخير، فإنهم إن فعلوا هذا أمنوا تلك النوازل التي تنزل بأعداء الله، وتدمّر ما بنوا، وتخرّب ما عمروا.. فالله سبحانه لا يسلب عباده نعمة من نعمه التي فضل بها عليهم، إلا إذا أحدثوا من الأمور ما يعرضهم لانتقام الله منهم، بسلب ما منحهم من فضله: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» وتغيير ما بأنفسهم، هو تحولهم من حال سيئة إلى حال أكثر سوءا.. «وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» يسمع ما تنطق به الألسنة، من خير أو شر، ويعلم ما تنطوى عليه القلوب، من إيمان أو كفر.. وهذه الآية إنما تعنى أولا وبالذات أهل الزيغ والضلال، وتحذّرهم من أن يقيموا على ما هم عليه من زيغ وضلال، فإن ذلك مؤذن بأن يبدّل الله نعمهم نقما، وأن بغير حالهم من سوء إلى أسوأ.. والسؤال هنا هو: كيف تقع غير الله بالظالمين والطغاة، وهم على ما عهدتهم الحياة من ظلم وطغيان.. لم يغيروا ما بأنفسهم من بغى، وظلم وعدوان؟ إن ما ينزل بهم من نقم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 638 الله، هو فيما يبدو لم يكن عن تغيير لما فى أنفسهم من خير إلى شر، ومن إيمان إلى كفر.. فهم أبدا على الشر، وهم أبدا مع الكفر؟ فكيف هذا؟ والجواب: أن الظالمين، والطغاة، والمنحرفين عن طريق الحق، والخير، لا يظلّون على حال واحدة مما هم فيه، بل إنّهم مع الشرّ الذي صحبوه، لا يزدادون به مع الأيام إلّا شرّا.. ذلك أن الشرّ ينمو فى كيان صاحبه، كما تنمو الحبّة فى الطين.. إلا أن يقتلع نبتة الشر من جذورها، ويغرس فى نفسه نبتة الخير والإحسان.. وعلى هذا، فإن أهل السوء والضلال، إذا أمسكوا بماهم عليه من سوء وضلال ازدادوا مع الأيام سوءا وضلالا، وكانوا فى يومهم شرا من أمسهم، وهم فى غدهم أكثر شرّا من يومهم..! وإذن، فالمتوقّع- غالبا- من أهل البغي والضلال أن يقع منهم تغيير لما فى نفوسهم، وهو تغيير إلى أسوأ، إذا هم لم يراجعوا أنفسهم، ويرجعوا عماهم فيه، من بغى وضلال. هذا، وليس تغيير ما فى النفوس يكون دائما من خير إلى شر، أو من شر إلى ما هو شرّ منه.. بل ما أكثر ما يكون التغيير على عكس هذا، وهو التغيير من شر إلى خير، ومن سيىء إلى حسن.. فكلا هذين التغييرين واقع فى الحياة، حيث يصلح الفاسد، ويفسد الصالح.. وهكذا تتغير مواقف الناس وتتبدل أحوالهم.. والمطلوب من الإنسان أن ينشد التغيير الذي يبعده من الظلام ويدنيه من النور.. ففى ذلك رشده وصلاحه، وسعادته.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» (11: الرعد) فهذا قضاء الله فى عباده.. لا يغير ما بهم، ولا يخرجهم عما هم فيه من نعمة وعافية، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 639 أو من شدة وبلاء، حتى يحدثوا هم تغييرا فى أنفسهم، وتحوّلا فى منازعهم وسلوكهم، وهنا يغير الله أحوالهم حسب ما كان منهم من تغيير.. من اتجاه إلى الحق والخير، أو انحدار إلى الشر والضلال.. قوله تعالى: «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ» . الجار والمجرور «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ» متعلق بقوله تعالى: «حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» أي أن الله سبحانه وتعالى لا يغيّر ما بقوم، ولا يحوّلهم عماهم فيه من عافية ونعمة، حتى يحدثوا هم تغييرا فى أنفسهم، من سيىء إلى أسوأ، ومن شر إلى ما هو أكثر شرا منه، كما فعل آل فرعون، الذين زادهم الهدى الذي جاءهم به موسى، ضلالا وكفرا وعتوّا، فكان هذا التغيير الذي حدث فى أنفسهم مؤذنا بما سيحلّ بهم من سوء وبلاء، إذ غيّروا ما بأنفسهم، حين ازدادوا ضلالا إلى ضلال فغير الله ما هم فيه من نعمة وعافية.. وفى قوله تعالى: «كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ» المعدول به عن القول الذي يقتضيه النظم: «كذبوا بآياتنا» فى هذا إشارة إلى مدى ما كان عليه القوم من عتو وعناد، مع ما لله عليهم من ألطاف ونعم، إذ ساق إليهم آياته، تحمل الهدى والخير، وقد أضافهم سبحانه وتعالى إليه هكذا: «رَبِّهِمْ» ليذكروا ربوبية الخالق لهم، الذي أخرجهم من عالم العدم إلى عالم الحياة، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، وأخرج لهم من الأرض أقواتهم، وجعل لهم فيها فجاجا سبلا، وأنهارا جارية، وعيونا سائلة.. ومع هذا وكثير غيره، فإن القوم لم تنفعهم هذه الذكرى، بل ازدادوا بها عتوا وضلالا. وفى قوله تعالى: «فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 640 ظالِمِينَ» - إشارة إلى ما حلّ بهؤلاء الظالمين من آل فرعون، ومن كان على شاكلتهم فى البغي والعدوان.. لقد أهلكهم الله جميعا بذنوبهم، وجعل لكلّ جماعة من هؤلاء الظالمين مهلكهم الذي يهلكون به، كما يقول سبحانه: «فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (40: العنكبوت) . وقد كان مما أخذ الله به فرعون وآله، هو الغرق، وكان ذلك جزاء وفاقا لكفرهم وعنادهم، وتغيير ما بأنفسهم.. وانظر.. لقد كان الذي فيه فرعون وقومه من نعمة وقوة وسلطان، هو من فيض النيل ونفحاته، إذ كان «النيل» هو مصدر الحياة لهذا الوادي ومن فيه، وفى هذا يقول فرعون معتزا بما بين يديه من قوّة: «أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي؟ أَفَلا تُبْصِرُونَ؟» . وقد كفر فرعون بهذه النعم، وجعل منها سياط عذاب يأخذ بها الناس، ويوردهم موارد الذلة والهوان، فكان أن قتله الله وآله، بتلك النعمة، وجعلها تجرى فى حلقه ملحا أجاجا، بعد أن كان يجرى ماء النيل فى هذا الحلق عذبا زلالا.. وهكذا يهلك بالماء، وقد كان يحيا على الماء وبالماء! وفى هذا الذي كان من فرعون وملائه نذير لهؤلاء المشركين، الذين كفروا بآيات ربهم، وكذبوا رسوله الذي حمل إليهم الهدى والنور.. وكما أخذ آل فرعون بعذاب الله، فإن هؤلاء المشركين، هم فى مواجهة عذاب الله، وفى معرض النقمة والبلاء.. غير أن آل فرعون قد فوّتوا على أنفسهم فرصة النجاة، فلم يرجعوا إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 641 الله، ولم ينتهوا عن غيّهم.. أما هؤلاء المشركون، فما زالت الفرصة سانحة لهم، وما زال طريق النجاة مفتوحا بين أيديهم.. فماذا هم فاعلون؟ الآيات: (55- 60) [سورة الأنفال (8) : الآيات 55 الى 60] إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) التفسير: قوله تعالى «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» .. هو التعقيب المناسب لما أخذ به الظالمون من بلاء ونكال.. إنّ هذا الحكم هو الذي تشيّعهم به الحياة، وهم يعالجون سكرات الموت، إذ كانوا فى حرب مع الله، ومع أولياء الله.. فكيف يرحمهم قلب، أو تدمع عليهم عين؟ وفى قوله تعالى: «فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» بعد قوله سبحانه: «الَّذِينَ كَفَرُوا» - فى هذا ما يسأل عنه: إذ كيف يكون نفى الإيمان عنهم مسبّبا لكفرهم، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 642 مع أن عدم الإيمان هو عين الكفر.. والسبب لا يكون عين المسبّب، وإن كان نتيجة لازمة من لوازمه؟ .. والجواب- والله أعلم-: أن كفر هؤلاء الكافرين الذين وصفوا بأنّهم شرّ الدّوابّ عند الله.. إنما يتلبس بنفوس خاصّة، من جماعة من الكافرين، لا بكلّ الكافرين.. وتلك الجماعة هى التي من شأنها ألا تخلع هذا الكفر أبدا، بل تشدّ قلوبها عليه، حتى تموت به! ومن هنا استحقت تلك الجماعة هذا الوصف الذي وصفها الله سبحانه وتعالى به، وهى أنها شرّ ما دبّ على الأرض من كائنات، وذلك لأنها لا تعقل كما يعقل الناس، ولا تسمع كما يسمع الناس، ولا تبصر كما يبصر الناس.. ثم هى ليست من دوابّ الحيوانات، تعيش، فى حدود الطبيعة المتاحة لتلك الدواب، وإنما هى خلق آخر.. مزيج من الإنسان والحيوان.. وذلك مسخ للإنسان، وللحيوان معا، وبهذا المسخ يكون هؤلاء الآدميّون الحيوانيّون شرّ الدّواب، طبيعة وخلقا. فقوله تعالى: «فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» حكم قاطع، قاض على هذا الصنف من الكافرين بأنه لن يدخل الإيمان قلبه أبدا.. وهذا الصنف هو الذي ذكره الله سبحانه وتعالى فى قوله: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ.. وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» (6- 7: البقرة) . وقوله تعالى: «الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ» . هو بدل من الذين كفروا، وهذا البدل يكشف عن صفة من صفات هؤلاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 643 الكافرين. وهى أنهم لا يحفظون عهدا، ولا يرعون ذمة، إذ لا وازع عندهم، من دين أو خلق.. وفى قوله تعالى: «عاهَدْتَ مِنْهُمْ» إشارة إلى أن النبىّ صلى الله عليه وسلم لم يدعهم إلى أن يعاهدهم بما عاهدوه عليه، بل إنهم هم الذين جاءوا إلى النبي يعرضون عليه عهدهم بالأمان والموادعة بينهم وبينه، وأن النبىّ صلوات الله وسلامه عليه أجابهم إلى ذلك، وقبل منهم العهد الذي أعطوه.. وفى نقضهم لهذا العهد الذي جاءوا هم به من تلقاء أنفسهم، وأعطوه عن رضى واختيار- فى نقضهم لهذا العهد، الذي هو فى الواقع عهدهم، خيانة لأنفسهم، فوق أنه خيانة للعهد من حيث هو عهد، يجب الوفاء به على أي حال. وفى قوله تعالى: «وَهُمْ لا يَتَّقُونَ» بعد وصفهم بقوله سبحانه: «ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ» فى هذا إشارة إلى أنّهم متحللون من كل قيد يمسك بهم على خلق فاضل، ويقيمهم على مبدأ كريم.. إنهم لا يتقون أي محظور تحظره الشرائع السماوية، أو تجرّمه القوانين الوضيعة والمواضعات الخلقية. والمراد بهؤلاء الذين ينقضون العهد الذي عاهدوا عليه الرسول، هم جماعات اليهود الذين كانوا بالمدينة، يثيرون الفتن، ويذيعون المنكر، ويحيكون الدسائس، وينتهزون الفرصة المواتية لينالوا من النبي والمؤمنين ما يريدون من شر. ثم إن هذا الحكم هو حكم عام، يقيمه المسلمون دائما فيما بينهم وبين الكافرين.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 644 وقوله تعالى: «فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» . هو الجزاء الذي أمر الله سبحانه وتعالى نبيّه الكريم أن يلقى به هؤلاء الكافرين، الذين لا يؤمنون بالله أبدا، والذين ينقضون عهدهم مع النبىّ، ويلقونه فى الجبهة المحاربة له كلما سنحت الفرصة لهم، سواء أكان ذلك بأشخاصهم، أم بأموالهم وأسلحتهم، يمدّون بها أعداء المسلمين.. فهؤلاء الذين يقفون من النبىّ ودعوته، هذا الموقف اللئيم المخادع، لا عهد لهم، ولا ذمة لهم عند النبىّ والمسلمين، ما داموا قد غدروا ونكثوا.. فليس لهم عند النبىّ والمسلمين إذا ظفروا بهم فى حرب، أو أمكنتهم أيديهم منهم فى أي موقف- ليس لهم إلا الضربة القاصمة القاضية، وإلا البلاء ينصب عليهم انصبابا، ينالهم فى أنفسهم، وأموالهم وأهليهم، وذلك ليكونوا عبرة لغيرهم، ومثلا سائرا فى الناس، لكل من ينقض العهد مع النبىّ والمسلمين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» . والتعبير بالظفر بهم، ووقوعهم ليد النبي بقوله تعالى «تَثْقَفَنَّهُمْ» إشارة إلى أن الحرب ليست كلّها انتقاما، واستئصالا للمغلوب، وإنما هى- فى صميمها- إصلاح له، وحيدة به عن طريق الضلال والغواية الذي يركبه، إلى طريق الحق والهدى، المدعوّ إليه.. إذ كثيرا ما تنتهى الحرب بين المسلمين وأعدائهم، وإذا أعداد وفيرة من هؤلاء الأعداء، قد تحوّلوا إلى أولياء، ودخلوا فى دين الله، وكانوا من عباده المؤمنين. وهذا هو السرّ فى التعبير بكلمة «تثقفنّهم» بدلا من كلمة تظفر بهم.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 645 إذ الثّقاف هو من يتولّي إصلاح الرماح، وتقويمها، بما يقتطع من أجزائها، وأطرافها، وبما يسوّى من نتوئها.. فالحرب فى الإسلام أشبه بالثّقاف للرماح، غايتها الإصلاح، والتقويم، ولكن الحرب هنا مع هذا الصنف من الناس، الذين يغدرون بالنبيّ، وينصبون المكايد له بالخديعة والختل، إذ يجيئون إليه موادعين مسالمين، ثم ينقلبون ذئابا محاربين- هؤلاء، لا يرجى لهم إصلاح، ولا يتوقع منهم خير «فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» أبدا.. وإذن فليس لهم إلا الضربة القاضية، التي لا تبقى منهم على دار ولا ديّار، حتى يكونوا فى ذلك عبرة لغيرهم.. «فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ» أي فرّق بهذا الذي تأخذهم به من بلاء ونكال، كلّ مجتمع للضلال وتبييت السوء للمسلمين، ممن ينتظرون ما وراء كيد هؤلاء الكافرين بالمؤمنين. فكلّ من تحدثه نفسه بخيانة عهد المسلمين من بعد تلك الضربة التي نزلت بهؤلاء الخائنين- سيجد أمام ناظرية مثلا حيّا لما ينتظره من بلاء ونكال فى هذا الذي أخذ به هؤلاء القوم، وبهذا تنحلّ عزائم الذين يدبرون الشرّ للمسلمين، ويتشتت جمعهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» .. إذ الضمير فى كلّ من «لعلهم» و «يذكرون» راجع إلى هؤلاء الذين يأتون بعد هؤلاء الذي نكّل بهم النبىّ وضربهم الضربة القاضية.. ففى الضربة التي حلت بهؤلاء موعظة وذكرى لهؤلاء الذين لم يظهروا بعد على طريق الغدر والخيانة! قوله تعالى: «وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ» هذه الآية تكشف عن وجه مشرق وضيء من وجوه الإسلام- ووجوه الإسلام كلها مشرقة مضيئة- فى رعاية العهد وحفظه والوفاء به. لقد أشارت الآية السابقة إلى ما يدبر أعداء الإسلام للمسلمين من كيد، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 646 ومكر، ونكث بالعهد، ونفاق فيما عاهدوهم عليه.. وأنهم ينقضون العهد الذي أعطوه من أنفسهم للنبىّ.. فى كل مرة يجيئون إليه فيها معاهدين.. وحتى لا يعامل المسلمون أعداءهم بمثل عملهم هذا، وحتى لا يدخل على نفوسهم شىء من هذا الداء الخبيث الذي استولى على نفوس أعدائهم، من نقض العهد، وخيانة الكلمة- حتى لا يكون شىء من هذا فى مجتمع المسلمين، جاءهم أمر الله، فيما أمر به نبيه، ورسم له فيه أسلوب العمل، الذي يعامل به هؤلاء الناكثين للعهد.. فقال سبحانه: «وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ» .. أي إن استشعرت خيانة من قوم بينك وبينهم عهد، وتوقعت أن ينكثوا هذا العهد على غرّة، دون أن يؤذنوك بنكثه، والتحلل منه، فلا تفعل فعلهم، ولا تنقض العهد منهم فى خفاء بينك وبين نفسك، كما يفعلون، بل أنذرهم بذلك، وأعلمهم إياه، «على سواء» أي على وضوح كامل، بصريح اللفظ، دون التلويح به.. وذلك ليكونوا على بيّنة من أمرهم، فلا يدخل فى حسابهم بعد هذا، العهد الذي بينك وبينهم، وبهذا يسقط العهد من هذا الحساب، ويعدّون أنفسهم للحرب، كما أعدّ النبي والمسلمون أنفسهم لها. قوله تعالى: «وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا.. إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ» هو تطمين لقلوب المسلمين، ودفع لوساوس الخوف، التي تطرقهم وهم يعطون من أنفسهم الوفاء لعدوهم بالعهد الذي بينهم وبينه، على حين أنه يغدر بهم، ويباغتهم بهذا الغدر، فكيف يحاربهم العدو بسلاح ثم يحرم عليهم محاربته بهذا السلاح؟ فليطمئن المسلمون، وليعلموا أن هؤلاء الذين خانوا العهد، لم يسبقوا بتلك الخيانة إلى أخذ فرصة فى المسلمين، لأنهم- وقد فعلوا ما فعلوا من خيانة- قد تعرضوا لبغض الله وغضبه. «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ» وحسبهم هذا خسرانا وبلاء! الجزء: 5 ¦ الصفحة: 647 قوله تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ» . لقد سلط الله النبىّ والمسلمين على هذا العدوّ المتربّص بهم، الكائد لهم، وأمرهم بأن يضربوهم الضربة القاضية التي تأنى عليهم، وتكون مثلا وعبرة لغيرهم. ولكن.. ما الذي يمكّن للنبى والمسلمين من أن يبسطوا يدهم على عدوّهم وينزلوه على حكمهم فيه؟ إنه لا شىء إلا القوة التي يكون عليها المسلمون فى الرجال والعتاد.. ومن هنا أتبع القرآن الكريم الأمر بتأديب العدوّ وبسط اليد عليه- أتبع ذلك بالأمر باتخاذ الوسائل المحققة لهذا الأمر، وذلك بالأخذ بكل أسباب القوة، التي ترجح بها كفة المسلمين فى ميادين القتال، ومصادمة العدوّ. وفى قوله تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ» ، أمر باتخاذ القوة، والعمل على بنائها، والتوسل إليها بوسائلها، ومن أهم تلك الوسائل «الخيل» .. إذ كانت فى هذا الوقت أقوى مظهر من مظاهر القوة والفروسية.. فحيث كانت الخيل، وكان فرسانها، كانت القوة والمنعة.. وفى التعبير عن «الخيل» بقوله تعالى: «وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ» إشارة إلى الإكثار من الخيل، وإعدادها للحرب، وتدريبها على القتال، وحبسها على هذا المجال، فلا تتخذ لغرض آخر، بل تكون دائما مرصودة للقاء العدوّ، مهيأة للاشتباك معه فى أية لحظة.. إنها مرابطة كما يرابط المجاهدون على الثغور لحماية المسلمين، وسد الثغور التي ينفذ منها العدو إليهم.! الجزء: 5 ¦ الصفحة: 648 وفى قوله تعالى: «تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ» الضمير فى «به» يعود إلى رباط الخيل، وأنه مصدر رهبة للعدوّ. إذا كان هذا الرباط من الكثرة والإعداد على صورة يهابها العدوّ ويعمل حسابها.. وهذا يعنى استعراض تلك القوة المعدّة من الخيل وفرسان الخيل، وإظهارها بحيث يراها العدوّ، ويرى فيها ما يرهبه، ويقتل فى نفسه كل داعية من دواعى الطمع فى المسلمين، وفى لقائهم على ميدان القتال.. وهذا يعنى أيضا أن يكون هذا الرباط على صورة محقّقة لإلقاء الرعب والفزع فى نفس العدوّ، وإلا كان ستر هذا الرباط وإخفائه أولى وأحكم من إظهاره. وهذا يعنى كذلك أن الإعداد للحرب ليس لإشباع شهوة الحرب، وإنما هو لإرهاب العدوّ أولا، حتى ينزجر، ولا تحدّثه نفسه بالحرب حين يرى القوّة الراصدة له. ومن هنا يرى أن الإسلام دين سلام، يعدّ للحرب، حتى تجتمع له القوة الممكنة له من النصر والغلب، ولكنه لا يبدأ الحرب، ولا يسعى إليها، وإنما يجىء إليها مكرها، ويدخل فيها مدافعا، لا مهاجما!! وفى قوله تعالى: «وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ» إشارة وتنبيه للمسلمين إلى ألّا يكون حسابهم فى إعداد القوة مقصورا على هذا العدوّ الظاهر لهم، ومقدورا بقدره، بل يجب أن يعملوا فى تقديرهم حسابا لأعداء آخرين، لم يظهروا لهم، ولم يواجهوهم بعداوة أو قتال.. وهذا يعنى أن يبذل المسلمون كثيرا لإعداد هذه القوة التي يحاربون بها أعداءهم الذين يرونهم، والتي يرصدونها للعدوّ الخفىّ الذي لم يظهر لهم بعد.. ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك: «وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ» - جاء داعيا إلى البذل والإنفاق فى سبيل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 649 الله، فإنّ الله سبحانه وتعالى سيؤتى المنفقين أجرهم، ويجزل لهم العطاء، فلا يضيع شىء مما بذلوا وأنفقوا، لأن فى ضياعه ظلما لهم.. «وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» . الآيات: (61- 63) [سورة الأنفال (8) : الآيات 61 الى 63] وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) التفسير: قوله تعالى: «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها» أي إن مال الأعداء إلى السّلام والموادعة، ورغبوا فيهما فارغب فيهما أنت أيها النبي أيضا، فتلك دعوة إلى خير وأمن وعافية، لا ينبغى- حقّا وعدلا ومصلحة- رفضها والتأبّى عليها. وأصل «الجنح» و «الجنوح» من «الجناح» إذ كان هو الذي يميل بالطائر إلى الجهة التي يريدها، فهو أشبه بقلع المركب، إذا فرده، وضمّ الجناح الآخر امتلأ ذلك الجناح المفرود بالهواء، ودفع بالطائر إلى الاتجاه الذي يقصده.. فهما إذن جناحان، على جانبى الطائر، يعملهما حيث يشاء، فيتجه يمينا أو يسارا، أو إلى أي اتجاه يقصد.. وكذلك الإنسان فى دوافعه ونزعاته، له جانبان، أو جناحان يخفقان فى كيانه، مهيآن لدفعه إلى أي اتجاه يشاء.. إلى السلم، أو الحرب، مثلا.. فإن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 650 هو أراد السلم، فرد جناح السّلم، فدفع به إلى جانب السلام والموادعة، وإن هو أراد الحرب، فرد جناح الحرب فألقى به فى ميدان القتال وساحة الدماء.. فهذا هو بعض سرّ التعبير القرآنى عن دعوة السلام، بالجنوح «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ» .. ذلك أنهم كانوا بين داعيين، داع يدعو إلى الحرب، وداع آخر يدعو إلى السلم، ثم رجح فيهم الداعي الذي يدعو إلى السلام، وفى هذا إغراء وتحريض على قبول تلك الدعوة التي تدعو إلى السّلم، فهى وجه جميل طيب، فى مقابل الوجه الكريه الذميم، وجه الحرب.. قوله تعالى: «وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» تحريض آخر للنبى بقبول الدعوة إلى السّلم، إذ كان فى حراسة، من توكله على الله واعتماده عليه. قوله تعالى: «وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ» هو تحريض ثالث للنبىّ على الاستجابة إلى دعوة السّلم التي يعرضها عليه الأعداء، وألا يردّه عن قبول تلك الدعوة ما يكون عند القوم من نيّة للغدر، فالله سبحانه وتعالى سيكفى النبىّ والمسلمين سوء ما يفعلون.. ذلك أن هؤلاء الأعداء قد خانوا وغدروا، فتعرضوا لسخط الله وغضبه، فوق ما أخذهم الله به من سخط وغضب لكفرهم وشركهم بالله. أما النبىّ والمؤمنون، فقد اتقوا الله، ووفوا بالعهد الذي دعاهم الله إلى الوفاء به، فكان سبحانه وتعالى معهم، يؤيدهم، وينصرهم على عدوهم.. «فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ» أي يكفى أن يكون الله معك، يؤيدك، وينصرك.. «هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ» .. فلقد نصرك الله من قبل، وردّ عنك بأس القوم الظالمين، فلم تغنهم كثرتهم من الله شيئا.. وقد نصرك الله كذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 651 بالمؤمنين، الذين لم ترهبهم كثرة العدوّ وقوته، بل لقد ألقوا بأنفسهم فى حومة القتال، وهم على نية الاستشهاد فى سبيل الله.. فكانوا جندا من جنود الله معك. وفى عطف «المؤمنين» على قوله تعالى «بنصره» تكريم لهؤلاء المؤمنين الذين اجتمعوا إلى النبىّ، وقاتلوا تحت رايته.. وأنهم قوة من قوى الحق، وجند من جنود الله، ينصر بهم من يشاء من عباده.. وقوله تعالى: «وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ» .. معطوف على قوله سبحانه: «أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ» أي إن من فضل الله عليك، ومن القوى التي أمدّك بها، أنه سبحانه أمدك بأسباب النصر والظفر على العدوّ، بما جمع لك من جند آمنوا بالله، وأخلصوا النية للجهاد فى سبيل الله.. وأن الله سبحانه قد نظر إليك وإليهم، فألف بين قلوب جندك هؤلاء، وجمعهم على الإيمان بالله، والإخاء فى الله، فكانوا كيانا واحدا، وجسدا واحدا، ومشاعر واحدة.. وذلك ما لا يكون إلا عن فضل من الله، وبهذا الفضل توحدت قلوب المؤمنين، واجتمعت على الولاء لله، ولدين الله، ولرسول الله.. الأمر الذي لا تستطيع قوة بشرية أن تحققه فى أي مجتمع إنسانى، على تلك الصورة، ولو أنفقت فى سبيل ذلك كل ما فى هذه الدنيا من مال ومتاع. [الحرب والسلام.. فى الإسلام] الإسلام دين رحمة وسلام، وليس كما يفترى عليه المفترون أنه دين سيف ودماء.. وكيف وظاهر الإسلام وباطنه جميعا، سلم، وسلام؟ فاسمه «الإسلام» مشتق من السلام، والسلامة، والسلم، وشارات التحية بين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 652 أتباعه، ومن أتباعه، السلام، والرحمة، والبركة.. أما شريعته وأحكامه، فكلها قائمة على اليسر والرحمة، والسلام، بين الإنسان ونفسه، وبينه وبين الناس جميعا. وحقّا إن الإسلام قد دعا أتباعه إلى الحذر من العدوّ، والإعداد للحرب، والأخذ بأسباب القوة.. وذلك لأن الإسلام دين واقعىّ، يعايش الحياة فى أعدل أحوالها، ويستقى من أعذب عيونها، وأصفى مواردها، وليس مجرّد أحكام ومقررات نظرية، يتمثلها الناس ولا يحققونها، ويتصورونها ولا يتعاملون بها، أشبه بما يقع فى تصورات الفلاسفة وخيالات الشعراء، إن سعد بها أصحابها فى أحلام يقظتهم، فإنهم لم يمسكوا منها بشىء إذ هم فتحوا أعينهم على الحياة وواقعها. والإسلام يريد لأتباعه يكونوا قوة عاملة فى الحياة، وأن يعمروا الأرض، ويبسطوا سلطانهم على القوى الكامنة فى الطبيعة، ليحققوا قول الله تعالى لهم: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ..» ولن يكون ذلك إلا إذا أخذ المسلمون الحياة كما هى، بواقعها، وما يزخر فيها من خير وشر! فليست الحياة إلا مزيجا من الخير والشر، وليس الناس إلا عالما من الأخيار والأشرار.. ولن يسلم لإنسان وجوده، ولن ينتظم لجماعة شأنها إلا بصحبة الحياة والناس على هذا المفهوم، الذي يجمع الخير والشر، ويقابل بين الأخيار والأشرار.. فمن الحكمة ومن الواجب إذن، أن يقيم الإسلام أتباعه فى الحياة على طريق بين الخير والشر.. وهم فى هذا الطريق مدعوون إلى التعامل مع الخير، ثم هم فى الوقت نفسه مطالبون بتجنب الشر والأشرار، وأخذ حذرهم منه ومنهم جميعا.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 653 والشر والأشرار دائما مسلّطون على الأخيار.. إن سالموهم فلن يسلموا منهم، وإن كفّوا أيديهم عنهم بسطوا هم أيديهم إليهم بالبغي والعدوان.. هكذا تجرى الحياة فيما بين الشر والخير، وفيما بين الأشرار والأخيار! كانت دعوة المسيح- عليه السلام- دعوة كلها سلام خالص، بل هى استسلام مطلق لكل ظلم وبغى وعدوان.. هكذا كانت دعوة المسيح، وهكذا كانت سيرته وسيرة حوارييه وأتباعه، تحكمهم جميعا دعوة المسيح المشهورة، والتي تكاد تكون عنوان الرسالة المسيحية: «سمعتم أنه قيل عين بعين، وسنّ بسن، وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشرّ، بل من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر أيضا، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا» (5: إنجيل متى) . فماذا كان نتاج هذه الدعوة؟ هل سلم أتباعها من الأشرار؟ وهل كان موقفهم السلبي من المعتدين الآثمين شفيعا يشفع لهم عند هؤلاء المعتدين، أو يخفف ممّا يرمونهم به من ضر وأذى؟ وهل سلم المسيح نفسه إذ سالم الناس، واستسلم لهم؟ الحق أنّ ذلك كان إغراء لأهل السوء بأهل الصلاح والتقوى.. إذ أنهم ما إن علموا بأن المسيح وأتباعه لا يقابلون الشرّ بالشرّ والعدوان بالعدوان، حتى تسابقوا إلى مدّ يديهم إلى هذه المائدة الممدودة، لكل من يريد إشباع شهوته إلى البغي والعدوان، أو إرواء ظمئه إلى التسلط والقهر وإذلال الناس.. فما أكثر الجياع فى الناس إلى البغي والعدوان، وما أكثر الظمأى فيهم إلى التسلط على الناس وقهرهم وإذلالهم..! فكم لقى المسيح ولقى أتباعه من ضرّ وأذى؟ وكم احتملوا من بلاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 654 وعذاب؟ لقد كانت خطوات المسيح وخطوات أتباعه معه، على طريق ملطخ بالدماء.. دمائه ودماء أتباعه وحدهم.. وليس قطرة دم مراقة من هؤلاء الذين أراقوا دماءهم.. ولحكمة ما أراد الله سبحانه للمسيح أن يأخذ هذا الطريق، وأن يحمل تلك الدعوة، ويجرى تلك التجربة فى الحياة.. إنها دعوة قاسية، تسير فى اتجاه مضاد لسير الحياة.. وقد أرادها الله سبحانه هكذا، لعنة من اللعنات التي صبّها على اليهود وأخذهم بها فى كل مرحلة من مراحل تاريخهم مع الأنبياء والرسل.. فالمسيح- عليه السلام- هو نبىّ إلى اليهود خاصة، ودعوته مقصورة عليهم لا تتعداهم إلى غيرهم «1» .. وقد جاءهم المسيح بتلك الدعوة التي إن استقاموا عليها، كان فيها إذلالهم، وجعلهم موطئا لأقدام الناس.. وإن هم أبوا أن يقبلوها، ويأخذوا أنفسهم بها كانوا كافرين بالله، مأخوذين بما أعدّ الله للكافرين من خزى فى الدنيا عذاب مهين فى الآخرة.. وقد أشرنا من قبل «2» إلى أن الله قد أخذ اليهود بأحكام دينية، غايتها تأديبهم وإعناتهم وإذلالهم، لا إصلاحهم، وتقويمهم.. فقد حرم عليهم العمل فى يوم السبت، كما حرم عليهم ما أحل لغيرهم من طيبات الطعام.. وذلك مما لا تحتمله النفس، أو تصبر عليه.. واليهودىّ من هذا بين أمرين: إما أن يمتثل أمر الله فيه فيهلك، أو لا يمتثله فيكفر.!   (1) انظر فى هذا كتابنا «المسيح فى القرآن والتوراة والإنجيل» . (2) انظر تفسير الآية: «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ..» (146: الأنعام) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 655 نقول: إن تجربة السّلم أو الاستسلام تلك التي دعا إليها المسيح، وعاش فيها قد كشفت عن حقيقة لا شك فيها، وهى أن الحياة ترفض هذه التجربة، ولا تقبلها كمبدأ من المبادئ العاملة فيها.. والمسيح نفسه قد أنهى هذه التجربة فى الأيام الأخيرة من حياته، وردّ إلى أتباعه وحواريّيه حقهم فى الحياة فى الدفاع عن أنفسهم.. يقول المسيح فى آخر موقف له مع تلاميذه: «حين أرسلتكم بلا كيس ولا مزود ولا أحذية.. هل أعوزكم شىء؟ فقالوا: لا، فقال لهم: «ممكن الآن من له كيس فليأخذه. ومزود كذلك، ومن ليس له فليبع ثوبه ويشتر سيفا.» (22: لوقا) !! إن السيف أمر لا بد منه لدفع العدوان، ولردع المعتدين.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ» .. تلك هى سنّة الله فى خلقه، وذلك هو واقع الناس فيما أخذهم الله به من سنن. فالقول بأن الإسلام دين قام على السيف، دعوى كاذبة مضلّة، يراد بها النيل من المسلمين ودولتهم، كما يراد بها النيل من الإسلام وشريعته.. إنها دعوة خبيثة مسمومة، يراد بها أن تنهزم فى نفس المسلم معانى العزة والقوة، لأنه إن أراد أن يسقط تلك الدعوى الباطلة، ويدفع هذه التهمة الظالمة، كان أقرب سبيل إليه هو أن يتجرد من كل سلاح، وأن يتعرّى من كل قوة.. وما حاجته إلى السلاح إن كان السّلاح سبّة تدين دينه، وتريه منه أنه دين بداوة وهمجية، وشريعة غاب، يحكم مجتمعها التناطح بالقرون، والتقاتل بالمخالب والأنياب؟ هذه هى الحركة النفسية التي تحدثها تلك الدعوى الماكرة فى نفوس المسلمين، حين يلقون آذانهم إلى هذه التخرصات الفاسدة، التي تجعل القوة التي يبعثها الإسلام فى مجتمعه، شارة دالّة على بدائية هذا الدين وتخلّفه.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 656 وتلك الحركة النفسية من شأنها أن تفعل فعلها فى تفكير المسلمين، وفى سلوكهم، فتصرفهم صرفا حادا عن كل سبب من أسباب القوة، وبذلك يخلو الطريق للعدوّ المتربص بالإسلام والمسلمين، فتمكنه الفرصة من التسلط عليهم، والاستبداد بأوطانهم وأرزاقهم.. الأمر الذي وقع على أبشع صورة وأشنعها، إذ وقعت أوطان المسلمين جميعها فريسة للاستعمار، الذي سلط عليها سيف القوة، فسلبها كل مقومات حياتها المادية والخلقية، وكاد يسلبها حياتها الروحية، لولا وثاقة هذا الدين، الذي يجرى فى مشاعر أهله، جريان الدم فى العروق. والحق أن هذه الدعاوى الباطلة التي يدعيها المدّعون على الإسلام، وأنه دين بداوة وشريعة غاب، يتعامل مع الناس بالظّفر والناب- هذه الدعاوى لا يقف أمرها وخطرها عند حدّ تشكيك المسلمين فى الإسلام وانحلال الرابطة التي تربطهم به أو توهينها، أو فى صرف غير المسلمين عن الالتفات إلى الإسلام، بإثارة هذا الجوّ المريب حوله، حتى لا ينظر فيه أولئك الذين خلت نفوسهم من الدّين، من أهل أوربا وأمريكا، الذين اصطدمت معارفهم العلمية بقضايا الدّين الذي ورثوه ميراثا عن آبائهم وأجدادهم، والذي استبان لهم منه بعد أن عرضوه على أضواء العلم الحديث أنه لا يلتقى مع عقل، ولا يستقيم على منطق، فهجروه، وزهدوا فيه، وأصبحوا على غير دين، الأمر الذي لا يبصرون طويلا عليه، إذ لا بد أن يطلبوا دينا، تعيش فيه مشاعرهم، وتتغذى منه أرواحهم، حيث لا يمكن أن يعيش إنسان- أي إنسان- من غير دين.. وليست موجات الإلحاد التي تغزو أوربا وأمريكا الآن إلا عرضا طارئا، جاء نتيجة لازمة لما كشف عنه العقل الحديث، من مفارقات بعيدة، بين الدّين الذي كان فى أيديهم، وبين منطق العقل، وواقع الحياة.. إن أهل أوربا وأمريكا ينشدون اليوم دينا، يملأ هذا الفراغ الروحي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 657 الذي يعيشون فيه، ولو أنهم التقوا بالإسلام على حقيقته، وتعرفوا على موارده الصافية، لما مدّوا أبصارهم إلى دين غيره، ولكانوا من المؤمنين بالله، إيمانا قائما على دعائم ثابتة، تملك عقولهم وقلوبهم على السواء.. وتلك حقيقة يعرفها عن الإسلام أولئك الذين يحاربون الإسلام، ويخشون منه هذا الغزو السلمى المكتسح، الّذى من شأنه- لو قدّر له أن يتصل بالنّاس اتصالا مباشرا من غير أن يثار فى وجهه غبار الضلال ودخان الإفك- أن يقوض سلطان المتسلطين على الناس هناك باسم الدين، وأن يسلبهم هذا الجاه العريض الذي يعيشون فيه.. تماما كما فعل مشركو قريش حين جاءهم الإسلام فأنكره سادتهم وحاربوه، وهم يعلمون أنه الحق من ربّهم، ولكنه الحق الذي يسلبهم منزلتهم فى الناس، ويسوّى بينهم وبين عامة الناس، فآثروا السلطان الذي فى أيديهم، مع العمى والضلال، على الحق الذي عرفوه وأنكروه!. ومن أجل هذا كانت تلك الحرب المسعورة التي يشنها أصحاب الرياسات الدينية ومن فى حكمهم، على الإسلام، حتى يسلم لهم ما فى أيديهم من جاه وسلطان، ولو هلك الناس، وغرقوا فى الضّلال، ودانوا بالكفر والإلحاد!. ومع هذا كله، فإن المستقبل للإسلام، وستكشف الأيام وجهه المشرق الوضيء للناس يوما، إن عاجلا أو آجلا، وسيصبح هذا العنوان الذي اتخذه «الإسلام» عنوانا له، وسمة دالة عليه- هو دين الإنسانية كلها، وبهذا يتحقق قول الحق جلّ وعلا: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» ، وقوله سبحانه: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» . هذه حقيقة نؤمن بها إيماننا بالله، وبدين الله، وبكتاب الله.. وإن هذه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 658 الرّميات العمياء التي يرمى بها الإسلام لن تنال منه، ولن تقف فى طريق أنواره أن تملأ الآفاق، وأن تبسط على الأرض سلطانها، لأنها نور من نور الله: «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» . ونعود إلى قضية السيف التي يدّعيها المدّعون على الإسلام، وأنه قام عليه، وفتح طريقه إلى القلوب به- فنقول: إنه لو كان أمر الإسلام أمر قوة، لما كان فى الحياة اليوم إنسان يدين بالإسلام، ولما كانت دعوة الإسلام أكثر من حدث من أحداث التاريخ، عاش فى الحياة زمنا، ثم طواه الزمن فيما طوى من وقائع وأحداث. فهل هذا هو واقع الإسلام؟ وهل هذا هو شأنه فى وقائع الحياة وأحداثها؟ إن الأمر لعلى عكس هذا تماما.. وإن شهادة الواقع لا تحتاج إلى بيان.. فهى ناطقة بأفصح لسان، بأن دولة الإسلام تزداد على الأيام امتدادا واتساعا، وأن زحفه السلمىّ المكتسح لم يتوقف لحظة واحدة، حتى فى أقسى الظروف وأحلكها، التي مرّت بالإسلام وألقت بكل ثقلها عليه.. لقد قطع الإسلام من حياته المباركة أربعة عشر قرنا.. وأنه إذا سلّمنا بالقول بأن الإسلام قام على السيف والقوة، فى أول حياته، فإنه محال أن يسلّم بالقول بأن ذلك السيف وتلك القوة قد صحبا الإسلام، وكانا مستندا له على امتداد هذا الزمن كلّه.. فما عرف الناس فى الحياة قوة تظل حارسة ساهرة لمبدأ من المبادئ أو نزعة من النزعات، أكثر من سنوات معدودات.. لجيل أو جيلين.. أما أن تظل هذه القوّة قرونا متطاولة من الزمن، قائمة على حراسة مذهب من المذاهب، أو نزعة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 659 من النزعات، فذلك ما لم يكن ولن يكون أبدا.. فإن القوة إنما تخدم غرضا ذاتيا يعيش فى كيان إنسان من الناس، أو جماعة من الجماعات، ولن تتجاوز حياتها بحال حياة هذا الإنسان أو تلك الجماعة.. ثم يموت المبدأ أو المنزع، بموت القوة التي أقامته، وحرسته! ونفترض جدلا أن تقوم قوة ما لخدمة غاية من الغايات أجيالا متعاقبة، ونفترض جدلا كذلك، أن هذه الأجيال قد تواصت فيما بينها على اتخاذ هذه القوة حارسة على هذه الغاية التي تنشدها وتعيش فيها.. فهل حدث هذا فى المجتمع الإسلامى؟ وهل كانت القوة دائما إلى جانب الإسلام، تحرسه، وتدافع عنه؟ التاريخ يشهد شهادة لا شك فيها- وواقع المسلمين اليوم ينطق بها- بأن دولة المسلمين التي قامت فى صدر الإسلام، والتي كان لها ما كان من قوة وسطوة- هذه الدولة، قد تفككت وانحلت بعد ثلاثة قرون، وعراها الوهن والضعف، وأصبحت دولة الإسلام إمارات ودويلات متنابذة متخاصمة، وخضع كل صقع من أصقاع هذه الدولة، لقوى غاشمة طاغية، تضمر للمسلمين كل عداوة، وترصد للإسلام كل شر.. لقد وقع الإسلام والمسلمون فى وجه عواصف عاتية جائحة، للغزو البربري، الذي كان من شأنه أن يدمر كل شىء، ويأتى على كل شىء، لولا قوة هذا الدين، وما غرس فى أتباعه من معالم الحق والخير.. وحسبك أن تذكر هنا الغزو التترى، أو الغزو المغولى.. فما مرّ أحدهما بمواطن من المواطن إلا أحاله خرابا يبابا.. ثم حسبك أن تذكر الحروب الصليبية، ثم الاستعمار الغربي الذي تسلط على قارتى أفريقيا وآسيا، حتى لقد كانت مواطن الإسلام كلها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 660 تحت يده.. فما حلّ الاستعمار بأرض إلا أجدبت من كل خير، وأصبحت مرعى خصبا لآفات الجهل والفقر والضعف.. ومع هذا كله، ومع ما أصاب المسلمين من بلاء، فقد بقي الإسلام فى قلوب أهله متمكنا قويّا، لا يتحولون عنه أبدا، ولو أخذوا بكل ألوان الضر والأذى، فى أموالهم وأنفسهم، أو جىء إليهم بكل مغريات الحياة من مال ونساء على يد المستعمرين والمبشرين.. فتاريخ الاستعمار للدول الإسلامية، يؤلف كتابا ضخما، أسود الصفحات، لما كان يأخذ به المستعمرون الأمم الإسلامية بصفة خاصة، والعربية بصفة أخص، من بغى وعدوان، وتسلط قاهر، على مقومات الحياة فى تلك الأمم، وخاصة ما يتصل بالعقيدة الدينية، وما تلقّاه عنها أهلها من لغة وعادات وتقاليد، وذلك ليضعفوا الصّلات التي تصل المسلمين بدينهم، وليوهنوا من الأسباب التي تربط بين جماعاتهم.. ومع هذا كله فقد بقي الإسلام متمكنا فى القلوب، راسخا فى الضمائر، مختلطا بالمشاعر، لم يسلم للمسلمين شىء غيره، مما كان لهم فى هذه الدنيا، التي سلبهم الاستعمار إياها، أو قتلها، حيث لم يكن له حاجة فيها.. وكان الإسلام دائما هو القوة التي يستند إليها المسلمون، كلّما خذلتهم قوى الحياة جميعا، من علم، ومال، ورجال.. وتاريخ التبشير فى المحيط الإسلامى يحدّث عن أكبر هزيمة، وأعظم خيبة منى بها عمل من الأعمال، أو أصيب بها حركة من الحركات، أو انتهت إليها دعوة من الدّعوات. فما استطاعت تلك الحملات التبشيرية التي رصدت لها دول أوربا وأمريكا الأموال الضخمة، وجنّدت لها العقول الجبارة- ما استطاعت هذه الحملات أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 661 تنال من الإسلام منالا، أو أن تحوّل مسلما واحدا عن دينه، أو تفتنه فيه، بل كان المسلم الأمّىّ الساذج، يفحم بفطرته السليمة، وبعقيدته السمحة الواضحة كلّ منطق، ويخرس كل ذى لسان، حتى يرفع بصره إلى السماء قائلا: «لا إله إلا الله» .! فإذا ادّعت حملة من حملات التبشير أنها استطاعت بحولها وحيلتها أن تخرج مسلما عن إسلامه، فقد كذبت وافترت، لتخدع أولئك الذين يمدونها بالمال، كى يدوم لها هذا المدد. فإنها- وقد فاتها الكسب الديني- حريصة على ألا يفوتها الكسب المادىّ من هذا المال الذي يتدفق إليها فى سخاء من كل جهة، وإنه لمال كثير، أثرى به عدد وفير من أدعياء الدين، الذين يتخذون التبشير تجارة لهم، ودعاية للاستعمار، وتمكينا للمستعمرين.. نريد من هذا أن نقول: إن الإسلام بقوته الذاتية، هو الذي حمى المسلمين فى ساعات العسرة، وأمسك بهم على ضربات الزمن القاتلة، وأمدهم بأمداد لا تنفد من القوى الروحية، التي لم تنل منها يد التسلط والبغي، ولم تنفذ إليها ضربات المتسلطين والباغين.. وإنه لولا الإسلام لما بقي لمواطن المسلمين معلم من معالم الحياة، يعرفون به مكانهم فى هذا التيه الذي رماهم الزمن به. فالمسلمون ليسوا هم الذين وسعوا رقعة الإسلام، ومكّنوا له فى الأرض، ودفعوا به إلى كل أفق من آفاقها، بل الإسلام نفسه هو الذي جعل للمسلمين دولة.. والإسلام نفسه هو الذي غذّى هذه الدولة بأسباب الحياة والنّماء.. والإسلام نفسه هو الذي كان الدرع الواقية والحصن الحصين لأهله، يلوذون به، ويستظلون بجناحه، كلما لفحهم هجير الحياة، وتعاوت حولهم الذئاب.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 662 إن الذي كان يمكن أن يكون موضع طعن فى الإسلام لمن تسوّل له نفسه الطعن فيه، هو أن يتجه بذلك إلى مبادئه وأحكامه.. أهي حقّ أم باطل؟ أهي خير ورحمة للإنسانية أم هى شر ووبال عليها؟ وهل سعدت الإنسانية فى ظل الإسلام أم شقيت؟ وهل هذه الملايين التي تدين بالإسلام اليوم مكرهة عليه، وواقعة تحت قوة قاهرة، تحملها عليه، وتلجئها إلى التمسك به؟. هذا ما كان ينبغى أن يكون مدار هذه الدعوى، إن كان لا بد من دعوى يدعيها أعداء الإسلام على الإسلام.. أما تلك الدعوى الخبيثة التي تتجه اتجاها مباشرا إلى تجريد المسلمين من القوّة، وخلق عقدة نفسية بينهم وبينها، فذلك هو الغرض الذي تحاول تلك الدعوى أن تحقّقه فى المجتمع الإسلامى، ليتعرّى من القوة وأسبابها، وليظل أعزل من كل سلاح، على حين يعمل أعداء الإسلام والمسلمين جاهدين على الإعداد للقوة، والأخذ بكل أسبابها. ثم ما الإسلام؟ أهو مجرّد مبادئ وأحكام ملقاة فى العراء، لا يلتفت إليها أحد، ولا يتأثر بها إنسان، أم هو مبادئ وأحكام، يؤمن بها الناس، ويعيشون فى ظلها، ويعملون بوحيها؟ وقد يصح أن يكون الإسلام مجرد مبادئ وأحكام، وذلك فى معرض الدراسات النظرية التي تعنى بدراسة الأفكار وتمحيصها، دراسة فلسفية نظرية، بعيدة عن مجال التطبيق العملي لها. أما حين تصبح هذه المبادئ وتلك الأحكام فى مواطن العقول، وفى قرارة القلوب، وفى خلجات الضمائر، ومسرى المشاعر، فإنها إذا ذاك لا يمكن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 663 أن تكون شيئا منفصلا، له حقيقة مستقلة، تقع عليها أحكام خاصة بها. فدعوى أن الإسلام قام على السيف، لا يمكن أن توجه إلى الإسلام فى مبادئه وأحكامه، وقد رأينا كيف عاش وسيعيش الإسلام بلا سيف ولا قوة، قرونا متطاولة، لا تنتهى إلا بانتهاء الحياة.. وإنما تتجه هذه الدعوى- قبل كل شىء- إلى المجتمع الذي يدين بالإسلام، ويعيش فى ظلّ أحكامه وتعاليمه.. ومع هذا نستطيع أن نقول إن وجه الدعوى يجب أن يكون على هذا الوضع: «المجتمع الإسلامى مجتمع قام على السيف..» وحينئذ يمكن أن تسمع هذه الدعوى، وتكون موضع نظر وبحث.. فالدعوة الإسلامية- فى ذاتها- لم تقم على السيف، وإنما الذي قام على السيف وكان لا بد أن يقوم عليه دائما، هو المجتمع البشرى الذي انضوى تحت لواء هذه الدعوة، ثم امتدّ وامتدّ حتى صار دولة عريضة طويلة، تنتظم شطر العالم أو أقلّ من شطره قليلا. وطبيعى أن مجتمعا كهذا المجتمع فى الامتداد والسّعة، لا يمكن أن يكون أعزل من السلاح، مجرّدا من القوة.. فإن طبيعة الحياة تأبى أن يعيش الضأن مع الذئاب.. بل لا بد أن يكون هناك توازن فى القوى، وإلّا، فالويل للضعيف! إن المجتمع الإسلامى- كأى مجتمع فى الحياة- له ذاتيته المتميزة، وله وجهته وفلسفته فى الحياة.. وطبيعى أن تقوم فى ظلّ هذه المعاني عصبية، هى التي تجتمع عليها الأمم والشعوب، وتقيم منها وحدة مميزة فى مشاعرها، ومنازع أفكارها، ومتجه سلوكها.. كما كان لا بد أيضا أن يتعصب على هذه الأمم وتلك الشعوب أعداء يخافون قوتها، أو يطمعون فى ضعفها، ومن هنا يكون الصراع الذي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 664 لا بد منه فى الحياة، والذي لا بد له من قوة، ولا بد لهذه القوة من سيف، بل ومن سيوف! ونعود فنذكّر من نسى، فنقول: إن اليوم الذي تخلّى فيه المسلمون عن القوة، كان هو اليوم الذي فيه حينهم ومصرعهم، بأيدى من يملكون القوة.. ثم لم يكن للمسلمين من قوة يستندون إليها إلا الإسلام، الذي منحهم الإيمان، والصبر، والعزم، وعمر قلوبهم باليقين بأن شاطىء النجاة قريب منهم، إن هم تمسّكوا بدينهم، وقاموا على شريعته، وأخذوا بهديه، والتمسوا أسباب القوة المادية التي أمرهم الله بها فى قوله تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ» إلى جانب القوة الروحية التي عمر الإسلام قلوبهم بها.. ومن خلال هذه المشاعر كانت تنقدح فى صدور المسلمين شرارات الأمل والرجاء، فيشتدّ عزمهم، ويقوى إيمانهم، وتذهب وحشتهم، وهم فى صحبة دينهم، وفى ظلّ مما يفىء عليهم من خيره الكثير. فلنحذر إذن هذه الدعوى الخبيثة، التي تجعل من تهم الإسلام عندها، أنه قام على السيف، ولنعدّل موقفنا تجاه هذه الدعوى، فإننا- عن حسن نية- قد علمنا جاهدين على دفعها، وتبرئة ساحة الإسلام منها، كما أننا حمدنا لبعض المستشرقين- ونواياهم معروفة- ما كان منهم من دفاع فى تبرئة ساحة الإسلام من هذه التهمة!! فليكن الإسلام قام على السيف أو لم يكن، وإنما الحقيقة التي لا جدال فيها هو أننا الآن- أمم المسلمين- ندين بالإسلام.. دينا فى قلوبنا، ينير طريقنا فى الحياة، ويسدّد ويثبت خطانا على مواقع الحقّ، كما أننا ندين أو يجب أن ندين بالقوة، سلاحا فى أيدينا نحمى به مجتمعنا، ونصون بها مقدّساتنا، وندفع بها يد المعتدين على أوطاننا.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 665 الآيات: (64- 66) [سورة الأنفال (8) : الآيات 64 الى 66] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) التفسير: المسلم.. وكم حسابه فى ميدان القتال؟ السلاح ليس هو كل شىء فى القتال، وتحقيق النصر.. وأعداد المقاتلين وكثرتهم، ليست هى الميزان الذي يرجح به جيش على جيش.. وإنما الذي يجعل للسلاح أثره وفاعليته، ويقيم للكثرة وزنا وقدرا، هو درجة الإيمان التي يكون عليها الطرفان المتقاتلان.. فالإيمان حين يعمر قلب المؤمن، ويملك عليه مشاعره- يجعل العصا التي فى يد المؤمن أكثر مضاء، وأقوى أثرا من السيف فى يد غير المؤمن، أو من هو أضعف إيمانا منه. ومن هنا كان من منن الله سبحانه وتعالى على نبيّه أن جعل أولياءه الذين يدفعون العدوّ عن دعوته، جندا مسلحين بالإيمان والتقوى، بعد أن تسلحوا بالسلاح، وأعدوا للعدو ما يرهبونه به، من القوة ومن رباط الخيل.. وفى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» الجزء: 5 ¦ الصفحة: 666 إشارة إلى هؤلاء الجند الذين أقامهم الله سبحانه جنودا لنصرة النبىّ، ودفع يد الباغين عليه، المتسلطين على دعوته.. وإنه ليكفى النبىّ كفاية مطلقة أن يكون الله سبحانه وتعالى حسبه وكافيه، فهو فى ضمان وثيق من الحماية التي لا تغفل أبدا، ولا تقف لقوتها قوة أيّا كان بأسها، وكانت سطوتها.. وإذن فما تأويل قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» ؟ وما داعية عطف المؤمنين على لفظ الجلالة؟ وهل قوة الله سبحانه وتعالى تحتاج إلى قوة تسند وتعين؟ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.. والجواب- والله أعلم- أن فى هذا العطف تشريفا وتكريما للمؤمنين، إذ أن في هذا العطف وصلا لهم بالله سبحانه وتعالى، وجعلهم نفحة من نفحات رحمته، وجندا من جنوده التي يدافع بها عن الحق، ويدفع بها فى وجه الباطل: «أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» . وقد ذهب كثير من المفسرين إلى إضافة المؤمنين إلى النبىّ، بمعنى: يا أيها النبىّ حسبك الله، وحسب المؤمنين، أي يكفى أن يكون الله ناصرا لك وللمؤمنين.. وهذا معنى لا نرضاه، إذ يدفع عن المؤمنين هذا التكريم الذي اختصهم الله به، بل ويذهب بما جاء فى قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ» ! وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» هو تشريف للمؤمنين، ودفع لقدرهم، وأنهم- بما فى قلوبهم من إيمان- فى منزلة لا ينالها الكافرون والمشركون، وأن الواحد منهم يرجح عشرة من هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 667 والأمر بتحريض النبىّ للمؤمنين على القتال، إنما جاء بعد أن أمروا بأن يعدّوا لقتال العدوّ ما استطاعوا من عدد الحرب ووسائل القتال، من سلاح، وعتاد، وخيل.. وذلك بعد أن أعدّوا الرّجال الذين راضوا أنفسهم على الجهاد فى سبيل الله، ووطنوها على الاستشهاد ابتغاء مرضاة الله.. فإذا جاء النبيّ بعد هذا يحرّض المؤمنين على القتال، ويستحثهم له، ويغريهم به، وجد قلوبا صاغية إليه، ونفوسا مستجيبة لما يندبهم له، إذ كان إنما يدعو مؤمنين استجابوا للحرب، ويستحث جنودا أعدوا أنفسهم للحرب، ورصدوها للدفاع عن دين الله، وملئوا أيديهم بالسلاح، كما ملئوا قلوبهم بالإيمان. وفى قوله تعالى: «فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ» - أمور.. منها: أولا: هل هذا الشرط خبر فى لفظه ومعناه.. بمعنى أن المراد به الكشف عن قدر المؤمنين، وما بينهم وبين الكافرين من بعد بعيد فى القوة.. أم أنه خبر أريد به الأمر والإلزام، بمعنى أنه مطلوب من المؤمنين ديانة وشرعا، أن يثبت فى ميدان القتال لعشرة من الكافرين.. فإن فرّ، أو نكل كان آثما..؟ أجمع المفسّرون على أن هذا الشرط خبر مراد به الأمر، وأن واجبا على المسلم أن يثبت للعشرة من العدوّ فى ميدان القتال، وأن يغلبهم، فإن فرّ أو نكث كان آثما، بل ذهب بعضهم إلى أكثر من هذا، فقال: إن المسلم إذا لم يقتل العشرة، بل قتل هو، كان آثما، لأنه لم يحقق ما أمره الله به، وهو أن يغلب العشرة، لا أن يثبت لقتالهم وحسب! الجزء: 5 ¦ الصفحة: 668 وهذا الرأى الذي أجمع عليه المفسّرون قائم على أن هذه الآية منسوخة بالآية التي بعدها، وهى قوله تعالى: «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً..» . وسنعرض لقضية القول بالنسخ، بعد هذا.. والذي نراه- والله أعلم- أن هذا الشرط هو خبر فى مبناه، ومعناه، ومفاده.. وأن هذا الخبر قد جاء تعقيبا على أمر الله سبحانه وتعالى النبىّ، بتحريض المؤمنين على القتال، وإغرائهم به، ليهوّن على المسلمين أمر القتال، وليخفف عنهم بعض ما يقع فى نفوسهم من تكره له، حين يرون قلّتهم وكثرة العدوّ المتربص بهم.. فإذا علموا أنّهم بإيمانهم بالله، وبتأييد الله لهم، أن الواحد منهم يغلب عشرة من الكافرين، طمعوا فى أعدائهم، واستقبلوا الدعوة إلى لقائهم، على رجاء وأمل فى الظفر بهم. وثانيا: لم كان وزن المؤمنين فى هذه الآية بحيث يغلب الواحد منهم عشرة من الكافرين.. ثم كان وزنهم فى الآية التي بعدها، بحيث يغلب الواحد منهم اثنين من عدوّهم؟ يقول أكثر المفسّرين: إن ذلك كان والمسلمون قليلون، وذلك فى أول الإسلام، فكان فرضا عليهم أن يحملوا هذا العبء الثقيل، وأن يقف الواحد منهم لعشرة من العدو، ويتغلب عليهم.. فلما كثر المسلمون بعد هذا، خفف الله عن المسلمين الأولين ما فرضه عليهم أول الإسلام، فبدلا من أن يلقى الواحد منهم عشرة ويغلبهم، أصبح المطلوب منه أن يصمد لاثنين فقط ويتغلب عليهم.!! الجزء: 5 ¦ الصفحة: 669 وهذا يعنى أن الآية الثانية جاءت ناسخة للحكم الذي تضمنته الآية الأولى.. والذي نقول به- والله أعلم- أن الآيتين محكمتين، لا نسخ فيهما، ولا تناسخ بينهما.. وذلك أن الحكم الذي تضمنه الشرط فى الآيتين وارد فى صيغة الخبر، والمعروف عند الذين يقولون بالنسخ، أنه لا تناسخ بين الأخبار ولا يرد هذا قولهم: إن الخبر يراد به الأمر هنا، فهذا القول منهم لا حجة لهم عليه، إلا القول بأن الآيتين متناسختين، وذلك يقضى بأن يكون الحكم فيهما واردا فى غير خبر.. فلزم لذلك أن يخرج الخبر عن معناه إلى معنى الطلب.. فالحجة على النسخ، هى القول بالنسخ.. وإذن فلا حجة! ومن جهة أخرى.. فإن القول بالنسخ يقضى بأن يكون بين الآيتين- الناسخة والمنسوخة- مسافة زمنية، بحيث يكون لتغيّر الحكم ونسخه بحكم آخر مقتض اقتضاه تغيّر الحال بامتداد الزمن.. وليس هناك دليل يدل على أن فارقا زمنيا وقع بين نزول الآيتين.. بل ظاهر الآيتين ينبىء عن أنهما نزلتا معا فى وقت واحد.. وقد قيل إنهما نزلتا فى غزوة بدر، وقيل قبل بدء القتال.. وهذا قول يقول به القائلون بالتناسخ بين الآيتين ويقررونه! فالآية الأولى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ، إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ..» هذه الآية هى إخبار عن حال المؤمنين فى الوقت الذي خوطبوا فيه بها، وأنهم يحملون من طاقات القوى الروحية والنفسية بما فى قلوبهم من إيمان وتقوى، بحيث يغلب الواحد منهم عشرة من الكافرين.. إذا حقّق معنى «الصبر» الذي هو قيد للشرط. هذا ما سمعه المسلمون يؤمئذ من خطاب الله سبحانه وتعالى لهم، فانكشف لهم منه ما أودع الله فيهم- بسبب إيمانهم- من تلك القوى العظيمة التي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 670 يجدونها معهم، وفى هذا ما يريهم فضل الله عليهم، وتكريمه لهم، وأنهم موضع لرحمة الله، ومغرس كريم لآلائه ونعمائه.. وتلك نعمة جليلة من نعم الله، وبشرى مسعدة مما يبشر الله به عباده المؤمنين.. ومن تمام هذه النعمة، وكمال هذه البشرى أن تتبع النعمة بنعمة، وأن ترفد البشرى ببشرى، وهذا ما جاءت به الآية الكريمة بعد هذا: «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» وهذا الخبر الذي تلّقّاه المسلمون من هذه الآية هو خبر على حقيقته، لم يقصد به الأمر، بأن يكلّف المسلم التغلب على اثنين من الكافرين بدلا من عشرة.. بل إن هذا الخبر يثير فى نفس المسلم شعورين: أولهما: الإحساس بأنه وإن كان فى كيانه من القوّة ما يقوم لعشرة من الكافرين، فقد عرضت له عوارض من خارج نفسه، قد أخذت من تلك القوة لحسابها، حتى تتوازن، وتحتفظ بأدنى مستوى من القوة يكون عليها المؤمن فى قتاله للكافرين.. ذلك أن هذا الضعف الذي ورد على المسلمين لم يكن مؤثّرا على تلك الجماعة التي التقى بها الإسلام على أول الطريق، والتي آمنت به إيمانا اشتمل على وجودها كلّه.. فهذه، الجماعة لم تزدها صحبتها للإسلام إلّا قوة إلى قوة، ويقينا إلى يقين.. وإنما جاء الضعف إليها مع أولئك الذين دخلوا فى دين الله أفواجا، فآمنوا كما آمن الناس، متابعة لرؤسائهم وأصحاب الكلمة فيهم، دون أن يتعرّفوا إلى الإسلام، وأن يخلطوا أنفسهم به، ويضيفوا وجودهم إليه.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 671 وهؤلاء كانوا معظم الأعراب الذين يقول الله سبحانه فيهم: «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا. وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ» (14: الحجرات) . ولهذا فقد ارتدّ كثير منهم عن الإسلام، بعد وفاة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، إذ لم يك الإيمان قد دخل قلوبهم وسكن إليها. فهؤلاء مسلمون قد دخلوا فى صفوف المسلمين، وحاربوا مع المؤمنين، فلم يكن فيهم من القوى الروحية ما يرفعهم كثيرا عن المشركين، ويجعل قوة الواحد منهم تعدل قوة رجلين من العدوّ، فضلا عن عشرة.. ولهذا أضيف حسابهم إلى حساب الصفوة المختارة من المسلمين، من صحابة رسول الله من المهاجرين والأنصار، الذين كانت ولا تزال قوة الواحد منهم تعدل عشرة من الكافرين.. وبهذا صار حساب المسلمين فى مجموعهم قائما على هذا التقدير: الواحد منهم باثنين من عدوّهم.. على حين أن أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما زال الواحد منهم يرجح فى نفسه عشرة من الكافرين.. بل وأكثر من هذا.. فإن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يكونوا على درجة واحدة فى هذه القوة.. بل كان فيهم من يرجح العشرين، والثلاثين بل والمائة من العدوّ، على حين كان فيهم من يرجح الاثنين أو الثلاثة أو الأربعة، أو العشرة.. فإذا أضيف حساب بعضهم إلى بعض كانوا فى مجموعهم على هذا التقدير الذي أخبر القرآن الكريم به، وهو أن الواحد منهم يرجح عشرة من عدوهم.. وهذا هو السرّ فى أن المؤمنين قد لبسوا صفه واحدة، وحسبوا كيانا واحدا فى قوله تعالى: «إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» ، ولم يجىء الخبر القرآنى عنهم بلفظ المفرد.. هكذا: الواحد منكم يغلب عشرة..! الجزء: 5 ¦ الصفحة: 672 وهذا هو السرّ أيضا فى أن حساب المؤمنين كان فى أول الأمر محصورا فى أعداد قليلة.. عشرين ومائة، على حين كان بعد ذلك مدلولا عليه بالمئة والألف.. إذ كانوا فى الأول أعدادا قليلة فى مجموعهم، ثم تضاعفت هذه الأعداد، فكانت ألوفا ألوفا.. وثانى الشعورين اللذين يجدهما المسلم من قوله تعالى: «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ ... » - أنّه على أية حال يكون عليها المسلمون- فى مجموعهم- من الضعف، فإنهم أرجح كفّة من عدوّهم فى مجموعه، وأن جماعتهم المقاتلة تغلب الجماعة المقاتلة لها ولو كانت مثليها فى العدد.. وهذا ميزان المسلمين المقاتلين دائما، فى أي حال، بل وفى أسوأ حال.. لأنهم إنما يقاتلون فى جبهة الحق، ومن أجل قضية الحقّ.. وهذا من شأنه أن يقيم فى كيانهم شعورا بأنهم إنما يقاتلون لله، وفى سبيل الله، لا لأنفسهم، ولا لدنيا يريدونها.. فهم- والحال كذلك- جند من جند الله ... يمدّهم الله بعونه، وتأييده، ونصره.. وهذا ما يشير إليه تعالى، فيما كان عليه المؤمنون والمشركون فى غزوة بدر، إذ يقول سبحانه: «قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ» (13: آل عمران) . وعلى هذا، فإن قوله تعالى: «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ» ليس مرادا به رفع حكم كان واقعا على المؤمنين، ملزما لهم، حيث كان الواحد منهم مطالبا بقتال وقتل عشرة من العدو، ثم أصبح مطالبا بقتال وقتل اثنين- بل إنه إلفات للمسلمين إلى ما أمدهم الله سبحانه وتعالى به من أنصار وأعوان، حين كثّر أعدادهم، وأنهم الآن ليسوا هم وحدهم الذين يحملون عبء الدفاع عن الدعوة الإسلامية، فى وجه عدو يملأ وجه الأرض حولهم، فقد كثرت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 673 أعداد المسلمين معهم، وإن كانوا أضعف منهم إيمانا، وصبرا على مكاره الحرب، واستبسالا فى لقاء العدوّ. فالآية الأولى خبر، يكشف عن حال، والآية الثانية، خبر آخر يكشف عن حال أخرى. وعلى هذا تظل الآيتين تحدثان عن حالين من أحوال المسلمين، حالهم حين يكون إيمانهم على هذا المستوي الذي كان عليه المسلمون الأولون السابقون من المهاجرين والأنصار.. وحالهم حين يضعف إيمانهم فتعرض لهم عوارض الضعف والوهن فى لقاء عدوّهم. وهذا من شأنه ألا يقطع الأمل فى نفوس المسلمين بأن ينشدوا القوة دائما، وأن يلتمسوها فى الإيمان والصبر، وأنه كلما قوى إيمانهم وصبرهم قويت شوكتهم، واشتدت على العدوّ وطأتهم، وكان حساب الواحد منهم راجحا بعشرة من العدو المقاتل لهم.. فإذا كانت جماعة من جماعات المسلمين فى صقع من أصقاع الأرض، تقاتل فى سبيل الله، وكانت فى قلة ظاهرة أمام عدوّ كثيف العدد، فإنّ لها أن تنشد المدد من الإيمان بالله، وأن تنظر إلى نفسها على ضوء قول الله تعالى: «إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» فإن هم فعلوا ذلك، وأخلصوا النية والعمل لله، حققوا هذا الوصف الذي وصف الله سبحانه وتعالى به المؤمنين، الذين خلت نفوسهم من الضعف، والوهن.. وقد فعل المسلمون هذا فعلا، فى سيرتهم مع الإسلام، وفى انتصارهم على أعداد تكثرهم أكثر من عشرة أضعاف. فإن كنت فى شك من هذا فاسأل التاريخ.. بكم من المسلمين فتح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 674 خالد بن الوليد مملكة فارس؟ وبكم من المسلمين فتح أبو عبيدة بن الجراح بلاد الروم؟ وكم كانت أعداد المسلمين الذين فتح بهم عمرو بن العاص مصر؟ وبكم من المسلمين اقتحم طارق بن زياد بلاد الأندلس، واستولى على زمام الأمر فيها؟ وجواب التاريخ هنا شهادة قاطعة بأن المسلم إذا استنجد بإيمانه بالله، كان وحده كتيبة تغلب العشرات، لا العشرة من جند العدوّ.. ونسأل: ترى لو فهم المسلمون هاتين الآيتين- الناسخة والمنسوخة- على أنهما حكمين، ملزمين لهما.. أكان هذا الذي كان منهم، فيما يحدّث به التاريخ عنهم فى ميدان القتال؟ وفيما حققوه من نصر مبين على أعدائهم الذين التقوا بهم فى أكثر من ميدان، وهم قلة قليلة فى وجه أعداد كثيرة، إذا أحصيت كان المسلم محسوبا فيها بحساب عشرات وعشرات؟. وفى قوله تعالى فى وصف العدو المقاتل للمؤمنين: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» ما يكشف عن الفارق الذي فرق بينهم وبين المؤمنين، حتى كان المؤمن يغلب عشرة منهم، وقد يكون فى هؤلاء العشرة من هو أقوى قوة، وأمتن بناء، وأشدّ ساعدا.. ذلك أن المشركين، والكافرين من أعداء المؤمنين «قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» أي لا يسكن إلى كيانهم إيمان بالله، وباليوم الآخر، فهم حين يقاتلون إنما يقاتلون على مخاطرة بحياتهم التي يحيونها فى الدنيا، ولا تخطر يبالهم خاطرة أن وراء هذه الحياة حياة أخرى أخلد وأبقى، وأطيب وأهنأ لمن آمن واتقى ... ومن هنا كان حرصهم على ما فى أيديهم من حياة حرص الشحيح على شربة ماء تقع ليده الجزء: 5 ¦ الصفحة: 675 على ظمأ، فى صحراء.. ومن هنا أيضا كان جبنهم فى مواقف القتال، وانحلال عزائمهم، وزيغان أبصارهم، وتطاير قلوبهم هلعا وفزعا. هذا، على حين أن المؤمن يقاتل وهو على «فقه» بالموقف الذي يقفه، وأنه صائر به إلى إحدى الحسنيين، إما النصر الذي يكتب به للإسلام عزّا، وينال به عند الله أجرا، وإما الاستشهاد الذي ينتقل به إلى دار خير من داره، وإلى عالم أكرم وأطيب من عالمه، حيث ينطلق فى رحاب الله، ينعم بما تشتهى الأنفس وتلذ الأعين، فى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين. الآيات: (67- 71) [سورة الأنفال (8) : الآيات 67 الى 71] ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) التفسير: قوله تعالى: «ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ» . نزلت هذه الآية فى غزوة بدر، وفى شأن الأسرى الذين وقعوا فى يد المسلمين من مشركى قريش، وكانت عدّتهم سبعين أسيرا.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 676 وقد استشار النبىّ أصحابه فى شأنهم، إذ لم يكن قد جاءه أمر سماوى فيهم، فاختلف الصحابة فى المعاملة التي يعاملونهم بها.. فقال بعضهم بقتلهم، وذلك ليكونوا عبرة لغيرهم، وتوهينا لشوكة المشركين، بالقضاء على القوة العاملة فيهم، إذ كان هؤلاء الأسرى وجوه القوم وسادتهم.. وينسب هذا الرأى إلى عمر ابن الخطاب، وعبد الله بن رواحة- رضى الله عنهما.. وقال بعض الصحابة باستبقائهم وأخذ الفدية منهم، إبقاء على أواصر القربى، وإعانة للمسلمين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، بما يؤخذ منهم فدية.. وينسب هذا الرأى إلى أبى بكر الصديق.. رضى الله عنه. وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلّم بالرأى القائل باستبقاء الأسرى وقبول الفدية منهم.. ثم أخذ- صلوات الله وسلامه عليه- الفدية من بعض الأسرى، ثم كان لا يزال ينتظر ما فرض على بعضهم منها، حين نزل قوله تعالى: «ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ» .. والإثخان فى الأرض: التسلط عليها والتمكن منها بالقوة.. يقال أثخن فلان أي جرح فى القتال جرحا شلّ حركته، وأبطل عمله فى الحرب، ومنه قوله تعالى: «فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها» (4: محمد) وفى توجيه الخطاب إلى النبىّ توجيها غير مباشر فى قوله تعالى «ما كانَ لِنَبِيٍّ» تكريم ربانىّ للنبىّ الكريم، إذ لم يوجّه إليه سبحانه الخطاب فى صيغة محددّة، مباشرة هكذا.. «ما كان لك أيها النبي» مثلا.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 677 وفى توجيه اللوم إلى المؤمنين بقبول الفدية فى قوله تعالى: «تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا» تكريم بعد تكريم لمقام النبىّ، وعدم مواجهته بما يسوؤه.. والعرض: خلاف الجوهر، وعرض الدنيا، متاعها الزّائل.. والدنيا كلّها عرض زائل بالنسبة للآخرة. وفى قوله تعالى: «لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» عتاب للنبىّ والمؤمنين، على ما كان منهم من قبول الفدية، وأنهم ما كان لهم أن يقبلوا فدية من هؤلاء الأسرى، بل كان ينبغى أن يكون حكمهم فيهم هو القتل.. لأنهم كانوا فى أول صدام لهم مع المشركين، وكان مكانهم فى الأرض لا يزال قلقا مهددا بقوى البغي المسلطة عليهم.. فكان من التدبير أن يضعفوا عدوّهم بقتلهم، ما أمكنتهم الفرصة فيهم، حتى تتراخى يد العدوّ عنهم، وتثبت أقدامهم على الأرض.. وعندئذ يجوز لهم أن يبقوا على الأسرى، وأن يقبلوا الفدية منهم.. ومن جهة أخرى، فإن المسلمين كانوا مع أول تجربة ذاقوا فيها طعم النصر على العدوّ، فلا ينبغى أن يكون أول ما يطعموه من هذا النصر هذا العرض الزائل، فذلك من شأنه أن يجعل للمغانم سلطانا على نفوسهم فى حربهم للعدوّ، الأمر الذي كان من تدبير الحكيم العليم معهم، أن يحرمهم منه أول الأمر، إذ جعل أنفال معركة بدر كلّها ليد النبىّ، يضعها حيث يشاء. والسؤال هنا: هل من إنسانية الإسلام أن يقتل الأسرى، ويعمل فيهم السيف، وقد صاروا ذمّة فى يد المسلمين؟ والجواب على هذا: أن ذلك كان فى أول معركة من معارك الإسلام، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 678 وأن هؤلاء الأسرى كانوا- فى جملتهم- معروفين للنبىّ والمسلمين، بكيدهم للإسلام، وعدوانهم على المسلمين، وتنكيلهم بهم حتى أخرجوا من ديارهم وأموالهم.. فهم- والحال كذلك- واقعون تحت حكم المفسدين فى الأرض، المحاربين لله ورسوله، وفيهم يقول الله تعالى: «إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (33- 34: المائدة) وقد أهدر النبىّ دم بعض المشركين الذين كانوا على تلك الصفة، فقتل اثنين من الأسرى، صبرا، وهما عقبة بن أبى معيط، والنضر بن الحارث. والكتاب المشار إليه فى قوله تعالى: «لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» - هو ما قضى الله به سبحانه وتعالى فى سابق علمه، وهو العفو عن الذنب إذا لم يكن قد جاء حكم إلهى بتحريمه، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ» (115: التوبة) . ولهذا جاء قوله تعالى بعد هذا العتاب، حاملا الصفح الجميل، مزكّيا ما فعله النبىّ والمؤمنون، فقال سبحانه: «فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً» فهو الحلال الذي لا حرمة فيه، الطيّب الذي لا خبث معه.. وكان هذا إيذانا للنبىّ صلى الله عليه وسلم بأن يمضى فيما قضى به فى شأن الأسرى، وأن يقبل فداء من لم يأخذ منه فدية بعد، وهذا ما يفهم من قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 679 مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً..» الآية.. فهذا يعنى أنه إلى حين نزول هذه الآيات كان بعض الأسرى فى يد المسلمين لم يطلق سراحهم بعد.. وفى قوله تعالى: «إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» - فى هذا عزاء ومواساة من الله سبحانه وتعالى لهؤلاء الأسرى، الذي أصيبوا فى أهليهم، بمن قتل منهم فى بدر، وها هم أولاء يصابون فى أموالهم بما يؤخذ منهم من فدية.. وفى هذا العزاء ما يذهب بكثير مما فى نفوسهم من أسى ومرارة، وما فى قلوبهم من ضغينة وحقد على الإسلام والمسلمين، إذ يرون فى هذا العزاء الإلهى دعوة إلى التصالح والتفاهم والالتقاء بالإسلام، والمواخاة للمسلمين، وأن الله سبحانه وتعالى ليس ربّ المسلمين وحدهم، بل هو ربهم، وربّ العباد جميعا، وربّ كل شىء، وخالق كل شىء، وأن الإسلام ليس من حظ هؤلاء المسلمين الذين آمنوا بالله ورسوله، وكان لهم من الله هذا النصر الذي رأوه بأعينهم رأي العين فى بدر- بل إنه حظ مشاع بين الناس جميعا، من سبق منهم ومن لم يسبق، وأن الناس جميعا مدعوون إليه فى كل وقت إلى يوم القيامة! وعلى هذا التقدير، وبهذا الحساب- تكون معركة بدر ليست نصرا للمسلمين الذين قاتلوا فيها، وإنما هى نصر للإسلام، ونصر لكل مسلم دخل أو يدخل فى الإسلام، لأنها ليست لحساب شخص أو قبيلة، وإنما هى لحساب هذا الدّين الذي يرتفع بمبادئه فوق الأشخاص والقبائل، ويتخطّى بشريعته حدود المكان والزمان.. وفى قوله تعالى: «إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ..» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 680 فى هذا يسأل عنه وهو: كيف يعلّق علم الله تعالى بما فى قلوبهم، على شرط؟ وهو سبحانه وتعالى يعلم ما فى القلوب قبل أن توجد القلوب وأصحاب القلوب؟ والجواب- كما قلنا فى أكثر من مرة- أن تعليق علم الله بأفعال العباد لا يعنى بحال ما ماهو واقع فى علم الله مما سيفعله العباد، ولكن المراد بهذا التعليق هو العلم الواقع على الأفعال حال وقوع هذه الأفعال من المكلفين.. فعلم الله سبحانه بهذه الأفعال علم متصل بها فى جميع أحوالها وأزمانها، فهو عالم بها قبل أن تحدث وتقع من أصحابها، وعالم بها بعد أن تقع وتحدث، وتعليق علم الله سبحانه بحدوثها ووقوعها، هو إلفات لأصحابها، وإلى علم الله بهم وبأفعالهم وهم متلبسون بها، ومحاسبون عليها. وفى قوله تعالى: «يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» هو وعد كريم لمن ينظر لنفسه من هؤلاء الأسرى، ويخلص بها إلى الله، ويدخل فى دين الله، وعندئذ سيشارك المسلمين فيما سيفتح الله به عليهم، وما يقع لأيديهم من غنائم.. وأكثر من هذا، فإن الله سبحانه وتعالى سيقبلهم فى المقبولين من عباده، ويغفر لهم ما كان منهم من عداوة للإسلام، وأذى للمسلمين. قوله تعالى: «وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» هو وعيد لأولئك الذين لم يستجيبوا لهذا النداء الكريم، وهذا الصفح الجميل من رب العالمين، فأمسكوا على ما فى قلوبهم من عداوة وضغينة وطووا صدورهم على الثأر والانتقام- فهؤلاء إن يخونوا الرسول، فإنهم قد خانوا الله من قبل، بأن كفروا به، وهو ربهم، وخالقهم، ورازقهم، فإذا خانوا الرسول بعد هذا، فليس ذلك بالشيء الغريب عليهم، فكفرهم بنعم المنعم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 681 عليهم طبيعة فيهم.. وهم بهذه الخيانة لله قد جنوا على أنفسهم، فأمكن الله منهم، أي انتقم الله منهم، وساقهم إلى ما هم فيه من أسر. ولو أنهم لم يخونوا الله، واستجابوا لدعوة الإيمان لعافاهم الله من هذا البلاء.. فإن ظلوا على ما هم عليه من خيانة لله، وخيانة للرسول، فسيرون من البلاء والنكال أكثر مما رأوا «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بما فى قلوبهم «حكيم» فيما يقضى فيهم، وما يأخذهم به من عقاب. الآيات: (72- 75) [سورة الأنفال (8) : الآيات 72 الى 75] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) التفسير: مناسبة هذه الآيات للآيات التي قبلها، هى أن المؤمنين والمشركين كانوا بعد تلك المواجهة التي شهدوها فى بدر- كانوا قد تحددت معالمهم، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 682 واستعلنت مواقفهم، وإذا هم جبهتان متقاتلتان، وفريقان متخاصمان، كل منهما يطلب الآخر، ويقتضيه ما يقتضى الغريم من غريمه.. وقد ذكرت الآيات السابقة مراحل هذا الصراع الذي كان قائما بين الفريقين، وعرضت أحداث بدر وما وقع فيها، وما أحرز المسلمون من نصر، وما منى به المشركون من هزيمة، ثم عرضت المغانم والأسرى وما قضى الله فيهما. فكان من المناسب أن تختم السورة بهذه الآيات التي تخطط الحدود، وترسم المواقع والمواقف التي يأخذها المؤمنون من الكافرين حتى يكونوا على بيّنة من أمرهم، فيما يأخذون أو يدعون من الجبهة المقاتلة لهم. وقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» .. هو بيان لحكم الجماعة الإسلامية فيما بينها، فهم- المهاجرون والأنصار- جبهة واحدة، وكيان واحد، يجمعهم هذا النسب الكريم الذي انتسبوا له، وهو الإسلام، الذي يعلو كل نسب، ويفضل كل قرابة. فمن أجل الإسلام هاجر المهاجرون، ومن أجل الإسلام جاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله. وفى سبيل الله آوى الأنصار المهاجرين وشاركوهم أموالهم وديارهم، وفى سبيل الإسلام انتصروا لهم ونصروهم.. فهؤلاء جميعا- من مهاجرين وأنصار- بعضهم أولياء بعض، ينصر بعضهم بعضا، ويحامى بعضهم عن بعض، ولو حملهم ذلك على لقاء آبائهم وأبنائهم وقتالهم وقتلهم فى سبيل الله. وهناك مؤمنون، ولكنهم لم يهاجروا، قد حبستهم قريش، أو منعهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 683 مرض أو شيخوخة، أو حرص على الديار والأموال، أو إيثار للعافية والسلامة. فما حكم هؤلاء المؤمنون؟ وما وضعهم فى المؤمنين من المهاجرين والأنصار؟ إنهم لا شكّ أعضاء فى هذا الجسد الإسلامى الجديد، الذي تبرز سماته فى المهاجرين والأنصار. ولكن كان الإسلام فى دور البناء للمجتمع الإسلامى، وكان من أجل هذا فى مسيس الحاجة إلى كل يد عاملة لدعم هذا البناء، ورفع بنيانه- الأمر الذي جعل الهجرة إلى المدينة التي آوى إليها الرسول، واتخذ منها مركزا لدعوته، أمرا له قدره وأثره فى رفع درجة المؤمن، وتشريفه بهذا المقام الكريم الذي أفرد الله سبحانه وتعالى به المهاجرين، وجعل لهم وللأنصار ذكرا طيبا، جاء به القرآن الكريم أكثر من موضع.. من أجل هذا، فإن الذين آمنوا ولم يهاجروا- لعلّة أو لأكثر- لم يكن حسابهم قائما على هذا التقدير الذي يسوّى بينهم وبين المهاجرين، أو الأنصار.. إذ كان المهاجرون، مؤمنين، ومعهم مع إيمانهم هجرة، وكان الأنصار مؤمنين، ومعهم مع إيمانهم أنهم آووا ونصروا.. أما المؤمنون الذي حبستهم أعذارهم عن الهجرة، فإنهم لم يضيفوا إلى إيمانهم شيئا مما فعله المهاجرون أو الأنصار.. فهم والحال كذلك ليسوا بالّذين يدخلون فى ذمّة المؤمنين فى هذه المرحلة من مراحل الدعوة الإسلامية، بحيث يمنعونهم من عدوّهم، ويدفعون عنهم ما يعرض لهم من ظلم وبغى، وهم فى ديار الظالمين.. وحسب المهاجرين والأنصار فى هذه المرحلة من مسيرة الدعوة الإسلامية- حسبهم أن ينظروا لأنفسهم، وأن يدفعوا البغي المتسلط عليهم. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا» .. وفى هذا تخفيف عن الجماعة الإسلامية، وإعفاء لها من حمل عبء فوق أعبائها، وهو الدفاع عن الأفراد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 684 أو الجماعات الذين آمنوا ولم يهاجروا، بل ظلّوا بين أهليهم وأقوامهم الذين ينظرون إليهم نظرات مغيظة حانقة، ترمى بالضر والأذى. ولو دخل هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا- لو دخلوا فى ذمة المؤمنين وفى ولائهم، لكان على المؤمنين الانتصار لهم من كل ظلم، والحماية لهم من كلّ عدوان، وهذا يجعل الجماعة الإسلامية- مع ما هى عليه من قلة عدد يومئذ- فى وجه حرب متصلة، مع قبائل العرب جميعا، حيث كان فى كل قبيلة فرد أو أفراد من الذين آمنوا، واستجابوا لله وللرسول.. وكان وضع هؤلاء الأفراد فى أقوامهم محفوفا بالمكاره، متصلّا بالضرّ والأذى، فلو دخلوا فى ذمة المسلمين لكان على المهاجرين والأنصار، نصرهم ودفع الضر عنهم. وفى قوله تعالى: «وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ» .. هو بيان للحال التي يجب على جماعة المسلمين أن ينتصروا فيها لمن يستنصر بهم من المؤمنين الذين لم يهاجروا، وتلك الحال هى أن يكون استنصار المستنصرين بهم من أجل الدّين، ولحساب الدّين، لا لعصبية نسب أو قرابة أو حلف. ومعنى الاستنصار فى الدين أن يجد هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا، فرصة سانحة لنصرة الدين، فى مواطنهم التي هم فيها، كأن تجد تلك الجماعة التي لم تهاجر، قدرة على دفع عدوان المعتدين عليها ولكنها تحتاج إلى مساندة عدد من المسلمين- عندئذ يجب على الجماعة الإسلامية أن تناصرها وتشدّ ظهرها بالرجال والسلاح.. ففى هذا انتصار لدعوة الإسلام، وتمكين لها فى هذا الموطن الجديد.. هذا، وقد ذهب أكثر المفسّرين أن الولاية هنا هى التوارث بينهم، وقالوا: إن المهاجرين والأنصار كانوا يتوارثون بالهجرة والنصرة، جاعلين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 685 نسب الإسلام بينهم، أولى من نسب القرابة.. ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ» .. وقد كان رأينا على غير هذا، وهو أن المراد بالولاية: التناصر، والتعاطف، وتلاحم المشاعر، فى ظل الأخوة الإسلامية.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» (10: الحجرات) وفى هذا يقول الرسول الكريم كما رواه مسلم: «مثل فى توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمى» . وفى قوله تعالى: «فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ» إلزام للجماعة الإسلامية بأن تقوم بالانتصار لمن استنصر بها من أجل الدّين.. وفى قوله تعالى: «إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ» استثناء من الحكم الموجب على الجماعة الإسلامية الانتصار لمن يستنصر بهم من المؤمنين دفاعا عن الإسلام، ودعوة الإسلام.. وذلك أنه إذا كان هناك ميثاق وموادعة بين المسلمين وبين من دعاهم المؤمنون إلى حربهم، حينئذ يجب على المسلمين أن يحترموا هذا الميثاق، وأن يلتزموا حدوده، وأن يقوموا على الوفاء به، ولا يدخلوا فى حرب مع من دعوا إلى حربه، وهو موادع لهم بميثاق واثقهم عليه. قوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ» : هو تقرير لحكم واقع بين الكافرين وهو أنهم على ولاء فيما بينهم. وأنهم حزب واحد، مجتمع على عداوة المؤمنين، ناصب لحربهم، راصد للفرصة الممكنة له منهم.. وليس فى هذا الذي يقرره القرآن الكريم دعوة لجماعات الكافرين أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 686 يكونوا على هذا الولاء الذي بينهم، وإنما هو- كما قلنا- تقرير لأمر واقع، يرى منه المؤمنون كيف يجتمع أهل الضلال على الضلال، وكيف يقوم بينهم الولاء والتناصر.. فارنى للمؤمنين ثم أولى لهم، أن يجتمعوا على الإيمان، وأن يتناصروا على الحق والخير. وفى قوله تعالى: «إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ» إشارة إلى ما ينبغى أن يكون بين جماعة المؤمنين من تلاحم وتناصر. وأنهم إن لم يفعلوا هذا، فسد أمرهم، وتمكّن العدوّ منهم، وسقطت راية الحق التي يقاتلون عليها، وخلا وجه الأرض للفساد والمفسدين. والضمير فى «تفعلوه» يعود إلى الولاء الذي ينبغى أن يكون بين المؤمنين، بعد أن دعاهم الله إليه فى قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» .. وبعد أن لفتهم سبحانه إلى ما بين أهل الكفر والضلال من ولاء والتقاء على البغي والعدوان. وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» . هو عرض للمهاجرين والأنصار، وإفراد لهم بتلك المنزلة الرفيعة من الإيمان الذي حقّقوا صفته فيهم على أكمل وجه وأروعه.. «أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا» أي المؤمنون إيمانا كاملا، لم تشبه شائبة من ضعف، ولم تعلق به خاطرة من شك أو ريب.. فهو الإيمان الخالص، وهو الحقّ حقّا.. «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» أي مغفرة عامة شاملة، تنال كلّ ذنوبهم، ولهم «رِزْقٌ كَرِيمٌ» طيّب، من كل شىء، فى الدنيا وفى الآخرة. وهذا من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 687 بعض الأسرار التي جاء عليها النظم القرآنى فى تنكير المغفرة والرزق الكريم، حيث يراد بهما العموم والشمول.. قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ» . هذا إغراء لمن تحدّثه نفسه، وتنزع به همته أن يكون فى هذا الموكب الكريم الذي انتظم أولئك الذين وصفهم الله سبحانه وتعالى هذا الوصف الكريم، وحلّاهم بحلية الإيمان الكامل، وأنزلهم منازل مغفرته ورضوانه.. إغراء لكل من يطلب هذا المقام الكريم أن يستحثّ خطاه إليه، وأن يتخفف من كل ما يمسكه عن الهجرة، فيهاجر إلى من سبقوه إلى دار الهجرة، وهناك سيأخذ مكانه بينهم، وينزل حيث أنزلهم الله فى منازل فضله وإحسانه.. فإن الطريق إلى الله مفتوح دائما، ورحمة الله تسع كل شىء، وعطاؤه موصول لا ينقطع، ولا ينفد. وفى قوله تعالى بعد هذا: «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ» إشارة إلى ما بين المؤمنين- من سبق منهم ومن لحق- من نسب قريب، ورحم ماسّة.. فيهم جميعا أبناء أب واحد، هو الإسلام، الذي يولدون فيه حالا بعد حال، وجيلا بعد جيل. وقوله سبحانه: «فِي كِتابِ اللَّهِ» يحتمل وجهين: إما أن يكون متعلقا بقوله تعالى: «أولى» ويكون المعنى: وأولوا الأرحام- أي المؤمنون- بعضهم أولى ببعض فيما جاء فى كتاب الله، أي دين الله، الذي حمله كتاب الله وهو القرآن.. بمعنى أن ولاء المؤمنين بعضهم لبعض، إنما هو فيما هو حق وخير وإحسان، وهذا الخير والإحسان مما هو فى كتاب الله، الذي آمنوا به، ودانوا بشريعته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 688 وإما أن يكون استئنافا، هو جواب لسؤال مقدر، وتقديره: «من أين جاء هذا الحكم الذي قرّرته الآية فى قوله تعالى: «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ» ؟ فكان الجواب: «فِي كِتابِ اللَّهِ» أي فى علم الله، وفيما أقام العباد عليه، حيث جعل بين أولى الأرحام مودة، ورحمة، وولاء.. ومثل هذا ما جاء فى قوله: «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» أي فى علمه وتقديره، وتدبيره.. «إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء. هذا، وقد ذهب أكثر المفسّرين إلى أن قوله تعالى:.. «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ» هو مراد به الولاية فى التوارث، بحكم القرابة بينهم، على ما جاء فى كتاب الله سبحانه، فى أحكام الميراث.. وعلى هذا تكون هذه الآية ناسخة لما قررته الآيات السابقة فى قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ.. إلى قوله تعالى: «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ» . وقد روى عن ابن عباس قال: «آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، وورّث بعضهم من بعض، حتى نزلت هذه الآية، فتركوا ذلك وتوارثوا بالنسب. ويروى عن ابن عباس أيضا، أنه استدل بقوله تعالى: «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ» على توريث ذوى الأرحام الذين ذكرهم الفرضيون، وذلك لأنها نسخ بها التوارث بالهجرة ولم يفرّق بين العصبيات وغيرهم، فيدخل من لا تسمية «1» لهم، ولا تعصب، وهم.. هم (أي ذوو الأرحام) ..   (1) أي من لم يذكروا فى آية المواريث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 689 والقول بنسخ هذه الآية لما قررته الآيات التي قبلها، من ولاء المسلمين بعضهم لبعض، وتناصرهم وتعاطفهم.. هذا القول مردود من وجوه: فأولا: أن الأحكام التي قررتها الآيات السابقة من وجوب قيام تلك الوحدة الشعورية بين المسلمين، بحيث تجعل منهم كيانا واحدا- هذه الأحكام، هى من صميم الدعوة الإسلامية، ومن الدعائم القويّة التي قام عليها بناء المجتمع الإسلامى، بحيث يؤثر المؤمن إخوانه فى الإيمان، على أهله وذوى قرابته.. كما يقول تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (23: التوبة) - ويقول سبحانه: «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (22: المجادلة) . فهذه العزلة الشعورية التي تعزل المؤمن عن الذين يحادّون الله ورسوله، من أهله وأقرب المقربين إليه، يقابلها تلاحم فى المشاعر، وتزاوج فى العواطف، بين المؤمن وجماعة المؤمنين. فالإيمان عند المؤمن هو نسبه الذي ينتسب إليه، وعلى هذا النسب يصل الناس أو يقطعهم، ويوادّهم أو يجافيهم، ويسالمهم أو يحاربهم!. فكيف تجىء آية قرآنية تنسخ هذا المبدأ، الذي هو أقوى دعامة فى بناء المجتمع الإسلامى! الجزء: 5 ¦ الصفحة: 690 وثانيا: آيات المواريث التي ذكرها الله سبحانه وتعالى فى سورة النساء، تقرر فى صراحة واضحة أحكام الميراث بين ذوى القربى، بحيث لا تدع مجالا لغيرهم أن يشاركهم فى هذا الميراث، الذي فرض لهم فيها. فقوله تعالى: «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ» لا يضيف جديدا إلى ما قررته آيات المواريث: ولو كان لها مكان فى أحكام الميراث، لكان مكانها بين آيات الميراث، لا فى هذا الموضع الذي يقرر أسسا ومبادئ للعلاقات التي تقوم بين المؤمنين، ثم بينهم وبين غير المؤمنين.. وثالثا: ما يقال من أن هذه الآية نسخت التوارث الذي قام بين المهاجرين والأنصار بحكم التآخى الذي أقامه الرسول بينهم- متوجّه له، لأن آيات المواريث تغنى فى تطبيقها عن الاحتياج إلى نص صريح بتحريم التوارث على هذا النسب الذي أقامه النبىّ الكريم بين المهاجرين والأنصار.. بل إن آيات المواريث نفسها قد تقدمها النصّ القرآنى: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً» .. هذا إذا كانت الأحكام الواردة فى آيات المواريث تحتاج إلى بيان لعلة التوارث بين الأقارب. هذا، وقد جاء فى سورة الأحزاب قوله تعالى: «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً» - جاء هذا مقررا الولاية بالقرابة والنسب، بعد أن أبطل التبنّي! وذلك مراعاة لمقتضى الحال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 691 9- سورة التّوبة (أسماؤها:) حملت «التوبة» أكثر من اسم دال عليها، فمن ذلك: «براءة» لافتتاحها بتلك الكلمة.. و «التوبة» لكثرة ذكر التوبة فيها.. و «الفاضحة» لأنها فضحت المنافقين، وكشفت وجوههم للنبىّ والمؤمنين.. قال ابن عباس: التوبة: هى الفاضحة.. ما زالت تنزل: «ومنهم» ، «ومنهم» ، حتى ظننا أنه لا يبقى أحد منا إلا ذكر فيها. و «المبعثرة» لأنها تبعثر أسرار المنافقين، وتكشفها و «المقشقشة» لأنها تبرئ المؤمن، فتخلى قلبه من النفاق و «البحوث» لأنها تبحث عن نفاق المنافقين. نزولها: نزلت بالمدينة باتفاق.. وهى آخر سورة نزلت من القرآن الكريم، على أرجح الأقوال. عدد آياتها: مائة وتسع وعشرون آية عدد كلماتها: ألفان وأربعمائة وسبع وتسعون كلمة. عدد حروفها: عشرة آلاف وسبعمائة وسبعة وثمانون حرفا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 692 الآيات: (1- 5) [سورة التوبة (9) : الآيات 1 الى 5] بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) التفسير: المناسبة قريبة بين سورة التوبة، وسورة الأنفال قبلها.. بل إن بينهما لأكثر من وجه من الوجوه الجامعة بينهما على سبيل الوفاق، أو المقابلة. فأولا: ختمت سورة الأنفال بالكشف عن الحدود الفاصلة بين المؤمنين وغير المؤمنين، بحيث وضح موقف كل منهما من الآخر.. فالمؤمنون بعضهم أولياء بعض، والكافرون بعضهم أولياء بعض.. وثانيا: بدئت سورة التوبة بهذا الإعلان العام الذي كان تطبيقا للأحكام التي تضمنتها الآيات الواردة فى آخر الأنفال، من عزل المؤمنين عن الكافرين، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 693 حيث قضى هذا الإعلان ببراءة الله ورسوله من المشركين، ومن العهود المعقودة معهم. وثالثا: كانت سورة «الأنفال» أول ما نزل من القرآن بالمدينة، على حين كانت «التوبة» آخر سورة نزلت من سورة القرآن بالمدينة أيضا! لهذا وغيره من المناسبات الجامعة بين السورتين، كان جمعهما على هذا النسق، فجاءت الأنفال، ثم جاءت بعدها التوبة، حتى لكأنهما سورة واحدة، الأمر الذي اقتضى عدم تصدير سورة التوبة بالبسملة، كما صدرت جميع سور القرآن.. هذا ما ذهب إليه كثير من العلماء فى التعليل لعدم تصدير «التوبة» بالبسملة.. وذهب آخرون فى تعليل ذلك إلى أن سورة التوبة خطاب للكافرين والمشركين، وأنها إعلان حرب عليهم، ولا يناسب ذلك أن يصدّر الحديث إليهم باسم الله الرحمن الرحيم. وقد اعترض على هذا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ كتبه إلى من دعاهم إلى الإسلام من المشركين والكافرين بالبسملة. وردّ على هذا الاعتراض بأن الرسول صلوات الله وسلامه عليه كان فى كتبه إلى من كتب إليهم يدعو إلى الإسلام، والسلام، وإلى الخير والرحمة، فناسب أن يصدّر ذلك باسم الله الرحمن الرحيم.. وليس كذلك ما حملت «براءة» إلى الكافرين والمشركين، من نذر التهديد والوعيد. وقيل. إن التوبة مكملة لسورة الأنفال، فهما سورة واحدة، كلتاهما نزلت فى القتال، وتعدّان معا السابعة من الطّول (أي السبع الطوال) ، والطّول سبع سور، هى البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف- ثم الأنفال والتوبة، وما بعدها المئون.. (أي ما اشتملت السورة منها على مئة آية أو نحوها. وقوله تعالى: «بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 694 هو إعلان بقطع العلائق التي كانت تصل المؤمنين بالمشركين، من عهود ومواثيق.. وذلك لما أحدث المشركون من عبث بهذه العهود، واستخفاف بها، إذ أنهم كانوا لا يمسكون بها إلا إذا وجدوا فى ذلك مصلحة محققة لهم، فإذا أمكنتهم الفرصة فى المسلمين أنكروا هذه العهود، وألقوا بها كما تلقى نفايات الطعام بعد الشبع! وإذا كان أحد الطرفين المتعاقدين لا يوقّر ما تعاقد عليه، ولا ينزله من نفسه منزلة الاحترام والرعاية، ولا يستقيم عليه إلا إذا لم يكن له من ذلك مصلحة خاصة- كان ذلك العقد غبنا فاحشا على الطرف الآخر، الملتزم له، الحريص على الوفاء به، حيث تمكنه الفرصة فى عدوّه فلا يهتبلها، على حين لو أمكنت الفرصة خصمه لم يلتزم العقد الذي بينهما.. فكان نقض هذه العهود القائمة بين المسلمين والمشركين وضعا للأمر فى موضعه الصحيح، إذ هو إقرار لحقيقة واقعة، ونقض لعهود منقوضة من قبل أن يجفّ المداد الذي كتبت، ولا ينتظر المشركون لنقضها إلا الوقت المناسب، والفرصة السانحة.. وقد تولّى الله سبحانه وتعالى عن المسلمين نقض هذه العهود، وجعل سبحانه وتعالى ذلك إليه وإلى رسوله الكريم: «بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» وذلك ليدفع عن المسلمين الحرج الذي ربما وجدوه فى صدورهم لو أمروا بنقض هذه العهود.. وفى هذه ما فيه من لطف الله وإحسانه إلى المسلمين، ورعايته لهم، وبرّه بهم. والبراءة من الشيء، والتبرؤ منه، هو مجافاته، وقطع الصلة به، والله سبحانه وتعالى، إنما يبرأ من المشركين، لأنهم برئوا منه.. ومعنى براءته سبحانه وتعالى منهم، طردهم من رحمته، وتركهم للأهواء والضلالات المتسلطة عليهم.. أما براءة رسول الله منهم، فهى قطع العلاقة التي كانت قائمة بينه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 695 وبينهم، بحكم العهود التي كانت معقودة بين النبىّ وبين المشركين.. فإذ قد برىء الله منهم، وطردهم من مواقع رحمته، فقد وجب على النبىّ أن يقطع كل صلة بهم.. إذ كانوا حربا على الله، وعلى دين الله، وعلى رسول الله، وعلى المؤمنين. قوله تعالى: «فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ» هو إطلاق من الله سبحانه وتعالى للمشركين من تلك العهود التي عقدوها مع المؤمنين، وإرسال لهم فى وجوه الأرض مدة أربعة أشهر، يتنقلون فيها حيث يشاءون، دون أن يعترضهم المسلمون، أو يلقوهم بأذى، إلا إذا بدءوهم ببغى أو عدوان.. وهذا هو السرّ فى قوله تعالى: «فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ» .: إذ لا تكون السياحة فى الأرض إلا حيث الأمن.. والمشركون فى هذه المدة التي أعطيت لهم، آمنون من كل عدوان. وفى هذه الأشهر الأربعة فسحة للمشركين، يعدّون فيها أنفسهم للوضع الذي يتخيرونه، بعد انقضاء هذه المدة، فإما أن يدخلوا فى الإسلام، وإما أن يدخلوا مع المسلمين فى حرب وقتال.. وهى مدة كافية كلّ الكفاية لكى يقلّب فيها المشركون وجوه النظر، وليتخيّروا لأنفسهم أعدل المواقف التي ينتهى إليها تفكيرهم وتقديرهم.. وهذا وجه من وجوه الإسلام السمحة، وآية من آياته المشرقة فى العدل والإحسان، حتى فى مواقف المواجهة للعدو.. وفى ميدان الخصومة معه! وما كان لشريعة الله أن تكون على غير هذا الوجه الذي يقيم موازين العدل بين عباد الله جميعا.. مؤمنهم وكافرهم على السواء.. فالمشركون خلال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 696 هذه الأشهر الأربعة، فى عافية من أمرهم، وفى حراسة من كل قهر أدبى أو مادّىّ، يحملهم على الوجه الذي يأخذونه من الإسلام والمسلمين.. وقوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ» هو تحذير للمشركين، وتنبيه لهم أن يأخذوا حذرهم، وأن يقدّروا موقفهم فى الرأى الذي يرونه لأنفسهم، بعد هذه الأشهر الأربعة.. وليضعوا فى حسابهم هاتين الحقيقتين: أولاهما: أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يطلبهم، وأن يد الله لا تقصر عنهم فى أي متّجه اتجهوا إليه.. «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ» .. وثانيتهما: أنّهم إذا انتهى بهم رأيهم إلى اختيار الشرك الذي هم عليه، فإنهم قد اختاروا الخزي والهوان، لأنهم حينئذ يكونون حربا على الله.. «وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ» . قوله تعالى: «وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» الأذان: الإعلام، والإظهار للأمر بصورة كليّة كاشفة.. ويوم الحج الأكبر، هو يوم عرفة، وقيل يوم النحر، وفى كلا اليومين تتم معظم أعمال الحج.. ووصف الحجّ بأنه الحج الأكبر، تعظيما له وإلفاتا إلى تلك الظاهرة الإنسانية التي تتجلى فيه، باجتماع هذه الحشود الحاشدة، التي تجمع الناس من كل أمة وقبيل.. يأتون من كل فج عميق.. فإذا احتوتهم دائرة الحرم كانوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 697 على هيئة واحدة فى ملابس الإحرام.. الأمر الذي لا تشهد العين مثله إلا فى هذا الموطن! وقد أعلن هذا الأذان على الحجيج فى موسم الحج، سنة تسع من الهجرة، فى يوم عرفة أو يوم النحر.. وكان أبو بكر رضى الله عنه هو الذي ندبه الرسول، صلى الله عليه وسلم، أميرا على الناس يومئذ ليقيم لهم حجّهم.. وكان موسم الحج هذا العام، مجتمعا للمسلمين والمشركين، حيث يقيم المؤمنون حجّهم على الوجه الذي بيّنه الإسلام لهم، على حين يقيم المشركون حجّهم على ما كانوا عليه فى الجاهلية، وكان من عادتهم أن يطوفوا بالبيت عراة.. وقد آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يشهد هذا المشهد الكريه من المشركين، فأقام أبا بكر مقامه فى هذا الموسم، وكان ذلك فى السنة التاسعة من الهجرة.. فلما كانت السنة العاشرة وطهّر الله المسجد الحرام من الشرك والمشركين، حجّ النبىّ حجة الوداع. وما كاد أبو بكر ينفصل عن المدينة، فى طريقه إلى البلد الحرام، حتى تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربّه هذه الآيات الأولى من سورة براءة.. فجعل إلى علىّ بن أبى طالب أن يؤدى عنه هذا الأمر، وأن يؤذّن به فى الناس يوم الحجّ الأكبر.. فركب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم «العضباء» ولحق بأبى بكر فى بعض الطريق قبل أن يدخل مكة، فقال له أبو بكر: أأمير أم مأمور؟ فقال: بل مأمور..! فأقام أبو بكر للمسلمين حجّتهم.. وأذّن علىّ فى الناس بهذا الإعلان القرآنى من سورة براءة. والسؤال هنا: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 698 لماذا لم يعهد الرسول صلوات الله وسلامه عليه، إلى أبى بكر وهو أمير الحج، أن يؤدى هذه المهمة؟ والجواب على هذا: أن ما كان بين المسلمين والمشركين من عهود، إنما كانت معقودة باسم الرسول صلوات الله وسلامه عليه، باعتباره ممثلا للمسلمين، وهو بهذا الاعتبار لم يكن عند المشركين أكثر من رئيس قبيلة، وليس لصفة النبوة حساب عندهم فى هذا الأمر، إذ لم يكونوا معترفين بنبوته، وإلّا لآمنوا به.. ومن هنا لم يكن- من وجهة نظر المشركين- من المقبول أن يتولّي نقض هذه العهود ونبذها إلى أصحابها إلا المتعاقد معهم عليها، أو من يمثله من عصبته، وذوى قرابته الأدنين، وذلك أن أهل البيت، أو القبيلة يحملون معا تبعات الالتزامات التي بينهم وبين غيرهم، وأنه إذا جنى أحدهم جناية كانت تبعتها على الجماعة كلّها.. ومن أجل هذا، فإن النبىّ صلى الله عليه وسلم حين تلقى من ربّه الأمر بنبذ العهود إلى المشركين، قال: «لا يبلّغ عنى إلّا أنا أو رجل من بيتي» .. فجعل ذلك إلى ابن عمّه علىّ بن أبى طالب.. وإن كان المسلمون جميعا- على اختلاف بيوتهم وقبائلهم- أهلا لأن يؤدوا هذه المهمة، ولكن عند من يعترف بنبوة النبىّ، ويعترف بالمسلمين كوحدة تدين بدين، وتجتمع على شريعة.. ولكن المشركين كانوا يتعاملون مع النبىّ كواحد من بنى هاشم، ولا ينظرون كثيرا إلى من استجاب له وتبعه من المسلمين.. ولهذا، فإنه حين يئست قريش من أن تمسك النبىّ عن القيام.. برسالته، عمدت إلى مقاطعة بنى هاشم، وفرض الحصار الاقتصادى والاجتماعى عليهم، فلا يزوجونهم ولا يتزوجون منهم، ولا يتعاملون معهم، أخذا أو إعطاء، وقد وقع بنو هاشم جميعا- مؤمنهم ومشركهم- تحت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 699 هذا الحكم الظالم، ووقفوا له جميعا جبهة واحدة فى وجه قريش. وفى قوله تعالى: «أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ» - الواو فى «ورسوله» للعطف على المصدر المؤول من الجملة السابقة: «أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» أي ورسوله برىء منهم.. فهو عطف جملة على جملة.. وذلك لتكون براءة الله من المشركين هى الأصل، ثم تجىء براءة رسول الله منهم تبعا لتلك البراءة، ثم تجىء براءة المؤمنين منهم تبعا لبراءة الله ورسوله. وفى قوله تعالى: «فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» دعوة مجدّدة من الله- سبحانه- إلى المشركين، أن يستجيبوا لله وللرسول، فذلك هو الذي يحقق لهم الفوز والفلاح، ثم هو تهديد لهم بالخزي فى الدنيا والعذاب فى الآخرة، إذا هم لم يتوبوا إلى الله، ويخلّصوا أنفسهم من الشرك الذي استولى عليهم.. وقوله تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» هو استثناء من الحكم العام الذي أنذر به المشركون، وهو أن العهود التي كانت بينهم وبين المسلمين لن يكون لها مفعول بعد الأربعة الأشهر التالية ليوم النحر، الذي أعلنوا فيه بنبذ العهود التي عقدوها مع المسلمين.. والمستثنون من هذا الحكم العام من المشركين، هم أولئك الذين عرف منهم المسلمون صدق نواياهم فى الوفاء بالعهود التي عقدوها معهم، حيث لم تظهر منهم بادرة تدلّ على خيانة، أو ممالأة عدوّ، أو تحريضه على المؤمنين- فهؤلاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 700 قد وفوا بالعهود، فينبغى أن يفى معهم المسلمون بعهودهم، إذ المسلمون أولى بهذا منهم، وما نقض المسلمون العهود التي آذنهم الله بنقضها مع المشركين إلّا لما هو ظاهر من حالهم الذي يكشف عن نيات سيئة، تدبّر الشر، وتبيت العدوان، وتتربص بالمسلمين الدوائر.. فهؤلاء المستثنون، يجب على المسلمين الوفاء لهم بالعهود التي عقدوها معهم، إلى الآجال المضروبة لها.. فهؤلاء لهم حساب.. ولعامة المشركين حساب آخر.. وقوله سبحانه: «فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» هو بيان لموقف المسلمين من المشركين، بعد انقضاء الأربعة الأشهر التي حرّم على المسلمين فيها قتال المشركين، وتبدأ من العاشر من ذى الحجة إلى العشرين من ربيع الآخر.. حيث أعطى المشركون فيها أمانا مطلقا، حتى تتاح لهم الفرصة لاختيار الموقف الذي يقفونه من المسلمين بعد انقضاء هذه المدة، التي وقتتها الآية بأربعة أشهر فى قوله تعالى: «فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ» . والأشهر الحرم هنا، هى غير الأشهر الحرم المعروفة، وهى ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب.. والتي أشار إليها الله سبحانه وتعالى بقوله «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ» .. فهذه الأشهر الحرم يحرم فيها القتال بدءا به، ولا يحرم فيها لدفع العدوان.. وهذا الحكم هو لها فى جميع الأزمان.. أما الأشهر الحرم التي ذكرت هنا فإن حرمة ما حرّم منها هو خاص بهذا العام، أي السنة التاسعة، وأول العاشرة من الهجرة.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 701 والمشركون الذين أمر المسلمون بقتالهم بعد انسلاخ هذه الأشهر الأربعة هم مطلق المشركين، ما عدا الذين أمهلوا إلى أن تتم المدة المتعاهد معهم عليها. وقوله تعالى: «وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ» دعوة للمسلمين بالجد فى طلب المشركين، وأخذهم بكل قوّة، وملاحقتهم فى كل مكان، حتى لا يكون لهم مهرب.. وفى هذا إرهاص بما سيحلّ بالمشركين من بلاء واقع، لا وجه لهم من الإفلات منه.. بعد أن ينتهى الأجل المضروب لهم، وذلك من شأنه أن يلقى الرّعب فى قلوب المشركين، وأن يفتح للكثير منهم طريقا إلى الإسلام، حيث يجد العافية، والأمن والسلام.. وفى قوله تعالى: «فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» هو تحريض للمشركين على المبادرة بالتوبة، وخلع نير الشرك من رقابهم، وذلك قبل أن يقعوا ليد المسلمين، وتصل إليهم سيوفهم، فإنهم إن وصلوا إلى تلك الحال، فلن تكون لهم نجاة، ولن تقبل منهم توبة، شأنهم فى هذا شأن الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فى الأرض فسادا، وفيهم يقول الله سبحانه وتعالى: «إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (33- 34: المائدة) وفى قوله تعالى: «أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» دعوة للمسلمين إلى التسامح والرفق، وأن يقبلوا هؤلاء الذين جاءوهم مسلمين، وأن يفسحوا لهم فى قلوبهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 702 مكانا مع إخوانهم المسلمين، وأن يغفروا لهم ما كان منهم من إساءات، فيما أصابوهم بهم فى أموالهم وأنفسهم، فإن الله غفور رحيم، ينال المؤمنين برحمته، ومغفرته، فليأخذوا هم المسيئين إليهم برحمتهم ومغفرتهم.. ثم هو إغراء للمشركين أن يدخلوا فى دين الله، فهذه رحمة الله ومغفرته مبسوطة لهم، وهؤلاء هم المؤمنون يلقونهم بالرحمة والمغفرة لما كان منهم، فى عدوانهم عليهم، وكيدهم لهم.. إنها فرصة مسعدة، والسعيد من أخذ بخطه منها. الآيات: (6- 15) [سورة التوبة (9) : الآيات 6 الى 15] وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 703 التفسير: تمضى الآيات بعد هذا فى تقرير الأحكام التي تنتظم الصّلات التي بين المؤمنين وأعدائهم من المشركين والكافرين.. فبعد أن قضى الله بنقض العهود التي بين المشركين والمسلمين، وإمهالهم أربعة أشهر يتدبّرون فيها أمرهم، استثنى الله سبحانه وتعالى من هؤلاء المشركين من عرف المسلمون منهم الوفاء بالعهد، فأبقى على عهودهم إلى انتهاء أجلها المضروب لها، ثم أمر الله المسلمين بأن يأخذوا المشركين حيث وجدوهم، وأن يقتلوهم حيث ظفروا بهم، وذلك مع استثناء من بقي لهم مع المسلمين عهد. وهنا فى هذه الآيات استكمال لهذه الأحكام.. ففى قوله تعالى: «وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ» بيان لحكم من جاء من المشركين مستجيرا بالنبيّ، طالبا الأمان منه. ففى غير ميدان القتال، وفى حال السّلم، قد يرى بعض المشركين أن يلتقى بالنبيّ، ليعرف الدعوة الإسلامية، وليعرض على عقله وقلبه ما يدعو إليه الإسلام، وذلك حقّ له، يجب ألّا يحرم منه.. ليكون إيمانه على علم، وفى غير إكراه.. ولهذا أمر الله سبحانه النبىّ الكريم أن يستجيب لدعوة من يدعوه إلى طلب الأمان فى جواره، وذلك حتى يسمع كلام الله، أي حتى يسمع ما نزل على النبي من قرآن يقرر أصول الإسلام، وأحكام شريعته، ثم إن لهذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 704 المستأمن أن يطلب النّظرة إلى الوقت الذي يسمح له بالنظر والتدبر فيما سمع من كلام الله، وأن يجاب إلى هذا، حتى ينقطع عذره، وتقوم عليه الحجة.. فإن وجد فيما سمع ووعى من كلام الله ما يدعوه إلى الإيمان، ثم آمن.. فهو فى المؤمنين، له ما لهم وعليه ما عليهم.. وإن أصمّ الله سمعه، وأعمى بصره، وحجب بصيرته، فلم تنفذ شعاعات الهدى إلى قلبه، وآثر الضلال على الإيمان، واستحبّ العمى على الهدى، فإن له ما اختار.. لا سلطان لأحد عليه، ولا سبيل لأحد أن يناله بضرّ أو أذى، فهو الآن فى ذمة النبىّ، وذمة المؤمنين جميعا.. وعلى النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- أن يضمن سلامته، وأن يكفل له الأمن والطمأنينة ما دام فى رحاب المسلمين.. ثم إن أراد النبىّ، أو رغب هو فى أن يلحق بأهله، أجيب إلى هذا، ووكل به النبىّ من المسلمين من يقوم على حراسته، وسلامته، حتى يبلغ مأمنه، أي المكان الذي يجد فيه الأمن بين أهله وعشيرته.. ألا فلتخرس ألسنة الذين يقولون إن الإسلام دين قام على السيف وإراقة الدماء!! فهذا صنيع الإسلام مع أعدائه حين لا يكون منهم حرب معه، أو عدوان عليه.. إنه سلم خالص، وإنسانيّة فى أرفع منازلها.. فلا إكراه فى الدين، ولا عدوان على من يختلفون مع المسلمين اختلافا قائما على البحث والنظر. وليس فى الدعوات دعوة تحترم العقل، وتمنحه حقه المطلق فى النظر والاختيار- كدعوة الإسلام، التي لا تفرض سلطان الحق الذي بين يديها، على أي ذى عقل، ولو كان عقلا جهولا محمّقا! ذلك أن الإسلام ليس من همّه امتداد ظلّه على مساحات ممتدة من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 705 الأرض، ولا التسلط على أعداد كثيرة من الناس، شأن الغزاة والفاتحين، فمثل هذا لا يقيم فى القلوب دينا، ولا يثبت فى الأرض عقيدة.. وإنما الذي يهمّ الإسلام أولا وأخيرا، هو أن يجد العقول التي تتقبّل دعوته، والنفوس التي تستجيب لها، والقلوب التي تعمر بها.. ولا عليه بعد هذا أن يقلّ أتباعه أو يكثروا، وأن تتسع دولته أو تضيق.. إذ ليست دعوة الإسلام لحساب فرد أو جماعة، وإنما هى خير ممدود للناس، فمن طعم منه، واستطابه، فذلك له، ومن أعرض عنه وتحاشى الأخذ منه فليس لأحد عليه سلطان: «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» .. وفى قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ» إشارة داعية إلى الرفق بهؤلاء المشركين الذين جاءوا ليعرضوا الإسلام على عقولهم، فهم على جهل وجفاء، وفى ظلام جاهلية طال عليهم الأمد فيها.. وإذ كان هذا شأنهم، فإن من شأن من يتولّى الاستشفاء لهم من دائهم، أن يترفق بهم، حين يراهم يعشون عن النور، ويعمون على الهدى.. وفى قوله تعالى: «كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» . هو عرض للوجه العام للمشركين، بعد هذا العرض لأفراد منهم، استجابوا للرسول، واستأمنوه، ليروا ما بين يديه من الدين الذي يدعوا إليه. وفى هذا العرض ينكشف ما عليه المشركون عامة، من غدر وخيانة، وتربّص بالمسلمين.. فهؤلاء لا عهد لهم ولا ذمة، عند المسلمين.. باستثناء أولئك الذين أمضى المسلمون عهودهم معهم إلى المدة المتفق عليها فيما بينهم وبين هؤلاء الجماعات من المشركين، وهم الذين استثناهم الله سبحانه وتعالى فى قوله سبحانه: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 706 «إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ..» فهؤلاء المشركون سيظل المسلمون على عهدهم معهم، ما داموا هم على الوفاء بعهدهم، فإن بدا منهم ما يستشعر منه المسلمون غدرا أو خيانة، نقضوا هذا العهد، وقطعوا تلك المدة التي تضمنها العهد.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» . وفى قوله تعالى: «كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ» تحذير للمؤمنين من أن يأمنوا جانب المشركين أيّا كانوا، حتى هؤلاء الذين لم يظهر للمسلمين منهم غدر أو خيانة.. فذلك إن يكن وجه مقبول من وجوههم، فإن وراء هذا الوجه وجوها كثيرة منكرة، وإنه ليس بالمستبعد منهم أن يغدروا وأن يخونوا فى أية فرصة تسنح لهم.. وإنه لو أمكنتهم الفرصة فى المسلمين لم يرقبوا فيهم إلّا ولا ذمة.. و «الإلّ» القرابة.. كأنها مشتقة من الآل التي بمعنى الأهل والأقارب.. «والذمة» : العهد الذي يصير به كل من المتعاهدين فى ذمة الآخر، أي فى ذمامه وحوطه، بحيث لا يجىء إليه منه أذّى. والاستفهام فى قوله تعالى: «كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ» استبعاد من أن يبقى المشركون على عهد بينهم وبين المسلمين.. وإن كانت بينهم وبين المشركين قرابة نسب أو عهود موثقة، والمستفهم عنده هنا محذوف، لدلالة الحال عليه، وهو: كيف يحفظون لكم عهدا، وهم عداوة تمتلىء بها صدورهم بغضة وشنانا لكم، حيث لا يجدون شفاءا لما فى صدورهم من هذا الداء إلا أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 707 يأخذوكم بالبأساء والضرّاء؟ ... فهم- والحال كذلك- لا يمسكون معكم بعهد إلا ربّما تمكنهم الفرصة فيكم، وإذن فاحذروهم، وكونوا منهم دائما على توقع الغدر بالعهد، والتحفز للوثوب عليكم. وفى قوله تعالى: «يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ» . هو كشف للمؤمنين عمّا فى نفوس المشركين من عداوة وبغضاء لهم، وأنهم إذا ألانوا الكلام مع المؤمنين، وأسمعوهم طيّب الكلم ومعسول القول، فإن ما فى صدورهم على خلاف هذا.. «وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ» أي خارجون عن الطبيعة السليمة للإنسان السليم. ومع هذا فإن قليلا منهم فبه بقيّة من خير، يمكن أن تكون طريقا هاديا له إلى الحق، والإيمان، إذا هو عرف كيف ينتفع بها، ولم يذهب بها، مذهب الضياع والفساد.. وقوله تعالى: «اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» . إشارة إلى أن هؤلاء الكافرين رغبوا عن آيات الله، وأعرضوا عن الهدى الذي تحمله إلى من يتصل بها، ورضوا بما هم فيه من حياة لاهية هازلة.. «يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» .. لقد صدّوا عن سبيل الله، فساء عملهم، وضل سعيهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وليس فى الأمر بيع ولا شراء.. ولكن لما كانت آيات الله فى معرض النظر لكل إنسان، وكان من شأن هؤلاء المشركين أن يؤمنوا بها، وأن يجعلوها بضاعتهم التي يتعاملون بها، وزادهم الذي ينزودون منه، فهم- والأمر كذلك- فى حكم من أخذوا آيات الله، وإذ لم ينتفعوا بها، ولم يأخذوا بحظهم منها، فكأنهم باعوها واشتروا بها هذه الحياة التي يحيونها، وهذا المتاع القليل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 708 الذي يعيشون فيه! «أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ» . قوله تعالى: «لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ» .. هو توكيد لبيان ما يحمل المشركون للمسلمين من عداوة، وما يرصدون لهم من كيد، وما يدبّرون من بغى وعدوان.. وذلك أمر يجب أن يعلمه المسلمون، وأن يستيقنوه، وأن يأخذوا حذرهم منه، وإلّا استحوذ عليهم المشركون، وفتنوهم فى دينهم، وأوقعوهم فى بلاء عظيم. قوله تعالى: «فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» فى هذا ما يكشف عن سماحة الإسلام، وإنسانيته، وأنه ليس لحساب فرد، أو جماعة، أو أمة، وإنما هو حظ متاح للناس جميعا.. وأن هذه الحرب التي تدور بين أتباعه وأعدائه، والتي يحتمل فيها هؤلاء الأتباع ما يحتملون من ابتلاء فى أموالهم وأنفسهم- هذه الحرب ليست لحساب أحد، وإنما هى من أجل هذا الدين، ولحساب هذا الدين.. ومن هنا كان مطلب المسلمين المجاهدين أولا وقبل كل شىء، هو هداية الناس، وابتغاء الخير لهم.. فإذا اهتدى الضال، وآمن المشرك، ونزع الكافر عن كفره- كان ذلك هو الجزاء الحسن الذي يسعد به المسلم، والغنيمة العظيمة التي يجد فيها العزاء لكل ما أصيب به، فى نفسه، أو ماله. ولهذا، فإن هؤلاء المحاربين للمسلمين، والمعتدين على الإسلام، هم على تلك الصفة، والمسلمون على موقفهم العدائى معهم، ما داموا على حالهم تلك، فإذا هم تحولوا عن موقفهم هذا، ودخلوا فى دين الله- انقلبوا فى الحال أولياء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 709 للمؤمنين، وإخوانا لهم، قد ذهب إيمانهم بالله بكل ما كان لهم فى نفوس المؤمنين من بغضة وعداوة.. وفى قوله تعالى: «وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» دعوة للمشركين أن يتدبروا أمرهم فيما بينهم وبين هذا الدين الذي يدعون إليه، وإنهم لو نظروا بقلوب سليمة، وعقول تنشد الحق، وتطلب الهدى، لعلموا أن دعوة الإسلام لا تقوم على عصبية قبليّة، أو طائفية، أو من أجل جاه أو سلطان، وأنه لو كان هذا شأنها لما كان دخولهم الإيمان شفيعا يشفع لهم عند المسلمين، ويعفى على ما اقترفوه فى حقهم من آثام، ولما قبل منهم المسلمون إلا الاستسلام لهم، واستباحة دمائهم وأموالهم، شأن الحروب التي تقع بين الناس والناس، من أجل أمور الدنيا المتنازع عليها بينهم أبدا. قوله تعالى: «وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ» هذا هو الوجه الآخر الذي يلقى به المؤمنون، المتمردين من المشركين، الناكثين للعهد، وهو أنه إذا لم يستقم المشركون على الوفاء بالعهد، ونكثوه، أو همّوا بنكثه، وأطلقوا ألسنتهم بقالة السوء فى الإسلام والمسلمين، أو مدّوا أيديهم إلى المسلمين بأذى- فعندئذ ينبغى على المسلمين أن يحلّوا أنفسهم من أي عقد عقدوه مع هؤلاء المشركين، وأن يضربوهم بيد باطشة قاهرة، لعلّ فى هذا ما يقطع ألسنتهم وأيديهم المتطاولة على الدين، ويقصّر من خطوهم إلى التمادي فى الشرك والضلال. وفى العدول عن الضمير إلى الظاهر فى قوله تعالى: «فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ» بدلا من أن يجىء النظم «فقاتلوهم» - فى هذا ما يكشف عن وجه هؤلاء المشركين، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 710 ذلك الوجه، الذي لا يستحق غير الخزي والهوان.. إنه وجه يطلّ منه الكفر فى أنكر صورة وأبشعها.. وإنه، وجه تنعقد على جبينه أمارة الزعامة، والإمامة، لدولة الكفر والضلال. قوله تعالى: «أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» هو تحريض للمؤمنين على الجدّ فى قتال المشركين، وفى قتل كل المشاعر التي تدعو إلى مهادنتهم، والتراخي فى تأديبهم والانتقام منهم.. فإذا وقع فى نفس مسلم شىء من هذا المشاعر، فليذكر ما صنع هؤلاء المشركون به وبالنبيّ الكريم، وبجماعة المسلمين عامة، وما كان منهم من كيد وبغى وعدوان، على دين الله، وعلى المؤمنين بالله.. فهؤلاء المشركون، الذين نكثوا أيمانهم، ونقضوا عهودهم- لم يكونوا فى يوم ما على حال مستقيمة مع المسلمين.. وحسبهم أن كان منهم تلك المواجهة المنكرة التي واجهوا بها الرسول فى أول دعوته، وكيف آذوه وآذوا كل من استجاب له، حتى همّوا بإخراجه، وتآمروا على اغتياله، لولا أن ردّ الله كيدهم، وأخرج النبىّ سليما معافى من بينهم. ثم هاهم أولاء قد نكثوا أيمانهم، وتحللوا من كل عقد عقدوه مع المسلمين.. فكيف يرعى المسلم لهم عهدا..؟ وكيف تعطفه عليهم عاطفة؟ وفى التعبير بلفظ «همّوا بإخراج الرسول» إشارة إلى واقع أمرهم مع الرسول فعلا، فهم لم يخرجوه، بل كانوا يعملون على أن يمسكوه بينهم، ويحولوا بينه وبين أن يلقى الناس، وأن تلتقى دعوته بالناس- ولكن لما كان هذا الموقف المتعنت الذي وقفوه منه- صلوات الله وسلامه عليه- سببا فى أن يخرج من بلده الجزء: 5 ¦ الصفحة: 711 مهاجرا، فقد حسن أن يضاف إليهم إخراجه، نيّة لا عملا.. وفى التعبير بكلمة «همّوا» التي تفيد معنى النيّة المنعقدة على هذا الأمر- فى هذا ما يكشف عن مكنون ضمائرهم، من كراهية للنبىّ، واستثقال لمقامه فيهم، وأنهم يهمّون بإخراجه، ولكن يرون أن إخراجه أشدّ بلاء عليهم من إمساكه معهم.. فهم يمسكون بالنبيّ على مضض وتكرّه.. ومن فعلات المشركين بالمؤمنين أنهم هم الذين بدءوا بالعدوان، وجاءوا إلى بدر بجيوشهم، يمنّون أنفسهم بالقضاء عليهم، والتنكيل بهم. فهذه كلها أمور إذا ذكرها المسلمون أثارت حفيظتهم على المشركين، وأوقدت عزائمهم لجهادهم، وأخذهم بالبأساء والضراء، حتى يستجيبوا لله وللرسول.. وفى تنكير المشركين فى قوله تعالى: «أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً» تحقير لهؤلاء القوم، وتعرية لهم من كل صفة، إلا تلك الصفات التي دمغهم الله سبحانه وتعالى بها، وهى ما أشار إليه قوله تعالى: «نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ. وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ.. وقوله تعالى: «قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» . هو إغراء للمسلمين بلقاء المشركين وقتالهم، حتى يفيئوا إلى أمر الله.. فبعد أن أثار الله حميّة المسلمين، وملأ قلوبهم موجدة وسخطا على الكافرين- جاء وعده سبحانه وتعالى للمسلمين بالنصر على عدوّهم، وأنه سبحانه سيعذب هؤلاء المشركين بأيدى المؤمنين، بما يصيبهم فى أنفسهم من قتل وأسر، وما يصيبهم فى أموالهم، التي تقع غنيمة لأيدى المؤمنين فى ميدان القتال، أو فى فداء الأسرى منهم.. وليس هذا فحسب، فإن الذي لهم فى العرب من مكان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 712 الرياسة والسيادة ستذهب به تلك الهزيمة المنكرة التي سيلقونها، ويلقون معها الخزي والعار.. وفى قوله تعالى: «وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ» انتقال من الخطاب إلى الغيبة، وفى ذلك تنويه بشأن المؤمنين، ورفع لقدرهم، بالنأى بهم عن هذا الموطن الذي ينزل فيه العذاب على المشركين، ويقع عليهم الخزي والهوان.. وفى العدول عن تعريف القوم إلى تنكيرهم، تفخيم لهؤلاء القوم، وأنهم ليسوا قوما بأعيانهم، وإنما هم المؤمنين حيث كانوا، سواء من قاتل هؤلاء المشركين أو من لم يقاتل، وسواء من شهد هذه الأحداث وعاصرها أو من جاء بعدها، حيث يرى المؤمن فى حديث التاريخ عنها ما نقرّ به عينه، وينشرح به صدره، حين يحدّثه التاريخ عن هزيمة الباطل وانتصار الحق، وامتداد ظلّ الإسلام، وانكماش دولة الكفر والضلال.. وفى قوله تعالى: «وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ» وفى عطف هذا الفعل على الأفعال قبله فى قوله تعالى: «يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ» .. إشارة إلى أن من تقدّر له التوبة من هؤلاء المشركين ويدخل فى دين الله يجد نفسه مشاركا للمؤمنين فيما آتاهم الله من فضله، ينصرهم وإعزازهم، وشفاء ما بصدورهم.. وبهذا يتحول فى لحظة واحدة من تلك الحال التي يلبس فيها لباس الهزيمة والخزي والعار، إلى الجبهة الأخرى، فيشاركها أفراحها ومسرّاتها، ويقاسمها ما بين أيديها من نصر، وما فى قلوبها من رضى وحبور، وفى هذا تحريض قوىّ للمشركين على ان يستجيبوا لله وللرسول، وأن يدخلوا فى دين الله، ويسلموا له مع المسلمين.. «وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» يمضى حكمه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 713 بعلم العليم، وحكمة الحكيم، فما وقع شىء فى ملكه إلا على هذا التقدير الذي يقدّره العلم، وتحكمه الحكمة.. الآيات: (16- 18) [سورة التوبة (9) : الآيات 16 الى 18] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16) ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) التفسير: قوله تعالى: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» هو تنبيه للمؤمنين إلى أن الإيمان ليس مجرد عقيدة يعتقدها المؤمن، فى الله وكتبه ورسله، ثم يعيش بهذه المعاني مضمرة فى كيانه، كما تضمر الحبة فى باطن الأرض، لا يصيبها وابل أو طلّ، ولا يحركها شوق إلى كشف وجهها، ومصافجة أضواء الوجود.. وإنما الإيمان هو وصل هذه الحقائق بالحياة، وصوغها فى صورة سلوك وأعمال، من عبادات ومعاملات، ومن جهاد فى سبيل الله، وحماية لراية الإيمان أن تسقطها يد البغاة المعتدين، من أهل الشرك والضلال.. فللإيمان أعباؤه وتكاليفه، وفى الوفاء بهذه الأعباء وتلك التكاليف، تتحد مواقف المؤمنين، وتكون منازلهم ودرجاتهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 714 وقوله تعالى: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا» استبعاد لهذا الشعور الذي يداخل بعض المؤمنين من أن يكون حسبهم من إيمانهم ما تنطوى عليه صدورهم من حقائقه.. وكلّا فإنهم مبتلون بما يكشف عن معدن هذا الإيمان الذي فى قلوبهم.. وفى هذا يقول الله تعالى: «الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ» (1- 3: العنكبوت) .. ففى الإيمان شريعة، وفى الشريعة أوامر ونواه، والمؤمن مطالب بأن يمتثل الأوامر ويأتيها، ويتجنب النواهي ويحذر التلبس بها.. إن الإيمان عقيدة وعمل.. وإنه لا معتبر لعقيدة إذا لم يزكّها العمل، ويحقق المعاني المضمرة فيها. وفى وقوله سبحانه: «وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ» ما يكشف عن تبعات المؤمنين. أي أحسبتم أيها المؤمنون أن تتركوا هكذا من غير ابتلاء واختبار، حتى يكون ذلك موضع علم واقع منكم، من جهاد فى سبيل الله وابتلاء فى أموالكم وأنفسكم.. بمعنى أنه لم يظهر منهم بعد هذا العمل، ولم يدخلوا فى تلك التجربة، ويصبروا على ما يصيبهم منها.. أما علم الله سبحانه وتعالى فهو علم شامل لكل ما وقع وما لم يقع.. فالمراد بعلم الله هنا، هو علمه الواقع على حال المؤمنين فى هذا الوقت الذي يخاطبون فيه بهذا الخطاب. وفى قوله تعالى: «وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ» .. إشارة إلى أن علم الله وإن كان محيطا بكل شىء، قبل أن يقع.. من المكلفين» إلا أن المكلفين لا يحاسبون على ما يقع منهم إلا بعد أن يقع.. وبهذا يحاسب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 715 المكلّف على ما وقع منه فعلا، وصار علما واقعا له، بعد أن كان فى علم الله.. وقوله تعالى: «وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً» معطوف على قوله تعالى: «وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ» .. والوليجة: الملجأ، والمعتمد، الذي يلجأ إليه الإنسان، ويتخذ منه جنّة ووقاية له.. والمعنى، أن المطلوب من المؤمن هو الجهاد فى سبيل الله، وموالاة الله ورسوله والمؤمنين، والاعتماد على كفاية الله ورسوله والمؤمنين له، دون أن يقوم بينه وبين المشركين ولاء، فلا يدخل معهم فى خلف، ولا يلج لهم أمرا يلتمس منه خيرا لنفسه، أو سلامة مما يتوقّع من بلاء.. فإذا لم يقع منه هذا، لم يكن أهلا لأن يدخل الجنّة التي وعدها الله المتقين من عباده.. وقوله تعالى: «وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» تحذير للمؤمنين الذين فى صدورهم شىء من هذه المشاعر، التي تقيم بينهم وبين المشركين صلة على حساب دينهم، أو على حساب الجماعة الإسلامية، وأمنها وسلامتها.. قوله تعالى: «ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ» هو بيان لبعض الحكمة فيما أمر الله به المسلمين فى شأن المشركين، وقتالهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم.. كما جاء ذلك فى أول السورة.. ثم هو إيذان لما سيأتى بعد ذلك من أمر فى ألا يقرب المشركون المسجد الحرام بعد عامهم الذي أنذروا فيه، ببراءة الله ورسوله منهم، وفى هذا يقول الله تعالى: «إِنَّمَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 716 الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا» وهو العام التاسع من الهجرة، الذي شاء الله سبحانه لرسوله الكريم ألا يحج هذا العام الذي حج فيه المشركون، ثم حج حجّة الوداع فى العام الثاني، وقد طهر البيت من هذا الرجس. فالمشركون بما فى قلوبهم من كفر، ليسوا أهلا لأن يدخلوا بيوت الله ويعمروها.. إذ كيف يكفرون بالله، ثم يعمرون مساجده؟ وقوله تعالى: «شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ» هو حال من أحوالهم التي يدخلون بها المساجد، وهى أنهم يدخلونها وهم كافرون بالله.. وشهادتهم على أنفسهم ينطق بها حالهم وأفعالهم، وإن لم تنطق بها ألسنتهم، فهم يدخلون بيت الله، ثم يسجدون فيه لغير الله، مما يعبدون من أوثان وأصنام.. وهذا العمل منهم أبلغ شهادة عليهم بالكفر والضلال.. «أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ» أي بطل كل عمل لهم، وانقلب شرّا ووبالا عليهم «وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ» فتلك هى ثمرة ما كانوا يعملون.. النار، والخلود فى النار.. قوله تعالى: «إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ» تلك هى حقيقة الذين يعمرون مساجد الله، وهذه هى صفاتهم التي تؤهلهم لأن يكونوا من أهلها وعمّارها.. أن يكونوا مؤمنين بالله واليوم الآخر، وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وألا يكون فى قلوبهم خوف إلا من الله، ولا رجاء إلا فيه، ولا متعلّق إلّا به.. فهؤلاء فى معرض الهداية والتوفيق، وعلى طريق الاستقامة والتقوى. بهم تعمر بيوت الله، يذكر الله فيها، ذكرا خالصا من لزيغ، مبرأ من الشرك.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 717 الآيات: (19- 22) [سورة التوبة (9) : الآيات 19 الى 22] أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) التفسير: كان بعض مشركى مكة يقومون على خدمات فى المسجد الحرام، كالسقاية للحجيج، وإطعام الوافدين للحجّ، وتأمينهم، وعمارة المسجد، وفرشه، وغير هذا مما كانت تتقاسمه قريش بين بيوتها من أعمال البيت الحرام. فلما جاء الإسلام، وحرّم على المشركين الاتصال بالمسجد الحرام، والقيام بأى عمل فيه، أوله- وقع فى نفس هؤلاء الذين كانوا يقومون على تلك الأعمال، أنهم بعد أن دخلوا الإسلام، لا زالوا فى حاجة إلى ما يملأ هذا الفراغ، ويذهب بذلك القلق النفسي الذي استشعروه، حين زال سلطانهم الديني على المسجد الحرام، وقاصديه.. وفى قوله تعالى: «أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» .. موازنة بين تلك الأعمال التي كان يعدّها المشركون من القربات، وبين الإيمان الذي عمر قلوب المسلمين، ووصلهم بالله ربّ العالمين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 718 وفى هذه الموازنة، تبدو تلك الأعمال التي كانوا يعملونها وهم متلبسون بالشرك- تبدو ضئيلة تافهة، لا وزن لها إلى جانب الإيمان بالله وما يملأ كيان المؤمن من الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد فى سبيل الله.. «لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ» . وفى الموازنة بين سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، وبين من آمن بالله واليوم الآخر- فى هذه الموازنة ما يسأل عنه.. وهو: لماذا جاءت الموازنة بين أعمال، هى السقاية وعمارة المسجد الحرام، وبين أشخاص هم المؤمنون بالله واليوم الآخر؟ وكيف تقوم موازنة بين أعمال وأشخاص،؟ إن المتصور هو أن تقوم الموازنة بين أعمال وأعمال، أو بين أشخاص وأشخاص.. حتى يمكن أن يعرف الفاضل والمفضول، والطيب والخبيث، بالنظر فى المتجانسين والموازنة بينهما.. فكيف هذا؟ والجواب- والله أعلم- أن هؤلاء الأشخاص الذين كانوا يؤدّون تلك الأعمال، ويحسبون أنها قربات عند الله، وأنها تجعل لهم شأنا وذكرا عنده، هى أشياء لا حساب لها فى ميزان الأعمال، إذ كانت غير مستندة إلى إيمان، ولم يكن الذين يأتونها بالمؤمنين بالله.. والحديث عن هذه الأعمال، دون الحديث عن أصحابها، يشير إلى أن أصحابها لا معتبر لهم فى موازين الناس، ماداموا على غير الإيمان.. وعلى هذا التقدير جاء النظم القرآنى بأعمالهم، ولم يجىء بهم، إذ كانت الأعمال فى ظاهرها حسنة طيبة، ولكنها لا نعود بثمرة عليهم، ولا تضاف لحسابهم.. أما المؤمنون بالله، واليوم الآخر والمجاهدون فى سبيل الله، فإنهم بإيمانهم بالله وباليوم الآخر وبالجهاد فى سبيله، أصبحوا هم الصورة الكاملة للإنسان الكامل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 719 الذي ينظر إليه وإلى أعماله، كأصل أصيل فى تقويم الناس وأعمال الناس. وقوله تعالى: «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» إشارة إلى أن أصحاب هذه الأعمال الطيبة قد ظلموا هذه الأعمال، إذ لم يزكّوها بالإيمان، كما أنهم قد ظلموا أنفسهم، إذ لم يظهروها من الرجس والشرك. قوله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ» فى هذه الآيات عرض لمنازل المؤمنين فيما بينهم، بعد أن ميّز الإيمان بينهم وبين المشركين، وجعلهم جميعا فى مقام كريم عند الله، يتقبل أعمالهم الطيبة، ويتجاوز عن سيئاتهم، على حين لا يقبل من غير المؤمنين عملا، ولو كان مما يدخل فى باب الطيبات الصالحات من الأعمال. والمؤمنون الذين هاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله، أعظم درجة عند الله، من الذين آمنوا وجاهدوا ولم يهاجروا.. والذين آمنوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله، أعظم درجة عند الله من الذين آمنوا ولم يهاجروا ولم يجاهدوا.. وهكذا يتفاوت المؤمنون فى منازلهم ودرجاتهم عند الله. وأعلى درجة عند الله للمؤمنين، هى درجة المهاجرين الذين جاهدوا فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم بعد أن اجتمع لهم الإيمان والهجرة- وقد وعدهم الله سبحانه وتعالى بالفوز برضوانه وجناته، ينعمون فيها بنعيم مقيم، لا ينفد ولا ينقطع أبدا.. (خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ» الجزء: 5 ¦ الصفحة: 720 الآيتان: (23- 24) [سورة التوبة (9) : الآيات 23 الى 24] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24) التفسير: فرّق الإيمان بالله، بين المؤمنين والمشركين، وجعل ولاء المؤمن للمؤمنين عامّة، أيّا كان لونهم وجنسهم، وأيّا كانت درجة القرابة فى النسب بينهم وبينه، على حين قطع ولاءه لأهله، وأقرب المقربين إليه إذا لم يكونوا من المؤمنين بالله وبرسول الله. وقبل فتح مكة كان المهاجرون بعضا من أهليهم المشركين فى مكة.. فمنهم من آمن وهاجر، وترك وراءه أبا، أو أمّا، أو إخوة، ما زالوا على شركهم، وما زالت علائق القرابة تشدّه إليهم، وتذكره بهم، وتبعث أشواقه وحنينه نحوهم.. ثم بعد فتح مكة، دخل النّاس فى دين الله أفواجا، وأسلم أهل مكة ومن حولهم، ولكن لم يكن كثير منهم مؤمنا بقلبه، مطمئنا إلى الدين الجديد الذي دخل فيه، بل لقد ظل بعضهم يحمل الحقد والعداوة للإسلام، الأمر الذي دعا الرسول الكريم إلى أن يتألّفهم.. ولهذا جاء قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 721 الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ» - جاء منبّها المسلمين إلى ما قد يدخل عليهم من مشاعر القرابة نحو أهليهم الذين خلّفوهم وراءهم من المشركين.. تلك المشاعر التي قد تبلغ حدّ الجور على حقّ المسلمين على المسلم، من إخاء وموالاة. وفى الآية الكريمة أمران، نحبّ أن نقف عندهما: أولهما: أن النهى ورد مقصورا على الآباء والإخوان، ولم يذكر غيرهم من ذوى القربى، وخاصة الأبناء، الذين هم أقرب قرابة من كل قريب.. فلم هذا؟ وما حكمته؟ والجواب على هذا- والله أعلم- أن المخاطبين بهذه الآية هم المهاجرون والأنصار، الذين سبقوا إلى الإسلام، وخلّفوا وراءهم أهلا وعشيرا.. وهؤلاء الذين سبقوا إلى الإسلام- من المهاجرين والأنصار- لم يتخلّف وراءهم غالبا إلا آباؤهم وإخوانهم.. إذ أبى الآباء أن يتابعوا أبناءهم، أنفا وكبرا، كما أبى الإخوة أن ينقادوا للسابقين من إخوانهم، حمية وحسدا.. أما الأبناء فقلّ منهم من أسلم آباؤهم ثم لم يتابعونهم ويقفوا أثرهم.. فلما دخل هؤلاء المتخلفون فى الإسلام، دخله كثير منهم بقلب مريض، ونفس متكرهة. وعلى هذا، فإن الصورة التي كان عليها المؤمنون يومئذ، هى: أن كثيرا منهم دخل فى الإسلام تاركا وراءه أبويه وإخوته، أو أحد أبويه وبعض إخوته، وقليل منهم من دخل فى الإسلام، ولم يدخل معه أبناؤه.. ومن أجل هذا كان النهى عن موالاة هؤلاء الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم- كان النهى متجها إلى هؤلاء الآباء والإخوة، دون الأبناء، الذين كانوا- بصفة عامة- مع آبائهم.. وثانى الأمرين: أن النهى لم يتناول المشاعر، والأحاسيس التي يجدها المسلمون نحو آبائهم وإخوانهم من المشركين، وإنما جاء واقعا على الولاء والإيثار، وتغليب مصلحتهم على مصالح المؤمنين، فهذا هو الذي نهى عنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 722 الإسلام، وذلك أن النهى عن المشاعر والأحاسيس أمر لا تحتمله النفوس، وإن كانت تحتمله بعض النفوس، فإن ذلك لم يكن إلا عن مشقة ومعاناة وحرج.. الأمر الذي برئت منه الشريعة الإسلامية السمحاء. هذا، وفى الآية إشارة على أن الشبان أقرب من الشيوخ استجابة للدعوات الجديدة، والتجاوب معها، حيث كان السابقون إلى الإسلام من الشبان غالبا. قوله تعالى: «قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» فى هذه الآية وضع للمسلمين فى مواجهة التجربة والاختبار لإيمانهم، واختيار ما يحبون وما يؤثرون.. فالإيمان فى جانب.. والآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال والديار.. فى جانب آخر.. وعلى المؤمن أن يختار بين الإيمان بالله ورسوله والجهاد فى سبيله، وبين أهله، وماله ودياره. والاختيار هنا يمكن أن يجرّ به الإنسان بينه وبين نفسه، حين يورد على مشاعره هذين الطرفين المتنازعين فى كيانه، وأن يستعرضهما واحدا بعد الآخر، وأن يفترض أنه إذا لم يكن من الممكن الجمع بينهما، فأيهما يؤثر أن يمسك به، ويعيش معه؟ فإذا آثر الإيمان على الولد والأهل والمال والموطن، كان على الصفة التي يتحقق بها الإيمان الذي يقبله الله منه، ويرضاه له.. وإن كان العكس، وآثر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 723 الولد والأهل والمال والموطن، على الإيمان بالله ورسوله والولاء للمؤمنين، والجهاد فى سبيل الله، فهو أقرب إلى الجبهة المعادية للإسلام، منه إلى الجبهة الموالية له.. «والمرء مع من أحبّ» . وفى وصف الأموال، بأنها أموال مقترفة إشارة إلى أن المال غاد ورائح.. وأنه أشبه بالمنكر، إذ كان أكثر ما يجىء المال من حصيلة الصراع بين الناس والناس. وفى قوله تعالى: «وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها» إشارة إلى ما قد يصيب السّوق التجارية من كساد، حين تقوم القطيعة بين المؤمنين والمشركين. وفى قوله تعالى: «فتربصوا» تهديد ووعيد لأولئك الذين يؤثرون علاقاتهم الدنيوية، على الإيمان بالله ورسوله والجهاد فى سبيل الله.. والتربص: الانتظار.. ووراء هذا الانتظار ما يسوء أولئك الذين آثروا الآجلة على العاجلة حين يرون نصر الله للمؤمنين، وما فتح الله عليهم به من مغانم فى الدنيا، ورضوان فى الآخرة، وجنّات لهم فيها نعيم مقيم. ويلاحظ أن قوله تعالى: «قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ.. الآية» قد انتظم كل ما تتعلق به النفوس، وتحرص عليه.. وليس وراءه من أمور الدنيا ما يطلبه الإنسان، ويعلق به.. كما يلاحظ أيضا أن هذه الأمور قد جاءت فى النظم القرآنى مرتبة الدرجات.. الأهمّ، فالمهم، فما هو دونه.. وهذا ما يجعل المؤمن أمام تجربة ذات شعب، وأنه قد يؤثر إيمانه على بعضها دون بعض، أو يؤثرها جميعا عليه، أو يؤثر إيمانه عليها جميعا.. كما أن هذه التجربة تنتظم المسلمين جميعا، لا يكاد أحد منهم يفلت من الدخول فيها، فمن لم يكن له أب كان له ولد.. ومن لم يكن له ولد، ولا والد، كان له زوج.. ومن لم يكن له واحد من هؤلاء كان له مال، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 724 ومن لم يكن له مال، ولا تجارة يخشى كسادها، كان له موطن يحنّ إليه، ودار يرنو ببصره إليها.. وهكذا، فى كلمات معدودة، تتحرك مشاعر المجتمع الإسلامى، وتتقلب القلوب، ويدور الصراع فى كيان كل مسلم، ثم تنجلى المعركة بعد صراع طويل أو قصير، عن سلام وعافية، أو شكّ وتردّد.. ثم يجىء قوله تعالى: «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» تعقيبا على هذا الصّراع، ممسكا بهؤلاء الشاكّين المترددين، لينتزعوا أنفسهم مما هم فيه من شك وتردد، فإمّا إلى اليمين، وإما إلى اليسار.. ولله سبحانه وتعالى فى هؤلاء المترددين الشاكّين، الذين ظلموا أنفسهم بهذا الموقف الذي وقفوه- لله فيهم أعداء لم يرد الله أن يهديهم، وأن يمضى لهم طريقهم إلى آخره مع الإيمان.. فليحذر كلّ من هؤلاء أن يكون فيمن خذلهم الله وجعلهم من أعدائه.. «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» الذين دخلوا فى دين الله، ثم مال بهم الطريق إلى ما لا يرضى الله! الآيات: (25- 27) [سورة التوبة (9) : الآيات 25 الى 27] لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) التفسير: التجربة التي وضع الله سبحانه وتعالى المسلمين إزاءها فى الآية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 725 السابقة، هى تجربة قاسية، تعالج منها النفس الشيء الكثير، من الضيق والألم، إلّا من عصم الله من عباده المؤمنين.. ولهذا جاء قوله تعالى: «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ» - جاء قوله سبحانه وتعالى فى هاتين الآيتين، مذكّرا المسلمين بعظمة الله وقدرته، وفضله على المؤمنين من عباده.. وفى هذا ما يخفّ به ميزان كل شىء يتعلّق به الإنسان، من أهل ومال وموطن.. وبذلك يشتدّ عزم المؤمن، ويقوى يقينه، فيجد القدرة من نفسه على أن يجلى عنها كل ما يطوف حول إيمانه بالله ورسوله والجهاد فى سبيل الله، من دواعى الوهن والضعف، حين تطلع عليه الذكريات لأهله وماله ووطنه. فلقد أيد الله المؤمنين، وأمدّهم بنصره فى مواطن كثيرة.. فى بدر، وفى الخندق، وفى فتح مكة.. وفى حرب اليهود، فى خيبر، وفى المدينة.. ثم فى يوم حنين.. وقد كان المسلمون في عدد عديد، وعدّة ظاهرة، حتى لقد قال قائلهم: «إننا لن نغلب اليوم من قلّة» فقد كانوا فى اثنى عشر ألفا، بين راجل وفارس.. ومع هذا، فإنه ما كاد المسلمون يلتقون بهوازن فى وادي حنين قرب مكة، حتى ولّوا مدبرين، وانكشف رسول الله للعدو، ولم يثبت معه إلا عدة من ذوى قرابته، منهم علىّ بن أبى طالب، والعباس بن عبد المطلب، ونفر قليل من المؤمنين.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 726 والذي كان يرصد المعركة فى تلك اللحظة ما كان يشك أبدا فى أن الدائرة على المسلمين، وأن الهزيمة واقعة بهم، لا محالة.. لقد تبدّد جيش المسلمين، وتناثرت جموعهم، وذهبت ريحهم، وما كان لقوة فى الأرض أن تجمع هذا الكيان الممزق، وأن تبعث فيه الحياة والقوة من جديد.. ولكن أمداد السّماء، ونفحات الحق، جاءت فى وقتها، فأحالت الهزيمة نصرا حاسما.. «ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ» وفى هذا يرى المسلمون أن القوة لله، وأن النصر والعزّة للمؤمنين، وأن البلاء والخزي على الكافرين.. فمن أراد النصر والعزّة.. فلا مبتغى لهما، ولا سبيل إليهما، إلا بالإيمان، ومع المؤمنين. ومن رغب عن الإيمان، وآثر عليه الأهل والمال، فلن يلق إلا الذّلة والهوان.. وفى قوله تعالى: «ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» استدعاء لمن خذلتهم عزائمهم، وتخلى عنهم السداده والتوفيق، فمالوا إلى جانب الضالين والمشركين.. فهؤلاء لا يزال الطريق إلى الله مفتوحا لهم، ولا زالت رحمة الله ومغفرته تنتظرهم على أول الطريق، إن هم راجعوا أنفسهم، ونزعوا عما هم فيه من تردد وارتياب! وهنا وقفة لا بد منها مع «ثمّ» وهو حرف عطف للترتيب والتراخي.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 727 وقد جاء مكررا ثلاث مرات فى الحديث عن يوم حنين.. هكذا.. «وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ.. ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ» «ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ... » «ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ..» والعطف يثم هنا فى هذه المواضع الثلاثة، أفاد أمرين: أولهما: الترتيب الزمنى فى وقوع هذه الأحداث.. فقد وقع المسلمون أولا فى اضطراب وذعر، والتمسوا الخلاص مما هم فيه من بلاء، ولم يكن ذلك بالميسور لهم.. ثم كان الفرار وتولية الأدبار هما طريق النجاة.. ثم كان من الله توبة ومغفرة لمن فرّ منهم وولىّ المشركين دبره فى القتال. وثانيهما: التغاير بين وجوه هذه الأحداث المتعاطفة، بحيث يبدو أن عنصر الزمن لا بد أن يكون عاملا هنا فى تحريك الأحداث، حتى تتغير وتبلغ الصورة التي جاءت عليها.. والذي ينظر إلى الموقعة- موقعة حنين- من الظاهر، يجد أنها حدثا واحدا، متلاحم النسج، وأن ليس هناك أي فاصل زمنى يفصل بين مجريات الأمور فى هذا الحدث.. فهى معركة واحدة، احتواها زمن واحد، لم يجاوز غدوة يوم.. ولكن الذي ينظر إلى المعركة نظرا أعمق وأرحب، يجد أنها لم تكن معركة واحدة، وإنما هى معارك متصلة، بدأت بمعركة هزم فيها المسلمون، ثم انتهت بمعركة كتب الله لهم فيها النصر.. فالمعركة الأولى، لها حسابها وتقديرها، وحكمها، وهى الهزيمة المطلقة للمسلمين.. فقد أحاط بهم العدوّ، وأوقع فى صفوفهم الفوضى والاضطراب.. الأمر الذي يسلم إلى الهزيمة التي لا مفرّ منها.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 728 ومع هذا، فإنه ما كان للمسلمين أن يفرّوا بأيّ حال كانوا عليه، وعلى أي تقدير يقدّرونه لنتائج المعركة.. فلتكن الهزيمة واقعة بهم، ولكن الذي كان يجب ألا يكون منهم، هو الفرار.. فهذا أمر لا يصحّ أن يقع من المسلمين فى ميدان القتال، والله سبحانه وتعالى يقول: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» .. فأى مسلم هذا الذي تحدّثه نفسه بالفرار من المعركة، وهو يعلم حكم الله فيمن يفرّ ويولّى العدوّ دبره؟ ولكن الذي حدث، هو أن المسلمين فرّوا، وولّوا الأدبار..! ومن هنا كان هذا الأمر منهم حدثا غريبا، ما كان ينبغى أن يكون فى ميدان القتال..! وهذا هو بعض السرّ فى عطفه «بثم» على الحدث الذي قبله، وهو الضيق والكرب الذي ركب المسلمين فى أول القتال.. وفى هذا ما يشعر بأن هذا الحدث- حدث الفرار- وإن كان قد وقع فى ميدان القتال، هو حدث مستقلّ بنفسه، منقطع الصلة بما قبله، غير مترتب عليه.. وعطفه على ما قبله هو من عطف حدث على حدث، أو قصة على قصة، أو حال على حال! أما عطف قوله تعالى: «ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ» فهو كذلك عطف حال على حال، أو قصة على قصة.. وهذا ما يشعر بأن الحدث الأول، وهو الفرار والهزيمة، أمر قد وقع، وسوّى حسابه.. ثم بدأ أمر آخر، له حسابه الخاص به، وهو الممثل فى تلك المعركة الجديدة التي دخل فيها المسلمون القتال مع العدوّ، بنفوس جديدة ومشاعر جديدة، بل قل وبأشخاص غير الأشخاص ومقاتلين غير المقاتلين.. إذ أنزل الله سكينته عليهم، ونزع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 729 لو كان قد استولى على قلوبهم من خوف وهلع، وأمدّهم بجنود من عنده، كانوا ردءا لهم، ويدا قوية ضاربة معهم، فكان لهم النصر والظفر.. وأمّا عطف قوله تعالى: «ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ» فكان من عطف حال على حال، وقصّة على قصّة، وشأن على شأن، وأن الصّلة التي بينه وبين ما قبله ليست صلة سبب ومسبّب، أو علة ومعلول.. ذلك أن ما كان يتوقعه المسلمون بعد فرارهم وتولّيتهم الأدبار، هو وقوع غضب الله عليهم فى الدنيا، والعذاب الأليم فى الآخرة.. ولكن الذي حدث كان غير هذا، فقد عاد الله سبحانه وتعالى بفضله وإحسانه عليهم، وجاءهم برحمته ومغفرته، وتقبّل توبة التائبين منهم. وقد جاءت رحمة الله ومغفرته إلى الذين فروا وولوا الأدبار فى هذه الصورة المتراخية- وفى هذا ما يشعر بأن مغفرة الله ورحمته ما كانت لتنال هؤلاء الفارّين أبدا، وأنها إذ نالتهم فى تلك المرّة، فإنها قد لا تنالهم بعدها.. لأن الحكم المسلّط على الفارّين الذين يولّون الأدبار فى ميدان القتال هو الحكم المحكم الذي لا يردّ، وأن هذا الذي أصاب المسلمين الفارين من مغفرة ورحمة فى هذا اليوم هو استثناء من أصل، ليس من الحتم أن يقع فى كل حال تشبهه! الآيتان: (28- 29) [سورة التوبة (9) : الآيات 28 الى 29] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 730 التفسير: النّجس: القذر، الذي تنفر منه النفوس السليمة، وتتحاشاه.. والعيلة: الفقر والحاجة، وأصله من العول، وهو الزّيادة فى النفقة على الأصل الذي ينفق منه.. وفى المأثور: لا عال من اقتصد» . والجزية: ما يفرض على أهل الذمة فى الإسلام، وهو قدر من المال يؤدونه فى مقابل الإبقاء على حياتهم، وقد أصبحوا ليد المسلمين بعد الغلب عليهم. وفى قوله تعالى: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ» حكم على المشركين بفساد كيانهم الداخلى، وأنهم بشركهم بالله قد أفسدوا طبيعتهم، كما يقع ذلك فى الأمور المادية، حيث يختلط الخبيث بالطيب، فيفسده!. والمشرك نجس كلّه، باطنا وظاهرا.. ولهذا نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين عن نكاح المشركات، وإنكاح المشركين، كما نهى عن تناول المسلمين من طعامهم.. والمسجد الحرام، معلم من معالم الهدى، ومنارة من منارات الحق.. فهو بهذا كائن طيّب.. ظاهره وباطنه، ومورد عذب يستقى منه المؤمنون، ويروون ظمأهم الروحي من جوّه الطهور.. ومن هنا كان على المسلمين حراسته من أن يلمّ به خبث، فيفسده عليهم، ويعكر موارده.. والمشركون نجس، وإلمامهم، بالمسجد الحرام تقدير له، وإفساد لطبيعته.. ولهذا أمر الله المسلمين بأن يحولوا بين المشركين وبينه: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا» وهو العام التاسع من الهجرة، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 731 الذي أعلن الله- سبحانه- المشركين فيه، بأنه برىء منهم، وأن رسوله برىء منهم.. وأن المسلمين- موالاة لله ولرسوله- بريئون منهم.. وقوله تعالى: «وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ» هو تطمين لقلوب المؤمنين، وإغراء لهم بدفع المشركين عن البيت، ولو كان فى هذا ما قد يسبب لهم كسادا فى تجارتهم، وتبادل المنافع بينهم وبين المشركين فى موسم الحجّ.. فالأرزاق بيد الله، ويده سبحانه مبسوطة بالعطاء، وفضلة واسع عميم.. فليستقم المسلمون على أمر الله، وليبتغوا بذلك مرضاته، وهو سبحانه الذي يتكفّل بأرزاقهم، وبإعطائهم الجزيل من فضله.. وقوله تعالى: «إن شاء» ليس قيدا واردا على الحكم الذي حكم به فى قوله سبحانه: «وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» .. وإنما هو إشارة إلى أن مشيئة الله هى المسلطة على كل شىء، وأنها لا تتوقف فى نفاذها على أفعال العباد، إذ أن أفعال العباد كلها داخلة فى مشيئة الله، واقعة تحت سلطانها.. وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» هو وصف كاشف لهذه المشيئة، وأنها مشيئة «عليم» لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء.. «حكيم» فلا تقع مشيئته إلا على ما يقضى به علمه وحكمته، فتقع إذ تقع على أكمل الكمال، وأحكم الحكمة.. قوله تعالى: «قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ» الجزية: هى ما يفرض على أهل الذمّة من مال يؤدونه للمسلمين، وسمّيت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 732 جزية لأنها إمّا من الجزاء، فى مقابل الذنب الذي ارتكبوه بإفساد عقيدتهم، وإمّا من المجازاة، فى مقابل حفظ نفوسهم، وصيانتهم من القتل. ويجىء الأمر هنا بقتال الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، بعد أن انكشف للمسلمين موقفهم من أعدائهم الذين يتربصون بهم الدوائر، وبعد أن نهاهم الله سبحانه وتعالى عن موالاة غير المؤمنين، حتى ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم.. ثم بعد أن ذكر الله سبحانه نصره لهم فى مواطن كثيرة، لم يكن بين أيديهم فيها من وسائل الغلب والنصر شىء.. وإذ يجىء الأمر بقتال الذين لا يؤمنون بالله، بعد هذا الموقف الذي أثار مشاعر المسلمين، وقوّى عزائمهم، ووثق إيمانهم- فإنه يقع موقعه من نفوسهم، ويثمر ثمرته الطيبة فيهم، إذ يقبلون على القتال، وقد خلت نفوسهم من مشاعر المودة بينهم وبين الذين لا يؤمنون بالله، ولو كانوا أقرب الناس.. فلا يلتفت المجاهد إلى أهل أو مال، ولا ينظر إلى نفسه أكثر مما ينظر إلى دينه، والانتصار له، ودفع يد العدوّ عنه.. وقد جاء الأمر بقتال الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر فى صيغة العموم هكذا: «قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ.. الآية» . وهذه الآية من سورة التوبة كما ترى، وقد نزلت بعد أن فتح النبىّ مكة، وبعد أن هزمت هوازن فى حنين، وبعد أن بسط الإسلام سلطانه على الجزيرة العربية كلّها.. والسؤال هنا هو: إلى من يتّجه الأمر إلى المسلمين بقتالهم، بعد أن دخل العرب فى الإسلام؟. والجواب على هذا، هو ما تضمنه قوله تعالى: «قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 733 مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ» .. وقد أشارت الآية الكريمة إلى ثلاثة أصناف: فالذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر.. هم الكافرون كفرا صراحا، وهم الملحدون. والذين لا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله.. هم المشركون، الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانا تلبّست به الضلالات، واختلطت به البدع.. وذلك إيمان المشركين من العرب.. الذين كانوا على دين إبراهيم، فأفسدوه بما أدخلوا عليه من تلقّيات أهوائهم، ووساوس شياطينهم، حتى لقد عبدوا الأصنام وقالوا: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» . والذين لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب، هم اليهود النصارى، الذين أفسدوا دينهم بما حرّفوا من كتاب الله الذي فى أيديهم، وبما تأوّلوا من كلمات الله التي بقيت معهم.. فهؤلاء هم الذين أمر المسلمون بقتالهم.. بعد الإعذار إليهم، ودعوتهم إلى الإسلام، دعوة قائمة إلى العدل والإحسان، داعية إلى الإخوة الإنسانية فى ظلّ الإيمان بالله. أما الكافرون فهم الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، وليس معهم كتاب سماوى. وأما المشركون، فهم الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، إيمانا مشوبا بالضلال.. والمثل الواضح للشرك ما كان عليه مشركو العرب قبل الإسلام.. وأما أهل الكتاب، فإن فى كفرهم شبهة، إذ معهم كتاب موسوم بأنه من عند الله، وهو وإن حرّف، وبدّل، وتأوله المتأولون على غير وجهه، لا يزال يحتفظ بأصول صالحة، لأن تكون معتقدا سليما، لو أعيد النظر فيه، على ضوء القرآن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 734 الكريم، الذي هو مصدق لهذا الكتاب الذي فى أيديهم، ومهيمن عليه.. ولشبهة الكفر، أو شبهة الإيمان عند أهل الكتاب، فقد أخذهم الله بحكم غير حكم الكافرين والمشركين.. فهم ليسوا مؤمنين، وإن لم يكن الإيمان بعيدا منهم. ومن هنا كان أمر الله فيهم أن يدعوا إلى الإيمان الحقّ، فإن استجابوا وآمنوا، كان لهم ما للمؤمنين، وعليهم ما عليهم.. وإن أبوا كان على المسلمين قتالهم، حتى يستسلموا، ويصبحوا فى يد المسلمين، يجرى عليهم حكمهم، وتبسط عليهم يدهم.. ثم إنه ليس للمسلمين قتلهم، كما يقتل الكافرون والمشركون.. ولكن إذا سلمت لهم أنفسهم، فلن تسلم لهم أموالهم، بل عليهم أن يؤدوا منها جزية للمسلمين، وأن يؤدوها صاغرين، أي مقهورين مغلوبين. وقد ألحقت السّنّة المجوس باليهود والنصارى فى أخذ الجزية منهم بدلا من القتل المضروب على المشركين والكافرين، وغيرهم، ممن لا كتاب لهم. يقول الإمام الشافعي- رضى الله عنه- «إنها (الجزية) تؤخذ من أهل الكتاب، عربا كانوا أو عجما، ولا تؤخذ من أهل الأوثان مطلقا، لثبوتها فى أهل الكتاب، بالكتاب، وفى المجوس، بالخبر» . وعند أبى حنيفة أنها تؤخذ من أهل الكتاب مطلقا، ومن مشركى العجم والمجوس لا من مشركى العرب» . وهذا الذي يراه أبو حنيفة هو الأولى بأن يؤخذ به، لأنه يجرى مع الحكمة فى أخذ الجزية من أهل الكتاب، وعدم أخذها من مشركى العرب.. وذلك لأن العرب قد شهدوا دلائل النبوة كاملة، واستمعوا إلى آيات الله، وعرفوا مواقع الإعجاز منها، وأن القرآن عندهم ليس بالذي يخفى عليهم علوّ متنزّله، وأنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 735 من كلام رب العالمين.. فلم يكن كفرهم بالله وتكذيبهم لرسول الله إلا عن عناد واستكبار، وإلا عن حمية جاهلية.. فكان أن أخذهم الإسلام بهذا الحكم إذا هم وقعوا ليد المسلمين: إما الإسلام، وإما القتل، ولا ثالث..! فمثل هؤلاء الذين يشهدون الحقّ، ويرون آياته رأى العين، ثم لا يتبعونه، ولا يفتحون عقولهم وقلوبهم له- مثل هؤلاء، ينبغى أن تهدر آدميتهم، وأن تقام عليهم هذه الوصاية، التي تأخذهم بهذا الحكم الملزم. أما مشركو العجم والمجوس، ممن لا كتاب معهم، فإنه لم يستبن لهم على وجه القطع من دلائل النبوة، وصدق الرسول ما استبان لمشركى العرب، فكانوا لهذا أقرب إلى أن يلحقوا بأهل الكتاب، وأن يدخلوا فى تلك التجربة التي يدخلها أهل الكتاب- من أن يلحقوا بمشركى العرب.. أما من يؤدون الجزية ممن يدخلون فى حكمها، فقد اختلف الأئمة فيهم.. فبينما يرى مالك والأوزاعى أنها تؤخذ من جميع الواقعين تحت حكمها فردا فردا، إذ يرى أو حنيفة أنها لا تؤخذ من امرأة، ولا صبّى، ولا زمن، ولا أعمى.. ورأى أبى حنيفة أقرب إلى سماحة الإسلام، وإلى مرامى أهدافه البعيدة. فى تأليف القلوب، ودعوتها إليه بالتي هى أحسن. وأخذ الجزية من أهل الكتاب، وأداؤهم لها على هذا الوجه الذي يؤدونها عليه فى ذلة وصغار هو فى الواقع ليس عن دافع من التعالي والكبر من المسلمين، وإنما هو إثارة لدوافع الإنسانية عند هؤلاء الذين يؤدون الجزية، ولتحريك الرغبة فيهم إلى الخلاص من هذا الوضع المشين، وذلك بمراجعة معتقدهم.. من جهة، والنظر فى وجه الدعوة التي يدعوهم الإسلام إليها.. من جهة أخرى.. وهذا إن فعلوه فإنه لا بد أن يصحح عقيدتهم، ويفتح عقولهم وقلوبهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 736 للدين الحق، دين الله، دين الإسلام. وهذا هو السرّ فى الإبقاء على أهل الكتاب حين يقعون ليد المسلمين، وصيانة دمهم من القتل، وقبول الدّية منهم.. فإن هذا التدبير إنما غايته هو وضع أهل الكتاب فى هذا الامتحان، وتلك التجربة.. ولقد أثمر هذا الامتحان ونجحت تلك التجربة، فإنه ما من أحد من أهل الكتاب، دخل فى هذا الامتحان وعاش تلك التجربة، وأخذ مكانه مع المسلمين على هذا الوضع، حتى وجد الفرصة سانحة، والوقت متسعا، للبحث والنظر فى معتقده، والمعتقد الذي يدعى إليه.. وكان من هذا أن دخل فى الإسلام، وآمن به عن اختيار واقتناع.. ومن بقي على دينه من أهل الكتاب- وهم قلة شاذة- فقد كانت آفة ذلك إلى تعصب أعمى، وانقياد لهوى جامح، لا يمسكه عقل، ولا يردّه رأى! فلم تكن الجزية التي فرضها الإسلام على أهل الكتاب ضربا من التحكم، ولا نزعة من نزعات القهر والتسلط، وإنما هى- كما رأينا- دعوة حكيمة من دعوات الإسلام إلى الإيمان بالله، وأسلوب من أساليبه المحكمة، فى فتح الأبصار المغلقة، إلى النور، ولفت العقول الشاردة، إلى الهدى، وإيقاظ القلوب الغافية، لاستقبال آيات الله وكلماته.. ولو كان من شأن الإسلام التسلط والقهر، والعدوان والبغي، لأخذ أهل الكتاب الذين وقعوا ليده، ونزلوا على حكمه، بما أخذ به الكافرين والمشركين، ولما قبل منهم إلّا الإيمان أو القتل، ولما استبقاهم ابتغاء إصلاحهم، وشفائهم ممّا ألمّ بهم، من زيغ فى العقيدة، وضلال فى الدين.. فالجزية التي فرضها الإسلام على أهل الكتاب، هى دواء لداء، واستطباب لعلّة، وعملية جراحيّة لاستئصال مرض قاتل.. وإنه لا بأس من أن يكون الدواء مرّا، إذا أنمر ثمرته فى شفاء الداء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 737 وفى قوله تعالى: «حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ» إشارة إلى علوّ يد المسلمين، وتمكنهم من عدوّهم، بما لهم من بأس، وقوة.. وهذا يعنى أن يحتفظ المسلمون دائما بتلك القوة التي مكّنت لهم، وإلا كان عليهم أن ينزلوا عن هذه المنزلة التي هم فيها، فإنهم إن لم ينزلوا عنها طائعين، نزلوا عنها مكرهين.. بل وربما تحولت الحال، فكانوا تحت يد من كانوا تحت يدهم! فالمراد باليد هنا، القوة والقدرة، التي يعلو بها المسلمون على غيرهم. والقوة التي يعتمد عليها المسلمون، تقوم دعائمها أولا وقبل كل شىء، على الإيمان بالله، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.. فإذا حقق المسلمون حقيقة الإيمان فى قلوبهم، مكّن الله لهم من كل أسباب العزة، والقوّة، وملأ أيديهم من خير الدنيا والآخرة جميعا، وأقامهم فى هذه الدنيا مقاما كريما، وجعل كلمتهم العليا، وكلمة الذين كفروا هى السفلى! فليس المراد بقوله تعالى: «وَهُمْ صاغِرُونَ» تحريضا للمسلمين على امتهان أهل الذمة وإذلالهم، بقدر ما هو تحريض للمسلمين على اكتساب القوة والاحتفاظ، بها حتى لا يكونوا يوما فى هذا المنزل الذليل المهين، الذي ينزله المغلوب على أمره بها، النازل على حكم غالبه.. فهذا هو واقع الحياة، وتلك هى سنة الله فى خلقه.. الغالب متحكم متسلط، والمغلوب مقهور مهين.. وإذا كان هناك من المبادئ الخلقية، أو المواضعات السياسية، ما يخفف من هذا المبدأ العامل فى الحياة، فإن سماحة الإسلام، وإنسانية شريعته، قد كان لهما فى هذا الباب ما لا يمكن أن يلحق بغباره القوانين الدولية، أو المنظمات الإنسانية.. ذلك أن دعوة الإسلام إلى التسامح، والرفق، والإخاء، دعوة مشدودة إلى ضمير الإنسان، موصوله بإيمانه بالله، بحيث لا يكمل إيمانه إلا بها.. أما ما تحمله القوانين الدولية، وما تنادى به المنظمات الإنسانية، فلا يعدو أن يكون مجرد نصائح ووصايا، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 738 تخاطب أذن الإنسان، دون أن تبلغ مواطن الإدراك، أو الوجدان منه. فالقوة التي يملك بها المسلمون مصائر الأمور فى الناس، قوة رحيمة، عادلة.. ومن الخير للناس جميعا، أن تنمو هذه القوة، وأن يمتد سلطانها.. فحيث كانت فهى بر ورحمة، فإذا صارت تلك القوة إلى يد غير مؤمنة بالله، آخذة بشريعته، كانت قوّة ظالمة غشوما، تطلع على الناس كما تطلع العواصف العاتية، لا تذر من شىء أتت عليه إلا جعلته كالرميم. هذا وكثير من الفقهاء والمفسّرين على أن قوله تعالى: «قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ.. الآية» هو أمر ملزم للمسلمين بقتال غير المسلمين، قتالا عاما، فى أي حال يجد فيها المسلمون قدرة على القتال. بمعنى أنهم يكونون فى حرب دائمة مع غير المسلمين، حتى يدخلوا فى الإسلام، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.. على الوجه الذي أشرنا إليه.. وسنعرض لهذا الرأى الذي يجعل المسلمين فى حرب دائمة مع غير المسلمين عند شرح الآية (36) من هذه السورة.. وذلك إلى ما أشرنا إليه فى مبحث: «الحرب والسلام فى الإسلام» «1» . الآيات: (30- 33) [سورة التوبة (9) : الآيات 30 الى 33] وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)   (1) انظر ص 652 من هذا الكتاب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 739 (الإسلام.. دين المستقبل) التفسير: فى هذه الآيات يكشف الله سبحانه وتعالى عن الشبه التي وردت على أهل الكتاب، فأفسدت عليهم دينهم، وأدخلتهم فى مداخل المشركين، أو الكافرين.. فوصفوا بقوله تعالى: «وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ» . فاليهود يقولون- فيما يقولون من مفتريات على الله- «عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ» . وشبهتهم فى هذا، هى أن الله سبحانه وتعالى قد بعثه من بين الموتى، بعد أن أماته مئة عام.. وإلى هذا- والله أعلم- يشير الله سبحانه وتعالى بقوله: «أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها. فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ» (259: البقرة) . وقيل إن التوراة قد ضاعت أيام الأسر البابلىّ، وأن الألواح التي كانت كتبت فيها قد حملها بختنصر معه إلى بابل، وقيل أحرقها.. فلما عاد اليهود من الأشر، كانت الكلمات التي حفظوها من التوراة قد ذهب أكثرها من صدورهم.. وقد وقعوا فى حيرة وقلق، بعد أن أعادوا بناء الهيكل، ولم يعيدوا التوراة التي فقدت.. فكان الهيكل فى نظرهم أشبه بجسد لا روح فيه.. وفيما هم فى هذا الهمّ والحيرة، طلع عليهم «عزرا» أو «عزير» وقال لهم: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 740 إن الله قد ملأ صدره نورا، فإذا التوراة محفوظة فى قلبه، تجرى كلماتها على لسانه! ثم جمع أحبارهم، وأملى عليهم التوراة، من حفظه ... ! وحدث بعد هذا أن عثروا على التوراة الضائعة، فقارنوا بها ما أملاه عليهم «عزرا» فإذا هى هى، لم ينخرم منها حرف، ولم تسقط منها كلمة..! فكان عندهم «عزرا» كائنا علويا سماويا، لهذا العمل العظيم الذي جاءهم به.. فرفعوا نسبه إلى الله، وجعلوه ابنا له!! والنصارى، قالوا فى المسيح عيسى بن مريم كما قالت اليهود فى «عزير» .. قالوا: «الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ» . وشبهتهم فى هذا، هى أن المسيح قد ولد من رحم امرأة، دون أن تتصل برجل.. وجهلوا أن هذا الميلاد وإن كان عجيبا، خارجا على مألوف الحياة، وغير مطّرد مع السنن المألوفة لنا، فإنه ليس خارجا عن قدرة الله، التي لا يعجزها شىء، ولا يقيّدها قيد من عادة أو مألوف، بل هى قادرة قدرة مطلقة، بلا حدود ولا قيود: «اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ» . وفى قوله تعالى: «ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ» توكيد لما يقولونه، من نسبة الابن إلى الله سبحانه وتعالى، وأنه قول لم يحكه أحد عنهم، أو ينطق به شاهد الحال عليهم، وإنما هو قول قالوه بأفواههم، لا يستطيعون دفعه، أو إنكاره، إذ كان ذلك مما نطقت به ألسنتهم، وسمعته آذانهم، فكيف السبيل إلى التنصّل منه؟ وكيف السبيل إلى جحده، وهم لا يزالون يرددونه بأفواههم؟ ويمكن أن يحمل قوله تعالى: «ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ» على معنى آخر، وهو أن قولهم هذا مجرد كلام، يلقى على عواهنه، من غير أن يحتكم فيه إلى عقل أو منطق.. إنه كلام.. لا أكثر! ليس بينه وبين الحق نسب! الجزء: 5 ¦ الصفحة: 741 قوله تعالى: «يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ» أي يشبهون فى قولهم هذا قول الذين كفروا من قبلهم، والمضاهاة المشابهة والمماثلة، والمحاكاة.. أي أنهم فيما يقولون من نسبة الولد إلى الله، لم يكونوا إلا مقلّدين ومحاكين، لمن قال هذا القول من الذين كفروا من قبلهم.. والذين كفروا من قبل.. من هم؟ يمكن أن يكون هؤلاء الذين كفروا من قبل، مرادا بهم آباؤهم الأولون، الذين غيّروا فى دين الله، وتأولوا آياته وكلماته هذا التأويل الذي صار بهم إلى الكفر.. فهؤلاء الكافرون من اليهود والنصارى الذي يخاطبهم القرآن هذا الخطاب، هم متابعون لآبائهم الأولين، محاكين لهم.. ويمكن أن يكون الذين كفروا من قبل، كلّ من سبق اليهود والنصارى، من الذين كانوا يدينون بهذا المعتقد الذي يجعل لله ابنا، يعبد من دون الله، أو يعبد مع الله، مثل تلك المعتقدات التي كان يعتقدها اليونان فى توليد الآلهة، بعضهم من بعض، وكما كان يعتقد الفراعنة فى آلهتهم، وإضافة ملوكهم إلى آلهة سماوية علوية، وكما يعتقد المعتقدون فى «بوذا» وأنه مولود إلهى.. وقوله تعالى: «قاتَلَهُمُ اللَّهُ» هو طرد من رحمة الله ورضوانه، لهؤلاء الذين يقولون هذا القول المنكر فى الله.. فإن «قاتَلَهُمُ اللَّهُ» يعنى أنهم نصبوا حربا لله، فحاربهم الله، وقاتلهم..! وانظر ماذا يكون من أمر من يحاربه الله ويقاتله؟ أتراه ينجو من البلاء والهلاك؟ أو يجد قدرة على احتمال ما يحلّ به من بلاء ونقمة؟ هيهات.. هيهات! وفى قوله سبحانه: «أَنَّى يُؤْفَكُونَ» إنكار عليهم هذا الإفك الذي هم فيه، وهذا الافتراء الذي يفترونه على الله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 742 «وأنّى» استفهام بمعنى كيف.. أي كيف يكون منهم هذا الإفك؟ وكيف يجدون له مساغا فى عقولهم؟ قوله تعالى: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ» هو اتهام جديد لأهل الكتاب، وكشف عن وجه من وجوه الضلال الذي ركبوه، وهو أنهم انقادوا لأحبارهم ورهبانهم، وجعلوا لهم الكلمة فيهم، والعقل المدبّر لهم، فكلمة الأحبار والرهبان لهم، هى الكلمة التي لا معقّب عليها عندهم، حتى لكأنها كلمات الله عند المؤمنين بالله.. وقد تأول الأحبار والبرهبان كلمات الله، وأخرجوها عن مفهومها الذي لها، إلى المفهوم الذي يرونه.. ومن هنا كان للأحبار والرهبان هذا السلطان المبسوط على أتباعهم، بحيث جعلوا إلى أيديهم أمر هؤلاء الأتباع، فيما هو من صميم العقيدة.. فيغفرون لمن شاءوا من المذنبين، ويحرمون من شاءوا من هذا الغفران.. وقد أدّى ذلك إلى أن أصبح الأحبار والرهبان آلهة يطلب رضاها، ويتقرب إليها بالقربات، حتى تنال منهم المغفرة والرضوان.. وهذا وضع شبه بالوضع الذي يقوم بين المؤمن وربّه.. ومن هنا كان قوله تعالى: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» مصورا لهذه الحال القائمة بين عامة اليهود والنصارى وبين أحبارهم ورهبانهم، أدقّ تصوير وأئمّة.. والأحبار: جمع حبر، وهو عالم اليهود، ورجل الدين فيهم.. والرهبان: جمع راهب، وهو عالم المسيحيين، وصاحب الكلمة فى معتقدتهم وشريعتهم. وأما قوله سبحانه: «وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ» فهو معطوف على قوله سبحانه: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» أي واتخذوا المسيح ربّا من دون الله.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 743 وفى عطف المسيح بعد الفصل بقوله تعالى «أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ» إشارة إلى أن المسيح فى ربوبيته عند أتباعه، يأخذ وضعا خاصا، غير الوضع الذي للأحبار عند اليهود، وللرهبان عند النصارى.. فهؤلاء الأحبار والرهبان ليسوا أربابا عند أتباعهم بصورة قاطعة، وإنما هم أشبه بالأرباب.. أما المسيح فهو عند أتباعه- النصارى- ربّ بكل معنى الكلمة للفظة ربّ.. وقوله تعالى: «وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» .. الضمير فى «أمروا» يعود إلى هؤلاء المخاطبين من أهل الكتاب- من يهود ونصارى- كما أنه يشمل الأرباب الذين اتخذوهم، من الأحبار والرهبان، والمسيح ابن مريم.. فهؤلاء وأولئك جميعا مطالبون بأن يعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو.. فهذا هو الإيمان الذي لا يدخل إنسان فى عداد المؤمنين إلا به، وهو الإيمان الذي أمر الله سبحانه وتعالى به رسله، وجاءت به كتبه التي أنزلها عليهم.. وقد تنزه الله تعالى عن الشرك الذي يدين به المشركون.. «سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» . وقوله تعالى: «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» فى هذه الآية الكريمة إشارة مضيئة إلى مستقبل الإسلام، وأنه «نور الله» الذي يريد المشركون، والكافرون، والمنافقون، أن يطفئوه بأفواههم.. وإضافة الإطفاء الذي يريده هؤلاء الضالون بنور الله- إضافته إلى أفواههم، لأن أفواههم هى التي تنطق بهذا الزور والبهتان، والافتراء على الله، ونسبة الولد إليه.. كما يقول سبحانه: «وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ» .. فهذه الأفواه التي تنطق بهذا الضلال، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 744 وما أشبهه، هى مما يضلّ الناس، ويفتنهم فى دينهم، إذا كانوا مؤمنين، أو يمسك بهم على الكفر والضلال إذا كانوا كافرين ضالين.. وهذا من شأنه- لو مضى إلى غايته- أن يذهب بنور الحق، ويمحو معالم الهدى، ويقيم الناس فى ضلال وعمى وظلام.. ثم إن هذه الأفواه، هى التي تكيد للإسلام، وتدس له، وتسعى بقالة السوء فيه.. ولكن الله سبحانه وتعالى بالغ أمره، ومنجز وعده الذي وعده نبيّه فى قوله سبحانه: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» (9: الصف) وهذا ما يشير إليه قوله تعالى هنا: «وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» .. فهذا وعد مؤكّد من الله سبحانه، بأن يتمّ نوره، أي دينه.. وأن يبلغ به غاية الكمال والتمام.. وذلك يكون- وهو كائن لا شك فيه- حين يصبح الإسلام دين الإنسانية كلّها، يطلع عليها طلوع الشمس، فيغمر نوره كل صقع، ويتسرب شعاعه إلى كل قلب..! وانظر إلى قوله سبحانه. «وَيَأْبَى اللَّهُ» ، وإلى قوة الحقّ سبحانه وتعالى القائمة على نصرة دين الله، والتي تأبى أن يقف فى وجه هذا الدين ما يحجب ضوءه، أو يضلّ الناس عنه.. «وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ» وتمام النور وكماله، هو فى أن يبسط سلطانه على الوجود الإنسانى كله.. «وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» وذلك مما يسوء المشركين وأهل الضلال، وإنه لا حساب لهم، ولا لما يحلّ بهم من سوء.. فلترغم أنوفهم، ولتأكل الحسرة قلوبهم! وهذا المعنى الذي أخذناه من الآية الكريمة، من إطلاق نور الله على الإسلام، يشهد له قوله سبحانه فى سورة الصف: «وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 745 يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» (6- 9: الصف) فهذه الآيات تكشف فى وضوح صريح، عن أن نور الله هو الإسلام، الذي أرسل الله به رسوله محمدا: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ» .. وإن هذا الدين سيظهر على كل دين، وينسخ كل معتقد! إنه نور الله، وإنه لدين الله.. «وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» . ويلاحظ أن قوله تعالى: «وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» قد جاء فى سورة التوبة.. والكافرون هم من لم يكونوا على دين أصلا، أو كانوا على دين ولكنهم لا يؤمنون بالله إيمانا صحيحا، وهو ما عليه أهل الكتاب، الذين وصفهم الله سبحانه بقوله: «وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ» .. والمشركون هم الذين يدينون بدين يجمع بين الإيمان بالله، والإيمان بشركاء مع الله.. والكافرون والمشركون هم فى مجموعهم لا يؤمنون بالله، ولا يدينون دين الحق، وهو الدين الذي جاء به الإسلام على تمامه وكماله.. فإذا تحقق وعد الله بإتمام دينه- وهو متحقق حتما- وذلك على كره من غير المؤمنين جميعا، كان معنى هذا أن الإسلام سيصبح يوما ما دين الإنسانية كلها.. ولو كره الكافرون والمشركون. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 746 وهنا شبهتان قد تندفعان فى صدور أولئك الذين يأخذون الأمور بما يلوح على ظاهرها، دون أن ينفذ نظرهم إلى ما وراء هذا الظاهر من حق وصدق.. والشبهة الأولى: هى ما يبدو على ظاهر الحياة اليوم من انكماش ظلّ الدين عموما فى النفوس، واستيلاء الإلحاد على مواقع الإيمان عند كثير من الشعوب والأفراد.. وهذا يعنى بظاهر واقعه، أن عصر الإيمان قد ولّى، وأن الناس فى طريقهم إلى إيمان آخر غير هذا الإيمان المستند إلى ما وراء المادة.. إيمان بالطبيعة وبالحياة فى صورها المادية المختلفة وما تولده منها العلوم والفنون.. وهذا يعنى أيضا أنه لا الإسلام ولا غير الإسلام من الأديان الأخرى، سيبقى على ما هو عليه الآن، فضلا عن أن يمتد ظله، ويقوى سلطانه! ونقول: إن هذه الظاهرة، هى مقدمة طبيعية لإقامة الإنسانية على دين صحيح، يتجاوب مع العقل ومنطقه، ويدخل إلى عقول الناس كما تدخل الحقائق العلمية. فالعقل الحديث الذي بعد عن الدّين، إنما بعد عن تلك المعتقدات التي لا تثبت لأدنى نظر ينظر به إليها، ثم يفرض عليه- مع هذا- أن يقبلها، وأن يتعامل معها، لأنه لا بد له من دين يعيش به، ويحيا معه.. فإذا وقف العقل من تلك المعتقدات، هذا الموقف، وإذا أبى أن يخضع خضوعا أعمى لسلطانها- فذلك حق مشروع له، وإلّا فما كان لهذا العقل الذي ميّز الله الإنسان به عن عالم الحيوان، وظيفة يؤديها للإنسان، أو عمل يعمله فى هدايته، وكشف معالم الطريق له، وخاصة فى أهم شأن حيوى من شئونه، وهو ما يمسّ الحياة الروحية منه. فليس إذن هذا الموقف المنحرف الذي يقفه العقل العصرى من الدين- ليس هذا الموقف عن آفة فى هذا العقل، أو عن استغناء منه عن الدين.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 747 وإنما ذلك، لهذا الخلاف البعيد الذي بينه وبين الدّين الذي ينظر فيه، ويدعى إلى الإيمان به. ولا تحسبنّ أن هذا العقل «العصرى» الذي بعد عن الدين هذا البعد- قد اطمأنّ إلى تلك الحياة التي يحياها بلا دين.. وكلّا، فالإنسان متديّن بطبعه، والدين مطلب من مطالب الإنسان، على أي مستوى من مستويات الإنسانية، كان عقله، وكان علمه..! فالإنسان البدائى، وسقراط، وأفلاطون، وأرسطو، والفارابي، وابن سيناء، وابن رشد، هم سواء فى الحاجة إلى الدين، وإلى تصور المعتقد الديني، الذي يرضيهم، ويغذّى عاطفتهم، ويروى الجدب الروحي الذي يجده الإنسان- أي إنسان- إذا هو بات ليلة أو بعض ليلة على غير دين! والملحدون الذين تعجّ بهم الدنيا فى الغرب والشرق، هم أكثر الناس ظمأ إلى الدين، وتطلعا إليه، وبحثا عنه، ووسواسا به. وليست هذه المذاهب التي يعيش فيها الماديون، من طبيعية، ووجودية، وغيرها، إلا سعيا وراء الدين، وإلا ملأ لهذا الفراغ الديني الذي يجدونه فى كيانهم، ولا يجدون الدين الحقّ الذي يملؤه! وهم فى هذا معذورون.. وإلا فماذا يمنع الجائع الذي لا يجد الطعام الطيب الذي يسد جوعه، إذا هو مد يده إلى الخبيث الذي تعافه النفوس من الطعام وتستقذره؟ إن هذا من ذاك سواء بسواء! والشبهة الثانية، هى: هل الدين الإسلامى دين يحمل فى كيانه من الحقائق ما يتقبله العقل «العصرى» ، ويجد فيه شيئا يمسك به، ويقيمه على منطقه؟ وكيف تدّعى للإسلام هذه الدعوى، وهذه ثمراته ظاهرة فى أهله الذين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 748 يدينون به، وهى ثمرات معطوبة، لا تشتهيها نفس، ولا يستريح إليها نظر!! فحال المسلمين- فى أفرادهم وجماعاتهم وأممهم- فى المستوي الذي لا يرضى أحد من الشعوب المتقدمة أن يكون عليه، من الفقر والضعف، فى ماديات الحياة ومعنوياتها جميعا.. فكيف يكون للإسلام وجه يطلع به على الحياة العصرية، ويدعو أهلها إليه؟ والحق أن الذي ينظر إلى الإسلام من خلال أهله، ويأخذه بحسابهم، يفرّ من الإسلام، ويصرف وجهه عنه، إن لم يكن هناك طريق آخر يصله بالإسلام، وبمبادئه اتصالا مباشرا، لا يمرّ به على طريق يطلع منه على العالم الإسلامى وأحوال المسلمين.. اليوم!. إن الدين بأهله.. ولقد صغرت نفوسنا- نحن المسلمين- وضمرت ذاتيتنا، فصغر فيها كل معنى كريم، وضمر فيها كل مثل فاضل. إن النفوس المريضة تتغير فيها حقائق الأشياء، كما تتغير حقائق المرئيات وصورها فى العين المريضة، وكما تنحرف مذاقات الطعوم فى الفم السقيم.. والواقع أننا قد أصبنا فى القرون الأخيرة بعلل وأوجاع، أفسدت حياتنا، وأنزلتنا منازل الهون فى دنيا الناس.. فاستعمرت أوطاننا بالدخلاء، وصار إلى غيرنا تدبير شئوننا، وتوجيه حياتنا.. وكان من خداع المستعمر ومكره بنا، وكيده لنا، أن جعل من همّه الأول، إفساد عقيدتنا، وعزلنا عن ديننا، وخلق جفوة بيننا وبينه.. إذ كان يعلم إن الدين هو الذي يقف عقبة فى سبيل إماتة مشاعر الحياة الإنسانية الكريمة فى الشعوب التي يحتلّها، وأنه ما دام للدين الإسلامى سلطان على النفوس، وتحكك بها، فإن الاستعمار لن يبلغ الغاية التي يريدها من استسلام الناس استسلاما مطلقا له، يتمكن به من تضييع معالمهم، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 749 ومسخ إنسانيتهم، وتحويلهم إلى دمّى تتحرك حسب مشيئته، وتبع إشارته.. ومن هنا كانت حرب الاستعمار للدين الإسلامى فى نفوس أهله، وفى تصويره لنا بصورة الداء الذي أصابنا فى الصميم من حياتنا، فصار بنا إلى ما نحن فيه، من ضعف وفقر وتخلّف، وإنه لولا تمسكنا به، لما كانت تلك حالنا، ولما قامت علينا تلك الوصاية القاهرة الظالمة من الأمم التي استولت على مواطن الإسلام.. هكذا ألقى الاستعمار إلينا بهذا الضلال المسموم، فتلقّاه كثير منّا وكأنه نصيحة ناصح أمين، وتذكرة طبيب حاذق لمريض يشفق عليه، ويلتمس الدواء لعلته القاتلة!. ولقد عمل الاستعمار جاهدا على أن يمكّن لهذا الضلال من نفوسنا، وأن يغرى به الشباب، خاصة، بما أذاع بأساليبه وصنائعه من مفتريات على الإسلام، وتهجم عليه، وازدراء لأهله، واستخفاف بمكانهم فى الحياة، وحرمانهم من كل مكان كريم فيها.. بل، وأكثر من هذا.. فلقد أرانا الاستعمار صورة عملية تعيش بيننا، وتشهد لما يحدّثنا به عن الإسلام، وعن جنايته على المسلمين..! فالاستعمار، إذ وضع يده على أوطان الإسلام كلّها، ترك فى وسط العالم الإسلامى، بلادا غير مسلمة- كالحبشة مثلا- دون أن يمدّ إليها يدا، ليرى المسلمين من ذلك أن دينهم هو الذي جعل أوطانهم- دون سائر الأوطان- على هذه الحالة من الضعف، الذي أغرى المستعمرين بهم، ومكّن له منهم، وأقامه قيّما عليهم، حتى يرشدوا ويبلغوا مبلغ الرجال.. ولن يكون لهم ذلك إلا إذا تحللوا من هذا الدين، وتركوه وراءهم ظهريّا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 750 ولكن الإسلام شىء.. وأهله شىء آخر، فى هذا العصر الأقل.. وأنه إذا كانت قد عرضت للمسلمين عوارض الضعف والوهن فى فترة من فترات تاريخهم الطويل، فليس من الإنصاف للإسلام أن يقام ميزانه على حساب تلك الفترة العارضة.. وإن على الذي ينشد الحق للحق، أن ينظر إلى الإسلام أولا وقبل كل شىء.. فى مبادئه، وأحكامه، وفى تصوره للألوهية، وللحياة الآخرة، وفى دعوته الأخلاقية لبناء الكيان الإنسانى، وصلته بالمجتمع الإنسانىّ وبالحياة.. فإن وجد نظاما وضعيا أو دينيا عرفته الحياة، قديما أو حديثا، فى سياسة الأمم والشعوب، وفى إقامة موازين العدل بين الناس، وفى تنظيم العلاقات بينهم فى الحرب والسلم- إن وجد نظاما وضيعا أو دينيا يقارب نظام الإسلام، فى اعتداله وتوازنه، وتواقفه مع متطلبات الناس وواقع الحياة، فليقل فى الإسلام ما يقول، وليرمه بالسّهم القاتل، وهو أنه ليس من عند الله، إذ لا يكون من عند الله شىء يكون فيه خلل أو اضطراب..! ثم إن من ينشد الحقّ للحق، وينظر إلى الإسلام نظرا مباشرا، ينبغى ألّا يغفل عن تلك الفترة المشرقة من تاريخ المسلمين، يوم كان الإسلام قائد حياتهم، وراية دولتهم، ودستورهم العامل فى حياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فذلك من شأنه أن يعطى الإسلام فرصته، ليقيم بين عينى الناظر إليه، مجتمعا بشريا لم تعرف الحياة مثيلا له، فى ماضيها وحاضرها.. مجتمعا ملأ يديه من طيبات الحياة فى أصفى مواردها، وأكرم منازلها، دون أن ينسى نصيبه من معطيات الروح.. فكانت قدمه على الأرض، ورأسه فى السماء! والسؤال الذي نسأله هنا.. هو: إذا كانت بعض الأديان- بما دخل عليها من تبديل وتحريف- قد فضحها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 751 العلم الحديث، وانكشف للمتدينين بها ما تلبس بها من أوهام وخرافات.. فهل وقع الإسلام تحت هذا الحكم الذي أصدره العلم الحديث على هذه الأديان؟ وهل امتحن الإسلام ومحّصت حقائقه على ضوء العلم، وفى مخابير الحياة، ثم ظهر منه ما لا يرضاه العلم وما لا تقبله الحياة؟ إن الإسلام- وثوقا منه بما ضمّ عليه من حق وخير- ليفتح ذراعيه للعلم الحديث، ويرحّب به كل الترحيب، ويسعد السعادة كلها بلقاء العقول الناضجة المستنيرة له، بكل ما وضعه العلم بين يديها من سائل التمييز بين الحق والباطل، والنافع والضار، والسليم والسقيم.. فتلك هى فرصة الإسلام التي يظهر فيها كرم معدنه، وتتجلّى فيها عظمة حقائقه، ويسفر بها وجهه المشرق الكريم.. إن هذا العصر- عصر العلم والشك.. عصر الامتحان لكل شىء.. عصر الإلحاد وغربلة الأديان- هو عصر الإسلام، وهو اللسان المجدّد لدعوته، حيث يجلّى حقائق هذا الدين، ويكشف عن الخير الكثير المخبوء للناس فيه.. ولا يريد الإسلام، ولا نريد له أن يتلقّى الناس دعوته قضية مسلّمة، بل إن ذلك لتأباه طبيعته، التي تدعو العقل دائما، وتأنس بصحبته، وتسعد بالحديث إليه، والاستماع له.. فالذى يريده الإسلام، ونريده له، هو أن يضع العلماء والفلاسفة والمفكرون هذه العقيدة موضع الشك أو الإنكار- إن شاءوا- ثم ليعاملوها معاملة القضايا التي ينكرونها أو يتشككون فيها، وليسلطوا عليها نظراتهم باحثة فاحصة، ثم ليقلّبوها فى أيديهم ظهرا لبطن، وبطنا لظهر، وليمتحنوها بكل ما فتح به عليهم العلم، من أساليب الامتحان.. ثم ليحكموا بعد هذا على الإسلام، بما يظهر لهم على محكّ الفحص والاختبار.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 752 وإن الإسلام ليتقبّل هذا الحكم فى غبطة ورضى، لأنه لن يكون إلا شهادة بيّنة الحجة، ساطعة البرهان، على أن هذا الدين هو دين الحق، دين الله، الذي أراده لخير الإنسانية وإسعادها. إن العلم الحديث هو فرصة الإسلام، التي تتجلّى فيها معجزته، من جوانبها العلمية، والسياسية، والاجتماعية والاقتصادية، فيرى العقل الحديث منها أنه أمام معجزة قاهرة متحدّية، لا يملك إلا التسليم لها، والسجود بين يديها.. تماما كما تجلّت معجزته البيانية للأمة العربية، يوم كان سلطان البيان هو الذي يحكم هذه الأمة، ويستولى على مواطن الإدراك والشعور منها.. فآمنت به، وسجدت بين يديه.. وهذا هو كتاب الإسلام، وتلك هى حجته القائمة، ودستوره المسطور فى القرآن الكريم: إنه يقدّم نفسه لكل من يريد النظر فيه، والتعرف إليه.. غير مستند إلى تأويل أو تفسير.. فلسانه أفصح من كل لسان، وبيانه أوضح من كل بيان. فالذين يعرفون العربية، يعرفون طريقهم إليه فى غير عناء، ويضعون أيديهم على حقائقه من غير معاناة.. والذين لا يعرفون العربية، يمكن أن تترجم لهم حقائقه، كما تترجم الدساتير القانونية، والحقائق العلمية.. ولا عليهم إن فاتهم إعجاز الكلمة، ومعجزة البيان.. فإن الحقائق التي تصل إليهم من خلال الترجمة، كافية فى الكشف عن وجوه أخرى من الإعجاز، ممثلة فى محكم أحكامه، وروعة حقائقه، وخلود مقرراته.. والإسلام- فى يسره، وسماحته، ومواءمته للفطرة الإنسانية- قريب من كل نفس، واضح لكل ذى نظر، واقع فى فهم كل ذى فهم.. تلتقى عنده عقول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 753 المتعلمين والعلماء، وتجتمع عليه أنظار العامة والفلاسفة، بحيث يجد فيه كل عقل ما يغنيه ويرضيه، ويأخذ منه كل نظر ما يرشده ويسعده.. هكذا دائما آيات الله المبثوثة فى هذا الوجود، ممّا يمسك على الناس حياتهم، ويحفظ وجودهم، لا تقصر عنها يد، ولا يستأثر بها إنسان دون إنسان، أو تختص بها جماعة دون جماعة، أو أمة دون أمة.. إنها من الله، ولعباد الله.. كالماء والهواء، والشمس، والقمر، والنجوم.. وإن كان لأحد أو لجماعة أو أمة نصيب أوفر، أو حظ أعظم، فهو مما زاد الحاجة التي لا تتطلبها ضرورات الحياة، وإن كان فيها متعة فوق متعة، ورضى فوق رضى.. فصاحب النظر الحديد يرى من جمال الوجود وروائع آياته ما لا يراه صاحب النظر الكليل، وصاحب الشمّ السليم، يجد من طيب الزهر وعبيره، ما لا يجده المزكوم.. ومثل هذا تماما، موقف الناس جميعا أمام القرآن الكريم، وما تحمل سوره من آيات الله البينات.. الناس كلهم بين يديه- على اختلاف حظوظهم من العلم والمعرفة- على مائدة طيبة، طعامها هنىء لكل عقل، وشرابها مرىء سائغ لكل قلب.. من طعم منها لا يجد الجوع العقلي أبدا، ومن روى منها لا يعرف الظمأ الروحي أبدا.. وتلك هى معجزة القرآن القائمة على الناس أبد الدهر، وتلك هى حجة الله على من أخلى عقله وقلبه من الدين، أو دان بغير دين الحق، دين الله، الذي ارتضاه لعباده.. كما يقول الحق جلّ وعلا: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ» وكما يقول سبحانه: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» . إن الأيام ستثبت صدق هذه الدعوى التي ندعيها لعالميّة الإسلام، لأننا لا نقيم هذه الدعوى على عاطفة دينية نحو الدّين الذي ندين به، وإنما نقيمها على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 754 ما نستشفه من كلمات الله، بل على ما تكاد تصرح به كلمات الله، لمن أصغى إليها بأذن واعية، والتفت نحوها بقلب سليم، ونظر فيها بعقل متحرر من التعصب والهوى. وإنى لأدعوك دعوة مجدّدة إلى أن تتلو قوله تعالى: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» ثم صل هذا بقوله سبحانه: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» (7- 9: الصف) اتل هذه الآيات، ولا تنظر فيما حدثتك به عن بعض مفاهيمها، وأقم لنفسك فهما خاصّا، معتمدا فيه على النظر المباشر فى قسمات وجهها السماوي الوضيء، فإنك ستجد ملء مشاعرك يقينا بأنك أمام معجزة من معجزات الكتاب الكريم، تكشف لك عن مستقبل الإسلام، وتشير إلى يوم قريب فى دورة الزمن، تصبح فيه الإنسانية كلها وقد دانت بهذا الدين، ورضيت ما ارتضاه الله لها فى قوله سبحانه: «وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» . هذا، وقد استظهر بعض العلماء المشتغلين بالدراسات الإسلامية «1» -   (1) هو المغفور له الأستاذ محمد فريد وجدي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 755 استظهر من مسيرة الإسلام فى فلك النبوة، والذي كانت دورته فيها ثلاثا وعشرين سنة- أن للإسلام دورة فى فلك خارج فلك النبوّة، أشبه بهذه الدورة، مدتها ثلاثة وعشرون قرنا، أي أن كل سنة من عصر النبوّة، تمثل قرنا كاملا فى تلك الدورة الجديدة. كما استظهر أيضا، أن الثلاثة عشر عاما الأولى التي عاشتها الدعوة الإسلامية فى دائرتها الضيقة، وفى مواجهة الكيد لها، والمكر بها، والتضييق على أتباعها، قبل الهجرة النبوية- هذه المدة تمثل الثلاثة عشر قرنا التي انسلخت بعد عصر النبوة.. والتي تحرك فيها الإسلام تحركات محدودة خلال هذه الدورة، أشبه بما كان له من تحركات فى تلك الفترة، بالهجرة إلى الحبشة، وإلى المدينة قبل الهجرة النبوية.. وأن الإسلام بعد هذه القرون الثلاثة عشر، التي مضت، سينطلق من محبسه، كما انطلقت دعوته بعد الهجرة، وستكون له فتوحات فى آفاق الأرض كلها، كما كانت له فتوحاته فى الجزيرة العربية، التي دانت كلها بدين الإسلام، قبل أن يلحق النبىّ بالرفيق الأعلى، وقد تحقق له ما وعده الله سبحانه وتعالى به، فى قوله جلّ شأنه: «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً..» فالقرون العشرة المقبلة- كما استظهر هذا العالم العليم- هى انطلاقة جديدة للإسلام، أشبه بانطلاقته التي كانت له بعد الهجرة فى سنواتها العشر.. وستكون هذه القرون العشرة، كما كانت تلك السنوات العشر، تمكينا للإسلام، وتثبيتا لقواعده، وامتدادا لدولته، حتى تدين به الجزيرة الأرضية جميعها، كما دانت له الجزيرة العربية كلها من قبل.. «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 756 وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» أما بعد هذه القرون العشرة، فقد تبدأ دورة جديدة، للحياة الإنسانية كلها، أو قد ينتهى عمر الإنسان على هذه الأرض.. وعلم ذلك عند علام الغيوب. الآيات: (34- 35) [سورة التوبة (9) : الآيات 34 الى 35] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) التفسير: جاء فى الآية (31) قوله تعالى: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ..» وهو يكشف عن الدور الذي يقوم به كثير من أحبار اليهود ورهبان النصارى، فى إفساد المعتقد الديني لأتباعهم، وخاصة ما يتصل بتصورهم للالوهية، ونسبة الولد إلى الله، كما قال الله سبحانه وتعالى عنهم: «وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ» (30) . وفى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» .. فى هذا فضح لأولئك الأحبار والرهبان الذين أفسدوا على النّاس معتقدهم فى الله، فإنهم إنما فعلوا ذلك ليقوم لهم فى الناس سلطان دينىّ، يقوم فى ظله سلطان دنيوى لهم على أتباعهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 757 ذلك أنهم إذ جعلوا لله سبحانه أن يتخذ ابنا، وإذ أقاموا فى معتقد أتباعهم هذا التصور، فإن ذلك يفسح لهم مجال القول بأنهم من الله بمنزلة الأبناء أو الأحفاد، ومن ثمّ ساغ لهم أن يفرضوا على الناس هذا السلطان الدينىّ يحكم صلتهم بالله، وأن لهم الكلمة عند الله فى قبول من يقبلونه، وفى ردّ من يردونه، وبهذا السلطان الذي جعلوه لهم عند الله كان فرضا لازما على أتباعهم أن يحكّموهم فى كل شىء لهم، من مال ومتاع، بعد أن حكموهم فى دينهم ومعتقدهم.. ومن هنا تسلّط كثير من الأحبار والرهبان على أكل أموال الناس بهذا الباطل، الذي زينوه لهم، ودخلوا عليهم منه.. وانظر إلى تلك الدعوة- دعوة الإسلام- التي تقوم على الإيمان بالله وحده إيمانا خالصا من الشرك، مبرأ من الوساطات، التي تقوم بين الإنسان وربّه- أتجد لإنسان- مهما يكن فى الناس- أن يتسلط على إنسان فى معتقده، أو يعترض طريقه إلى الله، أو أن يضع بين يديه صكّا يأذن له فيه بلقاء الله وطلب مغفرته ورضوانه؟ ذلك ما لا يكون فى دعوة تضع الناس جميعا أمام إله متفرد بالألوهية، لا شريك له، من صاحبة أو ولد، أو حبر أو راهب.. إن الحريّة الشخصية التي هى دين الإنسان العصرى اليوم، تنقضها تماما تلك الوصاية الدينية التي يفرضها عليه رجال الدين، ويحولون بينه وبين أن ينظر فى أمور عقيدته، وأن يعرضها على عقله.. والإسلام وحده، هو الذي يمنح الإنسان هذه الحرية المطلقة فى النظر فيه، وعرض كل حقائقه على عقله.. بل إن الإسلام لا يرضى ممن يؤمن به أن يأخذه عن طريق غير طريق عقله وإدراكه، وأن يتلقّاه متابعا مقلّدا. وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» .. هو وعيد لهؤلاء الأحبار والرهبان، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 758 الذين يجمعون ما يجمعون من مال، أخذوه بالباطل من أتباعهم، وجعلوه لأيديهم، لا ينفقون منه فى وجه من وجوه الخير العام، بل يجمعون هذا المال ويكدسونه، لا لغاية إلا حبّ التملك والاقتناء.. وفى قصر الاكتناز على الذهب والفضة، إشارة إلى أنهما النّقدان اللذان ترجع إليهما جميع العاملات، وتوزن بهما كلّ قيم الأشياء.. وقوله تعالى: «يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ» هو بيان لهذا المصير المشئوم الذي سيصير إليه هذا المال الكثير يمن اكتنزوه.. وأنهم إذ خلّفوه وراءهم، فلم ينفقوه فى سبيل الله، فإنه قد تبعهم إلى آخرتهم، ليلقاهم هناك فى يوم القيامة، حيث لا بيع ولا شراء.. ولكن لا بد أن يكون لهذا المال عمل، وقد صار إلى يد أصحابه.. وليس هناك إلا النار التي يعيشون فيها، ويتعاملون معها.. وحين يتصل هذا المال- من ذهب أو فضة- بالنار، سيتحول إلى كتل من الجمر، تكوى بها أجسامهم فى المواضع التي تشوّه معالمهم، وتزيد فى آلامهم.. جباههم، وجنوبهم، وظهورهم.. فإذا أنكروا هذا الذي يكوون به دون أهل النار جميعا، قيل لهم: «هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ» . وهكذا يكون الجزاء من جنس العمل.. فقد أخذوا هذا المال ظلما وعدوانا، ثم اكتنزوه شحا وبخلا، فكان جزاؤهم أن كان هو سوط العذاب الذي يعذبون به، من حيث كان يرجى أن يكون مصدر نفع وخير لهم. وسواء أكان عذاب الآخرة ماديا أو معنويا، فإن هذه الصور التي يعرضها القرآن من صور العذاب، لا بدّ أن تقع على الصورة التي صوّرت بها.. فإن كان العذاب ماديا جاءت تلك الصور المادية على صورتها التي صورها القرآن، وإن كانت معنوية جاءت معنوية على تلك الصورة أيضا، فالعالم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 759 المحسوس إن هو إلا صورة مجسّدة ممثلة للعالم المعنوي المقابل له.. كالكلمة التي تصور المعنى، وكالجسد الذي يلبس الرّوح الذي له. الآيات: (36- 37) [سورة التوبة (9) : الآيات 36 الى 37] إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37) التفسير: مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما هى أنهما تكشفان عن وجه من وجوه التأويلات الفاسدة، لشريعة الله، فتغير وتبدّل من صورتها التي أقامها الله عليها، وذلك أشبه بما عليه الأحبار والرهبان، من العبث بدين الله، وجعله وراء أهوائهم وما يشتهون.. فناسب أن تجتمع هاتان الصورتان فى هذا المقام. «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ» أي فى تقديره «اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» أي هكذا عدّة شهور العام فى كتاب الله، الذي أودع فيه مقررات علمه، وذلك يوم خلق السموات والأرض، وربط بينهما بهذا النظام الفلكي، فكانت دورة الأرض حول الشمس التي تتم بها الفصول الأربعة- مقدرة باثنى عشر شهرا.. لا تزيد ولا تنقص.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 760 «مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ» أي جعل الله سبحانه من هذه الشهور الاثني عشر، أربعة أشهر حرم، أي يحرم فيها القتال بين الناس.. فمن بدأ فيها بقتال كان معتديا على حدود الله، وكان الدم الذي يراق فى هذا القتال واقعا إثمه على من بدأ القتال.. «ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ» .. أي هذا هو الشّرع القويم الذي شرعه الله.. أو ذلك هو الحساب السليم الذي وضعه الله لعدة الشهور، ولبيان الأشهر الحرم منها.. لأن الدين يأتى بمعنى الشريعة، كما يأتى بمعنى «الحساب» ومنه قول الرسول الكريم: «الكيّس من دان نفسه» أي حاسبها.. «فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ» باستباحة حرمتها وإراقة الدماء فيها، ففى هذا ظلم لأنفسكم بالدخول فى هذه التجربة القاسية، وفى تعرضكم لهذا الامتحان الذي عافاكم الله منه، فجعل لكم هذه الأشهر الحرم سكنا آمنا، تفيئون فيها إلى العافية والسلام، وتستظلون فيها بظلّ الطمأنينة والأمن، فإنه ليس بكثير عليكم أيها الناس أن تعيشوا فى سلام مطلق، أربعة أشهر من كلّ عام، إذ كانت حياتكم قائمة على الشرّ والعدوان.. والأشهر الحرم، دعوة إلى السلام الذي ينبغى أن يقوم بين الناس، حتى تطيب لهم الحياة، وحتى يكون سعيهم كلّه متجها إلى العمل المثمر، الذي يعود عليهم جميعا بالخير والبركة، والنّماء لما فى أيديهم من عمل، فى غير مجال الحرب والقتال.. والأشهر الحرم كذلك، هدنة تقطع حبل القتال إذا كان واقعا بين جماعة وجماعة، وهذه الهدنة من شأنها أن تدعو المتقاتلين إلى مراجعة أنفسهم، وإلى العمل على الخلاص من هذا البلاء الذي حلّ بهم، فيطرقون باب السّلم، أو يفتحونه لمن يدعوهم إليه.. والأشهر الحرم هى: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب، وقد بينها الرسول صلوات الله وسلامه عليه فى خطبته فى حجة الوداع بقوله: «ألا وإن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 761 الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض.. السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر، الذي بين جمادى وشعبان» .. «وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» أي أن هذه الدعوة التي تدعو إلى السلام وتجنّب القتال فى الأشهر الحرم، وإن كان حتما على المسلمين أن يمتثلوها، ويحققوها من جانبهم، إلا أنها لا تحمل المسلمين على التهاون فى قتال المشركين، وترك الإعداد لحربهم.. لأن المشركين لا يحترمون هذه الدعوة، ولا يستقيمون عليها، ولا يدعون المسلمين فى أمن وسلام، إذا هم قدروا على قتالهم، ووجدوا الفرصة السانحة لهم فيهم.. وهذا هو السرّ فى عطف هذا الأمر: «وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً» على النهى السابق فى قوله سبحانه: «فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ» .. إذ أن هذا النهى يقتضى الكفّ عن القتال فى هذه الأشهر الحرم، خاصة، وفى غيرها، عامة، إذا لم يكن من المشركين عدوان على المؤمنين.. وهذا من شأنه- لو أطلق- أن يحمل المسلمين على طلب المسالمة والموادعة، وترك الاستعداد للحرب، والانخلاع عن مشاعر القتال، فى حين أن المشركين على غير هذا الموقف، لأنهم أبدا على عداوة مضمرة أو ظاهرة للمؤمنين، وأنهم إذا وجدوا فرصة للنيل منهم فلن يمسكهم عن ذلك عهد أو قرابة: «لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً» .. فكان إتباع هذا النهى بذلك الأمر: «وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً» . كان وضعا للنهى بموضعه الصحيح، فيكون دعوة للسّلم، مع الحذر من خطر الحرب، ومع مراقبة العدوّ، والإعداد لدفع عدوانه إن حدثته نفسه بعدوان.. وقوله تعالى «كافّة» أي جميعا: وأصله من الكفّ عن الشيء.. بمعنى كفّ نفسه عن الأمر أي دفعها عنه، وكف العدوّ، أي دفعه وردّه.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 762 وهذا لا يكون من الإنسان، إلا بنفس مجتمعة، وعزيمة غير موزعة، كما لا يكون من الجماعة المقاتلة إلا باجتماعهما جميعا، واستحضار كل ما لديها من قوى مادية ومعنوية. هذا، وقد عدّ كثير من الفقهاء والمفسّرين قوله تعالى: «وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً» - عدوّا ذلك أمرا يوجب على المسلمين، قتال المشركين قتالا دائما متّصلا، على أية حال يكون عليها المشركون إزاء المسلمين، سواء أكانوا محاربين أم مسالمين.. واعتبروا هذه الآية ناسخة لكل ما جاء فى القرآن من آيات تدعو إلى مهادنة غير المسلمين ومسالمتهم، إذا هم هادنوا المسلمين وسالموهم.. وسمّوا هذه الآية آية السيف، التي نسخت قوله تعالى: «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» (194: البقرة) وقوله سبحانه: «فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ» (194: البقرة) وقوله سبحانه: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» (190: البقرة) إلى غير ذلك من الآيات التي تدعو المسلمين إلى القتال حين تقوم دواعيه، وهى ردّ عدوان المعتدين، أو الذين يقفون فى وجه الدعوة الإسلامية، ويصدون الناس عنها، أو يفتنونهم فيها.. أما فى غير هذا، فلا قتال ولا عدوان. وآية السيف هذه- كما يقول عنها القائلون- إنما هى دعوة للمؤمنين إلى جمع جماعتهم على أمر واحد فى المشركين، وهو أن يعدّوهم جميعا جبهة معادية، لا فرق بين مشرك ومشرك، فكما أن كل مشرك هو حرب على الإسلام والمؤمنين به، سواء كان ذلك بقلبه، أو لسانه، أو يده، وسواء أكان فى جماعة أو منفردا، فكذلك ينبغى أن يكون المؤمنون على تلك المشاعر، وهذه المواقف إزاء المشركين.. إن الذي ينبغى أن يكون من المؤمنين هو أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 763 يكونوا قلبا واحدا، ولسانا واحدا، ويدا واحدة.. لأنهم مهما كثر عددهم، هم قلّة فى هذه الدنيا، بالنسبة لأهل الشرك والضلال والكفر، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» . فهذا من شأنه أن يدعو المسلمين إلى جمع كلمتهم، ووحدة صفّهم، فوق أن ذلك هو واجب المسلمين فى السّلم، فكيف وهم فى مواجهة العدوّ المتربّص بهم؟ «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» هو دعوة إلى التقوى، وجعلها الميزان الذي يضبط عليه المسلمون موقفهم من المشركين.. فلا بغى ولا عدوان ولا ظلم.. لأن ذلك يخرج المسلمين عن صفة التقوى، ويقيمهم هم والمشركون على مقام واحد.. الأمر الذي من شأنه أن يفوّت عليهم أن يكون الله سبحانه معهم، يؤيدهم وينصرهم على عدوّهم.. لأنه سبحانه لا يكون إلّا مع المتقين.. وعن هذا الفهم لخاتمة هذه الآية كانت وصاة عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، حين كتب إلى قائده سعد بن أبى وقاص يقول له: «أما بعد، فإنى آمرك ومن معك من الأجناد، بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدّة على العدوّ، وأقوى المكيدة فى الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشدّ احتراسا من المعاصي منكم، من عدوّكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوّهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدّتنا كعدتهم، فإذا استوينا فى المعصية، كان لهم الفضل علينا فى القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا» .. أما موقف المسلمين مع غير المسلمين، فهو سلم مع من سالمهم، حرب مع من اعتدى عليهم، وحاربهم. وتاريخ الدعوة الإسلامية، وأسلوبها الذي قامت عليه منذ اليوم الأول على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 764 يد صاحب الرسالة- صلوات الله وسلامه عليه- لم يخرج عن هذا الخط الذي حدّد مسيرتها قوله تعالى لنبيّه الكريم: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (125: النحل) وقوله سبحانه: «وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (46: العنكبوت) .. وقوله تعالى: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» (198: الأعراف) . وهذه الآيات، وأمثالها من الآيات المحكمات، التي قامت على أساسها صلات المسلمين فيما بينهم وبين المجتمعات الإنسانية التي لم تدخل فى الإسلام، سواء ما كان منها فى ذمة المسلمين، أو كان فى دار الحرب، أو خارج هذه الدار. وكيف يكون من مفاهيم الإسلام أن يكون حربا على الناس من غير أن يبدءوا أتباعه بحرب؟ ألا يكون هذا عدوانا مما نهى الله عنه، فى أكثر من آية من آيات الكتاب الكريم؟ وبأى تأويل يتأول القائلون بالحرب العامة على المجتمع الإنسانى، قوله تعالى: «وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» ؟ (190: البقرة) . إنه لا تأويل، ولكن القول بالنسخ، وإبطال حكم هذه الآية وغيرها، هو الحجة القاطعة عند القائلين بالحرب العامة الشاملة على كل من لا يدخل فى الإسلام!! ومع هذا فإن القول بنسخ الآيات التي تعارض آية السيف، أو آيات السيف- كما يسميها أصحاب هذا الرأى- ينقضه قوله تعالى. «حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ» .. فإن قبول الجزية ممن تقبل منهم الجزية بعد أن ينزلوا على حكم السيف- لا يجعل منهم مسلمين، بل هم مشركون أو كافرون، ولا تزال آيات السيف مسلطة عليهم.. فهل من أجل هذه الجزية، التي يحتفظ معها غير المسلم بدينه- تنسخ عشرات الآيات الداعية إلى السلام والموادعة، لتفسح المجال للسيف وآية السيف أو آيات السيف؟ ذلك لا معقول له! الجزء: 5 ¦ الصفحة: 765 ثمّ، أي دين هذا الدّين الذي يدخل فيه الناس قهرا وقسرا، تحت حكم السيف؟ وهل مثل هذا الدّين يعمر قلبا أو يمسّ وجدانا؟ وإذا ساغ أن يقبل مثل هذا فى دعوة سياسية أو اجتماعية، فلن يقبل فى دين تدعو إليه السماء، وإذا قبل فى دين سماوىّ لمجتمع من المجتمعات لفترة محدودة، ولمجتمع محدود، فلن يقبل فى الإسلام، دين الحياة الإنسانية كلها، فى امتداد أزمانها، وفى اختلاف أممها وشعوبها.. وذلك ما يكشف عنه قوله تعالى لنبيّه الكريم: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» (256: البقرة) . ثم أين هى التقوى التي يدعو إليها الله سبحانه وتعالى فى قوله: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» إذا كان المسلمون حربا على الناس من غير أن يؤذنهم أحد بحرب؟. قوله سبحانه: «إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» تكشف هذه الآية عن عبث المشركين بحرمات الله، والاستخفاف بها، والاحتيال على خداع أنفسهم بتزيين الباطل، وإلباسه لباس الحق.. وهذا إنما كان منهم لتصورهم الفاسد للألوهية، وفهمهم السقيم لجلال الله وعظمته وعلمه، والنزول به- سبحانه وتعالى- إلى مستوى آلهتهم التي يعبدونها، ويتعاملون معها بالمكر والخداع! فقد كان المشركون فى الجاهلية يحرمون هذه الأشهر الحرم، التي هى بعض البقية الباقية لهم من شريعة إبراهيم، التي كانوا يدينون بها، ثم أدخلوا عليها من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 766 أهوائهم ما أفسدها، حتى هذه الأشهر.. فقد استثقلوها، وضاقوا بأن تظلّهم ثلاثة أشهر متوالية دون قتال، هى ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم.. فكانوا يعمدون إلى شهر المحرم فينسئونه، أي يؤخرونه إلى صفر، ويقيمون صفر مقامه، وبهذا يخلعون على المحرم اسم صفر، ويبيحون فيه القتال، ويسمّون صفر محرّما، ويحرمون فيه القتال.. وكأنهم بهذا قد أقاموا الشريعة التي يدينون بها!! أليسوا قد حرّموا أربعة أشهر؟ وماذا فى استبدال شهر بشهر؟ هكذا، يبدّلون فى شرع الله، ليرضوا أهواءهم، وليقيموا لهم شرعا يحلّونه عاما، ويحرمونه عاما!. والنسيء، والنّسأ: التأخير، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «من سرّه أن يبسط له فى رزقه، وينسأ له فى أثره فليصل رحمه» . والضمير فى قوله سبحانه: «يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً» يعود إلى هذا الشهر- شهر المحرم- الذي كانوا إذا اقتضت دواعيهم للحرب أنسئوه، وإذا لم تدع للقتال داعية عندهم، تركوه على حاله.. ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى «النسيء» بمعنى أنهم يعملون بالنسيء عاما، ولا يعملون به عاما، حسب ما تقتضى دواعى الحال عندهم.. وهنا يمكن أن يكون النسيء مرادا لكل شهر من الأشهر الحرم، فيقدمون ويؤخرون فيها حسب ما يشاءون.. وليس المراد بقوله تعالى: «يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً» أنهم يلتزمون ذلك عاما بعد عام.. وإنما المراد به عدم ثباتهم على وضع واحد مع هذه الأشهر، بل يتلاعبون بها حسب دواعى أحوالهم. وقوله سبحانه: «لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ» أي ليوافقوا فى عملهم هذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 767 بإحلال الشهر الحرام، وتحريم شهر مكانه- تحقيق أربعة أشهر فى العام، دون التقيّد بالأشهر الأربعة المحرمة.. أي أنهم يتقيدون بها عددا، ولا يتقيدون بها ذاتا، على ما جاء به حكم الله فى بيانها بأعيانها.. والمواطأة: الموافقة، يقال واطأه على هذا الأمر، فتواطأ: أي اتفق معه فيه. «زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ» أي أنهم اطمأنوا إلى هذا الزّيف الذي صنعوه، وساغ لهم هذا الباطل الذي جاءوا به.. والله سبحانه وتعالى يقول: «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً» (8: فاطر) . «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» أي أنه سبحانه وتعالى يخلى الكافرين وكفرهم، فلا يمنحهم هدايته، ولا يعدل بهم عن طريق الضلال الذي ركبوه، لأنهم استحبّوا العمى على الهدى، والبلاء على العافية، والكفر على الإيمان.! الآيات: (38- 41) [سورة التوبة (9) : الآيات 38 الى 41] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 768 التفسير: بعد أن بينت الآيات السابقة حكم الله فى الأشهر الحرم، وموقف المشركين من حرمات الله عامة، ومن حرمة هذه الأشهر الحرم خاصة، وما ينبغى أن يكون عليه موقف المسلمين من رعاية حرمة هذه الأشهر، مع اليقظة والحذر من خيانة المشركين وغدرهم بحرمات الله، وحرمة العقود التي بينهم وبين المسلمين.. بعد هذا، جاءت هذه الآيات تستحثّ المسلمين على الجهاد فى سبيل الله، وتنكر على المترددين والمتلبّثين ترددهم وتلبثهم فى الاستجابة لدعوة الله، والنّفر إلى الجهاد فى سبيله، فى غير تراخ أو فتور، كما يقول الله سبحانه: «انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ» الاستفهام هنا إنكارى، إذ ينكر على من آمن بالله، ولبس لباس المؤمنين به، ألّا يكون فى المجاهدين فى سبيل الله.. والنّفر إلى الحرب: السّعى إليها فى جدّ وعزم ومضاء.. وأصل المادّة من النفور، وهو الصدّ عن الشيء، ومنه قوله تعالى: «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً» (60: الفرقان) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 769 وعلى هذا يكون المراد بقوله تعالى: «انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا، أي فرّوا خفافا وثقالا.. ولكن الفرار من أين؟ وإلى أين؟ الفرار من حبّ الحياة، والتعلق بما للإنسان فيها من هوى إلى المال والأهل والولد.. ثم اللّجأ إلى الله، وإلى الجهاد فى سبيل الله!! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ» (50: الذاريات) . فالدعوة إلى الجهاد فى سبيل الله، الذي تحمله كلمة «الفرار» هى دعوة إلى أمرين معا: الأول: الانخلاع من سلطان الدنيا، المستولى على النفوس، وذلك لا يكون إلا بمغالبة أهواء النفس، والوقوف منها موقف العدوّ الذي يتربص للإنسان على طريق الخير، ليحول بينه وبين الوصول إليه، فيفرّ المؤمن من دواعى الحياة الدنيا، فراره من العدوّ، الذي إن تلبّث أو فتر فى الفرار منه، هلك!! والثاني: التماس السّبل التي تخلّص الإنسان من الوقوع ليد هذا العدوّ، الذي يحول بينه وبين الخير المدعوّ إليه من قبل ربّه، وهو الجهاد فى سبيل الله.. وذلك لا يكون إلا بالفرار من وجه هذا العدوّ، واتخاذ وجهة أخرى غير الوجهة القائمة على سمته.. وتلك هى وجهة الجهاد فى سبيل الله. وفى قوله تعالى: «اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ» كناية عمّا يستولى على الإنسان من مشاعر التحير والانهزام، حين يواجه امتحانا عسيرا، لم يكن مهيّأ له من قبل ولم يكن على نية صادقة، وعزيمة مجتمعة لخوض غماره.. وأصل «اثَّاقَلْتُمْ» تثاقلتم، فأدغمت التاء فى الثاء، لتقارب مخرجيهما، ثم جىء بهمزة الوصل، حتى لا يبدأ بحرف ساكن، الأمر الذي لا تستسغيه العربية.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 770 و «التثاقل» : التباطؤ، والتحرك فى ثقل.. لأن شأن كل ثقيل أن يكون بطيء الحركة.. وفى التعبير بلفظ «التثاقل» الذي يدلّ على التصنع والادعاء، مثل «تباكى» أي ادعى البكاء، وتغافل أي ادّعى الغفلة- فى هذا ما يشير إلى أن هذا التثاقل من المتثاقلين، لا يستند إلى أسباب حقيقية تقوم فى نفس المؤمن بالله، وإنما هى تعلّات تقع فى بعض النفوس التي دخل على إيمانها شىء من الضعف والوهن.. فتتلمس المعاذير، وتصطاد الذرائع التي تثقل خطوها عن اللحاق بركب المجاهدين. وفى تعدية الفعل «اثّاقلتم» بحرف الجر «إلى» بدلا من حرف الجرّ «على» أو «فى» إذ يقال تثاقل على الأرض، أو تثاقل فى الأرض- فى هذه التعدية بإلى كما جاء عليه النظم القرآنى، ما يحقق أمرين: أولهما: إشارة إلى أن هؤلاء المتثاقلين إنما ينحدرون انحدارا إلى الأرض، ويهوون هويّا من عل إليها.. وذلك لأنهم وهم المؤمنون بالله، هم بهذا الإيمان فى مستوى عال فى هذه الحياة التي يحياها الناس.. وأنهم وهذا شأنهم، ينبغى أن تكون وجهتهم دائما إلى السماء، وأن يكون متعلّقهم بها، وآمالهم فيها.. وأن تلفّتهم إلى الأرض، وانحدارهم إليها، هو رجعة إلى الوراء، ونكوص على الأعقاب.. وثانى الأمرين: أن التثاقل إلى الأرض يفيد الاختلاط بها، والامتزاج بترابها.. وأن هذا الإنسان المؤمن الذي كان يحلّق بإيمانه فوق هذا العالم الترابي، قد أصبح بهذا التثاقل فى عداد هذه الكائنات التي تدبّ على الأرض، من هوامّ وحشرات! ومن هذه الصورة التي ترتسم للمؤمن من كلمة «اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ» ما يريه المصير الذي هو صائر إليه، إن هو أمسك بنفسه مع هؤلاء المتثاقلين على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 771 الأرض، حين يدعو داعى الحق: أن حىّ على الجهاد فى سبيل الله.. وفى قوله تعالى: «أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ» إنكار على هؤلاء الذين يفاضلون بين الحياة الدنيا والآخرة، بل ويفضّلون الحياة الدنيا على الآخرة، بعد أن رأوا بأعينهم ما انكشف لهم من قوله تعالى: «اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ..» فذلك غبن فاحش لا يرضاه عاقل لنفسه، ولا يصبر عليه لحظة، إن هو وقع فيه. ثم يجىء قوله تعالى: «فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ» حقيقة كاشفة مقررّة، يجدها بين يديه من لم ينكشف لبصره أو لبصيرته ما حملت من كلمات الله إليه من عرض هذا الوضع السيء الذي هو فيه من تثاقل إلى الأرض، ومن إيثار الحياة الدنيا على الآخرة، وما على هذه الأرض على ما فى السماء! يجىء بعد هذا قوله تعالى: «إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» - يجىء حاملا مقارع من حديد، يوقظ بها هؤلاء النيام الذين لا توقظهم العبرة ولا الموعظة الحسنة.. إنهم إن لم ينتزعوا أنفسهم من هذه الأرض التي لصقوا بها، وإن لم يخفّوا إلى القتال مسرعين، أخذهم الله بعذابه، وأنزلهم منازل الهوان والنقمة، وأقام مقامهم قوما آخرين، يجاهدون فى سبيل الله، ويأخذون هذا المقام الكريم الذي كان مهيأ لهم من قبل، فتخلّوا عنهم مختارين، حين تثاقلوا عن الجهاد، واستحبّوا الحياة الدنيا على الآخرة.. وإنهم بهذا قد أوقعوا الضرر بأنفسهم، وأخذوا الطريق المؤدّى بهم إلى الهلاك، ولن يضروا الله شيئا.. فإن الله- سبحانه- غنىّ عن العالمين.. وإن له- سبحانه- أولياء كثيرين، ينصرون دينه، ويجاهدون فى سبيله: «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ» (38: محمد) . فتلك هى سنّة الله فى عباده «لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» الجزء: 5 ¦ الصفحة: 772 فهناك منحرفون ضالون يتحولون إلى طريق الحق والإيمان.. وهناك مستقيمون مؤمنون ينحرفون إلى طريق الغواية والضلال.. وذلك ليظل الناس فى حركة، وعمل.. فمن كان على طريق الحق والتقوى، كان عليه- لكى يحتفظ بمكانه على هذا الطريق- أن يحرس نفسه من أهوائها ونزعاتها ووساوس الشيطان لها.. ومن كان على شعاب الظلام والضلال، كان له- إذا شاء- أن يتحول إلى طريق النور والهدى.. «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .. ومن مظاهر قدرته، هذه الغير التي تقع بالناس، فتنقلهم من حال إلى حال، ومن أسفل إلى أعلا، ومن أعلا إلى أسفل.. فليحذر الإنسان- وخاصة إذا كان على الإيمان- أن يأخذ اتجاها منحرفا عما يدعوه إليه الإيمان.. فإن ذلك من شأنه أن يعرضه للخروج من الإيمان آخر الأمر، وليذكر دائما قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» . قوله تعالى: «إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» . فى هذه الآية الكريمة أمور: أولا: صلتها بالآيات التي قبلها.. حيث تبدو الصلة غير واضحة فى ظاهر الأمر بين هذه الآية، وما جاءت به الآيات قبلها من مقررات وأحكام.. والذي يمعن النظر فى الآية الكريمة يرى أنها تطبيق مؤسس على مقررات الآيات السابقة، حيث جاء فى قوله تعالى: «إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .. فقد قررت هذه الآية فيما قررت، أن الله إذا أراد نفاذ أمر فلن تقف دونه قوة فى هذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 773 الوجود، وأنه- سبحانه- قد أراد إعزاز دينه، وإظهاره على الدين كلّه، وأن المجاهدين الذين يجاهدون فى سبيل الله ما هم إلا أدوات عاملة فى مجال تلك الإرادة التي أرادها الله، ليكتب لهم عند الله الأجر العظيم، والمثوبة والرضوان، وأن إرادة نافذة على أي حال.. وفى قوله تعالى: «إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ» شاهد قائم، رآه المسلمون رأى العين.. وهو أن الله قد نصر النبىّ الكريم، وخلّصه من يد المشركين الذين كانوا له بمرصد، على كل ثنيّة، وعلى كل طريق ... ولم يكن مع النبىّ الكريم قوّة ظاهرة، لم يكن إلا هو وصاحبه أبو بكر.. وكانا أعزلين من كل سلاح، إلا سلاح الإيمان الذي يملأ قلبيهما، مجرّدين من كل قوة، إلا قوة الحقّ الذي فى يديهما، محرومين من كل نصير، إلا عون الله لهما، وحراسته القائمة عليهما. ثانيا: لم يذكر النبىّ الكريم ذكرا صريحا، وإنما جاءت الإشارة إليه مضمرة فى ضمير الغائب.. هكذا «إِلَّا تَنْصُرُوهُ» .. وفى هذا إشارة مضيئة تشير إلى النبي الكريم، وتحيطه بهالة من نور ربانىّ، بحيث تشخص الأبصار كلّها إلى هذا النور العلوىّ الذي يفاض على النبىّ، ويحفّ به.. فليس هناك من تخلّى عنه الأنصار والأعوان- فى هذا الموقف بالذات- غير النبىّ، وليس هناك أيضا من أحاطت به العناية الربانية، وحفّت به أمداد العون والنصر الإلهي- فى هذا الموطن بالذات أيضا- غير النبىّ.. فكانت الإشارة إليه- فى هذا الموقف بالذات- مغنية عن كل ذكر، وكانت الإماءة إليه أبلغ من كل تصريح.. ثالثا: لم يذكر اسم الصاحب الذي صحب النبىّ فى هذه الحال، بل جاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 774 على النسق الذي جاء عليه ذكر النبىّ.. «إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا» .. وفى هذا تشريف لمقام أبى بكر- رضوان الله عليه- وتمجيد لتلك الصحبة المباركة، التي جعلت منه صاحب نبىّ، ورفيق رسول، يأخذ بنصيب طيّب من رعاية الله لنبيّه، ويستظل بما استظل به النبىّ من نصر الله وتأييده. وأبو بكر فى هذا المقام هو القوة المادية الظاهرة، من الإنسانية كلها، التي كانت تسند النبىّ، وتشدّ أزره، وتؤنس وحدته، وتقتسم الضّراء- بل قل السّرّاء- معه! فقد كان النبىّ صلى الله عليه وسلم- فى هذا الموقف- جبهة يحاربها الشرك كلّه، ويكيد لها المشركون كلّهم.. وكان أبو بكر رضوان الله عليه، هو وحده كلمة الحقّ، والإيمان، التي أراد الله سبحانه وتعالى لها هذا المقام الكريم، إلى جانب النبىّ الكريم.. وإنه بحسب أبى بكر- رضوان الله عليه- من التكريم والتشريف أن يكون اليد الأخرى المباركة التي تحمل مع النبي الكريم رسالة السماء، ودعوة الحق، إلى حيث أراد الله لها أن تطلع بنورها، وتمنح الناس ما فيها من هدى ورحمة، وأمن وسلام.. ثالثا: فى قوله تعالى: «فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» . عاد الحديث عن النبي وحده، بضمير المفرد «فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها» ... كما بدأ الحديث عنه وحده: «إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 775 وعدم ذكر أبى بكر فى هذين المقامين- البدء والختام- لا ينقص من قدر أبى بكر، ولا يزحزحه عن مقامه الكريم، الذي رفعه الله سبحانه وتعالى إليه بقوله: «إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا» .. إذ لا شك أن الموقف هو موقف الرسول، وأن الرسالة هو صاحبها، والمدعوّ إليها من ربه، وإنه ليكفى أبا بكر شرفا أن ينفرد بهذا المقام الكريم، فيكون للنبىّ ردءا وعضدا، فى وقت كان النبىّ الكريم يواجه فيه وحده المشركين جميعا.. والسكينة، هى الطمأنينة التي تحلّ بالقلب، فيجد الإنسان المكروب ريح الأمن، وبرد السلامة والعافية.. وهى مأخوذة من السكون، أو السكن، بمعنى القرار.. «وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها» .. هى قوى من قوى الحق، أمدّه الله بها، فكانت عينا تحرسه، ويدا تردّ من يريد السّوء به.. وفى التعبير عن حلول السكينة قلب النبىّ بإنزالها عليه، إشارة إلى أنها منزلة من السماء، وأنها من قوى الحقّ التي أمدّ الله نبيّه بها، وليست من القوى التي يملكها الناس، ويستندون إليها.. «وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى» أي أن الله أبطل كيدهم، وأفسد تدبيرهم.. والمراد بالكلمة هنا، الحال والشأن والأمر.. بمعنى أن المشركين وقد فوّت الله عليهم ما أرادوا بالنبيّ من سوء، وأبطل ما دبروا من كيد، وما بيّتوا له من عدوان.. فإن ذلك يحدّث عن ضعفهم وهوانهم، أمام تلك القوة القادرة القاهرة.. وإذا كانت الكلمة تعبيرا عن إرادة المتكلم بها، وتصويرا لمشيئته التي يريد إمضاءها، فإن إنفاذ هذه الإرادة، وإمضاء تلك المشيئة، إنما يكون بحسب ما عند المتكلم من رصيد من القوى التي يحشدها وراء كلمته، ليقيم لها مكانا فى عالم الواقع المحقق.. وإنه حين تبطل الكلمة، ولا تجد لها مكانا فى الواقع المحقق، يكون ذلك دليلا قائما على ضعف صاحبها، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 776 وسقوط همته.. وأن كلماته التي ينطق بها ليست إلا أصواتا ضائعة فى الهواء!. وفى التعبير عن كلمة الله بالعلوّ، إشارة إلى أن كلمات الله سبحانه، هى فى المكان المتمكن، الذي تستولى به على كل شىء، بحيث لا تقف لها قوة، ولا يحول دونها حائل.. وفى وضع ضمير الفصل «هى» بين المبتدأ والخبر فى قوله سبحانه: «وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا» إشارة أخرى إلى كلمة الله، وإلى تحقيقها، وإفرادها بهذه المنزلة دون غيرها من الكلام البشرى على أي مستوى.. فهى وحدها هى العليا، المتفردة بهذا المقام المتمكن من العلوّ.. ولهذا جاء بعدها الوصف المناسب لله سبحانه وتعالى، صاحب هذه الكلمة: «وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» .. فهو العزيز الذي لا عزة لأحد مع عزّته، وهو الحكيم الذي- مع ماله من عزّة مطلقة، ومن سلطان لا ينازع- يضع الأمور مواضعها القائمة على ميزان الحكمة والعدل والإحسان.. أما هؤلاء المشركون، الذين يستشعرون العزّة والقوة من أنفسهم على غيرهم من الضعفاء، فإن عزّتهم عزة غاشمة جهولة، وقوتهم قوة عمياء حمقاء، تضرب بغير حساب، ولا تقدير! والغار الذي تشير إليه الآية الكريمة، هو غار ثور، فى أعلى جبل يقال له جبل ثور، على مسيرة ساعة من مكة، على يمين المتجه إلى المدينة. قوله تعالى: «انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 777 هو دعوة عامة للمسلمين جميعا إلى الجهاد فى سبيل الله، حين تدعو دواعيه وتقوم أسبابه. والخفاف: جمع خفيف، وهو الذي لا يعوّقه عن النّفر إلى الجهاد معوّق، مادىّ، أو نفسىّ، كالاشتغال بالحياة، وتثمير المال، ومعالجة التجارة، أو الزراعة ونحوها، أو كالحرص على الحياة، والخوف من الموت، أو الاستثقال لأعباء السّفر، ومشقّه الانتقال، والتعرض لمتاعب الطريق، وما يتعرض له المسافر من حر أو برد، أو جوع أو ظمأ.. والثقال: جمع ثقيل، وهو الذي تعرض له تلك العوارض التي تثقله، وتوهن عزمه على الجهاد، وتثقل خطوه فى السعى إليه.. والأمر بالنفر إلى الجهاد موجّه إلى الخفاف والثقال جميعا، من القادرين على حمل السلاح.. وليست هذه العوارض المادية أو المعنوية التي تعرض للمسلم بالتي تعفيه من أن يكون فى جبهة القتال مع إخوانه المجاهدين فى سبيل الله.. فهو آثم، خارج على أمر الله، إن هو لم يأخذ مكانه، ويؤدى الواجب المدعوّ إليه.. وفى قوله تعالى: «وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» توكيد لهذا الأمر بالنفرة إلى الجهاد.. لا بالنفس وحسب، بل وبالمال أيضا لمن يملك المال.. وقدّم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، لأن المال عند من يحرص على المال، أحبّ إليه من نفسه، وهو القوة الغالبة التي تثقل الإنسان وتبطّئه عن الجهاد. فإذا سخا بالمال، وبذله فى سبيل الله، خفّت نفسه إلى الجهاد، وانطلق من القيد الذي كان يمسك به عن أن يكون فى المجاهدين.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 778 أمّا من لا يقدر على القتال، لمرض، أو شيخوخة، أو نحو هذا، فإنه وإن رفع الله عنه الحرج إذا لم يجاهد بنفسه، فإن الحرج قائم عليه إذا هو لم يجاهد بماله، إن كان له مال.. فإذا بذل المال، وأمدّ به المجاهدين، كان مجاهدا، وحسب فى المجاهدين.. وفى الحديث الشريف: «من جهّز غازيا فقد غزا» . فليس لمسلم- أيّا كان حاله ووضعه فى المجتمع- أن يتخلّف عن الجهاد فى سبيل الله، فلكل إنسان مكانه فى المعركة.. إذ ليست المعركة معركة سيف وحسب، بل هى معركة، سلاح، وعتاد، ومئونة.. بل هى قبل ذلك كله معركة مشاعر وأحاسيس، بمعنى أن الأمة كلها ينبغى أن تكون فى مواجهة المعركة على شعور واحد، ينتظم جميع أفرادها، هو شعور مواجهة العدوّ، والتصدّى له، وطلب الغلب عليه.. فهذا الشعور هو الذي يجعل الأمة الإسلامية كلها جيشا واحدا يحمل السلاح، ويضرب فى وجه العدو.. ومناسبة هذا الآية لما قبلها أنها أشبه بالتطبيق العملي لما تكشف عنه الآيات السابقة من نصر الله سبحانه وتعالى لنبيّه الكريم، وأن من كان من حزب الله فلن يغلب أبدا، ولو كان وحده.. فليأخذ المسلمون مكانهم فى الجهاد فى سبيل الله، فيكونوا من حزب الله. هذا، ويلاحظ أن هذه الدعوة المشدّدة إلى القتال، واستنفار المسلمين جميعا للجهاد فى سبيل الله، إنما كانت إرهاصا بدعوة المسلمين إلى ابتلاء جديد، بلقاء عدو جديد، فى وطن جديد.. وذلك فى غزوة تبوك التي كانت آخر غزوة غزاها النبىّ.. كما سنعرض لها فيما بعد.. إن شاء الله.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 779 الآيات: (42- 45) [سورة التوبة (9) : الآيات 42 الى 45] لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) التفسير: العرض: المتاع، وما يحصّله الإنسان فى سعيه لطلب الرزق.. والمراد بالعرض القريب: المتاع الذي ينال من قريب، بلا كبير عناء، ولا عظيم مجهود.. والسفر القاصد: هو السفر القريب، السّهل، المستقيم على وجه واحد لقرب غايته.. والشّقة: المسافة المكانية. مثل الأمد فى المسافة الزمانية. وقوله تعالى: «لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ» هو تعريض بأولئك الذين إذا دعوا إلى القتال، لم يخفوا له، بل تلبّثوا، وأخذوا يديرون أعينهم هنا وهناك، ليتعرفوا إلى وجوه الربح والخسارة فى الدعوة التي دعوا إليها.. فإن كان المغنم فيها دانيا، والسفر إليها قريبا، استجابوا، وخرجوا مع المجاهدين.. وإن كان المغنم عسير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 780 الوقوع، بعيد المسافة تثاقلوا، وتباطئوا، وانتحلوا شتى العلل ومختلف المعاذير. ثم إنهم لا يكتفون بهذا، بل يزكّون هذه العلل، ويؤكدون تلك المعاذير بالحلف المؤكد أنهم لو استطاعوا الخروج لخرجوا.. وهذا الحلف نفسه هو دليل فاضح لكذبهم، إذ لم يطلب أحد إليهم أن يحلفوا.. ولكن هكذا الكاذب دائما.. يجد الكذب الذي يعرضه على أعين الناس، لا يقف على قدميه لضعفه وهزاله، فيعمد إلى تقويته بالحلف، ودعمه بتوكيد هذا الحلف. وقوله تعالى: «يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» إشارة إلى أن هذا الموقف الذي يقفه أولئك المتثاقلون على الجهاد، المتعللون لذلك بالعلل الكاذبة، إنما قد جنوا على أنفسهم، وأوردوها موارد الهلاك، بتخلفهم عن الجهاد، وعصيانهم لأمر الله، وهم قادرون على القتال.. فإنهم إن خفى أمرهم على الناس، فلن يخفى على الله «وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» . وقوله سبحانه: «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ» فى هذه الآية عتاب رقيق للنبى الكريم من ربّ كريم.. وهو عتاب يحمل فى أطوائه نفحات الرضا والرضوان، بحيث يبدو هذا العتاب، وكأنه جزاء حسن عن عمل حسن! فقد قدّم العفو عن الأمر الذي يطلب العفو له، وجاء العفو من أجله.. وهذا على غير المألوف.. حيث يذكر الذنب.. أولا، ثم يكون اللوم، أو العفو.. ثانيا. ولكنّ لطف الله سبحانه بنبيّه الكريم، وتكريمه له قد جاءه بالعفو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 781 مقدّما، حتى لا يقع تحت مشاعر الألم لحظة واحدة، إذا هو تلقّى اللّوم، ثم جاءه العفو: على هذا النحو: «لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ؟ .. عفا الله عنك!!» . وفى قوله تعالى: «حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ» إشارة إلى أن أمر الكذب مفضوح، وأن الزّمن لا بد أن يكشف عن وجهه يوما ما.. فلو انتظر النبىّ بهؤلاء الذين جاءوا بأعذارهم إليه، ولم يقبل هذه الأعذار فى حينها، لانكشف له أمر ذوى الأعذار الكاذبة منهم، إمّا بما يظهر من حالهم، أو بما يكشف له أصحابه من أمرهم، أو بما ينزل عليه من قرآن يفضحهم. وقوله تعالى: «لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ» - هو بيان يفرّق به بين الصّادقين والكاذبين من ذوى الأعذار.. فالذين يؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانا صادقا لا يطلبون الإذن لأنفسهم بالتخلف عن القتال.. ذلك أنهم- مع الأعذار القائمة معهم- لا يجعلون من تلك الأعذار حاجزا يحجزهم عن أخذ حظّهم من الجهاد فى سبيل الله، فإذا دعا الداعي إلى الجهاد كانوا فى مقدمة المستجيبين له. حتى إذا نطقت حالهم عن أنّهم- بهذه الأعذار التي معهم، من مرض، أو صغر، أو شيخوخة، أو نحو هذا- لن يمكّنوا من الانتظام فى صفوف المجاهدين، رحمة بهم، وتخفيفا من مئونتهم على المسلمين، كان ذلك مما يحزنهم، ويبعث الحسرة والأسى فى نفوسهم. وهذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 782 ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ» . أما الذين فى قلوبهم مرض ونفاق، فإنهم لا يعجزهم العثور على العلل والمعاذير التي يقدّمونها للنبىّ والمسلمين، لتكون مبررا لتخلفهم عن الجهاد. فهؤلاء هم الذين يجيئون إلى النبىّ بأعذارهم الكاذبة، ويستأذنونه فى التخلف، كما يقول سبحانه «إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ» .. والريب، هو الشك والارتياب، ورابه الأمر، فارتاب فيه، أي شك، ووقع فى حيرة وتردد بين الإقدام والإحجام. الآيات: (46- 52) [سورة التوبة (9) : الآيات 46 الى 52] وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 783 التفسير: فى هذه الآيات يفضح الله أولئك المنافقين ومن فى حكمهم، ممن تخلّفوا عن الجهاد فى غزوة «تبوك» التي جاءت الدعوة إليها عامة شاملة فى قوله تعالى: «انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» .. لأنها كانت غزوة ذات طابع خاص على ما سنرى: فبعد أن فتح النبىّ مكة، ودخل الناس فى دين الله أفواجا، نظر إلى خارج الجزيرة العربية، فرأى على حدودها من جهة الشام قبائل عربية قد أقامت علاقات بينها وبين دولة الروم، كالعلاقة التي بين التابع والمتبوع.. ذلك أنه لكى يأمن الروم تسلل العرب إليهم، أو مفاجأتهم بالغارات على قراهم وزروعهم، أقاموا بعض القبائل العربية حرّاسا على تلك الحدود، وضمّنوهم سلامة هذه الحدود من كل مغير.. وكانت دولة الروم تنظر إلى الدعوة الإسلامية نظرة سياسية إلى جانب النظرة الدينية التي كانت تنظر بها إليها، وترى فيها أنها دعوة تهدد المسيحية التي تدين بها. وفى مجال النظرة السياسية، رأى الروم أن الأمة العربية قد أصبحت بهذه الدعوة أمة واحدة، بعد أن كانت قبائل متنازعة متقاتلة.. وهذا ما يجعل من العرب قوة يمكن أن تهدد الروم، وتفتح طريق الحدود الذي أقامت من العرب حرّاسا عليه. وقد تنبّه الروم إلى ذلك، وأخذوا يعدّون العدّة له، وجاءت الأنباء إلى النبىّ بذلك، وأن الروم يريدون أن يستميلوا القبائل العربية المتاخمة لهم إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 784 دينهم، وأن يعقدوا معهم حلفا ضدّ دولة العرب الناشئة.. ولهذا بادر النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- إلى مبادأة القوم، وأخذ السبيل عليهم إلى الغاية التي أرادوها.. فدعا المسلمين إلى الجهاد، وأراهم الوجه الذي يقصده، والغاية التي يريدها، وقد كان- صلوات الله وسلامه عليه- إذا أراد الغزو لم يكشف عن الجهة التي يقصدها، ولا القوم الذين يقاتلهم.. أما فى هذه الغزوة، فقد كشف للمسلمين عنها، وأعلمهم أنه يريد حرب الروم.. وذلك حتى يأخذ المجاهدون الأمر عدّته، ويعملوا له حسابه، إذ كانت الشقّة بعيدة، والعدوّ كثير العدد والعدّة. وكانت دعوة النبىّ إلى لقاء الروم فى أعقاب سنة شديدة الجدب، تخلّف فيها المطر، فأضرّ بالناس، والزروع والأنعام، وقد حضر بين يدى الناس ما نضج من ثمار النخيل والأعناب، على قلته، وشدة الحاجة إليه.. فكان ذلك ابتلاء.. لأنهم يدعون إلى القتال بعد سنة قاسية مجدبة، وفى موجات عاتية من حرور وسموم.. على حين قد حضرهم شىء من نضيج الثمار، وفىء الظلال.. فليس بعد هذا الابتلاء ابتلاء، ولا وراء هذا الامتحان، امتحان.. وتعالت حكمة الله، الذي أراد أن يمحّص ما فى صدور المؤمنين من إيمان، وليبتلى ما فى قلوبهم من ولاء لله ولرسوله.. فإن قسوة هذا الامتحان، هى التي تكشف عن معدن الإيمان، حتى يرى المؤمنون حظوظهم منه، وذلك بعد أن تمت الرسالة، وبلغت الدعوة غايتها. وقد كشف هذا الامتحان فعلا عن أكثر من حقيقة: فهناك مؤمنون لا يعرفون غير السمع والطاعة لله ولرسوله.. ولا يؤثرون على ولائهم لله ولرسوله، نفسا أو مالا أو ولدا.. فهؤلاء السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.. ما إن سمعوا دعوة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 785 الرسول، حتى كانوا جميعا الجواب الحاضر لها.. لم يتخلّف منهم متخلّف، ولم يبطّىء منهم مبطّىء.. وقد أنفقوا فى سبيل الله كل ما يملكون.. وكان عثمان بن عفان رضى الله عنه أكثر الناس إنفاقا في تجهيز جيش العسرة، حتى لقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى ما رأى من عثمان قال: «اللهم ارض عن عثمان فإنّي عنه راض» . وهؤلاء معسرون يريدون الغزو والجهاد فى سبيل الله.. ولكن ليس هناك ما يحملون عليه إلى ميدان القتال.. فجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه ما يحملون عليه، فلما أجابهم الرسول بقوله: «لا أجد ما أحملكم عليه» .. «تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ» .. وهؤلاء هم البكّاءون، كما سماهم المسلمون يومئذ.. ثم هناك أصحاب تعلّات كاذبة، ومعاذير واهية، جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بها ليستأذنوا فى التخلّف، فأذّن لهم النبىّ، أخذا بظاهر أمرهم ولكنّ الله سبحانه أخذهم بما أخفوا، فلم يقبل لهم عذرا.. فقال تعالى: «وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» .. وقد عاتب الله سبحانه وتعالى النبىّ فى قبول عذرهم والإذن لهم، فقال تعالى: «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ.. لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ» . وهناك منافقون.. وأشباه منافقين.. اجتمعوا على الكيد للإسلام، وتوهين عزائم المسلمين الذين خفّوا للجهاد.. ومنهم عبد الله بن أبىّ بن سلول.. كان على رأس فريق من أصحابه، فى جانب من معسكر المسلمين الذين اجتمعوا ظاهر المدينة استعدادا للسير.. فلما تحرك النبىّ بركب المسلمين تخلّف عبد الله ابن أبىّ فيمن معه من المنافقين.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 786 وهكذا.. تكشفت معادن المؤمنين، فكانوا فى منازلهم من الإيمان ظاهرا وباطنا، بعد أن كانوا على باطن لا يدرى إلا الله ما ينطوى عليه.. ثم سار النبي صلوات الله وسلامه عليه، بما اجتمع له من المسلمين، وكانت عدتهم ثلاثين ألفا، منهم عشرة آلاف فارس، كما يقول الرواة.. وقد وقعت فى الطريق أحداث.. منها: أن بعض الذين تخلّفوا عن الركب، قد راجعوا أنفسهم، فرجعوا إلى الله، وآثروا ما عنده، فلحقوا بركب النبىّ، وهو فى الطريق، قبل أن يبلغ تبوك.. ومن الأمثلة الرائعة للنفس المؤمنة اللّوامة، التي تلفظ الغريب الوارد عليها من وساوس الشيطان- ما كان من أبى خيثمة من بنى سالم بن عوف.. فإنه كان ممن اعتذر لرسول الله، وقبل الرسول الكريم عذره.. فتخلف مع المتخلفين.. ولكن كان معه فى هذا التخلف ضمير ينخسه، وقلب موزّع بين داعية نفسه إلى الدعة والظل، وبين داعى إيمانه إلى اللحاق برسول الله، ومشاركته مرارة السفر وقسوة الهجير.. قالوا إنه بعد أن سار النبي أياما، دخل أبو خيثمة فى يوم حار إلى حائط (أي حديقة له) فوجد امرأتين له فى عريشين لهما، قد رشّت كل واحدة منهما عريشها، وبرّدت له فيه ماء، وهيأت له فيه طعاما.. فلما دخل قام على باب العريش، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الضّحّ «1» والريح والحر، وأبو خيثمة فى ظل بارد، وطعام مهيأ، وامرأة   (1) الضح: بالكسر: الشمس وضوؤها، والمكشوف البارز من الأرض.. والمراد به هنا: التعرض للشمس فى العراء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 787 حسناء.. فى ماله مقيم؟ ما هذا بالنّصف «1» ! ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم.. ثم خرج فى طلب رسول الله، حتى أدركه حين نزل تبوك!! قالوا: وكان يرافق أبا خيثمة فى الطريق عمير بن وهب الجمحي، يطلب اللحاق برسول الله.. حتى إذا دنوا من تبوك، قال أبو خيثمة لرفيقه: إن لى ذنبا! فلا عليك أن تتخلّف عنى حتى آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعل، حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو نازل تبوك، قال الناس، هذا راكب على الطريق مقبل! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كن أبا خيثمة» فقالوا يا رسول الله.. هو والله أبو خيثمة.. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أولى لك يا أبا خيثمة «2» » ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، ودعا له بخير. هذا الموقف الرائع يقابله موقف منافق متخاذل كان من رجل يظهر الإيمان، ويضمر ما الله عالم به.. ذلكم هو الجدّ بن قيس من بنى سلمة.. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى التجهز للغزو، وقال له: «يا جدّ.. «هل لك العام فى جلاد بنى الأصفر؟» (يعنى الروم) فقال: يا رسول الله: «أو تأذن لى ولا تفتنّى!! فو الله لقد عرف قومى أنه ما من رجل بأشدّ عجبا بالنّساء منى، وإنى أخشى إن رأيت نساء بنى الأصفر ألا أصبر!!» فأعرض عنه رسول الله، وقال «قد أذنت لك..» .. وفى الجدّ بن قيس   (1) النّصف: بفتح الصاد: الانصاف، والعدل. (2) قوله صلى الله عليه وسلم: أولى لك يا أبا خيثمة.. هو مدح لأبى خيثمة، وأن ما فعله هو الخير الذي هو أهل له، وجدير به. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 788 نزل قوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ..» وحين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجيش، أقام على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري، وخلّف رسول الله على أهله علىّ بن أبى طالب- كرم الله وجهه- فأرجف به المنافقون، وقالوا: ما خلّفه إلا استثقالا له، وتخفّفا من صحبته!! فلما بلغ عليا مقالة المنافقين فيه، أخذ سلاحه، ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله.. زعم المنافقون أنك إنما خلفتنى استثقالا وتخففا من صحبتى، فقال: «كذبوا، ولكنى خلّفتك لما تركت ورائي، فارجع واخلفني فى أهلى وأهلك.. أفلا ترضى يا علىّ أن تكون منى بمنزلة هرون من موسى.. إلّا أنه لا نبىّ بعدي؟ فرجع علىّ بهذه الخلعة التي خلعها الله ورسوله عليه، وكبت الله المنافقين، وملأ قلوبهم حسرة.. وفى الطريق إلى تبوك مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر من ديار ثمود، فأمر أصحابه ألا يشربوا من مائها، وألا يتوضئوا منه للصلاة.. ثم سجّى- صلى الله عليه وسلم- ثوبه على وجهه، وحثّ راحلته، ثم قال: «لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا وأنتم باكون، خوفا من أن يصيبكم مثل ما أصابهم» . وكان أبو ذر- رضى الله عنه- ممن تخلف عن ركب رسول الله، إذ لم يكن قد أتمّ جهازه، وأبطأ به بعيره عن اللحاق بالركب.. وكان الناس يذكرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا تخلفوا فى الطريق.. فيقولون فلان تخلف.. فيقول الرسول: «دعوه.. فإن يكن فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم الله منه.» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 789 وكان من أمر أبى ذرّ أن بعيره قد كلّ عن السير، فأخذ متاعه وحمله على ظهره، وسار يتبع الرسول.. ونزل الرسول فى بعض منازله، فنظر ناظر من المسلمين، فقال يا رسول الله إن هذا الرجل يمشى على الطريق وحده.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كن أباذرّ» فلما تأمله القوم، قالوا يا رسول الله: «هو والله أبو ذرّ» فقال صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أباذر.. يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده» . وفى تبوك أقام النبي صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة، انجحر فيها الروم إلى مسالحهم وقراهم.. وفتح الرسول، دومة الجندل، فتحها له خالد بن الوليد، وجاء بصاحبها مستسلما لرسول الله، فحقن له دمه، وصالحه على الجزية.. وسنعرض بعض أحداث هذه الغزوة عند تفسير بعض الآيات التي نزلت فيها.. قوله تعالى: «وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ» . هذه الآية تكشف عن وجه من وجوه الذين تخلّفوا عن غزوة تبوك، وقدّموا بين يدى رسول الله أعذارهم الكاذبة.. فهؤلاء الذين تخلّفوا لم يكونوا على نيّة الجهاد فى سبيل الله، وأنهم لو كانوا على تلك النية لأعدّوا للجهاد عدّته، ولأخذوا له أهبته، حتى إذا دعا الداعي إليه، كانوا وكان بين أيديهم أدوات الجهاد وعدّته.. ولكنهم لم يكونوا أبدا على نية الجهاد، بل كانوا على كره قائم فى نفوسهم له، فكره الله انبعاثهم، وانطلاقهم مع المجاهدين، ولهذا ثبّطهم عنه، وحلّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 790 عزائمهم دون الجهاد، وإذا هم دعوة مستجابة لكل ناطق وصامت، يدعوهم بلسان المقال أو لسان الحال، ساخرا مستهزئا: «اقعدوا مع القاعدين» . والانبعاث: الانطلاق فى خفّة ونشاط، وفى التعبير عن كراهية الله سبحانه وتعالى لخروج هؤلاء المنافقين، للجهاد- فى التعبير عن ذلك بالانبعاث، وهو الانطلاق، إشارة إلى أن ذلك هو الذي ينبغى أن يكون من المجاهدين فى وجهتهم نحو العدوّ، وهؤلاء المنافقون لم يكن منهم مجرد الحركة، فضلا عن الانبعاث، ولو كان منهم ذلك لما رضيه الله منهم، ولا جعلهم فى المجاهدين، لفساد نياتهم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» . ففى هذه الآية ما يكشف عن الحكمة فيما كان لله من تدبير، فى تثبيط هؤلاء المتخلفين، وعزلهم عن جماعة المجاهدين.. فلو أنهم خرجوا مع المسلمين، وهم يحملون هذا الداء الخبيث المتمكن فيهم، لأفسدوا على المسلمين أمرهم، ولأدخلوا عليهم الوهن والضعف فى لقاء عدوهم: «لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا» أي اضطرابا وفسادا، «وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ» أي لسعوا سعيا حثيثا بينكم بالفتنة.. والإيضاع: ضرب من السير السريع للإبل، وخلال الشيء: الفجوات التي فى كيانه. وفى قوله تعالى: «ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا» إشارة إلى أن الجماعة الإسلامية التي ضم عليها ركب المجاهدين إلى تبوك، لم تكن كلها على السلامة والعافية فى إيمانها، وعزمها على الجهاد، بل كان فيها عدد غير قليل من المنافقين وأشباه المنافقين، ومن فى قلوبهم مرض.. خرجوا مع المجاهدين على كره.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 791 فكانوا عبثا على المسلمين، وموطن ضعف فيهم.. فلو انضم إلى هؤلاء أعداد أخرى من المتخلفين الذين ثبّطهم الله عن الجهاد- لما فى قلوبهم من نفاق- لزادوا المؤمنين خبالا واضطرابا.. إلى ما كان ينبض به جيشهم من نبضات الخبال والاضطراب.. ويشهد لهذا قوله تعالى بعد ذلك: «وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ» إذ يشير هذا إلى ما فى صفوف المسلمين من خلخلة ومن فروج وفجوات، يمكن أن يتحرك فيها المنافقون كيف يشاءون، يلقون فى أسماع المسلمين بكلمات السوء، للوقيعة بينهم، وتثبيط عزائمهم عن لقاء العدو.. وفى قوله تعالى: «وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ» إشارة إلى ما كان فى جيش المسلمين من أصحاب النفوس المريضة، والقلوب الفاسدة، حيث يعطون أسماعهم لقالة السوء، ويمنحونهم الثقة والاطمئنان، وحيث يصادف نفاقهم هوى عندهم. وفى قوله سبحانه: «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» تهديد ووعيد لمن كان على نفاق ومكر بآيات الله.. حيث لا يخفى على الله ما تكنّ صدورهم من نفاق، وما تنعقد عليه نياتهم من سوء، وإنهم بهذا قد ظلموا أنفسهم، وأوردوها موارد الهالكين. قوله تعالى: «لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ» . إشارة إلى ماضى هؤلاء المنافقين، وأنهم لم يستقيموا على طريق الإسلام أبدا.. وأنهم فى كل موقف يتعرض فيه الإسلام لامتحان، كانوا حربا خفية عليه، إلى جانب الحرب الظاهرة التي يلقاه بها أعداؤه لقاء مباشرا.. فكانوا يضربون فى جبهة المسلمين بالفتنة، وتقليب الأحداث، وإثارة الدّفين من الثارات القديمة فى الجاهلية.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 792 وفى كل مرة كانوا يرجعون بالخيبة والخسران، حيث يضلّ سعيهم، وتسوء عاقبة من يعملون لهم، ويكتب الله للنبى وللمسلمين النصر والغلب. وقوله سبحانه: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ» .. يكشف عن وجه من وجوه المنافقين، الذين دعوا إلى الجهاد فى سبيل الله، فقال قائلهم معتذرا بهذا العذر الصبيانى الكذوب: «لا تفتنّى» بالغزو فى بلاد الروم، وبما يقع تحت نظرى من نساء الروم.. «أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا» حين خرجوا بهذه القولة الكاذبة عن أمر الله، فحق عليهم غضب الله.. وتلك هى الفتنة، وذلك هو البلاء، الذي ليس لصاحبه من نجاة.. «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ» .. وهؤلاء المنافقون هم كافرون، بل أشد كفرا من الكافرين.. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً» . قوله تعالى: «إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ» . وهذه حال من أحوال المنافقين مع المؤمنين.. إنهم يتربصون بالمؤمنين وهم على طريق الجهاد، فإذا عاد المسلمون بالنصر والغنيمة اغتمّوا، وحزنوا، وعلاهم الخزي والهوان.. وإن وقع بالمسلمين سوء فرحوا فرحتين: فرحة لأن المسلمين قد أصيبوا، وفرحة لأنهم هم لم يكونوا فى هذا الوجه الذي وقع للمسلمين فيه ما وقع من بلاء.. ثم يدعوهم هذا إلى أن يحمدوا لأنفسهم بعد نظرهم، وتقديرهم للأمور.. حيث سلموا وكان من شأنهم أن يعطبوا لو أنهم استجابوا لما دعوا إليه.. «وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ» .. أي أخذنا حذرنا، ونظرنا إلى عواقب الأمور، ورأينا بحسن تقديرنا ألا نشارك فى هذه الحرب التي يتجه إليها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 793 المسلمون، والتي لا يلقون فيها إلا الهزيمة.. وهنا قد صحّ تقديرنا.. هكذا تقديرهم، وذلك هو حسابهم مع الإسلام والمسلمين..! وقد ردّ الله عليهم هذا الردّ الذي أمر المسلمين أن يلقوا المشركين به.. فقال تعالى: «قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ» أي إن الذي تنتظرونه فينا لا يخرج عن أمرين، كلاهما نعمة عندنا، ورحمة من الله ورضوان.. إما أن نظفر ونغنم، وإما أن نستشهد فى سبيل الله، وننال رضوانه، وننزل منازل الشهداء عنده.. وفى الحديث: «تكفل الله تعالى لمن جاهد فى سبيله، لا يخرجه من بيته إلا الجهاد فى سبيله، وتصديق كلمته، أن يدخله الجنة.. أو يرجعه إلى سكنه الذي خرج منه، مع ما ناله من أجر وغنيمة» . أما المسلمون فإنهم ينتظرون فى المنافقين العذاب الذي لا بدّ أنه واقع بهم، إما على أيدى المسلمين فى هذه الدنيا بأن يقتلوهم، ويستولوا على أموالهم وديارهم، وإما أن يموتوا على ما هم عليه من نفاق، فيلقاهم الله بالعذاب الأليم الذي أعدّه لهم.. «وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا.. فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ» . الآيات: (53- 57) [سورة التوبة (9) : الآيات 53 الى 57] قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 794 التفسير: بعد أن دعا الله سبحانه وتعالى المسلمين إلى الجهاد بالنفس والمال فى قوله سبحانه: «انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» .. ردّ المنافقين، الذين أرادوا أن يدخلوا فى صفوف المسلمين، بما يقدمون من مال ومتاع- ولم يقبل سبحانه من أولئك المنافقين الذين فى قلوبهم مرض ما قدموا من مال أو متاع.. لأنهم لم ينفقوه فى سبيل الله وابتغاء مرضاته، وإنما أنفقوا ما أنفقوا مداراة لنفاقهم، وسترا لما فى قلوبهم من ضغينة وحقد على الإسلام، فهم بهذا المال الذي أنفقوه، يجدون وجها يعيشون به بين المسلمين، فيأخذون فرصتهم فى بث سمومهم بينهم.. وقد فضحهم الله، وردّ كيدهم، ورجمهم بالمال الذي قدموه!! وفى قوله تعالى: «قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ» تيئيس لهؤلاء المنافقين من أن يتقبل الله أعمالهم، وأن يجزيهم جزاء العاملين المحسنين.. لأنهم لا يؤمنون بالله إلا على حرف، ولا ينفقون ما ينفقون فى سبيل الله إلّا على خوف وتكره.. وحتى لو أنفقوا عن تطوع ورضى- وهذا غير واقع منهم- فلن يتقبل الله ما أنفقوا، «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» فكيف إذا كان إنفاقهم عن نفاق، لا يريدون به وجه الله؟ إنهم لن يكونوا من المقبولين أبدا.. إنهم كانوا قوما فاسقين. وقوله سبحانه: «وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ» - هو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 795 بيان لما من أجله لم يتقبل الله من هؤلاء المنافقين أعمالهم، ولو كانت مما يعدّ فى الصالحات من الأعمال.. إنهم كفروا بالله وبرسوله.. فإيمانهم هذا الذي يراه الناس منهم هو إيمان يضمر وراءه كفرا وإلحادا.. وكلّ عمل لا يزكيّه الإيمان بالله وبرسوله، هو ردّ على أهله، والله سبحانه وتعالى يقول: «مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ» (18: إبراهيم) . وإذا كان المنافقون على هذا الكفر بالله وبرسوله، فإن ما يأتون من أعمال المؤمنين فى ظل هذا النفاق المتمكن من قلوبهم، إنما يأتونه رياء، ونفاقا، حتى لا يفتضح نفاقهم، وينكشف المستور من كفرهم.. فهم إذا اقتضاهم الحال أن يصلّوا لم تكن صلاتهم ولاء لله، واستجابة لأمره، وإنما هو ثوب من أثواب النفاق يلبسونه إلى حين.. ومن هنا كانت صلاتهم باردة فاترة، لا تتصل بها نبضة قلب، أو هزّة وجدان! «وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى» . وكذلك الشأن فيما ينفقون فى سبيل الله.. إنهم لا ينفقون عن إيمان بالله، وبرسوله، وبالجهاد فى سبيله.. ولكنهم ينفقون حين لا يكون بد من الإنفاق.. حتى لا ينفضح أمرهم، وينكشف نفاقهم.. «وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ» . وفى قوله تعالى: «وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ» تحريض لهؤلاء المنافقين على التخلص من هذا النفاق الذي يقف لهم بالمرصاد على طريق الوصول إلى الله بما يقدّمون من أعمال: «وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ..» فالمفروض فى كل من يعمل عملا أن يجنى ثمرته.. وهؤلاء المنافقون يعملون أعمالا كان من شأنها أن تثمر ثمرا طيبا.. ولكن هناك آفة خطيرة تتسلط على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 796 هذه الأعمال، فتأتى عليها، قبل أن تزهر أو تثمر.. وهذه الآفة هى النفاق.. فإذا كان بالمنافقين حاجة إلى أعمالهم تلك، وإلى الثمرة المرجوّة منها، فعليهم أن يحاربوا هذا النفاق، الذي يمنعهم أن ينالوا ثمرا مما يعملون.. قوله سبحانه: «فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ» . تبين هذه الآية الكريمة أن جناية النفاق على أهله ليست واقفة عند حدّ.. فهو إذ يفسد على المنافقين كل ما يبدو أنه متصل بما يقرّب إلى الله، من عبادات وقربات، كذلك هو مفسد لكل ما هو متصل بحياتهم الدنيوية، مما يجمعون من أموال، وما يستكثرون من أولاد.. فهذه الأموال التي يجمعونها، ويشقون فى جمعها، وهؤلاء الأولاد الذين يعملون لهم، ويكدحون فى الحياة من أجلهم- إنما هى مصادر شقاء لهم، وبلاء عليهم، حيث تبدو جميعها فى ظل الكفر بالله أنها ظل زائل، سرعان ما ينفضون أيديهم منه، إذا هم فارقوا هذه الدنيا، وصاروا ترابا فى التراب.. إنهم لا يؤمنون بحياة أخرى وراء هذه الحياة، تتصل بها حياتهم، ويجدون فيها شيئا من ثمرة أعمالهم.. ومن هنا تتضاعف حسرتهم على هذا المال الذي جمعوه، وعلى هؤلاء الأولاد الذين لن يلتقوا بهم بعد الموت أبدا.. وعلى خلاف هذا شعور المؤمنين بالله واليوم الآخر.. إنهم لا يحزنون على فائت فى هذه الدنيا، لأن أنظارهم ممتدة على طريق أفسح من طريق هذه الحياة، وقلوبهم معلقة بحياة أكرم وأطيب وأخلد من تلك الحياة.. فإذا فاتهم شىء من هذه الدنيا كان لهم فيما يرجون من الله ما يغنى عن كل فائت.. ومن أجل هذا لم يكن الموت عند المؤمنين بالله واليوم الآخر، شيئا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 797 يفزعون له. ويبيتون مؤرقين للقائه.. فما هو عندهم إلا نقلة إلى عالم خير من هذا العالم، وإلى حياة طيبة، وجنات لهم فيها نعيم مقيم.. أما الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر.. فإن للموت عندهم رهبة رهيبة، مسلطة عليهم مع كل نفس يتنفسونه فى هذه الدنيا.. فما الموت عندهم إلا الفناء الأبدى، والضياع فى تيه العدم، والغرق فى بحر الظلام الأبدى «.. وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ» .. فهذا هو العذاب الدنيوي، الذي يعذّب به الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر.. وإنما يعذّبون بأيديهم، وبما يجمعون من مال، وما يستكثرون من أولاد، وأنهم كلما كثر مالهم، وكثر أولادهم، كلما اشتد عذابهم، وتضاعف بلاؤهم.. «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» .. فهم لهذا أحقّ بالرثاء، منهم بأن يكون موضع قدوة وإعجاب! وقوله تعالى: «وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ» - هو عطف على قوله سبحانه: «لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» .. بمعنى أن هذا الذي فى أيديهم من كثرة الأموال والأولاد، إنما جعله الله ليكون مصدر عذاب وبلاء لهم فى الدنيا، ولتزهق أنفسهم وتخرج من هذه الدنيا على كره، وهم فى لجاج فى الكفر، وإغراق فى الضلال.. إذ لم يدع لهم تعلقهم بالأموال والأولاد فرصة يفكرون فيها فى الله، وفى الإيمان به، واليوم الآخر.. فكل همهم هو هذه الأموال، وأولئك الأولاد، فإذا نزل بهم الموت اشتد كربهم وأمسكوا بالحياة فى ذعر وجنون.. قوله تعالى: «وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ» من نفاق المنافقين مع أنفسهم، أنهم يحلفون للمؤمنين أنهم منهم، لأنهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 798 يحسبون الإيمان كلمة يقولونها، ولباسا يلبسونه أول النهار، ثم يخلعونه آخره. وما أكثر الأيمان التي تجرى على ألسنة المنافقين.. إنها هى الطلاء الذي يطلى به كذبهم، ويزيّف به نفاقهم، حتى يروج، عند من تغرّه ظواهر الأمور، ولا يستشف ما وراءها.. وقد ردّ الله عليهم بأنهم ليسوا من المؤمنين.. لأن المؤمنين لا يخافون أبدا، لما فى قلوبهم من إيمان بالله، وثقة بما عنده، واطمئنان لما يقضى به فيهم.. فإن أصابهم خير لم يطيروا به فرحا، وإن أصابهم بلاء لم يجزعوا له فرقا وخوفا.. الموت والحياة عندهم سواء، والغنى والفقر لديهم أشباه، والسّرّاء والضّراء عدلان.. كل من عند الله.. أما أهل الكفر والنفاق، والزيغ والضلال، فهم على خوف دائم، وهمّ مقيم.. وفى هذا يقول الله تعالى: «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (19- 27: المعارج) فالفرق، وهو الخوف والجزع الذي يعيش فى كيان الكافرين والمنافقين، المكذبين بيوم الدين، هو داء عافى الله المؤمنين منه.. إذ كان إيمانهم بالله سكنا لقلوبهم، وأنسا لأنفسهم، وزادا طيبا يتزودون منه لكل نازلة تنزل بهم، وكلّ حدث يقع لهم.. فانظر كيف فرق الإيمان بين الناس، فى مدركاتهم ومشاعرهم وتصوراتهم، وإن جمعتهم لحمة القرابة والنسب.. فهؤلاء غير أولئك.. فمن كان على الإيمان لا يدخل قلبه همّ أو جزع، ومن كان على غير الإيمان فهو فى همّ وكرب وجزع.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 799 وقوله سبحانه: «لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ» هو تصوير لحجم الفزع الذي يعيش فى كيان الكافرين والمنافقين.. إن هذه الدنيا على سعتها، هى أضيق من سمّ الخياط، فى أعين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.. إذ لا حياة لهم بعدها، ولا رجاء لهم فيما يرجوه المؤمنون بعد الموت.. ومن هنا كانت الدنيا على ما فى أيديهم منها من مال وبنين- هى سجن مطبق عليهم، يقضون فيه أيام حياتهم المعدودة.. كأن فجاج الأرض وهى فسيحة ... على الخائف المكروب كفّة حابل يؤتى إليه أن كل ثنية ... تيمّمها ترمى إليه بقاتل هكذا حال الذي لا يؤمن بالله، ولا باليوم الآخر.. هو دائما فى خوف متوقع يطلع عليه من كل جانب.. فلا يبيت على جناح أمن أبدا.. والملجأ: ما يلجأ إليه الإنسان، ويلوذ به، ليكون مأمنه مما يخاف.. والمغارات: جمع مغارة، وهى النقرة فى الجبل، تلجأ إليه الهوام والحشرات، فرارا من الخطر الذي يتربص بها فى ضوء النهار.. والمدّخل: النفق فى الأرض.. ويجمحون: أي يفرون ركضا مسرعين.. وهذه المخابئ التي يلجأ إليها هؤلاء الفارّون من وجه الحياة، هى كل ما يمكن أن يتصور الفرار إليه، فى عالم الإنسان، أو الحيوان، أو الهوامّ.. وفى هذا ما يدل على أن المنافقين يلتمسون أي مفرّ يفرّون إليه، ويدفنون وجودهم فيه.. بل وأكثر من هذا.. إنهم فى سبيل الاحتفاظ بالحياة، وفى طلب الفرار من الموت- لا يأنفون أن يكونوا على أية صورة من صور الأحياء، من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 800 حشرات، وهو امّ، ودواب، ونحوها.. المهمّ عندهم هو أن يعيشوا، وليس من المهم عندهم فى شىء، الصورة التي يكون عليها العيش! الآيات: (58- 60) [سورة التوبة (9) : الآيات 58 الى 60] وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) التفسير: النفاق ضروب كثيرة، والمنافقون وجوه متعددة.. وعلى طريق النفاق أنماط مختلفة من المنافقين، كل له لون، بل ألوان، يعيش بها فى الناس، ويلقاهم باللون الذي يناسب الحال الداعية إليه.. فالمنافق هو أمة وحده، بكثرة ما يلبث من وجوه، وما يتخذ من صور وأشكال. ولهذا نجد القرآن الكريم، يقلّب هؤلاء المنافقين على وجوههم المختلفة، ويعرضهم فى ألوانهم وأزيائهم المتعددة.. فيقول جل شأنه فى أكثر من موضع.. «ومنهم» مشيرا بذلك إلى طائفة من طوائف المنافقين، وفاضحا لفعلة من فعلاتهم.. فهم أكوان وليسوا كونا واحدا، وهم أبعاض من هذا الجسد المتضخم من الفساد والعفن، الذي يضمهم، ويشتمل عليهم. وفى قوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ» الجزء: 5 ¦ الصفحة: 801 بيان لضرب من نفاق المنافقين، وكشف لوجه من وجوههم المنكرة.. فهذا واحد منهم يرى النبىّ صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم «هوازن» بعد غزوة حنين، ويتألف بها من يتألف من الذين دخلوا فى الإسلام بألسنتهم، ولمّا يدخل الإيمان فى قلوبهم.. يرى ذلك فلا يستطيع أن يغالب نفاقه، ولا أن يمسك ما انطوت عليه نفسه من اتهام لرسول الله، فيقول- والرسول بين صحابته، وعلى رأس الجيش الظافر الغانم- يقول له: «يا رسول الله اعدل» ! .. وهل يتفق قوله: يا رسول الله، ثم قوله لرسول الله: اعدل؟ وهل يكون من رسول الله غير العدل؟ ولكنه جهل الجاهلين، وضلال الضالين! وقائل هذه القولة الفاجرة الآثمة- كما يقول الرواة- هو ذو الخويصرة، واسمه حرقوص بن زهير التميمي.. ولا يجد الرسول ما يقوله لهذا السفيه، إلا تلك الكلمة الوادعة المشرقة: «ومن يعدل إذا لم أعدل؟» .. فأى عدل يبقى فى هذه الدنيا إذا لم يكن إلى يد الرسول ميزان العدل كله؟ وإذا لم يعدل الرسول فمن يعدل بعده؟. ويهمّ بعض أصحاب رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- بتأديب هذا السفيه الأحمق الجهول.. فيقول لهم الرسول الكريم: «دعوه، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم.. يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة» !. وليس ذو الخويصرة هذا- الذي يقال إنه صاحب هذه الكلمة المهلكة- ليس وحده هو الذي كان على هذا الضلال الذي أنطقه بما نطق به، وإنما كان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 802 هناك غيره كثير من الذين يرون ما يرى، ولكنهم لم يظهروا ما بأنفسهم، وطووا صدورهم على ما فيها من زيغ وضلال.. وإنما نظم ذو الخويصرة وأمثاله فى سلك المنافقين، مع أنّه صرّح بما كان يضمر من كفر وضلال- على حين أن النفاق إنما يكون نفاقا إذا كان صاحبه على ظاهر هو خلاف الباطن- نقول إنه عدّ فى المنافقين هو وأمثاله، لأن النفاق فى الواقع هو كفر مضمر، وكون المنافق يفضحه نفاقه بين الحين والحين، فينكشف منه بعض ما أضمره، لا يرفع ذلك عنه صفة النفاق، فإنه إذا أظهر بعضا من كفره، فإن ما أخفى من هذا الكفر أكثر وأعظم.. وفى مثل هؤلاء المنافقين يقول الله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ» (118: آل عمران) .. فالمنافق منافق وكافر معا. واللمز: الغمز الخفيف، وذلك يكون بالإساءة باللسان، بالكلمة الجارحة، تجىء فى خبث ومورابة.. والمنافق لا يأتى البيوت من أبوابها، وإنما يدخل متلصصا.. وفى الذي صنعه النبي- صلوات الله وسلامه عليه- بغنائم هوازن ما خفى على كثير من المسلمين حكمته، فكان لذلك وسواس فى كثير من الصدور، وهمس على الشفاء، وتغامز بالعيون.. حتى لقد عرف ذلك فى الأنصار، الذين هم ما هم فى حساب الإسلام، وفى مجتمع المسلمين.. ولقد قال قائلهم حين أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى للمؤلفة قلوبهم، كأبى سفيان، ومعاوية بن أبى سفيان، وعتيبة بن حصن الفزاري، وغيرهم- قال قائلهم: لقى والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه!!. ولم تكن هذه القولة من بعض الأنصار شكّا فى دين الله، ولا اتهاما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 803 لرسول الله، ولكنها كانت إشفاقا من أن يكون ذلك تحولا بمركز الدعوة الإسلامية من المدينة إلى مكة، وعودة برسول الله إلى بلده الذي أخرج منه! حيث كان المؤلفة قلوبهم جميعا من مكة وما حولها.. هذا هو الشعور الذي كان مستوليا على الأنصار فى مجموعهم، وإن كان قد حمل عند بعضهم ممن نافقوا فى الإسلام، كعبد الله بن أبىّ بن سلول- على غير هذا المحمل، فكان اتهاما صريحا للرسول، بتعصبه لقومه، وميله إليهم، وإيثارهم على الأنصار، بعد أن دخلوا فى دين الله، وآمنوا برسول الله، وبعد أن دخل الناس فى دين الله أفواجا، ولم يعد الأنصار وحدهم هم حماة هذا الدين وأنصاره، كما يبدو ذلك فى ظاهر الحال. ولهذا، فقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار إليه، وجمعهم حوله، واستخلصهم من بين المسلمين جميعا.. ثم خطبهم- صلوات الله وسلامه عليه- قائلا: «يا معشر الأنصار! ما قالة بلغتني عنكم، وموجدة وجدتموها علىّ.. حتى لقد قلتم لقى رسول الله قومه! «أوجدتم يا معشر الأنصار فى لعاعة من الدنيا «1» تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام. «افلا ترضون أن يرجع الناس بالشاة والبعير إلى رحالهم، وترجعون أنتم برسول الله إلى رحالكم..؟   (1) اللعاعة: الشيء القليل التافه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 804 «فو الذي نفسى بيده، لو أن النّاس سلكوا شعبا، وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار.. اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار» . فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا رضينا برسول الله قسما وحظا.!» وهكذا قرت عيون الأنصار، وامتلأت قلوبهم سكينة وأمنا، إذ عرفوا أن رسول الله لن يخلى مكانه من بينهم، ولن يحرمهم هذا الخير الذي ساقه الله إليهم، وأنهم هم أهل الرسول وأنصاره، وأن بلدهم هى بلده وموطنه! وحسبهم هذا.. ولساعة من رسول الله بينهم خير لهم من الدنيا وما فيها. وهكذا، كان بيان الرسول صلوات الله وسلامه عليه، شفاء لما فى الصدور، وجلاء للبصائر، فسكنت الوساوس، وقرّت العيون، ولهجت الألسن بالحمد لله رب العالمين.. وهذا البيان الذي كشف به الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- ما خفى على الناس أمره، هو مصداق لقوله تعالى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ» .. فإن من رحمة الله بعباده المؤمنين إذا طاف بهم طائف من الريب- جاءهم بما يكشف الطريق لهم إليه، ويرفع عن بصائرهم ما تغشاها من شكوك وريب. قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ» . هو بيان لما ينبغى أن يكون عليه المسلمون جميعا، إزاء كلّ ما يقول الرسول أو يعمل.. وهو الرضا المطلق، والتسليم المطلق، بكل ما يقضى به، فهو- صلوات الله وسلامه عليه- الأمين الذي ائتمنه الله على دين الله، والقيّم الذي أقامه الله على عباد الله، وأنه- صلى الله عليه وسلم- لا ينطق عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 805 الهوى، ولا يحكم إلا بما أراه الله.. فمن آمن بالله، فلن يكون مؤمنا حتى يؤمن مما يقضى به رسول الله! وفى ذكر الرسول الكريم مرّتين فى هذا الموضع، مع ذكر الله سبحانه وتعالى- ما يكشف عن مقام الرسول الكريم عند ربّه، ويؤكد منزلته الرفيعة عنده.. «ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.. وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ.. سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ.. فما أعظم هذا الفضل العظيم، وما أسمى هذا المقام الكريم.. لهذا النبي الذي يحفّه ربّه بهذا الفضل، ويرفعه إلى هذا المقام، الذي يشرف منه مع ربّه على الناس، ويعطيهم من فضل الله ما يرضيهم ويغنيهم. وما أشقى أولئك الذين يحادّون هذا الرسول، أو يخالفون عن أمره، أو يقع فى نفوسهم ريب فى قول يقوله أو فعل يفعله.. «وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ، سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ.. إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ» . وجواب لو هنا محذوف، لدلالة الحال والمقام عليه، وهو أنه لو فعلوا ذلك لكان لهم فى هذا، الخير كله، والفلاح كله. الزكاة والتكافل الاجتماعى قوله سبحانه: «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» هو بيان مصاحب لما وقع فى نفوس المسلمين من قسمة غنائم هوازن، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 806 والتي كان النبي- صلوات الله وسلامه عليه- قد تألف بها بعض النفوس التي كانت تعادى الإسلام، وتحقد على رسول الله أن كان هو المبعوث المتخيّر لدين الله..! وقد اشتمل- هذا البيان فيما اشتمل عليه ممن لهم نصيب فى الصدقات- المؤلفة قلوبهم، الذين كان منهم من تألفه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غنائم هوازن.. وفى هذا ما يكشف عن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- كان فيما فعله فى غنائم هوازن، وفى اقتطاع قدر منها لمن أراد أن يتألف قلوبهم- كان منفذا لأمر الله، ولم يكن فيما قضى به فى ذلك منقادا لهوى أو مؤثرا لقرابة أو صداقة.. وحاشاه، صلوات الله وسلامه عليه. والآية الكريمة وإن كانت فى بيان مصارف «الصدقات» التي خصصها الفقهاء هنا «بالزكاة» حيث استبان لهم من قوله تعالى، «وَالْعامِلِينَ عَلَيْها» أن ذلك يشير إشارة صريحة إلى أن المراد بالصدقات هو الزكاة، التي لها وحدها من دون الصدقات، عاملون يعملون لتقديرها وأخذها ممن وجبت عليهم هذه الفريضة.. نقول: إن الآية الكريمة وإن كانت فى بيان مصارف الزكاة، فإن ذلك لا يمنع من أن تكون الصدقات كلها، سواء ما كان منها فريضة كالزكاة، أو تطوعا كالإنفاق فى سبيل الله، والإحسان إلى الفقراء والمساكين، وفى كل وجه من وجوه البر- لا يمنع ذلك من أن تكون جميعها محكومة بهذا البيان، موجهة فى هذه الوجوه التي أشارت إليها الآية الكريمة، ودلّت بها على وجوه المصارف التي يصرف إليها المحسنون إحسانهم، وما تجود به أنفسهم، وتقدمه أيديهم من برّ وصدقة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 807 فالفقراء.. هم أحق جماعة فى المجتمع الإنسانى، بالرّعاية والحماية، من آفة الفقر التي تفتك بهم، وتغتال المعاني الإنسانية فيهم.. ومحاربة هذه الآفة- فوق أنه واجب إنسانىّ تفرضه الأخوة الإنسانية، وتقتضيه لحمة النسب بين الإنسان والإنسان- هى حماية للأغنياء أنفسهم، وضمانة لأمنهم وسلامتهم هم، فى أموالهم وأنفسهم، من عادية الفقراء عليهم، والتذرع بكل وسيلة ممكنة، يجد فيها الفقراء منفذا ينفذون منه إلى ما عند الأغنياء، ليشبعوا جوعتهم، وليدفعوا عن أنفسهم خطر الموت جوعا.. فالسّرقة، والنهب، والاغتصاب، والقتل الفردى أو الجماعى.. كل هذا وكثير غيره مما يتولّد عنه- هو مما يراه الجياع المحرمون- إن كان للجائع المحروم أن يرى- حقّا مشروعا لهم، فى الدفاع عن النفس، واتقاء خطر الموت الذي يتهددهم.. إذ ليس عند الفقير المحروم المشرف على الموت جوعا- ما يحرص عليه، غير نفسه تلك، التي يكاد يفقدها، إن هو لم يعمل على إنقاذها، ولو كان ذلك ما يحمله على ركوب كل مهلكة.. فإنه هالك لا محالة، إن هو لم يعمل عملا فى وجه هذا الخطر الذي يتهدده.. وإنه لا بد له أن يعمل بدافع غريزة حبّ البقاء. ولن يكفّ عن العمل مادام فى صدره نفس يتردد.. إن الغريق الذي ابتلعه اليمّ لا يكفّ عن الضرب بكيانه كلّه فى وجه الماء، ضربات محمومة، مجنونة، يائسة، وكأنه بهذا ينتقم لنفسه من اليمّ الذي أوقعه فى شباكه! يقول الإمام الشافعي- رضى الله عنه-: «لا تشاور من ليس فى بيته دقيق، فإنه مولّه العقل» . أي شارد العقل، مضطرب التفكير. فالفقراء خطر يهدد المجتمع من أكثر من وجه.. يهددونه بالخروج على شرائعه السماوية والوضعية، وبالتحلل من كل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 808 نظام يحكم الجماعة، ويدفع عدوان بعضها على بعض.. وذلك بمدّ أيديهم إلى ما ليس لهم.. وفى هذا إزعاج للمجتمع، وإثارة للفتن والاضطرابات فى كيانه.. ويهددونه بإشاعة البطالة، وسوء استغلال الموارد المتاحة له.. حيث لا يجد الفقير القدرة على العمل، وهو تحت وطأة الجوع والحرمان.. وإذا وجد القدرة فلن يجد بين يديه الوسائل التي تمكنه من العمل.. وفى هذا خسارة يعود ضررها على المجتمع كله، وبخاصة أغنياء المجتمع، الذين يفقدون اليد العاملة القوية التي تعمل لهم، كما يفقدون اليد القادرة على تبادل المنافع معهم.. ومن هنا كان من تدبير الإسلام لمحاربة الفقر، وحماية الفقراء من قسوة هذه الآفة المهلكة- أن فرض على المسلمين الزكاة، وجعلها ركنا من أركان الدين، لمن ملك نصابا معيّنا من المال، وكان من تدبير الإسلام أيضا أن بدأ بالفقراء، وجعل داءهم هو الداء الأول، الذي يتهدد المجتمع، بالضّياع، ويؤذنه بالهلاك.. إن لم تعمل الجماعة جاهدة على محاربة هذه الآفة، ورصد كل قواها للقضاء عليها، وشفاء المجتمع منها.. ثم كان من تدبير الإسلام أيضا فى هذه السبيل، أن دعا إلى البرّ والإحسان، وحض عليه، ووعد المنفقين بالجزاء الجزل، والثواب العظيم.. «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» . والتكافل بين المسلمين هو ملاك الشريعة الإسلامية.. إذ المسلمون فى حقيقتهم كيان واحد.. كل فرد منهم هو عضو فى الجسد الاجتماعى الكبير.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 809 ولن تقوم سلامة هذا الجسد، إلا بسلامة جميع أعضائه.. (وَالْمَساكِينِ) هم الصنف الثاني من الأصناف الثمانية التي جعل الإسلام لكل صنف منها نصيبه فى الزكاة.. وقد اختلف المفسّرون فى التفرقة بين الفقير والمسكين، فقال بعضهم إنهم صنف واحد، والعطف الواقع بينهما هو من عطف البيان.. وقال آخرون: الفقير من يجد قوت يومه، والمسكين من لا يجده، وقال غيرهم عكس هذا.. وقال الأكثرون: الفقير الذي مع فقره لا يسأل، والمسكين هو من يسأل.. إلى كثير من الآراء التي لم تفرق تفرقة واضحة محددة، بين الفقير والمسكين. والرأى الذي نراه ونستريح إليه، هو أن المساكين، هم صنف قائم بذاته، معروف بصفة مميزة له عن الفقراء.. وهم- أي المساكين- الفقراء من أهل الذّمة الذين فرضت عليهم الجزية.. فهم- والحال كذلك- أشبه بالأرقاء، المكاتبين، الذين فرض لهم فى الزكاة نصيب.. حيث يقول تعالى: «وَفِي الرِّقابِ» . وفى يقيننا أنه ليس فى المسلمين مسكين، وإن كان فيهم الفقير.. لأن المسكين: من المسكنة والذلة والضراعة، ولا يلبس المسلم- مع الإسلام- ثوب المسكنة والذلة والضراعة أبدا، وإن عضّه الفقر، وأضرّ به الضرّ. وقد ذكر الله تعالى فقراء المسلمين، فقال سبحانه: «لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً» الجزء: 5 ¦ الصفحة: 810 كما ذكر القرآن الكريم المسكين فى معرض الذلّة والمهانة: «وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً» فهذه الأصناف الثلاثة يحتويها الضعف وتشتمل عليها الذلّة. ويقول سبحانه وتعالى: «وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ» .. فقد جمعت الآية بين العبد الرقيق، واليتيم الفقير، والمسكين المترب. وفقير المسلمين- كما قلنا- لا يكون أبدا على هذا المستوي الإنسانى من الاستكانة، والذلة، والضعف.. بل هو من إيمانه بالله فى عزّة، وقوّة وإن صفرت يداه من الأصفرين «1» ! والذّميون- وهم الذين فى يد المسلمين وذمتهم- من أهل الكتاب، فيهم- كما فى كل جماعة- من هم فى حاجة إلى الصّدقة التي تسدّ مفاقرهم، وتدفع غائلة الحاجة عنهم.. والله سبحانه وتعالى يقول: «لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» .. فإذا جعل الإسلام نصيبا مفروضا فى الزكاة لفقراء أهل الكتاب، فذلك من البر الذي دعانا الله إليه نحوهم.. ثم هو من جهة أخرى حماية للمجتمع الإسلامى الذي يعيشون فيه، من آثار هذا الداء- داء الحاجة والعوز- الذي إن سرى فى جماعة أفسدها، وأشاع الفوضى والقلق والوهن فى كيانها. «وَالْعامِلِينَ عَلَيْها» وهم الذين يوكل إليهم تحصيل الزكاة من أهل الزكاة.. فهم- والحال كذلك- مشتغلون يجمعها، عاملون فى تحصيلها، ومن تمّ وجب أن ينالوا نصيبا منها، يكفل لهم الحياة المناسبة لهم.. حياة تأخذ مكانا وسطا   (1) الأصفران: الذهب والفضة. [ ..... ] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 811 بين الفقراء والأغنياء.. إنهم عاملون، ولا بدّ لكل عامل من أجر فى مقابل ما يعمل.. «وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ» وهم الذين دخلوا فى الإسلام من زعماء العرب، ولم تخلص نياتهم له، ولم تطب نفوسهم به، إذ نزع الإسلام عنهم ما كان لهم من سلطان فى قومهم، وسوّى بينهم وبين عامة الناس.. فهم- والحال كذلك- فى حاجة إلى علاج نفسىّ يزيل ما بينهم وبين الدين الجديد من جفوة.. وفيما كان من تدبير الإسلام فى تألفهم إليه بالمال الذي يخصّهم به دون الناس- فى هذا ما يرضى نوازع السلطان والرياسة عندهم، وذلك من شأنه أن يقيم نظرهم على الدين الجديد، وأن يتيح لهم الفرصة لمراجعة حسابهم معه، فإذا كان ذلك استبانت لهم حقيقة الإسلام، وعرفوا أي دعوة يدعوهم النبىّ إليها، وأي خير يقدمه إليهم فى ثنايا الدعوة، التي تحمل إليهم سعادة الدنيا والآخرة جميعا.. فهذا المال الذي يتألّف به الإسلام تلك الجماعة التي أعماها حبّها للجاه والسلطان عن أن تنظر فى الدعوة الإسلامية، وأن تستمع إلى كلمة الحق التي يؤذّن بها الرسول الكريم فى الناس- هذا المال ليس رشوة يقدّمها الإسلام لتلك الجماعة المتأبية عليه، المزورّة عنه، حتى تسكت عنه، ولا تقف فى سبيله- وإنما الذي قصد إليه الإسلام من هذا، هو أن يروض جماح هذه الجماعة، ويهدىء من ثائرتها، ويطفىء من نار حنقها، وضغنها على الإسلام، حتى تستطيع أن تنظر إليه، وتعرض دعوته على العقل، بعيدا عن دخان الحقد، وضبابه.. وبهذا يكون حكم هذه الجماعة على الدين الذي يدعون إليه، حكما صحيحا، قائما على النظر، والتعقل، والتدبر.. والإسلام لا يريد من الذين يدعوهم إليه أكثر من هذا.. إنهم يريدهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 812 على أن ينظروا إليه، ويتعقلوه، ويتدبروا آياته.. «فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ» (137: البقرة) .. ذلك أنه ليس من الخير للإنسان فى نفسه أن يدين بدين لا يعرضه على عقله، وينظر فيه بنفسه، ويجد فيه داعيا مسمعا يدعوه إليه، وعاطفة قوية تعطفه عليه.. فإنّ دينا يدخل على الإنسان من غير هذا الطريق- طريق النظر والاقتناع-، لا يكون له سلطان مؤثّر فى سلوك الإنسان، وفى انتفاعه بما يحمل هذا الدين من عقيدة أو شريعة.. هذا، ويرى كثير من الفقهاء أن نظرة الإسلام إلى هذا الصنف من ضعاف الإيمان الذين تألفهم الإسلام بالعطاء- إنما كان ذلك فى أول الإسلام، حيث حاجة المسلمين إلى من يكثّر جمعهم، ويسند ظهرهم من الرجال.. ولكن لمّا قويت شوكة الإسلام، وكثرت أعداد المسلمين لم يكن ثمة داع يدعو إلى عملية التأليف هذه، فقد تبيّن الرشد من الغى.. فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، وإن الله لغنىّ عن العالمين.. وعلى هذا، فقد أسقط القائلون بهذا الرأى فريضة المؤلّفة قلوبهم، من الزكاة، بعد أن قوى الإسلام، كما أسقطوا فريضة من فى الرقاب، وهم الأرقاء المكاتبون، بعد أن انتهى الرقّ. والذي نراه، أن تأليف القلوب، وشدها إلى الإسلام، والعمل على تعاطفها معه، أمر لازم للدعوة الإسلامية فى حال ضعف المسلمين وقوتهم على السواء. فتأليف القلوب على الإسلام، وقتل ضغنها عليه، وشنآنها له- هو تدبير حكيم، وسياسة رشيدة، لا تستغنى عنها دعوة جاءت لهداية الناس، وخيرهم، وإسعادهم.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 813 فهذا التدبير الحكيم من شأنه «أولا» أن يشفى هؤلاء المرضى- مرضى القلوب- من دائهم الذي عزلهم عن الإسلام، وحجزهم عن الانتفاع به، والاهتداء بهديه.. وهو «ثانيا» إذ يجلب للمسلمين قوّة جديدة بإضافة هؤلاء المؤلفة قلوبهم إليه، يدفع عن الإسلام والمسلمين شرّا كان يتربص به، وعداوة كانت تتحين الفرص للنيل منهم. وإذن، فتأليف القلوب على الإسلام، وسلّ السخائم والأضغان عليه منها، أمر ينبغى أن يكون من سياسة الإسلام دائما، ومن عمل المسلمين، فى كل حال ممكنة لهم، سواء أكان ذلك بالمال أم بغيره مما يتألف الناس، ويسلك بهم مسالك الخير، ويقيمهم على طريق الهدى.. وإن دعوة الإسلام فى صميمها لتقوم على هذا الأساس المتين.. وقوله تعالى لنبيه الكريم: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» هو المفتاح الذي وضعته السماء فى يد النبىّ ليفتح به مغالق القلوب، وليتألفها به، ويستولى على مواطن الاطمئنان منها. وبهذا المفتاح نفسه يستطيع دعاة المسلمين أن ينفذوا بدعوة الإسلام إلى الصميم من القلوب، وإنه لا بأس من أن يرفدوا ذلك بما يرون من بر وإحسان لمن يدخلون فى الإسلام، ليطعموا من ثمر الأخوة الإسلامية، وليفيئوا منها إلى ظل ظليل. «وَفِي الرِّقابِ» . وهم الأرقاء الّذين كاتبهم مالكو رقابهم على قدر من المال، فى مقابل تخليصهم من الرّق. فهؤلاء الأرقاء أعضاء ضعيفة، فى جسم المجتمع.. وإنه لكى لا يشيع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 814 الضعف فى هذا الجسم، ولكى يكون على أحسن ما يمكن من الصحة والسلامة، يجب أن يعمل على تخليصه من دواعى الضعف التي ألمت به، لا باستئصال هذه الأعضاء الضعيفة، كما تدعو إلى ذلك بعض المذاهب المادية، ولكن بالطبّ لها من دائها، وتصحيح آدميتها، ونظمها فى سلك الآدميين. وسنعرض بعد شرح هذه الآية لموقف الإسلام من الرق، وسياسته فى تخليص الأرقاء.. إن شاء الله.. «وَالْغارِمِينَ» وهم المدينون، الذي رهقهم الدين، ولم تكن لهم موارد يؤدون منها الدين.. فهذه الجماعة التي ركبها الدين، هى فى معرض الضّياع، أو الانحلال، أو الفساد، إن لم تجديدا رحيمة تمسك بها، وترفع عن كاهلها هذا العبء الثقيل.. الذي هو همّ بالليل ومذلة بالنّهار. وفى تسمية المدينين بالغارمين، إشارة إلى أن الدّين أيّا كان هو غرم واقع على صاحبه.. لأنه يحمّل المدين عبثا إلى العبء الذي كان يحمله، من ضيق ذات اليد قبل أن يستدين، فهو حين استدان، قد وضع فى يده غلّا جديدا، وأضاف على كاهله حملا فوق حمل. وأن هذا اليسر الذي وجده بعد أن استدان لم يكن إلا أمرا عارضا لا يلبث أن يزول، ويعود الحال به إلى ما كان عليه، بل وأسوأ مما كان عليه. فالدّين غرم.. هكذا يجب أن تكون نظرة المدين إليه، فلا يقدم عليه إلا عند الاضطرار، وإن أقدم عليه فلا يستدين إلا بقدر ما يدفع الحاجة الملحّة التي تبرّر له مدّ يده للاستدانة! ومن جهة أخرى.. فإن الإسلام إذ وصف الدين بتلك الصفة، وجعله غرما على المدين لا غنما له- فإنه من جهة أخرى حبّب إلى أصحاب الغنى واليسار أن يقرضوا المعسرين من إخوانهم، حتى يحموهم من التعامل بالرّبا.. كما دعا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 815 المدينين إلى قضاء دينهم عند أول فرصة تمكنهم من قضائه.. وفى هذا يقول الرسول الكريم: «مطل الغنىّ ظلم» .. وقد عرضنا لذلك عند تفسير آية الدّين فى سورة البقرة «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ.. الآية» . وفى نظرة الإسلام إلى «الْغارِمِينَ» وفرض نصيب لهم فى الصّدقات، سياسة حكيمة، وتدبير محكم، يريد به الإسلام أن يصحح أوضاع المجتمع الإسلامى، ويقضى على العلل التي تنجم فيه، قبل أن تعظم وتستشرى.. فالمدين الغارم- وهو أشبه بالمفلس- إذا ترك وشأنه، وتلك حاله- لم يستطع الوفاء بقضاء دينه.. وينشأ عن هذا أمور: منها ضياع مال الدائن، الذي خفّ متطوّعا لإنقاذ المدين، والأخذ بيده فى ساعة العسرة.. والدائن إنما عمل خيرا، ومن حقّه أن ينتظر خيرا لما فعل.. فإذا جاءت عاقبة أمره مع المدين على تلك الصورة، ضاقت نفسه بفعل الخير بعد هذا، وكره أن يدخل فى تجربة جديدة كتلك التجربة.. والإسلام حريص على إشاعة المعروف بين النّاس، وتبادل الإحسان بين أفرادهم وجماعاتهم.. وموقف كهذا الموقف يقبض بد الناس عن الإحسان، ويزهدهم فيه. ومنها: أن المدين نفسه، إذا ما وصلت به الحال إلى اليأس من قضاء دينه، صغرت نفسه بين الناس، وخفّ ميزانه فيهم.. ثم لا يلبث حتى ينعكس ذلك على نظرته هو إلى نفسه.. ثم يصبح وإذا هو إنسان ساقط المروءة، متعثر الخطا، مضطرب الحياة، ضائع الوجود. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 816 وإذ فرض الإسلام نصيبا من الزكاة، أو بمعنى آخر من بيت المال، ورصده لقضاء دين المدينين المفلسين، فإنّه حمى بذلك الدائن والمدين جميعا.. وأبقى على مشاعر البرّ والإحسان بين النّاس، وقطع دواعى الشحناء والعداوة بينهم. هذا، وقد رأى بعض الفقهاء أن يقيّد الدّين هنا بحيث لا يكون قد استدين للإنفاق منه فى حرام، أو فى سرف وتبذير.. ولا نرى حكمة لهذا القيد الذي يرد على الآية فى إطلاقها، فيضيق دائرة نفعها، ويحجز خيرها المطلق، ورحمتها الواسعة عن أن تنال كل غارم مشرف على الهلاك والضياع.. إن الحكم القرآنى- هنا- يواجه حالا واقعة، ويداوى علّة قائمة، ويستنفذ غريقا مشرفا على الغرق.. وإذ كان الأمر على تلك الصفة، فإنه ليس من الحكمة، ولا من المنطق أن يقلّب الإسلام صفحات هذا الإنسان، ويستعرض تاريخه.. ثم ليحكم أهو أهل لأن يمدّ إليه يده فينقذه، أم يدعه حيث هو ليلقى مصيره المحتوم.. وكلا.. فإن المطلوب، أولا، هو إنقاذ هذا الإنسان، دون نظر إلى أي اعتبار آخر.. فإذا أنقذ، كان من الممكن أن ينصح له، وكان من المرجوّ له أيضا أن ينتصح، وأن يتقبل هذا الإحسان الذي يجىء إليه فى صورة هداية وتبصرة له، بعد أن تلقّى هذا الإحسان الذي أمسك عليه حياته، وأنقذه من وطأة الدين الذي أنقض ظهره! وأكثر من هذا، فإن الإسلام، تكفّل- من بيت المال- بقضاء دين المدينين، ممن يتوفّون، وليس فى تركتهم ما يقضى دينهم.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 817 يقول الرسول الكريم: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم.. من مات وعليه دين فأنا وليّه.. ومن مات وله مال فماله لورثته!» هذا شىء رائع معجز.. لا يمكن أن يقع فى حساب تشريع وضعىّ، مهما بلغ من المثاليّة والإحكام.. وإنما هو ممّا تجىء به السّماء من رحماتها وبركاتها. وإنه بحسب الإسلام أن يقدّم للإنسانية هذه اللفتة الرائعة من لفتاته فى بناء المجتمع، وحياطة بنيانه من دواعى التصدّع والتشقق.. فتلك نظرة من نظراته النافذة إلى الصميم من حياة المجتمع، لا تستطيع الشرائع الوضعية فى أعمق نظراتها أن تحوم حولها. «وفى سبيل الله» . المراد بسبيل الله هنا، ما ينفق من مال الصدقات فى تجهيز المجاهدين فى سبيل الله، وفى إمدادهم بالعتاد والسلاح والمؤن وغيرها، مما يعين المجاهدين على الجهاد، لتأمين المجتمع، وحمايته من عدوان المعتدين.. «وابن السبيل» .. وهو المسافر، المنقطع عن أهله.. ولا زاد معه.. والمسافر الذي على تلك الصفة، هو إنسان فى معرض الضياع والهلاك، إن لم يجد اليد الرحيمة التي تمتد إليه بالبر والإحسان، فتدفع عنه عادية الجوع التي تهجم عليه، وتريد اغتياله.. وفى جعل بيت المال هو الذي يقوم بهذا الأمر، ويتولّى رعاية أبناء السبيل- فى هذا ضمان موثّق لحماية هذه الطائفة، إذ كان بيت المال بموارده الكثيرة، أقدر على كفالة هذه الجماعة، وتوفير أسباب الحماية لها.. ثم هو- من جهة أخرى- صيانة لكرامة الإنسان، من أن يمدّ يده إلى غيره من الناس، أو أن يستشعر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 818 أنه عالة على أحد.. الأمر الذي عافاه الله منه، إذ جعل إلى «بيت المال» كفالة هذا الإنسان، والبرّ به، والإحسان إليه.. ومن جهة أخرى.. فإن الإسلام قد نظر نظرة أوسع من هذا، فلم يجعل إلى بيت المال وحده، القيام بهذا الواجب حيال أبناء السبيل.. فقد يكون ابن السبيل فى مكان لا تصل إليه يد «بيت المال» .. وقد يكون «بيت المال» ولا مال فيه يتّسع للوفاء بحاجة المحتاجين من أبناء السبيل. ومن أجل هذا، فقد فرض الإسلام على المسلمين جميعا، القيام بهذا الواجب إذا عرض لهم، وطلع عليهم ابن سبيل أو أبناء سبيل! روى البخاري ومسلم، عن عقبة بن عامر قال: قلنا يا رسول الله، تبعثنا «1» فننزل بقوم فلا قروننا «2» ، فما ترى فى ذلك؟ فقال- صلى الله عليه وسلم: «إذا نزلتم بقوم فأمروا لكم ما ينبغى للضيف فاقبلوا منهم، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغى لهم «3» » . وعنه صلى الله عليه وسلم قال: «أيّما مسلم ضاف قوما فأصبح الضيف محروما، فإن حقّا على كل مسلم نصره، حتى يأخذ بقرى ليلته.. من زرعه أو ماله.» وعن أبى كريمة، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليلة الضيف واجبة على كل مسلم، فإن أصبح بفنائه محروما كان دينا عليه، فإن شاء اقتضاه «4» ، وإن شاء تركه!» . فإلى هذا الحدّ تبلغ عناية الشريعة الإسلامية ورعايتها للفقراء، والضعفاء،   (1) أي فى سبيل الله. (2) أي فلا يقدمون لنا ما يقدم للضيف. (3) أي الذي ينبغى للضيوف. (4) اقتضاه: أي أخذه الضيف منه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 819 فى المجتمع الإسلامى، حتى لتجعل فرضا على كل مسلم نزل به ابن سبيل، أن يجعله ضيفا عليه، وأن يقدّم إليه من البشاشة والرعاية والإكرام ما يقدّم للضيف العزيز، دون منّ أو أذى، ودون ضيق أو تكره.. وفى تسمية ابن السبيل ضيفا، رعاية لهذا الواجب الذي ينبغى للمضيف أن يؤديه له، وصيانة لابن السبيل من أن ينظر إليه، أو ينظر هو إلى نفسه نظرة المتطفل.. وكلا إنه صاحب حق، وهو إذ ينزل بأحد المسلمين، فإنما ليستقضى حقّه عنده! فأين فى دنيا الناس، هذا المجتمع الذي ينزل فيه الفقير والمسكين منزلة الضيف العزيز المكرم؟ إن ذلك لن يكون إلا فى المجتمع الإسلامى، الذي يحفظ شريعة الإسلام، ويقيم سلوكه عليها!! «فريضة من الله» . أي هذا التشريع الذي شرعه الله فى أموال الأغنياء، ثم ردّ هذه الأموال على تلك الجهات، التي بينها الله سبحانه وتعالى فى الآية الكريمة- هذا التشريع، هو فرض محكم فرضه الله على المسلمين، وأوجب عليهم أداءه، على هذا الوجه الذي شرعه. «وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» . أي أن هذا التشريع الذي شرعه الله سبحانه وتعالى، هو مما قضى به علمه وحكمته.. علمه الذي يحيط بكل شىء، وينفذ إلى كل شىء، ويستولى على كل شىء.. وحكمته المقدّرة لكل أمر، المحكمة لكل تدبير.. فليس بعد قضاء الله قضاء، ولا بعد تدبيره تدبير، ولا وراء حكمه حكم.. من أخذ به اهتدى وأمن، وسعد، ومن عدل عنه، ضلّ وخاب وشقى! الجزء: 5 ¦ الصفحة: 820 الآيات: (61- 63) [سورة التوبة (9) : الآيات 61 الى 63] وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) التفسير: وهذا صنف آخر من أصناف المنافقين، ووجه من وجوههم المنكرة.. صنف يتخذ من الاستهزاء بالنبيّ والسخرية منه، مادّة يطعم منها فى شراهة ونهم، ليشبع بذلك جوعا مسعورا من الحقد على الإسلام، والشنآن له، وللرسول الذي حمل رسالته. وقد ضبط القرآن الكريم هذه الجماعة الآثمة، وهى قائمة على هذا الإثم، تلوكه فى أفواهها المنكرة، كما تلوك الكلاب قطعا من العظم الرميم.. فكان ذلك فضحا لهم على الملأ، وخزيا متنقلا معهم فى كل مكان، ينادى عليهم بالذلة والمهانة والصغار! يقولون- خرست ألسنتهم- عن النبي الكريم: هو «أذن» أي يعطى أذنه لكل قائل يلقى فيها ما يقول له! فكلمات النفاق الكاذبة التي يلقونها بين يدى النبىّ، ويحلفون عليها كذبا وزورا- هذه الكلمات يخيّل إليهم أن النبىّ الكريم- إذ يقبلها منهم، أو يسكت عليها فلا يبهتهم بها- أنه يحمل كلماتهم الكاذبة المنافقة تلك، محمل الصدق، ولهذا فهم يقولون فى النبىّ هذا القول المنكر: «هو أذن» فحين آذن النبىّ الكريم المسلمين بغزوة تبوك، وندبهم جميعا إلى الجهاد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 821 فى سبيل الله- جاء إليه- صلوات الله وسلامه عليه- كثير من المنافقين يعتذرون إليه بأعذار كاذبة، وقد قبلها النبىّ منهم، وتركهم وما اختاروا لأنفسهم، من القعود عن الجهاد، وإيثار العافية والسلامة لأنفسهم، على ما عند الله للمجاهدين، من رضى ورضوان. وماذا يكون من النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- حيال هؤلاء المعتذرين عن الجهاد، غير الذي فعله معهم؟ إذ تركهم لشأنهم، وأعفاهم من مئونة الجهاد مع المجاهدين؟. وماذا كان غناء أمثال هؤلاء المتكرهين للجهاد، إذا هم حملوا عليه حملا، وأخذوا به قسرا؟ أمثل هؤلاء يكون للمسلمين منهم قوة ينتفع بها فى هذا المجال؟. إن الجهاد فى سبيل الله قرية من أعظم القربات إلى الله.. والقربات إنما لكى تقع موقعها من القبول عند الله سبحانه وتعالى- ينبغى أن تكون عن تطوع واختيار، وعن استعداد للتضحية والفداء، بل وعن اشتهاء للتضحية والفداء! إن هؤلاء المتكرهين للحرب، المؤثرين للسلامة والعافية فى أنفسهم، على الجهاد فى سبيل الله، والاستشهاد فى سبيل الله- هؤلاء هم أشدّ على المجاهدين بلاء من العدو الذي يلقونه فى ميدان القتال.. إن هؤلاء المنافقين هم صوت الهزيمة الذي يندسّ بين المجاهدين، وإنّهم لهم السلاح الخفىّ للعدوّ يضرب به فى جبهة المجاهدين.. ولهذا، فقد كان ما فعله النبىّ، من عزل هذه الجماعة المثبطة، عن الجيش المجاهد- كان ذلك هو الحكمة فى صميمها، ولهذا جاء قوله تعالى: «لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ» - جاء مؤيدا لما رآه الرسول فى هؤلاء المعتذرين، حيث الجزء: 5 ¦ الصفحة: 822 قبل منهم ما اعتذروا به، ولم يراجعهم فيه، ولم يدخل معهم فى جدل لا جدوى معه. ولا ينقض هذا التأييد السماوي لرأى النبىّ فى هؤلاء المعتذرين، ما جاء من عتاب للنبىّ من الله سبحانه وتعالى فى قوله جلّ شأنه: «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ» . فهذا العتاب، هو- فى الواقع- مدح للنبىّ، ورضى كريم عنه، على حين أنه فضيحة لهؤلاء المعتذرين، وكشف لنفاقهم.. وقد ردّ الله سبحانه وتعالى على هؤلاء المنافقين بما يكبتهم، ويملأ قلوبهم حسرة وكمدا.. فقال جلّ شأنه: «قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ» . ففى قوله تعالى: «قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ» أمور: منها: أن النبىّ صلوات الله وسلامه عليه، هو المأمور بتبليغ هذا الرد السماوي، بقوله تعالى: «قل» .. وفى هذا تكريم للنبىّ، بوضع هذا السلاح السماوىّ فى يده، ليضرب به فى وجه هؤلاء الذين آذوه بهذا المنكر من القول الذي قالوه عنه.. ومنها: الإشارة إلى النبىّ الكريم بضمير الغيبة «هو» وظاهر النظم يقضى بأن يكون النبىّ هو المتحدّث عن نفسه.. هكذا: قل إننى أذن خير لكم» - وفى هذا إشارة إلى أن الذي يتولى الدفاع عن النبىّ، هو الله سبحانه وتعالى، وأنه إذا كان النبىّ فى غير محضر من هؤلاء الذين يقولون فيه هذا القول المنكر، فإن الله سبحانه وتعالى، هو وليّه، وهو الذي يدافع عنه، ويفضح المتآمرين عليه.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 823 ومنها: ما تضمن هذا الردّ من أن النبىّ هو أذن خير لهؤلاء المنافقين: «قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ» .. فكيف هذا، وهم فى معرض العقاب والتقريع؟. والجواب على هذا- والله أعلم- أنه عليه الصلاة والسلام مبعوث بالهدى والرحمة، وأنّ أذنه التي يعيبها أولئك المنافقون بتصديق ما يلقى إليها من أخبار، هى أذن خير، ووعاء رحمة، تتلقى ما ينزل إليها من كلمات الله وآياته، فتنقله إلى الناس، وتؤدّيه لهم كما سمعته.. فأذن الرسول، هى وعاء خير خالص للناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم، برّهم وفاجرهم، ذلك أن الرسول يؤذّن بكلمات ربّه التي سمعها من الرّوح الأمين- يؤذّن بها فى الناس جميعا.. فمن سمع وعقل ووعى، فقد أخذ لنفسه بحظها من هذه الخير العام وتلك الرحمة الشاملة، ومن أصمّ أذنيه، وأعرض عن آيات ربّه، فقد حرم نفسه الخير كلّه، وأوردها الضلال والهلاك.. فلو أن هؤلاء المنافقين استمعوا لكلمات الله، ولم يمكروا بها، لكان لهم من ذلك الخير كلّ الخير.. ولكنهم نافقوا، ومكروا، فمكر الله بهم، وحرمهم أن ينالوا من تلك النعمة شيئا.. وقوله سبحانه: «يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ» بيان لقوله تعالى: «أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ» يكشف عن صفات هذا الرسول الكريم، الذي يقول فيه المنافقون هذا القول المنكر.. أي أنه عليه الصلاة والسلام، أذن خير للناس جميعا.. يسمع كلمات الله فيصدّقها ويؤمن بها، ويسمع ما يحدّثه به المؤمنون فيصدّقهم، لأن من شأن المؤمن ألّا يكذب.. ثم هو عليه الصلاة والسلام، رحمة للمؤمنين، الذي صدّقوا الرسول وآمنوا بما جاءهم به من عند الله سبحانه وتعالى.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 824 وفى هذا تعريض بالمنافقين، بأنهم آذان سوء.. لا تستمع آذانهم خيرا، وإن سمعته مجّته، وتغيّرت معالمه فيها.. فلا تعرف للحق وجها، ولا تنال من الخير المحمول إليها فيه شيئا.. قوله سبحانه: «وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» هو تهديد ووعيد لأولئك المنافقين، الذين يؤذون رسول الله بتلك الكلمات المنكرة، التي يصفون بها الرسول هذا الوصف الشنيع، ويتطالون بها على مقامه الكريم، فى غير حياء من دين أو خلق. فهؤلاء قد أعدّ الله لهم عذابا أليما، انتقاما منهم لرسول الله، وجزاء وفاقا لهذا العدوان الآثم على مقامه الكريم.. قوله تعالى: «يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ» هو تسفيه لموقف هؤلاء المنافقين الذي يتخذونه من المؤمنين، حين يجيئون إليهم معتذرين، عما شاع عنهم من قولهم المنكر فى رسول الله.. فهم يدفعون عن أنفسهم هذا الاتهام الذي يتهمهم به المؤمنون، بالحلف كذبا أنّهم ما قالوا شيئا يمسّ رسول الله.. وهم فى هذا كاذبون منافقون.. لأنهم لو كانوا مؤمنين حقّا لكان أول ما يعنيهم من أمرهم، هو براءة ساحتهم عند الله، وذلك بإخلاص إيمانهم، وسلامة قلوبهم، وإخلاء ضمائرهم من النفاق الذي يموج فيها.. فلو أنهم فعلوا هذا لكانوا مؤمنين حقّا، ولرضى الله عنهم ورسوله، ولما كان بهم من حاجة إلى استرضاء المؤمنين والحلف لهم، لأن المرء إذا لم يكن متّهما عند نفسه، لا يجد داعية إلى دفع اتهام هو منه برىء، كما لا يجد داعية إلى الحلف، إن هو أراد دفع هذا الاتهام.. وفى مخالفة النظم فى قوله تعالى: «وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ» الجزء: 5 ¦ الصفحة: 825 لما يقتضيه السياق، وهو أن يعود الضمير على الله والرسول هكذا: «يرضوهما» - فى هذه المخالفة ما يشعر بأن فى رضى الله رضى الرسول، وأن فى رضى الرسول رضى الله سبحانه وتعالى.. إذ ليس فيما يرضى الله ما لا يرضى الرسول، ولا فيما يرضى الرسول ما لا يرضى الله.. ولو جاء النظم على ما يقتضيه ظاهر السياق، فجاء هكذا: «والله ورسوله أحقّ أن يرضوهما..» - لكان من معنى هذا، أن لله سبحانه وتعالى ما يرضيه من عباده، وأن للرسول- صلوات الله وسلامه عليه- ما يرضيه منهم، وأن هذا الذي يرضى الله، وذلك الذي يرضى الرسول، قد يتفقان، وقد يختلفان.. أما الذي جاء عليه النظم القرآنى، فإنه لا يدع مجالا لهذا الاحتمال، بل يجعل التوافق تأمّا مطلقا، بين ما يرضى الله، ويرضى رسول الله.. وفى هذا- فوق أنه تكريم للرسول، وتنويه بقدره، وتشريف للرسالة الكريمة التي يحملها- هو إعجاز من القرآن، فى إحكام نظمه، وصدق أدائه، ووزن كلماته وحروفه، بمعيار لا تستطيع قوة بشريّة أن تمسك به، لدقّته، وعلوّه عن مستوى الحواس والمدركات. ومن جهة أخرى، فإنه لو عاد الضمير على الله والرسول معا، لكان فيه إخلال بمقام الألوهية، وتسوية الخالق بمخلوق من مخلوقاته، والله سبحانه وتعالى منزّه عن أن يشاركه فى جلاله بشر، ولو كان أكرم الخلق عليه!. فاقتضى هذا المقام أن يجىء الضمير مفردا، يعود إلى الله سبحانه، وكفى الرسول الكريم شرفا أن يجىء تابعا لله سبحانه فيما يرضيه.. وعلى هذا جاء قوله تعالى: «وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ» ولم يجىء النظم هكذا: «أن الله ورسوله بريئان من المشركين..» فهذا وذاك على سواء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 826 قوله تعالى: «أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ» هو تهديد بعد تهديد، ووعيد بعد وعيد، لهؤلاء المنافقين الذين يحادّون الله ورسوله، ويعلنون هذه الحرب السفيهة بألسنتهم على الله ورسوله، بما يذيعون من كلمات السوء فى رسول الله.. وليس لمن يحارب الله ورسوله، إلّا أن يصلى عذاب الله، ويأخذ مكانه فى جهنّم خالدا فيها.. وذلك هو الخزي العظيم للمنافقين، حين يساقون إلى جهنّم، ويدعّون فيها دعّا، على حين تفتّح أبواب الجنات للمؤمنين، الذين أسلموا وجوههم لله، وأخلصوا دينهم له، فلم تحمل قلوبهم نفاقا، ولم تجر على ألسنتهم كلمة منافقة. الآيات: (64- 70) [سورة التوبة (9) : الآيات 64 الى 70] يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 827 التفسير: قوله تعالى: «يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ» . هو نذير للمنافقين بفضح نفاقهم على الملأ، وكشف ما بيّتوا من نفاق.. بل إن الأمر لأكثر من هذا، فقد فضح الله كثيرا من المنافقين، ونزلت آيات الله تحدّث بما كان يسرّ به بعضهم إلى بعض، بل، وبما كان لا يزال مضمرا من السوء فى صدورهم، لم يطلع عليه أحد، بعد! ومن هنا كان بلاء المنافقين، وكان الخوف الذي يطلّ عليهم من حيث لا يحتسبون.. فالله سبحانه وتعالى مطلع على ما يدور بينهم، عالم بما يجرى فى خواطرهم.. ومحال أن يفلتوا من الفضيحة.. وأمر واحد هو الذي يضمن لصاحبه الأمن والسلامة، من هذا البلاء المبين، وهو أن يتخلّص من النفاق جملة، وأن يخلّص إيمانه من كل شائبة نفاق، وعندها يجد الإنسان أن سرّه وعلانيته على سواء، وأنه لا يسوؤه بحال أبدا أن ينكشف للناس باطنه، كما انكشف لهم ظاهره! وفى قوله سبحانه: «قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ» - تهديد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 828 ووعيد لمن أمسكوا قلوبهم على نفاق، وعقدوا نياتهم عليه.. فالله- سبحانه- مخرج ما أمسكته قلوبهم، وما انطوت عليه نياتهم! وليس من الممكن أن يتصور أحد ما الذي كان يعيش فيه المنافقون يومئذ، من كرب وفزع، وهم يرون كل يوم صرعاهم، وقد رمتهم كلمات الله بسهام نافذة لم تخطىء صميم الداء منهم! ولقد كان ما صنعه الله بالمنافقين فى عهد الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- وفى فضح من فضح منهم- حماية للمجتمع الإسلامى الأول من هذا الداء الخبيث، ووقاية للمؤمنين من أن يطوف بهم طائف منه.. حتى لقد كان صحابة رسول الله- وهم من هم- يضعون أنفسهم تحت مراقبة دقيقة منهم، لكل خاطرة تخطر لهم، ولكل وسواس يطوف بهم.. ومن هنا ندرك السرّ فى هذا الصفاء الروحىّ، الذي كان عليه صحابة رسول الله، وتلك العظمة الإنسانية التي اشتملت عليها نفوسهم، والذي كان من آثاره ما شهدته الحياة- وربما لأول مرة ولآخر مرة أيضا- من مجتمع مثالىّ، يحكمه وازع الضمير، ويقوم فيه مقام السلطان القاهر، الذي يتسلط على كل نفس، ويأخذ على كل جارحة؟ وفى قصتى «ما عز» والمرأة الغامدية شاهد مبين، يحدّث بأن المجتمع الإسلامى فى عهد الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- كان تحت مراقبة سماوية تتكشف للناس منها سرائرهم، كما تتكشف لهم صور المرئيات على المرايا العاكسة، فإن عمى الإنسان عن أن يرى نفسه فيها، رآه الناس من حوله، من قريب وبعيد! وتتلخص قصة ما عز بن مالك، فى أنه قد غالب شهوته فغلبته، فأتى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 829 الفاحشة.. فلما استيقظ من سكرة تلك الشهوة الغالبة أنكر نفسه، ولم يطق صبرا على الحياة مع تلك النفس الأمارة بالسوء.. ففزع إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم، يطلب النجاة عنده.. فقال: يا رسول الله. طهرنى.. فعرف الرسول أنه جاء ليقام عليه حدّ الزّنا، وهو الرجم، إذ كان «ما عز» محصنا. فقال الرسول الرحيم: «ويحك.. ارجع، فاستغفر الله، وتبّ إليه!» فرجع غير بعيد.. ثم جاء فقال: يا رسول الله.. طهرنى.. فقال صلوات الله وسلامه عليه: «ارجع، واستغفر الله، وتب إليه..» فرجع، ثم عاد فقال: يا رسول الله طهّرنى.! فقال الرسول الكريم: «ارجع واستغفر الله وتب إليه» . فرجع، فقال: يا رسول الله طهرنى.. فقال صلوات الله وسلامه عليه: ففيم أطهّرك؟ فقال: من الزّنا.. فقال صلى الله عليه وسلم. «أيه جنون؟» .. فأخبر أنه ليس بمجنون.. فقال: «أشرب خمرا؟» فقام رجل فشمّه، فلم يجد ريح خمر! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أزنيت؟ قال: نعم: فأمر به.. فرجم! أما المرأة، فهى من «غامد» وغامد هذه بطن من بطون الأزد، والأزد قبيلة عربية معروفة.. جاءت هذه المرأة إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم، وقد فعلت الفاحشة، ولم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 830 يكن أحد من الناس قد كشف أمرها، فقالت: يا رسول الله: إنّى زنيت.. فطهرنى! فردّها رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فلما كان الغد جاءت، فقالت يا رسول الله: لم تردّنى؟ لعلك أن تردّدنى كما ردّدت ماعزا؟ «فو الله إنى لحبلى! فقال النبي الكريم: «أما الآن فاذهبى حتى تلدى» فلما ولدت أتته بالصبي فى خرقة.. ثم قالت: هذا قد ولدته! فقال: «اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه» فلما فطمته، أتت بالصبي فى يده كسرة خبز، ثم قالت: «هذا يا نبى الله قد فطمته، وقد أكل الطعام.. فدفع النبىّ إلى رجل من المسلمين.. ثم أمر بها فرجمت.. ووراء هذه القصة أكثر من آية معجزة من آيات السموّ الإنسانى، وعظمة الإنسان، حين يسكن الإيمان قلبه، ويملأ كيانه، فلا يخاف غير الله، ولا يطمئن إلا باللّجأ إليه والاستسلام له.. ونحسب أننا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن ما عزا والغامدية، لم يكن منهما هذا الإصرار العنيف على فضح أمرهما، بعد أن ستر الله عليهما- إلّا خوفا من فضيحة مهلكة، يتنزل بها القرآن فى شأنهما، فتكون لعنتهما على لسان كل قارئ للقرآن إلى يوم الدين.. فهما إذ يطلبان الموت، وإذ يجدان هذه الحرارة فى الإقدام عليه، واستساغة طعمه- إنما ليهربا من تلك السياط الملتهبة التي تتساقط عليهما بنذر الفضيحة، التي يشهدها الوجود كله، على امتداد الزمن، إلى يوم النّشور! وطبيعى أن ذلك الشعور الذي تسلط على ما عز والغامدية، والذي أراهما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 831 مدى الهوّة التي سيهويان فيها إذا هما وقعا تحت لعنة الله، وأنزل الله سبحانه فى شأنهما قرآنا يفضحهما- طبيعى أن هذا الشعور إنّما بلغ به هذه الدرجة من اليقظة والحساسية، هو وثاقة الإيمان بالله، وحسن الإدراك لكماله سبحانه وتعالى، وأنه القادر الذي لا يعجزه شىء.. العالم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء.. فإذا جاءت بعد ذلك شواهد عملية تكشف عن تلك القدرة وهذا العلم، فيما كشف القرآن الكريم من خبايا المنافقين، وخفايا صدورهم- لم يكن ثمّة مهرب من الله إلا إليه، ولم يكن ثمة سبيل للنجاة إلّا فى طلب التطهير من الإثم، وإقامة حدّ الله على من اعتدى على حرمات الله! هذا، ولمّا لحق الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- بالرفيق الأعلى، وانقطع وحي السماء- تنفّس المنافقون الصعداء، وزايلهم هذا الشعور من الحذر والخوف أن يمسوا أو يصبحوا على أعين الناس فضيحة مفضوحة للعالمين- فاستعلن نفاقهم، وتحركت ألسنتهم، بما كانت تكنّه صدورهم من منكر القول، وآثم التدبير. ولكن- مع هذا- لم يكن للنفاق ولا للمنافقين أثر فى حياة المجتمع الإسلامى، الذي تركه الرسول، بعد أن أزاح تلك العلل التي كانت مستولية عليه، وسلك به مسالك الهدى والتقوى.. فما يكاد يظهر فى المجتمع انحراف، أو يطلّ عليه وجه منحرف، حتى تنكره الحياة كلها من حوله، وحتى ليأخذ المجتمع عليه كل سبيل للإقامة على هذا الانحراف، أو الإفلات من العقاب الراصد له.. ولقد تركت هذه التجربة أثرها فى نفوس المؤمنين، الذين عاشوا فى عهد النبىّ، ثم امتدّت بهم الحياة بعد النبىّ.. إذ أحسوا بهذا الفراغ الذي خلّفه فراق النبىّ الكريم لهم، كما استشعروا تلك الوحشة، من انقطاع الوحى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 832 السماوي، الذي كان يؤنس حياتهم، وينير لهم طريقهم فيها، ويرصد الانحرافات التي تحدث فيهم.. لقد كان المسلمون فى عهد الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- تحت مراقبة دائمة، يؤمنون معها من أن يدخل عليهم حلل، دون أن يشعروا به، ويعرفوا مكانه فيهم، فيما ينزل من آيات القرآن الكريم، مما يتلبس به الأفراد.. وأما وقد مات الرسول، وانقطع الوحى، فإنه لم يعد للمؤمن ما يعرف به حقيقة إيمانه، إلا بأن يعرض نفسه على كتاب الله، وسنة رسوله، وإنه على قدر قربه أو بعده منهما، يكون حظه من الإيمان، ومكانه من المؤمنين.. وبهذا صار إلى المؤمن أمر دينه، كما صارت إليه حراسته من كل آفة تعرض له، دون أن ينبّه إلى ذلك، أو يلفت إليه.. روى أن عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، كان يمضى إلى بيت حذيفة بن اليمان، ويقول له: يا حذيفة.. أنت صاحب سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فانظر ما فىّ من النفاق، فعرفنى به!! فيقول حذيفة: والله يا أمير المؤمنين ما أعلم فيك نفاقا.. فيقول: انظر وحقق النظر! فيبكى حذيفة، ويبكى عمر رضى الله عنهما، فلا يزالان يبكيان حتى يغشى عليهما.. ومن هنا ندرك السرّ فيما كان من التفات الدعوة الإسلامية إلى هذا المرض الخبيث- مرض النفاق- ورصد تحركاته فى المجتمع الإسلامى، وفضح أهله. وكشف وجوههم للملأ، حتى يأخذ المؤمنون حذرهم منهم، وحتى لا تصيبهم عدواه، الأمر الذي إن فشا فى الناس، أفسد عليهم حياتهم، وأراهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 833 الأمور فى أوضاع مقلوبة، لا يلتقون معها إلا إذا قلبوا هم أوضاعهم، ومشوا على رءوسهم، بدلا من أرجلهم! قوله تعالى: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ» هو كشف عن وجه آخر، من وجوه النفاق التي يظهر بها المنافقون فى الناس.. وهو أنهم إذا ضبطهم القرآن متلبسين بجريمة من جرائمهم المنكرة، أو لامهم لائم على ما انكشف من مستور تدبيرهم السيّء، وما جرى على ألسنتهم من هزؤو سخرية برسول الله وبالمؤمنين بالله، قالوا معتذرين: «إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ» أي لم نكن جادّين فيما كنا فيه، وإنما هو لعب وعبث، ومفاكهة! وهكذا المنافق.. لا يجد ما يستر به نفاقه إلا الكذب.. فهو كدب يستر كذبا، ونفاق يدارى نفاقا.. وقد أمر الله سبحانه نبيه الكريم أن يردّ عليهم زعمهم هذا، وأن يسفّه باطلهم الذي هم فيه، وأن يفضح عذرهم المفضوح الذي اعتذروا به.. «قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ؟» .. أفهذا مقام يخوض فيه الخائضون ويلعب اللاعبون؟ إنه لعذر أقبح من ذنب! قيل إن جماعة من المنافقين الذين كانوا فى غزوة تبوك مع المسلمين، وقد كانوا يذيعون فى الناس أحاديث يسخرون فيها من النبىّ وأصحابه، ويقولون فيما يقولون: إن محمدا وأصحابه لن يثبتوا للروم، وما هم إلا غنيمة باردة ليد الروم إذا التقوا بهم.. وقد كشفهم الله سبحانه وتعالى للنبىّ، وأراه وجوههم، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 834 وأطلعه منهم على ما كانوا يقولون.. فلما أنبأهم النبىّ بهذا الذي كان منهم- قالوا إنما كنا نخوض ونلعب» ! وقيل إنه ضلّت للنبىّ صلى الله عليه وسلم ناقة فى هذه الغزوة، فجعل أصحابه يبحثون عنها.. فقال المنافقون: لو كان محمدا متصلا بربّه- كما يقول- لأخبره بالمكان الذي فيه ناقته! فكيف يدّعى- مع هذا- أنه يوحى إليه من ربه!؟» وقد أطلع الله سبحانه النبىّ على ما دار بين هؤلاء المنافقين، فلما أنبأهم النبىّ بهذا الإثم الذي تعاطؤه، قالوا: «إنما كنا نخوض ونلعب!! وقد أخزاهم الله سبحانه وتعالى بقوله: «أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون» .. ثم أخزهم خزيا بعد خزى، إذ أطلع النبىّ على المكان الذي شردت إليه الناقة، فأشار إلى أصحابه إليه، فوجدوها حيث أشار! قوله تعالى: «لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ» فى هذه الآية يأخذ الله المنافقين بنفاقهم.. فلا يقبل لهم عذرهم الذي اعتذروا به، لأنه كذب إلى كذب، ونفاق إلى نفاق.. ثم يحكم- سبحانه وتعالى- عليهم بالكفر، بسبب هذا النفاق الذي لبسوه، بعد أن نزعوا ثوب الإيمان الذي كانوا يخفون به ما انطوت عليه قلوبهم من نفاق.. وبهذا- وبعد أن افتضح أمرهم- صاروا كافرين ظاهرا وباطنا. بعد أن كانوا كافرين باطنا، مؤمنين ظاهرا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لا تَعْتَذِرُوا.. قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ» .. وفى قوله سبحانه: «إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ» .. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 835 فى هذا إشارة إلى أن باب التوبة والقبول لا يقفل أبدا فى وجه أي إنسان، يتجه إلى الله، وينزع عما كان فيه من غىّ وضلال.. وأن هؤلاء المنافقين الذين كفروا بعد إيمانهم ليسوا على حال واحدة، ففيهم من سيثوب إلى رشده، وينزع عن غيه، ويرجع إلى الله تائبا نادما، وفيهم من يلجّ به الضلال، ويستبد به العمى، فيمضى إلى مساقه الذي يسوقه شيطانه إليه.. فالذين يتوبون إلى الله، ويرجعون إليه من قريب من هؤلاء المنافقين، سليقون من الله سبحانه، عفوا، ومغفرة.. والذين يصرّون على هذا النفاق الذي هم فيه، سيلقون من الله ما أعد للكافرين والمنافقين من عذاب ونكال.. «بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ» .. أي بسبب ما كانوا عليه من ضلال، ومحادّة لله ورسوله، الأمر الذي اقترفوا به ما اقترفوا من جرائم وآثام. قوله تعالى: «الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ» هكذا هم المنافقون، وذلك هو مجتمعهم، لا ينضح بغير الإثم والمنكر، ولا يلد إلا البغي والفجور.. «بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ» أي على طبيعة سواء يجمعهم النفاق، ويؤلف بينهم، من رجال ونساء، حتى لكأنهم أفراد أسرة واحدة، تجمعها لحمة النسب والقرابة، وتؤلف بينها مشاعر الحب والولاء.. وذلك أن المنافق لا يجد المرعى الخصيب الذي يغذّى فيه نفاقه، ويحقق به وجوده، ويرضى فيه مشاعره- إلا فى بيئة منافقة، تتجاوب معه، وتروّج لهذه البضاعة التي يتعامل بها.. ذلك أن بضاعة المنافقين، بضاعة خبيثة، وطعام فاسد عفن، لا تقبله إلا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 836 النفوس المريضة، ولا تستطعمه إلا الطبائع الخبيثة.. إنه عملة زائفة، لا تروج إلا فى الظلام، ولا يتعامل المتعاملون بها إلا فى أوكار اللصوص، وفى حانات الخمر، حيث تدور الرءوس، وتذهب العقول! «يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ» هذه هى بضاعة القوم، وتلك هى رسالتهم فى الحياة، وشأنهم فى الناس.. «يأمرون بالمنكر» ! فلا يكفيهم أنهم يطعمون من هذا الطعام الخبيث، ولا يرضيهم أن يعرضوه على الناس- بل يأمرونهم به، ويحرضونهم عليه، ويزينون لهم تعاطيه.. إنهم لا يهنؤهم هذا الطعام الخبيث العفن، حتى يستكثروا له من الأيدى التي تشاركهم فيه، ومن الأفواه التي تمضغه معهم.. «وينهون عن المعروف» ! فمن دعا إلى منكر وأمر به، وحرض عليه، فهو ناه- ضمنا- عن معروف، صادّ عن خير.. ولكن القوم، لا يقفون عند هذا، بل إنهم حين يدعون إلى المنكر، يقومون بدعوة أخرى، هى تبغيض الحلال إلى الناس، وتزهيدهم فى الخير، وذلك إذا تأبّوا عليهم، ولم يستجيبوا لدعوتهم إلى المنكر.. وحسبهم فى هذا أن يصرفوا وجوه المؤمنين عن الإيمان، ويكفّوا أيديهم عن التعامل بالخير، فذلك إن تمّ لهم كان كسبا للمعركة التي يخوضونها مع المؤمنين، وهو عزل أكبر عدد يمكن عزله منهم عن المعركة، بحيث لا يكونون مع المؤمنين ولا على المنافقين! الجزء: 5 ¦ الصفحة: 837 «ويقبضون أيديهم» أي أن هؤلاء المنافقين الذين يسعون فى الناس هذا السعى الحثيث فى مجال الإفساد، والإهلاك للناس- هم فى الوقت نفسه أشحة على الناس بأى خير يمكن أن تحمله أيديهم إلى الناس، إن كان فى يدهم أي خير.. إنهم أسخياء كرام، يبذلون- فى تبذير شديد- كلّ منكر، ويجودون بلا حساب، بكل مفسدة وكل ضلال.. أما فى مجال الخير والإحسان، فهم بخلاء أشحّاء، لا تندّ أيديهم بذرة خير، ولا تسخو أنفسهم بعارفة من إحسان! «نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ» إنهم لا يذكرون الله أبدا، إذ لو ذكروه، لما كان لهم فى عباد الله هذا البلاء الذي يرمونهم به، فى غير حرج أو تأنّم.. إنّهم نسوا الله، فنسيهم الله، وتركهم وما هم فيه من ضلال.. فلو أنهم ذكروا الله لوجدوا فى قلوبهم خشية له، ولكان لهم فى خشيتهم لله ما يمسك بهم عن هذا الضلال الذي يهلكون به أنفسهم، ويهلكون به كثيرا من الناس معهم.. ونسيان الله لهم، هو تركهم لأنفسهم، وحرمانهم من توفيق الله. «إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ» .. أي هم الذين فسقوا عن أمر ربّهم، وخرجوا عن الطريق المستقيم، وركبوا طرق الضلال والهلاك. قوله تعالى: «وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ» هذا هو الجزاء الذي أعدّه الله لأهل النفاق والكفر.. نار جهنم خالدين فيها، لا يتحولون عنها أبدا.. هى حسبهم، أي هى كلّ ما لهم عند الله.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 838 لا شىء لهم غيرها.. ثم من وراء جهنّم وعذابها، لعنة الله القائمة عليهم، وعذاب مقيم لا يفتّر عنهم وهم فيه مبلسون.. قوله تعالى: «كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» هو عرض لصورة أخرى من صور الضالّين والمفسدين، تطلع على هؤلاء المنافقين من ثنايا الزمن الغابر، وترتفع لأبصارهم، ممن كان قبلهم من الأمم السالفة.. إنّهم لن يخلدوا فى هذه الدنيا، كما لم يخلّد من كان قبلهم من الماضين، ممن كانوا أكثر منهم أموالا وأولادا، وأشدّ قوة، وأمكن سلطانا.. فليست هذه الدنيا دار بقاء وخلود، وليس ما فيها من متاع، إلا ظل زائل، وعرض ذاهب.. ثم يجىء من بعد هذا الحساب، والقضاء والجزاء.. لقد استمتع هؤلاء الذين ذهبوا، بما كان بين أيديهم من مال وبنين، وبما كان لهم من جاه وسلطان.. ثم ذهبوا وذهب كل ما كان لهم، وما كان معهم.. استمتع كلّ «بخلاقه» أي بنصيبه المقسوم له، وبحظه المتاح له، إن كثيرا، وإن قليلا.. ثم انتهى كلّ إلى نهايته، وصار كلّ إلى ما قدّم من خير أو شر.. وقد كانوا أكثر من هؤلاء المنافقين مالا، وأقوى قوة، وأعزّ نفرا.. وهؤلاء المنافقون.. الذين يكيدون للنبىّ، ويحادّون الله ورسوله.. إنّهم ليسوا بدعا فى النّاس، ولن يخرجوا على سنة الله التي خلت فى عباده.. فلن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا.. وإنهم ليأخذون حظّهم المقدور لهم مما فى أيديهم من مال وولد، ثم يلحقون بمن سبقهم إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 839 عالم الموت، وينتظمون فى ركب الضّالّين والمكذّبين، ليقفوا بين يدى الله، ولينالوا الجزاء الذي هم أهله، من عذاب أليم.. فلقد حبطت أعمالهم كلّها، فلم يسلم لهم منها شىء، حتى تلك الأعمال التي كان يمكن أن تحسب لهم فى جانب الإحسان.. لأنّهم إذ فعلوها لم يريدوا بها وجه الله، ولم يطلبوا بها ما عند الله.. لأنهم لا يؤمنون بالله، ولا يتعاملون مع الله.. «حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا» فلم يحمدوا بها.. وحبطت فى «الآخرة» فلم تدفع عنهم عذاب الله الذي أعده لهم، وأنزله بهم.. «وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» .. إذ لا خسران بعد هذا الخسران، ولا ضياع بعد هذا الضياع. قوله تعالى: «أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» وإذا تصفحّ هؤلاء المنافقون تاريخ القرون الماضية، فلم ينكشف لهم منها- لماهم فيه من غفلة وعمّى- ما أخذ الله به الظالمين من نكال وبلاء- فها هى ذى المثلات، يضعها الله بين أيديهم، ويكشف لهم ما خفى منها.. قوم نوح.. وعاد.. وثمود.. وقوم إبراهيم.. وأصحاب مدين.. والمؤتفكات.. هؤلاء جميعا، قد جاءتهم رسل الله، تحمل إليهم الهدى والخير.. فمكروا بآيات الله، وكذّبوا رسل الله.. فماذا كانت عاقبة أمرهم؟ لقد أخذهم الله بذنوبهم، وأوقع بهم نقمته، وصبّ عليهم عذابه، ألوانا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 840 متعددة من البلاء، وصورا متباينة، من المهلكات.. قوم نوح.. أغرقهم الله بالطوفان.. وعاد، قوم هود.. أهلكهم الله «بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ! وثمود.. قوم صالح.. أخذتهم الصيحة.. فأصبحوا فى ديارهم جاثمين.. وقوم إبراهيم.. ألقوه فى النار، فجعلها الله بردا وسلاما عليه، وجعل فى ذريته الكتاب والحكم والنبوّة.. وأصحاب مدين.. قوم شعيب.. أخذهم الله بالصيحة، كما أخذ قوم صالح.. فأصبحوا فى ديارهم جاثمين.. «أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ» (94: هود) والمؤتفكات.. أي المنقلبات على أهلها، وهى الدّور التي كان يسكنها قوم لوط. إذ أمطرهم الله بحجارة من سجيل منضود، فطحنتهم طحنا، وقلبت عليهم قريتهم، فأصبح عاليها سافلها.. ومنه الإفك، وهو الحديث المفترى، الذي تقلب فيه وجوه الأمور، وتغير معالمها.. هؤلاء جميعا.. كذبوا رسل الله، فأخذهم الله بذنوبهم، وجزاهم جزاء الظالمين..َ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ» بهذا العذاب الذي أنزله بهم، «وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» .. فلقد ظلموا أنفسهم، بأن صرفوها عن الخير الذي جاءهم على يد رسل الله.. فماذا بعد الحقّ إلا الضلال؟ وماذا بعد الضلال إلا البلاء والعذاب؟. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 841 الآيتان: (71- 72) [سورة التوبة (9) : الآيات 71 الى 72] وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) التفسير: مما يضاعف حسرة المنافقين، ويزيد فى بلائهم، أن يطلع عليهم المؤمنون فى هذا الموكب العظيم، الذي يحفّه الجلال والإكرام، ويتغشّاه النعيم والرضوان، بعد أن انكشف للمنافقين سوء أمرهم، وعاقبة سعيهم، وما أخذهم الله به من نكال وبلاء.. وفى هذا الموكب الذي ينتظم المؤمنين، يرى الرائي لهم أن بعضهم أولياء بعض، تجمعهم الأخوّة، وتؤلف بينهم المودّة، يلتقون على الإيمان بالله، والولاء له، والاستجابة لرسوله، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر.. «وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ..» .. فتلك هى سبيل المؤمنين، وذلك هو حبل الله الذي يعتصمون به، ويشدّون أيديهم عليه.. «أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ» لأنهم لجثوا إليه والتمسوا مرضاته، وأخلصوا القول والعمل له.. «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» لا يضام من لجأ إليه، واعتصم به.. «حكيم» فى قضائه بين عباده، وحكمه فيهم، فيجزى المحسنين بإحسانهم، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 842 ويتجاوز عن سيئاتهم، ويأخذ المسيئين بما عملوا إن شاء، أو يتوب عليهم.. كل ذلك عن قدرة متمكنة، وعزة غالبة، وحكمة بالغة.. سبحانه، عزّ فحكم، لا معقب لحكمه، ولا منازع لسلطانه.. هذا، وليس دخول حرف الاستقبال فى قوله تعالى: «سيرحمهم» .. بالذي يجعل وعد الله غير محقق فى الحال كما هو محقق فى الاستقبال، بل هو وعد منجز فى جميع الأحوال، والأزمان.. فالمؤمن محفوف برحمة الله دائما، ولولا هذه الرحمة لما كان من المؤمنين، الذين دعاهم الله إلى الإيمان، وهداهم إليه، وأمسك بهم على طريقه. وفى قوله تعالى: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» ما يشير إلى ما فى المؤمنين من معانى الإنسانية، التي تعطى المؤمن وجودا مشخّصا، وذاتية مستقلة.. ثم هو- مع هذا الوجود الذاتي المستقلّ- يحكمه عقل رشيد، ويوجهه قلب سليم، فيلتقى مع أصحاب العقول الرشيدة، ويتجاوب مع أولى القلوب السليمة، على جبهة الحق، وتحت راية الخير، فإذا هو قوة عاملة فى هذا الميدان، يعمل للحق مع العاملين، وينتصر للخير مع أهل الخير.. يبادلهم ولاء بولاء، وحبّا بحبّ، وإخاء بإخاء! وليس كذلك المنافقون والمنافقات.. «بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ» .. إنهم كتلة متضخّمة من الخبث.. أشبه بالديدان التي تتخلّق من الرّمم، ليس بينها تجاوب فى المشاعر، أو تلاق فى التفكير، وإنما هى كائنات تسبح فوق هذه الرمم، وتغتذى منها! قوله تعالى: «وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» الجزء: 5 ¦ الصفحة: 843 هو بيان لما أعدّ الله للمؤمنين والمؤمنات من جزاء حسن، ومقام كريم فى الآخرة.. إنّ لهم عند الله جنّات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ومساكن طيبة فى جنّات عدن.. أي جنّات إقامة واستقرار.. يقال عدن بالمكان، أي أقام واستقر.. فهى جنات لا يتحول عنها ساكنوها إلى مكان آخر، حيث تطيب لساكنيها الإقامة، لما يجدون فيها من نعيم لا ينفد، ولا يملّ مهما طالت صحبته، وامتدّ الزمن فى الحياة معه. وقوله سبحانه: «وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» .. هو نعيم فوق هذا النعيم الذي يناله أصحاب الجنة.. بما يفيض الله سبحانه وتعالى عليهم من رضوانه، وما يضفيه عليهم من رضاه.. فكل نعيم- وإن عظم- هو قليل إلى رضوان الله، الذي يناله من رضى الله عنهم، ثم إن كل نعيم هو تبع لهذا الرضا، ونسمة من أنسامه الطيبة المباركة.. ولهذا جاء قوله تعالى: «ورضوان من الله أكبر» مستأنفا، غير معطوف على ما قبله، حتى لكأنه إضراب عما سبقه، بمعنى «بل» .. وعلى هذا يكون التقدير: «بل.. ورضوان من الله أكبر» .. وقوله تعالى: «ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» الإشارة هنا إلى رضوان الله، الذي هو الفوز كل الفوز، والنعيم كل النعيم. الآيتان: (73- 74) [سورة التوبة (9) : الآيات 73 الى 74] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 844 التفسير: لم تنته الآيات القرآنية بعد، من عرض الوجوه التي يظهر بها المنافقون فى الناس، فما زالت هناك وجوه كثيرة لهم، سيكشف عنها القرآن فى آيات تالية- ومع هذا، فقد جاء قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» - جاء معترضا سلسلة هذا العرض الكاشف عن مخازى المنافقين، ليذكّر النبىّ بما ينبغى أن يأخذ به المنافقين، الذين هم أشد أعداء الإسلام خطرا على الإسلام. والكفار والمنافقون، هم على سواء فى كفرهم بالله، ومحاربتهم لدين الله، وكيدهم لرسول الله.. وإن على النبىّ أن يجاهد هؤلاء وأولئك جميعا، وأن يلقاهم بكل قوة وبأس.. فالمنافقون، كافرون، وأكثر من كافرين.. لأنهم يسترون كفرهم بالنفاق، ويدارونه بإظهار الإسلام.. فهم بهذا عدوّ خفىّ، يأمن المسلمون جانبه، ولا يأخذون حذرهم منه، فيطّلع منهم على ما لا يطّلع عليه العدوّ الظاهر، من مواطن الضعف منهم، وانتهاز الفرصة فيهم.. فإذا جاهد النبىّ الكفار، فليجاهد المنافقين كذلك، وليشتدّ فى جهادهم، وليغلظ عليهم، فلا يرخى يده عنهم إذا أمكنته الفرصة فيهم.. وقوله: «وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» هو بيان للحكم الواقع تحته الكافرون والمنافقون، وهو أن جهنم مأواهم الذي يؤوون إليه، والمصير الذي يصيرون له.. وأنهم إذا أفلتوا فى هذه الدنيا من القتل أو الأسر، فلن يفلتوا فى الآخرة من عذاب جهنم، وبئس المصير.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 845 وقد جاء فى سورة التحريم نص هذه الآية هكذا: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (9: سورة التحريم) وفى هذا تأكيد للأمر بجهاد النبىّ للكفار والمنافقين، وأخذهم بالبأساء والضرّاء، حتى يزول الخطر الذي يتهدد الإسلام والمسلمين منهم.. قوله تعالى: «يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا» هذا عرض لحال من أحوال المنافقين، وكشف لوجه من وجوههم المنكرة.. وهو أن من دأبهم أن يحلفوا كذبا وزورا أنهم ما قالوا هذا القول المنكر، الذي كان سرا بينهم، ففضحهم الله به، وأطلع النبىّ والمسلمين عليه.. وقد كذّبهم الله، وردّ أيمانهم الكاذبة بقوله سبحانه: «وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ» . والمراد بكلمة الكفر، هو الكلام الذي تحدثوا به فيما بينهم، وتناولوا فيه النبىّ بالهزء والسخرية، وقالوا حين سئلوا: «إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ» .. وذلك منهم هو الكفر الصّراح.. فلو كان فى قلوبهم شىء من الإيمان، لما حدّثتهم أنفسهم بهذا السوء، ولما طاوعتهم ألسنتهم على النطق بهذا المنكر من القول.. وفى التعبير عن كلمات السوء بكلمة الكفر، إشارة إلى أن حصيلة هذا الكلام الكثير الذي دار على ألسنتهم، هو كلمة واحدة، هى الكفر، الذي دمغوا به ظاهرا، بعد أن كان يعيش فى كيانهم متخفيا، مستبطنا.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 846 فكلامهم كله، هو الكفر، إذ لا ثمرة له إلا الكفر.. وقوله تعالى: «وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ» .. هو تأكيد لكفرهم الذي استعلن بكلماتهم المنافقة التي فضحهم الله بها.. وفيه إشارة إلى أنهم لم يكونوا مؤمنين أبدا، وأن الإيمان لم يدخل قلوبهم، وإنما جرت كلمة الإسلام على ألسنتهم، فحسبوا بهذا من المسلمين لا المؤمنين.. فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا.. وإلى هذا يشير قوله تعالى: «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا، وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا.. وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ» (14: الحجرات) . وقوله تعالى: «وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا» هو فضح لخفيّة من خفايا المنافقين، وكشف لمكيدة من مكايدهم، وأنّهم قد بيتوا عدوانا، ودبروا كيدا، ولكنّ الله- سبحانه- أبطل كيدهم، وأفسد تدبيرهم.. فقد أرادوا بالنبيّ- صلى الله عليه وسلم- شرا، وائتمروا فيما بينهم على أن يرصدوا له، وهم معه على طريق العودة من تبوك، فأطّلع الله سبحانه النبىّ عليهم، وأراه ما دبروا له.. فدعاهم النبىّ إليه، وكشف لهم عن تدبيرهم السيء.. فلم يجدوا غير الحلف كذبا وبهتانا، بأنّهم ما قالوا شيئا، ولا بيّتوا شرّا.. وقوله سبحانه: «وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ» .. هو تسفيه لهم، واستنكار لهذا المنكر الذي هم فيه.. وأنهم لم يتخذوا هذا الموقف المنحرف اللئيم من الله ورسوله، إلّا لما أفاء الله ورسوله به عليهم من فضله.. وهكذا أصحاب الطباع السيئة، والنفوس المريضة، تنقلب حقائق الأشياء عندهم، فإذا النور ظلام، والحق باطل، والنعمة نقمة.. والله سبحانه وتعالى يقول فى مثل هؤلاء الحمقى والسفهاء من الناس: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 847 «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ» . وانظر كيف جاء النظم القرآنى بقوله تعالى «وَما نَقَمُوا» ليكشف بذلك عما بلغه القوم من سفه وضلال، حتى إنهم ليجدون فى النعم التي بفضل الله سبحانه وتعالى عليهم بها، ما يحرك فى نفوسهم داعية الانتقام ممن أنعم عليهم، حتى لكأن هذه النعم شرّا قد سيق إليهم، وبلاء وقع بهم.. وهذا هو فى الواقع ما لنعم الله عندهم.. إنها لا تلبث حتى تتحول فى أيديهم إلى أسلحة مهلكة.. قوله تعالى: «فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» .. هو تنبيه لهؤلاء الضالّين، وإشارة مضيئة تطلع فى ليلهم المطبق عليهم، رجاء أن يتوبوا إلى الله، ويستقيموا على طريق الحقّ، فإن فعلوا رشدوا وأمنوا، وإن أبوا، ضلوا وهلكوا، وأخذهم الله بالعذاب الأليم فى الدنيا، بما يصيبهم على يد المؤمنين من خزى وبلاء، وبعذاب السعير فى الآخرة، حيث لا ولىّ لهم، ولا نصير، يردّ عنهم بأس الله الواقع بهم. الآيات: (75- 80) [سورة التوبة (9) : الآيات 75 الى 80] وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 848 التفسير: هذا صنف آخر من أصناف المنافقين، ووجه كريه من وجوه النفاق.. يكشف عنه- اقوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ» . إن هذا الصنف من المنافقين، يلقى الله فى حال العسر والضيق، مستكينا مستسلما، ويبسط إليه يده، ضارعا طامعا، يتمنى على الله أن يبسط له فى الرزق، وأن يملأ يديه من المال، وأنه إذا استجاب الله له فيما طلب، بسط يده بالعطاء والإنفاق فى وجوه الخير، وشغل قلبه ولسانه بالحمد والشكران لله ربّ العالمين.. هذا موقف من مواقف المنافقين مع الله.. حين يمسّهم الضرّ، وينزل بهم العوز، ويصيبهم الفقر.. فماذا يكون منهم إذا كشف الله ما بهم من ضرّ، وصرف عنهم العوز والفقر، ووسع لهم فى الرزق، وأفاء عليهم من فضله؟. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 849 هنا يغلب عليهم طبعهم اللئيم، فإذا هم على طريق النفاق، ينقضون العهد الذي عقدوه مع الله، ويتحلّلون من الوفاء به! «فلمّا آتاهم من فضله بخلوا به» أي ضنّوا بهذا الفضل الذي هو من عند الله، على الإنفاق منه فى سبيل الله. «وتولّوا وهم معرضون» أي نكصوا على أعقابهم، وأعرضوا عن الحق الذي لزمهم. «فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ» أي تبعهم النفاق، وركب معهم الطريق الذي ركبوه، مبعدين عن الله، مطرودين من رحمته «إلى يوم يلقونه» أي سيصحبهم هذا النفاق إلى يوم القيامة، حيث يطلع عليهم هذا النفاق بوجهه الكريه، ليقف معهم بين يدى الله، وليكون شاهد إدانتهم، ورفيق طريقهم إلى عذاب السعير «بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ» أي هذا النفاق الذي لبسهم، واشتمل عليهم، وأصبح بعضا منهم، هو الثمرة الخبيثة التي أثمرها إخلافهم وعدهم لله، وقولهم بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم، وهم يحسبون أن الله- سبحانه- محدود القدرة، محدود العلم، وأنه إذا لم يشهد شهود عيان هذا العهد الذي عاهدوه عليه، لم تقم عليهم حجة، وكان لهم أن يمكروا به، وينكروا العهد الذي أعطوه من أنفسهم له؟. وهذا عدوان على الله، أوقعهم فيه سوء فهمهم وتقديرهم لجلال الله، وعظمته، وقدرته وعلمه.. ولهذا أنكر الله عليهم سوء ظنهم به، وخطأ تصورهم لكمال صفاته، فقال سبحانه: «أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» .. ولو أنهم علموا هذا واستيقنوه، لما كان منهم هذا الظنّ السيّء، الذي زيّن لهم التحلّل ممّا عاهدوا الله عليه، فيما حكاه القرآن عنهم من قولهم: «لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ» .. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 850 والسرّ: ما أسرّه الإنسان فى نفسه ولم يطلع عليه غيره، والنجوى: ما ناجى به غيره من حديث، وأفضى به إليه فى سر.. وأصل النجوى، والنجوة: المكان المرتفع الظاهر للعيان. ويذكر المفسّرون فى سبب نزول هذه الآيات، أن أحد أصحاب رسول الله، واسمه ثعلبة بن حاطب، كان من فقراء المسلمين، وممن يلزمون الجماعة والجمعة فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حدثته نفسه أنه لو كان من الموسرين لأرضى الله ورسوله بما ينفق فى سبيل الله، ولما فاته هذا الفضل الذي سبقه إليه أولئك الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله.. فقال يا رسول الله: ادع الله أن يرزقنى مالا!. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا ثعلبة.. قليل تؤدّى شكره خير من كثير لا تطيقه. أمالك فى رسول الله أسوة؟» ثم عاد إلى النبي يسأله أن يدعو الله له أن يرزقه مالا، وأن لو استجاب الله له ورزقه المال الذي يطلب، لأعطى كل ذى حق حقه من هذا المال.. فقال الرسول- صلوات الله وسلامه عليه-: «اللهم ارزق ثعلبة مالا..» قالوا: وقد رزق ثعلبة مالا كثيرا.. وكان ماله من الغنم، فتكاثر ونما حتى ضاقت به المدينة، فخرج إلى البادية، وشغله ذلك عن حضور الجماعة والجمعة فى مسجد رسول الله، وتفقّده رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجده فى أصحاب الجماعة والجمعة، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا ويح ثعلبة!» ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمّال الصدقة ليأخذوها من أهلها، فلما جاء عامل الصدقة إلى ثعلبة، وعرف القدر المطلوب منه للصدقة استكثره، وأنكره وقال: ما هذه الصدقة، بل هى الجزية أو ردّ العامل، قائلا له: أنظرنى لأرى!! وحين لمغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان من ثعلبة، قال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 851 «يا ويح ثعلبه.. يا ويح ثعلبة» .. ثم نزلت هذه الآيات. قيل، وجاء ثعلبة بعد ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فقال له رسول الله: «إن الله منعنى أن أقبل منك» فجعل يحثوا التراب على رأسه، فقال رسول الله: «هذا عملك! قد أمرتك فلم تطعنى» .. ثم لما توفّى رسول الله، جاء بالصدقة إلى بكر، فلم يقبلها منه، ثم جاء بها إلى عمر فى خلافته فردّها.. ثم هلك فى خلافة عثمان!. وليس ثعلبة وحده- إن صح ما روى فيه- هو الواقع تحت حكم هذه الآيات، بل هو حكم واقع على كل من نكث مع الله عهدا.. وما أكثر الناكثين عهود الله.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» (21- 23: يونس) قوله تعالى: «الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» اللّمز: القرص، والغمز، بالكلمة الجارحة، يرمى بها فى موارية.. تلويحا لا تصريحا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 852 والمطوّعين: جمع متطوع، وهو الذي يأتى بعمل الخير من تلقاء نفسه، تطوعا، غير مطالب به.. وهو يثاب عليه إذا فعله، ولا يعاقب إذا تركه.. وأصل المطّوع- لغة- المتطوع.. قلبت التاء طاء وأدغمت فى الطاء. والجهد: هو غاية ما فى وسع الإنسان، وطاقته، واحتماله.. والآية هنا، تكشف عن وجه آخر من وجوه المنافقين، وعن سلاح من أسلحتهم الخفية، التي يضربون بها فى كيان المجتمع الإسلامى.. فهذه الجماعة من المنافقين، لم يكفها أنها كفّت يدها عن الجهاد فى سبيل الله، وغلّتها عن الإنفاق فى وجوه الخير، بل جعلت تترصّد المنفقين فى سبيل الله، وتتخذ منهم مادة للهزء والسخرية، سواء المكثرون منهم والمقلّون.. فالذين بسط الله لهم فى الرزق من المؤمنين، فبسطوا أيديهم بالبذل فى سبيل الله، وجاءوا بالكثير من أموالهم إلى رسول الله، يضعها حيث يشاء- هؤلاء هم عند الجماعة المنافقة مراءون، لا يطلبون بما أنفقوا إلا أن يظهروا فى الناس، وإلا أن يكونوا حديث المتحدّثين! وأمّا الذين قصرت أيديهم عن العطاء الكثير من المؤمنين، فأعطوا ما وسعهم الجهد، وجاءوا بما ملكت أيديهم- فإنهم لم يسلموا من تلك الألسنة المنافقة، إذ جعلوا منهم مادّة سخرية واستهزاء وتندر، فيقولون فيما قالوا: ماذا تغنى الحفنة من التمر التي جاء بها فلان؟ وما جدوى هذه الكسرات من الخبز التي قدمها فلان؟ وما هذا الثوب الخلق الذي بذله فلان؟ .. إن هؤلاء لم يفعلوا ما فعلوا من هذا العبث إلا ليذكروا مع المتصدّقين، وإلا ليذكّروا بأنفسهم إذا وقعت للمسلمين غنيمة، وأصابهم خير!. وهكذا، يكيد المنافقون للإسلام، ويحاولون جاهدين أن يفسدوا كل صالحة فيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 853 وفى قوله تعالى: «سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» هو دفاع من الله سبحانه وتعالى عن المؤمنين، الذين سخر منهم المنافقون.. وفى هذا تكريم للمؤمنين المنفقين، وإيذان منه- سبحانه- بأنّه تقبل صدقات المتصدقين، قليلها وكثيرها، وأنه- سبحانه- هو الذي يتولىّ حماية هذه الصدقات وحماية أصحابها من كل سوء.. فإذا سخر ساحر من الصدقات، واستهزأ بأهلها، سخر الله منه، واستهزأ به.. إنه عدوّ لله. محارب له، وحسب من يعادى الله ويحاربه، ضياعا، وهلاكا، وسوء مصبر!. قوله تعالى: «اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» هو تيئيس لهؤلاء المنافقين من رحمة لله، وقطع لطريق النجاة من العذاب الذي أعدّه الله لهم.. إنّه لن ينقدهم من الله منقذ، ولن يشفع لهم شفيع.. حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو من هو عند الله- لن تقبل شفاعته فيهم، ولن يستجاب استغفاره لهم، ولو حرص النبىّ على هذا الاستغفار وبالغ فيه. وذلك لأنّهم كفروا بالله ورسوله، وحادوا الله ورسوله، ومن كان هذا موقفه مع الله ومع رسول الله، فلن يقبل الله فيه شفاعة، ولن يصرف عنه العذاب الذي رصده له.. وليس حصر الاستغفار بسبعين مرة، مرادا به أن النبي صلى الله عليه وسلم لو جاوز هذا العدد، وخرج به عن قيد الشرط- جاز أن يغفر الله لهم.. وكلّا، فإن المراد بهذا العدد هو الدلالة على أن استغفار النبىّ لهم، لن يقبل من الله فيهم على أية حال، كثر العدد أو قلّ.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 854 «اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ» فإن هذا معناه أنه لن يغفر لهم على أية حال.. سواء استغفر لهم النبي أو لم يستغفر لهم.. قلّ استغفاره لهم أو كثر! والخبر الذي يروى من أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم قال حين نزلت هذه الآية: «والله لأزيدنّ عن السبعين» هو خبر آحاد، لا يعوّل عليه هنا عند معارضته لصريح المفهوم من الآية الكريمة.. لأن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- يعلم ما فى هذه الآية من القطع بأن الله سبحانه لن يغفر لهم، ولن يقبل شفاعة شافع فيهم. فلا يعقل- مع هذا- أن يقول النبي هذا القول، بعد أن تلقّى هذه الآية. وكذلك الشأن فى الخبر الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو علمت أنه لو زدت على السبعين مرّة غفر الله لهم لفعلت» .. فإنه خبر لا يصحّ عن رسول الله.. لأنه فيه ما يشبه التحدّى لحكم الله!!. الآيات: (81- 85) [سورة التوبة (9) : الآيات 81 الى 85] فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 855 التفسير: تكشف هذه الآيات عن وجه أولئك المنافقين، الذين تخلّفوا عن رسول الله فى غزوة تبوك، وتفضح الأعذار الكاذبة التي كانوا يعتذرون بها، وترسم للنبى- صلوات الله وسلامه عليه- الأسلوب الذي يعاملهم به، والموقف الذي يقفه منهم.. وفى قوله تعالى: «فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ» تنديد ووعيد من الله سبحانه وتعالى لهؤلاء الذين تخلفوا عن رسول الله فى تلك الغزوة، وأن هذه الفرحة التي شاعت فى نفوسهم حين بدا لهم أنهم أفلتوا من هذا البلاء الذي ابتلى به المؤمنون فى هذه الغزوة.. من قلّة الزاد، وبعد الشّقة، ووقدة الحرّ- هذه الفرحة لن يهنئوا طويلا بها، بل ستعقبها حسرة وندامة، وعذاب شديد. والمخلّفون: جمع مخلّف، وهو الذي بقي خلف القوم، وترك وراءهم.. وكأنه بهذا هو المتروك لا التّارك، والمخلّف لا المخلّف.. وفى هذا إشارة إلى أن هؤلاء الذي تخلّفوا هم مخلّفون! قد تركهم المجاهدون، وسبقوهم إلى حظهم من الخير الذي أراده الله لهم.. والمقعد: مصدر ميمى للفعل «قعد» أي فرح المخلفون بقعودهم. و «خلاف رسول الله» : الخلاف ظرف بمعنى خلف، ووراء.. ويجوز أن يكون مفعولا له، بمعنى: لأجل خلافهم لرسول الله. وقوله سبحانه: «وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» معطوف على قوله تعالى: «فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ» بمعنى فرحوا بقعودهم بعد رسول الله، وكرهوا، أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله.. وقوله تعالى: «وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ» معطوف على ما قبله، من فعلات هؤلاء المخلّفين.. بمعنى أنهم فرحوا بتخلفهم، وكرهوا أن يجاهدوا، وقالوا لا تنفروا فى الحرّ.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 856 وقولهم: «لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ» قد يكون من حديث بعضهم إلى بعض، وتحريض بعضهم لبعض على ترك الجهاد فى الحرب، وذلك ليكثر عددهم، وتقوى جبهتهم، وليكون للمتخلف منهم وجه من العذر، بكثرة المتخلفين غيره. وقد يكون هذا القول منهم على إطلاقه، يقولونه لكل من يلقاهم من المؤمنين، ليفتّروا به الهمم، ويكسروا العزائم، حتى لا يجتمع على دعوة النبىّ للجهاد، الجيش الذي يخرج به فى هذه الغزوة.. وبهذا لا ينكشف أمر المنافقين الذين عقدوا العزم على التخلّف عن الغزو، حيث لا يخفّ أحد للجهاد، إذا صحّ ما قدّروه، وعملوا له، من إشاعة الدعوة فى الناس، بألّا ينفروا فى الحرّ. وقوله سبحانه: «قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ» هو ردّ مفحم على هذه القولة التي تنادى بها المنافقون بقولهم: «لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ» .. فإن تركهم النفير فى الحرّ يوقعهم فى حرّ أشد هولا من هذا الحرّ، الذي يعتبر بردا وسلاما إذا قيس بحر جهنم.. فلو أنهم عقلوا هذا، وفقهوه، لما اشتروا عذاب الآخرة بلفحات الهجير هذه، التي يخشون لقاءها فى طريقهم إلى الجهاد.. ولكنهم قوم لا يفقهون.. وقوله تعالى: «فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» هو وعيد لهؤلاء المنافقين، الذين فرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله، وقالوا لا تنفروا فى الحرّ.. إنهم لن يهنؤهم هذا الفرح، ولن يطول مقامهم فى ظل هذه العافية التي هم فيها.. فما هى إلا أيامهم الباقية لهم فى هذه الدنيا، ثم إذا هم فى العذاب الأليم الدائم، لا يفترّ عنهم وهم فيه مبلسون.. وقوله تعالى: «فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 857 هو بيان من الله سبحانه للنبىّ، فى موقفه من المنافقين، إذا هو رجع من غزوته تلك.. فإن من هؤلاء المتخلّفين من تخلّف لا عن شك فى دينه، أو ارتياب فى عقيدته، ولكن قعد به فتور همته أن يلحق بالركب، وأن يجمع عزمه المشتت، ليقطع حبال التردد العالقة به، فلمّا أن فاتته الفرصة، ولم يعد فى استطاعته أن يلحق بالجيش المجاهد، استبدّ به الندم، واستولت عليه الحسرة، وضاقت عليه الأرض بما رحبت.. ومن هؤلاء المتخلفين من تخلّفوا عن نية فاسدة، وعقيدة منافقة، ودين مريض.. فهؤلاء هم المنافقون حقّا، وهم الطائفة التي أشار إليها قوله تعالى: «فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ» .. إنّهم يريدون أن يحتفظوا بمكانهم فى المسلمين، وأن يأخذوا موقفهم مع المجاهدين، وذلك بأن يتخيّروا الزمان والمكان اللذين يخرجون فيهما مع المجاهدين.. فإذا كانت الشقة بعيدة، والحرّ شديدا أو البرد قارصا، تبطّئوا، وجاءوا بالمعاذير والعلل، وإن كانت الشقة قريبة، والمغانم دانية، أخذوا مكانهم فى صفوف المسلمين. وفيهم يقول الله تعالى: «لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» (42: التوبة) .. وليست هذه سبيل المؤمنين المجاهدين، وإنما سبيلهم قائمة على نيّة منعقدة أبدا على الجهاد والاستشهاد فى سبيل الله، ومن كانت تلك سبيله، وهذه غايته، فإنه لا ينظر إلى نفسه، ولا يعمل حسابا لمغنم أو مغرم، وإنما حسابه كلّه مضاف إلى الانتصار لدين الله، والإعزاز لكلمة الله. ولهذا ردّ الله سبحانه هؤلاء المنافقين، ومحا اسمهم من ديوان المجاهدين، وأمر نبيّه الكريم أن يبعدهم عنه، وأن يعزلهم عن مجتمع المسلمين المجاهدين، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 858 وأن يكون ردّه عليهم إذا استأذنوه لقتال معه: «لن تخرجوا معى أبدا ولن تقاتلوا معى عدوّا» .. هكذا يلقاهم النبىّ بهذا الحكم القاطع، الذي لا استثناء فيه، ولا رجوع عنه.. «إنكم رضيتم بالقعود أول مرة» . أي أول مرّة دعيتم فيها للجهاد دعوة ملزمة لا تحل منها، وذلك فى غزوة تبوك التي ندب النبىّ لها المسلمين جميعا، كما أمره الله سبحانه وتعالى بذلك فى قوله: «انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ..» (41: التوبة) . فهذه أول مرّة يدعى فيها المسلمون دعوة عامة للجهاد بكل ما يملكون من أنفس وأموال.. وفى قوله تعالى: «وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ» - ما يكشف عن شناعة جرم هؤلاء المنافقين، وفظاعة الجناية التي جنوها على أنفسهم.. ولهذا، فإن الصلة التي بينهم وبين المؤمنين قد انقطعت انقطاعا تاما فى الحياة، وفيما بعد الحياة، حتى لو مات ميّتهم لم يلتفت المسلمون إليه، ولم تعطفهم عليه عاطفة رحم أو رحمة.. وقد نهى الله النبىّ صلى الله عليه وسلم أن يصلى على أحد من موتاهم أو يقوم على قبره، داعيا له مستغفرا.. وهو نهى للمسلمين جميعا، فى جميع الأحوال والأزمان أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى.. أحياء أو أمواتا. «إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ» أي إنهم كانوا على كفر بالله وبرسوله، وقد ماتوا على هذا الكفر.. فلا ينالهم الله برحمته، ولا يرحمهم الراحمون.. وقوله سبحانه: «وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ» - هو تحقير لهؤلاء المنافقين، واستخفاف بما كان لهم فى الدنيا من مال وأولاد.. فإن كثرة هذه الأموال، وهؤلاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 859 الأولاد، لم تكن مبعث سعادة ورضى لهم فى دنياهم، كما يبدو ذلك من ظاهر الحال، ولكنها كانت مثار قلق دائم، وإزعاج متصل لهم، لأن عدم إيمانهم بالله واليوم الآخر أراهم كلّ الذي بين أيديهم، هو فى معرض الهلاك والزوال، لا يلتقون به بعد هذه الحياة، بل ولا يلتقون بأنفسهم بعد أن تحتويهم القبور، ويشتمل عليهم التراب.. فهم فى هذه الحياة، يختطفون اللذات اختطافا، ويختلسونها اختلاسا، بلا أمل فى غد، ولا رجاء فيما بعد غد.. وأنهم كلّما كثرت أموالهم وأولادهم كلّما ازدادت همومهم، وثقلت عليهم مئونة حراستها، ودفع غائلة العدوّ الراصد لها ولهم، وهو الفناء الأبدى، والقطيعة القاطعة بينها وبينهم. وقوله تعالى: «وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ» هو من البلاء المسلط عليهم من أموالهم وأولادهم، إذا كانت هذه الأموال والأولاد من الأسباب التي مدّها الله لهم، لتحجبهم عن الإيمان، وتقيمهم على طريق الكفر، فيعيشون به، ويموتون عليه. إذ كان شغلهم بأموالهم وأولادهم مما أعمى بصيرتهم عن النظر إلى ما وراء الأموال والأولاد.. وفى قوله سبحانه، فى هذه الآية: «وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ» وقوله فى الآية التي قبلها: «وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ» - إشارة إلى أن الكفر والفسق من واد واحد، وأن الكافر فاسق، والفاسق كافر.. إذ الفسق هو الخروج عن طريق الحقّ، والمشاقّة لله ولرسوله وللمؤمنين، وذلك هو الكفر كله. الآيات: (86- 89) [سورة التوبة (9) : الآيات 86 الى 89] وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 860 التفسير: قوله تعالى: «وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ» . أولو الطول: الطول: من طال الشيء بطوله، أي قدر عليه وتمكن منه.. وأولوا الطول: هم أصحاب القدرة التي تمكن لهم من بلوغ ما لا يستطيع غيرهم بلوغه، يجاههم، وسلطانهم، وأموالهم.. والآية الكريمة، تكشف عن وجه آخر من وجوه المنافقين، وتفضح طائفة أخرى من طوائفهم، وهم أصحاب الرياسة، والسيادة، والقدرة فيهم.. هؤلاء المنافقون «إِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ» أي إذا أنزل قرآن يحمل إلى المؤمنين أمرا من الله سبحانه وتعالى، يذكرهم بالإيمان بالله، ويدعوهم إلى الجهاد مع رسول الله.. «اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ» أي بادر أصحاب الطول هؤلاء، إلى التحلل من هذا الأمر، بالاعتذار إلى رسول الله، واستئذانه فى أن يعفيهم من إجابة هذه الدعوة، والجهاد فى سبيل الله.. وفى قولهم «ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ» ما يكشف عن استخفافهم بأمر الله، واسترواحهم للتحلل منه، حتى ليهنؤهم المقام، وتطيب لهم الحياة، فيقعدون مع القاعدين، ويسمرون مع السامرين.. وهذا ما يكشف عنه قوله تعالى: «رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ» الجزء: 5 ¦ الصفحة: 861 أي قد سولت لهم أنفسهم أن يكونوا مع الخوالف، ممن لا طول لهم ولا حول، من المرضى، والزّمنى، وأصحاب العاهات والعلل، والأطفال، والنساء، والإماء، والعبيد- رضوا أن يكونوا مع هذه الطوائف من الناس، وهم أصحاب طول وحول، لم يكن يرضيهم أبدا أن يكون بينهم وبين هذه الطوائف أمر جامع، أو صفة مشتركة.. فكيف وهم أصحاب الحول الطول ينزلون إلى هذا المستوي الذي يضيفهم إلى مجتمع الصبيان والعبيد؟ ولكن هكذا أرادوا أن يكونوا، وهكذا صنعوا بأيديهم هذا الثوب الذي لبسوه.. ثوب الصّغار والامتهان. وفى قوله سبحانه: «وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ» إشارة إلى أنهم وقد لبسوا ثياب المهانة والخزي بهذا الموقف الذي وقفوه- لا يدركون ما وقع عليهم من ذلة وهوان، إذ كانت أعينهم فى عمى، وقلوبهم فى غفلة، وعقولهم فى ضلال. وقوله تعالى: «لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» هو عرض للوجه الآخر المشرق الوضيء من وجهى هذا الموقف.. من أمر الله بالإيمان، ودعوته إلى الجهاد.. فإذا كان المنافقون، وأصحاب الطول فيهم، قد نكصوا على أعقابهم، ورضوا بأن يكونوا مع الخوالف، فإن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- والذين آمنوا معه، جاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله.. فما أن دعاهم الله ورسوله إلى الجهاد حتى طاروا إليه سراعا، ونفروا خفافا وثقالا. وإذا كان المخلّفون قد ألبسهم لله بتخلفهم ثوب الخزي ولذلة، فإن رسول الله والمجاهدين معه، قد تلقاهم الله حفيّا بهم، موسعا لهم فى رحاب فضله ورضوانه، فملأ أيديهم من المغانم، وكتب لهم النصر على عدوهم، ومكن لهم فى الأرض، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 862 وأعدّ لهم فى الآخرة جنات تجرى من تحتها الأنهار.. ورضوان من الله أكبر.. ذلك هو الفوز العظيم.. وفى قوله تعالى: «وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ» .. العطف هنا بالواو، إشارة إلى ما للرسول والمؤمنين المجاهدين معه، عند الله، من أوصاف كريمة، غير تلك الأوصاف التي وصفها الله بهم، وأن ما وصفوا به هنا ليس إلا من قبيل التنويه والإشارة إلى تلك الأوصاف التي لا تحصر، وإن كان ذكر قليلها يغنى عن كثيرها، لأنها كلها من باب واحد، هو باب الخير والإحسان.. ويكون من مفهوم الآية الكريمة.. لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم.. أولئك رضى الله عنهم، وأنزلهم منازل رحمته وإحسانه «وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» . وفى تكرار الإشارة إلى الرسول والمؤمنين المجاهدين فى قوله تعالى: «وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» تأكيد للتنويه بهم، وتقرير لدرجتهم العالية، ومنزلتهم الكريمة التي أنزلهم الله إياها.. كما أن فى ذلك إشارة إلى أن مقامهم هذا الرفيع الذي هم فيه، لا تبلغه الإشارة التي يقصر عنها النظر، وأنه لكى يمكن أن يرتفع النظر إلى هذا المستوي، ينبغى أن يكون ذلك على مراحل يقطعها صعدا فى الوصول إليهم. «أُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ» .. فانظر إليهم.. إنهم هنا! لا.. إنهم هناك.. ولا.. إنهم فوق هذا.. «أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» فارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير! الآيات: (90- 92) [سورة التوبة (9) : الآيات 90 الى 92] وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 863 التفسير: قوله تعالى: «وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ» «الواو» فى قوله تعالى «وجاء» تصل ما انقطع من حديث القرآن عن المنافقين، وما كشف من وجوههم المنكرة، وما فضح من أساليبهم المخادعة المضللة.. والفعل «جاء» فى امتداد مقطعه هكذا «جاء» وفى تذبذب أنغامه بين همس «الواو» وجهر الجيم، وخطف الهمزة- برسم صورة مكتملة الألوان والظلال للمنافقين، وهم فى طريقهم إلى النبىّ، متحاملين متثاقلين، تدور أعينهم هنا وهناك، حذرا من أن تفضحهم أعذارهم التي بين أيديهم، يسوقونها إلى النبىّ، ويدفعون بها فى خوف وخطف واضطراب.. ثم هم فى موكبهم الطويل إلى رسول الله أنماط مختلفة.. منهم.. السفيه الوقح، الذي لا يعرف الحياء وجهه.. فيجىء خفيفا مسرعا، يبادر القوم قبل أن يسبقوه، فيأخذوا عليه الطريق إلى ما يعتذر به، إذ كانوا قد استنفذوا الأعذار بين يدى رسول الله.. ومنهم من لا يعرف له عذرا.. ولكنه لا بدّ أن يعتذر، لأنه لا يريد أن يكون فى المجاهدين.. فيمشى إلى النبيّ متثاقلا متحاملا.. حتى تنكشف له وجوه الأعذار التي يعتذر بها المعتذرون، لعله يقع على واحد منها!! ومنهم من يقطع الطريق إلى النبىّ ولا يبلغه، بل يقف بعيدا يتسمّع الأنباء عن المعتذرين وما يعتذرون به وما يقوله النبىّ لهم! ومنهم.. ومنهم.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 864 إنهم أشكال متعددة، وأنماط مختلفة.. ولكنهم جميعا على طريق النفاق سائرون، وعلى نية التخلف عن الجهاد قائمون.. «وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ» .. والمعذّرون هم أصحاب الأعذار ومختلقوها.. فخلق الأعذار واصطناعها هو عملهم، والصفة الغالبة عليهم.. كما يقال: المهندسون، والمعلمون.. فهم صناع الأعذار، لا صنعة لهم غير هذا.. والأعراب: جمع أعرابى، وهم سكان البادية. وانظر فى وجه النظم القرآنى، يشهدك على هؤلاء الأعراب، وقد جاءوا من شتى الجهات، بعد أن سمعوا دعوة الرسول إليهم بقوله. «انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» - جاءوا لا لينتظموا فى صفوف المجاهدين، ولا ليقاتلوا فى سبيل الله، وإنما جاءوا ليعتذروا عن الجهاد، وليقدموا من المعاذير ما فى جهدهم، كما يقدم المجاهدون فى سبيل الله أموالهم وأنفسهم!! فما أتعس هذا المجيء، وما أشأم ذلك السعى! قوله تعالى: «وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» هو الوصف الذي وصف به أولئك المعذّرون، والسّمة التي وسموا بها.. فهم الذين قعدوا متخلفين عن الجهاد، وهم الذين افتروا الكذب على الله ورسوله، بهذه الأعذار التي اختلقوها وجاءوا إلى النبىّ بها.. وفى هذا الخبر تهديد ووعيد لهم.. إذ ليس مرادا به الإخبار عنهم، وأنهم قعدوا، وإنما هو خبر يكشف عن جريمة غليظة، ويحدّث عن منكر عظيم.. وفى قوله تعالى: «وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» حكم عليهم بالإدانة، وبأن هذه الأعذار التي اعتذروا بها إنما هى محض كذب وافتراء.. إذ هم الذين كذبوا الله ورسوله.. وقد عدل عن الضمير إلى الاسم الظاهر، ليعرضوا هذا العرض الكاشف عن كذبهم، ويسمعوا حكم الله عليهم.. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 865 وقوله سبحانه: «سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» هو بيان للجزاء الذي أحذ به هؤلاء المعذّرون الذين كذبوا الله ورسوله، وأنهم جميعا من أهل الكفر، ولا مثوى للكافرين غير النار وعذاب السعير. وحرف الجرّ فى قوله تعالى: «سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ» للبيان، لا للتبعيض. فكل هؤلاء المعذّبين من الكافرين فليس فيهم كافر وغير كافر، بل كلهم كافرون. أما أصحاب الأعذار الحقيقة فقد أغناهم الله سبحانه وتعالى عن أن يقفوا هذا الموقف، فعذرهم لله قبل أن يعتدروا، ورفع عنهم الحرج، فى قوله تعالى: «لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ» فهؤلاء أصحاب أعذار ظاهرة، ينطق بها لسان الحال، قبل أن ينطق بها لسان المقال.. فالشريعة الإسلامية قائمة على اليسر، ورفع الحرج عن المؤمنين، فلا إعنات فيها، ولا مشقّة أو عسر فى تكاليفها.. «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها.» فالضعفاء.. من شيوخ، وأطفال، ونساء، وعبيد وإماء، والمرضى وأصحاب العاهات المانعة من السفر والقتال- هؤلاء جميعا ومن فى حكمهم لا حرج عليهم فى أن يتخلفوا عن ركب المجاهدين، «إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» أي إذا كانت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 866 قلوبهم سليمة عامرة بالإيمان، تربط مشاعرهم بمشاعر المؤمنين المجاهدين فى سبيل الله.. فهم مع المجاهدين بمشاعرهم كلها. يدعون لهم بالنضر، ويتمنون لهم الغلب والسّلامة، ويخلفونهم فى أهلهم، ويقومون على رعاية أبنائهم وأزواجهم، وقضاء حوائجهم، ورفع الضرّ عنهم، ومواساة من أصيب منهم فى أب، أو أخ، أو زوج، إلى غير ذلك ممّا يبعث فى نفس المجاهد الطمأنينة، ويطلق يديه كليهما، ووجوده كلّه، للعمل فى ميدان المعركة، ومواجهة العدوّ.. وبهذا يكون المؤمنون جميعا فى ميدان المعركة. سواء منهم من شهدها وحارب فيها، أو من تخلّف، بما معه من عذر، ونصح لله ورسوله، فى سلوكه الطيب، مع من يخلّفهم المحاربون وراءهم من أهل وولد، وفى مشاعره المتجهة إلى المجاهدين فى ميدان القتال، والدعاء لهم بالنصر وتمنّيه لهم.. وقوله تعالى: «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» إشارة إلى أن هذا الذي يبدله المتخلفون من ذوى الأعذار، من نصح لله ورسوله، وراء جبهة القتال، هو غاية ما فى مستطاع هؤلاء المتخلفين، وهو ميدانهم الذي يكون لهم فيه عمل وإحسان.. «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» . فإذا أعطى المؤمن- فى باب الإحسان- ما وسعته نفسه، فهو فى المحسنين.. وقوله سبحانه: «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» إشارة أيضا إلى أن الذي يوجّه نفسه للإحسان، ويعمل له، هو محسن، وإن قصّر فيما عمل، ولم يبلغ غاية الإحسان.. فرحمة الله واسعة، ومغفرته شاملة، يتقبل من المحسنين أحسن ما عملوا، ويتجاوز عن سيئاتهم، كما يقول سبحانه: «أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ» (16: الأحقاف) . وقوله تعالى: «وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 867 ما يُنْفِقُونَ» - هو معطوف على قوله تعالى: «لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى..» أي ليس حرج على هؤلاء الذين أتوك لتحملهم، أي تهيىء لهم مركبا ينقلهم إلى ميدان الجهاد.. والخطاب للنبىّ صلى الله عليه وسلم، وقد جاءه جماعة من فقراء المسلمين، صحّت نيتهم على الغزو والجهاد، ولكنهم عجزوا عن أن يجدوا مركبا يركبونه، فجاءوا إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يحملهم معه فى جيش المجاهدين، ولم يكن بين يدى النبىّ، ولا فى جيش المسلمين ما يحملهم عليه، فقال لهم- صلوات الله وسلامه عليه: «لا أجد ما أحملكم عليه» .. فامتلأت نفوسهم أسى وحسرة، وفاضت دموعهم ألما وحزنا، أن فاتهم حظهم من الجهاد، وإن لم يكن فى أيديهم ما ينفقونه فى سبيل الله، وفى إعداد المركب الذي يحملهم مع المجاهدين: «تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ» .. وهؤلاء هم الذين عرفوا فى المسلمين بالبكائين. وإذا كان بكاء الرجال مذموما فى كل موطن، إلّا أنه هنا فى هذا المقام- مقام التعامل مع الله- محمود غاية الحمد، بل ومطلوب من المؤمن أن يكون هنا حاضر الدمعة غزيرها.. وفى الحديث: «إن لم تبكوا فتباكوا» .. فالدمعة هنا دمعة عزيزة على الله، لا تقع على الأرض، كما تقع دموع الباكين، فتضيع بددا.. وإنما تتلقاها ملائكة الرحمن، فإذا هى نهر جار من نور، يغمر فيه صاحبها، فإذا هو خلق من نور، أصفى من الجوهر، وأضوأ من شمس الضحى، يقول الرسول الكريم: «عينان لا تمسّهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس فى سبيل الله..» . تم الجزء العاشر، ويليه الجزء الحادي عشر.. إن شاء الله المؤلف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 868 [الجزء السادس] [تتمة سورة التوبة] الآيات: (93- 99) [سورة التوبة (9) : الآيات 93 الى 99] إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) التفسير: فى الآية السابقة على هذه الآيات، رفع الله الحرج عن الضعفاء والمرضى، وعن الذين لا يجدون ما ينفقون، إذا هم لم يكونوا فى موكب المجاهدين الذين يلقون العدوّ فى ميدان القتال، إذ كانوا ومعهم أعذارهم التي تحول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 869 بينهم وبين القيام بهذا الأمر الذي ندب الله سبحانه وتعالى المؤمنين له.. «لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ... ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» .. (الآية 91) . وفى هذه الآية: «إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ» اتهام ومؤاخذة لمن تخلّفوا عن الجهاد، ولا عذر لهم.. لأنهم قادرون- بأشخاصهم على أداء هذا الواجب المفروض عليهم، فهم ليسوا ضعفاء، أو مرضى، وهم قادرون بأموالهم على أن يجدوا الزاد الذي يتزودون به للسفر.. من طعام، وحمولة، وسلاح..! وعلّة واحدة لا غير، هى التي قعدت بهم عن أن يكونوا فى المجاهدين، هى أنهم «رضوا بأن يكونوا مع الخوالف» .. إنه لا شىء يقعدهم عن هذا الأمر إلا إيثارهم العافية والسلامة لأنفسهم، وإلّا ضنّهم بالمال وبالجهد عن البذل فى سبيل الله.. وذلك خذلان منهم لله، فكان أن خذلهم الله، «وطبع الله على قلوبهم» فلم يروا بها سوء ما هم عليه.. «فهم لا يعلمون» ما وقع عليهم من غبن فى هذا الموقف الذي وقفوه من أمر الله، والجهاد فى سبيل الله.. وفى مخالفة النظم لمقتضى السياق، فى قوله تعالى: «إنما السبيل» إذ كان من مقتضى السياق أن يكون: «إنما الحرج» - فى هذا ما يشير إلى ما بين الحالين من اختلاف.. فالضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون- هؤلاء ومن على شاكلتهم، واقعون تحت عفو الله، غير مطالبين بما هو مطلوب من أهل القوة والصحة والغنى.. فلا حرج عليهم، ولا جناح، إذا هم كانوا من المتخلفين.. أما هؤلاء الأغنياء الذين تخلّفوا عن قدرة، فهم فى مقام المؤاخذة، وفى معرض الجزاء والعقاب، ومن هنا كان السبيل مفتوحا، والطريق مكشوفا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 870 للجزاء الذي هم أهل له، وللعقاب الذي لا بدّ هو واقع بهم، إن عاجلا وإن آجلا ... ويشهد لهذا المعنى، قوله تعالى: «إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ» (42: الشورى) .. فهؤلاء الذين يظلمون الناس ويبغون فى الأرض بغير الحق، قد عرّضوا أنفسهم للنقمة والبلاء، وإنّه لا عاصم لهم يدفع عنهم هذا البلاء الذي سيحل بهم.. وقوله سبحانه: «فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا» (90: النساء) أي أن هؤلاء الكافرين الذين اعتزلوا القتال الذي بين المسلمين وبين الكافرين، وفاءوا إلى السّلم، ولم يبسطوا أيديهم أو ألسنتهم بأذى للمسلمين- فليس للمسلمين سبيل إلى قتالهم.. فانظر فى وجه هذا الكلام المشرق، تجد أنه كلام- وإن أخذ من أفواه الناس- قد نظمته بد القدرة، وجاءت به على هذا الإعجاز المبين.. فسبحان سبحان من هذا كلامه. وقوله تعالى: «يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ.. قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» . هو إخبار للنبىّ والمؤمنين، وإنذار للمنافقين وذوى الأعذار الكاذبة، إخبار بما سيكون من هؤلاء المنافقين والمعذّرين حين يلقون النبىّ والمؤمنين بعد عودتهم من غزوة تبوك- بما لفّقوا من أعذار، وما نسجوا من أكاذيب، يبرّرون بها تخلفهم عن الجهاد مع المجاهدين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 871 وقد أمر الله النبىّ والمؤمنين أن يبهتوا هؤلاء المعذّرين، وأن يفضحوهم على رءوس الأشهاد.. «لا تَعْتَذِرُوا.. لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ» .. أي لن نصدّق ما تعتذرون به، ولن نقبله.. وليس هذا مما يشهد به حالكم، وتفضحه ألسنتكم وحسب، وإنما هو مما علمه الله منكم، وأطلع نبيّه عليه: «قد نبأنا الله من أخباركم» . - وقوله تعالى: «وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ» أي سيرى الله ورسوله ما يكون منكم بعد هذا من مواقف حيال الإسلام والمسلمين، من بغى وعدوان، ومخادعة ونفاق، أو مسالمة وسلام.. ومعنى الرؤية هنا، العلم القائم على واقع الحال.. وهذا ما جعل الرؤية معلقة على المستقبل: «وسيرى الله عملكم ورسوله» أي فى حال تلبّسهم بما يعملون. أما رؤية الله سبحانه فهى مطلقة تشمل الزمان والمكان جميعا.. - وقوله سبحانه: «ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» تهديد لهؤلاء المعذّرين، بوضعهم تحت المراقبة التي لا تغفل، والتي تعلم سرّهم وجهرهم، وتأخذهم جميعا بما عملوا، فلا يفلت منهم أحد. قوله تعالى: «سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» . يكشف عمّا فى وجوه المنافقين من صفاقة، وأنهم لا يكترثون كثيرا بما يحببهم به النبىّ والمؤمنون من ردّ وردع، ومن تكذيب وبهت.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 872 والمنافق لا يلبس أثواب النفاق إلّا إذا كان صفيقا، لا يعرف الحياء سبيلا إليه، ولو كان فى وجه المنافق شىء من الحياء، لما رضى لنفسه أن يلقى الناس بشخص غير شخصه، وبوجود غير وجوده! وليس هكذا شأن المؤمن بالله.. إنه بإيمانه بالله، واستناده إلى أقوى الأقوياء، لا يرى فى هذا الوجود قوة يخشى بأسها، أو يرهب سلطانها، مادام مستمسكا بالحق، مستقيما على طريق العدل والإحسان.. ورحم الله البوصيرى إذ يقول: ومن تكن برسول الله نصرته ... إن تلقه الأسد فى آجامها تجم فالاستنصار برسول الله، هو التمسك بالشريعة التي جاء بها صلوات الله وسلامه عليه، فذلك هو الإيمان بالله، والله سبحانه وتعالى يقول: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ..» وهكذا، كل من استقام على طريق الحق، يجد من نفسه القوة التي تنأى به عن سفساف الأمور، وترفعه عن الدنايا، فلا يأتى ما يخلّ بالمروءة، أو يشين الشرف..! وليس هذا فى الإنسان وحده، بل إنه فى عالم الحيوان.. فالحيوان الضعيف، يقوّى ضعفه بالاحتيال والمخادعة.. على حين أن الحيوان القوى يأخذ فى حياته خطّا مستقيما واضحا.. وشتان بين الثعلب، والأسد.. فذاك من ضعفه مخادع مخاتل، وهذا من قوته ظاهر واضح. ذاك يأكل الجيف ولا يعافها، وهذا يعفّ عن أن يلوّث فمه بالميتة وإن هلك جوعا..! وأكثر من هذا، فإن عالم النبات يجرى على هذا الأسلوب من الحياة.. الشجرة القوية، الطيبة، لا تأوى إليها الهوام، ولا تندس فيها الحشرات.. على حين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 873 أن الأشجار الواهية الضعيفة تكون مباءة للآفات، ومرتعا للحشرات والهوامّ.. وأكثر من هذا أيضا.. عالم الجماد تجد فيه هذه الظاهرة واضحة على أتمّها.. فالأرض الصلبة لا تشوّه وجهها الأخاديد والحفر..! والمرتفع من الأرض لا يكون مستودعا للمياه الراكدة، والمستنقعات.. وقمة الجبل لا تكون محطّا لخسيس الطير أبدا.. القوّة أبدا.. هى موطن السلامة والعافية، وهى مستودع الخير والحسن.. فإذا كانت القوة قوة منبعثة من إيمان يعمر القلب، ويغذّى الوجدان، كانت قوة كلّها خير، ورحمة، وإحسان. والإيمان هو الزاد الذي يغذّى القوة الروحية فى الإنسان، ذلك الزاد الذي تتجمع عناصره من الأعمال الصالحة التي نمت فى ظل الإيمان، والتي تجمعها التقوى التي يقول الله سبحانه وتعالى فيها: «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى» فهؤلاء المنافقون الذين ردّهم النبىّ والمؤمنون، وفضحوا ما جاءوا إليهم به من أعذار- هاهم أولاء يجيئون إلى النبىّ والمؤمنين بوجه آخر من وجوه نفاقهم، يجيئون بأعذارهم تلك التي كذّبها الله، وفضحها النبىّ والمؤمنون، فيزكّونها بالحلف كما يذكّى الذابح البهيمة بالذبح، بعد أن تموت وتتعفّن!! وماذا يريدون بهذا الحلف الكاذب؟ يريدون أن يقبل النبىّ والمؤمنون أعذارهم، وأن يصدقوا منهم هذا الكذب المفضوح، وبهذا يتحقق لهم أمران: الأمر الأول: عدم فقدان الثقة فى أنفسهم، وفى تلك البضاعة التي يتعاملون بها، لأنه لا وجود لهم إذا أفلت من بين أيديهم هذا الزاد الذي يعيشون فيه، وبارت تلك البضاعة التي هى رأس مالهم فى الحياة.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 874 وثانى الأمرين- وهو تبع للأمر الأول- أن يعرض النبىّ والمؤمنون عنهم، فلا يأخذونهم باللّوم، ولا يضعونهم موضع الاتهام.. وقد دعا الله النبىّ والمؤمنين أن يعرضوا عنهم، ولكن لا إعراض المصدّق أو المتسامح، بل إعراض المشمئز المتقزّز النافر من شىء كريه، تؤذيه رائحته: «إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» .. فإنهم لو سلموا من أذى النبىّ والمسلمين، فلن يسلموا من عقاب الله، ومن عذاب السعير المعدّ لهم.. قوله تعالى: «يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ» . هو بيان لحلف يحلف به المنافقون، يريدون به أكثر مما يريده الذين حلفوا منهم، وكانوا يريدون به أن يعرض عنهم النبي والمؤمنون، فلا ينالوهم بأذى.. أما هؤلاء، فإنهم يبغون بحلفهم أن يرضى النبىّ والمؤمنون عنهم، وأن يخلطوهم بهم..! وقد أيأس الله المنافقين من أن ينالوا بحلفهم هذا الرضا الذي طلبوه، وأنه حتى لو رضى النبي والمؤمنون عنهم- وهذا ما لا يكون أبدا- فلن يرضى الله عنهم: «فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ» .. قوله تعالى: «الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» . تشير الآية الكريمة هنا إلى ما للبيئة من أثر فى طبيعة الإنسان، وفى رسم معالم شخصيته، وتحديد مواقفه من الحياة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 875 والبادية، وما فيها من جفاف، وجدب وقسوة، قد طبعت الكائنات فيها- وبخاصة الإنسان- بطابعها الجاف الجديب القاسي.. وفى المثل: «من بدا جفا» . ومن هنا كانت الطبيعة الحادّة فى نفس البدوىّ، ذاهبة به مذهب الغلوّ والتطرف.. فالمنافقون من أهل البادية على نفاق أشد وأسوأ من نفاق سكان الحضر.. وكذلك كفرهم.. هو كفر غليظ كثيف مغلق، لا تطلع عليه ضوءة من الحق أبدا، وإنهم لبعدهم عن مواقع الهدى من رسول الله، ومن المؤمنين، قد فاتهم خير كثير، إذ لم يعلموا ما بين يدى الله من دين الله، ومن شريعة الله.. ومن علم منهم شيئا من هذا، لم يعلمه علم تحقق ويقين.. وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» دعوة لهؤلاء الأعراب أن ينزعوا لباس البداوة، وأن يخرجوا من حياتهم تلك، إلى حياة الحضر، وأن يقتربوا من مواطن العلم والمعرفة، حيث يلقون رسول الله، ويأخذون عنه، ويخالطون المؤمنين، ويحذون حذوهم.. فالله سبحانه «عليم حكيم» ولا يعرف الطريق إلى الله، ويحسن التعامل معه، إلا أهل العلم والحكمة.. فالإسلام إذ يشنع على البداوة، وإذ يصم أهلها بالنفاق الكريه، والكفر الغليظ، والجهل الفاضح- الإسلام بهذا يدعو إلى العمران، ويحرض على المدنية، ويبغض إلى الناس العزلة والوحشة وقبول الحياة، كما هى، من غير معالجة لأشيائها، ووضع بصمة الإنسان العالم الحكيم عليها.. قوله تعالى: «وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 876 بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» الأعراب الذين دخلوا فى الإسلام على غير علم أو نظر، لم يكن لهذا الدين أثر فى نفوسهم، ولا لشريعته حساب فى ضمائرهم.. إنهم مسلمون، وليسوا مؤمنين، كما وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله: «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ» .. (14: الحجرات) هؤلاء الأعراب إذا دعوا إلى الإنفاق فى سبيل الله، بحكم أنهم مسلمون، تجب عليهم الزكاة، كما يجب عليهم الجهاد بالمال والنفس فى سبيل الله- إذا دعوا إلى الإنفاق لم ينفقوا إلا تحت هذا الحكم الملزم لهم، لا عن طواعية واختيار، ولهذا يعدّون ما ينفقون فى هذا الوجه مغرما، لأنهم أنفقوه فى غير ما يشتهون، فهم لهذا ينظرون إلى الوجه الذي أنفقوه فيه نظر حقد وكراهية، ويتربصون بالمسلمين وبالمجاهدين الدوائر، أي يتمنون لهم الهزيمة والضياع، حتى لا يكون للإسلام يد عليهم تأخذ من أموالهم ما تأخذ من صدقات.. والدوائر جمع دائرة، وهى خط أشبه بالحلقة، يدور حول نقطة ارتكاز فى وسطه.. وقد استعيرت للشر يقع بالإنسان أو الجماعة، فى مجال الصراع مع قوة أخرى معادية، فيقال دارت عليهم الدائرة، أي هزموا، وذلك يعنى أنهم قد أطبق عليهم العدوّ وأحكم عليهم إغلاق طريق الإفلات أو الفرار، فكانوا وكأنّ العدوّ دائرة عليهم. وقد ردّ الله على المنافقين الذين يتربصون بالمؤمنين الدائرة بقوله: «عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ» .. فقضى الله عليهم هذا القضاء، وتوعدهم به، وهو أن الدائرة التي ينتظرونها فى المسلمين، لن تقع فى المسلمين، الذين سيكتب الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 877 لهم العزة والغلب، وإنما ستحلّ الدائرة بهؤلاء المنافقين، وسينزل بهم الخزي والسوء. وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» تهديد لهؤلاء المنافقين بمراقبة الله سبحانه وتعالى لهم، واطّلاعه على ما يسرّون وما يعلنون، وأنه سبحانه مؤاخذهم بما كانوا يكسبون.. قوله تعالى: «وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ.. أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ.. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» . ليس الأعراب جميعا على حال سواء، فإذا كانت الصحراء تنبت الشوك والحسك، وتؤوي الوحوش والحيّات، فإنها تخرج العرار «1» والريحان، وتتحلّى بالظّباء والنّعام.. وإذا كان فى أعراب البادية، الجفاة، وأهل الوحشة والجهالة، فإن فيهم ذوى النفوس الرقيقة، والقلوب المتفتحة، والوجدانات الشفيفة.. التي تذوب رقة وعذوبة.. إن هؤلاء أشبه بالأنسام العليلة الرطبة، التي تهمس بها أنفاس الصحراء بين الحين والحين فى آذان الأصائل والأشجار، فتبعث الرّوح والعافية فى كيان الأحياء، التي كادت تهلك من لفحات الهجير، ووقدات السّموم! .. ففى أعراب البادية الشعراء، والحكماء، وأصحاب الفراسة والألمعية التي تلمح بذكائها الفطري ما لا تلمحه العين المبصرة وراء المجهر، وتكشف بصدق حدسها وظنّها من خفايا النفوس، ما لا يكشفه عالم النفس بأدوات علمه، ومقاييس فنّه. والذين دخلوا الإسلام من هؤلاء الأعراب، من ذوى النظر، والحكمة، قد عرفوا هذا الدّين معرفة كاشفة، فازدادت به بصائرهم استضاءة وتألفا،   (1) العرار: نبت طيب الريح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 878 واستروحت منه قلوبهم روح الطمأنينة واليقين.. فصحبوا هذا الدين صحبة المؤاخاة والمخالطة، وعايشوه معايشة الأمن والعافية، وأمسكوا به إمساك الأرض الطيبة هو اطل الغيث السّخىّ.. فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج. فإذا أنفق هؤلاء المؤمنون من الأعراب نفقة فى سبيل الله احتسبوها قربات يتقربون بها إلى الله، ويبتغون بها مرضاته، ويلتمسون منها صلوات الله وبركات دعائه.. وفى قوله تعالى: «وَصَلَواتِ الرَّسُولِ» بالعطف على قوله سبحانه: «قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ» إشارة إلى أن صلوات الرسول، أي دعاءه لمن يقدّم له الصدقات، هى مما يتقرب به المتقربون إلى الله.. فهى صدقات إلى صدقاتهم، يضيفها الرسول إليهم لتزيد فى قربهم إلى الله.. فلقد، كان الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- يصلّى على المتصدق، أي يدعو له، بالخير، والبركة، وذلك امتثالا لقوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ» .. وقوله تعالى: «أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ» هو توكيد للمفهوم الضمنى الذي أفاده عطف صلوات الرسول على قوله تعالى: «قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ» .. فهذه الصلوات والدعوات من الرسول هى قربة لهم عند الله، بمعنى أن دعاء الرسول للمؤمن، يعنى رضا الرسول عنه، وهذا الرضا هو فى ذاته قربة عند الله للمؤمن، ينال به رضا الله ومغفرته، سواء أكان دعاء الرسول ورضاه عن نفقة أنفقها المؤمن، أو عن كلمة طيبة قالها، أو مسعى حميد سعى به بين المسلمين، أو موقف كريم وقفه، أو مشهد حسن شهده.. وقد دعا الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- لعثمان رضى الله عنه، حين أنفق ما أنفق فى تجهيز جيش العسرة فقال: «اللهم ارض عن عثمان فإنى أصبحت عنه راضيا» ! فكان عثمان بذلك أحد العشرة المبشرين بالجنّة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 879 وقوله تعالى: «سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» - هو الجزاء الذي سيجزيه الله هؤلاء الذين أنفقوا فى سبيل الله، فنالوا رضا الله عنهم، ورضا رسوله، وصلواته عليهم.. الآيات: (100- 106) [سورة التوبة (9) : الآيات 100 الى 106] وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) التفسير: «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 880 خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» مناسبة هذه الآية لما قبلها أنها تعرض صورة مشرقة للمؤمنين، الذين يتجلّى عليهم الله سبحانه وتعالى برضوانه، وينزلهم منازل فضله وإحسانه، وذلك بعد أن عرض فى الآية السابقة عليها صورة مضيئة، انبثقت من بين ظلام البداوة، وطلعت من مهابّ سمومها وهجيرها.. فالسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان- هم الإنسانية الكريمة الوضيئة، يتمثل فيهم كل ما يمكن أن تعطيه الإنسانية من ثمر طيّب مبارك.. فهم من الإنسانية بمنزلة هذه القلّة من أعراب البادية، الذين خلصوا من كدر البادية، وسلموا من أدرانها وأوضارها.. والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.. هم الذين سبقوا إلى الإسلام، فكانوا الكوكبة الأولى التي تقدمت ركبه الميمون، وكانوا الكواكب الدّريّة التي بين يد فجره الوليد.. أولئك هم الذين حملوا أعباء الدعوة الإسلامية، واحتملوا- فى صبر ورضا- مواجهة العاصفة التي هبّت عليهم عانية مزمجرة، تحمل فى كيانها جهالة الجاهلية، وحماقاتها، وسفاهاتها، وعتوّها وضلالها.. فكان لهم عند الله هذا المكان الكريم، وتلك المنزلة التي اختصهم بها، وأفردهم فيها.. فمن أراد أن يلحق بهم ويضاف إليهم، فسبيله إلى ذلك أن يقفو أثرهم، ويتبع سبيلهم، ويحسن كما أحسنوا، ويبلى كما أبلوا.. فذلك هو الثمن لمن يطلب رضا الله، ويطمع فى أن يكون مع أحبابه وأصفيائه.. فيكون بهذا مضافا إليهم مع الذين اتبعوهم بإحسان. وفى قوله تعالى: «بِإِحْسانٍ» هو قيد مؤكّد، يكشف عن الإحسان الذي يكون من متابعة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والتأسّى بهم.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 881 فمتابعتهم هى إحسان، وقوله تعالى: «بِإِحْسانٍ» هو توكيد لهذا الإحسان الذي تنطوى عليه المتابعة.. وهذا يعنى أن ما كان من السابقين من المهاجرين والأنصار، هو إحسان كلّه، فمن تابعهم، وتأسّ بهم على ما كانوا عليه، فهو محسن.. كل الإحسان!. وقوله تعالى: «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» هو عرض كاشف لمنزلة هؤلاء الصفوة من عباد الله، وأنّ الله رضى عنهم، بما كان منهم من إحسان، وأنّهم رضوا، بما أرضاهم الله به، ونعموا فيه.. وفى قوله تعالى: «وَرَضُوا عَنْهُ» رضوان فوق رضوان من عند الله، يحفّهم به، ويزيدهم نعيما إلى نعيم.. إذ جعل الله سبحانه وتعالى رضاهم عنه بما أعطاهم معادلا لرضاه عنهم، حتى لكأنه سبحانه وتعالى، يتبادل الرضا معهم، فيرضى عنهم، ويرضون عنه.. فسبحانه، ما أعظم لطفه، وما أوسع فضله، وما أكرم عطاءه، وأسبغ إحسانه! قرئ: «والأنصار» بالرفع. على الاستئناف.. وفى هذه القراءة يكون قوله تعالى «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ» مقصورا على المهاجرين وحدهم.. وهذه القراءة ينقضها التفسير العملىّ للآية الكريمة التي احتج بها أبو بكر رضى الله عنه على الأنصار، وجعلها مستنده فى تقديم المهاجرين على الأنصار، فقال فى خطبة «يوم السقيفة» مخاطبا الأنصار: «أسلمنا قبلكم، وقدّمنا فى الكتاب عليكم، فقال تعالى «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ» فنحن الأمراء، وأنتم الوزراء.. وهذا يعنى أن الأنصار شركاء للمهاجرين فى هذا الفضل، الذي تطلب الخلافة به، وأن المهاجرين إذا كانوا أولا، فالأنصار ثانيا، كما جاء ذكرهم فى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 882 القرآن الكريم: «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ» فذكر المهاجرون أولا، ثم الأنصار ثانيا.. وإذا كانت واو العطف النحوية لا تفيد ترتيبا، ولا تعقيبا، فإن واو العطف القرآنية، تفيد ترتيبا وتعقيبا.. هكذا دائما. فى كل مقام وقع فيه العطف بين متعاطفين أو أكثر.. وأما قوله تعالى: «وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ» .. فهو معطوف كذلك على ما قبله عطف نسق، بمعنى أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوا السابقين من المهاجرين والأنصار، هم جميعا ممن رضى الله عنهم ورضوا عنه، وأعدّ لهم جنات تجرى تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا.. وإن كان ثمة تفاضل فهو فى الدرجة، وليس فى الرتبة. والأنصار أعنى السابقين الأولين منهم، وهم الذين بايعوا النبىّ بيعتى العقبة. الأولى والثانية قبل الهجرة، والذين استجابوا له، وأقاموا المجتمع الإسلامى الأول بالمدينة، وكانوا حصن الإسلام والمسلمين- هؤلاء جديرون بأن يشاركوا المهاجرين الأولين منزلتهم، وأن يزاحموهم بالمناكب عليها، وإن كان فضل الله أوسع وأرحب من أن يقع فى رحابه زحام أو صدام.. وكذلك الذين جاءوا من بعد المهاجرين الأولين والأنصار، وسلكوا طريقهم، وساروا سيرتهم، هم جديرون بأن يلحقوا بهذا الركب الميمون، وأن يكونوا منه غير بعيد.. فإذا كانت مع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار آيات النبوّة، ونفحات النبىّ، فسبقوا إلى الإيمان، ودانوا له، وأعطوه ولاءهم كاملا، حتى اشتمل عليهم ظاهرا وباطنا، وكان حريّابهم أن يبلغوا من الصفاء والشفافية واليقين ما بلغوا، مما تتقطع دونه الأعناق- إذا كان ذلك كذلك، فإن الذين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 883 يجيئون من بعدهم فى أجيال الإسلام المتعاقبة إلى يوم القيامة، ويؤمنون إيمانا أقرب إلى إيمانهم، ويأخذون سمتا مدانيا لسمتهم- هم أهل لأن يلحقوا بهم، وأن ينزلوا منزلتهم، إذ أنهم آمنوا وأحسنوا، ولا نبوة بين أيديهم، ولا نبىّ يملأ حياتهم هدى ونورا.. يقول ابن مسعود رضى الله عنه: «إنّ أمر محمد كان بيّنا لمن رآه.. والذي لا إله غيره ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم تلا قوله تعالى: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» هذا وقد جاء ذكر هؤلاء الصفوة من المؤمنين، من السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان- جاء ذكرهم على هذا الترتيب فى قوله تعالى: «لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» (8- 10: الحشر) . وهكذا الإسلام، طريقه مفتوح دائما لأصحاب النفوس الطيبة، والقلوب السليمة، والعزائم الصادقة، يرتادون فيه منازل الرضوان، وينزلون منها حيث الجزء: 6 ¦ الصفحة: 884 يبلغ جهدهم، وتحتمل عزماتهم.. وهكذا يدخل المسلمون جميعا، بل الناس جميعا، تحت قوله تعالى: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» .. ففى ذلك فليتنافس المتنافسون، ولهذا فليعمل العاملون.. قوله تعالى: «وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ» بعد هذه الصورة المشرقة التي عرضتها الآية السابقة لأهل السبق والإحسان وما أعدّ لهم من نعيم، وما أسبغ عليهم من رضا- جاءت هذه الآية لتعرض صورة معتمة طامسة، لأهل الزيغ والضلال، وتكشف عن وجوه منكرة للإنسانية حين تفسد فطرتها، وتشوه معالم إنسانيتها.. وذلك ليكون لهؤلاء المنافقين الضالين نظر فى أنفسهم، ورجعة إلى ربهم، إن كانت قد بقيت فيهم بقية صالحة لنظر واعتبار. ففى الأعراب الذين حول المدينة منافقون، وفى المدينة ذاتها منافقون.. وهؤلاء وأولئك جميعا قد مردوا على النفاق، أي شبوا عليه، ورضعوا أخلاقه وهم شباب مرد، فمرنوا عليه، وخف عليهم محمله، إذ شب معهم وصار بعضا منهم، أشبه بالجارحة من جوارحهم.. وفى قوله تعالى «لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ» تهديد ووعيد لأولئك المنافقين الذين برعوا فى النفاق، وصاروا أساتذة فيه، حتى لا يكاد يطلع عليهم أحد، وهم يتعاملون به، ويتعاطون كئوسه مترعة! ولكن الله يعلمهم، وهو- سبحانه- الذي يتولى حسابهم ويأخذهم بذنوبهم، بل ويفضحهم فى هذه الدنيا، بما ينزل من آيات فيهم.. وقوله تعالى: «سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ» .. اختلف المفسرون فى عذاب المنافقين مرتين.. ولم نجد عندهم ما نرضاه ونستريح إليه.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 885 ونقول- والله أعلم-: إن عذاب المنافقين مرتين هو فى النصر الذي يتحقق للإسلام، وفى المغانم التي تمتلىء بها أيدى المسلمين، هذا عذاب من أحد العذابين، الذي تتقطع به قلوب المنافقين كمدا وحسرة.. أما العذاب الآخر، فهو ما يصيبهم فى أنفسهم من بلاء على أيدى المؤمنين، حيث يجرفهم تيار الإسلام، ويزعج أمنهم وسلامتهم، ويخرجهم من ديارهم وأموالهم كما حدث مع اليهود.. أما العذاب العظيم الذي يردّون إليه بعد هذين العذابين، فهو عذاب الآخرة، «يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (55: العنكبوت) قوله تعالى: «وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» . هو إشارة إلى صنف آخر من الذين نافقوا فى غزوة تبوك، فتخلفوا عنها بأعذار ملفّقة، وتعللوا بتعللات كاذبة، وقد وقع فى أنفسهم النّدم على ما كان منهم، وجاءوا إلى النبىّ معترفين بذنوبهم، ومنهم الثلاثة الذين خلّفوا، والذين ذكرهم الله بعد ذلك فى قوله سبحانه: «وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا» . فهؤلاء المخلّفون، قد خلطوا عملا صالحا كان منهم قبل هذا التخلف، بآخر سيّىء، هو هذا التخلف عن رسول الله وعن المؤمنين فى غزوة تبوك.. - وفى قوله تعالى: «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» دعوة لهم إلى المبادرة بالتوبة، والانخلاع مما تلبّسوا به من خلاف لله ولرسوله. فإنهم إن أخلصوا نيّاتهم، وأخلوا قلوبهم من وساوس النفاق، ورجعوا إلى الله تائبين- كانوا بمعرض الصفح والمغفرة، فإنهم يطلبون الصفح والمغفرة من رب غفور رحيم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 886 قوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» - هو تحريض للمؤمنين عامة، ولهؤلاء المذنبين خاصة على البذل والإحسان فى سبيل الله، فإن إنفاق المال فى سبيل الله هو عدل الجهاد بالنفس، وهو تطهير للمتصدق، وتزكية له من الأوضار والآثام التي تعلق به. - وفى قوله سبحانه: «مِنْ أَمْوالِهِمْ» إشارة إلى أن المطلوب بذله فى وجوه الإحسان من المال، هو بعضه لا كلّه، وفى ذلك رحمة بالناس. - وفى قوله تعالى: «وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ» - أكثر من إشارة: فأولا: أن فى صلاة النبىّ على المتصدّق، ودعائه له، مجازاة عاجلة بالإحسان، يجد المتصدّق أثرها فى نفسه، وبردها على قلبه، فيشيع فى كيانه الرضا، وتملأ قلبه السكينة. وهذا أدب ينبغى أن يتأدب المسلمون به، فيلقون إحسان المحسن بالحمد والشكران، فإن ذلك أقلّ ما يجزى به، والله سبحانه وتعالى يقول: «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ» .. وبهذا تتفتح النفوس للخير، وتسخو الأيدى بالإحسان.. وثانيا: أن الإحسان فى ذاته جدير بأن يحمد للمحسن فى كلّ إنسان، سواء أصابه شىء من هذا الإحسان أم لم يصبه، فهو عمل طيب، وصنيع مبرور، وكما ينبغى على المؤمن أن ينكر المنكر لذاته، كذلك يجب عليه أن يحمد المعروف لذاته.. وبهذا يشيع فى الناس الخير، وتتكاثر أعداد المتعاملين به. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 887 والرسول- صلوات الله وسلامه عليه- إنما يدعو للمتصدقين، ويصلّى عليهم، لا لأنه يحتجز صدقاتهم لنفسه، ويضمها لذات يده، وإنما لأنها خير مبذول فى وجوه الخير، وبرّ مرسل فى سبيل الله.. وهو- صلوات الله وسلامه عليه- قائم على رسالة الخير والبرّ. هذا، وقد قيل فى سبب نزول هذه الآية: إن الثلاثة الذين خلّفوا، حين اعترفوا بذنوبهم، ونزل فى قبول توبتهم قوله تعالى: «وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا» ، جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأموالهم، فقالوا: هذه أموالنا التي خلّفتنا عنك، فخذها وتصدّق بها عنا، فقال النبىّ: «ما أمرت» فنزلت الآية: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً» . وهذا سبب غير واضح، وغير مناسب لهذا الموقف، فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد كرّم هؤلاء الثلاثة الذين خلّفوا، وقبل توبتهم، وأنزل فى ذلك قرآنا، فكيف لا يقبل الرسول صلوات الله وسلامه عليه ما يقدّمون من صدقات؟ أليسوا مؤمنين؟ أليسوا ممن تجب عليهم الزكاة؟ أليسوا ممن يطلب إليهم الإحسان ويقبل منهم.؟ والذي نستريح إليه، هو أن الآية أمر مطلق ببذل الصدقات، وأن مناسبة ذلك هو ما عرض من آثام المنافقين وجرائمهم، فناسب ذلك أن يجىء الأمر بالدعوة إلى الزكاة، التي من شأنها تطهير الآثمين.. وفى توجيه الأمر للنبى صلوات الله وسلامه عليه بقبولها، تحريض للمسلمين على أدائها، وإشارة دالّة على اليد الكريمة التي تتناولها منهم، والجزاء الحسن الذي تجزيهم به.. وليس هذا فحسب، بل إن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتقبل منهم صدقاتهم، كما تشير إلى ذلك الآية التالية.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 888 قوله تعالى: «أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» .. فى الآية وعد كريم من الله سبحانه وتعالى بأنه يقبل التوبة عن عباده. فيلقى التائب منهم بالقبول والمغفرة، ويتقبل ما يقدّم من صدقة.. وهذا ينقض ما قيل فى سبب نزول الآية: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً» . كما أشرنا إلى ذلك من قبل.. فإن من قبل الله توبته، لم يردّ صدقته.. والاستفهام هنا تقريرى، وضمير الفصل هو توكيد لاختصاص الله سبحانه وتعالى وحده بقبول التوبة، ومنح العفو والغفران.. وليس ذلك لغير الله.. - وفى قوله تعالى «يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ» ما يسأل عنه، وهو: لم عدّى الفعل «يقبل» بحرف الجرّ «عن» مع أن الاستعمال اللغوي لهذا الفعل لم يجىء متعديا إلّا بحرف الجرّ «من» .. كما جاء ذلك فى الاستعمال القرآنى لهذا الفعل فى قوله تعالى: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» وفى قوله سبحانه: «إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» .. فلم عدّى الفعل هنا بحرف الجر «عن» ؟ الجواب- والله أعلم- أن التوبة التي يقبلها الله من عباده تضع عنهم ما حمّلوا به من أوزار، وما أثقل كاهلهم من ذنوب، فكان فى قبول التوبة منهم رفع لهذه الآثام عنهم، ولهذا ضمن الفعل «يقبل» معنى الفعل يضع، أو يسقط.. ونحو هذا، كما نظر إلى التوبة على أنها شىء محمّل بالذنوب والآثام لأن التوبة لا تكون إلا عن ذنب وقع، أو إثم اقترف.. فكان قوله تعالى: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 889 «أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ» يعنى ألم يعلموا أن الله يضع الذنوب والآثام عن عباده. ويرفعها عن كواهلهم؟. وقوله تعالى: «وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يأخذ صدقات المتصدقين ويجزيهم عليها، وأن النبىّ إذ يأخذها منهم، فإنما يأخذها بأمر الله، وينفقها فى سبيل الله، وكذلك كل صدقة يأخذها متصدّق عليه من متصدّق.. إنها لله، لا للمتصدّق عليه، وهو سبحانه الذي يجزى عليها كما يقول الله سبحانه وتعالى: «قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ» (88: يوسف) . وفى هذا يقول النبىّ صلوات الله وسلامه عليه: «إن الصدقة تقع فى يد الله قبل أن تصل إلى يد السائل» . قوله تعالى: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» . هو دعوة عامة للمبادرة إلى العمل فى مجال الخير والإحسان.. وفى العمل فى هذا المجال يعرف العاملون بأعمالهم.. فما كان فى السرّ أو الجهر يعلمه الله، وما كان فى الجهر يعلمه الرسول ويعلمه المؤمنون، وعلى حسب هذه الأعمال يجزى الله، ويضع المحسنين، والمقصرين، والمسيئين، كل منهم فى منزلة، ويجزيه الجزاء الذي هو أهل له.. وعلى ما يظهر من هذه الأعمال الرسول وللمؤمنين، يكون قرب العاملين أو بعدهم من رسول الله ومن المؤمنين، ويكون حسابهم معهم، من موالاة أو معاداة.. هذا فى الدنيا، فإذا كانت الآخرة كشف الغطاء عن أعمال العاملين، خيرها وشرها، وجوزوا عليها بالإحسان إحسانا، وبالسوء سوءا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 890 قوله تعالى: «وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» . الإرجاء: التأخير والانتظار،.. يقال: أرجأت الأمر وأرجيته، أي أخرته.. ومرجون لأمر الله، أي مؤخرون ومنظرون لما يقضى به الله فيهم. قيل نزلت هذه الآية فى الثلاثة الذين خلفوا، وهم كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وهم من الأنصار، وكانوا قد تخلفوا فى غزوة تبوك، ولم يكن لهم عذر، ولم يكن هذا التخلف عن نفاق. ولكن عن توان وفتور، وتردد.. فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك تلقاه المنافقون بأعذارهم، فقبلها منهم، وتركهم لحسابهم مع الله.. وأما هؤلاء الثلاثة فإنهم صدقوا الرسول فيما قالوا إذ قالوا: «والله يا رسول الله مالنا من عذر نعتذر به» وكانوا حين تخلّفوا عن رسول الله قد استشعروا الندم. فأوثقوا أنفسهم بسوارى «1» المسجد، وأقسموا ألا يطلقوا أنفسهم منها، حتى يكون رسول الله هو الذي يطلقهم، فلما رجع الرسول، وأخبر خبرهم، قال: «وأنا أقسم لا أكون أول من حلّهم إلّا أن أومر فيهم بأمر» . فلما نزل قوله تعالى: «وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ» عمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلّهم.. ونهى رسول الله المسلمين عن مكالمتهم، وأمر نساءهم باعتزالهم.. حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وأقاموا على ذلك خمسين ليلة، ثم نزل قوله تعالى: «وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا» فكان ذلك إيذانا بقبول توبتهم. هذا مما أجمع عليه المفسّرون.. غير أن لنا فى الآية رأيا آخر، وهو أنها تكشف عن جانب من رحمة   (1) السواري: جمع سارية. وهى عمود المسجد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 891 الله بعباده، وتفضله على المذنبين العصاة منهم، وهم الذين لم يتوبوا إلى الله، ولم ينزعوا عما اقترفوا من إثم.. فهؤلاء مذنبون عصاة، ينتظرون حكم الله فيهم، إن شاء أخذهم بذنوبهم فعذّبهم، وإن شاء عاد بفضله عليهم، فعفا عنهم، هكذا كرما منه وفضلا.. وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة: «نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» (56: يوسف) ولا يردّ على هذا، بأنّ ذلك مما يبطل عمل العاملين، ويسوّى بين المحسنين والمسيئين، كما أنه يناقض قوله تعالى: «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى» وقوله سبحانه: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» . ونقول: إن الله سبحانه وتعالى بإحسانه إلى المسيئين، وتجاوزه عن سيئاتهم لا يجور على عمل المحسنين، ولا ينقص من إحسانهم شيئا، بل إنه سبحانه يوفّيهم أجرهم غير منقوص، كما يقول سبحانه: «وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» . أما التسوية بين المحسنين والمسيئين: فليست واقعة على إطلاقها.. وذلك: أولا: أن المحسن مجزىّ بإحسانه، بلا شك، كما يقول سبحانه: «وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» .. أما المسيء فهو فى منزلة بين منزلتين: إما أن يأخذه الله بذنبه، وهذا هو الوجه الذي يطلّ عليه من سوء عمله، وإما أن يتجاوز الله عنه، ويعود بفضله عليه، وهذا هو الوجه الذي يطلع عليه من رحمة ربّه! وثانيا: أنه ليس إحسان المحسن وحده هو الذي يدخله الجنة، وإنما قبل ذلك كلّه، هو شموله برحمة الله، كما فى الحديث الشريف: «لا يدخل أحدكم الجنة بعمله، قيل ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله برحمته» .. رحمة الله التي وسعت كلّ شىء.. تنال البر والفاجر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 892 وثالثا: ليس المحسنون والمسيئون على سواء من رحمة الله.. فالمحسنون أقرب إليها، وأكثر تعرضا لها، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» . والمسيئون وإن يعدوا عن رحمة الله، فليس ذلك بالذي يحجبهم عنها، ويحرم بعض المسيئين منهم حظهم منها، وذلك لمشيئة الله فيهم، وإرادته بهم.. كما يقول سبحانه: «نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ» . وأما قوله تعالى: «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى» وقوله سبحانه: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» .. فهو الميزان الذي يوزن به عمل كل عامل، وسعى كل ساع.. ومع هذا، فإن الله يضاعف للمحسنين إحسانهم، وأنه سبحانه إذ يرى المحسن عمله لا يقف به عند هذا العمل، بل يفضل عليه بأضعاف ما عمل.. وكذلك المسيء، إذا كان لا يقدم على الله إلا بما سعى، وما حصّل من سيئات، فإنه ليس من حرج على فضل الله أن يتجاوز عنه.. ليرى آثار رحمة الله فيه.. وذلك رهن بمشيئة الله وتقديره.. «وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» .. يقضى بعلم، ويحكم بحكمة.. والله سبحانه وتعالى يقول على لسان المسيح عليه السلام: «إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ..» . الآيات: (107- 110) [سورة التوبة (9) : الآيات 107 الى 110] وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 893 التفسير: الضّرار: المضارّة، وطلب إلحاق الضرر بالغير، والإرصاد: الترقب والتربص، والانتظار.. وشفا جرف: أي حافة الجرف وشفيره.. والجرف: رأس الهاوية المطلّ على منحدرها.. والهارى: المنهار.. قوله تعالى: «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» . قرأ أهل المدينة «الَّذِينَ اتَّخَذُوا» بغير واو العطف، وذلك على الاستئناف وابتداء عرض وجه آخر من وجوه المنافقين.. وقرىء بالعطف، وهو القراءة المشهورة وعليها تنتظم وجوه المنافقين فى سلك واحد، على تقدير: ومنهم الذين اتخذوا مسجدا ضرارا.. - وقوله تعالى: «ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ» .. المنصوبات المتعاطفة هنا هى مفعول لأجله، تكشف عن السبب الذي لأجله بنى هذا المسجد، وهو للمضارة، لا للنفع، وللكفر لا للإيمان، ولإيواء من حارب الله ورسوله، لا لدعوة من آمن بالله ورسوله.. قيل إن هذا المسجد بناه جماعة من المنافقين، من بنى غنم بن عوف، حسدا لبنى عمهم عمرو بن عوف، الذين كانوا قد بنوا مسجد قباء، ودعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلّى فيه، فأجابهم، وصلى المسلمون معه.. فكان أول مسجد بنى فى الإسلام.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 894 وحين أتم بنو غنم بناء هذا المسجد إلى جوار مسجد قباء، جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يدعونه أن يصلى فى مسجدهم هذا، وكان النبىّ يتهيأ لغزوة تبوك، فقال لهم: «إنى على جناح سفر، فلو قدمنا أتيناكم، إن شاء الله، فصلينا لكم فيه» .. فلما انصرف الرسول من تبوك، نزلت عليه هذه الآية وهو فى طريق العودة إلى المدينة.. وقد فضح الله فى هذه الآية نفاق هؤلاء المنافقين، وكشف عن تدبيرهم السيّء.. فإنهم ما بنوا هذا المسجد ليكون بيتا من بيوت الله، وإنما بنوه مضارّة بمسجد قباء، حتى لا يعمر بالمصلين، وليكون مأوى يأوى إليه المنافقون، ويدارون نفاقهم بالاجتماع فيه، والاستظلال بظلّه، ثم ليفرقوا بين المؤمنين، حيث لا تجتمع جماعتهم فى مكان واحد، بل يتوزعهم المسجدان المتجاوران، فيقلّ بذلك جمعهم، وتصغر فى الأعين جماعتهم، الأمر الذي يخالف ما يدعو إليه الإسلام من جمع المسلمين فى صلاة الجماعة والجمعة والعيدين، لتتوحد مشاعرهم، وتمتلىء العيون مهابة وإجلالا لهم.. ثم إنهم بنوا هذا المسجد ليكون راية منصوبة لأهل النفاق والضلال، حيث لا يخطئهم أن يجدوا فيه- فى أي وقت- من هم على شاكلتهم فى نفاقهم وضلالهم.. - قوله تعالى: «وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» .. المنافقون هكذا دائما يتخذون أيمانهم جنّة يحتمون بها من نظرات الاتهام التي يرمون بها، أو يقدّرون أنهم يرمون بها من كل عين تنظر إليهم.. وهؤلاء الذين فضحهم الله وأخزاهم بما كشف من سوء تدبيرهم، يحلفون للرسول وللمؤمنين أنهم لا يريدون بهذا المسجد لذى بنوه إلا ما يراد من بناء المساجد وعبادة الله فيها.. وقد كذبهم الله سبحانه بقوله: «وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» .. وصدق الله العظيم، وكذب المنافقون، ولعنوا.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 895 هذا وقد أمر الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- بعض أصحابه بهدم هذا البنيان، فهدموه.. قوله تعالى: «لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ» . هذا نهى للنبىّ الكريم أن يلمّ بهذا المسجد، أو أن يتلبّث عنده، فإنه وإن أخذ سمت المساجد، وسمّى اسمها، فلن يشفع له ذلك فى أن يكون على طهر المساجد وقدسيتها، لما وسمه به المنافقون من دنس ورجس.. فكما يظهر المنافقون فى سمت الآدميين، ويأخذون مظاهر الناس.. ثم لم يكن لهم من الإنسانية نصيب إلا هذا السّمت الظاهر، أما حقيقتهم فإنهم دنس ورجس- كذلك كان شأن البنيّة التي بنوها، وأطلقوا عليها اسم المسجد.. إنها لا تمثل من المسجد إلا وجهه الظاهر، أما باطنها فكفر ونفاق وضلال! - وفى قوله تعالى: «لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ.. فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ» تنويه بمسجد قباء، وتكريم له، ورفع لقدره، وقدر الذين بنوه، والذين يلقون الله فيه- بقدر ما هو إزراء بأصحاب مسجد الضرار، وتشنيع عليهم، وعلى هذا البناء الذي رفعوه فهدمه الله عليهم.. والمراد بالرجال الذين يحبّون أن يتطهروا، هم الذين يلقون الله فى الصلاة فى هذا المسجد.. فهى صلاة مقبولة، فى مكان طاهر تؤدى فيه عبادة خالصة لله، من شأنها أن تطهّر أهلها، الذين يداومون عليها، ويقيمونها بقلوب مؤمنة، خالية من الرياء والنفاق.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 896 قوله تعالى: «أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» . قرىء أفمن أسس بنيانه «ببناء الفعل للمجهول» ، كما قرئ «أُسِّسَ» فى الموضعين، جمع أسّ، بمعنى الأصل والأساس.. والآية تعرض المسجدين، مسجد قباء، ومسجد الضرار، فى وضع يواجه فيه أحدهما الآخر.. فيكشف ذلك عن مدى ما بينهما من تفاوت.. هذا عذب فرات سائغ شرابه، وهذا ملح أجاج.. هذا طيب، أطيب الطيب، وهذا خبيث، أخبث الخبث.. والضدّ إذا قرن بضدّه، زاد كل منهما فى الصفة الغالبة عليه زيادة لا ترى إلا حيث يتقابل مع ضده.. فيزداد الحسن حسنا وروعة، ويزداد القبيح شناعة وقبحا.. وبضدها تتميز الأشياء- كما يقولون! - وفى قوله تعالى: «فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ» تصوير للعاقبة التي ينتهى إليها هذا المسجد- مسجد الضرار- بأهله الذين بنوه، وأنه إذ بنوه على ضلال ونفاق وزيف، فهو بناء على خواء.. على شفا جرف هار، وأنه إذ ينهار فسينهار بهم فى نار جهنم، فهم بهذا قد ظلموا أنفسهم: «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» . وقوله تعالى: «لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» . نفى القرآن فى هذه الآية عن مسجد الضرار، كلّ ما تتسم به المساجد، حتى اسمه، فلم يعد مسجدا بعد أن فضحه الإسلام، وفضح أهله، وكشف عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 897 الوجه الذي قام عليه، والغاية التي بنى من أجلها.. فهو الآن «بنيان» مجرد بناء من حجر وطين.. لا يناله حتى شرف هذا الاسم الزائف الذي أعطوه إياه. وسيظل هذا البناء ريبة فى قلوب الذين بنوه، أي مبعث شك، وارتياب ونفاق، قد علق ذلك كله بقلوبهم، وتمكن منها، لا يستطيعون فكاكا منه، إلا بعد أن تتقطع قلوبهم.. وهذا لا يكون إلا إذا ماتوا، وماتت الريبة معهم! .. - وفى قوله تعالى: «فِي قُلُوبِهِمْ» إشارة إلى أن الريبة قد استقرت فى قلوبهم، فاحتوتها هذه القلوب، وصارت ظرفا حاويا لها. الآيتان: (111- 112) [سورة التوبة (9) : الآيات 111 الى 112] إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) التفسير: ليس الإيمان مجرد نطق باللسان، وتصديق بالقلب، وإنما هو- مع هذا- عمل بالجوارح، وابتلاء فى الأموال والأنفس.. فمن صدّق قلبه ما نطق به، ومن صدق عمله ما صدّق به قلبه، فذلك هو المؤمن، الذي يقبله الله فى المؤمنين.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 898 وبين الله والمؤمنين بالله، عقد عقده معهم، وعهد عاهدهم عليه.. وهو أنه- سبحانه- اشترى منهم أنفسهم وأموالهم ولهم عنده فى مقابل ذلك الجنة! وما تلك الأنفس، وهذه الأموال التي اشتراها الله من المؤمنين؟ إنها من الله، وإلى الله..! ولكن شاء فضل الله أن يجعل لعباده ملكية هذه الأنفس، وتلك الأموال، وأن يشتريها منهم، وأن يعوضهم عليها! وقدّمت الأنفس على الأموال هنا على خلاف المواضع كلها التي جاء فيها ذكر الأموال والأنفس مجتمعين فى القرآن.. ففى جميع المواضع ما عدا هذا الموضع قدمت الأموال على الأنفس! فما سرّ هذا؟ أو قل ما أسرار هذا؟ ونقول- والله أعلم- إن بعض السر فى هذا هو أن الله سبحانه وتعالى، هو الذي يطلب الأنفس والأموال فى هذا المقام، على حين أنه فى جميع المواضع التي ذكرت فيها الأنفس والأموال فى القرآن الكريم- كانت مبذولة من المسلمين، أو مطلوبا منهم بذلها..! ولاختلاف المقام اختلف النظم.. ففى شراء الله سبحانه وتعالى ما يشترى من المؤمنين يقدم الأنفس على الأموال لأنها عند الله أكرم وأعز من المال، على حين أن المال عند الناس أعز من الأنفس، إذ يتقاتلون من أجله، مخاطرين بأنفسهم ويقتلون أنفسهم فى سبيله! وفى اختلاف النظم هنا إلفات للناس إلى ما ذهلوا عنه من أمر أنفسهم، إذ استرخصوها إلى جانب المال، على حين أنها شىء كريم عزيز عند الله. - وفى قوله تعالى: «يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ» إشارة إلى أن من شأن المؤمن أن يكون له يد ظاهرة على عدوه، وبلاء مؤثّر فيه، وأنه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 899 قبل أن يقتل لا بد أن يقتل من عدوه واحدا أو أكثر، حتى لا يذهب دمه هدرا، وحتى بوهن العدو ويضعف من شوكته، ويكتب بدمه حرفا من كلمة النصر التي كتبها الله للمؤمنين.. - وقوله تعالى: «وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ.. وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ» ؟ هو توكيد لما وعد الله المؤمنين الذين باعوه أموالهم وأنفسهم بأن لهم الجنة، فهذا الوعد حق لا مرية فيه- كما جاء به القرآن والتوراة والإنجيل. فذلك هو وعد الله للمؤمنين المجاهدين، فيما جاءت به الكتب السماوية المنزلة من رب العالمين.. «وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ» ؟ وهل يخلف الله وعده، أو ينقض عهده؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.. هذا وليس بيع الأنفس والأموال لله مرادا به بذلهما فى القتال فى سبيل الله ثم الوقوف بهما عند تلك الغاية وحدها.. فإذا لم يكن بين يدى المؤمن قتال ومجاهدة للعدو، فهناك ميدان فسيح للجهاد فى سبيل الله فى غير ميدان القتال، فمجاهدة النفس والوقوف بها عند حدود الله، هو جهاد مبرور فى سبيل الله.. والعبادات بأنواعها، وأداؤها على وجهها جهاد فى سبيل الله، والسعى فى تحصيل الرزق من وجوهه المشروعة، جهاد فى سبيل الله.. والبر بالفقراء، والإحسان إلى اليتامى.. هو جهاد فى سبيل الله. وإذا كانت الآية الكريمة قد خصّت القتال فى سبيل الله بالذكر هنا، فليس ذلك إلا تنويها يفضل الجهاد فى ميدان القتال، إذ يمثل الصورة الكاملة التي يبذل فيها المرء كل ما يملك، ويقدم لله فيها كل ما معه من نفس ومال.. على خلاف أبواب الجهاد كلها، فإنه يبذل بعضا من كلّ، ويقدم لله بعضا ويستبقى بعضا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 900 وقوله تعالى: «فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» . هو مباركة من الله سبحانه وتعالى لأولئك المؤمنين الذين باعوا أنفسهم وأموالهم له- مباركة بهذه الصفقة التي عقدوها مع الله، وتبشير لهم بالربح العظيم، والمغنم الجزيل الذي وراءها.. إنها الجنة التي وعدهم الله بها وإنها الرضوان من رب العالمين.. وذلك هو الفوز العظيم.. قوله تعالى: «التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» . تلك هى صفات المؤمنين الذين يؤهلهم إيمانهم لأن يبايعوا الله، وأن يعقدوا معه هذه الصفقة الرابحة، وأن يظفروا بهذا المغنم العظيم.. فقوله تعالى: «التَّائِبُونَ» صفة للمؤمنين فى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ» والتقدير «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ» الذين هم التائبون العابدون ... الآية» . والتائبون: هم الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم، وتابوا إلى الله من قريب.. والعابدون: هم الذين يقرّون بالعبودية لله، ويعبدونه مخلصين العبادة له وحده.. والحامدون: هم الذين يحمدون الله على الضراء حمد هم إياه على السّرّاء.. يقولون كلّ من عند ربنا، وكل ما هو من عنده فهو- سبحانه- المحمود، الذي يستأهل وحده الحمد، ويستوجب الرضا فى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 901 السراء والضراء.. والسائحون: هم الصائمون.. وفى الحديث «سياحة أمّتى الصيام» . والراكعون الساجدون: هم الذين يقيمون الصلاة، ويؤدون ما افترض الله عليهم منها.. والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر: هم الذين يدعون إلى الخير، وينهون عن الشر.. وقد جاء العطف بينهما لأنهما وجهان لأمر واحد، فمن أمر بمعروف فهو ناه عن منكر، ومن نهى عن منكر فهو آمر بمعروف. والحافظون لحدود الله: أي القائمون على ما أمر الله به، والمجتنبون ما نهى الله عنه.. فتلك هى صفات المؤمن فى أعلى منازله، وأشرف مراتبه، وأكمل أحواله. وكل صفة من هذه الصفات لا تتحقق فى المؤمن على كما لها إلا إذا وفّاها حقّها، وأداها على الوجه المطلوب أداؤه عليها، وعندئذ يحقّ له أن يوصف بها، ويدخل فى أهلها. وفى الجمع بين هذه الصفات، دون أن يقوم بينها حرف عطف.. ما يشير إلى أنها جميعا بمنزلة صفة واحدة.. وأنه لا تتحقق أية صفة منها إلا إذا تحققت جميعا.. أو بمعنى آخر أن تحقيق أية صفة منها داعية لتحقيق الصفات كلها.. فالتائب، إذا صحّت توبته، وحقق مضمونها، كان عابدا، حامدا، سائحا، راكعا، ساجدا، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، حافظا لحدود الله. والعابد، إذا عبد الله كما ينبغى أن يعبد، كان تائبا، حامدا، سائحا، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 902 راكعا ساجدا، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، حافظا لحدود الله. وهكذا فى كل صفة من تلك الصفات، إذا تحلّى المؤمن بواحدة منها، كانت الصفات الأخرى من حليته!. وواضح أن هذه الصفات إنما تعطى ثمرتها فى ظل الإيمان بالله، فإذا لم يكن الإيمان قائما عليها، فلا ثمرة لأىّ منها.. ولهذا جاءت هذه الصفات خاصة بالمؤمنين، مقصورة عليهم. قوله تعالى: «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» أي وبشّر أصحاب هذه الصفات، الذين هم المؤمنون بالله، الذين حققوا صفة الإيمان، واستحقوا أن يجزوا جزاء المؤمنين الذين باعوا الله أنفسهم وأموالهم، فى مقابل ما وعدهم الله به، بأن لهم الجنة، وهنأهم بهذا البيع الربيح بقوله: «فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» . فالذين يتصفون بتلك الصفات، هم من الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم، ولهم ما للمجاهدين الذين يقاتلون فى سبيل الله، وما وعدهم الله من رضوان وجنة وفوز عظيم.. ذلك أن المؤمن الذي يحقق تلك الصفات فى نفسه إنما حققها لأنه رصد نفسه وماله فى سبيل الله، وفى ابتغاء مرضاته. الآيات: (113- 116) [سورة التوبة (9) : الآيات 113 الى 116] ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 903 التفسير: الأوّاه: كثير التأوه والتوجّع.. وقوله تعالى: «ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» . هو استبعاد أن يكون من النبي والمؤمنين استغفار وترحّم للمشركين، ولو كانوا من أهليهم وذوى قرابتهم، إذا تبيّن لهم أنهم من أهل الكفر والضلال.. فالمشركون أعداء لله، حرب على الله، والمؤمنون أولياء لله.. ولن تجتمع الولاية لله.. والولاية لأعداء الله.. والله سبحانه وتعالى يقول: «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ» (22: المجادلة) والاستغفار للمشركين والترحم عليهم- ولو كانوا أمواتا- يتدسس منه على شعور المؤمن شىء من الرضا عن حالهم التي كانوا عليها من الشرك والضلال، لأن الاستغفار لهم إنما ينبعث عن عاطفة الرحمة بهم والإشفاق عليهم، فى ذوات أنفسهم، وما تلبست به تلك الذوات من كفر وضلال.. وهذا من شأنه أن يدخل؟؟؟ على مشاعر المؤمن فى إيمانه، ويبعده عن الاحتفاظ به نقيّا خالصا من كل شائبة.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 904 وقد نهى الله سبحانه، النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- أن يصلى على من مات من المشركين أو أن يقوم على قبره.. فقال تعالى: «وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ.. إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ» (84: التوبة) . - وفى قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» بيان إلى أن النهى عن الاستغفار للمشركين إنما هو من بعد أن يتحقق أنهم ماتوا على الشرك، وأنهم أصبحوا فى أصحاب النار.. وهؤلاء هم الذين بلغتهم الدعوة الإسلامية من مشركى العرب، ثم لم يستجيبوا لها، ومالوا على شركهم الذين كانوا عليه!. قوله تعالى: «وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ» . هو إجابة عن سؤال وقع، أو هو متوقّع أن يقع، بعد الاستماع إلى قوله تعالى: «ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ» والسؤال الذي يقع بعد الاستماع إلى هذه الآية: وكيف استغفر إبراهيم لأبيه، وقد كان أبوه من المشركين؟ وفى القرآن الكريم يقول الله تعالى على لسان إبراهيم: «رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (83- 86: الشعراء) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 905 فكيف يستغفر إبراهيم- خليل الرحمن وأبو الأنبياء- لأبيه وهو من المشركين؟ والجواب، قد جاءت به هذه الآية: «وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ» .. فإبراهيم لم يستغفر لأبيه إلا وهو يطمع فى أن يهديه الله إلى الإيمان.. يشير إلى هذا، ذلك الحوار الذي سجله القرآن الكريم بين إبراهيم وأبيه.. يقول الله تعالى: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا قالَ: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا» (41- 47: مريم) فإبراهيم لم يستغفر لأبيه إلا وهو يطمع فى أن يستجيب له، وأن يسلك معه الطريق إلى مواقع الهدى والإيمان.. - «فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ» .. وهذا البيان إنما انكشف لإبراهيم بعد أن مات أبوه، وهو على ما هو عليه من شرك.. وهنا انقطع رجاء إبراهيم فى هداية أبيه.. فأمسك لسانه وقلبه عن الولاء له. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 906 - وفى قوله تعالى: «إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ» - إشارة إلى أن إبراهيم مع ما فى قلبه من حنان ورقة وما تفيض به نفسه من مشاعر حسّاسة مرهفة، تتأثر تأثّرا قويا بما يلقاها من وقائع الحياة- فإنه مع هذا- قهر فى نفسه كل عاطفة نحو أبيه، وتبرأ منه، إيثارا لولائه لله، ولدين الله.. فإبراهيم هنا هو القدوة والأسوة فى أعلى مستوياتها، للولاء لله، والإخلاص لدين الله.. فلا حساب عنده لعاطفة قرابة تدخل شيئا من الضيم على ولائه لربّه، وإخلاصه لدينه.. قوله تعالى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» . فى هذا ما يكشف عن لطف الله ورحمته بعباده، وأنه- سبحانه- لا يأخذهم بالعقاب، ولا ينزلهم منازل الضّالين، إلا بعد أن يبيّن لهم الطريق الذي يسيرون عليه، وما يأخذون أو يدعون من الأمور.. أما ما يقع من العباد مما لم يكن قد جاءهم أمر الله فيه، فهو معفوّ عنه عند الله، ولو كان مما نهى الله عنه بعد أن وقع منهم.. والآية تدفع عن صدور المسلمين ما وقع فيها من حسرة وندم على ما وقع منهم من استغفار لمن مات من أهليهم وأصدقائهم على الشرك، قبل أن يجىء النهى عن الاستغفار لهم.. فلا شىء عليهم فى هذا، لأنهم لم يفعلوا أمرا كان واقعا تحت الحظر، ولم يأتوا منكرا نهاهم الله عنه.. - وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» إشارة إلى أن العلم هو الأساس الذي ينبغى أن تقوم عليه تصرفات العباد، وأن تنضبط عليه أعمالهم، وأن كل عمل لا يستند إلى علم ومعرفة هو لغو لا حساب له، ولا اعتداد به.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 907 وفى هذا دعوة إلى العلم الذي يسبق كل عمل يعالجه الإنسان، فمن عمل بلا علم ضلّ سعيه، وبطل عمله. قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» . وجه ارتباط هذه الآية بما قبلها. إذ قد دعت الآيات السابقة إلى قطع علائق المودة والموالاة بين المؤمنين وبين من لهم بهم صلة من المشركين.. وهذه الآية تشدّ المؤمنين بالله إليه، وتقيم وجوههم له، دون التفات إلى غيره، إذ أن له وجده- سبحانه- ملك السموات والأرض، وإليه أمر الحياة والموت.. لا يملك أحد معه شيئا من نفع أو ضر، ومن موت أو حياة.. فمن جعل ولاءه لغير الله فقد ضلّ وخسر، وليس له من دون الله ناصر ينصره، أو ولىّ يعينه ويشدّ أزره. الآيات: (117- 119) [سورة التوبة (9) : الآيات 117 الى 119] لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 908 التفسير: قوله تعالى: «لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» . اللام فى «لَقَدْ» هى اللام الواقعة، فى جواب قسم مقدر.. وهذا القسم لتوكيد التوبة، ووقوعها وقوعا تاما كاملا، لم يبق معها ذنب، أو معصية.. فهى توبة يخرج بعدها من وقعت عليه معافى من كل سوء، مبرأ من كل مأخذ.. والزيغ: الانحراف عن طريق الحق، والميل إلى الباطل.. وذكر النبىّ هنا فى التوبة- وهو صلوات الله وسلامه عليه لم يقع منه- وحاشاه- شىء، فى هذا تكريم للمهاجرين والأنصار وتشريف لهم، بنظمهم مع هذا الكوكب الدرّىّ الوضيء.. فى ساحة رضوان الله ومغفرته.. وقد قرأ الرّضا علىّ بن موسى: «لقد تاب الله بالنبي على المهاجرين والأنصار.. الذين اتبعوه فى ساعة العسرة..» ويجوز أن يكون المعنى: «لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ» أي لقد غفر له كل هنة تمسّ مقام النبوّة، ليظلّ النبىّ هكذا فى مقامه العظيم من ربّه.. وقد أمر الله سبحانه النبىّ بالاستغفار من ذنوبه بقوله تعالى: «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» .. وغفر للنبى الكريم ما تقدم من ذنبه وما تأخر فى قوله: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» . فليست ذنوب النبىّ- صلى الله عليه وسلم- ذنوبا بالمعنى الذي يفهم من كلمة ذنب بالنسبة لغير النبىّ من الناس.. وقد قيل: «سيئات المقربين حسنات الأبرار» .. فكيف بالنبيّ الكريم؟ وقد عدّ الله سبحانه وتعالى إذن النبىّ المنافقين الذين جاءوه معتذرين- الجزء: 6 ¦ الصفحة: 909 عدّ ذلك ذنبا، عفا الله عنه.. وهو أمر لو وقع من غير النبىّ لما كان موضعا لمؤاخذة أو لوم.. وفى هذا يقول الله تعالى: «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ» . (43: التوبة) وفى قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ» إشارة إلى ما كان من لطف الله بالمؤمنين فى غزوة تبوك، وأن شدّة هذه الغزوة، والظروف التي دعى فيها المسلمون إلى الجهاد قد عرضت بعض المؤمنين لامتحان عسر، ضاقت به صدورهم، وتلجلجت معه نياتهم، واضطربت عزائمهم، ولكنّ الله سبحانه ربط على قلوبهم، وأمسك بهم على طريق الحقّ، فمضوا على طريق الجهاد. روى عن الحسن البصري: «أن العشرة من المسلمين فى تلك الغزوة كانوا يخرجون على بعير واحد يعتقبونه بينهم، يركب الرجل ساعة، ثم ينزل فيركب غيره.. وكان الشعير المسوّس والنمر المدوّد، والإهالة السّنخة (أي الزيت المتغير طعمه وريحه) طعامهم.. وكان النفر منهم يخرجون ما معهم من النميرات بينهم، فإذا بلغ الجوع من أحدهم أخذ النمرة فلاكها (أي أدارها فى فمه) حتى يجد طعمها، ثم يعطيها صاحبه، فيمصّها، ثم يشرب عليها جرعة ماء، حتى تأنى على آخرهم، فلا يبقى من النمرة إلا النّواة!!.» وفى قوله تعالى: «إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» ما يكشف عن فضل الله على النبىّ ومن تبعه من المهاجرين والأنصار.. وأنه سبحانه، لرأفته بهم، ورحمته لهم، قد أخذ بيد من كاد يسقط منهم، وينزل عن هذا المنزل الكريم الذي أحلّ الله فيه المهاجرين والأنصار، واختصّهم به، فهم أبدا فى ظلال رأفته ورحمته.. وحسبهم بهذا سلاما وأمنا، وحسبهم به شرفا وفضلا. قوله تعالى: «وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 910 الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» عطفت هذه الآية على ما قبلها، فشملت بهذا توبة الله التي تابها على النبىّ والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه فى ساعة العسرة- شملت هذه التوبة الثلاثة الذين خلّفوا، وقد أشرنا إلى قصتهم من قبل. وفى عطف الثلاثة الذين خلّفوا على النبىّ والمهاجرين والأنصار تكريم لهم، وتنويه بتوبتهم، وأنها توبة مقبولة، محيت بها كل الآثار التي علقت بهم من تخلّفهم عن النبىّ.. وبهذا حقّ لهم أن يكونوا فيمن تاب الله عليهم: النبىّ والمهاجرين والأنصار.. وهم درجات عند الله.. وفى قوله تعالى: «حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ» إشارة إلى ما وقع فى نفوس هؤلاء الثلاثة الذين خلّفوا من ندم وحسرة. لقد ضاقت عليهم الأرض على سعتها، بل وضاقت عليهم أنفسهم، فلم تحتملهم، ولم تجد القرار والسّكن إليهم، وهذا يعنى ثقل عما كانوا يعانونه من ندم وألم، ولهذا كانت توبتهم نصوحا صادقة، لا تنتكس بهم على أعقابهم أبدا.. وقد حذف جواب الشرط هنا، إذ دلّ عليه قوله تعالى: «وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ» .. أي أنهم حين ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه- لجئوا إلى الله، وفرّوا إليه تائبين مستغفرين.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 911 والظن هنا بمعنى اليقين، أي أنهم أيقنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه.. ولو كان ظنهم غير واقع موقع اليقين، لما كان منهم هذا الندم القاتل، وتلك الحسرة المميتة! - وفى قوله تعالى: «ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا» .. نلحظ من العطف بالحرف «ثُمَّ» الذي يفيد التراخي.. أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يمتحنهم بهذا البلاء الذي هم فيه، وأن يدعهم مع هذا الهمّ الذي ركبهم، حتى يكون فى هذا تصفية لنفوسهم وتمكين لتوبتهم- فلم ينزل القرآن بالعفو عنهم وقبول توبتهم إلا بعد مدة قيل إنها بلغت خمسين يوما.. فهذه الخمسون يوما التي قضاها الثلاثة الذين خلّفوا كانت أشبه ببوتقة صهرت فيها نفوسهم، وصفّيت مما كان قد علق بها من خبث ووضر!. ولو جاءت التوبة عليهم قبل أن يدخلوا فى هذه التجربة ويعيشوا فيها تلك الأيام والليالى، لما وجدوا أنفسهم على تلك الحال التي استقبلوها بها بعد هذا الزمن المتراخى، وبعد تلك التجربة القاسية، التي كشفت عن هذا المعدن الكريم لتلك النفوس الكريمة، ولولا ذلك لحطمتها المحنة وأكلتها نار التجربة. - وفى قوله تعالى: «ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا» إشارة إلى أن التوبة النصوح لا تكون إلا بتوفيق من الله سبحانه وتعالى إليها.. وأنه إن لم يوفقهم الله سبحانه إلى هذا الموقف، ويربط على قلوبهم فيه، لم يكن منهم هذا الصبر على البلاء، ولا احتمال هذا المكروه الذي وقعوا فيه.. وهذا هو معنى «ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا» أي قبلهم الله وتاب عليهم، فكانوا من التائبين. والتوبة: أصلها من التّوب، والرجوع، يقال تاب إلى الله يتوب: أي رجع عن معصيته إليه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 912 قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه قد جاء فى الآية السابقة ذكر الثلاثة الذين خلّفوا، وأن الله قد تاب عليهم، وعفا عنهم، وأنزلهم منازل رضوانه، وجعلهم معلما من معالم الثبات مع الحق والولاء له.. فأجرى لهم فى القرآن الكريم ذكرا، وجعل لهم فى العالمين قدرا.. وذلك كله بسبب أنهم أقاموا أنفسهم على كلمة الصدق، فلم يكذبوا على رسول الله، ولم يجيئوا إليه بأعذار ملفقة، بل جاءوا إليه يقولون قولة الحق على أنفسهم!. فقالوا: يا رسول الله.. إننا لا عذر لنا فى تخلفنا عن الجهاد معك، فخذ لله ولك من أنفسنا وأموالنا ما تشاء! فكانت ثمرة صدقهم، هو هذا الذي انتهى إليه أمرهم.. فالدعوة إلى الصدق هنا وإلى التمسك به، دعوة تجد بين يديها المثل الواقع للخير العظيم الذي يناله الصادقون بصدقهم.. وإن احتمل الصادقون فى سبيل كلمة الحق شيئا من الأذى والضرّ، فى أول الأمر، فإن العاقبة دائما لهم، وهى عاقبة طيبة، مسعدة.. تهيىء لصاحبها الفوز والفلاح فى الدنيا والآخرة.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 913 الآيات: (120- 122) [سورة التوبة (9) : الآيات 120 الى 122] ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) التفسير: قوله تعالى: «ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ..» هو إنكار من الله سبحانه وتعالى على من يتخلّفون عن رسول الله، وهو فى طريقه إلى الجهاد ولقاء العدوّ- ينكر الله عليهم تخلّفهم هذا، وقعودهم عن اللحاق برسوله، والانتظام فى ركب المجاهدين.. وفى الإنكار أمر ملزم لهم أن يكونوا مع رسول الله حيث يكون، ومن لم يستجب لهذا الأمر فهو على خلاف لله ورسوله، ومشاقة لله ورسوله، يلقى جزاء المخالفين، وينزل منازل الظالمين، ويصلى فى الآخرة ما يصلاه الكفار والمنافقون من عذاب السعير.. وقد خصّ أهل المدينة ومن حولهم بالذّكر هنا لأنهم مع رسول الله، وبين يديه، وبمحضر ومشهد منه، فكيف يسوغ لهم أن يروا النبي قائما على أمر يعالج منه حملا ثقيلا، ثم يقفون موقف المتفرج، لا يشاركونه فيما يعمل، ولا يحملون عنه بعض ما يحمل؟ إن ذلك وإن لم يقض به الدين قضت به المروءة وأوجبته حقوق الجار على الجار! فكيف وهو أمر أمرهم الله به، ووعدهم الجزاء العظيم عليه، وتوعدهم بالعقاب الأليم على النكوص عنه؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 914 وكيف بهنأ لمسلم طعام أو يسوغ له شراب، وهو يرى النبي يخوض غمرات القتال، ثم يضنّ بنفسه عن أن تأخذ مكانها فى المجاهدين، والمستشهدين، أهناك عند المؤمن بالله شىء أعزّ عليه من النبىّ، ونفس أكرم عليه من نفسه؟ والله سبحانه وتعالى يقول: «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» . - وفى قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً، يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» . الإشارة هنا بقوله تعالى «ذلك» مشار بها إلى ما تقدم فى صدر الآية من الإنكار على أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله، وأن يؤثروا أنفسهم على نفسه، ويضنّوا بها على معاناة الجهاد، وحمل أعباء القتال، فهذا الإنكار عليهم إنما هو بسبب أنهم سيغبنون أنفسهم، ويحرمونها ما أعدّ الله المجاهدين من أجر عظيم، لكل عمل يعملونه فى سبيل الله، ولكل ضرّ أو أذى يصيبهم وهم على طريق الجهاد.. فلا يصيبهم ظمأ، ولا يمسّهم تعب، ولا تنالهم مخمصة (أي جوع) .. إلا كتبه الله لهم وأجزل لهم المثوبة عليه.. كذلك لا ينالون من عدوّ نيلا، ولا يصيبونه بوهن أو ضعف، إلا كتب لهم به عمل صالح، وعدّ لهم قربة عند الله، يدخلون بها مداخل المحسنين.. و «إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» . قوله تعالى: «وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» . هو عطف على ما سبق من الأعمال الصالحة التي تكتب للمجاهدين، وتسجّل فى سجلّ أعمالهم.. فأية نفقة- ولو كانت صغيرة- تكتب لهم، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 915 وأي خطوة يخطونها، ويقطعون بها واديا أو يجتازون مفازة، يكتبها الله لهم، ويضيفها إلى حسابهم.. وذلك «لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» . وفى قوله تعالى: «لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» ما يشير إلى أن الله سبحانه وتعالى ينزل المجاهد منازل رضوانه، ويستضيفه فى ساحة كرمه، منذ أن يبدأ فى التهيؤ للجهاد إلى أن يعود إلى منزله الذي خرج منه، أو يستشهد فى سبيل الله.. وأن كل خطوة من خطواته وهو على طريق الجهاد، وكل حركة، أو لفتة، أو إشارة منه، هى مما يعدّ عند الله فى باب الإحسان، وذلك للمجاهد خاصة من دون الناس جميعا، حتى إذا آب المجاهد من جهاده كان سجل أعماله كلّه حسنات.. «لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» أما السيئات، فلا سيئات، إذ قد تجاوز الله عنها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ» (16: الأحقاف) . قوله تعالى: «وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» مناسبة هذه الآية لما قبلها، هو أن الآيتين السابقتين قد جاء فيهما إنكار على المتخلفين عن رسول الله، وأمر ملزم لهم بالجهاد معه، كما جاء فيهما عرض كاشف لما اختصّ الله سبحانه وتعالى به المجاهدين من أجر كريم، وثواب عظيم، لا يناله غيرهم، ولا يبلغه سواهم- وقد كان ذلك داعيا إلى تحريك أشواق المسلمين إلى بلوغ هذه الغابة، واللحاق بأهلها، وذلك لا يكون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 916 إلا بالانتظام فى ركب المجاهدين، وهذا من شأنه أن يجعل المسلمين جميعا على طريق الجهاد، وفى ميدان القتال، الأمر الذي لو وقع بصفة دائمة لأخلّ بنظام المجتمع، وعطّل كثيرا من جوانب الحياة، وأخلى ميادينها من العاملين فيها.. ولهذا جاء قوله تعالى: «وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً» أي جميعا. فذلك أمر- كما عرفنا- يدخل الخلل على نظام الحياة فى المجتمع، وعلى المجاهدين أنفسهم، إذا لم يكن من ورائهم من يعمل فيما يهيىء لهم حاجاتهم، من مؤن، وسلاح، وعتاد. ولكن كيف السبيل إلى صرف بعض المسلمين عن وجهتهم إلى القتال، وكلهم يؤثر أن يكون فى هذا الميدان، ابتغاء مرضاة الله؟ لقد كان من تدبير الله سبحانه وتعالى أن فتح لهم جبهة جديدة من جهات الجهاد.. إذ يقول الله تعالى: «فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» .. فهناك نفر كالنفر إلى الجهاد، وهو النّفر إلى التفقه فى الدّين، والتعرف على أحكام الشريعة.. ففى النفر إلى الجهاد يقول الله تعالى. «انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا» وفى النفر إلى العلم يقول لله تعالى: «فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ» . فطلب العلم فريضة على كل مسلم كفريضة الجهاد، سواء بسواء.. فإذا كان الجهاد بالسيف فكذلك يكون الجهاد فى ميدان العلم، والتفقه فى الدين. إنه يدفع عن القلوب غشاوات الجهل والضلال، ويمكنّ لدعوة لإسلام أن تأخذ مكانها من العقول والقلوب، فتمكن لها فى أهلها، وتقيمهم منها على مودة وإخاء، فيزكو نيتها الطيب فيهم، وتؤتى مبادئها أكلها المبارك لأيديهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 917 فالتفقّه فى الشريعة، ومطالعة آياتها المعجزة، والوقوف على ما فيها من روائع الحكمة، وأسرار الوجود- هو الذي يقيم فى نفس المسلم إيمانا صحيحا، ومعتقدا سليما متمكنا، يهيىء للمجتمع الإسلامى، الإنسان المؤمن الذي يجاهد فى سبيله، ويستشهد من أجل حمايته، ودفع يد المعتدين عليه.. وليس معنى النّفر هنا شدّ الرحال، وقطع الفيافي والقفار، بل إن معناه شدّ العزائم، وتوقّد الهمم، واستجماع النفوس، وإخلاص النيّات، والتجرد لتلقّى العلم، والصبر على معاناة الدرس والنظر.. ذلك أن تحصيل العلم، وقطف ثمراته، ليس بالأمر الهيّن، الذي يقع لأى يد تمتد إليه، ويستجيب لأى عين تطمح إليه، وتطمع فيه- وإنما هو كالجهاد فى ميدان القتال، حيث لا يكتب النصر للمجاهدين إلا بركوب الأخطار، وملاقاة الأهوال، ومصادمة الموت.. ومن هنا تعادلت كفّة العلماء مع كفة المجاهدين.. كما ورد فى الحديث: «يوزن مداد العلماء بدم الشهداء» ..! وليس النفر محدودا بالنّفر إلى الجهاد فى سبيل الله، ولا بالنفر لطلب العلم، وإنما هو أيضا ينسحب إلى كل ميدان من ميادين العمل والكفاح.. فحيثما كانت مشقة ومعاناة يحملها لإنسان فى صبر وعزم، فى مجال العمل الصالح النافع له ولغيره، فهو نفر إلى الجهاد، وصاحبه فى حساب المجاهدين! وعلى هذا نفهم الآية الكريمة على أنها دعوة للمجتمع الإسلامى أن يملأ كل ميادين العمل فى الحياة، وأن يأخذ كلّ مسلم المكان المناسب له، وأن يعمل فى الميدان الذي يمكن أن يعطى فيه أفضل ما تجود به ملكاته وقدراته، العقلية، أو الجسدية.. وشرط واحد هو الذي ينبغى أن يكون عليه العامل ليكون مجاهدا، هو أن يخلص لعمله، وأن يعطيه كل جهده، وأن يبذل له الجزء: 6 ¦ الصفحة: 918 كل حوله وحيلته، فى غير فتور، أو تهاون أو تقصير.. وإلا كان ذلك نفاقا، وكان خيانة، سواء بسواء، كالنفاق مع الله، والخيانة لرسول الله، وللمؤمنين.. ونلمح هذا المعنى الذي ألمعنا إليه هنا فى قوله تعالى: «لِيَتَفَقَّهُوا» .. فالتفقّه ليس مجرّد العلم السطحى، بل هو العلم المتفحص المتمكن، الذي ينفذ إلى أعماق الأشياء، ويقع على الصميم منها.. فهذا هو العلم، أو الفقه، الذي يرفع صاحبه إلى مقام المجاهدين.. وكذلك العمل، إن لم يبلغ به العامل درجة تبلغ حدّ الكمال، للقدرة المتاحة له، وللوسائل التي بين يديه، لم يكن ليتوازن أبدا مع درجة الجهاد فى سبيل الله، ولا مع منزلة التفقه فى دين الله، ولم يكن للعامل أن ينتظم فى سلك المجاهدين، والمتفقهين.. إن العامل الذي يستأهل أن يكون مجاهدا فى سبيل الله حقّا، هو من فقه فى عمله، وعرف أسرار صنعته.. وبغير هذا لن يجىء منه الإحسان فى عمله، والإتقان لصنعته.. والرسول صلوات الله وسلامه عليه يقول: «إن الله يحبّ إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه» .. وقد أشرنا إلى ما للعلم من أثر فى الإيمان بالله، عند تفسير قوله تعالى «الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (لآية: 97) من هذه السورة. الآيات: (123- 127) [سورة التوبة (9) : الآيات 123 الى 127] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 919 التفسير: مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، أنكرت على أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله، وقد حمل إليهم هذا الإنكار أمرا ملزما بالجهاد مع رسول الله، وهذا لا يكون إلّا فى مجتمع بدين كلّه بالإسلام، حتى يقع الأمر بالجهاد موقعه، ويصادف أهله.. لهذا جاءت تلك الآية داعية إلى قتال الكفار الذين يحيطون بالمسلمين، ويكونون أجساما غريبة فى هذا الجسد الكبير.. وتنقية هذا الجسد الإسلامى من الأجسام الغريبة التي تعيش فيه، وحمايته من الآفات الخبيثة التي تقف على حدوده- أمر ضرورى لسلامة هذا الجسد، ووقايته من عوارض التصدّع والتشقق. وفى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» - لفت لأنظار المسلمين إلى حماية أنفسهم من خطر العدوّ المساكن لهم، أو الملاصق لمجنمعهم، وذلك لا يكون إلا بأن يدخل هذا العدو فى الإسلام، وبصبح بعضا منه، أو أن يقاتله المسلمون حتى يقتلعوا شوكته، أو يوهنوا قوته، فلا يكون يوما من الأيام الجزء: 6 ¦ الصفحة: 920 قادرا على مواجهتهم بالضرّ، أو مبادأتهم بالعدوان، وذلك من شأنه أن يعطى المجتمع الإسلامى أمنا وسلاما واستقرارا فى مواطنه، الأمر الذي يتيح لكل فرد فيه أن يعمل، وأن يحسن العمل فيما هو مهيأ له، وراغب فيه.. - وفى قوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ» .. تنبيه إلى ما ينبغى أن يكون عليه المسلمون فيما بينهم وبين الكافرين، فلا بغى ولا عدوان، ولا مجاوزة للحدّ المطلوب لحماية الدعوة الإسلامية، ودفع كيد الكائدين لها.. فإذا تحقق ذلك، فليس وراءه شىء يطلبه المسلمون لذات أنفسهم، أو لانتقام شخصى. بل يجب أن تكون تقوى الله هى الدستور الذي يأخذ به المسلمون أنفسهم فى حربهم لعدوهم.. فلا يعرضوا لامرأة، ولا لطفل، ولا لشيخ، بأذى ولا يتبعوا هاربا، ولا يقضوا على جريح، ولا يمثّلوا بقتيل، ولا يقطعوا شجرا ولا زرعا، ولا يحرقوا دورا، ولا يقتلوا حيوانا.. فليس فى هذا كله عدوّ لهم، وإنما عدوهم هو الذي حمل السلاح، وقاتلهم به، فإذا ألقى السلاح، أو عجز عن حمله والقتال به، فشأنه شأن الصبيان والنساء، لا سبيل إلى العدوان عليه. وقوله تعالى: «وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً.. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ» . فى هذا إشارة إلى تلك الأجسام الغريبة الفاسدة التي تعيش فى كيان المجتمع الإسلامى، وأنه إذا كان للمسلمين عدو ظاهر يعرفون وجهه، ويأخذون حذرهم منه، ويعملون على قهره وخضد شوكته.. فإن ذلك ينبغى ألا يشغلهم عن عدوّ خفىّ يندسّ فيهم، بل إن عليهم أن ينتبهوا إلى هذا العدوّ، وأن يرصدوا تحركاته، وأن يضربوه الضربة القاضية، كلمّا أطلّ برأسه من جحره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 921 وهذه الأجسام الغريبة الفاسدة التي تعيش فى كيان المجتمع الإسلامى، هى جماعة من المنافقين.. وقوله تعالى: «وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً» هو علامة مميزة من علامات النفاق، وعرض ظاهر من أعراضه.. فالشّك فى آيات الله، والتشكيك فيما تحمل من هدى، ومن خير، ومن نور- هو كفر يستره نفاق، وهو نفاق يصرّح عن كفر! فإذا قال قائل هذه الكلمة الضالّة: «أيّكم زادته هذه إيمانا» - إذا قالها فيما بينه وبين نفسه، فإلى الله حسابه، وعليه عقابه، أما إذا قالها فبلغت أسماع المسلمين، فذلك كيد يكيد به للإسلام، وحرب خفيّة بالكلمة المضلّلة يطعن بها فى صدورهم.. فهو بهذا محارب يلقاه المسلمون بما يلقون به المحاربين من أعدائهم. وفى قوله تعالى: «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» ردّ مفحم للمنافقين، وتكذيب فاضح لنفاقهم، وكفرهم بآيات الله، وضلال أبصارهم وبصائرهم عن الهدى والنور الذي تحمله آيات الله بين يديها.. فالذين آمنوا، تزيدهم آيات الله إيمانا مع إيمانهم، بما يطالعون فيها من وجوه جديدة تتجلّى فيها آيات الله، وتشعّ منها ألوان مضيئة كاشفة عن عظمة الخالق، وجلاله، وعلمه، وقدرته، وحكمته، ورحمته.. فكل آية جديدة يلقاها المسلمون، وكل سورة جديدة تطلع عليهم من عند الله، هى خير جديد يضاف إلى ما بين أيديهم من خير، وهو نور جديد يمدّ به ما عندهم من نور.. ولهذا فهم يستبشرون بكل آية تنزل عليهم، لأنها تزودهم بزاد جديد من الإيمان والتقوى، وتسير بهم خطوات واسعة إلى الله، تدنيهم من رحمته، وتقربهم من رضوانه.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 922 وفى قوله تعالى: «وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ» . بيان لما يحصّله المنافقون والذين فى قلوبهم مرض، من آيات الله التي تنزل من السماء هدى ورحمة للعالمين، فهى إنما تزيدهم عمى إلى عمى، وضلالا إلى ضلال، وفسادا إلى فساد.. إنهم أشبه بالهوامّ والحشرات التي يجرفها الغيث الهاطل، ويغرقها السيل المندفع، على حين يحيا به كل كائن حىّ، ويهشّ له ويهنأ به كل ذى حياة.. وإنهم لأشبه بالخفافيش يأخذ ضوء الشمس على أبصارها، فتكتحل منه بالعمى، على حين تكتحل الأشياء كلها بهذه الآية المبصرة من آيات الله بالهدى والنور! قوله تعالى: «أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ» هو تقريع وتوبيخ لهؤلاء المنافقين الذين يقفون مواقف الخزي والفضيحة بين يدى آيات الله، مرة أو مرتين كل عام، حيث يفضح القرآن منهم فى كلّ مرة، مخزية من مخزياتهم، ويكشف المسلمون موقفا لئيما من مواقفهم.. ثم لا يأخذون من هذا عبرة أو عظة، ولا يجدون فيما فضح الله من أسرارهم، وما أخرج مما فى صدورهم- آية على علم الله، وعلى وجود الله، فيؤمنوا به، ويتوبوا إليه.. بل إنهم على ما هم عليه، من كفر وضلال: «لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ» . وقوله تعالى: «وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» . وهذه حال أخرى من أحوال المنافقين مع آيات الله، حين يستمعون إليها مع من يستمع إلى آيات الله من المؤمنين.. إنهم يلقونها بالشكّ والارتياب، حتى لتكاد تفضحهم ألسنتهم بما يدور الجزء: 6 ¦ الصفحة: 923 فى رءوسهم، فينظر بعضهم إلى بعض، نظرات متلصصة، تبحث عن مهرب تهرب منه من بين يدى آيات الله، حتى لا ينفضح أمرهم بين يديها.. فإذا وجدوا فرصة مواتية للهرب انسلّوا، وفروا مسرعين: «كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ» .. وفى قوله تعالى: «صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ» حكم عليهم من الله سبحانه وتعالى بأنه قد صرف قلوبهم عن الحقّ، وختم عليها أن ترى الهدى، وأن تطمئن إليه، لأنهم قوم لا يفقهون شيئا، ولا يفرقون بين نور وظلام، وهدى وضلال.. «إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا..» الآيتان: (128- 129) [سورة التوبة (9) : الآيات 128 الى 129] لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) التفسير: بهاتين لآيتين تختم سورة التوبة- وهو ختام يلخص فى إيجاز وإعجاز مضمونها كلّه.. فقد كانت هذه السورة معركة متصلة، بين الإسلام، وبين النفاق، والشرك، والكفر.. وذلك فى محيط المجتمع العربىّ، بدوه وحضره. إذ كان هو ميدان الرسالة الإسلامية الأولى، ومنطلق رحلتها فى المجتمع الإنسانى كله، حيث كانت الأمة العربية، هى الأمة التي أرادها الله لحمل هذه الرسالة، وجعل منها الوجه الذي تظهر فيه أمارات هذا الدّين، وتتجلّى آثاره، ووكل إليها دعوة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 924 الناس جميعا إلى هذا الخير الذي بين يديها، ليطعموا منه كما طعموا، وليهتدوا إلى الله كما اهتدوا.. وفى قوله تعالى: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ» - إلفات للعرب إلى هذه النعمة الكبرى التي أنعم الله بها عليهم، وهو أنه- سبحانه- قد تخير رسوله إليهم منهم، وجعل مطلع الخير الذي يحمله، فيهم أولا.. وهذا من شأنه أن يجعل منهم القوة التي تظاهر هذا الرسول، وتقف إلى جواره، وتستظل برايته لا أن يكونوا حربا عليه، وعداوة متربصة به.. إنه منهم، وليس غريبا عليهم.. إنه يعرفهم وهم يعرفونه، ويعرفون مولده فيهم، ونسبه القريب منهم.. فكيف يلقونه بالعداوة؟ ثم كيف يحاربونه ويكيدون له، وهو الذي يحمل إليهم الخير الخالص، ويسوق إليهم الهدى والنور؟ إنهم بهذا يظلمون أنفسهم، إذ يحرمونها هذه النعمة، التي ساقها الله إليهم، على تلك اليد الكريمة التي تحيرها الله منهم، وإنهم ليخرجون على سنن العروبة وأخلاق العرب، فى الانتصار لمن كان منهم، والتعصب له، والاستجابة لدعوة الداعي حين يدعوهم.. حتى لقد كان شعارهم، بل دينهم الذي يدينون به: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» ، وحتى ليقول شاعرهم عنهم: لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... فى النائبات على ما قال برهانا فكيف لا يستجيبون للرسول الكريم، وهو منهم، وقد جاءهم بالبرهان المبين والحجة الساطعة الدامغة؟ وفى قوله تعالى: «عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ.. حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ» إلفات للعرب أيضا إلى ما يحمل الرسول الكريم من مشاعر الحب لقومه، والحدب عليهم، بما لم يعرف إلا فى الآباء للأبناء، وحدبهم عليهم، حتى لقد حمل ذلك الحبّ وهذا الحدب النبىّ الكريم، على أن يبيت مؤرّقا مسهدا موجعا، لخلاف قومه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 925 عليه، وتفلّتهم من بين يديه، وهو يدعوهم إلى النجاة، وهم يلقون بأنفسهم فى مهاوى الهالكين، وحتى لقد نبه الله سبحانه النبىّ الكريم إلى أن ينظر لنفسه، وأن يتخفف من هذه الحسرات التي تملأ قلبه، وتملك مشاعره، فيقول له سبحانه: «لَعَلَّكَ باخِعٌ «1» نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (3: الشعراء) ثم يقول له: «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» (8: فاطر) . ومعنى قوله تعالى: «عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ» أي شاقّ عليه، ومؤلم له إعناتكم له، وخلافكم عليه.. ومنه قوله تعالى: «وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ» أي غلبنى وقهرنى.. فالعزة- فى أصلها- الشدة والصلابة، وفى المثل: «من عزّ بزّ» أي من غلب وقهر كان له أن يبزّ الناس، ويستولى على ما فى أيديهم.. فالنبى صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه وآلمه، إعنات قومه له، وخلافهم عليه.. والإعنات والعنت: البلاء، والمشقة، التي تضيق بها النفس، ولا تحتملها.. ومنه قوله تعالى: «ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ» (25: النساء) . وفى قوله تعالى: «بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» إشارة إلى أن عطف النبي ورحمته بالناس وحدبه عليهم، ليس لقومه وحدهم، وإنما هو نفس رحيمة كريمة تتّسع للناس للمؤمنين جميعا، من كل جنس، ومن كل لون.. فهو رءوف رحيم بكل مؤمن، حريص على هداية كل نفس واستنقاذها من الضلال، والضياع! وفى وصف النبي الكريم بهاتين الصفتين الكريمتين من صفات الله سبحانه:   (1) باخع نفسك: أي مهلكها ومفسدها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 926 «رَؤُفٌ رَحِيمٌ» تكريم للرسول الكريم، ورفع لقدره عند ربه. قوله تعالى: «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» - هو عزاء للنبى الكريم فيما لقى ويلقى من قومه، من كيد، وما يكابد من شقاقهم وخلافهم. وهو فيصل الأمر فيما بينه وبينهم.. إنه يدعوهم إلى الله، ويبسط إليهم يده بالخير.. وهذا هو المطلوب منه «ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ» فإن أجابوا، فقد أخذوا بحظهم من هذا الخير المسوق إليهم، وإن تولوا وأبوا، فالله غنى عنهم، ورسوله لائذ بجناب لا يضام، ومستند إلى حمى لا ينال.. إنه جناب الله، وحمى الله.. وذلك حسبه، وكفايته.. «حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 927 10- سورة يونس نزولها: مكية.. باتفاق. عدد آياتها: مائة آية، وتسع آيات. عدد كلماتها: ألف وأربعمائة وتسع وتسعون كلمة. عدد حروفها: سبعة آلاف وخمسة وستون حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 4) [سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4) التفسير: مناسبة هذه السورة لما قبلها، هى أن سورة التوبة التي سبقتها قد ختمت بقوله تعالى: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ..» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 928 وفى هذا إلفات للعرب عامة، ولقريش خاصة إلى الحقوق الإنسانية الواجبة عليهم نحو هذا الرسول. المبعوث إليهم من بينهم، ومن ذوى قرابتهم.. وهذه السورة، جاء ابتداؤها منكرا على قريش وعلى العرب تنكّرهم لهذا الرسول، ووقوفهم منه موقف المشاقة والعناد، مع ما بين يديه من آيات ربه، التي تشهد بأنه رسول رب العالمين. فناسب لذلك أن تجىء سورة يونس، بعد سورة التوبة، إذ كانت خاتمة التوبة أشبه بسؤال، وكان بدء يونس أشبه بجواب لهذا السؤال ... أو كانت خاتمة التوبة تقريرا لحكم، وكان بدء يونس تعقيبا على هذا الحكم. قوله تعالى: «الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ» . وتبدو واضحة هنا دلالة الحروف: «الر» حيث أشير إليها بأنها آيات الكتاب الحكيم.. بمعنى أن هذا الكتاب الحكيم، وهو القرآن الكريم، قد نظم من مثل هذه الأحرف، فجاء على تلك الصورة من الإحكام والإعجاز.. وعلى هذا، تكون «الر» مبتدأ وجملة «تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ» خبر هذا المبتدأ. وهنا كلام محذوف يدل عليه سياق النظم الذي سبق هذه الآية فى آخر سورة التوبة، والذي جاء بعدها فى هذه السورة.. وتقدير هذا المحذوف هو: الر تلك هى آيات الكتاب الحكيم، الذي جاء به هذا النبي العربي.. فماذا ينكر الناس من هذا الكتاب الحكيم؟ أو يكون التقدير هكذا: الر هى تلك آيات الكتاب الحكيم، الذي جاء به النبي العربي إلى قومه فردّوه وأنكروه! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 929 ووصف الكتاب بالحكمة، هو الوصف اللائق به من أوصاف الكمال والجلال.. إذ الحكمة هى مجمع كل صفات الكمال.. وكل صفة من صفات الكمال لا تكون كاملة إلا إذا ازدانت بالحكمة، ووزنت بميزانها.. فلا تستغنى صفة من صفات الكمال عن الحكمة، على حين أن الحكمة مستغنية بنفسها عن كل صفة! ولهذا كان الوصف الملازم للقرآن، أو الغالب عليه هو الوصف بالحكمة. وفى هذا يقول الله تعالى فى صفته: «يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ» . ويقول جل شأنه: «وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ» (44: الزخرف) .. ويقول سبحانه: «كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» (1: هود) . قوله تعالى: «أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ» . فى هذه الآية إنكار على مشركى العرب خاصة موقفهم من الرسالة الإسلامية، وشغبهم على رسولها، وعجبهم ودهشهم من أن يكون المبعوث إليهم- رسولا- من الله، رجلا منهم.. إنهم لا يتصورون أن يكون إنسان يأكل كما يأكلون، ويشرب كما يشربون، ويولد كما يولدون، ويلد كما يلدون- لا يتصورون أن يكون مثل هذا الإنسان رسولا يوحى إليه من الله، ويتلقّى كلماته.. إنهم- لكى يقع فى تصورهم قيام رسول بين الله والناس- لا يقبلون هذا الرسول ولا يصدقونه، إلا إذا كان فى غير جلد البشر.. كأن يكون ملكا مثلا! وقد حكى القرآن تصوراتهم وأوهامهم تلك فى قوله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 930 تعالى: «وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً» (7: الفرقان) ولو عقلوا لعرفوا أن الملائكة لا تستقيم لهم مع الناس حياة، بل يكون ظهورهم فى الناس موضع فتنة لهم، تأخذ على ألبابهم، وتستولى على عقولهم، وتقيمهم فى الحياة مقاما مزعجا مضطربا. ولو أنهم كانوا على شىء من النظر والرويّة، لنظروا أولا فى وجه تلك الدعوة التي يدعوهم الرسول إليها، ويريدهم على أن يأخذوا منها لدنياهم وأخراهم جميعا.. إذن لعرفوا أنها دعوة إلى خير خالص، ومسيرة إلى منهل عذب مصفّى.. وإنه ليس أخسر صفقة ولا أضلّ سبيلا من إنسان يدعى إلى خير فيتأبّى عليه، وينبه إلى نار تمتد بلهيبها إليه، فيلقى بنفسه بين ضرامها.. وهذه هى دعوة الرسول إليهم، وتلك هى رسالته فيهم: «أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ» .. إنه ينذرهم ذاء يسكن فيهم، ويغتال وجودهم. وهو هذا الشرك الذي هم عليه.. ويبشرهم برضوان الله، ونعيم جناته إذا هم تخلصوا من هذا الداء، وآمنوا بالله، واستقاموا على شريعة الله! .. فماذا ينكر العقلاء من أمر دعوة هذه أوجهها، وتلك وجهتها؟ ثم ما شأنهم وشأن هذا الذي يدعوهم إلى هذا الخير؟ وماذا يعنيهم منه إن كان بشرا أو غير بشر؟ إنهم لو عقلوا لكان همهم الأول هو الأخذ بحظهم من هذا الخير المحمول إليهم.. ولكن أنّى للعمى أن يبصروا، وأنى للصمّ أن يسمعوا؟ - وفى قوله تعالى: «قَدَمَ صِدْقٍ» مجاز مرسل، يراد به مكان صدق ومنزلة صدق.. إذ كانت القدم هى العاملة الساعية إلى كل غاية يريد الإنسان بلوغها.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 931 وإضافة القدم إلى الصدق، إشارة إلى الطريق الذي تسلكه هذه القدم، حتى تصل بصاحبها إلى جناب الله، وتنزل بساح رضوانه، ونعيمه، وهى طريق الحق، والصدق، وإلا كان مسعاها على الضلال، وإلى الضلال والبلاء. والله سبحانه وتعالى يقول: «فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ» ؟ وقوله تعالى: «قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ» هو جواب عن سؤال يقتضيه هذا المقام، وينطق به لسان الحال، وهو: ماذا كان موقف الناس من تلك الدعوة التي جاءهم الرسول بها؟ والجواب الذي ينطق به الواقع هنا فى هذا الوقت هو: لقد استجاب له قليلون، وبهته وكدّبه كثيرون. ولكن القرآن الكريم جاء بالجواب الذي يكشف عن المجرمين، ويمسك بهم وهم متلبسون بجريمتهم: «قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ» .. لقد ضلّوا، وعموا.. فما أبعد ما بين دعوة الرسول ومعطياتها، وبين السّحر وشعوذته!! وفى وصف السحر بأنه سحر مبين شهادة عليهم بأن القرآن على مستوى فوق مستوى ما يعرفون من كلام، وأنه من واردات السحر المبين العظيم، الذي لا يحسنونه!! وماذا عليهم لو قالوا إن هذا القرآن من عند الله، ومن واردات السماء، إذ كان عندهم فوق مستوى البشر؟ وقوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ» .. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 932 هو ردّ مفحم مخرس على قولهم: «إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ» . إن الصميم من الدعوة التي يدعوهم الرسول إليها، هو الإيمان بالله واتخاذه ربّا متفردا بالربوبية وحده، لا شريك له.. إنه خالقهم، وخالق كل شىء. خلق السموات والأرض فى ستة أيام، وقام بجلاله وسلطانه على هذا الوجود الذي انفرد بخلقه، وانفرد بسلطانه عليه! فهكذا شأن كل مالك فيما ملك.. وهكذا شأن كل سلطان فيما تحت يده، أنه متسلط عليه، متصرف فيه كيف يشاء، وإلا فما استحق هذا الوصف. والله سبحانه، هو الذي يدبّر أمر الملك الذي تحت سلطانه، ويقدّر أقواته وأرزاقه، ويمسك وجوده، ويحفظ نظامه.. وليس لأحد شفاعة عنده فى أحد إلا بإذنه، فضلا وكرما منه، لمن أراد له الفضل والكرامة من عباده.. وأيّا ما كان لهذا المخلوق الذي أذن له بالشفاعة- من منزلة عند الله، فهو عبد من عباده، خاضع لمشيئته، مقرّ بعبوديته، خاشع لجلاله وعظمته!. فما أضلّ هؤلاء الذين يتخذون من خلقه آلهة يعبدونها من دونه.. إنّهم يسقطون من عل، إذ يتخذون من المخلوقات آلهة لهم، ويدعون الخالق الذي خلقهم، وخلق ما يعبدون.. «وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ» (26- 29: الأنبياء) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 933 - وقوله تعالى: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ» إشارة إلى الإله الحق، الذي ينبغى أن توجّه إليه الوجوه، وتسجد له الجباه. - وفى قوله تعالى: «أَفَلا تَذَكَّرُونَ» تسفيه لهؤلاء الضالين، وتسخيف لأحلامهم، التي تركب الضلال، وتتنكب طريق الحق، وبين يديها صبح مشرق مبين. قوله تعالى: «إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ» . هو استعراض لبعض قدرة الله، وفيه وعيد للكافرين، وأنهم ليسوا كما ظنّوا وقالوا: «إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» (37: المؤمنون) لقد كذّبتهم أنفسهم، وغرّهم بالله الغرور.. «أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» (4- 6: المطففين) «ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ» (51- 56: الواقعة) . فالبعث أمر حكم الله به، حكما لا مردّ له.. «إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا» .. - وفى قوله تعالى: «إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ» إشارة إلى إمكانية إعادة الخلق بعد موتهم، فإن ذلك لا يعجز من خلق الخلق ابتداء، وجاء بهم على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 934 غير مثال سابق.. فإعادة الشيء إلى أصله بعد فساده، وانحلاله أهون- فى تقديرنا نحن البشر- من إنشائه ابتداء على غير مثال سبق.. والله سبحانه وتعالى يقول: «كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ» (104: الأنبياء) .. ويقول سبحانه: «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (27: الروم) .. وفى قوله تعالى: «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ» بيان للحكمة التي من أجلها كان بعث النّاس، ورجعتهم إلى الله بعد موتهم.. وهى أن يوفّى النّاس أجورهم، وينالوا جزاء أعمالهم.. إذ الحياة الدنيا دار ابتلاء وعمل، والحياة الآخرة دار حساب وجزاء.. الدنيا مزرعة الزارعين، والآخرة حصاد الحاصدين.. ومن هنا كان من مقتضى حكمة الخالق أن يعيد النّاس بعد موتهم، ليوفّيهم جزاء أعمالهم فى الدنيا.. «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ» أي بالحق والعدل، «وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ» أي من سائل حارّ كما يقول الله تعالى «إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ» (43- 46: الدخان) . «وَعَذابٌ أَلِيمٌ» أي ومع هذا الشراب من الحميم عذاب أليم، وبهذا يحتويهم العذاب من الداخل والخارج، فى بطونهم، وفى أجسادهم.. «بِما كانُوا يَكْفُرُونَ» وذلك بسبب كفرهم بالله، وصدّهم عن سبيله.. والسؤال هنا: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 935 لم جاء قوله تعالى «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ» مقيّدا الجزاء بأنه جزاء بالقسط، ولم يرد هذا القيد فى جزاء الكافرين؟ وهل يجازى أحد إلا بالقسط والعدل؟ والله سبحانه وتعالى يقول: «وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ» (47: الأنبياء) . فما جواب هذا؟ نقول- والله أعلم-: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، قد كان لهم من أعمالهم الصالحة ما يقيم ميزانهم، ويجعل لهم حسابا على كفّتى الميزان، كفّة الحسنات، وكفّة السيئات.. فما كان لهم من حسنات رأوه فى كفّة الحسنات، وما كان لهم منهم سيئات، رأوه فى كفّة السيئات.. لم تضع مثقال ذرة من أعمالهم، هنا، أو هناك.. فحسابهم قائم على القسط، والحق، والعدل.. وكذلك جزاؤهم.. إنه قائم على القسط، والحق، والعدل.. وليس ذلك الجزاء القائم على القسط بالذي يحجز فضل الله عنهم، أو يحول بين رحمته وبينهم.. فإن من تمام العدل أنّه أخذ المسيء بإساءته، أن يزاد للمحسن فى إحسانه، لشرف الإحسان فى ذاته، ولقدر العمل الصالح فى نفسه. فيشرف- لذلك- بالإحسان أهله، ويكرم بالعمل الصالح ذووه.. وفى هذا يقول الحقّ جلّ وعلا: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ» (26: يونس) . أما الكافرون فلا شىء لهم فى الآخرة يقام لهم ميزان به، إذ كانت كلّ أعمالهم ضلالا فى ضلال، لأن أي عمل- مع الكفر- وإن كان فى باب الصالحات، هو باطل لا وزن له، إذ لم يزكّه الإيمان.. فهو أشبه بالحيوان الطيب لحمه، الحلال أكله، يموت حتف أنفه، أو خنقا، أو غرقا.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 936 فيصبح خبيثا حراما! والله سبحانه وتعالى يقول: «مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ» (18: إبراهيم) .. ويقول سبحانه: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً» (39: النور) .. فأى ميزان يقام لهؤلاء الضّالّين الكافرين، وليس لهم فى كفّة الصالحات شىء يوزن؟ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً» (103- 106: الكهف) [الجزاء الدنيوىّ.. وجزاء الآخرة] وسؤال آخر يعرض هنا، وهو: لم كان الموت ثم البعث حتى يقع الجزاء؟ وهلّا كان الجزاء معجّلا فى هذه الدنيا حتى يكون أثره ظاهرا فى هذه الحياة، تتمثل فيه العبرة والعظة، ويقع به النفع لمن اعتبر واتعظ؟ ثمّ ما وقع هذا الجزاء المؤجّل، على هذا الإنسان الذي مات وصار رميما وترابا.. ثم يبعث بعد هذا الزمن الطويل الذي لا يعلم مداه إلا الله؟ والجواب على هذا السؤال أو تلك الأسئلة، نوجزه فيما يلى: فأولا: لا شكّ أن هناك جزاء معجلا لكل عمل يعمله الإنسان، من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 937 حسن أو سيىء، فكل عمل يحمل فى كيانه الجزاء الذي يستحقه صاحبه، على أية صورة من الصور.. وليس من الحتم اللازم، بل ولا من المطلوب المستحبّ أن يكون الجزاء من جنس العمل، كمّا ونوعا وكيفا.. فقد يكون العمل ماديّا وجزاؤه روحيّا نفسيّا.. وقد يكون من نوع ما، ويكون جزاؤه مماثلا له ولكن من نوع آخر، ثم قد يكون كمّا من نوع معيّن، فيقع جزاؤه موزعا فى أنواع متعددة من الجزاء.. وفى الحياة الدنيا شواهد كثيرة لهذا.. فى جانب الأعمال الصالحة، وفى جانب الأعمال السيئة، على السواء.. ونضرب لهذا مثلا لكل جانب من هذين الجانبين: رجل من عباد الله الصالحين، أقام نفسه على طريق الحق، والخير.. يؤدى حقوق الله، وحقوق العباد.. فيصلى، ويصوم، ويزكى، ويقول كلمة الحق ولو أصابه منها ضرّ وأذى، ولا يطفف الكيل، ولا يخسر الميزان.. هكذا سيرته وشأنه فى الحياة، وتلك سيرته مع الناس.. ثم يرى مع ذلك فى حال من ضنك العيش، وضيق الرزق، ثم قد يكون إلى ذلك مبتلى بآفة فى جسمه، أو علّة فى ولده.! لا شك أن ظاهر الحال ينبىء هنا عن أن هذا الإنسان شقى، وأنه لم يجن من صلاحه وتقواه إلّا هذا البلاء الذي هو فيه! فأين هو الجزاء الحسن للعمل الحسن؟ وأين هى ثمرة الإحسان التي يجنيها من زرع الإحسان؟ والجواب، الذي ينطق به لسان الحال، أنه لم يجن من إحسانه غير الشوك والحسك، الذي أدمى يديه، ونزف دمه! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 938 ولكن الحقيقة كامنة وراء هذا الظاهر الذي تقف على حدوده الأبصار الكليلة، والبصائر المغلقة.. فلو ذهب ذاهب يفتش عن هذا الإنسان، لوجد باطن أمره على خلاف ظاهره.. وأنه وإن بدا فى مرأى العين فقيرا، فهو فى واقعة غنىّ، وأنه إن حسب فى عداد الناس شقيّا فهو عند نفسه سعيد، وأنه إن عدّ فى منازل الرجال قزما قميئا، فهو طوال عملاق، لا يقاس به أطول الرجال، وأنه إن بدا ضعيفا هزيلا، فهو قوى جبّار، يضع قدميه فوق رءوس الأقوياء والجبارين.. فهذا الإنسان الذي لا تأخذه العيون، ولا تقف عنده الأنظار- هو قلب ينبض بالرضا، ونفس تتنفس السعادة، وروح تستروح الغبطة.. يجد برد العافية يمس كل مشاعره ووجداناته، وأنسام النعيم تعطر الحياة من حوله، فيخطر فيها متراقصا كما يتراقص الفراش على أزهار الرّبا! وإن هذا الإنسان الذي لا نشبع بطنه من لقمة العيش.. هو قائم على مائدة حافلة بالطيبات من المثل الكريمة الفاضلة، يتخير منها ما يطيب له، لغذاء عواطفه ومشاعره.. وهذا الإنسان الضعيف الهزيل، الذي لا يكاد تحمله قدماه.. هو نسر يضرب بجناحيه فوق هذا العالم الترابي، محلقا فى سماوات لا حدود لها، حتى ليكاد يطاول النجوم فى أفلاكها.. أتريد لهذا شاهدا يشهد لما نقول؟ اقرأ سير الأبطال- أبطال الإنسانية الحقيقيين- الذين كانت دنياهم جنة من جنات الله على هذه الأرض.. فعرفوا طعم السعادة، ورضعوا أخلاف النعيم، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 939 لا فى هذه القصور الشامخة، وما تكتظّ به من أثاث ورياش، وما يموج فيها من جوار وغلمان، وما تحفل به من موائد ومطاعم، وما يساق إليها من ذهب وفضة.. ولكن فى بيوت متواضعة، تسكنها نفوس عمرتها السكينة، وتعمرها قلوب عمرها الحق والعدل والخير.. أعرفت شيئا من سيرة عمر بن الخطاب؟ وأعرفت كيف كان طعامه لقيمات جافة من خبز الشعير وإدامه قطرات من الزيت أو الخل، لا يجتمعان معا.. وهو خليفة المسلمين، ووارث ملك القياصرة، وعرش الأكاسرة؟ وأ رأيت كيف كان لباسه من المرقع الخشن، وبين يديه ما شاء من دمقس وحرير، مما جلب من صنعة الشام، والعراق، ومصر، واليمن؟ ثم أشهدت خليفة المسلمين وهو قائم فى الشمس يهنأ إبل الصدقة، ويعالج جر باها؟ لا تنظر فى هذا إلى عظمة عمر، ولا إلى زهده، وعفته، ولا إلى خوفه من ربه وخشيته ليوم لقائه، وانظر إلى عمر، وإلى السعادة الغامرة التي تملأ جوانحه، وتفيض على الناس من حوله.. إن عمر وهو يردّ شربة الماء البارد فى يوم صائف، ويرفعها عن شفتيه حين وجد نفسه تهشّ لها، وترقص طربا لاستقبالها- إنه ليجد السعادة مضاعفة حين غلب هواه، وحطّم شهوته، وقهر سلطانها.. إنه الآن ملك غير مملوك، وسيد غير مسود، وقادر غير عاجز، ومتسلط غير متسلط عليه، وحاكم غير محكوم.. وشتان بين عمر لو شرب هذا الماء، وبين عمر هذا الذي أبى على نفسه أن تشربه! هذه لغة لا يعرف مدلول ألفاظها إلّا من عانى مثل هذه التجربة وعاشها، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 940 ووقف من نفسه ولو مرة واحدة، إزاء شهوة غالبة، أو هوى قاهر، فاستعلى على شهوته، وأمسك بزمام هواه.. ذلك هو الذي يدرك معنى السعادة التي كان يعيش فيها عمر ومن أخذ مأخذ عمر، وسار على طريقه.. فى القناعة، والتعفف، والاستقامة.. من كلمة حكيمة لسقراط يقولها لأحد معاصريه: «يبدو أنك تظنّ أن السعادة فى الترف والإسراف.. أما أنا فأرى أنك إذا لم تكن فى حاجة إلى شىء لكنت شبيها بالآلهة، وأنك كلما أقللت من حاجتك قدر استطاعتك كنت أقرب ما تكون إلى الآلهة» . هذه هى السعادة الحقيقية الكاملة فعلا. السعادة التي يحصل عليها المرء بالاستعلاء على شهواته، والاستغناء عن الكثير من الضرورات التي تقيّد خطوه، وتثقل كاهله.. والناس على منازلهم من القدرة على امتلاك ناصية شهواتهم، والتحكّم فى زمام أهوائهم، فهم بين قادر متمكن، وواقف بين القدرة والعجز، وعاجز مستسلم.. وكلما كان الإنسان أقدر على قهر شهواته وردع أهوائه كلما علا وارتفع، وحلّق فوق هذا المستوي الذي يتقلب فيه الناس.. ولهذا تجد التفسير الصحيح لتلك المواقف الرائعة المذهلة، التي كان يقفها أناس لا حول لهم ولا طول، فى وجوه الجبابرة والمتسلطين من أصحاب الجاه والسلطان. فإذا هذا الجبار المتسلط، يسقط بجاهه وسلطانه، ويهوى بجبروته وسطوته بين يدى هذا الإنسان الذي ليس بين يديه شىء من جاه أو سلطان، وإنما سلطانه وقوته فيما انطوت عليه جوانحه من استقامة وصلاح.. وليس لهذه القوة الروحية، وتلك العظمة النفسية، طبقة معينة من الناس، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 941 ولا صفة خاصة مميزة لهم، وإنما هى لمن يطلبها، ويؤدّى من ذات نفسه الثمن المطلوب لها.. فهى تلبس الصعلوك، كما تلبس الأمير، وتكون فى الحاكم كما تكون فى المحكوم. فهذا أعرابىّ من أجلاف البادية، يقف للحجاج طاغية زمانه، فيخرسه، ويذلّ كبرياءه، ويحطّم جبروته. سأله الحجاج عن أخيه محمد بن يوسف الثقفي، قائلا: كيف تركته؟. قال الأعرابى: تركته بضّا سمينا؟ قال الحجاج: لست عن هذا أسألك! قال الأعرابى: تركته ظلوما غشوما! قال الحجاج: أو ما علمت أنه أخى؟ قال الأعرابى: أتراه بك أعزّ منى بالله؟ هذه هى القوة التي لا تتخلّى عن صاحبها أبدا، ولا تخذله فى موقف من المواقف. إنها تختلط بدمه، وتسرى فى مشاعره وتسكن فى وجدانه.. وهى مصدر سعادة ورضا، يغتذى منها صاحبها أكثر وأهنأ مما يغتذى صاحب السلطان من سلطانه. والمشاهد فى الحياة دائما هو أن أصحاب الجاه والسلطان، وأهل الجبروت والقهر، إذا استبان لهم وجه إنسان تعلوه ملامح الصلاح والتقوى، تخاضعوا بين يديه، وتخاشعوا له، وسعوا إلى مرضاته، ولم يستنكفوا أن يكونوا من ورائه، خدما يخدمونه، ويتبعون إشارته!! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 942 وقد استشفّ بعض الصالحين هذه الظاهرة، ووقع على السرّ الكامن فيها.. حين نظر فوجد أن الأطفال يتحكمون فى الكبار، حيث ينزل الكبار إلى مستواهم، يلاعبونهم، ويلاطفونهم، ويجدون السعادة والرضا فى خدمتهم والسهر على راحتهم.. وقد علّل ذلك بأن الطفولة أقرب عهدا بالله، وأطهر نفسا، وأصفى روحا. فهى فى صفائها وطهارتها أقرب ما تكون إلى الملائكة، ومن هنا سخّر الله سبحانه وتعالى الكبار لخدمة الصغار.. والأخيار الصالحون أقرب ما يكونون إلى الأطفال، فى براءتهم وطهرهم.. ومن هنا كان سلطانهم على الناس، ومكانتهم فيهم أشبه بسلطان الطفولة القاهر على الآباء وغير الآباء.. إنهم أقرب إلى الله من كل عباد الله.. ومن كان من الله أقرب، سخّر له من كان من الله أبعد، ومن كان فى طاعة الله، كان الناس فى طاعته! كان أبو عبد الله التونسى فى مدينة تلمسان، مشهورا بين الناس بالصلاح والتقوى، فمرّ به يحيى بن يقان حاكم تلمسان فى خدمه وحشمه، فقيل له: هذا أبو عبد الله التونسىّ، فمسك لجام فرسه، وسلم على الشيخ، فردّ عليه السلام، وكان على الملك ثياب من فاخر الحرير، فقال يا شيخ: هذه الثياب التي أنا لابسها أتجوز لى الصلاة فيها؟ فضحك الشيخ، فقال الحاكم: ممّ تضحك؟ قال: من سخف عقلك، وجهلك بنفسك وحالك، مالك تشبيه عندى إلا بالكلب، يتمرغ فى دم الجيفة وأكلها وقذارتها، فإذا جاء يبول يرفع رجليه، حتى لا يصيبه البول! «وأنت وعاء ملىء حراما، وتسأل عن الثياب، ومظالم العباد فى عنقك؟ قالوا: فبكى الحاكم، ونزل عن فرسه، وخرج عن سلطانه من حينه، ولزم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 943 الشيخ، فمسكه الشيخ ثلاثة أيام، ثم جاء بحبل، فقال له: قد فرغت أيام الضيافة فقم، فاحتطب.. فكان يأتى بالحطب على رأسه، ويدخل به السوق، والناس ينظرون إليه ويبكون..» . أفليس هذا جزاء الخير والإحسان فى الدنيا؟ أو ليس هذا السلطان المتمكن الذي يعطاه أهل الصلاح والتقوى فى هذه الدنيا، جزاء طيّبا مسعدا لهم؟ ثم أليس هذا دليلا على أن كل عمل طيّب صالح يعطى ثمرته، عاجلة طيبة، بقدر ما فيه من طيب وصلاح؟ وعلى عكس هذا الأعمال الرديئة الخبيثة.. إنها تحمل فى كيانها الجزاء الرديء الخبيث لأهلها، على قدر ما فيها من رداءة وخبث، مكيالا بمكيال!! ولا نسوق لهذا الأمثال والشواهد، فشاهد الأعمال الصالحة، وما يعود منها على أهلها من خير، يعكس الصورة المقابلة للأعمال الرديئة الخبيثة، ويعطى الحكم الواقع عليها، وهى أنها شرّ وبلاء ونقمة على أصحابها فى الدنيا. على قدر ما فيها من رداءة وخبث، سواء بسواء، وصاعا بصاع! أما لماذا الجزاء الأخروى، إذا كان الناس- أخيارا وأشرارا- قد وفّوا جزاء أعمالهم فى الدنيا، وجوزوا عليها بالخير خيرا، وبالشرّ شرا؟ ونقول: إن الإنسان- وهكذا شاء الله له- ليس مخلوقا لهذه الدنيا وحدها، وليست حياته كحياة الحيوان تنتهى على هذه الأرض بنهاية عمره فيها. وإنما الإنسان فى منزلة هى عند الله أكرم وأشرف مما على هذه الأرض من كائنات.. إنه خليفة الله على هذه الأرض، فإذا أدّى مدة خلافته فيها، انتقل إلى عالم آخر غير هذا العالم، ونزل دارا أخرى غير تلك الدار.. هى أخلد وأبقى.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 944 وليس الموت الذي ينزل بالناس إلا وقفة على طريق الحياة الأبدية، واستعدادا لدخول عالم جديد، غير العالم الذي كانوا فيه. إنه أشبه شىء بالمسافر ينتقل من منطقة جبلية ثلجية إلى منطقة حارة قائظة.. إنه لا بد أن يقف على مشارف على هذه المنطقة الجديدة، فيتخفّف من ملابسه الثقيلة، وما كان معه من أدوات التدفئة..! وبمعنى آخر.. ليس هناك بالنسبة للإنسان موت بالمعنى الذي يقع على النفوس من كلمة «موت» ، كما تموت الدواب والطيور والحشرات.. وإنما هى حياة على أتم ما تكون الحياة، وإن اختلف لونها وطعمها، كما تختلف طعوم الحياة وألوانها عند الإنسان، حين ينتقل نقلة بعيدة من قارة إلى قارة مثلا، على بعد فى التشبيه، واختلاف فى التمثيل.. واستمع إلى قول الرسول الكريم، وتلخيصه فى هذه الكلمات الرائعة المعجزة لقصة الحياة، والموت، أو قل- بمعنى أصح- قصة الحياة، وما بعد الحياة.. يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه: «النّاس نيام.. فإذا ماتوا انتبهوا» ! فليست هذه الحياة التي يحياها الإنسان فى هذه الدنيا إلا أحلاما وأضغاث أحلام بالقياس إلى الموت، وما بعد الموت.. هناك يجد الناس وجودهم، وتلبسهم الحياة الحقيقية الكاملة.. وهذا ما يشير إليه القرآن الكريم فى كثير من آياته، فى معرض عرضه للدنيا والآخرة. فيقول سبحانه وتعالى: «وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» (64: العنكبوت) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 945 ويقول جلّ وعلا: «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» (20: الحديد) ويقول سبحانه: «وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى» (17: الأعلى) ويقول تبارك وتعالى: «وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ» (30: النحل) ويقول سبحانه: «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ» (26: الرعد) وإذن، فهناك حياة آخرة! وإذا كانت هناك حياة آخرة، فمن الطبيعي أن ينتقل إليها الإنسان بما حصّل فى حياته الأولى، وما جمع من خير أو شر، وما عمل من حسن أو قبيح.. فانتقال الإنسان من هذه الدنيا، لا يقطعه عما كان له فيها من عمل.. بل إن عمله كلّه سيصحبه إلى عالمه الجديد، كمن ينتقل من بيت إلى بيت، ومن بلد إلى بلد، نقلة إقامة واستقرار.. إنه يحمل كل ما فى داره الأولى إلى داره الثانية.. غاية ما هناك من فرق، هو أنه لا يتكلف لذلك جهدا ولا مشقة، بل سيجد كل ما عمل قد سبقه إلى هناك! إلى داره الجديدة، وإلى عالمه الجديد! وأرانا بهذا قد أجبنا على سؤال سألناه آنفا، وهو: ما وقع هذا الجزاء المؤجل، على الإنسان الذي مات وصار رميما وترابا ثم يبعث بعد هذا الزمن الطويل الذي لا يعلم إلا الله مداه؟ لقد عرفنا أن ليس هناك فترة انقطاع بالموت فى حياة الإنسان الممتدة من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 946 الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة.. بل إن الموت فى واقعه هو حياة للإنسان، هو صحوة من نوم، وانتباه من غفلة، وانتقال من دار إلى دار، ومن عالم إلى عالم.! وقد أنكر كثير من الناس هذا الموت المسلّط على الإنسان، وعدّه عقوبة صارمة تنزل بالناس، فتسوّى بين الأخيار والأشرار. فيقول أحد شعراء هذا المذهب: إن يك الموت قصاصا ... أي ذنب للطّهاره وإذا كان ثوابا .... ... أىّ فضل للدّعاره وإذا كان وما فيه ... جزاء أو خساره فلم الأسماء: إثم وصلاح؟ لست أدرى! ونقول: ليس الموت فى ذاته قصاصا أو ثوابا.. وإنما هو موقف تتحول به أحوال الناس، على حسب ما لهم عند الله من ثواب أو عقاب، بما كان لهم فى الحياة الأولى من أعمال، تلائم العالم الجديد الذي نقلوا إليه، أو لا تلائمه.. فإن كانت مما يتلاءم مع العالم العلوي الذي نقلوا إليه نعموا بها، وسعدوا، وإن كانت مما لا تتفق وطبيعة هذا العالم شقوا بها، وابتلوا بالحياة معها.. فلكل عالم جوّه الذي تطيب فيه مغارسه، وتروج فيه عملته.. وهذا العالم العلوى لا تقبل فيه إلا الأعمال الطيبة الصالحة، ولا ينعم فيه إلا الطيبون الصالحون.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 947 أما الخبيث المرذل، فهو مردود على أهله، يطعمون من خبثه، ويتقلبون على شوكه! فالأعمال التي يعملها الناس فى حياتهم الدنيا، هى زادهم الذي يطعمون منه فى الآخرة، فإذا كان ما عملوه صالحا، وجدوا الحياة الطيّبة معه، حيث يتلاءم مع الدار الجديدة التي نقلوا إليها، والتي لا يقبل فيها إلا ما كان طيبا.. أما الرديء الخبيث فهو ردّ على أهله، وبلاء على أصحابه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ» (34- 35: التوبة) .. فهذا الذهب الذي اكتنزه المكتنزون، وبخلوا به، فلم ينفقوا منه فى سبيل الله- هذا الذهب، قد تحوّل إلى أداة من أدوات العذاب لأهله.. إنّه عملهم السيّء، قد انتظرهم هناك! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» (10: النساء) .. فهو نفس الشيء.. عمل سيىء حصّلوه فى الدنيا.. فانتظرهم هناك.. فى الآخرة.. إن العاقل- وبصرف النظر عن الدّين- يغرس فى مغارس كثيرة قد لا تعطيه أي ثمر فى حياته، وإنما يجنيه أبناؤه من بعده.. وهو مع هذا لا يضنّ على هذا الغرس بمال أو جهد.. وإن العاقل الرشيد ليرى أن دنياه هذه لا يمكن أن تتسع لمغارسه، وأنه لا بد من حياة وراء هذه الحياة يغرس لها ليجنى هناك بيديه ثمر ما غرس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 948 وقد جعلت شريعة الإسلام للناس أن يحيوا حياتين معا.. الحياة الدنيا، والحياة الآخرة، وأن يعملوا لهما جميعا، بلا إفراط ولا تفريط، فلا تطغى الدنيا على الآخرة، ولا تجور الآخرة على الدنيا، فكان مطلبهم من الله قولهم: «رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ» (201: البقرة) .. فهذا هو عنوان الشريعة الإسلامية، وهذا هو منهج المؤمنين بها.. يعملون للدنيا، ويعملون للآخرة: «فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» (134: النساء) . يقول الراغب الأصفهانى: «لم ينكر أمر المعاد والنشأة الأخرى إلّا جماعة من الطبيعيين، أهملوا أفكارهم، وجهلوا أقدارهم، وشغلهم عن التفكير فى مبدئهم ومنشئهم شغفهم بما زيّن لهم من حبّ الشهوات. «وأما من كان سويّا ولم يمش مكبّا على وجهه، وتأمل أجزاء العالم علم أن أفضلها ذوات الأرواح، وأفضل ذوات الأرواح ذوات الإرادة والاختيار، وأفضل ذوى الإرادة والاختيار الناظر فى العواقب، وهو الإنسان.. فيعلم أن النظر فى العواقب من خاصية الإنسان، وأن لم يجعل الله تعالى هذه الخاصية له، إلا لأمر جعله له فى العقبى، وإلا كان وجود هذه القوة فيه باطلا» . ثم يقول الراغب: «فلو لم يكن للإنسان غاية ينتهى إليها غير هذه الحياة الخسيسة المملوءة نصبا وهمّا وحزنا، ولا يكون بعدها حال مغبوطة- لكان أخسّ البهائم أحسن حالا من الإنسان!» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 949 وربما سأل بعض الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، فقالوا: ماذا لو وقع الجزاء بين الناس فى الدنيا؟ فالله سبحانه وتعالى قادر على أن يسوّى حساب الناس فى هذه الحياة، ويوفّى كل عامل جزاء عمله.. المحسن بالإحسان، والمسيء بالإساءة؟ ونحن نسأل: على أىّ وجه يسوّى هذا الحساب؟ .. أهكذا مثلا؟: الفقير ينال نصيبه من الغنى؟ والمريض يلبس ثوب العافية؟ والمقتول يعود إلى الحياة ويقتل قاتله؟ والمظلوم ينتقم ممن ظلمه؟ وهكذا.. أليس كذلك تكون تسوية الحساب؟ وأليس على هذا الوجه أو قريب منه يقع الجزاء ويكون القصاص؟ فأى حياة إذن تكون هذه الحياة؟ إنها ليست الحياة التي يصلح فيها شأن الناس، ويتحرك فيها وجودهم! إن الناس فى حياة كهذه الحياة يبدون وكأنهم لعب.. بلا إرادة، ولا تفكير.. كلهم على سمت واحد.. لا فرق بين إنسان وإنسان.. فلا غنىّ ولا فقير، ولا صحيح ولا مريض، ولا جميل ولا دميم، ولا قوى ولا ضعيف! إنه لكى يكون الحساب هنا عادلا، يجب أن يكونوا كائنا واحدا.. أشبه برقم عددىّ يتكرر.. أما وهم أكوان.. كل منهم عالم قائم بذاته، له وجوده، وله مشاعره، وله سعيه- فإن التسوية بينهم فى الحياة، هى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 950 اليد المخرّبة، التي تفسد هذا الجهاز الذي يدفع بعجلة الحياة الإنسانية، ويحركها فى كل اتجاه!. وانظر ماذا يكون الحال، لو وجد المحسن جزاء إحسانه حاضرا «فوريّا» ؟ إنه- والحال كذلك- يتحول من محسن، يقدر الإحسان، ويحترم الخلق الفاضل، ويعشق الخير- يتحول إلى تاجر، يبيع الإحسان بالدراهم والدنانير!! إنه- والأمر كذلك- لا يرى الخير خيرا، ولا الفضيلة فضيلة، وإنما يراها سلعا تباع وتشترى.. وبهذا يتحول الإنسان من إنسان إلى حيوان لا وجدان له، ولا ضمير معه! وكذلك المسيء، الذي يرتكب المنكرات.. من قتل، وسرقة، واعتداء على الناس، واستباحة دمائهم وأموالهم.. إنه لو وجد عقابه عاجلا «فوريّا» لما أقدم على شىء من هذا، لأنه يعلم أن عين السماء تراه، وأن يدها لا تقصر عنه، وأنه لو كان عقابها معجلا، لبادره العقاب بمجرد أن يفرغ من جرمه، وقبل أن يبرح مسرح جريمته! أفترى إنسانا يقدم على قتل إنسان وعين رجل الشرطة إليه، والبندقية مصوبة نحوه؟ أترى إنسانا يسرق إنسانا وهو يرى الشرطىّ يمد يده ليقبض عليه؟ إن ذلك لا يكون أبدا.. وهذا معناه ألا تقع أية جريمة فى الحياة.. فلا بغى ولا عدوان، ولا إثم ولا منكر! وإذن.. فلا قصاص! ثم ما الحياة الإنسانية، وما طعمها، إذا هى خلت من الشرور؟ إنها لن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 951 تكون حينئذ حياة الناس، ولا دنيا البشر.. بل هى حياة الملائكة، أو عالم الجهاد.. وليس الناس ملائكة ولا جمادا.. وإنما هم بشر.. فيهم المحسن والمسيء، ومنهم الطيب وفيهم الخبيث.. والإنسان ذاته يحسن ويسىء، وبطيب ويخبث.. وليس فى الناس الطيب الخالص، ولا الخبيث المحض، وإنما الناس هذا وذاك، والإنسان من هذا ومن ذاك! وقد يبدو لسائل أن يسأل: إنك تقول: إن مجازاة المحسن على إحسانه بالأسلوب «الفورىّ» فى الدنيا يجعل منه تاجرا يتجر بالفضائل، ويجعل من تلك الفضائل سلعا.. وفى ذلك إزراء بالفضائل وإنزال من قدرها.. أفلا يكون هذا المعنى قائما مع الجزاء المؤجل ذاته؟ وما الفرق بين أن يلقى المحسن جزاء إحسانه اليوم، أو غدا، أو بعد غد؟ أليس الذي يلقاه فى الدنيا، أو الذي يلقاه فى الآخرة من جزاء على إحسانه، هو ثمن لهذا الإحسان؟ إنه هنا فى الدنيا، يلقى الحسنة بالحسنة والخير بالخير.. ولكنه هناك فى الآخرة، يلقى الحسنة بعشر أمثالها، وبأكثر من عشر أمثالها، ويلقى الخير مضاعفا أضعافا كثيرة.. فأى الجزاءين يكون فيه الإنسان تاجرا يتجر فى الفضائل ويتعامل بها فى جشع ونهم؟ أذلك الذي يباع فيه الشيء بمثله، أو ذاك الذي يباع فيه بعشرات أمثاله؟ ونقول: إن هذا التقدير قائم على حساب غير دقيق.. ذلك أن الجزاء الفورىّ، هو مناولة يد بيد، ليس فيه مخاطرة كالتى تكون فى بيع العاجل بالآجل.. وكون الآجل أضعافا مضاعفة للعاجل لا يرفع عنه خطر المخاطرة، وخاصة ذلك الأجل الطويل، الذي يمتدّ أزمانا لا يعرف المرء مداها، والذي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 952 تقع للمرء فيه أحداث مذهلة لا يمكن التتبؤ بعواقبها.. وخاصة أنه حساب يقتضى المرء عنه حسابه بعد الموت، وبعد البعث من الموت!! إن الإيمان وحده الذي يكفل للجزاء الآجل قيمته، ويجعل له وجودا يتعامل الإنسان على حسابه.. وبغير هذا الإيمان لا يمكن أن يقبل عاقل بيع درهم عاجل بقناطير مقنطرة آجلة، لأنه لا محصّل لها بعد هذا الأجل الطويل وبعد هذه الأحداث العجيبة، إلا إذا كان هناك إيمان وثيق بالبعث وبالجزاء!! وانظر فى المعاملات المالية، أيام اضطرابات السلام، وتوقعات الحرب.. إن عمليات البيوع المؤجلة كلها تتوقف، وليس هناك من تعامل بين الناس إلا بالسلعة الحاضرة والثمن المقبوض، يدا بيد، حيث يفقد الناس الثقة فيما ستلده الأيام، إذا وقعت الحرب! وقليل جدا هم أولئك الذين يتعاملون فى هذه الحال بالبيع المؤجل، وإن بلغت الأرباح فى هذه البيوع عشرات الأضعاف.. إن هؤلاء قلة مغامرون بمعنى الكلمة.. لكنهم على أية حال لا يتعاملون إلا فى أضيق الحدود، وبأقل جزء من أموالهم.. وليس كذلك المؤمنون الذين يعملون ليوم الجزاء.. إنهم يتعاملون وهم على ثقة بأنهم يعقدون مع الله صفقة رابحة، مؤكدة النتائج، محققة الوقوع.. «فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ.. وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» .. وهم لا يتعاملون فى أضيق الحدود، ولا بالقليل مما فى أيديهم، بل يتعاملون بلا حد ولا قيد، حتى لقد يخرج الواحد منهم عن ماله كله، وحتى لقد يبيع نفسه، ويقدمها قربانا لله، وبالاستشهاد فى سبيل الله! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 953 والجزاء المؤجل- ثوابا أو عقابا- إنما يتعامل به العقلاء الذين يحكمهم عقلهم، أكثر مما تتحكم فيهم شهواتهم.. فالطفل يعطيك كل ما معه حتى ملابسه، فى سبيل قطعة من الحلوى، لأن قطعة الحلوى هذه، صالحة لأن تؤكل فى الحال..! والصبىّ.. غير الطفل.. إنه لا تستبد به شهوة الحلوى الحاضرة كل هذا الاستبداد.. فهو يساوم وينازع فيما يأخذ ويعطى! وهكذا، كلما درج الإنسان فى مدارج الرشد، رجع إلى عقله، وأطال النظر والتقدير فيما يعود عليه من ربح أوفر، فى العاجل أو فى الآجل! فإذا جاء الناس إلى مجال العمل لما بعد الموت.. كثر المتردّدون، وقل العاملون.. وإنك لو أتيح لك أن تتفحص أمر هؤلاء وهؤلاء، لوجدت أن أولئك الذين آثروا العاجل على الآجل، هم دون من آثروا الآجل على العاجل- ووجدتهم دونهم عقلا وتقديرا للأمور.. إنهم ما زالوا فى دور الطفولة، وإن كانوا فى صورة الرجال! إن عقول الماديين لم تستسغ تأجيل الحساب والجزاء إلى حياة أخرى بعد هذه الحياة الدنيا، بل جعلته حسابا موصولا بهذه الحياة الدنيا.. فكان مذهب التناسخ «تناسخ الأرواح» الذي يؤمن فيه أصحابه بأن الروح تنتقل من جسد إلى جسد، فتنال جزاءها فيه.. فإن كانت خيّرة حلّت فى جسد تجد فيه راحة ونعيما، وإن كانت آثمة حلت فى جسد تلقى فيه بلاء ونكالا.. والقائلون بالتناسخ، ينكرون أن تكون هناك حياة آخرة، يلقى فيها الإنسان جزاء.. ولكن لا بد من جزاء حتى يعتدل ميزان العدل، ويطمئن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 954 المحسنون إلى إحسانهم، ويخشى المسيئون جرائر سيئاتهم- وإذن فليكن هذا الجزاء على تلك الصورة التي صورها القائلون بالتناسخ، فجعلوا الجزاء واقعا فى هذه الدنيا، وعلى المسرح الأرضى بمشهد ومرأى من الناس! والقائلون بالتناسخ يقولون: إن النفس باقية خالدة.. وإن الأبدان التي تحلّ فيها النّفس، واحدا بعد واحد، شبيهة بالأعوام أو الأيام فى حياة الفرد الواحد! وهم يقولون: إن الحياة لا يمكن فهمها إلا على افتراض أن كل مرحلة من مراحل وجود النفس، تعانى العذاب وتتمتع بالثواب، جزاء وفاقا لما وقع منها فى حياة ماضية.. من رذيلة أو فضيلة.. إذ يستحيل على فاعل فعل صغير أو كبير.. خيّرا أو شرّ يرا.. أن يمضى بغير أثر.. إن كل شىء لا بد أن يظهر له أثر ذات يوم! وأنت ترى أن القول بالتناسخ لثواب المحسن وعقاب المسيء هو تصور خاطئ لملء هذا الفراغ الذي يجده الناس حين يقفون على حدود هذه الدنيا، ولا يلتفتون إلى حياة آخرة بعدها.. إنهم فى مجال هذه النظرة المحدودة، يرون أن أعمالا صالحة كثيرة ذهبت، ولم يجز عليها أصحابها الجزاء المناسب، وأن أعمالا سيئة منكرة قد وقعت، ولم يلق مرتكبوها ما يستحقون من عقاب- فكان القول بالتناسخ هو مما ترضّى به عقولهم، أولئك الذين لا يؤمنون بالبعث والجزاء.. فهو ضرب من ضروب الخداع للنفس.. إذ لا أثر له فى محيط الواقع، ولا دليل عليه بين أيدى الناس، وهذا أوضح من أن يحتاج إلى بيان! فالروح التي تلبس هذا الذي يقول التناسخ.. هل يجد فى كيانه إحساسا ما بأنها كانت يوما فى كائن آخر غيره؟ فكيف يصحّ عنده أن تنتقل بعد موته إلى كائن آخر من إنسان أو حيوان؟ ذلك ما لا يقع فى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 955 إحساس أي إنسان.. فكيف يتم إذن هذا التناسخ؟ وعلى أي أساس يقوم علم به، وتستند عقيدة إليه؟ هذا وقد استعجل بعض المؤمنين بيوم الآخرة، وبالجزاء فى هذا اليوم استعجلوا هذا العذاب، فلم يصبروا على هذا الموعد الذي هم على رجاء لقائه بعد الموت، وخاصة فيما يصيبهم من ظلم، وما يقع عليهم من بغى.. ولهذا قالوا يرجعة بعض من ماتوا إلى هذه الدنيا مرة أخرى، قبل البعث العام، وذلك ليلقوا على أيدى من أساءوا إليهم الجزاء الذي يستحقونه.. والشيعة الإمامية متمسكون بهذا الرأى، بل إنه دعامة من دعائم عقيدتهم، لأنهم على توقع هذه «الرجعة» ينتظرون إمامهم الغائب: «أبو القاسم محمد بن الحسن» وهو «المهدى» عندهم، كما أنه الإمام الثاني عشر من أئمتهم. على أن طائفة من الإمامية- وهى تدين بالرجعة- تتأول الرجعة، بأنها رجوع الدولة والأمر والنهى إلى آل البيت، وليست رجوع أعيان الأشخاص، وبعث الموتى من قبورهم قبل يوم البعث! وعلى أىّ، فإن القول بالتناسخ، أو القول بالرجعة، هو توكيد لضرورة البعث، وأن البعث أمر لا بد منه، ليسوّى فيه حساب المحسنين والمسيئين بعد هذه الدنيا.. وقد فرض العقل الإنسانىّ التناسخ فرضا، واعتسفه اعتسافا، وتقبّله، وآمن به، وليس بين يديه شاهد يشهد له، أو دليل يدلّ عليه.. وما ذلك إلا لأنه رأى الحياة الدنيا، لا تضع موازين العدل بين الناس، ولا تأخذ للمظلوم حقّه من ظالمه.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 956 فإذا جاءت كتب الله، ورسل الله، تحدّث عن البعث، وتؤكد وقوعه، لتجزى كل نفس بما كسبت- كان ذلك أمرا لا ينبغى لعاقل أن يشك فيه، إذ كان مما يطلبه العقل، ويقيم له من تصوراته وخيالاته مفهوما يستريح له، ويرضى به! (الآيات: (5- 10) [سورة يونس (10) : الآيات 5 الى 10] هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10) التفسير: قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» هو عرض لبعض مظاهر قدرة الله سبحانه، والتي ذكرت الآيات السابقة بعضا منها.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 957 فالشمس والقمر آيتان من آيات الله الدالّة على قدرته، وعلمه، وحكمته.. وآثارهما فى عالمنا الأرضى واضحة مشهودة.. عليهما تقوم حياة كل كائن فى هذا الكوكب الأرضى، وينتظم نظامه.. ولو أنهما أخذا من الأرض موضعا غير موضعهما، لاختلّ نظام هذا الكوكب، وفسد أمره، وتحول إلى صورة أخرى غير صورته تلك.. لا يدرى أحد ماهيتها التي تكون عليها.. - وفى قوله تعالى: «جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً» إشارتان: أولاهما: أن الجعل غير الخلق.. إذ هو تدبير بعد تدبير الخلق.. فالخلق إيجاد لما هو غير موجود، والجعل تقدير وتنظيم لهذا المخلوق الذي خلق، وإقامته على الوجه الذي يحقق الحكمة من خلقه.. والخلق بالإضافة إلى الله- سبحانه- خلق متلبس بالحكمة، قائم على التقدير.. فليس هناك انفصال بين خلق الله، وبين الحكمة والتقدير لما خلق.. ولكن التعبير «بالجعل» الذي يكشف عن حكمة الخالق المودعة فى المخلوق، هو إلفات لأنظارنا إلى ما فى هذا المخلوق من آثار رحمة الله وحكمته.. ومن جهة أخرى، فإن التعبير بالجعل لا يكشف عن الحكمة من خلق المخلوق إلا من الجانب الذي يتّصل بنا، ويؤثر فى وجودنا.. ففيما كشف عنه قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ» .. عرض مقصور على ما يتصل بنا من خلق الشمس والقمر، أمّا مالهما من شأن أو شئون تتصل بالعوالم الأخرى، وبالكون ونظامه، فذلك ما ليس لنا علم به، وإن وقع لنا به علم، فهو علم يزيد فى معارفنا، ولا يتصل اتصالا مباشرا بمقومات حياتنا القائمة على ما تعطينا الشمس من ضوئها، والقمر من نوره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 958 وثانية هاتين الإشارتين: ما فى اختلاف التعبير عن ضوء الشمس «بالضياء» ونور القمر «بالنور» هكذا: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً» . وذلك أن الضوء نور ذاتىّ، ينبعث من جسم مشعّ له، بفعل الحرارة النّاريّة المتوقّدة فى هذا الجسد.. ومن هنا كان الضوء مشتملا على حرارة، دائما.. فلا ضوء إلّا عن حرارة متوقدة، ولا حرارة إلا ومعها ضوء.. وهذا هو السرّ فى ندائه صلى الله عليه وسلم لجماعة كانت توقد نارا بقوله لهم: «يا أهل الضوء» .. ولم يقل لهم: «يا أهل النّار» تحاشيا لهذه الكلمة التي ربما انصرفت إلى نار جهنم فمسّهم منها وعيد، أو وقع لهم منها تطيّر وتشاؤم.. فعليك صلوات الله وسلامه يا رسول الله.. ما أعظم خلقك، وما أروع أدبك.. وكيف لا يعظم خلقك وقد سوّاك ربّك فى أحسن تقويم، وحلّاك بكل كمال وجمال، فقال سبحانه فيك: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» وقلت أنت فى مقام التحدّث بنعمة الله وقد رأيت ما خلع الله عليك من كمال وجمال: «أدّبنى ربّى فأحسن تأديبى» ذاكرا فضل ربك، شاكرا نعماءه؟. والضوء والنار.. بمعنى واحد.. وضوء الشمس.. ضوء ذاتى، صادر من جسم نارى ملتهب.. أما نور القمر فهو غير ذاتىّ، لأنه صادر من جسم بارد معتم، وقع عليه ضوء الشمس، فانعكس منه على الأرض، هذا النور، الذي لا يحمل شيئا من حرارة الضوء.. والضوء يحمل مع النّور حرارة.. والنور، نور خالص، لا حرارة فيه.. الضوء متوهّج، متّقد، متماوج، مضطرب.. والنور لطيف، هادىء، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 959 رقيق وديع.. وهذا هو بعض السرّ فى التعبير بالنور عن لطف الله، وسريان حكمته، فى هذا الوجود، وإلباس رحمة الله إياه، فى قوله تعالى: «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» .. فهو لطف ورحمة وحكمة، لا يخالطه شىء- مما يصحب الضوء، من حرارة، وتوقّد، واضطراب!! - وفى قوله تعالى: «وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ» إشارة إلى القمر، واختلاف منازله ومطالعه، على مدى أيام الشهر القمري.. - وفى قوله تعالى: «لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ» إلفات إلى بعض ما لهذا النظام الشمسىّ والقمري من أثر، فى ضبط الزمن، وحسابه، وتقدير أيامه، ولياليه، وشهوره، وسنيه.. وليس يبطل هذا الأثر أبدا بما وقع لأيدينا من مقاييس وموازين للزمن، إذ كل هذه الموازين وتلك المقاييس مرتبط بالشمس- خاصة- ومتصل بتعاقب الليل والنهار بين يديها، وبتقلب الفصول على مدار السنة حولها.. ولو تغيّر هذا النظام لاختلّ كل ميزان، وكل مقياس للزمن.. وفى قوله سبحانه: «ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ» .. إشارة إلى أن هذا الخلق الذي خلقه الله، لم يخلق عبثا، وإنما هو خلق قائم على حكمة وتقدير.. وفى هذا يقول سبحانه وتعالى: «وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ» (16: الأنبياء) ويقول سبحانه: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ» (115: المؤمنون) فهذا الوجود الذي أبدعه الله سبحانه وتعالى على غير مثال سبق، هو- من غير شك- المرآة التي تتجلّى فيها قدرة الله، وعلمه وحكمته.. وهو- من غير شكّ أيضا- منزّل عند الله تعالى فى مقام الحبّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 960 والإعزاز، إذ كان من آثار قدرته، وعلمه، وحكمته.. فإن ما تبدع يد الحكمة والعلم والقدرة لا يكون هملا، ولا يذهب مذهب الضّياع.. هكذا شأن كل ذى صنعة مع ما صنع.. هو ضنين به، حريص عليه.. فكيف بالصّانع الأعظم، وكيف بأحكم الحاكمين، وأعلم العالمين.. الله رب العالمين..؟ فهذا الحقّ الذي خلقت به السموات والأرض، هو الذي يمسك بهذا الوجود، ويسرى فى عوالمه، ويشتمل على كل ذرّة من ذرّاته.. فبالحق خلق كل مخلوق، وبالحق قام كل موجود.. - وفى قوله تعالى: «يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» إشارة إلى أن العلم هو المفتاح الذي يفتح مغالق هذا الكون، ويكشف معالم الوجود، وأسراره.. وأن من لم يحصّل العلم والمعرفة، فلن يكون له حظّ من النظر إلى هذا السكون، ولن يمسك بسرّ من أسراره، ولن يتعرف على آية من آياته.. وقوله تعالى: «إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ» يشير إلى أن التقوى لا تقوم فى كيان إنسان إلا ومعها العلم. ذلك أنه إذا نظر الناظر إلى هذا الوجود بعين العالم، وبأجهزة العلم، رأى فى اختلاف الليل والنّهار، وفى تعاقبهما لمحة مشرقة من لمحات حكمة الله، وقدرته وعلمه.. ففى هذا الاختلاف بين اللّيل والنهار ضمان وثيق لكفالة الحياة للكائنات على هذا الكوكب الأرضى.. فما كانت لتطيب الحياة أبدا، بل ولا تقوم الحياة بحال، للمخلوقات- وخاصة الإنسان- لو أن الزمن كان نهارا دائما، أو ليلا مستمرّا.. وفى هذا يقول الحق سبحانه وتعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 961 مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (71- 73: القصص) وليست هذه هى معطيات النظر فى اختلاف الليل والنهار، بل هى معطياته فى كل نظرة ينظر بها إلى كل ما خلق الله فى السموات والأرض.. من الهباءة والذّرة، إلى الشموس والكواكب.. ففى كل ما خلق الله، لمسات من حكمته، وأقباس من علمه، ونفحات من رحمته، وآثار من قدرته.. والنّظر المتفحّص الذكىّ، هو الذي يكشف عن وجود الله، ويحدّث عن جلاله، وعظمته، وتفرّده بالخلق والأمر.. ومن هنا ينبعث الإيمان بالله، ويقوم الولاء له، وتتحقق التقوى للمتقين من عباده.. إن فى ذلك «لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ» .. فلا تقوى لمن لا يعرف الله، ولا يعرف الله، من لا علم له بما أبدع الخالق وصوّر، وبما فى هذا الإبداع والتصوير من علم العليم وحكمة الحكيم، وقدرة القدير.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» .. فعلى قدر ما يعلم الإنسان من صفات الخالق بقدر ما يكون إيمانه به، وخشيته له، واتقاؤه لمحارمه! قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» هو وعيد لأولئك الّذين لا يتدبّرون فى ملكوت الله، ولا يتفكرون فى خلق السموات والأرض- فلقد أهملوا استعمال ملكاتهم التي أودعها الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 962 سبحانه وتعالى فيهم، وشغلوا بأنفسهم، وألهتهم الحياة الدنيا عن أن يرفعوا أبصارهم إلى أبعد مما تصل إليه أيديهم، من مطلوب شهواتهم البهيمية، ولذاتهم الجسدية، فغفلوا عن آيات الله، وعموا عن النظر إلى ملكوت الله، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنّوا بها.. وإنه ليس لهؤلاء اللاهين الغافلين إلا النار، لأنهم لم يكسبوا فى حياتهم الدنيا إلّا ما هو من النّار وإلى النار.. - وفى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ» بالعطف على قوله سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا» إشارة إلى أن هذا الذي أوقع هؤلاء الضالين فيما هم فيه، من عدم توقعهم للقاء الله، والحياة الآخرة، حتى رضوا بالحياة الدنيا، وأعطوها كل وجودهم، واطمأنوا إلى السّكن إليها- إنما كان ذلك لأنهم غفلوا عن النظر فى آيات الله، والتفكر فى ملكوت السّموات والأرض.. ولو أنهم نظروا وتدبروا لكانوا على غير ما هم عليه، ولآمنوا بالله، ولأيقنوا بلقائه، ولعملوا لهذا اللقاء، واستعدّوا له، فذلك هو شأن «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ» (191: آل عمران) وقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» هو عرض للوجه المقابل للذين عموا عن النظر فى ملكوت السموات، والأرض، فلم يؤمنوا بالله، ولم يرجوا لقاءه.. وهو وجه الذين آمنوا بالله، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 963 إذ أكرمهم الله سبحانه وتعالى..، فهداهم بالإيمان إلى الأعمال الصالحة وإلى تقوى الله، والإعداد ليوم لقائه. فكان أن جزاهم ربّهم بما عملوا، جنات تجرى من تحتها الأنهار، ينعمون فيها بما يفضل الله عليهم به، من رزق كريم.. فيسبّحون بجلال الله وعظمته، وما شهدوا من روعة ملكه، ويحمدون له أن وفقهم إلى الإيمان، وهداهم إلى العمل الصالح الذي أرضاه، فرضى عنهم وأدخلهم جناته، وأذاقهم هذا النعيم الذي يتقلبون فيه.. هكذا يعيشون ألسنة تسبح الله، وتحمد له، ويتبادلون السّلام والمودة والمسرّة فيما بينهم: «إخوانا على سرر متقابلين» .. وكما استفتحوا مجالسهم بحمد الله وتنزيهه، يختمونها بالتنزيه والحمد لله ربّ العالمين.. الآيات: (11- 14) [سورة يونس (10) : الآيات 11 الى 14] وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) التفسير: قوله تعالى: «وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 964 الطغيان: مجاوزة الحدّ فى الشر، وبلوغ الغاية فى العدوان والبغي.. ومنه الطاغية، والطاغوت.. ويعمهون: من العمه، والعمه: ما يصيب البصيرة من عمى فلا تهتدى إلى طريق الحق والخير أبدا.. والآية الكريمة تشير إلى موقف المشركين من النبىّ الكريم، وأنهم فى إمعانهم فى تكذيبه وتحدّيه، كانوا يسألون الله أن ينزل عليهم مهلكات من السماء، إن لم يكن ما جاءهم به محمد هو الحق من عند الله، وذلك ليكون مقطع الفصل فيما بينهم وبينه.. فإن يكن ما يقوله الحقّ أهلكهم الله، وأخذهم بدعائهم، وإن لم يكن حقّا لم يصبهم شىء، وافتضح أمره فيهم.. هكذا سوّلت للمشركين أنفسهم، وهكذا أعماهم ضلالهم، حتى طلبوا لأنفسهم البلاء، وتمنّوا العذاب.. ولو كانوا على شىء من العقل والحكمة لكان لهم فى مجال التمنيات ما هو أسلم وأحسن، ولقالوا مثلا: اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فاهدنا إليه.. ولكنها الجهالة والعمى والضلال.. «ومن يضلل الله فلا هادى له» . قوله تعالى: «وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ» .. المراد بالناس هنا مشركو قريش، الذين طلبوا إلى الله أن يعجل لهم العذاب، كما يقول الله سبحانه وتعالى عنهم فى آية أخرى: «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ» (53- 54: العنكبوت) والله سبحانه وتعالى لا يأخذهم بالعذاب، والنبىّ صلى الله عليه وسلم فيهم، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 965 إكراما له، وشفاعة له فيهم.. وفى هذا يقول سبحانه وتعالى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» (33: الأنفال) . - وفى قوله تعالى: «اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى يعجّل لهم الخير، ولا يعجّل لهم العذاب، بل يؤخره عنهم لتتاح لهم الفرصة لمراجعة أنفسهم، والاستقامة على طريق الإيمان.. فمن آمن منهم فقد أمن من العذاب فى الدنيا والآخرة، ومن استمسك بكفره وضلاله، فله خزى فى الدنيا وله فى الآخرة عذاب عظيم.. والتقدير. ولو يعجّل الله للناس الشرّ كما يعجل لهم ما يعجّل من خير، لهلكوا، ولأخذهم البلاء، دون أن تتاح لهم فرصة لمراجعة أنفسهم، وتصحيح لوضعهم المقلوب، الذي اتخذوه من دعوة الحق التي يدعون إليها. - وفى قوله تعالى: «لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى لو عجّل لهم الشرّ الذي يتمنونه لأهلكهم جميعا فى لحظة خاطفة.. ولكنه سبحانه يؤخرهم لأجل معدود، ولا يأخذهم بعاجل ما يستحقون من عقاب، إكراما للنبىّ الكريم، ولمقامه فيهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا» (58: الكهف) . - وفى قوله سبحانه: «فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ..» إشارة إلى المحذوف، الذي دل عليه العطف بالفاء.. والتقدير.. ولو يعجّل الله للناس الشرّ استعجالهم بالخير، لقضى إليهم أجلهم.. ولكنا نمدّ لهم، فنذر الذين لا يرجون لقاءنا منهم فى طغيانهم يتخبطون، فى بحر متلاطم الأمواج. وهذه الآية غير مقيدة بأسباب نزولها، بل هى مطلقة، حيث يقع تحت حكمها الناس جميعا.. فقد كان من رحمة الله بالنّاس أن أمهلهم، فلم يعجّل لهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 966 العقاب الذي يستحقونه بما فعلت أيديهم.. وذلك أنه- سبحانه- لو آخذ كل إنسان بذنبه عاجلا لقضى إليه أجله بعد كلّ ذنب يقع منه، ولكان الناس جميعا فى معرض الهلاك، إذ لا يسلم إنسان من أن يواقع معصية، أو يرتكب ذنبا.. وهذا من شأنه ألّا يدع لإنسان فرصة ليكفّر عن خطيئته، ويستغفر لذنبه، ويرجع إلى ربّه.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ.. وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى.. فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً» (45: فاطر) . وإذن فهذه نعمة من نعم الله على الناس، ورحمة من الله بهم أن لم يعجّل لهم الشّرّ، وهو أخذهم بذنوبهم من غير إمهال.. وهذا من شأنه أن يكون داعية لأن يعيد الإنسان النظر إلى نفسه، وأن يصلح ما أفسد، وأن يتصالح مع ربّه فيما ارتكب من إثم، فتلك فرصة ينبغى ألا يفوته انتهازها، وهو فى عافية من أمره، وفى فسحة من أجله. والتعبير عن التعجيل بالعقوبة، وتنفيذ حكم الله فى المذنب بإهلاكه- والتعبير عن هذا بالشرّ، إنما هو بالإضافة إلى الإنسان الذي يقع عليه هذا الحكم، فهو شر بالنسبة له، إذ يحول بينه وبين أن يجد الفرصة التي يصحح فيها موقفه، ويرجع إلى ربه. قوله تعالى: «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» فى هذه الآية يكشف الله سبحانه وتعالى عن ضلال الإنسان، وكفره بنعم الله، وجحوده لأفضاله عليه، وإحسانه إليه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 967 فالإنسان- مطلق الإنسان- هو كما وصفه الله سبحانه، فى قوله عزّ من قائل: «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ» (19- 23: المعارج) وقوله سبحانه: «كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى» (6- 7: العلق) فالإنسان فى كيانه، هو واه ضعيف.. لأنه خلق من ضعف، كما يقول سبحانه: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً» (54: الروم) .. وكما يقول جلّ شأنه: «وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً» (28: النساء) .. ولكنه حين تلبسه القوة، ينسى ضعفه، ويستولى عليه الغرور، ويستبدّ به العجب والخيلاء، فإذا هو مارد جبار، وسفيه أحمق، وطائس نزق.. يحارب ربّه، ويكفر بخالقه، ويستعبد الناس، أو يتعبّد هو للناس، ولا يتعبد لربّ العالمين! - وفى قوله تعالى: «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً» .. نجد التعبير بالمسّ هنا مفصحا عن مدى ضعف هذا الإنسان وخوره.. وأن مجرّد مسّ الشرّ له، يكر به ويزعجه، ويفسد عليه حياته.. وإذا هو صاخ إلى الله، ضارع بين يديه.. يدعو فى كل حال يكون عليه: لجنبه، أو قاعدا، أو قائما.. فهو من لهفته وانحلال عزيمته، يدعو بكل لسان، ويستصرخ بكل جارحة.. - وفى قوله تعالى: «فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ» .. نجد أن هذا الإنسان الصارخ الضارع المستسلم المستكين، حين يرفع الله عنه البلوى، ويكشف ما به من ضر، يمكر بفضل الله عليه، وينسى رحمته به.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 968 ويمضى فيما كان فيه من كفر وضلال.. كأن ضرّا لم يكن قد مسّه، وكأن حالا من الذّلة والاستكانة لم تكن قد لبسته، وكأن رحمة السماء لم تمدّ يدها إليه وتستنقذه من الهلاك المطبق عليه!! هكذا الإنسان، كما وصفه خالقه فى قوله تعالى: «وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً» (83: الإسراء) وفى قوله سبحانه: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» (34: إبراهيم) - وفى قوله تعالى: «كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» .. تهديد ووعيد لأهل الكفر والضلال، الذين لا يرعوون عن كفرهم، ولا ينزعون عن ضلالهم، ولا يستمعون لدعوة خير، ولا يستجيبون لرائد هدى، ورسول رحمة، لا يتعظون بما يحلّ بهم من غير، وما يلبسهم من نعم! لقد استمرءوا هذا الضلال الذي هم فيه واستحبوا العمى على الهدى: «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» . وقوله تعالى: «وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» هو تهديد أيضا ووعيد للكافرين والضالين، الذين وقفوا من الدعوة النبوية هذا الموقف المتصدّى لها، أو الحائد عنها.. فلقد أخذ الله المكذبين الضالين من الأمم قبلهم بالبأساء والضرّاء حين عتوا عن رسل ربّهم، وكذّبوا بهم.. وذلك هو الجزاء الذي يجزى به الظالمون.. لا جزاء لهم غير أن يؤخذوا بنقم الله ويلقوا فى جهنّم خالدين فيها.. وها أنتم أولاء، أيها المشركون، قد خلفتم هؤلاء الأقوام، وورثتم ديارهم، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 969 وسكنتم فى مساكنهم.. وقد جاءكم رسول كريم من عند الله، وقد عرفتم عاقبة الظالمين المكذبين برسل الله.. فماذا يكون منكم مع رسولكم هذا؟ إن الله سبحانه لا تخفى عليه خافية.. إنه يرى ما تعملون، وسيجازيكم على أعمالكم ويأخذكم بها.. وقوله تعالى: «وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» جملة حالية تكشف عن واقع القوم الذين ظلموا، وأنهم قد ظلموا وكفروا فى حال كان رسل الله فيها بينهم، يدعونهم إلى الإيمان، ويدلّونهم على الهدى. وقوله تعالى: «وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا» جملة حالية كذلك، وصاحب الحال هو ضمير الذين ظلموا فى قوله تعالى: «وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» .. وهذه الحال تكشف عما فى قلوب الضالين من زيغ وضلال، وأنهم ما كانوا ليؤمنوا قبل مجىء الرسل إليهم بالبينات أو بعد مجيئهم.. ولكن الله سبحانه أرسل رسله إليهم، ليقيم الحجة عليهم، وليقع بهم عذابه، بعد أن تأتيهم آياته على يد رسله، كما يقول سبحانه: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (15: الإسراء) . الآيات: (15- 19) [سورة يونس (10) : الآيات 15 الى 19] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 970 التفسير: قوله تعالى: «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» . مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية التي قبلها لفتت المشركين إلى وضعهم الذي هم فيه، وأنهم خلائف قوم قد ظلموا، فأخذهم الله بظلمهم، وأهلكهم بذنوبهم، وأن هؤلاء المشركين، هم الآن فى وجه امتحان امتحنت به الأمم قبلهم، وهو أنه قد جاءهم رسول بآيات الله، كما جاءت الرسل من قبله إلى الأمم السابقة بآيات الله إلى أقوامهم.. فماذا سيكون من هؤلاء المشركين مع رسول الله المبعوث إليهم، ومع آيات الله التي بين يديه؟ أيكفرون به كما كفر من كان قبلهم، ويتعرضون لنقمة الله كما تعرض السابقون؟ أم يؤمنون بالله، ويتبعون الرسول، فتسلم لهم دنياهم وأخراهم جميعا..؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام منهم.. إنهم فى مواجهة تجربة وامتحان، فليأخذ العاقل منهم حذره، وليطلب النجاة والخلاص لنفسه. وفى هذه الآية ينكشف وجه المشركين، ويظهر موقفهم من رسول الله، وهم يأخذون الطريق المعاند له، المتأبى عليه.. فناسب أن تجىء هذه الآية بعد الآية التي سبقتها.. لما بينهما من التلاحم والاتصال.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 971 وفى قوله تعالى: «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ» .. أولا: وصف الآيات بأنها بينات، يدلّ على أن من عنده أدنى نظر يستطيع أن يبصر وجه الحق فى هذه الآيات البينة المشرقة، وأن يهتدى بها، ولا يجادل فيها، أو يقف موقف الشك والعناد منها.. وثانيا: أن هذا القول المنكر الذي قيل للنبىّ فيه: «ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ» لم يقله إلا الذين لا يرجون لقاء الله، ولا يؤمنون بالبعث.. فهم بهذا لا يبالون بأى حديث يحدثهم به عن الآخرة، ويخرج بهم عما هم فيه من استمتاع بحياتهم الدنيا، واستفراغ كل جهدهم فيها.. وثالثا: قولهم: «ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ» يكشف عن ضيقهم بالقرآن، وما يحدّث به عن آلهتهم، وبما يسفّه فيه من أحلامهم، ويفضح من ضلالاتهم.. فهم يريدون قرآنا يبقى على معتقداتهم، ويزكّى عاداتهم، ويحتفظ للسادة منهم بأوضاعهم.. فإن لم يكن من الممكن أن يأتى الرسول بقرآن غير هذا القرآن، فليبدل من أوضاعه، وليغير من وجهه، وليقمه على الوجه الذي يرضيهم، ويلتقى مع أهوائهم.. وهنا يلتقون مع النبي، يستجيبون له! وفى قوله تعالى: «قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي.. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ.. إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» . أولا: أن مسألة إتيان النبىّ بقرآن غير هذا القرآن، أمر غير ممكن، بل مستحيل عليه استحالة مطلقة.. لأنّ القرآن كلام الله، منزل عليه وحيا من ربه.. فليس له- والأمر كذلك- سلطان يملك به عند الله أن ينزل عليه قرآنا غير هذا القرآن.. وفى هذا ردّ ضمنى على المشركين بأن القرآن من عند الله، وليس من عند الجزء: 6 ¦ الصفحة: 972 محمد، إذ لو كان من عند محمد، لكان إلى يده تغييره أو تبديله. وثانيا: مسألة التبديل، والتغيير فى القرآن، وإن كانت أمرا ممكنا فى ذاته، إذ لا يتأتّى القرآن على من يجرؤ على التبديل والتحريف فيه- وإن كان الله سبحانه وتعالى: قد حرسه من التبديل، وحفظه من التحريف، كما يقول تبارك وتعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» - نقول: إن مسألة التبديل فى القرآن، وإن كانت ممكنة فى ذاتها، فإن «محمدا» لن يفعل ذلك من تلقاء نفسه، فذلك خيانة لله فى الأمانة التي ائتمنه عليها، وعصيان له فيما أمره به فى قوله سبحانه: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» .. وليس وراء العصيان لله، والخيانة لأمانته إلا العتاب الأليم والعذاب العظيم.. كما يقول سبحانه: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ» (44- 47 الحاقة) . وثالثا: أن الرسول، وهو من هو عند ربه، حبّا وقربا، يخاف عذاب الله، ويخشى عقابه إن هو عصاه، وخرج عن أمره، وغيّر وبدل فى كلماته.. فما لهؤلاء المشركين لا يخشون الله، ولا يخافونه، وقد عصوه هذا العصيان الحادّ بالشرك به، وبتكذيب رسوله، والآيات التي أنزلها على رسوله؟ ألا يخافون بأس الله؟ ألا يخشون عقابه؟ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ» (99: الأعراف) . قوله تعالى: «قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ.. أَفَلا تَعْقِلُونَ» . فى هذه الآية تنبيه للمشركين، وإلفات لهم، إلى ما هم فيه من عمّى وضلال. فلو أنهم عقلوا شيئا، لعرفوا أن «محمدا» قد عاش فيهم أربعين سنة غير قارئ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 973 ولا كاتب، ولا متحدث إليهم بأى حديث مما يحدثهم به الآن من كلام الله الذي أوحى به إليه، بعد هذا العمر الطويل، الذي عاش فيه مع نفسه، منقطعا إلى ربه! ولكن هكذا شاء الله لمحمد أن يكون مستقبل وحيه، ومتلّقى كلماته، ومبلّغ آياته.. ولو شاء الله غير هذا لكان، فلم يكن محمدا رسولا، ولا مبلغ رسالة، ولا مسمعا الناس هذا الذي سمعوه منه من آيات الله. فمن نظر فى حال محمد قبل الرسالة وبعدها، ومن طالع وجوه هذه الآيات السماوية التي نزلت عليه، لم يقم عنده أدنى شك فى أن محمدا هو رسول الله، وأن ما يحدّث به عن الله هو من عند الله، ومن كلمات الله.. ذلك مع صرف النظر جانبا عما فى آيات الله نفسها من دلائل الإعجاز، التي تشهد بأنها ليست من قول بشر، وأنها من كلام رب العالمين. قوله تعالى: «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ» . فتراء الكذب على الله، هو اختلاق القول عليه، وتقوّل الأحاديث عنه، بإيرادها ابتداء، أو بالتبديل والتحريف فيها.. فأظلم الظالمين من يجرؤ على ركوب هذا المركب المهلك فيتقول على الله، ويفترى الأحاديث عليه.. وأظلم الظالمين من يرى آيات الله، ويستمع إليها.. ثم يكذب بها، ويصم أذنيه عنها، ويغلق عقله وقلبه دونها.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 974 فهذه وتلك من الجرائم التي تورد مرتكبيها موارد الهلاك والبوار: «إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ» . قوله تعالى: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ.. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» . مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنها تكشف عن افتراء المشركين على الله وتكذيبهم بآياته. الأمر الذي عدّه الله سبحانه وتعالى جريمة عظمى، توعد مجرمها بالخزي والخسران.. فقد عبد هؤلاء المشركون آلهة اتخذوها لهم من دون الله، وقالوا عنها: «هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» وقالوا.. «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» .. وهذا افتراء على الله.. وقد كذبهم الله وفضحهم بقوله: «قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ؟» أي أتتحدثون إلى الله بما لا يعلم الله له هذا الشأن الذي تتحدثون به عنه، لا فى السموات، ولا فى الأرض؟ إنه شىء لا وجود له.. وإذا كان لا وجود له فى علم الله، فهو غير موجود أصلا، ولا يوجد أبدا.. إنها أوهام وضلالات، لا توجد إلا فى عقولكم، وهى محض افتراء واختلاق.. تنزّه الله سبحانه وتعالى عن أن يكون له شريك، أو شفيع من خلقه، فضلا عن أن يكون هذا الشريك أو الشفيع من واردات الوهم والاختلاق!. وفى قوله تعالى: «ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ» إزراء بهؤلاء المشركين، وتسخيف لأحلامهم، إذ أعطوا ولاءهم وعبوديتهم ما لا يملك لهم ضرّا ولا نفعا.. وليس أخسر صفقة ولا أضلّ سعيا، ولا أحمق عقلا، ممن يتعامل مع مالا يدفع عنه ضرّا، ولا يجلب له نفعا، فإن العاقل لا يأخذ وجهة إلى عمل، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 975 ولا يبذل له جهدا، إلا وهو على رجاء من أن يدفع من وراء ذلك شرّا، أو يحصّل خيرا. وإلا فهو عابث لاه، يضيّع عمره ويستهلك جهده، ويهلك نفسه!. وتقديم دفع الضرّ على جلب النفع أمر طبيعى، مركوز فى الفطرة الإنسانية، حيث يعمل الإنسان أولا على تأمين نفسه، وحراستها مما يعرّضها للهلاك، فإذا ضمن الإنسان الإبقاء على وجوده كان له أن يطلب ما يحفظ عليه هذا الوجود.. وهو جلب المنافع.. وفى مقررات الشريعة: «دفع المضارّ مقدم على جلب المصالح» . قوله تعالى: «وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» . مناسبة هذه الآية لما قبلها، وعطفها عليها، أنها تكشف عن جناية هؤلاء المشركين على الإنسانية، وأنهم هم الدّاء الذي تسلط على الإنسانية قديما وحديثا، فأدخل على كيانها هذا الفساد، الذي يتمثل من وجودهم فى الجسد الإنسانى.. فالناس- فى أصلهم- فطرة سليمة، مستعدة للتهدّى إلى الإيمان بالله، والاستقامة على الخير والحق.. كما يقول الرسول الكريم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه وينصرانه ويمجّسانه» . وكما تعرض العلل للجسم السليم كذلك تعرض الآفات والعلل للمجتمع الإنسانى، فيظهر فيه المنحرفون الذي يخرجون عن سواء الفطرة، وسرعان ما يسرى هذا الدواء، وتنتشر عدواه فى المجتمع.. ومن هنا يكون الناس على أشكال مختلفة، وأنماطا شتّى.. كل يركب طريقا، ويأخذ اتجاها.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 976 ومن هنا أيضا يختلف الناس، وتختلف بهم الموارد والمشارب.. وإذا كلّ جماعة على مورد، وكل أمة على مشرب.. «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ.. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ.. وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ» (118- 119: هود) . وقد كان جديرا بهؤلاء الضالين أن ينظروا إلى أنفسهم، وإلى موقفهم المنحرف الذي خرجوا به على الفطرة الإنسانية، فركبوا طريق الكفر والضلال، وكان من شأنهم أن يكونوا مع الناس أمة واحدة مؤمنة بالله.. وفى قوله تعالى: «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» إشارة إلى ما سبق أن قضى به الله سبحانه وتعالى من إمهال الظالمين، والعاصين، وأهل الكفر والضلال، وإنظارهم إلى يوم البعث، والجزاء- وأنه لولا ذلك القضاء الذي قضى به الله سبحانه وتعالى، لأخذ على يد كل ضالّ ومنحرف، فى هذه الحياة الدنيا، ولأوقع الجزاء عاجلا منجزا، فلا يبقى فى الناس ضال أو مفسد.. فالمراد بالكلمة التي سبقت من الله سبحانه، هى حكمه وقضاؤه، بأن يؤخّر الناس ليوم الدّين، وأن يوفّى الناس جزاء أعمالهم، فيكون منهم أهل النار، كما يقول سبحانه: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» (119: هود) . الآيات: (20- 23) [سورة يونس (10) : الآيات 20 الى 23] وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 977 التفسير: قوله تعالى: «وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ» هو عطف على الآية قبل السابقة، وهى قوله تعالى: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ» (آية: 18) .. أما الآية (19) وهى قوله تعالى: «وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا» فهى معترضة بين الآيتين، لتكشف عن واقع هؤلاء المشركين، ولتبيّن لهم أنهم أخذوا طريقا منحرفا عن الطريق العام الذي كان من شأنهم أن يستقيموا عليه، لأنه فى الأصل، هو طريق الإنسانية كلّها.. ومن ضلالات هؤلاء المشركين أنهم يعمون عن آيات الله، ويعشون فى ضوء صبحها المشرق الوضيء، فلا يرون فيها مقنعا لهم بأنها من عند الله، وأن الرسول الذي يتلوها عليهم هو رسول الله.. فيقولون للرسول- صلوات الله وسلامه عليه: «ائت بقرآن غير هذا أو بدله..» ! وإذ يؤبسهم الرسول من إجابة مقترحهم هذا بقوله الذي أمره الله سبحانه أن يلقاهم به: «قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» - تجرى الأحاديث فيما بينهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 978 فى تساؤل جهول عقيم: «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ» ؟ .. وهم يريدون بتلك الآية آية حسيّة كتلك الآيات التي جاء بها موسى وعيسى عليهما السلام.. كما ذكر القرآن ذلك عنهم فى قوله تعالى: «فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ» (25: الأنبياء) .. ولو أنهم عقلوا لعرفوا أن الله سبحانه قد رفع قدرهم، وأعلى فى الناس منزلتهم، إذ جاءهم بمعجزة تخاطب عقولهم، وتتعامل مع مدركاتهم، ولم يأتهم بمعجزة تجبه حواسّهم، وتستولى على عقولهم، وتشلّ حركة تفكيرهم.. إن الله سبحانه قد ندبهم للتعامل مع هذه المعجزة العقلية، يدركون إعجازها ببصائرهم لا بأبصارهم، ويتناولون قطافها بمدركانهم لا بأيديهم، ولكنهم أبوا إلا أن يكونوا أطفالا لا رجالا.. وقد أنكر الله عليهم هذا الموقف، الذي وقفوه من القرآن الكريم، ورأوا أنّه غير مقنع لهم، كدليل سماوى.. فقال سبحانه وتعالى: «وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» (50- 51: العنكبوت) . والقوم لم يكونوا على غير علم بما فى آيات القرآن الكريم، وما فيها من إعجاز متحدّ لقدرة الإنس والجن.. فهم أقدر النّاس على نقد الكلام، والتعرّف تعرفا دقيقا على الفرق بين حرّ جواهره وزيفها، وجيّدها ورديئها.. ولقد بهرهم القرآن الكريم، فأخذوا به، وسجدوا- على كفرهم- لجلاله، وسطوته، وقالوا فيه: «إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ» .. ولكنهم كانوا على عناد وكبر واستعلاء.. يأبون أن ينقادوا لبشر منهم، وأن يعطوا ولاءهم له..! كما يقول الله تعالى على لسانهم. «أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ» (24- 25: القمر) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 979 فهذه المقترحات التي يقترحونها على النبىّ إن هى إلا تعلّات يتعلّلون بها لأنفسهم، ويرضّونها بهذه العلل، حتى لا تنزع بهم إلى الاستسلام لهذه القوة القاهرة التي تطلّ عليهم من عل، فى كلمات الله، وآيات الله.. وقد كشف الله سبحانه وتعالى عن هذا الشعور المتسلط عليهم، والذي يسوقهم إلى ركوب هذه الشاقّة، والتعلل بهذه العلل، فقال تعالى: «وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ» (14- 15: الحجر) . وفى قوله تعالى: «فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ» ردّ، وجبه لهؤلاء المشركين فيما يقترحونه على النبىّ من آيات ماديّة محسوسة، كأن يطلعهم على ما يأكلون، وما يدّخرون، وما يقدّرون لهم فى تجاراتهم وأعمالهم، من ربح أو خسارة، ونحو هذا.. فذلك ليس لبشر أن يعلمه، وإنما هو مما استأثر لله سبحانه وتعالى بعلمه.. لا يشاركه فيه أحد من خلقه.. وقد أمر الله سبحانه النبىّ أن يعلن فى الناس أنه لا يعلم من الغيب شيئا، فقال كما أمره الله سبحانه أن يقول: «وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» (188: الأعراف) . وفى قوله تعالى: «فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ» تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين، الذين أمسكوا بأنفسهم، على هذا المرعى الوبيل من الضلال والشرك، عنادا، وجماحا.. فلينتظروا، والنبىّ منتظر معهم، وسيرون وسيرى من تسكون له عاقبة الدار.. «قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» (135: الأنعام) . قوله تعالى: «وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 980 الذّوق، والتذوّق: الإحساس بطعم الشيء ومداقه، حلوا، كان أو مرّا.. والرحمة: النعمة، والخير.. والضرّاء: الضّرّ، والسوء، والشرّ.. والمسّ: لمس الشيء لمسا رقيقا.. والآية الكريمة تحدّث عن كفر «النّاس» بنعم الله، وجحودهم لأفضاله.. وأنهم إذا مسّهم الضرّ جزعوا، واستكانوا، وضعفوا.. وإن أصابهم الخير، وجرى عليهم النعيم.. طغوا، وبغوا ولبسوا جلود الأفاعى والنمور. وفى الآية تعريض بالمشركين، وبمكرهم بآيات الله التي جاءهم بها رسول الله، هدى ورحمة، ليستنقذهم بها من ضلالهم، وليخرجهم بها من عمى الجاهلية، وسفهها، وليضفى عليهم الأمن والسلام بعد أن مزّقتهم الحروب، وعصفت بهم ريح البغي والعدوان.. وفى هذا يقول الله تعالى مذكّرا إياهم بما ساق إليهم من رحماته ونعمه، بهذه الرسالة الكريمة المباركة، وبهذا الرسول الكريم المبارك.. يقول تبارك وتعالى: «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها» (103: آل عمران) . - وفى قوله تعالى: «إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا» إشارة إلى موقف المشركين من آيات الله، والمكر بها، والتعلل بالعلل الصبيانية علمها.. - وفى قوله تعالى: «قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ» نذير شديد للمشركين، وأنهم إذا مكروا بآيات الله، فلن يفلتوا من عقاب الله.. إنهم يعلنون على الله حربا هم فيها المخذولون الخاسرون.. إنهم يبيّتون الشر، ويدبرون له، والله سبحانه بعلمه وقدرته مطلع على ما يبيّتون، مفسد ما يدبرون. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 981 قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» . فى هاتين الآيتين، مظهر من مظاهر مكر الماكرين بآيات الله، وكفرهم بنعمه السابغة عليهم.. فما أكثر ما يركب الناس البحر فى ريح رخاء، تصحبهم فيه السكينة والبهجة، ثم على حين غرّة يموج بهم البحر ويضطرب، وتزمجر حولهم العواصف، وتصرخ بهم الريح فى جنون مخيف.. وإذا الهلع والفزع، وإذا الكرب الكارب، والهذيان المحموم، يشتمل على من فى جوف السفين، الذي يبدو وكأنه دودة على ظهر هذا الكون العظيم!. ولا ملجأ من هذا الموت الفاغر فاه، ولا عاصم من هذا الهلاك المطلّ من كل مكان، إلا اللّجأ إلى الله، والاستصراخ له، والاستنجاد به.. فتتعالى صيحات الصائحين، واستغاثات المستغيثين، وضراعات المتضرعين.. فى غير اقتصاد أو انقطاع.. وتجىء رحمة الله فى إبّانها.. فتهدأ العاصفة، ويخفت صوت الريح.. وإذا البحر قد عاد ساكنا هادئا، وإذا السفين على ظهر حنون ودود، يهدهده كما تهدهد الأم رضيعها، حتى يبلغ السفين بأصحابه شاطىء الأمن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 982 والسّلامة، ويأخذ كل واحد من الركب وجهته، ثم لا يعود يذكر لله شيئا ممّا صنع به.. وإذا هو فى ضلاله القديم.. مشرك بالله، كافر بنعمائه! - وفى قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» إشارة إلى تلك النّعم التي سخّرها الله للناس، فى انتقالهم من بلد إلى بلد، ومن قطر إلى قطر، على مراكب البر والبحر.. فى اختلاف أشكالها وأنواعها. - وفى قوله تعالى: «حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ» عرض لحالة من أحوال السفر التي تعرض أحيانا لراكب البحر.. وقد ذكرها القرآن الكريم هنا، ليكشف بها عن حال من أحوال الذين يكفرون بآيات الله، ويجحدون ما يسوق إليهم من نعم.. وقد جاء النظم القرآنى فى قوله تعالى: «وَجَرَيْنَ بِهِمْ» بنون النسوة التي هى للعقلاء، مستعملا إياها للفلك، وهى غير عاقلة، وكان المتوقع أن يجىء التعبير هكذا: «وجرت بهم» .. وفى هذا ما يشير إلى أن الفلك، وهى تجرى فى ريح طيبة، وعلى ظهر بحر ساكن ساج، قد كان لها سلطان على هذا البحر، تغدو وتروح عليه كيف تشاء، وتتصرف كما تريد.. حتى لكأنها ذات عقل مدبّر، وإرادة نافذة. وفى النظم القرآنى أيضا: «وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ» ولم يجىء النظم هكذا: «وجرين بهم فى ريح طيبة» .. وذلك ليدل على أن الريح هى التي تحرك الفلك وتدفعها، فالباء هنا باء الاستعانة، التي تدخل على الأداة التي يستعان بها على العمل، كما يقال: كتبت بالقلم، وانتقلت بالقطار.. وهذا ما لا يفيده حرف الجرّ «فى» .. الذي يجعل الريح ظرفا يحتوى السفينة من جميع جهاتها، ولا يدفع بها إلى جهة ما.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 983 - وفى قوله تعالى: «حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ» .. اختلف النظم، فى قوله سبحانه: «وَجَرَيْنَ بِهِمْ» فجاء على غير ما يقتضيه السياق.. وجىء بضمير الغائب، بدلا من ضمير الحضور.. هكذا: «وجرين بكم» .. فما سرّ هذا؟ تتحدث الآية الكريمة عن نعمة عامة شاملة من نعم الله، وهى تسيير الفلك فى البحر، كما يقول تعالى: «وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ» (65: الحج) وكما يقول جل شأنه: «وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ» (12- 13: الزخرف) . وهذه النعمة، لا يكفر بها الناس جميعا، وإنما يجحدها ويكفر بها من لا يؤمن بالله.. وهم الذين ذكرهم القرآن الكريم بضمير الغائب، بعد أن جاء التّذكير بالنعمة موجّها إلى الناس جميعا- ومنهم هؤلاء الكافرون- فى مواجهة وحضور.. وبهذا عزل الكافرون عن المجتمع الإنسانى، وأبعدوا من مقام الحضور، وحسبوا غائبين، لا وجود لهم. - وفى قوله تعالى: «إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ» . أولا: «إذا» الفجائية هنا، تنبىء عن أن هؤلاء الكافرين، لم يمسكوا بتلك المشاعر المتجهة إلى الله، والضارعة إليه، حين مسّهم الضر فى البحر، إلا ريثما تلقى بهم الفلك إلى البرّ، حتى إذا مسّت أقدامهم اليابسة انفصلوا عن تلك المشاعر، وتخفّفوا منها، ورجعوا مسرعين إلى ما كانوا فيه من كفر وضلال وعناد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 984 وثانيا: وصف البغي بأنه بغى بغير الحق، مع أن البغي لا يكون إلا عدوانا على الحق، وخروجا عليه.. فكيف يلحقه هذا الوصف، الذي يفهم منه أن هناك بغيا بحق، وبغيا بغير حق؟ ذكرنا جوابا عن مثل هذا، عند تفسير قوله تعالى: «وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ» (181: آل عمران) . والجواب هنا، هو أن وصف بغيهم بأنه بغى بغير الحق، فيه تغليظ لهذا البغي، وإلقاء مزيد من القبح على وجهه القبيح.. فالبغى فى ذاته جريمة منكرة شنعاء.. ولكنّه من أهل البغي، شىء لا يكاد ينكر عليهم، ولا يستغرب منهم. وإذن فهو محتاج إلى أن يكون أكثر من بغى حتى ينكر عليهم، ويذمّ منهم.. فهذا البغي منهم هنا.. هو بغى على وصف خاصّ.. بغى بغير حقّ حتى عند أهل البغي أنفسهم، وهذا يعنى أنه بغى شنيع غليظ، بين صور البغي كلها. وفى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» نداء للناس جميعا، وإعلان لهم كلهم- برّهم وفاجرهم- بأن البغي والعدوان، والخروج على حدود الله، هو بغى وعدوان واقع عليهم، وآخذ بنواصيهم.. كما يقول سبحانه وتعالى: «مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ» (44: الروم) وفى قوله تعالى: «مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا» .. قرئ «متاع» بالنصب والرفع.. وعلى النصب- وهى القراءة المشهورة- يكون مفعولا مطلقا لفعل محذوف، تقديره، تتمتعون متاع الحياة الدنيا، وتكون الجملة حالا من ضمير المخاطبين فى قوله تعالى: «إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» .. وعلى قراءة الرفع يكون خبرا لقوله تعالى: «بَغْيُكُمْ» و «عَلى أَنْفُسِكُمْ» متعلق بالمبتدأ.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 985 - وفى قوله تعالى: «ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. تهديد ووعيد لهؤلاء الباغين، وما يلقون من عذاب أليم، يوم يرجعون إلى الله، ويوفّون جزاء ما كانوا يعملون من منكرات. الآيات: (24- 30) [سورة يونس (10) : الآيات 24 الى 30] إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 986 «الإنسان.. وما ينزل من السماء» التفسير: قوله تعالى: «إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ..» مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنها تكشف عن وجه هذه الحياة الدنيا، التي ذكرت الآية السابقة تعلق الناس بمتاعها، وركوبهم مراكب البغي والطغيان فى سبيل المتاع بها. وقد صورت الآية الكريمة هنا الحياة الدنيا فى ألوانها، وزخارفها، التي تغرى الناس بها، وتفتنهم فيها- بما نزل من السماء، فخالط نبات الأرض، فأخرج حبّا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبّا، ولبست الأرض من ذلك كله حلة زاهية مختلفة الأصباغ والألوان، وبدت كأنها العروس فى ليل عرسها.. ثم إذا إعصار مجنون ملتهب، يمس هذه الجنّات المعجبة، وتلك الزروع المونقة، ويضربها بجناحيه، فإذا هى حصيد تذروه الرياح، وبباب قفر يضلّ به القطا. - وفى قوله تعالى: «وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها» إشارة إلى تمكن أصحابها من جنى ثمارها، وتناول قطوفها.. إذ أصبحت ناضجة الثمار، دانية القطوف، آمنة من تعرضها للآفات التي تفسد الزهر، وتغتال الثمر.. فإذا اجتاحتها آفة وهى على تلك الحال من الجمال والنضارة، كان ذلك أوجع وأفجع لأهلها.. كما يقول الشاعر: إن الفجيعة فى الرياض نواضرا ... لأجلّ منها فى الرياض ذوابلا - وفى قوله تعالى: «أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ» .. «الحصيد» ما حصد من الزروع بعد نضجه.. و «تغن» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 987 بمعنى تكون، أو توجد، على حال من الاستقرار والثبات.. يقال غنى بالمكان، أي أقام فيه واستقرّ. وفى إسناد الاستقرار إلى الأرض، مع أن الاستقرار إنما هو لأهلها، إشارة إلى أنها بما لبسها من حياة، وما نبض فى عروقها وشرايينها من دماء هذه الحياة، وما تزينت به من حلل وحلى. قد أصبحت كائنا حيّا، مستغنيا بما اجتمع له من هذا المتاع والزخرف.. وفى تشبيه الحياة الدنيا، وما يلبس الناس فيها من ألوان الحياة والسلطان، وما يقع لأيديهم منها من مال ومتاع- فى تشبيه هذه الحياة بالماء الذي ينزل من السماء، فيختلط بنبات الأرض، ويلبس هذه المظاهر التي يشكلها من هذا النبات، ويصيرها جنّات وزروعا، وزهرا، وفاكهة وحبّا.. - فى هذا التشبيه إعجاز من إعجاز القرآن، وآية من الآيات الدالة على علوّ متنزّله.. فالإنسان عنصر من عناصر هذه الحياة، ومادة من موادها.. إنه ماء من هذا الماء.. هكذا هو فى أصله ومادة تكوينه.. يقول تبارك وتعالى: «أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ» (20: المرسلات) . ويقول سبحانه: «خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً» (54: الفرقان) .. ويقول جل شأنه: «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ» (5- 6: الطارق) . هذا الإنسان الذي هو ابن الماء.. يخالط الحياة، ويتحرك فى أحشاء الوجود، وسرعان ما يصبح هذا الكائن، أو هذا الكون الذي يمشى على الأرض، وكأنه جنة قد أخذت زخرفها وازينت.. بملأ الأرض تيها وعجبا، ويمشى عليها مختالا فخورا، يكاد يخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولا.. وهذا الماء الذي ينزل من السماء، ويختلط به نبات الأرض، وقد عرفت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 988 شأنه، وما يصنع من هذا النبات.. أليس هو هو الإنسان ابن الماء والطين؟ ثم أليس هذا الإنسان الذي هو محصول هذا الماء، ومنبت ذلك الطين، يصير حصيدا هشيما، كما يصير النبات ابن الماء والطين حصيدا هشيما؟ إن التطابق بين الصورتين على هذا التصوير المعجز، هو آية من آيات الله.. ليس فى مقدور بشر أن يمسك بخيط من خيوط نسجه المحكم الرائع! وهل هذا كل ما هنالك من هذا الإعجاز فى هذه الصورة؟ ومعاذ الله أن ينفد إعجاز كلامه، أو ينقطع جنى ثمره، على مدى الأزمان، وعلى كثرة الواردين والطاعمين. انظر فى قوله تعالى: «فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ» .. وأكاد أدعك لتكشف عن سرّ هذا النظم، الذي جعل اختلاط نبات الأرض بالماء، ولم يجعل اختلاط الماء بالنبات.. هكذا: «فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ» ، على ما يقتضيه مفهوم النظر الإنسانىّ لهذه الظاهرة.. فالماء هو الذي يختلط بنبات الأرض، ويسرى فى كيانه، فيبعث فيه الحياة، ويخرجه من عالم الموات.. هكذا نرى، وهكذا نقدّر! ولكنّ عين المقدرة ترى مالا نرى، وتعلم مالا نعلم! فإن كنت تنكر هذه القدرة، أو تشك فى هذا العلم، فهات قدرتك، واستحضر علمك، وقل لى ماذا ترى هناك؟ وماذا تعلم مما بين الماء والنبات؟ .. أيهما المختلط وأيهما المختلط به؟ وأيهما الفاعل وأيهما المفعول به؟ ودع عنك ما أنت فيه من نظر، وعلم.. وانظر فى كلمات الله تلك، وخذ العلم الحق منها. ولن أدعك كما قلت لك.. بل سأنظر معك، وأتلقى العلم فى صحبتك! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 989 الماء، والنبات.. حين يلتقيان.. ماذا يحدث عند التقائهما؟ وماذا يكون من هذا اللقاء؟ وليكن فى تقديرك- قبل الإجابة على هذا التساؤل- أن المراد بالنبات هنا، هو نبات الأرض، أي بذرة النبات التي تغرس فى الأرض، لا النبات حين يكون نباتا.. فإنه فى تلك الحال، لا يكون مجرد نبات، بل هو الماء والنبات معا.. وأن لقاء قد كان بين الماء وبذرة النبات حتى أصبح نباتا، وإلا فهو بذرة، أو حبة، وليس نباتا وإذا تقرر هذا.. فلنجب على هذا السؤال: ماذا يحدث من التقاء الماء بالبذرة أو الحبة؟ البذرة أو الحبة التي تقلّبها بين يديك، ليست شيئا ميّتا- كما يبدو لنا- بل هى كائن حىّ، يحتفظ فى كيانه بكل عناصر الحياة، التي تنتظر من يثيرها، ويدفع بها إلى الظهور.. وذلك لا يكون إلا بأمرين: (أولا) : غرسها فى الأرض.. (وثانيا) وصول الماء إليها، وتحول تراب الأرض إلى طين بهذا الماء.. هنا تبدأ الحياة الكامنة فى البذرة، أو الحبّة تتحرك، وتأخذ طريقها إلى الماء المختلط بالتراب، أعنى الطين، فتجذبه إليها، وتفتح له الطريق إلى الحياة الكامنة فيها، وتأخذ منه ما يروى ظمأها إلى الحياة، وإلى الإعلان عن وجودها، وإظهار آيات الخالق التي ائتمنها عليها.. فالبذرة أو النبتة إذن هى الطالبة للحياة، والمهيأة لها، والمتشوقة إليها.. وما الماء، وما التراب، وما الطين إلا عناصر مساعدة. فالحبة إذن هى الداعية لتلك العناصر، الطالبة للاختلاط بها.. ومن هنا جاء النظم القرآنى.. «إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا.. كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ.. فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ» !! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 990 أرأيت إذن سر هذا النظم، الذي أسند الاختلاط بالماء إلى البذرة أو الحبة.. والذي لو جاء على عكس هذا، فأسند الاختلاط بالحبة إلى الماء، لكان خطأ علميا، يناقض ما كشف عنه علم الأحياء اليوم.. وهذا الذي حدثنك عنه لا يمثل إلا وجها واحدا من الصورة، هو وجه الماء والنبات.. أما الوجه الآخر، وهو الإنسان المقابل لهذا الوجه.. فهذا ما نقص عليك من أمره: هذا الإنسان وإن كان نبتة من نبات الأرض، فإنه هو الماء الذي يبعث الحياة فى موجوداتها، ويكشف عن القوى الكامنة.. فهو- بهذا- قائم على ذلك الوصف الذي أنبأ عنه التشبيه فى قوله تعالى: «إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ» .. ويكون من هذا أن الحياة الدنيا هى هذا «الإنسان» .. وأنه لولا هذا الإنسان لما كانت تلك الحياة الدنيا، وما تنبض به عروقها من حياة دافقة، فى كل وجه من وجوهها..! فالإنسان هو الحياة الدنيا.. وهو الماء الذي يثير الحياة، بل ويخلق الحياة فى كل ما على هذه الدنيا.. كما يبعث الماء الحياة فى الأحياء، بل وكما تتخلق منه الحياة، كما يقول الله تعالى: «وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» (30: الأنبياء) . وانظر مرة أخرى فى قوله تعالى: «إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ» .. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 991 وضع «الإنسان» أو «الناس» مكان الحياة الدنيا تجد: أولا: الإنسان- الذي هو من الماء- والوجود الذي أقامه هذا الإنسان من عالم الموات فكان تلك الحياة الدنيا- كالماء المنزل من السماء، وما أثار فى الأرض من انطلاق الحياة الكامنة فيها.. وثانيا: الإنسان ودنياه التي صنعها بيده، ونسج خيوطها بعقله ويده- هو زرع، يبزغ، ويخضر، ويمتد، ويزهر، ويثمر، ثم يكون حصيدا هشيما، كهذا النبات الذي يملأ وجه الأرض حياة وجمالا، ثم يصير هشيما تذروه الرياح..! وثالثا: هذا الإنسان الذي هو ابن ماء السماء.. فيه نفخة من الله ونفحة من روحه.. قد جاء إلى هذه الأرض من عل، فغيّر معالمها، وزين وجوهها.. تماما كما ينزل ماء الغيث من السماء إلى الأرض فتهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج.. ورابعا: الإنسان- ابن ماء السماء هذا- وإن كان علوىّ المتنزل، فإن منبته من الأرض، جاء منها، وارتفع فوق سمائها، ثم استوى عليها.. تماما كماء الغيث.. كان على الأرض، ثم كان سماء فوقها، ثم عاد إليها واختلط بها.. هذا، ولك أن تذهب إلى ما لا ينتهى، فى عد ما يؤديه إليك النظر، من مطالعة وجه الآية الكريمة، على امتداد هذه النظرة.. ثم لك أيضا بعد هذا أن تدير نظرك إلى أكثر من اتجاه غير هذا الاتجاه.. وستجد معطيات كثيرة لا تنتهى..! قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 992 مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآية السابقة تحدثت عن الحياة الدنيا، وكشفت عن أنها دار فناء، لا بقاء لشىء فيها، وإن زها وازدهر.. لا تبيت أحدا على جناح أمن أبدا، وإن أمكنته من كل أسباب السلطان والقوة والعزة.. فهو على طريق ينتهى به دائما إلى نهاية، هى الموت..!! هذه هى الدار التي كشفت عنها الآية السابقة، وهى دار متاعها غرور، وظلها زائل.. لا يغتربها، ولا يثق فيها إلا من استجاب لداعى هواه، ووساوس شيطانه.. أما الدار التي تشير إليها هذه الآية: «وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ..» فهى الدار الآخرة، وهى دار أمن وسلام، وخلود، يدعو إليها الله سبحانه وتعالى عباده، ويبعث فيهم رسله ليدلوهم عليها، وليكشفوا لهم معالم الطريق إليها.. فمن استجاب لدعوة الله، وصدّق برسله، واستقام على دعوتهم، كان من أهل هذه الدار، ومن أهل السلامة والأمن والنجاة، والفوز بنعيم الجنات، وبرضوان الله..! وفى قوله تعالى: «وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» إشارة إلى أنه ليس كل مدعوّ إلى هذه الدار بمستجيب للدعوة، إلا من وفقه الله، وشرح صدره لقبول هذه الدعوة، والاستجابة لها.. فالدعوة عامة.. موجهة من الله تعالى، إلى عباد الله جميعا.. ولكن من كان ممن رضى الله عنهم، وأحب أن يكون ضيفا على مائدة فضله وكرمه- جعلنا لله منهم- هشّ للدعوة وسعى حثيثا إلى جنات ربه، وأما من غلبت عليهم شقوتهم، واستبدت بهم شياطينهم- وعافانا الله من هذا البلاء- فإنهم فى صمم عن دعوة لله، لا يسمعونها ولا يستجيبون لها إذا سمعوها.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 993 قوله تعالى: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» . الرّهق: علوّ الشيء للشىء، وغلبته له، وتمكنه منه، بعد أن ينهكه ويرهقه.. كالمتسابقين فى الجري مثلا.. يرهق أحدهما الآخر، ويسبقه، بعد أن يجهده ويكدّه! والقتر: الغبار.. وهو هنا كناية عن الشدّة التي تصيب الإنسان، فتظهر آثارها على وجهه، فينطفئ بريقه، ويجفّ ماء الحياة منه.. وتعرض الآية الكريمة، صورة كريمة مشرقة لمن دعوا إلى دار السّلام، وأجابوا دعوة الله، وآمنوا به وبرسله، فكانوا من المحسنين، وكان جزاؤهم إحسانا بإحسان، وزيادة مضاعفة على هذا الإحسان.. وفى التعبير بالحسنى عن الإحسان: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى» .. إشارة إلى العاقبة، وأنها العاقبة الحسنى.. فهى تدلّ على الإحسان، وعلى زمن الإحسان معا، وأنها فى الدار الآخرة، التي هى دار الجزاء الحق.. كما يقول سبحانه وتعالى: «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» (83: القصص) . وكما يقول سبحانه: «أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ» (22- 23: الرعد) . - وفى قوله تعالى: «وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ» تعريض بالكافرين الذين سينزل بهم هذا البلاء يوم القيامة، فيركب وجوههم الفتر، وتعلوها الذلة والهوان. وعدم وقوع هذا بالمؤمنين المحسنين ليس جزاء لهم، وإنما هو لازم من لوازم الجزاء الحسن الذي جوزوا به، فحيث كان جزاؤهم الحسنى وزيادة، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 994 وكانت دارهم النعيم والرضوان، فإن القتر لا يطوف بهم، وإن الذّلة أبعد ما تكون عنهم.. فذكر هذا فى جانب المحسنين، هو تعريض بالكافرين، الذين سيرهق وجوههم القتر وتركبهم الذلة.. ثم هو- مع هذا- تذكير للمحسنين بالنعيم الذي هم فيه، والرضوان المحفوفين به، وأنهم فى عافية مما يحلّ بالكافرين من عذاب ونكال. قوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» . ذلك هو حساب الكافرين والمشركين وأصحاب الضلالات فى الآخرة، وذلك هو نزلهم يوم الدين.. وتلك هى دارهم يوم القيامة! - «جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها» .. كيلا بكيل، ومثقالا بمثقال.. - «وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ.. ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ» .. أي أنهم ينزلون منازل الهوان، والبلاء.. ثم هم مع هذا فى يأس قاتل، من أن تمتدّ إليهم يد تخفف عنهم ما هم فيه من عذاب ونكال.. «ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ» يعصمهم من هذا البلاء، ويحول بينهم وبينه. - «كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً» .. قد كسفت وجوههم، وعلتها غبرة، ترهقها قترة، حتى لكأنما غمست هذه الوجوه فى قطعة من الليل- فى ليلة حالكة السواد، لا يطلع فيها قمر، ولا يلمع فيها نجم، فكانت- لما علاها من غبرة- كأنما قدّت من هذا الليل البهيم. قوله تعالى: «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 995 أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ» . فى هاتين الآيتين عرض لبعض مشاهد يوم القيامة.. يوم يحشر الناس إلى ربّهم للحساب والجزاء. وفى هذا المشهد، ينادى منادى الحقّ على المشركين: «مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ» .. أي الزموا مكانكم أنتم وشركاؤكم، لا تتحركوا حتى تحاسبوا على ما ارتكبتم من آثام.. وفى هذه الدعوة الزاجرة الصادعة ما يكشف عن وجه هؤلاء القوم، وأنهم مجرمون، قد ضبطوا متلبسين بجرمهم.. وهذه يد القصاص تمسك بهم، وتقيّدهم حيث هم، إلى أن يلقوا الجزاء الذي هم أهل له.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ» (22- 24: الصافّات) . وفى موقف المساءلة والحساب، فرّق بين الفريقين: العابدين والمعبودين.. فأخذ كل فريق جانبا مواجها للآخر.. «فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ» أي فرقنا بينهم، وأصله من الزوال، وهو ذهاب الشيء واختفاؤه، ومنه وقت الزوال، وهو توسط الشمس فى كبد السماء، حيث يختفى ظل الأشياء فى هذا الوقت.. وقد جاء اللفظ القرآنى «زيّلنا» بدلا من اللفظ «فرقنا» .. لأن مع التفريق بقية أمل فى الاجتماع، أما التزييل، فهو غروب إلى الأبد، واختفاء لا ظهور بعده.. وفى هذا ما يزيد فى وحشة المشركين، الذين كانوا يستندون إلى من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 996 عبدوهم وأشركوا بهم، وكانوا يتأسّون بمشاركتهم فيما سيقع لهم، ففى هذه المشاركة عزاء لهم أي عزاء.. كما تقول الخنساء: ولولا كثرة الباكين حولى ... على إخوانهم لقتلت نفسى وقبل أن يزايل المعبودون موقف المشركين، ينكرون ما كان بينهم من صلات عقدها المشركون معهم، على غير علم منهم.. قائلين لهم: «ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ» .. ثم يشهدون الله سبحانه وتعالى على ذلك: «فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ» أي إننا لا ندرى من أمركم شيئا.. و «إن» هنا هى «إنّ» المؤكدة، خفّفت.. أي إننا كنا عن عبادتكم لغافلين. وإنكار العبودية على المشركين أنّهم عبدوهم، مع أن الله سبحانه وتعالى أعلمهم بهذا، إذ جمعهم بعابديهم- هذا الإنكار يراد به أن هذه العبادة لم تكن عن علم من المعبودين، أو عن دعوة منهم لعابديهم.. فهو تقرير لواقع الأمر، حين وقعت هذه العبادة، وذلك أنهم إنما كانوا يعبدون أصناما جامدة، وأحجارا صمّاء، لا تدرى من أمر عابديها شيئا.. أو بشرا اتخذوهم آلهة لهم بعد موتهم، كما قالت اليهود عن عزيز، وكما قالت النصارى عن المسيح.. وهذا ما يشير إليه قولهم بعد هذا «فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ» . قوله تعالى: «هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» «تبلو» : من الابتلاء، وهو الاختيار للشىء، والتعرف على حقيقته.. و «أسلفت» أي ما سلف لها من عمل، وما كان لها من سعى.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 997 والمعنى: أنه فى هذا الموقف، موقف الحساب والجزاء يوم القيامة، تعرف كلّ نفس ما قدمت من عمل فى دنياها لآخرتها.. فهناك يرى الناس أعمالهم على حقيقتها، حيث يكشف الغطاء عن وجوهها، فيعرف الحق من الباطل، والخير من الشرّ، والهدى من الضلال.. «يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ» (6: الزلزلة) - وفى قوله تعالى: «وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» إشارة إلى ما كان يتعامل به المشركون والكافرون من ضلالات ومنكرات، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا: «أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ.. فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» (105: الكهف) الآيات: (31- 36) [سورة يونس (10) : الآيات 31 الى 36] قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 998 السمع والبصر.. ومكانهما فى الإنسان التفسير: عرضت الآيات السابقة بعض مشاهد القيامة، ليرى الناس منها صورة مصغرة لما يقع فيها، من مساءلة، وحساب، وجزاء، وليكون لهم منها عبرة وعظة.. وهنا فى هذه الآيات.. يعاد الناس إلى حيث هم فى هذه الحياة الدنيا، وقد صحبتهم من مشاهد القيامة مشاعر، من شأنها أن تفتح عقولهم وقلوبهم لآيات الله التي تتلى عليهم، والتي تحدّثهم عن قدرة الله، وتكشف لهم آياته فيهم، وآثار أفضاله ونعمه عليهم.. وقوله تعالى: «قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ» . هو عرض لبعض آيات الله، وما تحمل من دلائل قدرته، ورحمته.. فهذه أسئلة، كان ينبغى أن يوردها الإنسان على نفسه، وأن يتلقّى الجواب عليها من النظر فى نفسه، وفيما يطوله إدراكه، من النظر فى ملكوت السموات والأرض. وإذ كان الناس فى غفلة عن أن يقفوا هذه الوقفة مع أنفسهم، وأن يصلوا إلى الحقيقة بمجهودهم الشخصي.. فقد كان من رحمة الله بهم أن بعث فيهم رسله، يحملون إليهم كلماته، ويحدّثونهم بما كان ينبغى أن يحدّثوا هم أنفسهم به. - «مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ» ؟ - «أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ» ؟ - «وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ» ؟ - «وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ» ؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 999 ما جواب هذه الأسئلة؟ جواب واحد، لا غير.. هو الله رب العالمين..! وهنا أمور نحبّ أن نقف عندها: فأولا: إسناد ملكية السمع والأبصار لله.. لم أسندت إليه سبحانه وتعالى ملكية هاتين الحاستين وحدهما.. مع أنه- سبحانه- يملك كلّ شىء؟ ولم كانت إضافتهما إلى الله بالملك، ولم تكن بالخلق، كما هو أظهر.. فقد يملك الشيء من لا يوجده ويخلقه؟ والجواب: أن السمع والبصر هما أظهر حاستين عاملتين فى الإنسان، لا يكون الإنسان إنسانا إلا بهما، فإذا فقدهما، كان كومة متحركة من لحم، لا تعقل ولا تعى شيئا! فعن طريق السمع والبصر، جاءت المعرفة إلى الإنسان، وتكونت مداركه، وأخيلته، وتصوراته.. وعن طريق السمع والبصر، تتحول هذه المعرفة إلى قوى دافعة، تحرّك الإنسان، وتوجهه إلى غاياته فى الحياة.. وأما عن التعبير بملكية السمع والأبصار، لا بخلقهما، فلأن الملكية تطلق يد المالك فى التصرف فيما ملك.. ولا ينفى هذا أن يكون المالك هو الخالق، فهو يخلق ويملك ما يخلق.. وقد يخلق ويهب ما يخلق، أو يملّك ما يخلق، فيكون للمالك وحده- حينئذ- التصرف فيما ملكه! فالتعبير بملكية السمع والأبصار، يعنى أن الله سبحانه وتعالى- وإن فضل بهما على الإنسان، فهما لم يخرجا عن سلطانه، وأنهما- وهما يعملان فى الإنسان- يعملان بقدرة الخالق، وبتصريفه لهما.. وأنه- سبحانه- هو الذي يمدّهما بالقوى التي يعملان بها، ولولا هذا لبطل عملهما.. فهو- سبحانه- الذي أعطى السمع والأبصار، ما لهما من قوى عاملة، وهو القادر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1000 على أن يأخذ هذه القوى، ويبطل عمل السمع والبصر، كما يقول سبحانه: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ» (46: الأنعام) . وثانيا: إفراد السّمع وجمع الأبصار.. ما دلالة هذا؟ وما السرّ الذي ينطوى عليه؟ والمتتبع لآيات الله، التي تتحدث عن السمع والبصر، يجد أن القرآن الكريم قد فرّق بين السمع والبصر، فى الصورة التي عبّربها عن كل منهما. فأما عن السّمع.. فقد التزم فيه القرآن الكريم الإفراد مطلقا، سواء اقترن به البصر أم لم يقترن.. وسواء أجاء منكّرا، أو معرفا بأل أو بالإضافة.. ولم يقع فى القرآن مجىء السّمع جمعا فى أي حال من أحواله.. ولم يرد فى القرآن لفظ «الأسماع» أبدا.. يقول الله تعالى: «الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً» (101: الكهف) .. ويقول سبحانه: «وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً» (26: الأحقاف) ويقول تعالى: «وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ» (23: الجاثية) ويقول جلّ وعلا: «فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ» (26: الأحقاف) ويقول تبارك وتعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ» (46: الأنعام) . ويلاحظ فى الآيات القرآنية التي ورد فيها «السمع» أنه يقترن دائما بالبصر، أو الأبصار، فإن لم يقترن بهما اقترن بحال من أحوال الإنسان التي يكون فيها فى ذهول وغفلة وشرود.. كما فى قوله تعالى: «هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ» (221- 223: الشعراء) وقوله سبحانه: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1001 «إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ» (37: ق) .. فالقلب هنا يقوم مقام البصر، فى كشف معالم الطريق إلى الهدى والنور.. وقوله سبحانه: «الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً» (101: الكهف) فالعيون التي فى غطاء عن ذكر الله، هى العيون التي لا تتصل معطياتها بعقل أو قلب، وهى الأبصار المعطلة التي لا تعمل! وأما عن البصر.. فقد عبّر عنه القرآن بصيغة الإفراد، وبصيغة الجمع.. وذلك فى حال إفراد البصر بالذكر دون أن يقترن به السمع. فقد جاء البصر مفردا مثل قوله تعالى: «ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى» (17: النجم) وقوله سبحانه: «وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» (50: القمر) وقوله جلّ شأنه: «ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ» (4: الملك) وجاء البصر جمعا، غير مقترن بالسمع، كقوله تعالى: «وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ» (10: الأحزاب) وقوله سبحانه: «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» (46: الحج) .. وقوله: «فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ» (2: الحشر) . كذلك جاء البصر جمعا مقترنا بالسّمع، مثل قوله تعالى: «وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ» (23: الملك) وقوله جل شأنه: «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ» (78: المؤمنون) وقوله سبحانه: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ» (46: الأنعام) . وهكذا جاء وضع السمع فى كلام الله، مخالفا بينه وبين البصر.. حيث يجىء السّمع مفردا دائما، ويجىء البصر مفردا وجمعا.. وأكثر ما يجىء البصر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1002 جمعا إذا اقترن بالسّمع- وقد جاء السّمع مفردا مقترنا بالبصر فى قوله تعالى: «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا» (36: الإسراء) والسرّ فى هذا- والله أعلم- هو أن بين السمع والبصر اختلافا من وجوه: فأولا: السمع طريق إلى شىء واحد، هو الصوت.. والصوت، وإن اختلف قوة وضعفا، ورقّة وخشونة.. فهو- على أي حال- شىء واحد، فى النوع، وإن اختلف فى الدرجة. أما البصر فهو طريق إلى هذا الكون كلّه، وما فيه من عوالم وأكوان، وما فى كل عالم وكون، من ناطق وصامت، ومتحرك وثابت، وجامد وسائل.. إلى غير ذلك مما فى العالم الأرضى من كائنات، وما فى السماء من شمس، وقمر، ونجوم، وكواكب ... وكلها مختلفة متغايرة. فالبصر، بالقياس إلى السّمع، هو أبصار.. يتعامل مع ما لا يحصى من الأشياء، حتى إنه فى النظرة الواحدة يفتح عشرات القوى المبصرة، فتجىء إليه بأكثر من منظور! وثانيا: السمع، لا يستطيع أن يضبط أكثر من صوت واحد، فى حال واحدة.. وإلا اختلطت عليه الأصوات، وذاب بعضها فى بعض، وعسر على الإدراك، عزلها، وتمييزها. والبصر.. ينقل كثيرا من المرئيات فى حال واحدة، ويحتفظ لكل مرئى بصورته، دون أن تختلط بغيرها.. وينقلها إلى الإدراك منفصلة، كما ينقلها إليه متصلة. فهو- من هذه الجهة- أكثر من حاسّة.. إنه أبصار، وليس بصرا واحدا.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1003 وثالثا: السّمع مقيّد بوجود الصوت، الذي يتعامل معه.. فإذا لم يكن هناك صوت، تعطّل السّمع، وخيم عليه صمت رهيب!. أما البصر، فهو عامل دائما، فحيثما فتح الإنسان بصره وجد ما ينقله إليه بصره من أشياء لا تكاد تحصى.. فى أي مكان، وفى أي زمان. فالبصر بالقياس إلى السمع هنا، هو أبصار كثيرة.. لا عدّ لها ولا حصر. ورابعا: وأكثر من هذا كلّه- وهو فى النظم القرآنى بالمحلّ الأول- هو أن البصر يستطيع أن يمسك بالأشياء، ويقف ما شاء له الوقوف إزاءها، ويعاود النظر إليها، مرة ومرة ومرات.. ويتفحصها من جميع وجوهها.. والسمع بمعزل عن هذا، إذ لا يستطيع أن يمسك بالصوت أكثر من اللمسة العابرة التي تمرّ به.. وفى هذا يقول الله: «فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ» (3- 4: الملك) . ومن هنا، كان البصر، أبصارا، فى معاودته النظر إلى الأشياء، وفى تفحصها، والنظر إليها من جميع جهاتها، من قرب ومن بعد.. ومن هنا أيضا كان التفات القرآن الكريم إلى النظر، وتوجيهه إلى ملكوت السموات والأرض، وعقد صلة وثيقة بينه وبين القلب.. يقول تبارك وتعالى: «قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» (101 يونس) ويقول سبحانه: «انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ» (99: الأنعام) .. ويقول جل شأنه: «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ» (20: العنكبوت) .. ويقول سبحانه: «فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» (50: الروم) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1004 وكما دعا القرآن إلى النظر فى المحسوسات، وأخذ العبرة والعظة منها، دعا إلى النظر فى المعنويات، وتدبّرها، ووصل العقل والقلب بها.. يقول سبحانه وتعالى: «انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» (75: المائدة) ويقول جلّ شأنه: «انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً» (50: النساء) ويقول سبحانه: «انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا» (48: الإسراء) ومن إعجاز القرآن فى هذا أيضا، أنه تحدّث عن حاسّة السّمع باعتبارين: باعتبار أنها جارحة من الجوارح، وجهاز من الأجهزة، وظيفتها نقل الصوت، شأنها فى ذلك عند الإنسان شأنها عند الحيوان.. فهى «أذن» وهى بتعدد أصحابها «آذان» .. وهذا ما نراه فى قوله تعالى، فى تسفيه أحلام المشركين، وإنزالهم منازل الحيوان: «أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها؟ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها؟. أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها؟ أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها؟» (195: الأعراف) .. فهذه كلها جوارح حيوانية، ركّبت فى كائنات حيوانية، لم ترتفع بعد إلى مستوى الإنسانية.. فالأذن عندهم أذن، وليست سمعا! أما إذا تحدث القرآن عن الآذان باعتبار أنها جهاز متصل بالقلب والإدراك.. فهى «سمع» وهى بتعدد أصحابها «سمع» أيضا.. أما البصر، فقد تحدّث القرآن عنه بالاعتبارين اللذين تحدث بهما عن السّمع.. فهو كعضو من أعضاء الجسم «عين، وعيون» .. وهو كجهاز متصل بالقلب، والعقل.. «بصر» و «أبصار» . ثم تحدث القرآن عن البصر باعتبار ثالث، وهو أنه «بصيرة» .. أي ملكة تتخلّق من النظر المتأمّل، المتفحص.. «فالبصيرة» بنت «البصر» .. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1005 وفى هذا يقول سبحانه وتعالى: «فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ» (2: الحشر) ويقول سبحانه: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ» (13: آل عمران) ولهذا اشتقّ القرآن من البصر: البصيرة.. والبصائر.. والتبصرة، فقال تعالى: «بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ» (14: القيامة) وقال سبحانه: «قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها» (104: الأنعام) .. ويقول جل شأنه: «وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ» (7- 8 ق) . وبعد، فما أرانا بعد هذا الوقوف الطويل على ساحل هاتين الكلمتين.. «السمع والأبصار» - ما نرانا إلّا قد حسونا حسوة من هذا المورد المتدفق العذب، تنقع الصدى، ولا تشفى العليل.. وذلك هو جهد من قصر باعه، فمن كان ذا باع فليرد، وليرتو، وليرو الظّماء! فهذا مورد لا يغيض!. قوله تعالى: «فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ..فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ.. فَأَنَّى تُصْرَفُونَ» . الإشارة هنا: «فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ» إلى الناس جميعا، مؤمنهم، وكافرهم، ومشركهم.. تلفيهم إلى الإله الحق. الذي خلق فسوّى.. ثم نخلص الإشارة بعد هذا إلى الكافرين والمشركين الذين ضلّ سعيهم، وتنكبوا عن طريق الحق، وركبوا طرق الضلال.. فتنخسهم نخسة موجعة بهذا الاستفهام الإنكارى: فماذا بعد الانصراف عن الإيمان بالله، والتعبد له- ماذا بعد هذا إلا ركوب الضلال، والضرب فى المتاهات، والتعبّد لكل باطل وبهتان: «فَأَنَّى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1006 تُصْرَفُونَ» .. أي فإلى أين تذهبون؟ وإلى أي مهلكة أنتم واردون أيها الضالون؟ قوله تعالى: «كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» . حقت: أي وجبت، وقضت، ولزمت! فهؤلاء الذين فسقوا، وخرجوا عن طريق الحق، وكفروا بالله، هم ممن حكم الله عليهم بألا يكونوا فى المؤمنين.. وذلك دون أن يقسرهم الله على الكفر، أو يسلبهم إرادتهم، أو يعطل عمل عقولهم.. وقد عرضنا لهذه القضية فى مبحث خاص، تحت عنوان «مشيئة الله ومشيئة الإنسان» .. «1» قوله تعالى: «قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ» . الإفك: الافتراء، واختلاق الأباطيل.. وأنّى: بمعنى كيف. وفى الآية محاجّة للمشركين، بعرض آلهتهم التي يعبدونها موضع الامتحان إزاء قدرة الله سبحانه وتعالى.. فالله سبحانه وتعالى يبدأ الخلق ثم يعيده.. فهو سبحانه خالق هذا الوجود، ومبدع هذه الأكوان.. وهو الذي أوجد الناس من عدم، وهو الذي يميتهم.. ثم هو الذي يبعثهم.. فهل فى هؤلاء المعبودين من يفعل هذا، أو بعض هذا؟   (1) انظر التفسير القرآنى للقرآن- الكتاب الخامس- الجزء الثامن ص 263. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1007 لقد قالها «النمرود» لإبراهيم، وهو يحاجّه فى ربّه، فألقمه إبراهيم حجرا.. فخرس إلى الأبد.. «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ.. «قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ.. «قالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ.. «قالَ إِبْراهِيمُ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ؟ «فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (258: البقرة) . وفى الآية جاء النظم على غير ما جاء عليه فى الآيات السابقة من سورة البقرة، حيث دعى المشركون هنا إلى أن يدعوا آلهتهم أولا، ليؤدّوا هذا الامتحان، وليأتوا بما عندهم.. فإذا ظهر عجزهم، لم يكن إلا التسليم بأن قوة غير قوتهم هى التي أوجدت هذا الخلق الذي يملأ الوجود حولهم، فإذا لم يعرفوا هذه القوة، ولم يدركوا نسبتها إلى من بيده تلك القدرة.. فليسمعوا الجواب، وليصححوا عليه أفكارهم الخاطئة، ونظراتهم الزائفة: «اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ» ! ولكن الضالين ما زالوا على ضلالهم القديم، لم يغيرّ هذا الدرس من تفكيرهم شيئا. بل ما زالت أبصارهم متعلقة بآلهتهم، وما زالت عقولهم تنسج لهم الأباطيل والضلالات.. وهنا يسمعهم الوجود كله، إنكاره عليهم هذا الضلال، وتسفيهه هذا البهتان: «فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ» .. أي كيف تطوع لكم أحلامكم افتراء هذه المفتريات، أمام هذه الحجة الدامغة، والبرهان المبين؟ .. وقوله تعالى: «قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ. أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1008 فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» ؟ .. فهذا امتحان آخر.. يدعى فيه المشركون إلى امتحان شركائهم به.. «هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ» ؟ - هذا امتحان أيسر وأهون من الامتحان السابق الذي كانت مادته النظر فى بدء الخلق وإعادته.. أما هذا الامتحان فلا بعدو أن يسأل المشركون آلهتهم عن أمر ما، ثم يطلبون إليهم النظر فيه، وكشف وجه الحق لهم عنه: «هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ» ؟ وهؤلاء الآلهة، صم بكم.. لا يسمعون، ولا يجيبون.. فلا هداية منهم إلى حق، ولا دعوة الى غير حق! فإذا خرست هذه الآلهة عن أن تنطق.. فكيف يتخذها العاقلون الناطقون آلهة لهم يعبدونها من دون الله؟ وإذن فقد وجب على هؤلاء العاقلين الناطقين أن يطلبوا الهداية من رب الأرباب: «الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» وأن يتبعوا هديه، ويأخذوا بما جاءهم منه على يد رسله. «قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ» .. وأما وقد كشف الامتحان عن هذه الحقيقة، فإن الحكم الذي يوجبه العقل هنا، هو واضح لا يحتاج الى ترداد نظر: - «أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى» ؟ جواب واحد لا سبيل إلى غيره، إلا أن يركب المرء رأسه، ويمشى عليه، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1009 بدلا من رجليه.. وفى الناس كثيرون يمشون هذا المشي المقلوب، ويأخذون هذا الوضع المنكوس.. وليس يصرفهم عن هذا صيحات الإنكار التي تصيح بهم من كل ناظر إليهم: «فَما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» ؟ هذا الحكم على أنفسكم، وتريدونها على هذا الوضع الذي أنتم فيه؟ وفى التعبير عن الاهتداء بلفظ «يهدّى» - إشارة إلى أن هذا الذي يعبده المشركون من دون الله، لا يستطيع أن يهتدى من تلقاء نفسه إلى خير أو حق أبدا، فهو فى حاجة إلى من يقوده ويهديه، وحتى مع هذا، هو بطيء الخطا، لا يستجيب استجابة كاملة لمن يهديه.. وهذا ما يدل عليه لفظ «يهدّى» الذي هو بمعنى يهتدى، ولكن فيه ثقل واضطراب! قوله تعالى: «وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا.. إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً.. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ» الظن هنا: ضدّ اليقين، وهو ما قام على أوهام باطلة، وتصورات مريضة، وذلك هو الذي يقوم عليه تفكير المشركين، وأصحاب الضلالات، والانحرافات لا تمسك عقولهم إلا بالأوهام، ولا تتعامل إلا بالظنون! فهذا البناء الشامخ الذي يقيمونه من أوهامهم وظنونهم، لآلهتهم، وما يعلّقون عليها من آمال، هى سراب خادع، وهى أضغاث أحلام، إذا جدّ الجد، ووقعت الواقعة، لم يجد أصحابها فى أيديهم شيئا.. «إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1010 - وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ» تهديد ووعيد لهؤلاء الضالين، الذين غرسوا فى مغارس الضلال، وأقاموا بنيانهم على شفا جرف هار.. فحبطت أعمالهم، وساء مصيرهم.. الآيات: (37- 41) [سورة يونس (10) : الآيات 37 الى 41] وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) التفسير: قوله تعالى: «وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ» .. مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الأحاديث السابقة كانت عرضا لبعض مظاهر قدرة الله.. وآثار رحمته، وذلك لتفتح العقول والقلوب إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى الإيمان به، والانخلاع عن عبادة الأوثان والأشخاص، واتخاذهم آلهة من دون الله.. وإنه لكيلا يضلّ الناس الطريق إلى الله، بعث فيهم رسله، وأنزل معهم كتبه بالهدى والنور. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1011 ومحمد صلى الله عليه وسلم هو الرحمة المهداة إلى عباد الله، والقرآن الكريم هو الينبوع الذي تفيض منه الرحمة، وتنبعث من آياته وكلماته الأضواء والأنوار.. ومع هذا، فقد وقف المشركون من هذا النبي الكريم، ومن الكتاب الذي أوحى إليه من ربه- وقفوا موقف العناد، والعداء له، والتكذيب به، والافتنان فى سوق الضرّ والمساءة إليه. وهذه الآية، تدفع عن القرآن الكريم، تلك الرّميات الطئشة، التي يرمى بها المشركون بين يديه، ويقولون عنه إنّه من مفتريات «محمد» ومن منقولاته عن الأحبار والكهّان، كما ذكر ذلك عنهم فى كثير من الآيات، كقوله تعالى: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ» (103: النحل) وقوله سبحانه: «وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» (5: الفرقان) - وفى قوله تعالى: «وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ» إنكار واستبعاد أن يكون هذا القرآن من مفتريات مفتر، واختلاق مختلق.. إذ أن الافتراء والاختلاق هو تزييف للحقيقة، وتمويه للحق.. والشيء المفترى المختلق- أيّا كانت براعة المفترى، وذكاء المختلق- هو ضعيف هزيل، لا يثبت للنظر، ولا يصمد للزمن، بل سرعان ما يتعرّى ويفتضح.. وفى الإشارة إلى القرآن بقوله تعالى: «هذَا الْقُرْآنُ» تنويه به، وتمجيد له، وإلفات إلى علوّ منزلته، وتفرّده بهذه المنزلة التي لا يشاركه فيها مشارك. - وفى قوله سبحانه: «مِنْ دُونِ اللَّهِ» إشارة إلى استبعاد أن يكون هذا القرآن من صنعة إنسان، ومن وحي خاطره، وتلقّيات مدركاته أو أوهامه.. وأنه حتّى لو كان مفترّى- كما يتخرّص المبطلون- فإنه مع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1012 هذا- فوق مستوى البشر، وأنه ليس فى مستطاع القوى البشرية كلها- متفرقة أو مجتمعة- أن تفترى مثله.. وأن من قدر أن يفترى مثله فلا بد أن يكون على صلة بقوة إلهية، تمدّه، وتعينه، على ما يفتريه، حتى يكون افتراؤه على هذا المستوي الذي يتخاضع بين يديه صدق الصادقين، وتصغر فى حضرته حقائق المحقّين! فكيف وهو الحقّ من ربّ العالمين.. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. تنزيل من حكيم حميد؟ - وقوله تعالى: «وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» - هو معطوف على المصدر الواقع خبرا لكان فى- قوله تعالى: «وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ» أي وما كان هذا القرآن مفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه. والعطف بالحرف «لكن» يجعل حكم ما بعدها مغايرا ومضادّا لما قبلها. والذي بين يدى القرآن الكريم، هى الكتب السّماوية التي تقدمته فى الزمن، وهى التوراة والإنجيل. وتصديق القرآن الكريم للكتب السماوية السابقة، هو أنه يشهد لها بأنها من عند الله، ويؤيد الحق الذي جاءت به، من الدعوة إلى الله، والإيمان به، وبما تدعو إليه من فضائل.. فهى جميعها من مصدر واحد.. قد جمع القرآن الكريم ما تفرّق منها.. كما يقول الله سبحانه: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ» (48: المائدة) والكتاب الذي جاء القرآن الكريم مفصّلا له، هو الكتاب «الأمّ» فى اللوح المحفوظ.. الذي صدرت عنه الكتب السّماوية جميعها، فهو من تفصيل هذا الكتاب، ومن محكمه.. كما يقول سبحانه وتعالى: «وَلَقَدْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1013 جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» (52: الأعراف) وكما يقول سبحانه: «وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ» (4: الزخرف) فالقرآن الكريم موصوف هنا بخمس صفات: - أنه غير مفترى.. ولو كان مفترى- كما يقولون- فإنه مع هذا، فوق مستوى البشر! وأنه مصدّق للكتب السابقة، وشاهد بصدقها. وأنه من تفصيل الكتاب «الأمّ» ومن ينابيعه الوضيئة الصافية. وأنه لا ريب فيه، فلا يجد الناظر فيه، والمعايش له، ما يربيه منه، أو يقع موقع الشك واللبس عنده. وأنه- قبل هذا كله- تنزيل من ربّ العالمين.. وكفاه بهذا كمالا وعلوّا، وإحكاما. قوله تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» .. هو تحدّ للمعاندين، المكابرين من المشركين، الذين يقولون فى القرآن الكريم: إنّه من مفتريات محمد.. صلوات الله وسلامه عليه.. وقد تحدّاهم القرآن هنا أن يأتوا بسورة من واردات الافتراء التي جاء «محمّد» بهذا القرآن منها.. فميدان الافتراء والاختلاق فسيح لا حدود له، ولا حجاز دونه.. فليجهدوا جهدهم، وليستعينوا بمن يستطيعون الاستعانة به، من أحبار الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1014 ورهبان وكهّان، ومن سحرة وشعراء وخطباء، ومن إنس وجنّ.. ثم ليأتوا- بعد هذا- لا بمثل هذا القرآن كله، ولكن بمثل سورة منه.. ولينظروا فى وجه هذا الذي جاءوا به، وليضعوه، فى مواجهة آيات القرآن الكريم، ثم ليحكموا هم على ما جاءوا به، وهم أهل لهذه الحكومة، وصيارفة معادن الكلام.. فماذا يكون الذي يحكمون به؟ إنه لا شك إدانة لهذا المولود اللقيط الذي جاءوا به، واتّهام له أنه جاء من غير رشدة.. وأنه لن يجرؤ أحد منهم أن ينسبه إليه أو يحمله بين يديه، لو صدق نفسه، واحترم عقله، واحتفظ بماء الحياء فى وجهه! قوله تعالى: «بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ» .. تفضح هذه الآية الكريمة طيش هؤلاء المشركين، وما استولى عليهم من حماقة وجهل.. ذلك أنّهم على غير ما عليه العقلاء، من تثبتهم فى الأمور، وتعقلهم لها، وتفرسهم فى وجوهها قبل أن يحكموا عليها، وقبل أن يأخذوا بها أو يدعوها.. فهؤلاء المشركون، قد استقبلوا القرآن الكريم بالبهت والتكذيب، قبل أن يروه رؤية كاشفة، وقبل أن يستمعوا إليه استماعا واعيا.. «بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ» .. وهذا ضلال مبين، وخسران عظيم، واعتداء على حق العقل فى النظر والتثبت، قبل الرأى والحكم. وليس المراد بالعلم هنا، هو العلم بالقرآن، والإحاطة بهذا العلم الذي ضمّ عليه، بل هو العلم مطلقا، بأى شىء، ولأى شىء. وفى هذا مبالغة فى تسفيه القوم، واستسخاف عقولهم.. حيث تغلب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1015 عليهم أهواؤهم ونزعاتهم، فلا يلقون الأمور بعقولهم، ولا يزنونها بأحلامهم، وإنما يلقونها بأهوائهم المسلطة عليهم، ويزنونها بما يقع لأيديهم منها، من نفع ذاتى عاجل.. فإذا لم يستقم الأمر على ميزانهم هذا، تنكروا له، وأنكروه، من قبل أن يعلموا ما هو؟ وما الصفة التي يقوم عليها؟ - وفى قوله تعالى: «وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ» - إشارة خاصة إلى القرآن الكريم، وأنه ليس من عوارض الأمور، التي يفرغ المرء من حسابه معها فى نظرة عابرة، أو لمسة طائرة.. وإنما هو آيات الله، قد أودعت فى حروفه وكلماته وآياته، أسرار هذا الوجود، ونظام هذا العالم، وملاك أمر هذا المجتمع الإنسانى، ومناهج سعيه المستقيمة. وإذا كان هذا هو شأن القرآن الكريم، فإنه- لكى يتعرف الإنسان عليه، ويقع على بعض ما فيه من أسرار- يجب أن يقف المرء طويلا معه، وأن يعطيه ملكاته كلها، وبهذا يعرف ما هو هذا القرآن الذي يسمعه، ويدرك طعم هذا الثمر الذي يتدلّى عليه من أغصانه وأشجاره.. أما النظرة الحمقاء الشاردة العجول، أو النظرة الجامدة الباردة العمياء. فلن تنال شيئا، ولن تبلغ غاية، تحصّل بها شيئا من هذا الخير الكثير.. وهذا هو السر أو بعض البسر- فى «لمّا» التي تفيد امتداد الزمن وتراخيه حتى يقع الحديث الذي يجىء من الفعل الوارد عليه هذه الأداة «لمّا» التي تفيد التراخي والامتداد فى الزمن المستقبل. والصورة هنا هكذا: إن هؤلاء المشركين من شأنهم أن يواجهوا الأمور بعواطفهم ونوازع أهوائهم، فيدفعوا كل أمر لا يلتقى مع أهوائهم، ولا يستجيب لمنازعهم.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1016 هكذا شأنهم مع صغير الأمور وكبيرها، ومع قريبها وبعيدها.. فإذا جاءهم أمر تلقّوه سلفا بما تموج به صدورهم من نزعات وأهواء، فإذا جاء الأمر على وفق أهوائهم، وجرى على طريق نزعاتهم، قبلوه، واطمأنوا إليه، وإلا أنكروه، وتنكروا له! وهم مع القرآن، بادءوه بالإعراض والتكذيب قبل أن ينظروا فيه.. ومن نظر منهم إليه، نظر نظرا منحرفا، باردا.. فكذبوا بالبدهيات، كما كذبوا بما يحتاج إلى بحث ونظر، وإمعان.. «بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ» أي كذبوا بما لم يقع لهم منه علم أصلا، لأنهم لم ينظروا فيه، ولو نظروا لعلموا، ثم كذبوا بما لم يأتهم تأويله ولم يدركوا أسراره، لأنهم لم يطيلوا البحث ويمعنوا النظر، ولو فعلوا، لجاءهم تأويله، وانكشفت لهم بعض أسراره.. فهم على تكذيب بالقرآن أبدا.. يكذبون به قبل أن ينظروا فيه، ويكذبون به بعد أن ينظروا فيه، لأنهم يسبقون هذا النظر بمشاعر الاتهام، فإذا نظروا لم ينفعهم النظر، لأنه- كما قلنا- نظر شارد، مستخفّ بما ينظر إليه.. وقوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ» هو بيان لموقف المشركين من القرآن الكريم، وتعاملهم معه.. فهم فريقان.. فريق نظر فى القرآن، وعرف وجه الحق فيه، ولكن يأبى عليه كبره وعناده أن يخرج عن مألوف عادته، وأن يتقبل الدّين الجديد ويترك مخلفات الآباء والأجداد.. وهذا ما يشير إليه القرآن الكريم فيما حكاه عن هؤلاء المشركين فى قوله سبحانه: «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» (33: الأنعام) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1017 وفريق يبادىء القرآن بالتكذيب من قبل أن يسمع أو ينظر.. «وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ.. فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ» (5: فصلت) .. هكذا أهل الزيغ والضلال.. يعمون عن الحق، ويزيغون عن الهدى، سواء منهم من عرف الحق ومن لم يعرفه.. فليس كل الذي يعرف وجه الحق يقبله أو يقبل عليه.. فما أكثر الذين يعرفون الباطل ويتعاملون معه!، وما أكثر الذين يعلمون الشر ويلقون بأنفسهم فيه!. وما أكثر الذين يرون الهوى ويتعامون عنه!، وما أكثر الذين يبصرون وجه الحق ويتنكرون له! .. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ.. ظُلْماً وَعُلُوًّا» (14: النمل) قوله تعالى: «وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ» .. هذا هو الموقف الذي كان على النبي أن يأخذه إزاء المشركين المعاندين المكذبين.. إنه ليس له سلطان عليهم يأخذهم به قهرا وقسرا، إلى ما يدعوهم إليه من الهدى والحق والخير الذي ساقه الله سبحانه وتعالى على يديه إليهم.. إنه ما عليه إلا أن يبلغ رسالة ربه.. وقد بلّغها.. «فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها» (104: الأنعام) .. «مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ» (44: الروم) .. فلكل إنسان عمله، الذي سيجزى به يوم القيامة.. من خير أو شر.. «وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» (164: الأنعام) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1018 الآيات: (42- 44) [سورة يونس (10) : الآيات 42 الى 44] وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) التفسير: قوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ، أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ» .. الضمير: فى «منهم» يعود على المشركين الذين جاء ذكرهم فى الآيات السابقة، وكشف القرآن عن بعض أحوالهم ومواقفهم من الرسول الكريم، والقرآن الكريم وفى هذه الآية بيان لحال من أحوال هؤلاء المشركين.. وأن منهم من يستمعون إلى القرآن الكريم، والنبىّ يتلوه على الناس.. ولكنهم لا يفتحون لما يسمعون آذانا، ولا قلوبا، فلا يقع لهم مما يستمعون شيئا من الاستضاءة والهدى. وقد ربط القرآن الكريم هنا بين الأذن والعقل.. للدلالة على أن ما تسمعه الأذن، مجرد سماع، دون أن يعيه الإنسان ويعقله، ليس إلا أصواتا لا مفهوم لها، وليست حاسة السمع حينئذ إلا أداة معطلة لا عمل لها.. إذ أن من عملها أن تصل الإنسان بهذا الوجود، بما يقع فيها من حكمة وموعظة حسنة.. فالأذن إذا لم يكن بينها وبين العقل والقلب اتصال وثيق لما يقع فيها من كلمات- الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1019 لم يكن لما تسمعه من طيّب الكلام، وحكيم القول، أثر فى مدركات الإنسان وفى سلوكه.. إذ لا يخرج هذا الكلام عن أن يكون مجرد أصوات لا مفهوم لها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ» (12: الحاقة) . قوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ» .. وتلك جماعة أخرى، لها موقف آخر مع النبي، وقد سمعت القرآن، ثم جعلت تنظر فيه بقلوب مريضة، وعقول سقيمة، فلم تهتد إلى خير، ولم تتعرف إلى حق.. ويلاحظ هنا أن القرآن لم يصل بين النظر والعقل، أو القلب، كما فعل ذلك مع السمع، بل جعل مجرد تعطيل أداة النظر عن أداء وظيفتها، حجزا عن عن الخير، وعزلا عن الهدى.. وذلك أن النظر- كما قلنا فيما سبق- جهاز يمد الإنسان بأكثر ما يقوم عليه بناء الملكات والمشاعر والوجدانات، فى كيانه، فهو باب المعرفة الذي يطلّ منه الإنسان على هذا الوجود، ويصيد بشباكه، ما يشاء من محسوسات ومعنويات.. ومن هنا كان فى ذكر النظر، ذكر واستحضار لملكات الإنسان ومشاعره، ووجداناته.. فإذا عمى النظر أو زاغ، عميت تلك الملكات وزاغت المشاعر، واضطربت الوجدانات.. ومن جهة أخرى، فقد اختلف النظم القرآنى فى الآيتين.. هكذا. - «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1020 - «وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ» . فجاء الاستماع مسندا إلى الجمع، على حين جاء النظر مسندا إلى المفرد.. وفى هذا إشارة إلى أن الذي يستخدم حاسة السمع لا بد أن يدانى الذي يتحدث إليه، وأن يقترب منه بحيث يسمع ما يقول.. أما الذي يستخدم حاسة النظر، فقد ينظر من بعيد، بحيث لا يظهر لمن ينظر إليه.. وإذا كان النبي هو الذي يتلو القرآن على الناس، ليبلّغهم ما أنزل إليه من ربه، فإن ذلك من شأنه عادة أن يكون بمحضر من أعداد كثيرة من المستمعين، ولهذا جاء النظم القرآنى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ» .. محدّثا عن هذا العدد الكثير، أو القليل، الذي يستمع إلى النبىّ.. وليس كذلك الحال فى مجال النظر إلى ما مع النبي من آيات ربه.. أو النظر إلى النبىّ ذاته، فى أحواله ومسلكه فى الحياة.. فإن النظر فى آيات الله، هو نظر يستقل به المرء وحده، ويورد عقله وقلبه على ما سمعه أو قرأه منها.. حتى يرى لنفسه الطريق الذي يأخذه مع تلك الآيات.. مصدقا، ومستجيبا، أو مكذبا، ومنابذا.. وكذلك النظر فى أحوال النبىّ، ودراسة شخصيته.. ولهذا جاء النظم القرآنى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ» .. مشيرا إلى ما كان من بعض المشركين من نظر وتفكير، فى آيات القرآن التي استمعوا إليها.. ولكنه نظر بعيون كليلة، وتفكير بقلوب مريضة، فلم تهتد إلى حق، ولم تمسك بخير.. - وفى قوله تعالى: «مخاطبا النبىّ الكريم: «أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ» ؟ .. «أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ» ؟ - فى هذا إشارة إلى أن المعتقد الدينىّ لا يقوم فى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1021 النفس مقاما ثابتا، ولا يقع فى القلب موقعا مطمئنّا، إلا إذا تناوله الإنسان بنفسه، ونظر فيه بعينه وقلبه، ووزنه بعقله وإدراكه،.. وهنا يكون الإيمان ويكون اليقين، حيث اهتدى إليه الإنسان بمدركاته، وجاء إليه بمحض إرادته فى غير قهر أو قسر.. أما يد القهر والقسر، فإنها لن تثبّت دينا ولن تقيم يقينا.. إن ذلك أشبه بيد تدفع إلى معدة الإنسان مباشرة طعاما من غير مضغ ولا بلع! إنه طعام لا يفيد منه الجسم أبدا، ولو كان جائعا يطلبه ويشتهيه، بل ربما قتل صاحبه، أو أفسد نظام جسده، ورماه بأكثر من داء.. ولهذا، فقد كان الإسلام صريحا واضحا، بل صارما، فى هذا الموقف.. إنه يحرّم القهر والقسر فى كل شىء، لأنه بغى وعدوان.. فإذا كان فى مجال العقيدة، فهو أكثر من بغى وعدوان إنه عدوان وبغى يصيبان الإنسان فى مقاتله! وفى هذا يقول الله تعالى: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» (256: البقرة) ويقول جل شأنه للنبى الكريم: «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (99: يونس) .. وهذا هو بعينه ما جاء فى قوله تعالى: «أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ؟» .. «أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ؟» . قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» .. تشير الآية الكريمة إلى ما يركب الناس من عناد وضلال، وما يسوقهم إليه هذا الضلال والعناد، من الكفر بالله، والشرود عن الحق الذي جاءهم به رسله.. فإذا أخذهم الله بذنوبهم، فذلك عدل منه سبحانه وتعالى، فهو- سبحانه- إنما أذاقهم طعم ما غرسوا.. فإذا كان هذا الغرس الذي غرسوه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1022 ممّا لا تسوغه أفواههم فتلك جنايتهم على أنفسهم..َ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» أي وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين لأنفسهم، إذ حادوا بها عن طريق الهدى، وعدلوا بها عن شاطىء الأمن والسلام، فأوردوها تلك الموارد المهلكة.. الآيات: (45- 52) [سورة يونس (10) : الآيات 45 الى 52] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) التفسير: غرور المشركين، وأهل الضلال، بهذه الحياة الدنيا، وانخداعهم لها، وطول أملهم فيها، هو الذي أخلى قلوبهم وعقولهم من التفكير فيما وراء هذه الحياة، فأذهبوا طيّباتهم فى هذه الحياة الدنيا وأفنوا أعمارهم فى الجري اللاهث وراء متاعها وزخرفها.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1023 - وفى قوله تعالى: «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ» إشارة إلى انكشاف أمر هذه الدنيا لأهلها، حين ينفضّ جمعهم فيها، وتنقضى آجالهم، ثم يبعثون من قبورهم، ويحشرون إلى ربّهم.. هنالك يبدو أن ما قطعوه فى دنياهم من عمر، وما ملكوه من سلطان، وما جمعوه من مال ومتاع، لم يكن ذلك كله إلا كأحلام نائم، «كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ.. يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ» يلتقى فيها بعضهم ببعض، ويتحدث بعضهم إلى بعض.. ثم يتفرق جمعهم، وينفضّ مجلسهم.. كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر هنالك ينكشف للضالين والمبطلين ما كانوا فيه من باطل وضلال، وما يلقون فى يوم جزائهم هذا من بلاء ونكال.. ولو أنهم كانوا مؤمنين بالله، ويلقاء الله لعملوا ليومهم هذا، ولجعلوا سعيهم قسمة بين دنياهم وآخرتهم.. ولكنهم أعطوا دنياهم كلّ شىء، ولم يجعلوا لآخرتهم أي شىء، فلما جاء اليوم الذي تجد فيه كل نفس ما عملت من خير محضرّا، وما عملت من سوء تودّلو أن بينها وبينه أمدا بعيدا- لما جاء هذا اليوم، لم يجدوا غير الحسرة والندامة، وغير البلاء والعذاب. قوله تعالى: «وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ» . هذه الآية- إنباء بالغيب، وإرهاص بالبلاء الذي سيحيط بأهل الشرك والضلال، إنه ليس واقعا بهم فى الآخرة وحسب، بل إنه واقع بهم كذلك فى هذه الدنيا، بما يلقون فيها من ذلّ وخزى على يد المؤمنين، يوم يجىء نصر الله وتغرب دولة الشرك، ويقع المشركون ليد المؤمنين صرعى، أو أسرى.. كما حدث ذلك يوم بدر، وكما حدث يوم الفتح، ويوم حنين.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1024 وهذا الذي سيراه النبي فى حياته مما يقع للمشركين من ذلّة وهوان، أو الذي سيقع لهم من ذلك بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى- هو قليل إلى كثير مما أعدّ لهم فى الآخرة من عذاب وهوان، وأنه إن أفلت بعضهم فى هذه الدنيا، ولم يعجّل له شىء من العقاب فيها، فلن يفلت من العقاب الراصد له يوم القيامة.. «فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ» .. لا يعزب عنه- سبحانه- ممّا عملوا شيئا.. «وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» . (49: الكهف) قوله تعالى: «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» أي أن لكل أمة رسولا منهم، يبعثه الله فيهم، لينذرهم ويبشرهم، ويدلّهم على الطريق إلى الله، وليقيمهم فى حياتهم على صراط مستقيم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ» (24: فاطر) .. - وفى قوله تعالى: «فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» إشارة إلى أن من رحمة الله بعباده، أن أرسل إليهم الرسل، مبشرين ومنذرين، حتى يقيم على النّاس الحجّة ويأخذ الظالمين منهم بما كسبوا، فإذا بعث فى أمة رسول من الرّسل وبلّغ رسالة ربّه إليهم، فقد وجب عليهم الحساب، وحقّ عليهم الثواب والعقاب.. أما إذا لم يكن هناك رسول ولا رسالة، فلا حساب، ولا عقاب.. وهذا ما يشير إليه قوله تبارك وتعالى: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (15: الإسراء) . وهؤلاء المشركون، قد جاءهم رسول من عند الله، وبلّغهم رسالته المرسل بها إليهم من ربّهم.. فهم إذن محاسبون- منذ بلغتهم الرسالة- بما يعملون.. «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» بل يجزون الجزاء المناسب لما عملوا.. جزاء وفاقا.. كيلا بكيل، ومثقالا بمثقال.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1025 وقوله تعالى: «وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» .. تلك هى قولة الكافرين والمشركين، التي يلقون بها كل رسول يرسل إليهم من ربّهم، وينذرهم لقاء يوم القيامة.. لا قولة لهم إلا تلك القولة المتهكمة المستهزئة: «مَتى هذَا الْوَعْدُ؟» أخبرونا به أيها المؤمنون بهذا اليوم «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ!» . وهكذا يسوّغ الضلال لأهله هذا المنطق السقيم.. فهل يستقيم لعقل عاقل أن يكون فى الإمكان علم هذا اليوم، وكشف وقته الموقوت له؟ وهل لو قيل لهؤلاء الضالين المكذبين إنه بعد كذا وكذا من السنين، مئات أو ألوفا، أكانوا من المصدقين به؟ ألا يطالبون بدليل مادىّ محسوس عن هذا اليوم، يرونه رأى العين؟ وإن ذلك لن يكون إلا إذا وقع وكان.. فعلا! .. وهل ينفعهم إيمان أو عمل بعد أن يقع ويجىء؟ «يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً» (158: الأنعام) . قوله تعالى: «قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» . إن أمر هذا اليوم لا يعلمه إلا الله.. وهو سبحانه وحده الذي يملك الكشف عنه، وليس للنبىّ ولا لغيره سلطان إلى جانب سلطان الله، ولا تقدير مع تقديره.. فالنبىّ، لا يملك لخاصّة نفسه شيئا.. إنه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ضرّا، أو يجلب لها خيرا إلا ما شاء الله وأراد له، من دفع الضرّ عنه، وجلب الخير له.. فكيف يكون له سلطان فى مصائر النّاس، ومقادير العباد؟ «لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ» عند الله «إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ» التقوا بهذا اليوم الموعود الذي يسألون عنه الآن سؤال المنكر: «متى هو؟» .. «فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1026 بل يمضى فيهم قدر الله، وتنفذ فيهم مشيئته فى الوقت المقدور، إذ لا مبدّل لكلماته، ولا معوّق ولا معطل لمشيئته.. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. - وفى قوله تعالى: «قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً» - فى هذا ما يسأل عنه، وهو: إذا كان الإنسان يملك النفع لنفسه، بما يعمل فى سبيل ما يعود بالنفع عليه والخير له.. فكيف يملك الضرّ لنفسه، ويسوقه إليها؟ وهل هذا مما يكون من إنسان، فضلا عن النبي الكريم؟ والجواب- والله أعلم- أن ذلك للدلالة على سلطان الله سبحانه وتعالى فى عباده، وأنه ليس لأحد منهم شىء مع سلطان الله القائم عليه، فى ذات نفسه، حتى لو أراد- متعمدا- أن يسوق إلى نفسه شرا، أو يوردها مورد الهلاك، فإن ذلك ليس إلى يده، وإنّما هو لله سبحانه وتعالى.. والضرّ لا يتكلّف له الإنسان جهدا، ولا يبذل له مالا، وحسبه أن يقف موقفا سلبيّا من الحياة، وعند ذلك يجد الضّرّ يزحف عليه من كل جهة.. على خلاف النفع، فإنه لا يحصّل إلا بجهد، ولا ينال إلا ببذل وعمل.. ومن هنا كان عجز الإنسان عن أن يملك لنفسه ضرّا- أبلغ وأظهر فى الدلالة على ضعف الإنسان وعجزه، وأنه إذا عجز عن أن يملك لنفسه ضرّا، فإنه أعجز من أن يملك لها نفعا.. قوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ» . الضمير فى قوله تعالى: «عذابه» يعود إلى «الوعد» فى قوله تعالى: «وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» وهو يوم القيامة.. الذي يسأل عنه المجرمون هذا السؤال الإنكارى: متى هو؟. حتى لكأنهم قد عملوا له، واستعدّوا للقائه، فاستعجلوا الجزاء الحسن الذي ينتظرهم فيه!! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1027 - وفى قوله تعالى: «بَياتاً أَوْ نَهاراً» إشارة إلى أن هذا اليوم لا يأتى على موعد معلوم للناس، بل إنه سيأتيهم فجأة، وعلى حين غفلة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها.. قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي.. لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.. لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً» (187: الأعراف) . - وفى قوله سبحانه: «ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ» إشارة إلى أن هذا اليوم هو بلاء وويل للمشركين والضالين.. وكل ما فيه هو شرّ واقع بهم.. فماذا يستعجلون من هذا الشرّ، وذلك العذاب؟ إن المجرم لا يستعجل قطف ثمار ما زرع من شرّ، ولكن هؤلاء المجرمين.. حمقى جهلاء، لا يدرون ما هو واقع بهم فى هذا اليوم العصيب، فهم لذلك يستعجلونه استعجال الجزاء الحسن المحبوب. قوله تعالى: «أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ؟» . «أثمّ» الهمزة للاستفهام، وثمّ حرف عطف، عطف ما بعده على كلام سابق محذوف، تقديره: أتستعجلون هذا اليوم، ثم إذا ما وقع آمنتم به؟ إن ذلك الإيمان لا ينفعكم شيئا، ولا يدفع عنكم عذاب الله الواقع بكم.. فهلّا آمنتم به الآن فى هذا الوقت، وأنتم فى سعة من أمركم، قبل أن يلقاكم هذا اليوم، وينزل بكم فيه البلاء، ويحلّ عليكم العذاب؟ - وفى قوله تعالى: «آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ» استفهام إنكارىّ لإيمانهم بهذا اليوم، يوم يقع بهم. وقد كانوا فى دنياهم ينكرونه، ويبالغون فى إنكاره، ويستعجلون مجيئه، إمعانا فى الإنكار والاستهزاء، بقولهم: «متى هو؟» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1028 و «آلآن» أصله «الآن» أي الحال والوقت، ثم دخلت عليه همزة الاستفهام. فصار «أالآن» ثم صارت الهمزتان همزة مدّ، أي: آلآن تؤمنون به بعد أن وقع؟. قوله تعالى: «ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ.. هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ» . العطف بسمّ هنا. يدلّ على محذوف، تحدّث به الحال.. وهو أن المجرمين، بعد أن التقوا بهذا اليوم الذي كانوا يكذبون به، قدّموا للحساب، وقدّمت لهم آثامهم التي اقترفوها فى دنياهم، فعرفوا ما كانوا فيه من ضلال، ورأوا المصير الذي هم صائرون إليه.. فسيقوا إلى جهنم، ثم قيل لهم «ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ» .. - وفى قوله تعالى: «هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ» .. وجهان: الوجه الأول: أن يكون استفهاما مرادا به التقرير كما فى قوله تعالى: «فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا» ، وتكون «إلّا» بمعنى غير.. أي: هل تجزون غير ما كان لكم من عمل؟. لقد عملتم السوء فكان جزاؤكم سوءا.. والوجه الثاني: أن يكون استفهاما مرادا به الخبر، وتكون «هل» بمعنى «ما» النافية.. والتقدير: ما تجزون إلّا بما كنتم تكسبون. وعلى كلا الوجهين، فهو نخس لهؤلاء المجرمين، وعذاب يضاف إلى عذابهم، حيث يسقون كؤوس البؤس والعذاب، محمولة، إليهم بهذا التقريع والتسفيه.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1029 الآيات: (53- 56) [سورة يونس (10) : الآيات 53 الى 56] وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) التفسير: الاستنباء: طلب النبأ، وهو الإخبار بأمر غائب.. إي: أداة جواب بمعنى: نعم.. يطلب المشركون من النبىّ أخبارا عن هذا اليوم، يوم القيامة، وما يلقى الناس فيه، وما أعدّ الله للأخيار منهم من ثواب، وما رصد للأشرار من عقاب.. فإذا تحدث النبىّ إليهم بشىء من هذا، عقّبوا على ذلك مستهزئين ساخرين- بقولهم: «أحقّ هو» ؟ أي أهذا الذي تحدّث به هو حق وجدّ؟ أم أنك تكذب وتهزل؟ إنهم لا يصدقون بهذا اليوم، ومع هذا فهم يستنبئون عن أخباره. متى هو؟ وأين هو؟ وكيف هو؟ وذلك كله على سبيل الاستهزاء والسخرية. - وفى قوله تعالى: «قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ.. وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» ردّ على هؤلاء المشركين المكذبين، وقد أمر الله سبحانه النبىّ الكريم أن يلقى المكذبين بهذا الردّ المؤكد بالقسم، وبحرف التوكيد «إنّ» وبلام الابتداء «لحق» ، وذلك فى مقابل إنكارهم، وغفلتهم عن هذا اليوم.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1030 ثم جاء بعد هذا قوله تعالى: «وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» ليؤكد هذا الأمر ويقرره، وهو أن هذا اليوم واقع لا شك فيه، وأن المشركين لن يفلتوا من العقاب الراصد لهم فيه.. لأنهم لن يعجزوا الله، ولن يجدوا لهم مهربا. قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ.. وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» .. هو عرض لما يلقى الظالمون يوم القيامة من بلاء، وما يساق إليهم فيه من ألوان العذاب والنكال.. وأنه لو كان للظالم كل ما فى الأرض من متاع، وكل ما يملك الناس فيها من مال وسلطان، لقدّمه فدية يفتدى به نفسه من عذاب هذا اليوم، ويخلص من أهواله، ولهان عليه أن يتجرد من كل شىء، وأن يخرج عريانا من كل هذا السلطان العريض الذي ملك به الأرض كلها، والذي كان يبيع نفسه فى الدنيا لقاء كومة من فضة، أو حفنة من ذهب..! - وفى قوله تعالى: «وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ» إشارة إلى هول هذا العذاب، الذي عند رؤيته تنخلع القلوب، وتجمد المشاعر، وتسكن الجوارح، وتخرس الألسنة.. فلا يجد أحد فى مواجهة هذا العذاب قدرة على أن يفتح فما، أو يحرك لسانا، وإنما هو الكمد والحسرة يملآن كيان الإنسان، ويأخذان السبيل على كل خالجة وجارحة فيه! .. فكيف إذا ألقى فيه المجرمون، وصاروا وقود اله.. وهذا العذاب الذي ينزل بالظالمين، ليس إلّا مما قدمته أيديهم لهم، وإن الناظر إليهم وهم يقلّبون فى النار، ليخيل إليه من شدة ما هم فيه من بلاء أنهم مظلومون، وأنه ليست هناك جريمة مهما عظمت، يستحق عليها مرتكبها هذا العذاب، الذي لم تره عين، ولم يتصوره خاطر.. ومع هذا، فإن ما وقع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1031 بهم من بلاء، إنما هو الجزاء العادل لما اجترحوا من سيئات، وما اقترفوا من آثام.. - وفى قوله تعالى: «وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» دفع لهذا الوهم، وتقرير لتلك الحقيقة، وهى أن ما يلقاه هؤلاء الظالمون، هو الجزاء العدل لجريمتهم، وأن الحكم الذي حكم عليهم به، هو حكم قائم على ميزان القسط والحق.. إنهم لم يظلموا فيما نزل بهم، ولا يظلمون فيما سينزل بهم من صور العذاب، بعد هذا العذاب الذي هم فيه.. قوله تعالى: «أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» .. هو توكيد لقدرة الله، وتقرير لحقيقة البعث والحساب والجزاء.. وأن الذي له ملك السموات والأرض، لا يعجزه أن يتصرف فيهما كيف يشاء، وأن يبعث الناس بعد موتهم.. فهو- سبحانه- الذي خلقهم، وهو- سبحانه- الذي أماتهم، وهو- سبحانه- الذي يبعثهم بعد موتهم. «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ. تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» (54: الأعراف) . ولكن أكثر النّاس لا يعلمون هذه الحقيقة عن الله سبحانه وتعالى، ولا عن قدرته، وحكمته، فتتفرق بهم السبل، ويعمون عن الطريق إلى الله، فلا يتعرفون إليه، ولا يؤمنون به. قوله تعالى: «هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» . ذلك هو من بعض ما لله فى ملكه.. هو الذي يحيى، وهو الذي يميت، وهو الذي يبعث الموتى من قبورهم، فيرجعون إلى ربهم، ويجزون على ما كان لهم من عمل فى الدنيا.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1032 الآيات: (57- 60) [سورة يونس (10) : الآيات 57 الى 60] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60) التفسير: قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» . من تدبير القرآن الكريم فى عرض الدعوة إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، أنه لا يأخذ فى دعوته تلك بالأسلوب التقريرى الإلزامي، بل يقيم بين يدى ذلك الأسلوب، ومن خلفه- مشاهد من قدرة الله، وعلمه، وحكمته، هى مناط هذا الأسلوب التقريرى، ووجه البرهان عليه، وهى قوة الإلزام فيه.. وبهذا لا يجد العاقل إلا التسليم له والأخذ به.. وكذلك الشأن فى كل قضية من قضايا الدعوة الإسلامية، ومنها قضية البعث والقيامة، والحساب والجزاء.. فهو إذ يقرر حقيقة البعث والجزاء، يرى الناس وهم أحياء، شواهد منها، ويقيم بين أيديهم أدلة عليها، حتى لكأنها واقعة فعلا، ثم من خلال هذا الشعور. ينقلهم- فى حلم كأحلام اليقظة- إلى يوم القيامة، ويقيم لهم موازين الحساب والجزاء، ويفتح للمؤمنين منهم أبواب الجنة، وما يلقون فيها من نعيم، ويفتح الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1033 للعصاة الظالمين أبواب الجحيم، يتقلبون على جمرها، ويشربون من حميمها وغسّاقها.. ثم لا يلبث أن يوقظهم من أحلامهم تلك- المسعدة أو المزعجة- ليلقاهم بالدعوة إلى الإيمان بالله واليوم الآخر.. لتجد تلك الدعوة جوابا حاضرا لمن انتفع بهذه التجربة، وأخذ منها موعظة وذكرى.. وهكذا، يسير القرآن على هذا الأسلوب، التقريرى التجريبى، مع تنويع العرض، وتجديد المشاهد، واختلاف الألوان والظلال.. حتى لا يجد المرء سبيلا للفرار من قبول هذا الحكم، أو حجة لدفعه وإنكاره.. وفى هذه الآية، مواجهة للناس جميعا، بعد تلك الرحلة التي أشرفوا فيها على مشارف القيامة، ورأوا ما رأوه من أهوالها، وما يلقى الظالمون فيها من بلاء وهوان.. وهاهم أولاء يدعون إلى ما ينجيهم من هذا البلاء، ويدفع عنهم شر ذلك اليوم وويلاته.. فيقول سبحانه: «يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» . والموعظة والشفاء والرحمة، هى فى هذا القرآن الكريم، وعلى يد هذا الرسول الكريم، الذي يحمل إليهم هذا القرآن، ويبشرهم وينذرهم به.. وفى القرآن العبرة والموعظة، بما يعرض من دلائل قدرة الله، وما يكشف من آثار رحمته.. وفى القرآن الشفاء لما فى الصدور من عمّى وضلال، وذلك لما فى آياته من أضواء المعرفة التي تهدى الضالين، وترشد الحائرين، وتكشف للناس جميعا الطريق إلى الله وتدلهم عليه.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1034 وفى القرآن الهدى والرحمة، لمن عرف الله وآمن به، حيث ينزل منازل المكرمين عند الله، وينال ما ينالون من فواضل رحمته، وسوابغ إحسانه ورضوانه. قوله تعالى: «قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» . ذلك أنه إذا عرف الإنسان كيف يفيد من هذه الموعظة، ويتعرف إلى الله، ويبتغى مرضاته، فقد جمع الخير كله إلى يديه، وحق له أن يغتبط ويهنأ.. ولا عليه إذا فاته كل شىء، إذا هو ظفر بهذا الذي ظفر به! وهو ما ناله من فضل الله ورحمته، إذ هداه إلى الإيمان به، والعمل لطاعته. قوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ» .. هو حديث إلى هؤلاء الذين لم يأخذوا حظهم من تلك النعمة، ولم ينالوا نصيبهم من هذا الرزق الطيب الكريم، فمكروا بآيات الله، ونظروا إليها نظرا زائغا منحرفا.. وليس هذا شأنهم مع القرآن الكريم، وما تحمل آياته إليهم من هدى ورحمة، بل ذلك هو شأنهم مع كل نعمة من نعم الله، حيث يغيّرون وجهها، ويحرمون أنفسهم خيرها.. فهذه الأنعام، مثلا، قد جعلها الله رزقا حلالا خالصا لهم، ولكنهم- عن سفاهة وجهل- قد حرّموا بعضها وأحلّوا بعضها، لا لعلة واضحة، ولا لحكمة ظاهرة، وإنما هى ضلالات وحماقات، أرتهم فيها تلك الآراء الفاسدة.. وفى هذا يقول الله تبارك وتعالى فيهم: «وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1035 كانُوا يَفْتَرُونَ. وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» (138- 139: الأنعام) . وهكذا يفعل الضلال بأهله، حتى فى الخير المادىّ الذي بين أيديهم، وعلى أفواههم.. فكيف بهؤلاء الضالين مع هذا الخير الموعود الذي يدعوهم القرآن الكريم إليه، ويبشرهم به؟ إنهم فى هذا لأكثر ضلالا معه، وأبعد بعدا عن الانتفاع به! وإنهم إذا كانوا قد افتروا على هذه الأنعام تلك المفتريات التي تحرمهم الخير المتاح لهم منها، فلا يستغرب منهم أن يفتروا على الله هذه الآلهة التي يعبدونها من دونه، ويحرموا أنفسهم رحمته ورضوانه! والله سبحانه وتعالى يقول: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ» (28- 29: إبراهيم) . قوله تعالى: «وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ؟ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ» .. فهؤلاء الذين افتروا على الله الكذب، وبدّلوا نعمته كفرا- ما ظنّهم بيوم القيامة وما يلقون فيه؟ ألا يكون لما افتروه عقاب؟ ثم ألا يكون هذا العقاب عذابا ونكالا، كما كان افتراؤهم جرما غليظا، وضلالا بعيدا؟. ونعم، إن الله لذو فضل على الناس.. ومن فضله عليهم أن أسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، وبعث فيهم رسله، بالهدى والرحمة.. ولكنّ كثيرا منهم كفر بتلك النعم، وأبى أن يستجيب لرسل الله، وأن يأخذ بحظه من هدى الله ورحمته.. فهل ينتظر هؤلاء الكافرون بنعم الله، الجاحدون لفضله، غير ما هم أهل له، من سوء الجزاء، وأليم العذاب؟. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1036 الآيات: (61- 64) [سورة يونس (10) : الآيات 61 الى 64] وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61) أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) التفسير: «وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» . الشأن: الحال المتلبسة بالإنسان، وهو يعالج أمرا من الأمور. تفيضون فيه: أي تتداولونه بينكم، ويأخذ كلّ منكم بطرف منه، فيكثر الحديث ويفيض. يعزب: يغيب، ويبعد. فى هذه الآية: عرض لبعض سلطان الله، ونفاذ قدرتا وعلمه.. وأنه- سبحانه- محيط بكل شىء علما.. وأن ما يقع من الضالين والمكذبين، هو فى علم الله، يحصيه عليهم، ويجزيهم بما هم أهل له من بلاء ونكال. وقد بدأت الآية بخطاب النبىّ صلوات الله وسلامه عليه: «وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ» .. أي أنه صلوات الله وسلامه عليه، وما يعمل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1037 من عمل، مراقب من الله، ومسجل عليه كلّ ما يعمل، سواء أكان هذا العمل فى شأن من شئونه الخاصة، أو فى مجال الرسالة المبعوث بها، كتلاوة القرآن على الناس، وإسماعهم كلمات الله المنزلة عليه.. وذلك، حتى لا يظن المشركون والكافرون أنهم وحدهم هم الذين تحصى عليهم أعمالهم.. بل الله سبحانه وتعالى مطلع على الناس جميعا، وعالم بكل ما يعملون من خير أو شر. وفى ذكر القرآن وتلاوة النبي له، إشارة إلى أنه الشأن الغالب على النبي- صلى الله عليه وسلم- وأن القرآن وتلاوة القرآن هو شغله وعمله، أما المشركون والضالون، فلهم شغل ولهم عمل، ولكنه شغل فى ضلال، وعمل فى باطل. - وفى قوله تعالى: «وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ» هو تعميم بعد تخصيص.. إذ ليس النبىّ وحده هو الذي يرقب الله تعالى أعماله، بل الناس جميعا مراقبون، لا يغيب من عملهم شىء عن علم الله.. - وفى قوله تعالى: «وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» - هو إشارة إلى أن علم الله محيط بكل شىء، فليست هناك «مثقال ذرة» أي قدر ذرة ووزنها وثقلها- وهى ما هى فى الصغر- سواء أكانت فى الأرض أو فى السماء، وسواء أكان ما هو أصغر من الذرة أو أكبر منها- إلا وهى فى كتاب مبين عند الله.. قد علمها وأحصاها.. وفى تسلّط النفي فى قوله تعالى: «وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ» على «إلّا» فى قوله سبحانه: «إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» فى هذا ما يفيد أن معنى يعزب، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1038 هو يغيب أو يبعد، وبهذا يمكن الجمع بين «ما النافية، و «إلا» ويكون المعنى هكذا: - وما يغيب عن ربك من مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا فى كتاب مبين-. والسؤال هنا: كيف يغيب أو يبعد عن الله شىء؟ والجواب: أن هذا الغائب البعيد، هو بالإضافة إلينا، بمعنى أن ما يقع فى وهم الواهمين، وتصور المتصورين، أنه بعيد فى أغوار الأرض، أو فى أعماق أنفسنا، هو بعيد عن الله- فذلك تصور خاطئ، وفهم فاسد، لأنه فى كتاب مبين عند الله، وهذا يعنى أنه وقع فى علم الله أولا، ثم أودع فى هذا الكتاب المبين عند الله، ثانيا.. فهو واقع فى علم الله، ومسجّل فى كتاب عند الله.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» (75: النمل) . قوله تعالى: «أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» . أولياء الله: هم الذين يجعلون ولاءهم لله وحده، فهم أولياء الله، والله سبحانه وتعالى وليّهم.. وقد بينهم الله سبحانه فى قوله: «الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ» .. فلا ولاية بغير الإيمان بالله.. إذ الولاء حب، وطاعة، وعبادة.. ولا حب إلا بعد معرفة، ثم إيمان.. ثم طاعة وعبادة. ولا تتحقق الولاية لله إلا بمراقبته، واتقاء محارمه، والتوكل عليه، والرجاء فيه، وقطع كل رغبة فيما سواه.. وذلك هو الذي يحقق التقوى، التي هى ثمرة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1039 الأعمال الصالحة.. فهؤلاء الأولياء هم الذين تعلقوا بالله، فجذبهم الله إليه، وأنزلهم منازل رحمته ورضوانه.. فأمنوا فى جنابه من كل خوف على متوقع، أو حزن على فائت «لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» .. فمن اتخذ الله وليا له، اتخذه الله وليا، ومن أحب الله أحبه الله، كما فى قوله تعالى: «فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» (54: المائدة) .. ومن أحبه الله فلا تسأل عما هو فيه من غبطة وسرور، مما يتنزل عليه من ربه من سكينة، وما يفاض عليه من نفحات وبركات.. يقول رسول الله صلوات الله وسلامه عليه فيما رواه البخاري: «ما يزال عبدى يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها، وإن سألنى أعطيته، وإن استعاذنى لأعيذنّه» . فالطاعات، والمداومة عليها، هى التي تقرب العبد من ربه، فإذا قرب منه كان فى جناب حماه، وعلى بساط رحمته، لا يخاف إذا خاف الناس، ولا يجزع إذا جزع الناس. ولا يبيت على همّ إذا بات الناس على هموم: «أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» . وفى تعدية الخوف بحرف الجر (على) ، إشارة إلى أن الخوف إنما يكون من توقعات المستقبل، فهو مقبل لا مدبر.. ويكون المعنى لا خوف مقبل عليهم.. وفى التعبير عن الإيمان بالماضي «الَّذِينَ آمَنُوا» وعن التقوى بالمستقبل «وَكانُوا يَتَّقُونَ» - إشارة إلى أن الإيمان يسبق التقوى، التي تقوم على اتقاء محارم الله، لأن هذا الاتقاء هو من معطيات الإيمان بالله.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1040 وقد دخل فعل التقوى فى حيز الفعل الماضي «كان» .. «وَكانُوا يَتَّقُونَ» فكانت التقوى أيضا مما حدث من هؤلاء المتقين، كما حدث منهم الإيمان من قبل، وإلا ما استحقوا صفة الأولياء، أولياء الله.. فالإيمان، ثم التقوى، ثم الولاية، يجىء بعضها إثر بعض، على هذا الترتيب.. فلا ولاية بغير التقوى، ولا تقوى إلا بعد الإيمان- وفى قوله تعالى: «لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ، لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» .. بيان لتلك المنن العظيمة التي امتن الله بها على أوليائه- جعلنا الله منهم- فجعل البشريات المسعدة برضا الله ورضوانه، تتنزل عليهم، بما يكشف لهم منازلهم عند الله، وما سيلقون فى نعيم جناته، من كرامة وتكريم. والبشريات التي يبشّر بها أولياء الله فى الدنيا، كثيرة، منها ذكرهم فى الناس، بالكلمة الطيبة تقال فيهم، لحسن سيرتهم، واستقامة طريقهم، وحفظ جوارحهم من المحارم والمظالم.. إذ لا شك أن رضا الناس عن إنسان، وحسن ظنهم به، هو دليل على أنه من أهل الخير والتوفيق، وأنه على طريق الاستقامة والتقوى.. ومنها ما يملأ الله به قلوبهم من رضا وسكينة، فى السراء والضراء على السواء.. بل إن كثيرا منهم ليجد فيما يبتليه الله به من ضر، هو أمانة عنده لله، وأن أداء هذه الأمانة لله هو الصبر عليها، والرضا بها، وأن الضجر بالبلاء، والجزع منه، هو خيانة لتلك الأمانة. روى أن سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه.. كفّ بصره فى آخر حياته، وكان مستجاب الدعوة، فقيل له: ادع الله وأنت مستجاب الدعوة عنده أن يرد عليك بصرك؟ فأبى أن يدعو الله بردّ بصره إليه.. ولو دعا لاستجاب الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1041 له، ولكنه وجد فى هذا العمى مشيئة الله فيه، وفى الدعاء بدفع هذا العمى عدم استسلام لهذه المشيئة، وعدم رضا بها!! وهكذا أولياء الله.. «لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» . ومن البشريات التي يبشّر بها أولياء الله فى الدنيا، أنهم حين يشرفون على الموت، لا يجدون له ما يجد غيرهم من كرب وجزع. بل يستقبلونه فى غبطة ورضا، وذلك لما يرون فى ساعة الاحتضار مما لهم عند الله من فضل وإحسان.. وهذا ما يشهد له قوله سبحانه وتعالى: «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ» (30- 31) فصلت. وأما بشريات أولياء الله فى الآخرة، فكثيرة، تبدأ من مغادرتهم هذه الدنيا، إلى يوم القيامة، وما بعد يوم القيامة، وهم فى روضات الجنات يحبرون.. ففى كل مرحلة من مراحل هذه الرحلة المسعدة، تطلع عليهم البشريات التي تزفّهم إلى الجنة، كما تزف العروس فى موكب من الفرح والبهجة.. وفى هذا يقول الله تبارك وتعالى: «يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (12: الحديد) . الآيات: (65- 70) [سورة يونس (10) : الآيات 65 الى 70] وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1042 التفسير: مناسبة هذه الآيات لما قبلها، أن الآيات السابقة عليها قد ذكرت أولياء الله، وما أعدّ لهم ربهم من ثواب كريم، وأجر عظيم. وهذه الآيات تعرض أعداء الله، والمطرودين من رحمته، وهم الذين أشركوا بالله، واتخذوا من دونه أولياء يعبدونهم من دونه. وقوله تعالى: «وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ» هو عزاء للنبى الكريم، مما يلقى من قومه من ضرّ وأذى.. وإن أشد ما كان يؤذى النبىّ ويسوؤه، هو خلاف قومه عليه، وتنكّبهم عن طريق الحق الذي يدعوهم إليه، وتخبطهم فى ظلمات الضلال والشرك.. فهو رءوف بهم، رحيم عليهم، حريص على هدايتهم، كما يقول الله سبحانه وتعالى فيه: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» . (128: التوبة) ولهذا، فقد كانت آيات القرآن الكريم تتنزل عليه من ربه، تواسيه وتخفف ما به من حزن وألم.. كقوله تعالى: «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» (8: فاطر) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1043 وقوله سبحانه: «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» (56: القصص) .. وقوله: «لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (3: الشعراء) . - فقوله تعالى: «وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ» هو مما كان ينزل على النبي من آيات ربه، من عزاء ومواساة، لما كان يلقى من قومه من عنت وعناد، ولما كان يقع فى نفسه من حزن عليهم أن يحرموا هذا الخير الذي ساقه الله سبحانه وتعالى على يديه إليهم. والقول الذي كان يحزن النبي، هو شركهم بالله.. وقولهم: «اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً» كما سيجيئ فى الآية الكريمة بعد هذا. - وقوله تعالى: «إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» هو تثبيت للنبى، وطمأنينة لقلبه، وأن خلاف قومه عليه لا يضره، لأنه مؤيد من ربه، رب العزة التي تذلّ لها الجبابرة، فالعزة كلها لله، وما سواه ذليل مهين. وهو سبحانه «سميع» لما يقول هؤلاء المشركون فى الله من زور وبهتان. «عليم» بما تموج به صدورهم من شرك وضلال. وسيجزيهم بما كسبوا. وقوله تعالى: «أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» . الخرص: خرص الشيء تقديره جزافا، بالظن والتخمين، كمن ينظر إلى شيىء فيقدر كيله أو وزنه بالنظر إليه دون معيار. والآية الكريمة تعرض بعض مظاهر سلطان الله وقدرته، وأنه- سبحانه- له ملك السموات والأرض ومن فيهن. فهو وحده الجدير بأن يمجّد ويعبد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1044 وأما الذين يتبعهم المشركون ويدعونهم آلهة من دون الله ويجعلونهم شركاء له- فإنما هم من واردات باطلهم وضلالهم، ومن مواليد ظنونهم وأوهامهم. «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» . فهذا المعتقد الذي يعتقدونه فى معبوداتهم، وتلك المشاعر التي تشدّهم إليها إنما هى مما يولّده الجهل ويصوره الضلال. قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» . وذلك أيضا هو بعض مظاهر قدرة الله، وآثار رحمته فى عباده، وليس لما يعبد المشركون من آلهة صورتها لهم الظنون والأوهام- شىء من هذا الذي خلق لله، وما أفاض على عباده من نعم. فهو- سبحانه- الذي جعل الليل سكنا، يلبس الكائنات الحية، ويهيىء لها فرصة للراحة من سعيها فى النهار، حتى تجدد نشاطها، وتستعيد قوتها، لتستقبل السعى والعمل فى يوم جديد، بنشاط متجدد. - وفى قوله تعالى «وَالنَّهارَ مُبْصِراً» إشارة إلى أن ضوء النهار، هو الذي يعطى العيون قدرتها على الإبصار.. ولولا هذا الضوء لما كانت العيون مبصرة، فهو إذن المبصر، لا العيون، لأنه هو سبب أول، وهى سبب ثان.. ولهذا فهو أولى بالذكر منها فى هذا المقام. ومن جهة أخرى فإن الضوء هو الذي ينتقل إلى حدقة العين، ويقع عليها، حاملا معه صورة المرئيات إليها.. تماما كما تقع المرئيات على المرايا. وإذن فالنهار- أي الضوء- هو المبصر، لأنه هو الذي يبصر المرئيات الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1045 قبل العين، ثم ينقلها إليها.. فهو العين التي تكشف هذا الوجود للعيون أولا، ثم تنقله إليها ثانيا. وفى هذا ما يكشف عن بعض قدرة الله كما ينطق بإعجاز كلماته. - وفى قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» إلفات إلى تلك الظواهر المتجلّية من قدرة الله سبحانه.. وأنها آيات دالّة على قدرة الله، وعلى تفرده بالوجود.. وأنه لن يرى هذه الآيات، ولن يتعرف على ما فيها من دلائل على قدرة الله، إلا من ألقى سمعه إلى كلمات الله، ووعى ما تلفته إليه من آيات الله المبثوثة فى هذا الكون الرحيب.. وهذا بعض السرّ فى أن جاءت فاصلة الآية: «لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» بدلا مما يقتضيه ظاهر النظم، وهو أن تكون الفاصلة هكذا: «لقوم يبصرون» وذلك أن كلمات الله، إنما يتلقاها المتلقون عن طريق السّمع، وأن هذه الآيات هى: التي إذا صادفت أذنا واعية، كشفت الطريق إلى الله. قوله تعالى: «قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» . هذا هو ما يقوله المشركون عن الله: «اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً» .. وهو الذي أشار إليه قوله تعالى: «وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ» .. وكأنه بهذا إجابة عن سؤال أو تساؤل هو: ما هذا القول الذي يقوله المشركون فيحزن النبىّ؟ فكان الجواب: «قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً» . وقد تأخر الجواب عن هذا السؤال، فجاء بعد تلك الآيات التي عرضت بعض مظاهر قدرة الله، وأنه سبحانه له العزة جميعا، وأنه جل شأنه، له ملك السموات والأرض ومن فيهن، وأنه سبحانه هو الذي أقام هذا الوجود على ذلك النظام المحكم البديع، فجعل الليل سكنا، وجعل النهار مبصرا.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1046 وكان هذا العرض هو الرد الذي سبق هذه الدعوى الباطلة ليدحضها قبل أن تتلفظ بها الأفواه، وليقتلها فى مهدها قبل أن ترى وجه الحياة. وهكذا الباطل.. إنه شىء منكر، يجب أن يموت بين يدى أهله، حتى لا يقع المكروه منه على أحد غيرهم.. وإن من الحكمة أن يدفع الشر قبل وقوعه، فذلك أهون وأيسر، فى الخلاص من بلواه.. فإذا وقع كان منكرا، يجب على المؤمنين دفعه بكل قوة ممكنة لديهم.. - وفى قوله تعالى: «سبحانه» تنزيه لله، وتمجيد له، واستبعاد لأن يكون له صاحبة أو ولد.. إذ لا يطلب المرء الصاحب أو الولد إلا ليكمل نقصا فيه، والله سبحانه وتعالى، هو الكمال المطلق.. فكيف يكون له ولد، أو تكون له صاحبه؟ «هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» .. «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» . وفى قوله تعالى: «إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» ؟ يجوز أن يكون ذلك على سبيل الاستفهام الإنكارى، والتقدير: أأن عندكم من سلطان بهذا؟ أتقولون على الله ما لا تعلمون؟ ويجوز أن يكون أسلوبا خبريا وتكون «إن» نافية، والتقدير: ما عندكم من سلطان بهذا، أتقولون على الله ما لا تعلمون. والمراد بالسلطان هنا: الحجة والبرهان.. وليس للمشركين على تلك القولة المنكرة من حجة ولا برهان، وإنما حجتهم أوهام وخيالات وظنون. قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1047 فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ» . هو حكم على تلك القولة المنكرة التي قالها المشركون إذ قالوا: «اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً» فهذا القول افتراء وكذب على الله.. وهؤلاء الذين يفترون على الله الكذب، قد ضلّ سعيهم، فهم الخاسرون، فى أي متّجه يتجهون إليه، ولن يفلحوا أبدا.. وما يقع لهم فى هذه الدنيا من زحرفها ومتاعها، هو متاع قليل، وظلّ زائل.. ثم يرجعون إلى الله.. وهناك يلقون جزاء ما كانوا فيه من ضلال، وما افتروه من مفتريات «نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ» فكفرهم بالله، وافتراؤهم على الله، هو الذي أوردهم هذا المورد الوبيل، وألقى بهم فى أفواه الجحيم..َ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» الآيات: (71- 74) [سورة يونس (10) : الآيات 71 الى 74] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1048 التفسير: مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أن ما ذكر فى الآيات السابقة عليها، كان عرضا لمقولات المشركين، المنكرة، فى الله، وافترائهم الكذب على الله بنسبة الولد إليه.. فهم آثمون ظالمون، واقعون فى معرض عذاب الله ونقمته.. فناسب أن يذكّر هؤلاء الآثمون المشركون بما أخذ الله به الظالمين قبلهم من نكال وبلاء. ليكون لهم فى ذلك عبرة، إن كانت فيهم بقية من عقل وإدراك.. قوله تعالى: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ» .. كبر عليكم مقامى: أي شق عليكم احتماله، وأصبح أكبر مما تطيقون.. فضقتم بي ذرعا، وثقل عليكم وجودى بينكم. أجمعوا أمركم: أي اجتمعوا على رأى واحد، فى الموقف الذي تقفونه منّى.. يقال أجمع أمره على كذا، أي قرّ رأيه فيه على قرار، بعد أن كان الرأى فيه مشتتا متفرقا.. يقول الشاعر: أجمعوا أمرهم عشاء فلما ... أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء من مناد ومن مجيب ومن تصهال خيل خلال ذاك رغاء أي أنهم باتوا على نية السفر فى الصباح، وأجمعوا أمرهم عليه. «اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ» : أي وجهوا حكمكم إلىّ، ولا تنظرون، أي لا تؤخروا أخذى بهذا القضاء الذي قضيتموه فى.. ومنه قوله تعالى: «وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66: الحجر) أي وجهنا إليه ذلك الأمر، وأعلمناه به.. وقرئ «افضوا إلى» بالفاء.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1049 أي أقبلوا إلى بما حكمتم به، وأجمعتم أمركم عليه.. - «ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً» الغمة، ما عمّ من الأمر وخفى، ولا يعرف وجهه.. ومنه الغمّة، لما يغتم له الإنسان مما يسوؤه، ومنه الغمام وهو السحاب الذي يكسو وجه السماء، ويظلل الأرض، ويحجب عنها ضوء الشمس. والمعنى: أن نوحا عليه السلام، بعد أن استيأس من قومه، ولم يجد سبيلا إلى إصلاح أمرهم وتقويم زيغهم، بعد أن لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، جاءهم- وقد أجمع أمره على أن يدعهم وما هم فيه، ليلقوا المصير الذي أنذرهم من الله به- جاءهم ليطلب إليهم أن يقولوا كلمتهم الأخيرة الفاصلة فى هذا الموقف، الذي بينهم وبينه.. فقال لهم: «يا قَوْمِ.. إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ» أي إن كنتم قد استثقلتم طول حياتى معكم، وكثرة تذكيرى لكم بآيات الله، ودعوتكم إلى الإيمان به، فأنا منصرف عنكم، متوكلا على الله، معتمدا عليه.. «فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ» أي هاتوا رأيكم الذي تلتقون عنده، أنتم وشركاؤكم الذين تعبدونهم من دون الله.. «ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ» ، ثم أعلمونى بما أجمعتم عليه من أمر. وإن بدا لكم أن ترجمونى.. كما يتهامس بذلك بعضكم، ويتنادى به سفهاؤكم. وهذا ما حكاه القرآن الكريم عنهم فى قوله تعالى: «قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ» (116: الشعراء) - إن بدا لكم ذلك فاجعلوه رأيا واحدا لكم، بعد أن تأخذوا رأى شركائكم، وليكن هذا الرأى واضحا صريحا، لا خفاء فيه، ولا تخافت ولا تهامس.. ثم افعلوا بي بعد هذا ما بدا لكم.. فإنى متوكل على الله، معتصم به.. وقد قدم التوكل على الله قبل أن يدعوهم إلى لقائه، ومواجهته بما يجتمع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1050 عليه رأيهم فيه، وذلك ليتحصّن بهذه الدرع الحصينة، التي لا تنال منها قوى البشر- قبل أن يلقاهم بهذا التحدي.. «فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ.. فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ» ، فهو يلقاهم وقد توكل على الله، وأسلم أمره إليه، وفى هذا ما يقوى عزمه، ويثّبت قدمه عند اللقاء، فلا يجزع، ولا يرهب، إذا هم أخذوه بكل ما عندهم من قوة وكيد! قوله تعالى: «فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» .. هو الكلمة الأخيرة من نوح إلى قومه.. وأنهم إن تولّوا عنه، وأبوا أن يأخذوا منه ما يمد به إليهم يده، فإنه لن يضارّ بهذا، لأنه لم يطلب على ما يقدم لهم أجرا، حتى إذا لم يأخذوه منه، فإنه لا ينال ذلك الأجر.. إنه لا يطلب منهم أجرا، وإنما يأخذ أجره من الله، وهو أجر عظيم، يرجح بكل ما يملكون ومالا يملكون من هذه الدنيا.. إنه ثواب الله، ورحمته ورضوانه: «وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» (32: الزخرف) .. فإن توليتم فهذا شأنكم، ولا سلطان لى عليكم، ولا خير يفوتنى من إعراضكم عنى.. أما أنا فعلى ما أمرنى الله به، وهو أن أكون أول المسلمين، الذين أسلموا وجههم لله، وآمنوا به، وأخلصوا العبادة له وحده. وأوّلية نوح للمسلمين.. هى أولية بالإضافة إلى مجتمعه الذي كان فيه، فهو أولهم إسلاما لله.. إذ كان هو الرسول الذي حمل رسالة الإسلام إليهم، وأول من آمن بها منهم.. قوله تعالى: «فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا.. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ» . تلك هى خاتمة ما بين نوح وقومه.. لقد كذبوه، وتولوا عنه، فوقع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1051 بهم ما أنذرهم به من قبل، وأغرقهم الله بالطوفان، ونجّى نوحا ومن معه، وجعل هؤلاء الذين نجوا، خلائف فى الأرض من بعدهم.. إذ كانوا هم البقية الباقية من هؤلاء القوم الهالكين. وقدم هنا نجاة نوح ومن معه، ووراثتهم الأرض من بعد قومهم الهالكين- قدّم ذلك على هلاك القوم، خلافا للظاهر الذي يقضى به قوله تعالى «فكذبوه» إذ المتوقع هنا هو الإجابة على هذا السؤال: ماذا كان جزاؤهم إذ كذبوه؟ وهذا سؤال يسأله المؤمنون الذين ينتظرون ما يحل بالمكذبين، فكان الجواب المنتظر هو «فأغرقناهم» ولكن الإجابة جاءت على سؤال يسأله الذين يكذبون بآيات الله، ويحادّون رسل الله.. فيقولون: وماذا جرى لنوح والمؤمنين بعد أن كذّبه قومه، وأبعدوه من بينهم؟ فجاء الجواب: لقد نصره الله ومن معه، ونجاهم، وأورثهم أرض القوم المكذبين وديارهم.. فموتوا بغيظكم أيها المكذبون، فإن رسل الله وأولياءهم المنصورون، وهم الفائزون المفلحون.. أما المكذبون فلهم الويل والخزي فى الدنيا والآخرة.. - وفى قوله تعالى: «فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ» إلفات للمؤمنين والمكذبين جميعا، إلى ما حل بهؤلاء المنذرين الذين أنذرهم نوح، وخوفهم عذاب الله ونقمته، فأبوا أن يسمعوا له، وأن يطلبوا النجاة لأنفسهم، وأن يمسكوا بحبل الإيمان بالله، وأن يركبوا فلك النجاة بالاعتصام به.. فهلكوا. وتلك هى عاقبة كل مكذب برسل الله، مجانب لهم، مخالف لدعوتهم التي يدعونهم إليها.. فليسمع مشركو قريش هذا، ولينتظروا ما سيحل بهم إذا هم لم يستجيبوا لرسول الله، ولم يأخذوا معه السبيل إلى الله.. قوله تعالى: «ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ» .. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1052 وليس نوح وحده هو الذي دعا دعوة الحقّ، وحمل رسالة السماء بالهدى والإيمان إلى عباد الله، بل هناك رسل كثيرون، جاءوا إلى أقوامهم بما جاء به نوح.. يحملون آيات بينات من عند الله، ولكن الناس هم الناس، والقوم هم القوم، «فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ» .. فلم يستجيبوا للرسل، ولم يأخذوا بالهدى الذي معهم، ولم يخلوا قلوبهم من الضلال الذي انعقد عليها وسكن فيها.. «كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ» أي نختم عليها، فلا يدخل إليها شعاع من نور الحق، ولا يطلع عليها صبح اليقين.. إنها فى ظلام دامس دائم أبدا.. وفى هذا تهديد لمشركى قريش، إذ هم فى معرض أن يؤخذوا بما أخذ به قوم نوح، فقد طبع الله على قلوبهم مثل ما طبع على قلوب قوم نوح من قبلهم. - وفى قوله تعالى: «فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ» .. إشارتان: الإشارة الأولى: أن هؤلاء المكذبين الضالين لم يكونوا ليؤمنوا أبدا، ولو جاءتهم كل آية.. وهذا هو السر فى اختلاف النظم باستعمال فعل المستقبل، ليؤمنوا، وكان ظاهر النظم يقضى بأن يجىء الفعل ماضيا، هكذا: فما آمنوا، ليتّسق مع قوله تعالى «ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ» فما آمنوا أو فلم يؤمنوا.. ولكن جاء النظم القرآنى: «فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا» ليدل على عدم توقع الإيمان منهم مستقبلا، ثم ليتسع الفعل المضارع لقبول لام الجحود «ليؤمنوا» .. ليؤكد عدم توقع الإمكان منهم بحال أبدا.. والإشارة الثانية: هى فى قوله تعالى: «بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ» .. فالذى كذبوا به من قبل، هو الإيمان بالله، إذ كانوا قبل أن تأتيهم الرسل منكرين لله، مكذبين بوجوده.. وقد انعقدت قلوبهم على هذا، فلم يكن لدعوة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1053 الرسل لهم بالإيمان مجال للعمل فى هذه القلوب المغلقة، التي جمدت على ما انطبع فيها من ضلال وكفر.. وفى هذا تسفيه لأولئك الذين تجمّدوا على أوضاعهم التي هم فيها، ولا يتحولون عنها، ولو كانت ممسكة بهم على مراتع الجهل والضلال، وفى منازل الذلة والهوان.. وليس ذلك شأن الإنسان الذي يحمل فى كيانه عينا تنظر، وأذنا تسمع، وعقلا يدرك، وقلبا يشعر.. إن شأنه دائما يجب أن يكون مستقبلا للحياة لا مدبرا عنها، متعاملا معها، لا مستسلما لها.. فإذا جاءت دعوة جديدة- أيا كانت- لم يكن من الإنصاف لإنسانيته أن يغمض عينيه عنها، ويصم أذنيه دونها، ويحول بين عقله وقلبه أن يتصلا بها، ويتعرفا عليها.. بل إن عليه أن يستمع إلى تلك الدعوة وأن ينظر فى وجهها، فإن كانت دعوة خير استجاب لها، وانتفع بها، وجنى الثمر الطيب منها، وإلّا توقّاها، وأخذ حذره منها.. وبهذا يكون الإنسان دائما فى ميدان الحياة، مشاركا فى معاركها، آخذا بحظه من مغانمها.. أما إن أغلق كيانه على ما هو فيه، فلم يقبل خيرا، أو يدفع شرا، ظل على حال من الطفولة، لا يتحول عنه، وظلت الإنسانية- إن أخذت مأخذه- واقفة حيث هى، لا تتحرك خطوة إلى الإمام. الآيات: (75- 82) [سورة يونس (10) : الآيات 75 الى 82] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1054 التفسير: فى هذه الآيات، وما بعدها، قصة موسى، عليه السلام، وما كان بينه وبين فرعون، الذي يمثّل وجها من وجوه الطغيان والكفر.. وقد جاءه موسى يدعوه إلى الله، ويوجهه إلى ما يزكّيه ويطهره، ويقيمه على طريق الحق والإحسان، بما يقيمه الإيمان فى قلوب المؤمنين من فضائل إنسانية كريمة مشرقة، كما يقول الله تعالى لموسى بما يدعو فرعون إليه: «هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى» .. ولكن فرعون يأبى إلا عنادا وكفرا، وإلا ضلالا وجهلا.. «ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ» .. هذا هو مجمل القضية، وخاتمة المطاف فيها.. بعث الله موسى وهرون إلى فرعون وملائه، وبين أيديهما آيات. بينات من عند الله، فأخذت فرعون العزة بالإثم، واستكبر أن يذعن لتلك الآيات وأن يجعلها داعية الإيمان له ولقومه.. «فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ» .. ثم تجىء الآيات بعد هذا مفصّلة هذا الإجمال.. تفصيلا مجملا أيضا.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1055 حيث كان لهذه القصة أكثر من ذكر فى القرآن الكريم.. فيه بسط وتفصيل لها.. «فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ» .. هذا هو القول الذي استقبل به فرعون وحاشيته آيات الله حين طلعت عليهم: - «إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ» .. قالوا ذلك فى تأكيد قاطع، حتى لكأنهم قد اختبروا هذه الآيات اختبارا علميا محققا، ثم كشف لهم العلم عن تلك الحقيقة وملئوا أيديهم بها، ونزلت من عقولهم منزل اليقين، الذي لا شك فيه: «إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ» .. وهكذا شأن من يكابر فى الحق، ويعانده.. إنه- وقد زلزلت الأرض به، من قوة الحق وصدمته- يحاول جاهدا أن يقوى نفسه، ويمسك وجوده بهذه الكلمات الكاذبة المفضوحة المموهة، بهذا التوكيد القاطع، وهو فى دخيلة نفسه يرجف خوفا، ويضطرب فزعا.. قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ» .. يقول موسى لفرعون منكرا عليه أن يقول فى آيات الله التي طلع بها عليه: «إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ» - يقول له موسى: «أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ؟ .. وهنا مقول القول محذوف.. تقديره أتقولون لهذا الحق الذي جاءكم: «إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ» .. أو أتقولون هذا القول المنكر.. لآيات الله لما جاءتكم؟ .. وقد حذف مقول القول، لأنه قول منكر، يعفّ لسان العاقل عن أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1056 يتلفظ به، ولو كان على سبيل الحكاية.. وإذا كان ناقل الكفر ليس بكافر، فإن حسبه من الشناعة أن يحمل هذا الإثم، ويجريه على لسانه.. كساقى الخمر فإنه، وإن لم يشربها، هو أداة من أدواتها، وإناء من آنيتها.. وقد نزه الله موسى عليه السلام، أن ينطق بما نطق به فرعون، من زور وبهتان! .. وفى تعدية القول إلى المقول «باللام» : «أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ» معدولا به عن التعدية بحرف الجر «عن» ، إذ أنهم لم يقولوا للحق بل قالوا عنه هذا القول- نقول: فى هذه التعدية سرّ من أسرار النظم القرآنى، وإعجاز من إعجازه.. فإذا كان الحق الذي جاء به موسى، حقا واضحا مشرقا، لا لبس فيه، حتى لكأنه كائن عاقل، رشيد، يستغنى عن أن يدل عليه أحد أو يكشف عن وجهه كاشف- إذا كان ذلك كذلك، فقد صح أن ينزل هذا الحق منزلة العقلاء، وأن يوجه إليه الخطاب، وأن ينكر على من يعتدى عليه هذا العدوان.. «أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ» هذا القول المنكر؟ .. فالحق فى إشراقه، وجلاله، وسلطانه، مستغن بنفسه عمن يسنده، ويشدّ أزره، فهو إذ يطلع على الناس، يطلع عليهم كائنا سويا، يتحدث إلى الناس ويتحدثون إليه.. وهذا ما يشير إليه توجيه القول من المكذبين بالحق، إلى الحق: «أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ» كما يشير إليه مجىء الحق إليهم من غير أن يستند فى مجيئه إلى أحد إذ يقول لهم موسى «لَمَّا جاءَكُمْ» .. ولم يقل: «لما جئتكم به» .. - وفى قوله تعالى: «أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ» تعقيب يؤكد به موسى ما أنكره على فرعون من قوله عن آيات الله: «إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1057 وذلك بعد أن أنكر عليه هذا القول بقوله: «أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ؟ ..» وقدم إنكار السحر على الإشارة إليه، لأن المطلوب أولا هو إنكار أن يكون هذا الذي جاء به موسى سحرا.. فهو ينفى السحر أصلا، أن يكون قد وقع فى هذا الموقف الذي كان بين موسى وفرعون، حين طلع عليه بآيات الله.. ثم يحدد بالإشارة هذا الشيء الذي ينفى عنه السحر، وهو آيات الله تلك.. فيقول له: «أَسِحْرٌ هذا؟» ، ولا يقول: أهذا سحر؟ لأن موسى ليس ساحرا، ولا يأتى بسحر أبدا، سواء أكان هذا الذي يشهده منه فرعون الآن أو غير الآن.. - وفى قوله تعالى: «وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ» هو حال من اسم الإشارة المشار به إلى آيات الله.. والمعنى أتقولون عن آيات الله هذه، إنها سحر، وأهل السحر لا يفلحون أبدا.. وفى هذا إشارة إلى أن موسى من المفلحين بما فى يديه من آيات الله، وأنه ينذر فرعون بأنه سيغلب ويهزم، إن هو تصدى لآيات الله تلك. «قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ» . ولا يجيب فرعون على تساؤل موسى وإنكاره لقوله الذي قاله فى آيات الله.. بل يشغب هو والملأ حوله على موسى، ويصيحون فى وجهه: «أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا؟» .. وتلك هى علة الجاهلين، وداء السفهاء والحمقى.. التمسك بالقديم، وعقد القلوب عليه، وإن كان بلاء وشرا.. لأنهم أعفوا عقولهم من النظر والتفكير، ورضوا بما استقر فيها من كل غث وزيف.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1058 - وفى قوله تعالى: «وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ» ما يكشف عن علة أخرى من علل الضالين، وعن داء من أدوائهم، وهو الحرص على ما فى أيديهم من سلطان، ولو باعوا لذلك عقولهم، وأهلكوا فيه أنفسهم.. إنه دفاع عن جاه، ودفع عن سلطان.. لا أكثر ولا أقل.. وفى سبيل هذا يهون عندهم كل شىء، ويصغر كل شىء! - وقوله تعالى: «وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ» هو كلمة القوم التي يحتمون بها من وجه هذا الوافد الجديد، والذي جاء لينازعهم سلطانهم، أو ليستبد به دونهم.. «وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ» .. هى قولة واحدة قاطعة، لا رجوع عنها، ولا بديل منها، ولو جاءهم موسى وهرون بآيات وآيات.. إنهم لن يؤمنوا لموسى وهرون أبدا. «وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ.. إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ» . فى هذه الآيات، ينكشف ما كان يعتمل فى نفس فرعون، من خوف على سلطانه الذي بين يديه، والذي جاء موسى ينازعه إياه، وينزله عنه.. ذلك أنه قد رأى أن الأمر لن ينحسم بينه وبين موسى بهذه الكلمات التي صرخ بها فى وجهه، هو ومن حوله من حاشيته.. فما هذا إلا كلام، لا يكافئ الفعل الذي كان من موسى، حين ألقى عصاه، فكانت ثعبانا مبينا، فزعت له النفوس، واضطربت منه القلوب! وإن الذي ينبغى أن يواجه به هذا الموقف هو أن يحارب موسى بالسلاح الذي جاء يحاربه به، وأن يهزمه فى هذا الميدان الذي التقى معه فيه، وإلا فما زالت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1059 الجولة لموسى.. الأمر الذي تأبى كبرياء فرعون أن تقبله، وأن تبيت عليه.. «وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ» .. فهو ما زال مصرا على أن ما جاء به موسى هو سحر.. وإذن فليلقه بسحر مثله، وليجمع لذلك ما فى دولته من أساتذة السحر وأربابه.. «فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ» .. وهكذا يتحدد الموقف.. وتبدأ المعركة.. ويأخذ السحرة موقف المبادرة.. إذ يفسح موسى لهم المجال، ويدعوهم إلى أن يبدءوا، ويلقوا ما معهم من سحر. «فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ.. إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ» .. ولقد ألقى السحرة ما معهم، فلما رأى موسى ما كشفوا من أسلحتهم، قال: «ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ» .. فذلك هو السحر، لا ما جئتكم به، كما قال فرعون من قبل: «إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ» .! وهنا ينكشف الباطل ويتعرّى، ويبين الزيف وينفضح الضلال.. فلو كان الذي مع موسى هو السحر كما قال فرعون، فإنه لن يكسب المعركة، لأنه يحارب سحرا بسحر.. أما إن كان الذي بين يديه هو الحق فإنه غالب لا محالة.. فما يثبت الباطل للحق أبدا «إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» الذين يتخذون الباطل مركبا يخوضون به فى بحار الحق.. «إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ..» .. «وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ» .. فتلك هى نهاية الصراع بين الحق والباطل.. إن الحق هو كلمة الله، وكلمة الله هى العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.. وإحقاق الله للحق، هو فى انتصار الحق، وتمكّنه، وإجلاء الباطل من مواقعه.. «فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» . - وفى قوله تعالى: «وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ» - إشارة إلى أن الحق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1060 مستند إلى قوة غالبة، لا تهزم أبدا هى قوة الله سبحانه. وأنه مؤيد بتلك القوة، مستند إليها.. فقوله تعالى: «بكلماته» متعلق بقوله سبحانه: «يحقّ» .. أي أنه سبحانه ينصر الحق بكلماته، وكلماته هى القوى العاملة فى هذا الوجود. المتصرفة فيه، كما يقول سبحانه: «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ» (171: النساء) .. وكما يقول جل شأنه: «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (40: النحل) . الآيات: (83- 86) [سورة يونس (10) : الآيات 83 الى 86] فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) التفسير: قوله تعالى: «فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ» . اختلف فى العائد عليه الضمير فى قوله تعالى «مِنْ قَوْمِهِ» .، وهل يعود على قوم موسى، أو قوم فرعون؟ كما اختلف فى العائد عليه الضمير فى «ملائهم» أهم الملأ من قوم موسى، أو الملأ من قوم فرعون؟ وينبنى على هذا الاختلاف، اختلاف فى الذرية الذين آمنوا لموسى، واستجابوا لدعوته.. أهم من ذرية بنى إسرائيل أم هم من ذرية المصريين؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1061 والذي نراه- والله أعلم- أن هؤلاء الذرية هم من أبناء المصريين، ويرجّح هذا عندنا أمور، منها: أولا: أن بنى إسرائيل كانوا قبل موسى مؤمنين بالله، على دين آبائهم إبراهيم، وإسحق، ويعقوب، ويوسف.. فهم ذرية أبناء يعقوب «الأسباط» الاثني عشر، وكانت رسالة موسى هى أن يخلصهم من يد فرعون، ومما كانوا يلقون من هوان وذلّ. كما يقول الله تعالى لموسى وهرون: «فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ» (47: طه) . ثانيا: أن بنى إسرائيل كانوا مع موسى جميعا، فاستجابوا له، وخرجوا من مصر معه.. فلم يكن بينه وبينهم خلاف، حتى خرج بهم من مصر. - وقوله تعالى: «فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ» يعنى أن الذين آمنوا له كانوا بعضا من القوم، بل ومن ذرية القوم.. وهذا يعنى أن قلة قليلة تلك التي آمنت لموسى، من هؤلاء القوم.. وهذا لا يمكن أن يحمل على قوم موسى الذين كانوا جميعا معه.. ثالثا: يذكر القرآن الكريم أن أناسا من المصريين قد استجابوا لموسى، وآمنوا بالله، ومنهم السحرة، الذين يقول القرآن عنهم: «قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ» (121- 126: الأعراف) . رابعا: يذكر القرآن أنه قام من بين المصريين ممن آمن بالله على يد موسى- قام من يبشّر بالدعوة إلى الله، ويدعو إلى الإيمان به.. وقد سمّيت فى القرآن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1062 سورة باسمه هى سورة «المؤمن» وتسمّى «غافر» كذلك.. وفيها يقول الله تعالى: «وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ، وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ» (الآية: 28) .. وفى هذه السورة أيضا جاء قوله تعالى على لسان هذا الرجل المؤمن من آل فرعون: «يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا» (الآية: 29) وفى هذه السورة كذلك جاء قوله تعالى على لسان هذا الرجل المؤمن من آل فرعون: «وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا» (الآية: 34) وقوله سبحانه أيضا: «وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ» (الآية: 38) . إذن فقد كان من المصريين مؤمنون، وكان منهم دعاة من هؤلاء المؤمنين يدعون إلى الإيمان بالله.. ولكن فى حذر، وخفية.. خوفا من فرعون أن يبطش بهم.. وعلى هذا فالضمير فى «ملائهم» يعود إلى ملأ المصريين الذين آمنوا، وأنهم كانوا يخافون من فرعون، ومن قومهم أيضا. وملاحظة هنا نحب أن نشير إليها، وهو أن الذين آمنوا لموسى، واستجابوا له كانوا «ذرية» أي من الذرية، وهم الأبناء، لا الآباء، وهذا يعنى أن الشبان هم أقرب من غيرهم إلى تقبّل الجديد، والأخذ به، سواء كان من ماديات الحياة أو معنوياتها.. وهذا يعنى أيضا أن تحركات الأمم نحو التجديد تكون إلى يد الشبان.. أما الشيوخ فقلّ أن يستجيبوا لجديد يدعون إليه.. إذ أن طول إلفهم لما هم فيه من عادات، وتقاليد، ومعتقدات، قد شدّهم إلى ما هم فيه، وربطهم به، فكان فكاكهم منه عسيرا شاقا.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1063 ونجد هذا فى الدعوة الإسلامية.. فقد كان المستجيبون لها، والسابقون إلى الإيمان بالله، هم من كانوا فى مرحلة الشباب، لم يخرجوا منها بعد إلى مرحلة الشيخوخة.. كأبى بكر، وعمر، وعثمان، وعلىّ، وطلحة، والزبير، وأبى عبيدة، فهؤلاء كانوا أسبق الناس إلى الإسلام، وقد خلفوا النبي، وعاشوا سنين بعده! - ومعنى قوله تعالى: «عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ» أي يضطهدهم، ويعذهم، ويعرضهم بهذا العذاب لأن يفتنوا فى دينهم. - وفى قوله تعالى: «وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ» إشارة إلى علوّ سلطانه، وأنه سلطان قائم على تراب هذه الأرض.. فهو سلطان- وإن علا- لن يبلغ أن يكون جبلا من جبال هذه الأرض، أو تلّا من تلالها: إنه بناء من تراب، على تراب! - وفى قوله سبحانه: «وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ» إشارة أخرى إلى إسرافه على نفسه، ومجاوزة الحدّ بها فى الظلم والجبروت. «وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ» بهذه الدعوة، وأمثالها، كان يثبّت موسى قومه، ويصبرهم على ما هم فيه من بلاء، وأن يجعلوا لله أمرهم، ويسلموا له قيادهم، وألا يأبهوا لما يأخذهم به فرعون من أذى وضرّ.. وهنا سؤال: كيف يقول لهم موسى: «إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ» ولم يقل إن كنتم مؤمنين، مع أن الإيمان درجة فوق درجة الإسلام.. فالإسلام باللسان، والإيمان بالقلب.. ولهذا ردّ الله إيمان الأعراب، الذين قالوا آمنا.. فقال تعالى «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ» (14: الحجرات) .. فكيف هذا؟ .. ثم إن النظم كان يقضى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1064 بأن يذكر الإيمان بدل الإسلام. إذ كان الشرط مبنيّا على الإيمان، كما يقول سبحانه على لسان موسى: «يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ» فكان مقتضى النظم أن يكون الجواب: فعليه توكلوا إن كنتم مؤمنين.. كيف هذا أيضا؟ والجواب: أن القوم كانوا على درجات فى الإيمان، فمنهم المسلم المؤمن، ومنهم المسلم، غير المؤمن.. وحين أراد موسى أن يأخذ اعترافهم فى صلتهم بالله، جعل هذا الاعتراف قائما على «الإيمان» : «إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ» .. حتى ينظر كل منهم إلى نفسه، ويتعرف إلى حقيقة إيمانه، لأن المطلوب منه هو أن يكون مؤمنا.. وهنا يدعوهم موسى جميعا إلى التوكل على الله، إن كانوا مسلمين، فمن كان منهم مسلما إسلاما خالصا، فهو مؤمن.. وإذن فهم مسلمون، قبل أن يكونوا مؤمنين، وبالإسلام الخالص، يكونون مؤمنين.. فقول موسى عليه السلام: «إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ» دعوة منه إلى أن يبرأ إسلامهم لله من النفاق والمداهنة.. فهو يريدهم مسلمين أوّلا، يقوم إسلامهم على اقتناع عقل، واطمئنان قلب، وإخلاص نية.. وهذا هو الإيمان.. «فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» .. بهذا الجواب أجاب القوم موسى إلى ما طلبه منهم، من التوكل على الله.. «فَقالُوا: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا» فلا متوجه لنا إلى غير الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1065 - وفى قولهم: «رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» دعاء منهم إلى الله ألا يعرّضهم للبلاء والضرّ على يد الطغاة الظالمين، حتى لا يكون فى ذلك ما يفتنهم عن دينهم، ويفتن الظالمين بهم أيضا، فيؤخذوا بجنايتهم على هؤلاء المظلومين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً» (20: الفرقان) .. الآيات: (87- 89) [سورة يونس (10) : الآيات 87 الى 89] وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) التفسير: «وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ، أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» البيوت هنا: هى بيوت العبادة، لا بيوت السّكنى.. والتّبوّء: يقال تبوأ المكان أي اتخذه مباءة له وسكنا، وهو من البوء، بمعنى الرجوع.. يقال: باء يبوء، أي رجع، وسمى المنزل مباءة، لأنه المرجع الذي يرجع إليه الإنسان آخر مطافه.. فقد أوحى الله سبحانه وتعالى، إلى موسى وهرون، أن يدعوا قومهما إلى اتخاذ بيوت لعبادة الله.. يجعلونها خاصة لعبادته، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1066 فلا يدخل فيها ما يدخل فى بيوت السكنى من لهو وعبث.. ذلك أن للمكان أثره فى إثارة المشاعر الطيبة والخبيثة.. فإن كان المكان طيبا أشاع فى النفس السكينة والرضا، وملأ القلب جلالا وخشوعا، وعلى عكس هذا ما يكون من المكان الخبيث. روى أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه، نام وهو فى غزوة تبوك حتى طلعت عليه الشمس، ولم يدرك صلاة الصبح حتى طلعت الشمس.. فلما استيقظ قال لبلال: «ألم أقل يا بلال.. اكلأ لنا الفجر؟ فقال يا رسول الله ذهب بي من النوم مثل الذي ذهب بك!! فانتقل النبي من ذلك المكان غير بعيد.. ثم صلّى» فقد كره صلى الله عليه وسلم أن يصلى فى مكان أجلب عليه النوم، وفوّت عليه الصلاة فى وقتها، فاعتزله كما يعتزل الإنسان إخوان السوء.. - وفى قوله تعالى: «وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً» إشارة إلى أن يكون متوجه الصلاة فى هذه البيوت إلى القبلة، وهى الكعبة كما يقول بذلك كثير من المفسرين.. ولكنا نخالف هذا الرأى، ولنا على مخالفتنا إياه أكثر من دليل: فأولا: القبلة فى اللغة ليس معناها الكعبة.. وإنما هى بمعنى الوجهة، أو الاتجاه، الذي يتجه إليه الإنسان.. وهى مشتقة من الاستقبال، لأن الإنسان فى توجهه إلى الله يستقبل الرحمة والمغفرة والرضوان.. وثانيا: فى قوله تعالى للرسول الكريم: «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها» فتنكير القبلة هنا دليل على أنها واحدة من كثير غيرها.. ولهذا أيضا وصفها الله سبحانه وتعالى بقوله: «تَرْضاها» وقد كان متّجه النبي صلى الله عليه وسلم قبل، ذلك، وقبلته، هو بيت المقدس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1067 والمراد بجعل بيوتهم قبلة، هو أن يجعلوا متوجّههم إليها حين يريدون الصلاة فيها، فتكون مقصدا لكل من يريد الصلاة منهم.. قوله تعالى: «وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا.. رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ.. رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» .. العطف هنا «وَقالَ مُوسى» هو عطف على قوله تعالى: «وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ» إذ كان معنى الوحى «القول» .. أي قال الله لموسى وأخيه هرون تبوّءا لقومكما بمصر بيوتا.. وقال موسى ربنا.. فهو عطف قول على قول.. - وفى قوله تعالى: «رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ» .. يرى أكثر المفسرين أن هذا دعاء من موسى على فرعون.. وقد تكلّفوا لهذا التخريج والتأويل، حتى يخرجوا بلام التعليل عن معناها إلى المعنى الذي أرادوه لها.. واللام هنا لام تعليل- كما هو ظاهر- وأن قول موسى: «رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ» هو علة لما طلبه موسى بعد هذا من ربه، وهو قوله: «رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ» .. والطمس على أموالهم، هو ذهلبها من أيديهم، وغروبها عن أعينهم، والشدّ على قلوبهم، هو الختم عليها وربطها ربطا محكما، على ما انعقد فيها من كفر وضلال، فلا تقبل خيرا أبدا.. ويكون معنى الآية هكذا: ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا فى الحياة الدّنيا فكفروا بنعمتك، وحاربوك بها، وكانت تلك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1068 الأموال سببا فى عتوّهم وضلالهم «رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ» .. فيكون سلب هذه النعم، وذهاب هذه الأموال من أيديهم، ضربا من العقاب المعجل لهم، يأخذ الله به الظالمين والضالين، الذين يكفرون بالله ورسله، فيمطرهم حجارة، أو يرسل عليهم صاعقة من السماء، أو يغرقهم.. وبهذا الذي ينزل بفرعون وملائه، من سلب النعم، وذهاب الأموال، يكون العقاب الذي يذلّ كبرياءه، ويذهب بسلطانه، ويريه سوء عمله فى الدنيا، ثم لا يكون له منه عبرة وعظة، تفتح قلبه إلى الله، وإلى الإيمان به بعد أن ختم الله على قلبه، بل إنه سيمضى على طريق الضلال والكفر هو ومن معه، حتى يروا العذاب الأليم، عذاب يوم القيامة «فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم..» . وهذه الصورة التي يصورها القرآن الكريم لمن يطغيهم الغنى، ويفتنهم الجاه والسلطان، ويفسد عليهم تفكيرهم، ويطمس على أبصارهم وبصائرهم- هذه الصورة تقابلها صورة أخرى للمال، حين يقع فى يد من يؤمن بالله، ويلتزم حدوده، إذ المال هنا، قوة تعين على قضاء حقوق الله، وأداء ما افترض على عباده من عبادات وطاعات.. يقول الله سبحانه وتعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: «ربنا إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون» (37: إبراهيم) .. هذا، ويلاحظ ما بين النظم القرآنى فى الصورتين من اتفاق فى الأسلوب الذي جاء عليه النظم هنا وهناك.. وذلك واضح لا يحتاج إلى بيان.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1069 «قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» . هذا إعلام من الله سبحانه وتعالى لموسى وهرون، بأن الله- سبحانه- قد استجاب لهما ما دعواه به، فى أمر فرعون وملائه.. وقد ذكر القرآن الكريم فى أكثر من موضع منه، ما أخذ الله به فرعون وآله من بأساء وضراء.. فقال تعالى: «وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» (130: الأعراف) .. وقال سبحانه: «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ» (133. الأعراف) . - وفى قوله تعالى: «فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» إشارة إلى ما ينبغى أن يكون لهما من عبرة وعظة، فيما وقع لفرعون وملائه، وأن عليهما أن يستقيما على طريقهما المستقيم، وأن يحتملا فى سبيل الله كل ما يعرض لهما من ضر وأذى، فقد رأيا بأعينهما كيف كان عاقبة المنحرفين، الذين لا يقفون عند عبرة، ولا ينتفعون بموعظة.. إذ غطّى الجهل على أبصارهم، وران الضلال على قلوبهم، فهم لا يعلمون، ولا ينتفعون بعلم العالمين.. الآيات: (90- 92) [سورة يونس (10) : الآيات 90 الى 92] وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1070 التفسير: جاز الوادي، والنهر: أي قطعه، وبلغ جانبه الآخر.. وجاوزه: أي بعد عنه بعد أن جازه.. وتجاوز عن فعلة فلان: أي غفرها له، وتخطاها، ولم يحاسبه عليها.. العدو: العدوان والتعدّى والظلم. «وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» . العطف هنا فى قوله تعالى «وَجاوَزْنا» يدل على معطوف عليه، محذوف، إذ جاء ذكره فى مواضع أخرى من القرآن الكريم، عند عرض جوانب من تلك القصة.. وهو خروج موسى ببني إسرائيل من مصر ليلا، وخروج فرعون بجنوده وراءهم ومداناته لهم وهم فى مواجهة البحر، ثم اضطرابهم وحيرتهم وهم بين فرعون وبين البحر، ثم ضرب موسى بعصاه البحر، وانفلاق البحر، وكشفه عن طريق يبس لهم، وركوبهم هذا الطريق حتى بلغوا العدوة الأخرى منه.. ثم مجىء فرعون، وركوب هذا الطريق.. ومع هذا الإيجاز الذي أجملت فيه الآية الكريمة كل هذه الأحداث وطوتها، فإن الذي أمسكت به الآية من عناصر القصة، هو الوجه البارز منها، والملامح المميزة لها.. فهؤلاء هم بنو إسرائيل يجاوزون البحر.. وهذا هو فرعون وجنوده يلاحقونهم، ويريدون أن يمسكوا بهم قبل أن يفلتوا.. ثم إذ يرى فرعون طريقا يبسا فى البحر لا يتوقف، ولا يسأل نفسه: كيف كان هذا الطريق؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1071 وهل هناك قوة بشرية قادرة على أن تشقه هكذا بين الأمواج المتلاطمة؟ إنه لو توقف قليلا وتدبّر الأمر لعلم أنه أمام معجزة قاهرة، وأن عليه أن يراجع نفسه، وأن يؤمن بالله الذي يدعوه موسى إلى الإيمان به.. ولكنه يمضى فيركب هذا الطريق، غير ملتفت إلى شىء، إلا النقمة من بنى إسرائيل، الذين هربوا بليل، وخرجوا عن سلطانه، وأفلتوا من يده.. ثم هاهو ذا البحر يطبق عليه، ويدركه الغرق، ويطل عليه شبح الموت، فيصرخ من أعماقه طالبا الغوث والنجاة.. ثم تخطر له خاطرة يرى فى التعلق بها نجاته من هذا الموت المحقق.. إن بنى إسرائيل قد ركبوا هذا الطريق، فوصل بهم إلى شاطىء النجاة، وإن الذي فعل بهم هذا هو إلههم الذي آمنوا به، وأنه لو آمن بهذا الإله لنجّاه كما نجاهم.. هكذا فكّر وقدّر وهو فى هذا البلاء: «حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» لقد تخلّى عن آلهته التي كان يعبدها، إذ تخلت هى عنه فى هذه الشدة، وإنه ليؤمن بالإله الذي آمنت به بنو إسرائيل.. إنه الإله الحق، وكل آلهة غيره باطل وضلال..! هكذا يقول.. وهكذا يلقى الجواب: «آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» ؟. الاستفهام هنا إنكارى، ينكر على فرعون هذه الدعوى، وأن إيمانه بالله غير مقبول منه، إذ جاء وقد بلغت الروح الحلقوم، وأشرفت به على العالم الآخر، فرأى الحق عيانا.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» (18: النساء) . لقد آمن فرعون، ولكنه إيمان المضطر المكره، وإنه «لا إِكْراهَ فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1072 الدِّينِ» ، ولا حساب لمثل هذا الإيمان.. وقد كان هذا الإيمان الباطل، هو الذي طلبه موسى لفرعون من ربه فى قوله: «فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» . وقد آمن فرعون، وآمن معه كثيرون من الغرقى من قومه، وذلك بعد أن رأوا العذاب الأليم الذي ينتظرهم يوم الحساب! فكان إيمانهم هذا لغوا باطلا. «فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ» . الخطاب هنا لفرعون، وهو يعالج سكرات الموت، أو وهو ميت، إذ هو حىّ يسمع ويبصر كل شىء يجرى فى هذه الدنيا.. وقد تحدث الرسول صلوات الله وسلامه عليه.. إلى قتلى المشركين فى بدر، وهم فى القليب، فسأله أصحابه: أيسمع الموتى؟ فقال صلوات الله وسلامه عليه: «ما أنتم بأسمع منهم فى قبورهم» ! ونجاة فرعون ببدنه، وإلقاء البحر له جثّة هامدة متعفنة على الشاطئ، فيه عبرة لمعتبر.. فهذا الإنسان الذي كان يملأ الأرض بغيا وعدوانا، ويقول فى الناس: «يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» (38: القصص) ويقول: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» (24: النازعات) . هذا الإنسان قد صار فى لحظات جثة هامدة، وكوما من لحم بارد! فأين ملكه؟ وأين سلطانه؟ وأين بطشه وجبروته؟ لقد ذهب كل ذلك عنه، وتعرّى من كل شىء كان بين يديه! «وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ» . «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ» . فهذه يد القدرة القادرة، تحفظ موسى وليدا، وتحمله على اليمّ رضيعا، ثم تضعه على الشاطئ، كما تضع الأم وليدها، وهو يشق طريقه إلى الحياة.. فتتلقفه القابلة، وتصلح من شأنه، وتهيئ له أسباب الحياة فى عالمه الجديد.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1073 ثم هذه يد القدرة القادرة، تدفع بفرعون إلى اليم، وتميته فيه غرقا، وتدفنه فى أعماقه، ثم تلقى به إلى الشاطئ، جثة باردة متآكلة متعفنة..! وهكذا يلتقى ميلاد موسى بهلاك فرعون، كما يلتقى الحق بالباطل، والنور بالظلام! الآيات: (93- 95) [سورة يونس (10) : الآيات 93 الى 95] وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) التفسير: المبوّأ: المنزل، الذي يبوء إليه الإنسان، أي يرجع إليه بعد مطافه للسعى وراء رزقه.. والآية تتحدث عن نعمة الله على بنى إسرائيل، بعد أن نجّاهم من فرعون، وأطلقهم من يده، وأخرجهم من منزل الهوان والذلة، إلى دار أمن، وسلام، واطمئنان.. فملكوا أمر أنفسهم، وعرفوا طعم الحرية، وتنسموا ريحها الطيب.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1074 العلم وأسلوب تحصيله - وفى قوله تعالى: «فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ» . اختلف المفسرون فى هذا المقطع من الآية الكريمة.. فى العلم الذي جاء إلى بنى إسرائيل، وفى الاختلاف الذي وقع بينهم.. فذهب بعضهم إلى أن العلم الذي جاءهم، وأوقع الاختلاف بينهم، هو التوراة.. ويعلّلون لهذا بأنهم كانوا قبل ذلك على حال واحدة من الضلال، فلما جاءتهم التوراة، اختلفوا، فمنهم من آمن، ومنهم من كفر.. وذهب آخرون إلى أن «العلم» هو النبي صلى الله عليه وسلم، وما عرفوا من صفته فى التوراة، وأنهم كانوا على اتفاق بأن نبيا قد يظهر من العرب، وأن زمانه قد أظلّهم، فلما جاءهم ما عرفوا، تفرق رأيهم فيه واختلفوا: فكفر به أكثرهم، وآمن به قليل منهم.. والرأى عندنا.. أن يكون المراد بالعلم، هو العلم على إطلاقه.. ذلك أن العلم، وهو نعمة من نعم الله، وهدى من هداه، من شأنه أن يكون مصدر خير وهدى للناس، ولكنه- شأنه شأن كل نعمة- كثيرا ما يكون سببا فى الخلاف والتفرق.. الخلاف فى الرأى، والتفرق شيعا وأحزابا، تبعا للاختلاف فى الرأى.. وتلك حقيقة واقعة فى ماديات الحياة ومعنوياتها.. المجتمعات الفقيرة، التي تعيش على فطرتها وطبيعتها، مجتمعات متوحدة المشاعر والعواطف، متماسكة البناء.. ليس فيها طبقات ولا شيع ولا أحزاب.. كلها لون واحد، وصبغة واحدة.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1075 فإذا كثر رزقها، وفاض الخير فيها، وقع التمزق، وانحلّت الروابط، وتمايز الناس طبقات، بعضها فوق بعض، وأصبح الجسد الاجتماعى أشلاء ممزقة.. كل عضو فيه منفصل عن بقية الجسد.. فهنا عيون الناس، وهناك رءوسهم.. وهنالك أيديهم.. وأرجلهم! والعلم، شأنه كهذا الشأن.. العلماء والحكماء والفلاسفة فى واد، والجهلة والعامّة فى واد.. هؤلاء فى عالم وأولئك فى عالم آخر.. ثم العلماء والحكماء والفلاسفة.. كل له رأيه، وعلمه وحكمته، وفلسفته.. كل له متجه فى تفكيره، وفى نظره إلى الوجود، وقربه، وبعده من الحقيقة.. «كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» . وبنو إسرائيل ليسوا وحدهم هم الذين يثير «العلم» خلافا بينهم، ويجعلهم أحزابا وشيعا.. بل هذا هو شأن الناس جميعا- كما قلنا- وإذن فالسؤال الوارد هنا هو: لماذا اختصّ بنو إسرائيل بالذّكر هنا، وعرضوا فى معرض اللوم والتقريع؟ والجواب على هذا، هو أن ذلك تحذير للمسلمين من الخلاف الذي يجيئهم من واردات العلم، كما اختلف الذين من قبلهم من بعد ما جاءهم العلم. وقد نبه النبي الكريم فى هذا، وحذر منه.. فقال صلوات الله وسلامه عليه: «لتتّبعنّ سنن الذين من قبلكم شيرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لا تبعتموهم» . ويقول النبي الكريم أيضا؟ وقد تنبأ بهذا الخلاف «اختلف اليهود الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1076 على ثلاث وسبعين فرقة، واختلف النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتختلف أمتى على إحدى وسبعين فرقة.. كلها فى النار إلا فرقة واحدة، قالوا يا رسول الله: من هى؟ قال: ما عليه أنا وأصحابى» . وقد صدق الله العظيم، وصدق رسوله الكريم.. فما أن ورد المسلمون موارد العلم، وأخذوا بحظهم من الحكمة والفلسفة والمنطق وغيرها، حتى أجلبوا بكل هذا الذي أخذوه، إلى كتاب الله، وخرّجوا آياته عليه، فوقع بينهم هذا الخلاف الذي عرفته الحياة، وسجله التاريخ.. فقالوا بالجبر والاختيار، وقالوا بالتنزيه والتجسيد، وقالوا بخلق القرآن، وبقدم القرآن، وقالوا بإمكان رؤية الله، وبعدم إمكان الرؤية.. وهكذا كان لهم فى كل مسألة آراء، ينقض بعضها بعضا.. وكانوا فرقا بلغت إحدى وسبعين فرقة، كما قال الرسول الكريم.. ولكن هنا سؤال أيضا: كيف يتفق هذا، ودعوة الإسلام إلى العلم، وطلبه طلبا مفروضا فى بعض الأحيان، ومندوبا إليه فى بعض الأحيان الأخرى؟ وكيف يتفق هذا وقد رفع الإسلام من قدر العلماء، ونوّه بهم فى أكثر من موضع من القرآن الكريم، وفى أكثر من حديث من أحاديث الرسول؟ والجواب على هذا، هو أن دعوة القرآن إلى العلم وطلبه، والجدّ فى تحصيله لا يمنع من التحذير منه.. فهو سلاح ذو حدين.. إن لم يكن مع العلم تقوى وخشية من الله، قتل به صاحبه نفسه، وقتل كثيرا من الناس به.. والخلاف فى الرأى- إذا تجرد من الهوى- خلاف لا ينكره الإسلام بل يزكّيه، لأنه اجتهاد فى طلب الحقيقة، وتقليب للنظر فى التماسها، وتعاون بين المختلفين على الوصول إليها.. يحيئون إليها من طرق شتّى، وقد يلتقون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1077 عندها، وقد لا يلتقون، ولكنهم جميعا ينشدونها، ويباركون من يدلّهم عليها، ويحمدون له اجتهاده وسبقه.. وقد اختلف صحابة رسول الله فيما بينهم على كثير من المسائل.. ولكن هذا الاختلاف، كان تمحيصا للرأى، وطلبا للحق، وبلوغا بالقلب والعقل إلى مقام اليقين والاطمئنان.. فهذا هو العلم الذي يدعو إليه الإسلام، ويبارك على أهله، ويفتح لأبصارهم وبصائرهم صفحات الكون كله، ينظرون فيها نظرا مطلقا غير مقيد بقيد.. وغاية ما يطلبه الإسلام من العالم هنا، هو أن يطوّف ما يطوف فى آفاق العلم، ومعه إيمانه وتقواه.. ثم يعود آخر المطاف، ومعه إيمانه وتقواه. - وفى قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» - إشارة إلى أن هذا الخلاف الذي وقع بينهم، سواء كان عن طلب حقّ وهدى، أو كان جريا وراء هوى ومكر بالناس، فإن الله يعلم المحقّ من المبطل، وسيجزى كلّا بما انعقدت عليه نيته.. قوله تعالى: «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ.. لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ» . لم يكن الرسول صلوات الله وسلامه عليه فى شكّ مما أنزل عليه من ربه، ولم يكن يطوف به أي طائف من الشكّ أو الامتراء، أو التكذيب.. وكيف وهو يرى ملكوت السماء عيانا؟ وكيف وقد ثبّت الله قلبه، وأخلاه من كل وسواس؟. وهل يشك صاحب الرسالة فى رسالة تلقّاها من ربه، وأقرأه إياها ملك كريم من ملائكته.. يغدو ويروح إليه أياما، وشهورا، وسنين، وكيف يكون منه أثارة من شك أو تكذيب؟ وهو الذي احتمل فى سبيل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1078 رسالته تلك ما لا تحتمل الجبال من ضر وأذى؟ أيكون من شكّ أو تكذيب، ممن يساوم على هذا الذي بين يديه بالمال والسلطان، فيقول: «والله لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر أو أهلك فيه ما تركته!» .. وإذن فما تأويل ما نجد فى الآيتين الكريمتين، من هذا الحديث الموجّه إلى النبي الكريم من ربه سبحانه وتعالى، من التحذير من أن يكون من الممترين أو من المكذبين؟ .. والجواب- والله أعلم- أن ذلك تعريض بأولئك الذين يكذبون بآيات الله ويمترون فيها، من المشركين، وأهل الكتاب، ثم هو تهديد لهم، ووعيد بالخيبة والخسران، إن هم لم يبادروا ويأخذوا بحظهم من هذا الخير المرسل من الله، إلى عباد الله! .. ومن جهة أخرى، فإن خطاب النبي من ربه هذا الخطاب، يضع النبي- صلوات الله وسلامه عليه- بضعه والناس جميعا على سواء بالنسبة للقرآن الكريم، وأنه ليس له فيه شىء.. إنه من عند الله، ومن كلام الله، وليس من كلام النبي، ولا من كلام أحد من البشر، وإنه علم يحمل إلى الناس فى آيات الله وكلماته. وأنه إذا كان للناس أن يشكّوا فى هذا العلم ويضعوه موضع الاختبار فليشكّوا، وانه إذا كان لهم أن يختلفوا على معطيانه فيما بينهم فليختلفوا- ولكن على شريطة أن يكون ذلك فى سبيل الاهتداء إلى الحق والتعرف على ما يملأ العقل نورا به، والقلب اطمئنانا وسكنا إليه.. وإلا فهو اختلاف يفرّق ولا يجمع، ويضر ولا ينفع، كاختلاف بنى إسرائيل حين جاءهم العلم.. وإذن، فالنبى- صلوات الله وسلامه عليه، والناس جميعا- هم على سواء أمام تلك الحقيقة العليا، المنزلة من السماء.. ينظرون فيها، ويتعرفون وجه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1079 الحق منها، وأنه يمكن فرضا- وإن كان مستحيلا واقعا- أن يشكّ النبي فى هذا القرآن، وأن يلقى نظرة فاحصة عليه، ليتثبّت من الحقائق التي يدعى إلى الإيمان بها.. وهذا حق مشروع له، كإنسان، قبل ألا يكون نبيا.. وفى هذا- كما قلنا- ردّ مفحم على المشركين والكافرين الذين يدّعون أن هذا القرآن من عند محمد، ومن مقولاته.. إذ مستحيل فرضا وواقعا أن يشكّ إنسان فى قول صدر منه، أو يمترى ويكذّب بقول، يعرضه على الناس، ويدعوهم إلى التصديق به!! - وفى قوله تعالى: «فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ» .. هو دعوة لأهل الكتاب أن ينظروا فى هذا الكتاب العجيب، الذي يشكّ فيه صاحبه، وواضعه، كما يزعمون! .. إن ذلك إغراء لهم بدراسة هذا الكتاب وتفحّصه، إذا كان كتابا شأن صاحبه معه، هو هذا الشأن. ولا تطلب الدعوة الإسلامية إليهم وإلى غيرهم من المنكرين المكذبين أكثر من أن ينظروا فى هذا الكتاب نظر تفحص، وإمعان.. وإنهم لو فعلوا، لعرفوا أنه الحق من ربهم.. وأنه إذا كان هذا الكتاب منزّلا على محمد، هو منزل إليهم أيضا.. كما يقول الله تبارك وتعالى: «قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ..» (136: البقرة) ومن جهة ثالثة، فإننا إذ نقرأ قوله تعالى، للنبى الكريم: «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ» - نلمح فى وجه الآية الكريمة دعوة إلى البحث والنظر، وتقليب حقائق الأمور، وعرضها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1080 على العقل، ووزنها بميزانه، قبل الأخذ بها، وألّا يقبلها قبول استسلام وإذعان من غير اقتناع قائم على الدراسة والتأمل، ومهما كانت ثقة الإنسان فى مصدرها، فإن هذا لا يحرم العقل حقه من النظر فيها، نظر بحث وتفحص! .. إن الشك- كما يقولون- هو أول مراتب اليقين.. والمراد بالشك هنا هو الشك المثمر، الذي يلقّح العقل بلقاح حب المعرفة والبحث عن الحقيقة، وارتياد مظانّها، وكشف وجهها سافرا مشرقا.. فهذا شك ولود للمعارف، يضع بين يدى صاحبه محصولا وافرا من العلم الراسخ، والحقائق الموثّقة.. أما الشك الذي يصدر عن وسواس ووهم، فهو داء، يقيم صاحبه دائما على عداء مع كل حقيقة واردة، أو علم مستحدث.. وهذا هو الشك الذي ينكره العلم، كما يبغضه الدين، ويبغض أهله.. الشك الذي تتحدث عنه الآية الكريمة فى قوله تعالى: «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ» هو الشك الذي يدعو العقل إلى البحث الجادّ، والنظر المدقق فى الحقيقة التي بين يديه، فلا يهدأ، ولا يستقر حتى يقع من الحقيقة على ما يملأ عقله وقلبه يقينا بها، واطمئنانا إليها.. ولقد جاء قوله تعالى بعد ذلك: «فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ» .. ثم جاء قوله تعالى بعد هذا.: «لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» تثبيتا لهذا اليقين الذي يقع فى القلب من النظر فى آيات الله.. ثم جاء بعد ذلك قوله تعالى: «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ» دعوة إلى تجنب الامتراء والجدل فى البحث عن الحقيقة.. فإن هذا الامتراء هو الآفة التي تمسك يد الإنسان عن أن تصل إلى حقيقة أبدا.. ثم جاء بعد ذلك قوله تعالى: «وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ» دعوة أخرى إلى تجنب التكذيب بالحقيقة حين يسفر وجهها.. فذلك من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1081 شأنه أن يحرم الإنسان ثمرة بحثه عنها، وسعيه من أجل الحصول عليها.. وفى ذلك خسران أىّ خسران.. فمراحل البحث عن الحقيقة، كما تصورها الآيتان الكريمتان.. هى ثلاث مراحل: مرحلة الشك.. وفيها يتجه المرء بوجوده كله، إدراكا، وشعورا، ونيّة- للبحث عن الحقيقة، والعمل فى إخلاص ودأب على الوصول إليها.. ومرحلة التمحيص لما يقع فى مجال النظر، من حقائق، تمحيصا معزولا عن المراء والجدل- لمجرد الجدل.. ومرحلة الأخذ بما يؤدّى إليه النظر من البحث والتمحيص.. سلوكا وعملا. ولا شك أن هذه هى أقوم السبل، وأعدل المناهج فى البحث عن الحقيقة في مجال العلم، والفنّ، والدين.. «والله يقول الحق وهو يهدى السبيل» .. الآيات: (96- 103) [سورة يونس (10) : الآيات 96 الى 103] إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1082 التفسير: حقت عليهم: أي وقعت عليهم، ووجبت.. كلمة ربك: قضاؤه وحكمه الذي أوجبه وأوقعه عليهم.. والآية الكريمة تشير إلى ما لله سبحانه وتعالى من سلطان مطلق فى عباده، يخلقهم كما يشاء، لما يشاء.. فتلك إرادته النافذة فيهم، ومشيئته الحاكمة عليهم.. وفى عباد الله، من خلقهم الله لا يقبلون الإيمان، ولا يكونون فى المؤمنين أبدا.. كما يقول سبحانه: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» .. وكما يقول النبي الكريم: «إن الله سبحانه خلق الخلق فقبض قبضة بيده وقال هؤلاء للجنة ولا أبالى، وقبض قبضة وقال هؤلاء للنار ولا أبالى.. رفعت الأقلام وجفّت الصحف» فقال الصحابة: «يا رسول ألا نتّكل وندع العمل بقدرنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «اعملوا. فكلّ ميسّر لما خلق له.. فأهل الجنة للجنة ولها يعملون وأهل النار للنار ولها يعملون» . «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» إنهم لا يؤمنون أبدا إيمان اختيار ورضا، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1083 ولو جاءتهم كل آية قاهرة معجزة.. إن قدرهم يمسك بهم على ما أرادهم الله له، ولن يتحولوا عنه.. أما إيمانهم عند الموت، أو عند مشاهدة أهوال يوم القيامة، فلن يحسب إيمانا، لأنه كما قلنا إيمان المكره المضطر، وإنه: «لا إكراه فى الدين» . وهنا تثور فى النفس خواطر، وتدور فى الرءوس تساؤلات. لم هذه التفرقة بين الناس، وهم جميعا عباد الله وصنعة يده.. فيكون فيهم السعيد والشقي، بقدر مقدور عليه، قبل أن يولد؟ وعلى أي أساس قامت هذه التفرقة بين أصحاب الجنة وأصحاب النار؟ فمواليد يولدون للجنة، ومواليد يولدون للنار؟ أسئلة كثيرة تدور هنا، قلّ أن يكون إنسان فى الناس- إلا من عصم الله- لم تعرض له هذه القضية- قضية القضاء والقدر- فيلقاها مواجها، أو مجانبا، أو حذرا، أو متخوفا.. فالناس جميعا مبتلون بهذه المشكلة.. وإن اختلفت موافقهم منها، وتباينت نظراتهم إليها.. وسيكون لنا موقف- إن شاء الله- مع هذه القضية، نستعرض فيه بعضا من نظرات الناظرين إليها، وما حصّلته تلك النظرات من خير أو شر. ثم نعرض رأى «الإسلام» وموقف المسلم من هذه القضية.. قوله تعالى: «فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ» . «لولا» هنا بمعنى هلّا، يراد بها الاستفهام، ويراد من الاستفهام بها الحثّ والحض على فعل المستفهم عنه بعدها، والإغراء به. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1084 والمعنى: هلّا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها؟! والمراد بالقرية هنا، «مكة» .. وقد أشار إليها القرآن الكريم بهذا الاسم فى أكثر موضع، فقال تعالى: «وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ» (13: محمد) وقال سبحانه: «وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» (31: الزخرف) .. وهذه مقولة المشركين من أهل مكة، يحكيها القرآن عنهم، وهم يريدون بالقريتين، مكة، والطائف.. والمفسرون مجمعون على أن هذه القرية مجرد قرية، أية قرية من تلك القرى التي أهلكها الله، ولم تؤمن كما آمنت قرية «يونس» وهى «نينوى» . والذي نستريح إليه، ونطمئن له، هو هذا الرأى الذي ذهبنا إليه، وهو أن المراد بالقرية هو «مكة» .. وقد جئنا من القرآن الكريم بما يدل على أنه يطلق عليها اسم «قرية» ، وإن كان القرآن قد ذكرها مرة بأنها أم القرى! ولنا على ذلك أيضا: أولا: أن تنكير القرية يكاد يصرح بأنها «مكة» وأن كلمة قرية هو علم عليها، وذلك بالإشارة بدلالة الحال عليها.. والتقدير: فهلا كانت قرية اسمها مكة آمنت فنفعها إيمانها؟ ثانيا: فى قوله تعالى بعد هذه الآية مباشرة: «ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين» .. وفى هذا عزاء للنبى، وتسرية عنه، مما يعتمل فى نفسه من هموم على أهل هذه القرية التي يأبى عليه أهلها- وهم أهله وعشيرته- أن يستجيبوا له، وأن يأخذوا طريق النجاة الذي يدعوهم إليه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1085 وثالثا: فى قوله تعالى: «آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها» - وفى هذا الحديث عن القرية بالماضي، وهو الذي لفت أنظار المفسرين إلى أنها من القرى الغابرة- فى هذا إشارة إلى أن المراد بالقرية هى مكة.. والحديث عنها بالفعل الماضي يشير إلى أن إيمانها قد تأخر كثيرا، وأنه كان المتوقع منها أن تكون أول من يستجيب للنبى.. لأنه أحد أبنائها.. تعرفه، وتعرف نسبه فيها، ونشأته بين أبنائها، وما عهدت فيه من صدق، وأمانة، وعفة، واستقامة، مما لم تعهده فى شبابها أو شيبها.. ولأنها تملك اللسان العربي الذي التقت عليه ألسنة العرب جميعا، والذي نزل القرآن به.. فهى أقدر العرب جميعا على النظر فى المعجزة التي جاءها بها هذا النبي، فى كتاب كريم، تنزيل من رب العالمين. فلو أن هذه القرية استجابت للنبى الكريم من يوم أن حمل إليها رسالة ربه، ودعاها إلى الإيمان به، لنفعها إيمانها، ولكانت فى ذلك الوقت، الذي تسمع فيه قول الله هذا، على حال غير حالها تلك، وعلى صفة غير صفتها هذه، التي هى عليها الآن، من كفر، وضلال.. - وفى قوله تعالى: «إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ» . فى هذا ما يسأل عنه، وهو: ما معنى «إلا» الاستثنائية هنا؟ وأين المستثنى منه؟ ونقول إن «إلا» هنا ليست أداة استثناء، وإنما هى حرف استدراك بمعنى «لكن» .. ولما كان الاستثناء، يفيد فى مضمونه معنى الاستدراك والتعقيب على المستثنى منه فقد حسن استعمال «إلا» مكان «لكن» إذ كانت قرية يونس تكاد تكون استثناء بين القرى التي جاءها رسل الله، فكفرت، ولم يؤمن منها إلا هذه القرية. فأداة الاستثناء هنا تفيد استثناء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1086 واستدراكا معا.. لفظها الاستثناء، ومعناها الاستدراك.. وذلك من خصوصيات النظم القرآنى وحده! وعلى هذا فمعنى الآية الكريمة: هلا أسرعت مكة إلى الإيمان بالنبي المبعوث منها وفيها، فانتفعت بهذا الإيمان قبل غيرها، لأنها أولى به، إذ كان مطلعه فى أفقها؟ ولكن الواقع أنها لم تؤمن، فحرمت هذا الخير، وأصبحت فى معرض نقمة الله وبلائه.. هذا هو موقف هذه القرية، وذلك هو حال معظم الأقوام مع أنبيائهم.. إلا قوم يونس، فإنهم آمنوا، فنجاهم الله من العذاب الذي أوشك أن يحل بهم، ومتعهم بما كانوا فيه، إلى أن انتهت آجالهم المقدورة لهم.. - وفى قوله تعالى: «لَمَّا آمَنُوا» إشارة إلى أن قوم يونس لم يبادروا بالاستجابة لرسولهم، بل كان منهم تلكؤ وتعلل، ولكنهم آمنوا آخر الأمر، فتداركهم الله برحمته، وشملهم بعفوه. وانظر فى «لمّا» هذه، واستمع إلى ما يقع لأذنك من نغمها الممتد المتماوج، وما فيه من رعشة واهتزاز، تجد أنها تحكى فى دقة وروعة تلبّث القوم، وتلكاهم واضطراب خطوهم، قبل أن يؤمنوا، ويستقيموا على طريق الحق! وانظر مرة أخرى فى هذا الذي لمحته من الحرف «لمّا» وما طلع عليك به من إشارات مضيئة، كشفت لك عن حال تلك القرية، قرية يونس، وما كان من توقفها، وتلكئها، ثم استجابتها لرسولها، والإيمان بربها، والانتفاع بهذا الإيمان- تجد وجها آخر من وجوه الإعجاز القرآنى، فيما يجىء به من أنباء الغيب، وأن قريشا ستأخذ مأخذ قوم يونس، وأنهم إذ يقفون من النبي هذا الموقف العنيد العنيف، ستكون خاتمة أمرهم، الإيمان بالله، والانتفاع بهذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1087 الإيمان، كما كان الشأن فى قوم يونس.. وقد كان! فآمنت قريش، وانتفعت بإيمانها وانتفع الإسلام بهذا الإيمان. قوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» . وإذا كان قوم يونس قد آمنوا، وإذا كانت قريش ستدخل فى الإيمان.. فإن ذلك كله رهن بمشيئة الله.. فما آمن مؤمن إلا كان إيمانه عن مشيئة الله، وقدره المقدور له.. وإذن فهؤلاء الذين سبقوا إلى الإيمان من أهل مكة، هم ممن شاء الله لهم الإيمان، وأراد لهم الخير.. وهؤلاء الذين لا يزالون على كفرهم وضلالهم، هم ممن لم تدركهم رحمة الله بعد، وهذا منادى الحق يناديهم إلى الله، ويدعوهم إلى ظلال رحمته.. فليستجيبوا لله، وليسعوا إلى هذا الخير، وليأخذوا بحظهم منه، فقد يكونون ممن شاء الله لهم الإيمان، فتلقاهم مشيئته، وهم على الطريق إليه.. إنه مطلوب من كل إنسان أن يسعى، وأن يطلب الرزق من مظانّه.. والإيمان بالله هو أعظم الرزق وأطيبه- فإذا كان ممن أراد الله لهم الخير، أخذ حظه منه، وإلا فقد سعى سعيه، ولكن إرادة الله هى الغالبة، ومشئته هى النافذة.. «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً» ولأصبح الناس كلهم على طريق مستقيم.. ولكن لله حكمة، فى أن فرق بين الناس، فكان منهم الصالح، والطالح، والمستقيم، والمنحرف، والمؤمن، والكافر، «وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ.. وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ» (119: هود) . - وفى قوله تعالى: «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» - عزاء للنبى الكريم. ومواساة له عن مصابه فى قومه الذين أبوا أن يستجيبوا له، وأن يتقبلوا الخير الذي جاءهم به.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1088 إنه لا إكراه فى الدين، وذلك لأمرين: الأمر الأول: أن الدّين عقيدة، والعقيدة إيمان بالمعتقد فيه، والإيمان بالشيء لا يكون حتى يرضاه العقل، وتميل إليه النفس، ويطمئن له القلب.. وليس فى شىء من هذا مكان للإكراه، بل إن الإكراه هو الآفة التي تحجب القلب عن الإيمان، وتغتال الإيمان إذا هو وجد طريقا إلى القلب. والأمر الثاني: أن القلوب وهى مستودع الإيمان، هى يد الله سبحانه وتعالى، إن شاء ساق إليها الإيمان، وهيأها لاستقباله، ونفعها به، فأزهر فيها وأثمر، وإن شاء صرفها عن الإيمان، وختم عليها، فلم تقبله، ولم تنتفع به.. «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً» .. وعلى هذا، فإنه غير مطلوب من الرسول أن يكره أحدا على الإيمان بالله.. لأنه لن يؤمن مؤمن إلا عن مشيئة الله وإرادته.. ثم لأن الإيمان عن إكراه هو زرع فى أرض مجدبة، لا تنبت زرعا ولا تطلع ثمرا.! «فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» (40: الرعد) . قوله تعالى: «وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ» هو تعليل للإنكار الذي تضمنه الاستفهام فى الآية السابقة: «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» .. ذلك أنه إذا كان الإيمان رهنا بمشيئة الله، فليس يجدى بحال أبدا هذا الحرص الشديد، الذي يبدو من النبىّ، وهو يدعو أهله وقومه إلى الإيمان بالله، وإن المطلوب منه هو أن يرفع مصباح الهدى للناس، وأن يكشف لهم به الطريق إلى الله.. فمن كان ممن أراد الله لهم الهداية اهتدى، ومن كان ممن أصلّهم الله، فلا هادى له.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» . - وفى قوله تعالى: «وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1089 الرجس: القذر، والنّجس.. ووضع الرجس فى مقابل الإيمان، إشارة إلى أن الإيمان طهر، وتزكية، وتطييب للمؤمن.. على خلاف الكفر، فإنه قذر، ونجس، ورجس، يلبس صاحبه، ويشتمل عليه، كما يلبس الجلد الجسد ويحتويه! وفى وضع الذين «لا يعقلون» ، بدل الذين «لا يؤمنون» كما يقضى بذلك السياق- إشارة أخرى إلى أن الكفر هو وليد الجهل والحمق، وعدم استعمال العقل وتوجيهه إلى تعقّل الآيات المبثوثة فى هذا الكون، الذي تتجلّى فى آفاقه آيات الخالق، المبدع، وقدرة الحكيم العليم، الخالق، المصوّر. ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك: «قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» جاء داعيا إلى توجيه العقل إلى النظر فى ملكوت السموات والأرض، وقراءة ما سطرته يد القدرة على هذا الوجود من آيات ناطقة، تحدّث عن الخالق العظيم، وتسبّح بحمده، فى ولاء، وانقياد وخشوع! - وفى قوله تعالى: «وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» - توكيد لما قررته الآيات السابقة، من أنه لا تؤمن نفس إلا بإذن الله.. وأن النظر فى ملكوت السموات والأرض، وإن كان مطلوبا من كل عاقل أن ينظر فى هذا الملكوت، وأن يطيل النظر فيه دارسا متفحصا، باحثا عن دلائل وجود الله، وما له فى هذا الملكوت من إبداع، وما له عليه من سلطان- هذا النظر لن يصل بصاحبه إلى الإيمان، ولن يفتح قلبه له، إلا إذا كان هذا الناظر ممن أراد الله لهم أن يكونوا مؤمنين.. أما الذين قدّر الله عليهم ألا يؤمنوا، فلن يؤمنوا، أبدا، ولو نطقت أمامهم الآيات، وأسمعتهم ما أودع الخالق فيها من بديع صنعه، ورائع حكمته وقدرته.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1090 كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» (6: البقرة) . وهذه هى قضية القضاء والقدر.. وقد وعدنا أن نعرض لها، وسنعرض لها إن شاء الله فى سورة الكهف. قوله تعالى: «فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ» هو تهديد لهؤلاء الكافرين، ووعيد لهم، بما ينتظرهم من بلاء وعذاب، وإنه كما أخذ الذين كفروا من قبلهم بالهلاك، سيؤخذون هم به.. فلينتظروا فلينظروا، وليستقبلوا ما يطلع عليهم من وراء هذا الانتظار، من نقم الله، وما تحمل إليهم من مهلكات. وما تسوق إليهم من بلاء ونكال.. قوله تعالى: «ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ» .. هو تبشير للمؤمنين، وتطمين لهم من أن يصيبهم شىء من هذا المكروه الذي سيحّل بالكافرين.. فالمؤمنون بمنجاة من هذا المكروه.. إنهم مع رسل الله، وإن الله سبحانه وتعالى لن يتخلّى عن رسله، ولن يريهم منه إلا ما يسرّهم من الأمن والعافية، والدرجات العليا عنده.. وكذلك المؤمنون الذين اتّبعوا الرسل.. إنهم معهم حيث يكونون.. فالمرء مع من أحبّ.. وفى هذا خزى للكافرين، إذ حرموا من أن ينالوا شيئا من هذا الذي ينعم فيه المؤمنون مع رسل الله.. من نصر الله وتأييده.. - وفى قوله تعالى: «كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ» إشارة إلى أن هذا الوعد الذي وعده الله رسله والمؤمنين، هو وعد حقّ لا شكّ فيه، قد أوجبه الله على نفسه، فضلا وكرما، كما يقول سبحانه وتعالى: َ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ» .. وكما يقول سبحانه: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» . (21: المجادلة) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1091 وفى جزم الفعل «ننج» ما يكشف عن مزيد من فضل الله وكرمه وإحسانه إلى عباده المؤمنين.. ففى مجىء الفعل «ننج» مجزوما، ولا جازم له، يفتح الطريق إلى تقدير فعل أمر، ليقع هذا الفعل تحت سلطان الأمر من الله سبحانه وتعالى.. وهو أمر من الله سبحانه، إلى الله سبحانه!! والتقدير: كذلك حقّا علينا إنجاء المؤمنين.. فلننجهم إذن!! فسبحانه من ربّ كريم، يفيض على المؤمنين من عباده ما لا يفيض الأب البرّ الرحيم على صغاره، من حدبه، وعطفه، وتبسطه معهم، وتدليله لهم.! الآيات: (104- 107) [سورة يونس (10) : الآيات 104 الى 107] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) التفسير: قوله تعالى: «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1092 المراد بالنّاس هنا هم المشركون، الذين لم يستجيبوا للرسول، وأمسكوا بما هم عليه من شرك وضلال.. وجواب الشرط هنا جاء على غير ما يقتضيه السياق.. فالشرط وهو قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي» مطلوبه أن يكون الجواب على هذا النحو.. فلا تدخلوا فى هذا الدين.. أو: فأنتم وشأنكم.. ولكن الجواب الذي جاء به القرآن الكريم، هو الجواب الذي لا يجىء إلّا من الحكيم العليم.. رب العالمين.. هكذا: «فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» .. وفى هذا الجواب تنكشف أمور: فأولا: أن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- متمسّك بهذا الدين، الذي يشكّ فيه هؤلاء الشاكّون، وأن شكوكهم لا تثير فى نفسه أىّ ريب فى هذا الحق الذي بين يديه.. وفى هذا ما ينبىء عن ثقة النبىّ، ويقينه، بهذا الدّين الذي يؤمن به، ويدعو إليه. وثانيا: أن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- لن يتحول عن هذا الدّين، إلى الدّين الذي عليه هؤلاء المشركون، ولن يعبد تلك الآلهة التي يعبدونها من دون الله.. وثالثا: أن هذه الآلهة التي يعبدونها هى الضلال.. ولا يعبدها إلّا الضالّون، ولا يمسك بها إلّا المبطلون.. وأن آلهتهم تلك لا تملك لهم ضرّا، وأنهم لو تركوها، ونفضوا أيديهم منها، فلن تضرّهم شيئا.. أما الله سبحانه وتعالى، الذي يعبده «محمد» ويدعو إلى عبادته، فهو الذي يملك الضّرّ لهم.. إنه هو الذي يتوفّاهم، ويتولىّ حسابهم وجزاءهم على ما كان منهم من كفر وضلال. رابعا: أنه- صلوات الله وسلامه عليه- متّبع لما أمر به، وهو أن يكون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1093 من المؤمنين.. فهو من المؤمنين، لأنه مؤمن بهذا الدّين الذي أمر أن يدين به، وهم غير مؤمنين، لأنهم لا يدينون بدين الله.. قوله تعالى: «وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» . «الواو» هنا فى قوله تعالى: «وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ» هى واو العطف، على تقدير أن الخبر قبلها وهو قوله تعالى: «وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» هو فى معنى الأمر، أي تلقيت هذا الأمر، بأن قيل لى: كن من المؤمنين، «وأن أقم وجهك للدين حنيفا، ولا تكونن من المشركين» فجعل قول الله سبحانه وتعالى له- صلوات الله وسلامه عليه- أمرا لازما لا انفكاك له منه، وهذا أبلغ فى الدلالة على الامتثال والطاعة والولاء.. وإقامة الوجه على الأمر: فى قوله تعالى: «وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً» كناية عن الاشتغال به وحده، دون التفات إلى سواه.. ومنه قوله تعالى: «يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ» (9: يوسف) .. وذلك أن الوجه إذ يستقيم على طريق، فإنه لا يلتفت إلى طرق أخرى.. فإقامة الوجه على الدّين: توجيه الوجه إليه كله، دون أن يخطف خطفة بصر إلى غيره.. والحنيف: هو المائل عن طريق إلى طريق.. والمستقيم على دين الله، قد مال باستقامته تلك عن كل طريق، وأخذ طريق الله طريقا.. وفى التعبير بلفظ «الحنيف» بمعنى المائل عن الضلال إلى الحق، إشارة إلى أن أكثر الطرق هى طرق الضلال، وأكثر الناس هم الضالون، القائمون على هذه الطرق.. وخروج إنسان من الناس عن هذه الطرق، وميله عن الجماعات التي تسلكها، هو أمر يحتاج إلى مكابدة وعناء، كما أنه أمر ملفت للنظر، جدير بالتنويه.. فهو أشبه بالخروج على الإجماع! - وفى قوله تعالى: «وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» تعريض بالمشركين، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1094 وتهديد لهم، إذ كانوا على أمر محظور منهىّ عنه، يتعرض مقترفه للنقمة والبلاء.. قوله تعالى: «وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ» هو تعريض أيضا بالمشركين، وتهديد لهم، وأنهم يعبدون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرّهم، وأنهم بهذا قد ظلموا أنفسهم، وباعوها فى سوق الضلال، بهذا النّقد الزائف، الذي لا قيمة له إذا عرض فى سوق الحق! وفى خطاب النبىّ صلوات الله وسلامه عليه بهذا النهى، تغليظ لشناعة المنهىّ عنه، وتهويل للخطر الذي يتهدد الناس منه، وأن على كل إنسان أن يوقظ وجوده كله، حتى لا يقع فى هذا المحذور أو يدنو منه.. وكفى أن يكون المنهي عنه هو الشرك بالله، وكفى أن ينبّه النبىّ الكريم إلى هذا الخطر، وهو أعلم الناس به، وأبعدهم عنه. قوله تعالى: «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» . إن الذي يعبده المشركون من آلهة، هو سراب خادع، ووهم باطل.. إنها لا تملك ضرّا ولا نفعا.. وإن الذي يملك الضّرّ والنفع هو الله سبحانه وتعالى وحده، لا شريك له فى هذا الوجود، ولا فيما يجرى على هذا الوجود من أمور فإذا مسّ الإنسان ضرّ- أىّ ضر- فلا يكشف هذا الضرّ عنه إلا الله.. وإن أصاب الإنسان خير- أي خير- فهو مما أراده الله، وقدّره، وأجراه له.. لا يستطيع أحد فى هذا الوجود أن يردّه، أو ينقص منه، أو يؤخر وقته المقدور فى علم الله.. وفى توجيه الخطاب إلى النبىّ بهذا الحكم الذي قضى الله به فى عباده، ما يشعر بأن النبىّ- وهو من هو عند الله، قربا وحبّا- خاضع لهذا القضاء.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1095 فما يصيبه من خير هو من عند الله.. إنه لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا.. فكيف بمن هم ليسوا على هذه المنزلة عند الله، من قرب وحب؟ - وفى قوله تعالى: «وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» إشارة إلى أن المغفرة والرحمة من الله لعباده، هى شأنه فى خلقه.. حتى ما يقع بهم من مكروه وضرّ، هو محفوف بالمغفرة، محمول بيد الرحمة.. وحتى ما يلقى المشركون والضّالون من نقمة الله وعذابه، هو واقع تحت رحمة الله بهم ومغفرته لهم، ولولا ذلك لما تنفّسوا نفسا واحدا فى هذه الدنيا..! كما يقول سبحانه: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ» (61: النحل) . الآيتان: (108- 109) [سورة يونس (10) : الآيات 108 الى 109] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109) التفسير: بهاتين الآيتين تختّم السورة الكريمة، فيجىء ختامها متلاقيا مع بدئها، ويكون ما بين البدء والختام، عرضا شارحا لمضمون البدء والختام! فقد بدأت السورة هكذا: «الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ» .. وفى هذا البدء إعلان عن هذا الكتاب الحكيم الذي بعث به النبىّ الكريم إلى الناس، يدعوهم إلى الإيمان بالله، وينذرهم بعقابه، ويبشرهم برحمته ورضوانه، فعجبوا أن يكون ذلك الكتاب السماوىّ فى يد رجل منهم، وقال الكافرون تلك القولة المنكرة: «إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1096 ثم تأخذ السورة بعد ذلك فى عرض قدرة الله، وما أبدع وصوّر فى هذا الوجود، وفيما يقع لنظر الناظرين فيه من دلائل وجود الله، وعلمه، وحكمته.. فأخذ بعض الناس بحظهم من النظر السّليم فآمنوا، وزاغت أبصار كثير منهم، فكفروا.. ثم تعرض السورة بعضا من مشاهد القيامة، وما يلقى الكافرون المكذّبون من بلاء وعذاب، وما ينال المؤمنون من نعيم ورضوان.. ثم تعود فتنقل النّاس من مشاهد القيامة إلى هذه الدنيا التي هم فيها، وتعرض لأبصارهم ما أخذ الله به الظالمين، من القرون الماضية، من بأسه ونقمته، على حين عافى المؤمنين من هذا البأس وتلك النقمة، وأولاهم عزّا ونصرا.. ثم تختتم السورة بهاتين الآيتين، بهذا الإعلان العامّ، الذي بدأت به، فتصل منه ما انقطع: «قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم» وهو هذا الكتاب الحكيم، الذي جاءكم من ربكم: «فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه» إذ ارتاد الخير لها، وغرس فى مغارس الخير، وهو الذي يجنى ثمر هذا الخير، ويضمه إلى يده، لا يناله غيره.. «ومن ضلّ فإنما يضلّ عليها» ، إذ عمى عن طريق الحق، وركب مركب الضلال، فإذا ورد موارد الهلاك، فلا يلومنّ إلا نفسه.. «وما أنا عليكم بوكيل» .. إذ ليس الرسول وكيلا عنهم، يعمل لهم، كما يعمل الوكيل لمن وكله عنه.. فليس أحد مغنيا عن أحد، ولا أحد موكّلا عن أحد، بل هى المسئولية الذاتية، يحملها كل إنسان عن نفسه.. إذ كان للإنسان وجوده، وكانت له ذاتيته وشخصيته، وبهذا فلا يصح أن يضع إنسان نفسه تحت وصاية أحد، أو يعفى نفسه من العمل، بإقامة وكيل عنه، لأن هذا الوكيل الذي يريد أن يقيمه، هو نفسه مطالب بالعمل لنفسه، وبتحصيل الخير لها.. حتى ولو كان رسول الله نفسه.. وفى هذا تكريم للإنسان، وتصحيح لوجوده، وتسليم بحقه الكامل فى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1097 هذا الوجود، وأن عليه أن ينظر إلى نفسه وحده، وأن يأخذ لها بحظها من سعيه وعمله.. إنه إنسان رشيد عاقل، فكيف يقبل هو، أو يقبل منه أن يحلّ نفسه من إنسانيته، وعقله، ورشده، ليكون طفلا قاصرا، يفكّر له غيره، ويعمل له سواه؟ ذلك حساب مغلوط لا يقبل منه أبدا، ولو قبله هو على نفسه..! - وفى قوله تعالى: «وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ» ، وفى تعدية اسم المفعول: «وكيل» الذي هو بمعنى موكّل بحرف الاستعلاء «على» بدلا من حرف المجاوزة «عن» - فى هذا ما يشعر بأن النبي الكريم- وهو من هوّ فى مقامه الرفيع فوق الناس جميعا- ليس له أن يكون وكيلا عن أحد من الناس، وإنما كل إنسان له وعليه مسؤليته الكاملة، يحملها وحده.. وهذا- كما قلنا- تشريف للإنسان، وتكريم له.. وأن كل إنسان جدير به أن يأخذ مكانه فى الناس، وأن يعمل ما وسعه العمل، ليبلغ المكان الذي يستطيعه بعمله واجتهاده.. فالطريق أمامه مفتوح، لا يقف فى سبيله أحد! .. قوله تعالى: «وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ» .. فذلك هو الرسول الإنسان.. إنه يحمل مسئوليته كاملة.. فيتّبع ما يوحى إليه من ربه، ويستقيم عليه.. إن ذلك هو ميدانه الذي يعمل فيه، ويدعو الناس إلى العمل فيه معه.. فمن استجاب له، قبله، وضمّه إليه، ومن أبى فما على الرسول إلا البلاغ، وليصبر الرسول حتى يحكم الله بما قضى به فى عباده، وهو خير الحاكمين.. لا يحكم إلا بالعدل، ولا يقضى إلا بالحقّ، فيجزى المحسنين بإحسانهم، ويأخذ المذنبين بذنوبهم، إن شاء، أو يعفو عنهم..! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1098 11- سورة هود نزولها: مكية.. بإجماع.. عدد آياتها: مائة وثلاث وعشرون آية. عدد كلماتها: ألف وتسعمائة وإحدى عشرة كلمة. عدد حروفها: سبعة آلاف وستمائة وخمسة أحرف. بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 5) [سورة هود (11) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5) التفسير: تبدأ هذه السورة الكريمة بما بدأت به السورة التي قبلها، سورة «يونس» بذكر الكتاب الحكيم، الذي أوحى إلى الرسول، صلوات الله وسلامه عليه.. فهى تصف الكتاب بالحكمة، «كتاب أحكمت آياته» وقد وصفته السورة التي قبلها بأنه كتاب حكيم: «تلك آيات الكتاب الحكيم» ثم تعطيه وصفا آخر، هو أن الحكمة التي اشتمل عليها، لم تكن حكمة مجملة مغلقة، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1099 بل هى حكمة مفصلة، واضحة مشرقة، تنالها أفهام الناس جميعا، ويشارك فيها الحكماء وغير الحكماء، لأن الذي أحكمها هو الذي فصّلها.. فهو «حكيم» يملك الحكمة كلها.. «خبير» يضع كل شىء موضعه.. - وفى قوله تعالى: «الر» إشارة إلى أن هذه الكلمة، فى حروفها الثلاثة، الألف، واللام، والراء.. هى الكتاب كله، وهى الحكمة كلها.. ولكنها غير مدركة لأفهام البشر، فهى مجمل المجمل من الحكمة، وعلم مجملها ومفصّلها عند «الحكيم» وحده، وهو الحق سبحانه وتعالى. - وفى قوله تعالى: «أُحْكِمَتْ آياتُهُ» هو تفصيل مجمل لهذه الحكمة المجملة «فى الر» . - وفى قوله تعالى: «ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» هو تفصيل لمجمل هذه الحكمة المجملة، وقد فصّلها حكيم خبير. وقوله تعالى: «أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ» . هو من تفصيل هذه الحكمة التي حملها هكذا الكتاب الحكيم، واشتمل عليها.. فالدعوة إلى الإيمان بالله، وإخلاص العبادة له وحده، والتحذير من عقاب الله، والتبشير بثوابه- هى مضمون هذا الكتاب الحكيم، ومحتواه!. والضمير فى «منه» يعود إلى الله سبحانه وتعالى: «أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ. إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ» أي من الله، «نذير وبشير» .. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1100 قوله تعالى: «وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ» .. هو معطوف على قوله تعالى: «أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ» .. و «تولوا» مضارع أصله تتولّوا، فحذفت إحدى التاءين تخفيفا، أي إن الذي أدعوكم إليه بهذا الكتاب الحكيم، هو: «ألا تعبدوا إلا الله» .. «وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه» .. استغفروه مما يقع منكم من معاص، ثم توبوا إليه مما ترتكبون من آثام.. وفى العطف «بثم» إشارة إلى أن الاستغفار مطلوب دائما من كل مؤمن إذ كان الإنسان فى معرض الزلل والانحراف، وهو يعالج شئون الحياة.. أما التوبة فهى رجوع الى الله بعد أن يبعد الإنسان كثيرا عنه، بارتكاب منكر من المنكرات.. فالتوبة يكون الإنسان فيها فى مواجهة موقف محدد، يراجع فيه الإنسان نفسه، فيرجع إلى ربه من قريب، قبل أن تشطّ به الطريق، ويبعد عن ربه.. أما الاستغفار فهو دعاء متصل بين الإنسان وربه، وهذا يعنى أن الإنسان وإن اجتهد فى الطاعة، وأخلص فى العبادة، وبالغ فى تحرّى الاستقامة لا يسلم أبدا من أن تقع منه هنات وزلات.. وإذن فهو على شعور بالنقص دائما، وفى مداومة الاستغفار، التجاء إلى الله أن يطهره، وأن يمحو ما علق به من ذنوب! - وفى قوله تعالى: «يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» بيان لثمرة الإيمان بالله، ودوام الاتصال بالاستغفار والتوبة، ففى ذلك ضمان لسلامة الإنسان، وإمساك به على طريق الحق والخير، فيكون بذلك محفوفا برحمة الله، مستوجبا لرضاه، قرير العين، مطمئن القلب، بالاستظلال بظله، فيعيش عمره الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1101 المقدور له فى هذه الدنيا، سعيدا هانئا، يجنى أطيب الثمرات، لما غرس، من خير، وما قدم من إحسان.. فهو بهذا ممتّع متاعا حسنا والضمير فى قوله تعالى: «فَضْلَهُ» .. يعود إلى الله سبحانه وتعالى، ويكون معناه: أن الله سبحانه وتعالى يجزى أهل الفضل والإحسان، فضلا من فضله وإحسانا من إحسانه.. كذلك يمكن أن يعود هذا الضمير إلى الإنسان، صاحب هذا الفضل، بمعنى أنه سيجد فضله الذي قدمه حاضرا بين يديه، قد ادخره الله سبحانه وتعالى له، وبارك عليه، وثمّره، ونمّاه له. - وفى قوله تعالى: «وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ» دعوة للمعاندين والسّادرين فى غيّهم وضلالهم، أن يستمعوا إلى الرسول، وأن يستجيبوا له، وإلا فهم فى مواجهة بلاء، وعذاب، يوم القيامة.. وفى خوف النبي عليهم من عذاب هذا اليوم ما يشعر بحرص النبي على هدايتهم، وإشفاقه عليهم، من هذا المصير المشئوم الذي هم صائرون إليه.. «فإنى أخاف عليكم عذاب يوم كبير» وفى وصف اليوم بأنه «كبير» إشارة إلى ما فيه من أهوال ثقال، وأن كل لحظة، فيه لثقلها على النفس، تعدل أياما وسنين.. هكذا لحظات الشدائد والمحن، تمر ثقيلة بطيئة، يحسبها الذين يعيشونها دهرا طويلا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا» (27: الإنسان) . قوله تعالى: «أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1102 يثنون صدورهم: أي يطبقونها، ويطوونها على ما بداخلها من شر، وزور، وبهتان.. يستغشون ثيابهم: أي يلبسونها، ويتخذونها غشاء لهم.. «ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه» .. هذا تقرير لواقع المشركين وأصحاب الضلالات، مع أنفسهم، إذ لما فى صدورهم من منكرات الأمور، وعوارها، يحاولون جاهدين أن يخفوا هذا المنكر الذي ضمّت عليه صدورهم، ويداروا هذا العوار الذي إن ظهر للناس فاحت منه ريح خبيثة، تفضحهم وتخزيهم بين الناس.. فهم أبدا على حذر وحرص، من أن يطلع أحد على هذا الفعل الفاضح الذي اتخذوا له من صدورهم مسرحا يتحرك عليه، ويعيش فيه.. فالأسلوب هنا خبرى، يقرر حقيقة واقعة، وهى أن هؤلاء أصحاب منكرات، يطوون عليها صدورهم حتى لا يطلع عليها أحد، وقد بلغ بهم سوء ظنهم بالله، وجهلهم بما له من صفات الكمال، أنهم يظنون بهذا الفعل أنهم يحولون بين الله تعالى، وبين أن يعلم ما هم عليه من منكر.. - وفى قوله تعالى: «أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ» هو ردّ على سوء فهمهم لكمالات الله، وجهلهم بنفوذ علمه وسلطانه إلى كل ذرّة فى هذا الوجود.. وأنهم مقهورون تحت سلطان هذا العلم، لن يستطيعوا أن يخفوا منه شيئا، ولو مزجوه بلحمهم وخلطوه بدمهم.. فهم حين يستغشون ثيابهم ليستروا بها عوراتهم، لا يسترونها عن الله، كما لا يسترون عنه، ما أطبقوا عليه صدورهم من عورات ومنكرات: «إنه عليم بذات الصدور» أي بما فى داخلها، وما أطبقت عليه، فكيف بالصدور نفسها؟ وذات الصدور، حقيقتها.. وعلم الله سبحانه وتعالى بها، هو علم كامل، إذ هو سبحانه الذي خلقها، وأودع ما فيها من قوى، فكيف يدخل عليها شىء ثم يخفى عن الخالق سبحانه؟ «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» ؟. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1103 الآيات: (6- 11) [سورة هود (11) : الآيات 6 الى 11] وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) التفسير: مناسبة قوله تعالى: «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها» للآيات التي قبلها، هى أن الآيات السابقة كشفت عن سوء ظن المشركين والمنافقين بالله، وجهلهم بما له من علم، وقدرة، وأنه- سبحانه- يعلم سرّهم وجهرهم، ويطلع على ما طووا عليه صدورهم من ضلال وإلحاد.. وفى هذه الآية والآية التي بعدها، يكشف سبحانه وتعالى عن بعض مظاهر علمه وقدرته، فيقول سبحانه: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1104 «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ» .. والدابة كل مادب على الأرض من كائنات حيّة.. من الحشرات والهوامّ.. إلى الإنسان.. واختصاص دوابّ الأرض بالذكر، لأنها هى التي تشاركنا الحياة على هذه الأرض، وهى التي تقع لحواسنا ومدركاتنا. وهى التي تحتاج إلى ما يمسك عليها حياتها، من طعام وشراب، ومأوى.. ونحو هذا.. فكل ما على الأرض من كائنات، ومنها الإنسان- مكفول له رزقه من الله.. فهو- سبحانه- الذي خلقه، وهو- سبحانه- الذي يقدر رزقه، ويسوقه إليه من فضله وكرمه.. - وفى قوله تعالى: «إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها» إشارة إلى أن الله- سبحانه- قد أوجب ذلك على نفسه، حتى لكأن كل حى له عند الله- سبحانه وتعالى- حق يطالب به.. وذلك من كرم الكريم، ورحمة الرحيم.. وإذا كان فى الناس من يوجب على نفسه ما لا يجب من أفعال الخير، كما يقول الشاعر: على مكثريهم رزق من يعتريهم ... وعند المقلّين السماحة والبذل - نقول إذا كان فى الناس من يوجب على نفسه ما لا يجب، من فضل وإحسان، فكيف برب الناس، ملك الناس، إله الناس.. من لا تنفذ خزائنه، ولا تنقص بكثرة العطاء نعمه؟ وكيف بمن خلق هذه الأحياء.. ألا يضمن حياتها، ويمسك وجودها؟ إن الخلق لا تظهر حكمته، ولا تتجلى آثاره، إلا إذا قام معه ما يضمن بقاءه، ويحفظ الحياة التي أودعها الخالق فيه، وإلا كانت عملية الخلق عبثا، يتنزه الله سبحانه وتعالى عنه.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1105 وفى قوله تعالى: «وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ» إشارة إلى تمكن علم الله، وإحاطته بالموجودات، وأنه يعلمها علم تفصيل لا علم إجمال وحسب، فيعلم الكائنات، فردا فردا، مستقرها فى أصلاب آبائها، ويعلم مستودعها فى أرحام أمهاتها.. فهى قبل أن تكون كائنا فى هذا الوجود، ودابة من دواب هذه الأرض، كان علم الله قائما عليها، وعنايته موكّلة بها، حتى إذا أودعها رحم الأم ظهر الأرض، كان على الله رزقها وكفالتها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ» (98: الأنعام) . قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» . هو استعراض أيضا لبعض مظاهر قدرة الله.. فهو- سبحانه- الذي خلق السموات والأرض فى ستة أيام. وقد أشرنا من قبل إلى أن هذا الزمن الذي خلقت فيه السموات والأرض، إنما هو الوعاء الزمنى، الذي يتمّ فيه خلق هذين الكائنين واستواء خلقهما، ونضجه، شأنهما فى هذا شأن أي مخلوق.. فكما يتم خلق الجنين الإنسانى- مثلا- فى تسعة أشهر، تمّ خلق السموات والأرض فى ستة أيام.. فالسموات والأرض أشبه بالكائنات الحية فى الخلق، كان لهما عند الله سبحانه أجل استوفيا فيه خلقهما. أما القول بأن الله سبحانه قد شغل بخلق السموات والأرض ستة أيام، ثم استراح فى اليوم السابع، فهو مما تحدّثت به التوراة التي عبث بها بنو إسرائيل.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1106 وقوله تعالى: «وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ» إشارة إلى أن خلق السموات والأرض جاء متأخرا عن خلق الماء وهذا ما ينبغى أن نقف عنده، ولا نسأل عما وراءه، فذلك مما لا تدركه مدركاتنا، وهو مما ينبغى أن نؤمن به إيمان تسليم وتصديق، دون أن نبحث أو نسأل عن العرش ما هو؟ وأين هو؟ فالسؤال عن مثل هذا مضلّة، والبحث فيه عناء.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» . (85: الإسراء) وقوله تعالى: «لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» .. الابتلاء الاختيار، ولام التعليل متعلقة بقوله تعالى: «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» ، أي وخلقكم أيها الناس وجعلكم خلائف فى الأرض، ومكّن لكم فيها بما أودع فيكم من عقل، وما سخر لكم من مخلوقات، ليتبين من ذلك كيف تعملون، وكيف تكون خلافتكم فيما استخلفكم الله فيه.. ولولا هذا ما كان لكم وجود، ولا كان منكم هذا الذي أنتم عليه، من إيمان وكفر، وهدى، وضلال.. وفى قصر الابتلاء والمفاضلة فيما ابتلوا فيه، على الأعمال الحسنة- إشارة إلى ما يجب أن يكون من الناس، وهو العمل فى ميدان الإحسان وحده، والتنافس بينهم فى هذا المجال.. ففى ذلك ينبغى أن يتنافس المتنافسون. - وفى قوله تعالى: «وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» إشارة إلى ما كشف عنه هذا الابتلاء والامتحان.. فقد كشف عن بعض نفوس خبيثة، وعقول فاسدة، وقلوب مريضة، لم تتعرف إلى الله، ولم تهتد إليه، ولم تستمع لدعاة الداعين إلى الإيمان بالله، وباليوم الآخر.. فإذا استمعوا إلى شىء من كلام الله، يحدثهم بأنهم مبعوثون بعد موتهم، أنكروا هذا القول، وقالوا: «إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» .. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1107 يقولون ذلك على القطع والتوكيد، حتى لكانّ لهم عليه برهانا مبينا، أو حجة بالغة. قوله تعالى: «وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ؟ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» . الأمة: الجماعة من الناس، على مشرب واحد.. فهم قطعة من المجتمع الإنسانى. والأمة: القطعة من الزمن، كما فى قوله تعالى: «وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ» (45: يوسف) . والأمة: الحال المقتطعة من أحوال الناس، كما فى قوله سبحانه: «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ» (22: الزخرف) أي على حال. يحبسه: يؤخره.. وحاق بهم: أي أحاط بهم، واشتمل عليهم. وهذا أيضا مما تكشّف عنه الابتلاء الذي ابتلى به الناس، إذ خلقهم الله وأقامهم على هذه الأرض.. فقد كان فى الناس من كذبوا بآيات الله ورسل الله، واليوم الآخر.. وكان منهم من بالغ فى هذا التكذيب، وبلغ الغاية فى السفاهة والحمق.. فهم إذا أنذروا بالعذاب يوم القيامة قالوا: متى هو؟ وإذا أنذروا بالعذاب والهلاك فى الدنيا قالوا: ما يحبسه؟ يقولون ذلك فى تحدّ وعناد، وإصرار على الكفر والتكذيب، بهذا الوعيد الذي توعدهم الله به.. ولو عقلوا ما استعجلوا هذا البلاء، ولأخذوا أنفسهم بما ينجيهم منه. وقد رد الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله: «أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ» أي أنه لو وقع بهم هذا العذاب فلن يدفع عنهم، ولن يكون لهم فيه إلا البلاء والهلاك.. فما بالهم- قاتلهم الله- يستعجلون ما فيه دمارهم وهلاكهم؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1108 قوله تعالى: «وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ» . هو عرض كاشف لحال الإنسان، وموقفه من نعم الله ونقمه.. فهو إذا أذاقه الله سبحانه وتعالى طعم نعمة من نعمه، وذلك من رحمة الله به، وإحسانه إليه- سكن إليها واطمأن بها، وشغله الاستمتاع بها عن ذكر الله، بل وعن الإيمان بالله..! فإذا نزع الله سبحانه وتعالى منه هذه النعمة- وذلك بسبب ما كان منه من انحراف عن الله، ليكون له من ذلك نخسة تذكره بالله- إذا فعل الله سبحانه وتعالى ذلك به، يئس من رحمة الله، وكفر به وبآلائه، ولم يعد يذكر شيئا مما كان لله عليه من فضل.. فإذا عاد الله بفضله عليه، وأذاقه من رحمته، لم يذكر الله، وإنما يذكر نفسه، ويشغل عن الله بالفرحة، بزوال هذا البلاء الذي كان فيه، ويستعلى على الناس تيها وفخرا. وفى التعبير عن النعم بالرحمة، إشارة إلى أنها من فيض رحمة الله على عباده.. وفى التعبير عن زوال النعمة بالنزع، إشارة إلى أن هذه النعمة كانت ثوبا ستر الله به من أنعم عليه بها، فلما لم يؤدّ ما لهذا النعمة من واجب الشكر لله عليها، واتّخذ منها سلاحا يحارب به الله، ومطية يمتطيها إلى تخطى حدوده- انتزع الله هذا الثوب الذي كان يستره به، وأخذه بقوله سبحانه: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» (53: الأنفال) . وقوله تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» - هو استثناء من هذا الحكم العام الواقع على الإنسان فى جنسه كله، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1109 وهو أنه إذا أنعم الله عليه بطر، واستكبر، وكفر.. وإن مسته ضراء، جزع ويئس، وازداد كفرا، وإن عادت عليه النعمة، عاد سيرته الأولى معها.. كفرانا وطغيانا.. هذا هو الشأن الغالب فى الناس.. «إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات» فإنهم يستقبلون نعم الله بالحمد والشكر، ويتقبلون امتحان الله لهم حين يمسهم بضر- بالتسليم والصبر.. «أولئك لهم مغفرة وأجر كبير» .. لهم مغفرة لذنوبهم بما صبروا على المكروه، ولهم أجر عظيم على ما كانوا فيه من طاعات وأعمال صالحة، مع هذه النعم التي أنعمها الله عليهم. الآيات: (12- 16) [سورة هود (11) : الآيات 12 الى 16] فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16) التفسير: قوله تعالى: «فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ.. إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1110 مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، التي استفتحت بها السورة الكريمة، قد ذكرت القرآن الكريم، وأنه كتاب أحكمت آياته، ثم فصّلت من لدن حكيم خبير، وأنه مع ما فى هذا الكتاب من علوّ، وإشراق، فقد مكر المشركون به، وجعلوا يكيدون له، ويسخرون من النبي الكريم الذي يدعوهم به إلى الله، ويقولون عن هذا القرآن: إنه سحر، وعن النبي: إنه ساحر، وشاعر، ومجنون- فناسب أن يذكر بعد هذا ما كان يجد النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- فى صدره من ضيق وحرج، من بهت قومه له، وسخريتهم به، وخلافهم عليه.. فجاء قوله تعالى: «فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ» - جاء كاشفا للنبى عن تلك الحال التي يعانيها، ويجد من آثارها فى نفسه، همّا وقلقا، واستثقالا من مواجهة قومه بما يكرهون من عيب آلهتهم، وتسفيه أحلامهم، ووعيدهم بالعذاب الهون فى الآخرة.. كقوله تعالى: «إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ» (98: الأنبياء) ، وكقوله سبحانه: «وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا. إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً. وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً» (10- 13: المزمل) فكان النبي- صلوات الله وسلامه عليه- يجد حرجا من أن يلقى قومه بمثل هذه الحرب السافرة، التي تزيد من حنقهم عليه، وعداوتهم له، وقطع ما بينه وبينهم من أواصر المودة والقربى.. إنه- صلوات الله وسلامه عليه- حريص على امتثال أمر ربه، بتبليغ ما أنزل إليه من كلماته، ثم هو حريص على أن يشدّ قومه إليه، وألا يدع حبال القربى تتقطع بينهم وبينه..! فكان من هذا وذاك فى ضيق وحرج! - وفى قوله تعالى «فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ.. إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1111 كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» - فى هذا عزاء للنبى، وتسرية له، وتثبيت لفؤاده على طريق دعوته.. وترك النبي لبعض ما يوحى إليه، هو إمساكه دون مواجهة المشركين به، وذلك فيما يسوؤهم فى آلهتهم، أو فى أنفسهم، أو فيهما معا.. أما ما يضيق به صدر النبي فهو ما يرمونه به من كذب، وما يقترحون عليه من مقترحات، بأن يأتيهم بآيات مادية، تجابه حواسهم.. كأن ينزّل عليه كنز، أو يجىء معه ملك من السماء، يشهد له بأن الكتاب الذي معه، هو من عند الله! - وقد جاء قوله تعالى: «إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» ردّا على المشركين، وعلى مقترحاتهم التي يقترحونها، وأن الرسول الذي جاءهم، إنما رسالته فيهم هو أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه، وينذر الذين لا يؤمنون بالله، ولا برسوله، ولا باليوم الآخر.. «والله على كل شىء وكيل» أي قائم على كل شىء.. لا يملك أحد معه شيئا.. فليس للنبى أن يغيّر أو يبدّل فيما أمره الله بتبليغه إلى الناس، ولو كان فيه ما يسفّه أحلامهم، ويكشف ضلالهم. قوله تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ. فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» . هو حكاية لمقولة من مقولات المشركين فى القرآن الكريم، مما يضيق به صدر النبي، ويألم منه.. وهو قولهم إن هذا القرآن حديث افتراه محمد على الله، ونسبه إليه، وما هو إلا من أساطير الأولين، اكتتبها، فهى تملى عليه بكرة وأصيلا. وقد أمر الله سبحانه وتعالى النبي الكريم أن يلقاهم متحديّا أن يأتوا «بعشر سور مثله مفتريات» .. أي إذا كان هذا القرآن من مفتريات «محمد» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1112 - وكذبوا وخرسوا- فإن فى عالم الافتراء متسعا لمن شاء أن يتعامل معه، ويحمل من معطياته ما يشاء.. فليفتروا عشر سور من مثل هذا القرآن، فى بيانه لعجز، وآياته المشرقة، وفى تعاليمه الحكيمة، ووصاياه الرشيدة.. ثم إن لهم أن يستعينوا بمن يستطيعون الاستعانة به، من أحبار وكهان، ومن شعراء وخطباء، ومن قصّاص ومحدّثين.. فهذه هى الدنيا كلها، وهؤلاء هم أهلها جميعا، فليقّلبوا وجوه الأرض كلها، وليجمعوا إليهم أهل العلم جميعا.. ثم ليأنوا بعشر سور مثله مفتريات.. فإنهم إن فعلوا- وهيهات- فقد صحّ قولهم فى القرآن إنه مفترى، وصدق حكمهم عليه بأنه من عمل محمد، ولا نسبة له إلى الله.. أما إن عجزوا، بعد أن يجهدوا جهدهم، ويبلوا بلاءهم، ويدعوا من استطاعوا، فليحكموا هم على أنفسهم بأنهم هم المفترون، وأنهم هم الكاذبون، فيما قالوه فى القرآن الكريم.. وليعلموا أن هذا القرآن إنما أنزل بعلم الله، ومن عند الله.. فهل يرجعون بعد هذا عن غيّهم وضلالهم، ويذعنون للحق الذي فضح نوره ما قد علا وجوههم من خزى وذلّة، بين يدى هذا الامتحان الذي خرّوا فيه صرعى لأول جولة، فى ميدان التحدّى؟ والضمير فى قوله تعالى «فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ» يعود إلى من يدعوهم المشركون، من الأعوان والأنصار، ويستعينون بهم فى افتراء عشر سور من مثل هذا القرآن.. وفى هذا إشارة إلى أن المشركين أنفسهم لا يستطيعون أن يردوا هذا المورد، ولا أن تحدثهم أنفسهم بالوقوف أمام القرآن الكريم فقد عرفوه، وعرفوا علوّ منزلة، وأنه أبعد من أن تطوله يد إنسان.. وإذن، فهم إذا اتجهوا إلى التحدّى فلن يتجهوا إلى أنفسهم، إذ قد فرغ حسابهم معها من أول لقاء مع القرآن.. وأنه إذا كان سبيل إلى لقاء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1113 هذا التحدّى، فليكن بالبحث عن قوة أخرى غيرهم.. فليبحثوا عنها.. فإن استجابت لهم تلك القوة، أو القوى، فليأتوا بما حصلوا عليه منها، وليلقوا به بين يدى القرآن! - وفى قوله تعالى: «فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ» إشارة إلى أن القرآن الكريم نزل محمّلا بعلم الله.. أي يحمل علم الله، وإذا كان هذا شأنه، فكيف تقوم قوة فى هذا الوجود، تتحدّى هذا العلم، وتقف له.. «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً» (88: الإسراء) ويمكن أن يحمل قوله تعالى: «فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ» على معنى أنه أنزل عن علم من الله، وأن ما أوحى به جبريل إلى النبي، كان بأمر الله سبحانه وبعلمه. - وفى قوله تعالى: «فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» تحريض للمشركين على أن ينتهزوا هذه الفرصة، وأن يستسلموا للقرآن الكريم، وأن يعطوه أيديهم كما يعطى الأسير يده لمن صرعه فى ميدان القتال! قوله تعالى: «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» . البخس: النقص، والخسران فى الميزان أو المكيال، وفى كل ما هو مطلوب أداؤه من حقوق.. حبط ما صنعوا: أي بطل وفسد. ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أنّ المشركين، وقد أعجزهم العجز عن أن يثبتوا فى هذا الامتحان بين يدى القرآن- لم يكن أمامهم إلا أحد طريقين.. فإما أن يستسلموا للقرآن، ويسلموا له، ويؤمنوا به، وبالله الذي أنزله، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1114 وبالرسول الذي أنزل عليه.. وبهذا يدخلون فى عداد المؤمنين، ويعملون عمل المؤمنين للدنيا والآخرة معا.. وإما أن يظلوا على ما هم فيه من شرك وضلال، فيعيشوا لدنياهم، ويعملوا لها، غير ملتفتين إلى ماوراء هذه الدنيا، ولا منتظرين حسابا ولا جزاء.. إنهم إن فعلوا، فلهم ما أرادوا، فليعملوا للدنيا، وليقطفوا من ثمارها ما تغرس أيديهم، فلن يحرمهم الله ثمرة عملهم فيها.. ولن يعجل الله لهم العذاب، ولن يأخذهم بذنوبهم فى هذه الدنيا.. فإذا كان يوم القيامة، وبعثوا من القبور، وسيقوا إلى الحساب والجزاء.. فهنالك يرون سوء مصيرهم، وأنهم قد جاءوا إلى هذا اليوم مفلسين، لأنهم لم يعملوا له عملا.. وإنه «ليس لهم فى الآخرة إلا النار» .. أما ما عملوه فى الدنيا فهو باطل وقبض الريح، حتى ما كان لهم من أعمال تحسب من الصالحات فى أعمال المؤمنين، هى أعمال باطلة، لأنها لم تستند إلى الإيمان بالله، ولم تعمل لحساب الآخرة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ» (20: الأحقاف) وفى الإشارة إلى هؤلاء المشركين بقوله تعالى: «أُولئِكَ» مواجهة لهم بهذا الحكم الذي حكم به عليهم، وهو حكم يساقون به إلى النار، فيجدون مسّ لهيبها قبل أن يغمسوا فيها..! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1115 الآيات: (17- 24) [سورة هود (11) : الآيات 17 الى 24] أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24) التفسير: قوله تعالى: «أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ» . البيّنة: الحجة، والدليل الموصل إلى ما يتبينه الإنسان من أمور.. فهى من البيان، وهو الظهور، وقد سمّى الرسول بيّنة، لأنه يبين للناس طريق الحق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1116 والخير.. وفى هذا يقول الله تعالى: «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً» . المرية: الشك والارتياب. ومناسبة هذه الآية لما قبلها، أنّها تعرض صورة لأهل الإيمان، وما فى نفوسهم من استعداد لتقبّله، والاستجابة له، بعد أن عرضت الآيات السابقة صورة لأهل الزيغ والضلال، ومن فى قلوبهم مرض.. والبيّنة هنا هى الاستبصار الذي يتعرف به الإنسان إلى الحق، مستهديا إليه بعقله، فيتعرف إلى الله، ويؤمن به، ولا دليل معه، سوى عقله، الذي ينظر به فى هذا الوجود، فيطلعه على أن لهذا الكون وللنظام الممسك به، إلها قديرا، عليما حكيما.. وكثير من الناس تعرفوا على الله، وآمنوا به، عن هذا الطريق، طريق النظر الشخصي، المنقطع عن دعوات الأنبياء، وتوجيهات الرسل.. ففى الإنسان فطرة، ومعه عقل من شأنهما أن يهدياه إلى الله، وأن يكشفا له الطريق إليه، لو أنه ظل محتفظا بسلامة فطرته، حارسا عقله من دوافع الهوى، ونزغات الشيطان.. - وفى قوله تعالى: «وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ» - ضميران: الضمير الأول، فى «يتلوه» وهو يعود إلى البيّنة، بمعنى أنها برهان ودليل، أو بمعنى أنها نور من عند الله، يضىء القلوب، وينير البصائر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ» (22: الزمر) .. ويكون معنى «يتلوه» : أي يجىء بعده، أي بعد هذا النور، أو هذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1117 البرهان، أو هذا الدليل- يجىء شاهد يؤكّد صدق هذا البرهان، ويدعم هذا الدليل، ويلقى إلى هذا النور نورا.. أما هذا الشاهد، فهو القرآن الكريم، وما فيه من دلائل الإعجاز التي من شأنها أن تفتح القلوب للإيمان بالله.. والضمير الثاني، فى قوله تعالى: «منه» ويعود إلى الله سبحانه وتعالى، وقد ذكر سبحانه، فى قوله تعالى: «أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ..» والشاهد، هو القرآن الكريم، كما قلنا من قبل. ويكون المعنى على هذا: أيستوى من كان على نور من ربّه، بما أودع الله سبحانه وتعالى، فيه، من فطرة سليمة، فينظر إلى هذا الوجود ببصيرة مبصرة، وقلب سليم، حتى يعرف ربّه، ويؤمن به، مستهديا إلى هذا الإيمان عن طريق التدبّر والنظر.. ثم يزداد معرفة، ويزداد إيمانا واطمئنانا، حين يلتقى برسول الله، ويستمع إلى كلمات الله، فيجد منها شاهدا مبينا يشهد بصدق ما وقع لنظره وما اهتدى إليه بعقله، من التعرف على الله والإيمان به- أيستوى من هذا شأنه ومن ختم الله على قلبه وسمعه، وجعل على بصره غشاوة، فلم يهده نظره إلى الإيمان، إذ كان أعمى، ولم يستجب لمن يقوده إليه؟ شتان ما بين النور والظلام، والحق والباطل.. - وفى قوله تعالى: «وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً» . الضمير فى «قبله» يعود إلى الشاهد، وهو القرآن الكريم.. والمعنى أن من قبل هذا القرآن كان كتاب موسى، وكان هذا الكتاب «إماما» ، أي متقدما فى الكتب السماوية «ورحمة» لما حمل إلى الناس من هدى ونور.. فليس هذا الكتاب الذي جاء به محمد من ربّه حدثا لم يقع فى الناس، بل لقد سبقته كتب جاءت من عند الله.. فكيف ينكر هؤلاء الضالّون أن يأتى إنسان بكتاب من عند الله؟ وكيف يقولون هذا القول الذي حكاه القرآن عنهم، منكرا متوعدا فقال تعالى: «وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1118 ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ.. قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ» (91: الأنعام) . فإذا لم يكن فى الكتاب الذي جاء به محمد ما يرون فى وجهه أنه من عند الله- عمى منهم، وكفرا وعنادا- فليكن لهم فى واقع التاريخ ما يمسك بهم عن المكابرة، أن يقولوا ما أنزل الله على بشر من شىء.. فذلك إنكار لواقع محسوس، حيث هؤلاء الرسل الذين ذكرهم التاريخ، وحيث هذه الكتب السماوية التي يدين بها ألوف البشر.. وهذه التوراة.. كتاب موسى، وهؤلاء هم اليهود الذين يدينون بها.. فكيف يسمح لعاقل عقله أن يقول: ما أنزل الله على بشر من شىء..؟ - فى قوله تعالى: «أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ» .. الإشارة هنا بأولئك، موجهة إلى المذكورين فى قوله تعالى: «أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ» .. وقد استخدم القرآن الكريم، الاسم الموصول «من» بلفظه أولا، فأفرد العائد إليه، ثم استخدمه بمعناه ثانيا، فجمع العائد إليه.. وفى الإفراد، والجمع، إعجاز من إعجاز القرآن.. ذلك أن الإيمان بالله، عن طريق الاستدلال العقلي، وعن النظر فى ملكوت السموات والأرض، ثم عن الاستماع إلى آيات الله، وتفهم ما فيها من حق وخير- هذا الإيمان لا يكون إيمانا حقا إلا إذا كان عن معاناة ذاتية، ونظر شخصى.. بحيث يرى الإنسان مواقع الهدى بنفسه، ويتبيّن وجه الحقّ بعقله.. وهنا يفتح قلبه للإيمان، وينزله منزلا مطمئنّا فيه، لأن إيمانه حينئذ قد جاء إليه عن طريق نظره، وإدراكه، واستدلاله، لا عن تلقين، أو محاكاة.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1119 هذا هو الموقف الذي ينبغى أن يأخذه الإنسان فى طريق التعرف على الله والإيمان به.. إنه يبدو وكأنه يقف وحده، لا ينظر إلى غيره مقلدا، أو متابعا.. ولكنّ الواقع أن أعدادا كثيرة من الناس تقف مثل هذا الموقف، تتهدّى إلى الله بنظرها، وتتعرف إليه بعقلها، وتؤمن به بقلبها.. فهم إذ جاءوا إلى الإيمان، جاء إليه كل واحد منهم باستعداده الخاص، وبتقديره الذاتي الشخصي.. ثم هم إذا دخلوا فى الإيمان كانوا أعدادا كثيرة.. «أولئك يؤمنون به» .. أي أولئك الذين هم على بينة من ربهم، يؤمنون بهذا القرآن، لأنه يلتقى مع نظرتهم السليمة التي نظروا بها فى ملكوت السموات والأرض.. فهم- والأمر كذلك- أفراد حين ينظرون فى ملكوت السموات والأرض، وفى دلائل الإيمان ودعوات الهدى.. وهم جماعات كثيرة، حين يدخلون فى دين الله، ويصبحون فى المؤمنين.. «أفمن كان على بيّنة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة.. أولئك يؤمنون به» .. فهو- أي المؤمن- وحده، حين يتلقى الإيمان، ويتقبله.. ثم هو واحد فى جماعات كثيرة تلقت الإيمان وتقبلته!! وفى قوله تعالى: «وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ» هو تهديد لأولئك الذين يقفون من القرآن الكريم موقف المستهزئين المكذبين.. فالنّار موعدهم التي يلتقون عندها بعد أن يقطعوا مرحلة عمرهم، وهم يتخبطون فى هذا الضلال والظلام.. والأحزاب، جمع حزب، وهم طوائف الضالين، من كل بيت، ومن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1120 كل قبيلة، إذ ألّف بينهم الضلال، فجمع أحزابهم التي تحزبت، واجتمعت على الوقوف فى وجه الدعوة التي يدعو إليها رسول الله.. - وفى قوله تعالى: «فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ.. إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ.. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ» .. تثبيت للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- وشدّ لأزره، وربط على قلبه، وهو فى مواجهة هذه الموجات العاتية الصاخبة، من الضلال.. وليس النبىّ بالذي يرتاب أو يشكّ فيما بين يديه من آيات ربه، ولكن الذي يحتاج إليه وهو فى هذه المعركة، هو أن يمدّ من ربه بما يزيده يقينا، وثباتا.. ولهذا جاء بعد ذلك، قوله تعالى: «إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» والنبىّ على يقين من الكتاب الذي معه، وبأنه الحق من ربه، ولكن المعركة المحتدمة بينه وبين تلك القوى العاتية تحتاج إلى أمداد سماوية يمده بها الله، فتكون أشبه بجنود السماء فى معركة بدر، التي أمده الله بها، وجعلها بشرى له وللمؤمنين، واطمئنانا لقلبه وقلب المقاتلين: «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ» (10: الأنفال) .. ولهذا أيضا جاء قوله تعالى: «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ» مشيرا إلى كثافة هذا الظلام المنعقد من الكفر والضلال حول دائرة النور والإيمان! .. فالنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- محتاج فى هذا الموقف إلى أمداد من ربه، تثبت فؤاده، وتربط على قلبه، حتى يصمد فى هذه المعركة المحتدمة، ويصبر على ما يساق إليه من مكاره.. قوله تعالى: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1121 رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ.. أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ» .. الأشهاد: جمع شاهد، أو شهيد، مثل صاحب وأصحاب، ومثل شريف وأشراف.. والمراد بهم هنا، الأنبياء، الذين يشهدون على أقوامهم.. والاستفهام هنا مراد به النفي.. وقد جاء فى صيغة الاستفهام، ليكون أبلغ فى تقرير النفي، ذلك أن هذا الاستفهام يستدعى جوابا، الأمر الذي يلفت السامعين إلى البحث عن هذا الجواب، وتفرس وجوه الظالمين جميعا، وتقليب أحوالهم، لتقع العين على من هم أظلم ممن افترى على الله الكذب.. ثم إذا دارت العين فى كل مدار، وتطلعت فى كل أفق، ثم لم تجد أحدا أظلم من هؤلاء الظالمين الذين افتروا على الله الكذب- كان الجواب بالنفي: لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب!! وحين يتقرر ذلك، يجىء التعقيب على السؤال وجوابه.. «أولئك يعرضون على ربّهم» أي هؤلاء الذين تقرر أنهم أظلم الظالمين، لأنهم افتروا على الله الكذب «أولئك يعرضون على ربّهم» وقد أشير إليهم بأداة الإشارة «أولئك» بعد أن تحددت صفتهم، وعرفت وجوههم، ليكونوا بمعزل عن المجتمع الإنسانىّ كلّه، وحتى لا يصيب أحدا شىء من هذا البلاء الذي يحلّ بهم! فالإشارة إليهم، إلفات إلى ذواتهم، حتى يبتعد الناس عنهم، ويحذروا الدنوّ منهم، لئلا يؤخذوا معهم، ويساقوا مساقهم. والعرض على الله، هو عرض شامل للناس جميعا.. ولكنّ إفراد هؤلاء الذين افتروا على الله الكذب، بالعرض، وحدهم.. يشير إلى أنّهم سيعرضون عرضا خاصا، فى ذلك المكان الذي عزلوا فيه عن الناس جميعا.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1122 - «وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ» .. الأشهاد، هم الرسل، الذين يحضرون عرض هؤلاء المفترين، على ربّهم. ويشهدون عليهم بما كان منهم، من تكذيب بالله، وافتراء عليه، بما كانوا ينسبون إليه سبحانه من صاحبة وولد.. فكل نبى شهيد على من بعث فيهم.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ» (89: النحل) . ويقول سبحانه: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» (41: النساء) . وشهادة الرسل على هؤلاء المفترين على الله، هى شهادة تخزى هؤلاء المكذبين المفترين، وتبهتهم، وتدينهم بين يدى الله، وتقيم أسباب الحكم عليهم بالعذاب الأليم.. وفى هذا مضاعفة لآلامهم، حتى لكأن هذه الشهادات قيود وأغلال تمسك بهم أن يفلتوا من العذاب. وفى إشارة الرسل إليهم بقولهم: «أُولئِكَ» تأكيد لذوات هؤلاء المجرمين، وإحكام للدائرة المطبقة عليهم، فلا يفلت منهم أحد، ولا يدحل عليهم من ليس منهم.. فهم وحدهم فى هذا المكان المنعزل، وفى ذلك المنزل السوء.. - «ألا لعنة الله على الظالمين» .. قد يكون هذا تعقيبا من الرسل بعد أن أدّوا الشهادة على هؤلاء الظالمين من أقوامهم، الذين كذبوهم، وآذوهم.. أو قد يكون تعقيبا من النّظّارة جميعا، من الخلائق التي شهدت هذا العرض، من الناس والملائكة.. وفى وصفهم «بالظالمين» ، بدلا من «الكاذبين» الذي يقتضيه سياق النظم، إشارة إلى أنهم لم يكونوا كاذبين وحسب، بل كانوا متجاوزين الحدود الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1123 فى الكذب، مبالغين فيه، غير مقتصدين، أو واقفين به عند حدّ.. لقد كذبوا على الله، وكذبوا على أنفسهم، وكذبوا على الناس، وقلبوا وجوه الحقائق قلبا منكرا، فكانوا بهذا كاذبين وظالمين معا. قوله: «الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ» - هو بيان شارح لظلم هؤلاء الظالمين، وافتراء هؤلاء المفترين.. إنهم يصدّون عن سبيل الله.. يصدّون أنفسهم عن الإيمان، ويصدّون غيرهم عن أن يؤمنوا، ويقعدون لهم بكل سبيل، وإنهم ليريدون أن تكون سبيل الله معوجّة، بما يدخلون على الحق من ضلال، وبما يفترون عليه من كذب.. وإنهم آخر الأمر ليكفرون بالله وباليوم الآخر.. وتلك هى حصيلتهم التي حصلوها فى الدنيا، وجاءوا يحملونها على ظهورهم فى الآخرة. قوله تعالى: أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ.. يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ.. ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ.. أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» . أي إن هؤلاء الظالمين، الذين بلغ ظلمهم ما بلغ من الشناعة والفحش، والذين كان تعجيل العذاب لهم، يأخذهم بظلمهم فى الدنيا، أمرا تستدعيه الحال- هؤلاء لم يعجّل الله لهم العذاب فى الدنيا، لا لأن قوة تعصمهم من الله، أو تردّ عنهم بأسه- تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.. فما كانوا «معجزين فى الأرض» أي ما كانوا ليعجزوا لله عن أن يأخذهم بالبلاء والهلاك، كما أخذ الظالمين من قبلهم، وما كان لهم من أولياء يدفعون بأس الله عنهم، ولكنه سبحانه أخّرهم إلى يوم القيامة، حيث أن عقاب الدنيا، لا يستوفى منهم ما هم أهل له من بلاء ونكال.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1124 مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ.. وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ» (42- 43: إبراهيم) - وفى قوله تعالى: «يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ» إشارة إلى عذاب الآخرة الذي سيلقونه، وأنه أضعاف مضاعفة لعذاب الدنيا الذي حلّ بالظالمين قبلهم، وأنهم إذا كانوا قد أفلتوا فى الدنيا من عذاب الله، فإنه سيضاف إلى عذابهم فى الآخرة، ويضاعف لهم العذاب. - وفى قوله تعالى: «ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ» تعليل لما هم فيه فى هذا اليوم من بلاء عظيم، إذ أنهم فى دنياهم قد عطلّوا حواسّهم، فلم ينتفعوا بها فى الاستماع إلى آيات الله، أو فى النظر إلى ملكوت السموات والأرض، وما يتجلّى فيه من آيات الخلاق المبدع العظيم! - وفى قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» تعقيب على تلك المحاكمة التي أدين فيها هؤلاء الظالمون.. إنهم قد خسروا أنفسهم، وأوردوها هذا المورد الوبيل. أمّا ما كان بين أيديهم من مفتريات وأباطيل، فقد صفرت أيديهم منه، ولم يبق لهم إلا ما أعقب من الحسرة والندامة! قوله تعالى: «لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ» لا جرم: أي لا شكّ ولا ريب.. والمعنى أنه لا جدال، ولا شكّ فى نظر أي عاقل ينظر فى أحوال هؤلاء الظالمين، وما جنوا على أنفسهم- أنهم هم أخسر الناس صفقة، إذ اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة «فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ» .. فكما أنهم كانوا بفعلهم المنكر أظلم الظالمين، كذلك هم يوم توفّى كلّ نفس ما كسبت، وينال كل عامل جزاء ما عمل- هم أخسر الخاسرين فى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1125 هذا اليوم، يوم الجزاء. قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» أخبتوا إلى ربهم: الإخبات: الولاء والخضوع، وأرض خبيت أي مطمئنة مستوية.. والمعنى أنه إذا كانت النار مثوى الظالمين، فإن الجنة هى دار المتقين، الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وأسلموا أنفسهم لله، وأخلصوا له الولاء والطاعة، واستقبلوا آيات الله فى غير عناد واستكبار، ونظروا إليها بغير استعلاء وازدراء، فعرفوا أنها الحقّ، فاتبعوه. وفى المقابلة بين أصحاب النار وأصحاب الجنة، نظر لناظر، وعبرة لمعتبر.. فهناك شقاء، وبلاء، ونكال، وهنا نعيم، ورحمة، ورضوان.. ولكلّ منزلة أهلها، والعمل هو الذي يضع كل إنسان موضعه. قوله تعالى: «مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أَفَلا تَذَكَّرُونَ» هو عرض للفريقين معا- الذين كفروا، والذين آمنوا.. أصحاب النار، وأصحاب الجنة- فى هذه الصورة الحسيّة، التي يراها الناس رأى العين، والتي تمثل حال كلّ منهما فى وضوح وجلاء.. فالذين كفروا يرون صورتهم على صفحة مرآة، لا تتحرك عليها إلا أشباح آدميين، معطوبين، مصابين بآفات العمى والصمم.. وإن الذي ينظر فى هذه الأشباح المتحركة على تلك الصفحة، يرى عالما يضرب فى نيه وضلال، ويتخبط فى ظلام وضباب.! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1126 فالأعمى.. إذا دعا لا يجد لدعائه من يسمع ويستجيب! .. وهو لا يملك غير الدعاء.. والأصمّ.. إذا أشار، لا يجد من يبصر إشارته، ويترجم مضمونها.. وهو لا يملك غير الإشارة.. فهذا هو عالم الضّالين والكافرين.. هم بين أعمى، لا يجد من الصمّ الذين بين يديه، من يستمع له.. وبين أصمّ، لا يجد من العمى الذين معه من يستجيب لإشارته.. فكل منهم ضالّ يحتاج إلى من يهديه، ويسدّ النقص الذي فيه، فكيف إذا كانوا كلّهم عميا وصمّا؟ أما الذين آمنوا.. فهم عالم نابض بالحياة، مستكمل كل أسباب الوجود الكريم.. فهم بين سامع ومبصر، وسميع وبصير.. ليس فى عالمهم مئوف فى حاسّتيه هاتين.. وإنما هم متفاوتون فى درجات السّمع والبصر.. فإذا كان فيهم السامع، فإن فيهم من هو أرهف سمعا، وهو «السميع» ، وإذا كان فيهم من هو مبصر، فإن فيهم من هو أحد بصرا وهو «البصير» .. وبهذا يكمّل بعضهم بعضا، ويصبحون آخر الأمر جهازا سليما كاملا، للمسموعات، والمبصرات جميعا.. يلتفطون كل مسموع، ويتبادلون المعرفة فيما سمعوا، ويكشفون كل منظور، ويتعاطون العلم لكل ما أبصروا واستبصروا! - وفى قوله تعالى: «هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا» استفهام يراد به تقرير النفي.. أي لا يستوى الفريقان أبدا. «ومثلا» : تمييز.. أي هل يستوى هذان الفريقان من جهة المماثلة بينهما، والموازنة بين قدريهما؟ - وفى قوله تعالى: «أَفَلا تَذَكَّرُونَ» تحريض لذوى الألباب أن يقفوا عند الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1127 هذا المثل، وأن ينظروا إلى ما فيه من عبرة واعتبار! .. فعلى ضوء هذا المثل ينكشف الفرق بين المؤمنين والكافرين! الآيات: (25- 31) [سورة هود (11) : الآيات 25 الى 31] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) التفسير: قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ» .. مناسبة هذه القصّة، لما قبلها أنها تعرض من الماضي صورة للصراع بين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1128 الحق والباطل، وبين المحقّين والمبطلين، بعد أن عرضت الآيات السابقة موقفا قائما بين النبىّ وقومه، وما يدعوهم إليه من هدى وخير، وما يلقونه به من صدّ وتكذيب! وفى ذكر أخبار الأولين، وما فى تلك الأخبار من مواقف مشابهة للأحداث الجارية التي يعيش فيها الناس يومهم هذا، تذكير لهم بتلك الحقيقة التي تقررت بحكم الواقع، وهى أن النصر دائما للمؤمنين، وأن الخزي والهوان دائما على المكذبين الكافرين.. وقصة نوح وقومه، هى أولى الأحداث الإنسانية، التي اصطدم فيها رسول من رسل الله بقومه.. ثم تجىء بعد هذا قصص مشابهة لها، يجىء بها القرآن مرتبة ترتيبا زمنيا، حسب وقوعها.. قصة «عاد» ونبيّهم «هود» وقصة «ثمود» ونبيّهم «صالح» .. وهكذا.. إبراهيم، ولوط، وموسى، وعيسى. فهذا نوح- عليه السلام- يلقى قومه برسالة ربه، منذرا إياهم بالعذاب الأليم، إن هم لم يستجيبوا له، ويؤمنوا بالله رب العالمين.. ومبشرا لهم بالجنة والرضوان إن هم آمنوا بالله، وأخلصوا دينه له.. «إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ» وهذا أول صوت نسمعه من نوح، يؤذّن به فى قومه، فى هذه القصة.. ولا شك أن هناك أحداثا كثيرة، طواها النظم القرآنى، ولم يذكرها، إذ هى مما يفهم بداهة.. كمجىء نوح إلى قومه، ودعوته لهم، وشرحه لرسالته فيهم.. ومن قبل ذلك، كان إعلام الله سبحانه وتعالى إيّاه باختياره للنبوة، واصطفائه بالرسالة، ثم تلقيه مضمون هذه الرسالة.. وهكذا.. وفى قول نوح لقومه: «إنى لكم نذير مبين. ألّا تعبدوا إلا الله إنى أخاف عليكم عذاب يوم أليم» هو تلخيص لمضمون رسالته، وضبط لمحتواها.. فهو نذير بليغ، يحذرهم عذاب الآخرة.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1129 - والضمير فى قوله تعالى: «منه» يعود إلى الله سبحانه وتعالى.. وهو- جلّ شأنه- وإن يكن لم يجر ذكره فى اللفظ، فهو مذكور على كل حال، وفى كل زمان، ومكان، وفى هذا إشارة إلى أن ما فيه الضالون من غفلة عن الله، وشرود عن ذكره، هو أمر خارج عن مقتضى الطبيعة الإنسانية السليمة الرشيدة.. قوله تعالى: «فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ» . هذا هو الجواب الذي استقبله نوح من قومه، ردّا على دعوته إياهم، إلى الإيمان بالله.. «ما نراك إلا بشرا مثلنا» .. فهذا هو ما رابهم من أمر نوح ومن دعوته.. إنه بشر مثلهم.. وليس لبشر- كما قدّروا ضلالا وجهلا- أن يكون أهلا للسفارة بين الله والناس! وقد كان الأولى بهم أن ينظروا أولا فى وجه الدعوة التي يدعوهم إليها رسول الله، قبل أن ينظروا فى وجه هذا الرسول.. فإذا كانت دعوة فيها خيرهم ورشدهم، كان من الحكمة والرأى، أن يقبلوها، ولا ينظروا فيما وراءها.. وإلا كان لهم أن يقفوا منها الموقف الذي يدلّهم عليه العقل والرأى.. - وقوله تعالى: «وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ» هو إشارة إلى مدخل من مداخل الريب والشك عندهم، فى أمر نوح وفى دعوته، وهو أن الذين استجابوا لنوح، هم من ضعفة القوم والمرذولين فيهم، والرّذل من كل شىء هو الخسيس منه.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1130 فالذين استجابوا لدعوة نوح، كانوا من الذين لم تقم لهم فى مجتمعهم رياسة، أو تقع لأيديهم سلطة، يخشون عليها من هذا الطارق الجديد، الذي يطرقهم بتلك الدعوة، التي يخشى منها أرباب الجاه والسلطان، أن تكون سببا فى تغيّر الأحوال التي اطمأنوا إليها، وشدّوا أيديهم عليها.. وهكذا، يكون الموقف دائما فى مواجهة كل جديد، يطلع على الناس.. فأصحاب الجاه والسيادة والسلطان، يتصدّون له، ويقفون فى وجهه، لأنه غالبا لا يطلع عليهم إلا بما يبدّل من أحوالهم، ويغيّر من أوضاعهم.. أما من لا سلطان لهم ولا جاه، فإنهم يستقبلون الجديد، وينظرون فيه نظرا غير محجوز بهذه الحواجز التي يقيمها المال والجاه والسلطان، بين أهله وبين كل جديد.. - وفى قولهم: «بادِيَ الرَّأْيِ» إشارة إلى أن الذين انبعوا نوحا هم- فى نظر أصحاب السيادة والسلطان- من أراذل القوم، الذين لا يخفى أمرهم على أحد، ولا يحتاج التعرف عليهم إلى بحث ونظر، بل إن النظرة الأولى تحدّث عنهم، وتمسك بهم! فلا خلاف بين القوم على منزلتهم الاجتماعية فيهم، وأنهم بحكم فقرهم وضعفهم، موضوعون فى أدنى درجات السّلّم الاجتماعى! هكذا ينظر إليهم القوم، وهكذا يحكمون عليهم.. - وفى قوله تعالى: «وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ» تأكيد للرأى الذي رآه القوم فى نوح وفيمن اتبعه، وأنه لا فضل لنوح والذين معه على القوم، فكيف يدعونهم إلى متابعتهم، والتابع من شأنه أن يكون دون المتبوع ووراءه.. فهل يعقل- والأمر كذلك- أن يكون نوح ومن معه متبوعين، ويكون القوم أتباعا لهم؟ ثم لا يكتفى القوم بهذا، بل يرمون نوحا ومن اتبعه بالكذب والبهتان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1131 على الله.. والظن هنا يقين.. بدأ عند القوم ظنّا، ثم استحال مع الجدل والعناد، يقينا.. قوله تعالى: «قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ.. أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ» . البيّنة: الحجة والبرهان والدليل، الذي به يتبين الإنسان موقفه من الأمر الذي معه.. والرحمة: النعمة التي أنعم الله بها عليه، وهى التعرف على الله، والإيمان به.. عمّيت عليكم: أي خفى عليكم أمرها، وعميت أبصاركم عنها.. أنلزمكموها: أصلها أنلزمكم إياها.. والإلزام بالأمر: الحمل عليه بالقهر والقوة.. و «ها» فى قوله تعالى: «أنلزمكموها» ضمير بعود إلى الرحمة، وهى الإيمان بالله. وفى هذا الردّ الذي ردّ به نوح على قومه إشارة إلى أن المعتقد الديني لا يكون عن قهر وإكراه، وإنما هو أمر لا يتمّ إلا عن اقتناع، وقبول، ورضا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» .. وقد أشرنا من قبل إلى معنى البينة عند تفسير قوله تعالى: «أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ» (الآية 17 من هذه السورة) وقلنا إن البينة هى الفطرة السليمة المركوزة فى كيان الإنسان، والتي يجد منها صاحبها الدليل الذي يدلّه على الله سبحانه وتعالى، من غير أن يرد عليه وارد من الخارج، يدلّه على الله.. فإذا جاء هذا الوارد، كان رحمة وفضلا من الله سبحانه، إلى ما أودع الله فى الإنسان من فطرة سليمة.، وعقل مدرك مبصر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1132 قوله تعالى: «وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ» . ومن حجّة نوح على قومه، أنه إذ يدعوهم إلى ما يدعوهم إليه، وإذ يحتمل فى سبيل ذلك ما يحتمل من جهد وبلاء- أنه لا يسألهم أجرا على هذا العمل، الذي يحتمل من أجله ما يحتمل من عناء، وإنما هو حسبة لله.. ولو أن نوحا كان يبغى بما يدعوهم إليه أجرا منهم، أو نفعا ذاتيا له، لكان لهم أن يظنّوا به الظنون، وأن يرتابوا فى أمره، وفى هذا الإلحاح الّذى يلحّ به عليهم، رغم ما يجبهونه من تكذيب، وما يرمونه به من ضرّ.. وإذ كان الأمر كذلك، فإنه مقيم على دعوته، ممسك بمن استجاب له من قومه، وإن كانوا كما يقولون فيهم، إنهم أراذلهم! .. ذلك أن القوم جميعا مدعوون إلى الله، ولا يأخذ الداعي أجرا من المدعوّين، سواء أكانوا أغنياء أم فقراء.. أصحاب جاه وسلطان، أم مجردين من كل جاه وسلطان.. فالباب مفتوح، لكل من يريد الدخول إلى ساحة الله، ومن دخلها مستجيبا لدعوة الله، فإنه من غير المقبول أو المعقول أن يطرد بعد أن أجاب.. فهؤلاء الذين آمنوا هم فى طريقهم إلى الله، ولن يطردهم ويردّهم من دعاهم إليه.. ولكنّ القوم فى جهل وضلال، لا يرون حتى هذه البديهيّات من الأمور. قوله تعالى: «وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ.. أَفَلا تَذَكَّرُونَ» . أي إن الجماعة الذين آمنوا قد أصبحوا فى ضيافة الله، فكيف أعتدى على ضيوف الله؟ وكيف أطردهم من ساحته وقد تحصّنوا به، ونزلوا فى حماه؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1133 أفلا يحمى الله- سبحانه وتعالى- ضيوفه؟ أفلا يأخذ على يد من يعتدى على من كان فى ضيافته، ومن احتمى فى حماه؟ إن ذلك ما لا بد أن يكون.. فلله سبحانه وتعالى غيرة على حرماته أن تنتهك.. فهل إذا انتهك نوح حرمة الله، وطرد المتحرمين بهذه الحرمة، ثم أخذه الله ببأسه.. أفي القوم من ينصر نوحا ويدفع عنه بأس الله إن جاءه؟ .. ذلك محال.. وإذن فلن يطرد نوح من آمن بالله، ولن يخلى مكانهم لهؤلاء السادة الذين يأبون أن يكونوا هم وهؤلاء «الأرذلون» على مائدة واحدة، ولو كانت مائدة الله، الممدودة لعباد الله!! قوله تعالى: «وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً.. اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ.. إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ» . إنه ليس بين يدى نوح ما يقدّمه لهؤلاء القوم، الذين يقدّرون خطواتهم التي يخطونها نحو أمر من الأمور، بقدر ما يمكّن لهم هذا الأمر من سلطان، وما يكثّر فى أيديهم من أموال.. إنه ليس معه شىء يغريهم به، ويشدّهم إليه نحو هذه الدعوة التي يدعوهم إليها.. إنّه ليس عنده خزائن الله، حتى يملأ أيديهم منها.. فذلك إلى الله وحده.. وإنه لا يعلم الغيب، حتى يكشف لهم عن مسالك الطرق التي يأخذونها إلى غايات النجاح والفلاح، وإنه ليس ملكا من السماء، يملك من القوى ما لا يملكون.. إنه بشر مثلهم!! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1134 وإنه ليس له أن يحكم فى أمر هؤلاء الذين يحقرونهم، ويزدرونهم ويرون أنهم ليسوا أهلا لأن يلبسوا فضلا، أو يسبقوا إلى خير.. الله أعلم بما فى أنفسهم، وما استكنّ فى قلوبهم، من إيمان أو نفاق.. فإن الحكم عليهم من جهة نوح بما استكنّ فى سرائرهم، هو ظلم، لأنه حكم بغير بينة، إذ لا يعلم ما فى السرائر إلا الله.. فهذا هو نوح، الذي يدعوهم إلى الله.. إنه بشر مثلهم، وإنه لا يملك لأحد ضرّا ولا نفعا.. فإن قبلوه على ما هو عليه، وآمنوا بالله، فذلك من حظّهم.. وإن أبوا عليه، وخالفوه.. فلهم ما شاءوا.. «أنلزمكموها وأنتم لها كارهون» إنه لا إكراه فى الدين..! الآيات: (32- 35) [سورة هود (11) : الآيات 32 الى 35] قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) التفسير: قوله تعالى: «قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» .. إنه بهذا اللقاء الذي يفيض بالجفاء، والضجر- يلتقى القوم بنوح، فيلقون إليه بهذه الكلمات المتهجّمة المتوعدة: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1135 «يا نوح: قد جادلتنا فأكثرت جدالنا» .. وإنه لجدل عقيم، قد تصدّعت له الرءوس.. فأعفنا من جدلك هذا، وهيّا ائتنا بما تعدنا من العذاب، إن كنت من الصادقين!! هكذا منطق السفهاء والحمقى، مع دعاة الخير، وقادة الناس إلى الهدى والرشاد! تطاول، وسفاهة، وسخرية، واستهزاء.. ثم تحدّ وقاح لما أنذروا به من عذاب الله.. إنهم ينكرون أن يكون نوح على صلة بالله، ويرون ما أنذرهم به ليس إلا من مفترياته على الله.. فليأت بهذا العذاب إن كان من الصادقين. وفى لطف ووداعة ولين، وتواضع، يلقى هذا التحدي.. فيقول ما حكاه القرآن عنه، فى قوله تعالى: : «قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» . فذلك ليس أمره إلى يدى، وإنما أمره إلى الله، ينزله بكم حيث شاء علمه، وقضت إرادته.. ولستم بالذين يعجزون الله، أو يجدون مهربا من وجه العذاب الذي يأخذكم به، حين يشاء!: «وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» . وليس لى كذلك أمر هدايتكم وإرشادكم، والانتقال بكم من الضلال إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإيمان.. فذلك أمره إلى الله وحده.. فإن كان الله سبحانه وتعالى قد أراد بكم ألّا تبصروا من عمى، وألا تهتدوا من ضلال، فذلك شأنه فيكم، وحكمه عليكم، وأنتم مربوبون له، وهو ربكم، وإليه مرجعكم.. إن شاء عذّبكم، وإن شاء عفا عنكم.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1136 وفى قصر الحديث معهم على الإغواء، وهو الإضلال، دون الحديث عن الهداية والإرشاد إلى الإيمان- إشارة إلى أنّهم لن يكونوا إلا هكذا، وأن الله سبحانه وتعالى، قد أخبر أنهم لن يؤمنوا، كما قال تعالى بعد ذلك: «وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ» .. - وفى قوله: «إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ» مع أنه ينصح لهم فعلا، إشارة لى أنه لو أراد معاودة النصح، ومراجعتهم فى موقفهم، بعد أن قطعوا عليه لطريق بقولهم: «يا نوح.. قد جادلتنا فأكثرت جدالنا» - إنه إن أراد أن يجدّد النصح ويعاوده، فلن ينفعهم ذلك، إن كان الله قد أراد لهم الضلال وكتب عليهم الكفر. قوله تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ» - هو حديث إلى المشركين من قريش وأحزابهم، وفضح لما يدور فى خواطرهم، ويتردد فى صدورهم، ويتحرك على شفاههم من اتهام للنبىّ بأنه افترى هذا الحديث الذي تحدّث به عن نوح وقومه، أو أنه افترى هذا القرآن الذي يحدثهم به، وأنه ليس وحيا من عند الله، كما يقول.. وقد ردّ الله عليهم بقوله للنبىّ: «قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ» أي إن يكن ما جئت به هو اختلاق وكذب، فهو جريمة منكرة، وإثم غليظ.. ولكن تبعة هذا الجرم علىّ وحدي، إن يكن ما جئت به مفترى على الله.. وليس عليكم منه شىء، وإنما عليكم تبعة هذا الجرم الذي أنتم فيه، وهو الكفر بالله.. وأنا برىء مما أجرمتم، وممّا يصيبكم منه من عذاب عظيم. وقد جاءت هذه الآية فى ثنايا قصة «نوح» ليلتفت إليها المشركون، وكأنّها قصتهم.. ثم لينتبهوا إلى ما سيجيئ بعدها.. من أخذ الله سبحانه وتعالى للظالمين والمكذبين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1137 الآيات: (36- 39) [سورة هود (11) : الآيات 36 الى 39] وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39) التفسير: : «وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ» . هذا عزاء وتسرية عن نوح.. من ربّه، بعد أن جابهه قومه بالقطيعة والتحدّى، بقولهم: «قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» .. فقد لبث فيهم نوح.. كما يحدّث القرآن الكريم.. ألف سنة إلّا خمسين عاما، يدعوهم إلى الله، فما استقاموا له، ولا لانت قلوبهم القاسية! «فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ» .. والابتئاس: الحزن، والألم، أي لا تحزن ولا تتألم، لما يلقونك به من بهت وتكذيب، فقد عاقبهم الله أشدّ عقاب، وهو أنه أمسك بهم على الكفر، وحجزهم عن أن يكونوا من المهتدين المؤمنين! «وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ» .. وهذا عقاب آخر معجّل لهم فى الدنيا.. «إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ» . وقوله تعالى: «بِأَعْيُنِنا» أي تحت رعايتنا وعنايتنا، وبتوفيقنا وتوجيهنا.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1138 وقوله تعالى: «وَوَحْيِنا» أي بإرشادنا لك، بما نوحيه إليك من أمر السفينة، وكيف تصنعها، وعلى أي وجه وصورة تقيمها.. - وفى قوله تعالى: «وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا» .. إشارة إلى شدّة نقمة الله على هؤلاء المكذبين الضّالين، واستبعاد لكل شفيع يشفع لهم، كما فى قوله تعالى: «وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا» (11- المزمل) وقوله سبحانه: «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً» (11: المدثر) . وفى قوله تعالى: «إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ» حكم قاطع لا مردّ له.. : «وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ» . امتثل نوح أمر ربّه، وأخذ بصنع السفينة كما أمره الله، وكما أرشده ووجهه.. وكان كلّما مرّ عليه «ملأ» أي جماعة من قومه وهو يعمل فى السفينة، هزئوا منه وأسمعوه ما يؤذيه من قوارص الكلم، وقالوا ما حكاه القرآن عنهم فى قوله تعالى: «فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ» (9: القمر) .. ولكنّ نوحا يعلم ماوراء هذا الأمر الذي هو قائم عليه.. إنه النجاة له، والهلاك للقوم الظالمين.. فهم إن سخروا منه اليوم، فإنه سيسخر منهم عدا، حين ينكشف لهم الأمر. ويحلّ بهم البلاء. «إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1139 الآيات: (40- 44) [سورة هود (11) : الآيات 40 الى 44] حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) التفسير: قوله تعالى: «حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا» هو غاية لقوله تعالى: «وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ» أي وظل نوح يصنع الفلك، وينتظر أمر ربه فيما صنع، حتى جاءه أمر الله، وقد فار التنور حين اتصل الماء النابع من الأرض بالنار الموقدة فى التنور.. والتنور: هو مستوقد النار. «قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ» هذه هى شحنة السفينة التي صنعها نوح.. قد أركب فيها من كل صنف من أصناف الحيوان زوجين، ذكرا وأنثى.. ثم أهله، إلّا من سبق عليه قضاء الله منهم، فلم يستجب له، ولم يؤمن بالله.. ثم من آمن من قومه: «وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ» «وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» . فباسم الله تجرى على هذا الماء، وباسم الله تستقر على اليابسة، بعد أن يأذن الله للماء أن يغيض، وللأرض أن تستقبل السفينة. فالله سبحانه هو المسيّر لها، وهو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1140 الممسك بها. «إن ربى لغفور» يتجاوز عن سيئات من يبسط له يده بالتوبة «رحيم» لا يؤاخذ الناس بظلم الظالمين منهم: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» (45: فاطر) . قوله تعالى: «وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ» . وهكذا يفرّق الضلال بين الابن وأبيه.. حتى ليأبى الولد وهو بين يدى هذا البلاء المحيط به، أن يستجيب لأبيه، وأن يستمع له.. فيخرج عن أمره، وهو يدعوه إلى ما فيه سلامته ونجاته.. وهكذا يوفّى كلّ من الأب والابن جزاء ما كسب.. فينجو الأب بإيمانه، ويهلك الابن الكافر بكفره.. قوله تعالى: «وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» . لقد دارت السفينة دورتها، وبلغت المدى المقدور لها، وأذن الله سبحانه وتعالى لها أن تستقر على اليابسة.. - «وقيل يا أرض ابلعي ماءك» .. والقائل هو الله سبحانه وتعالى، وعدم ذكره، إشارة إلى أن المقام يحدّث عنه، والحال ينطق به.. إذ لا يسمع الأرض غيره، ولا يأمر السماء فتمتثل أمره، سواه! وإقلاع السماء: هنا، أن تكفّ عن إنزال الماء المتدفق من أبوابها، كما يقول سبحانه وتعالى: «فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ» .. والجودىّ: قيل هو جبل بالموصل، وقيل هو كل أرض صلبة مستوية.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1141 - قوله تعالى: «وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» .. القائل هنا يمكن أن يكون الله سبحانه وتعالى، أو أن يكون نوح ومن كان معه فى السفينة، ويجوز أن يكون قول كل إنسان يعلم من أمر القوم ما كان منهم من ضلال، وعناد! وهنا أمور نحب أن نقف عندها: أولا: قد تحدّث المفسّرون أحاديث كثيرة عن السفينة، وأوصافها، وطولها، وعرضها.. وهذا ما لم يحدّث به القرآن، تصريحا أو تلميحا.. فلنحترم صمت القرآن، ويكفى أن نعلم أنها سفينة حملت ما أمر الله نوحا أن يحمله فيها، من أناس وأنعام. وثانيا: صنوف الحيوان التي حملتها السفينة.. فقد جلب إليها المفسّرون كلّ شارد ووارد من حيوان الأرض.. من دوابّ، وأنعام، وطيور، وزواحف.. مما لا يمكن أن يرى فى أكبر حدائق الحيوان فى العالم.. وهذا أمر غير متصوّر.. اللهم إلا أن تكون السفينة كوكبا آخر، غير الكوكب الأرضى.. نقل إليه ما على ظهر الأرض من أحياء! والذي يعقل، هو أن يكون نوح قد حمل معه بعض الحيوانات الأليفة، التي ينتفع بها الإنسان، مما يركب، أو يحمل عليه، أو يؤكل لحمه ويشرب لبنه، مما لا يتجاوز بعض ما يقتنيه الإنسان ويربيه، مقتصرا منه على ذكر وأنثى، من كل نوع، حتى تتوالد، وتكثر، وتستبقى نسلها، شأنه فى هذا شأن أسرة تعتزل ناحية من الحياة، فتأخذ معها كل ما يصلح لحياتها فى الموطن الجديد المنعزل.. أما أن يحمل نوح فى سفينته كل حىّ، من الأسود والنمور والذئاب والضباع، والثعلبين والحيات، والفئران والعقارب، وغير هذا مما تحمل الأرض- فهذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1142 ما لا يتصور أن تحمله سفينة، كما أنه ضرب من العبث، بل وإنه لمن الضلال والضياع أن يصحب الإنسان هذه الحيوانات المهلكة.. وثالثا: ما وصف به الماء الذي كانت تجرى عليه السفينة- وأنها تجرى فى موج كالجبال- هذا الوصف قد أثار عند المحدّثين تساؤلات كثيرة- خاصة عند من ينكرون أن الطوفان كان عامّا شمل الأرض كلها- فيقول قائلهم: وأين هى الأمواج التي تكون كالجبال؟ ثم ما داعيتها إذا كان المراد هو إغراق جماعة ضلّت طريقها إلى الله؟ ألا يكفى أن يكون سيلا جارفا ينزل بهم، ويقضى عليهم؟ والجواب: أن تشبيه الأمواج بالجبال لا يعنى أن تكون مثل الجبال حجما وعلوا، سواء بسواء، بل يكفى أن يكون هناك وصف مشترك بينهما.. وفى الأمواج ما يرتفع إلى علو يبدو وكأنه فوق صفحة الماء هضاب وجبال على ظهر الأرض.. فالأمواج العالية، هى جبال فوق سطح الماء، وإن لم تبلغ الجبال التي على ظهر الأرض.. ضخامة وارتفاعا.. فإذا نظرنا إلى «الطوفان» باعتبار أنه كان ظاهرة من ظواهر الطبيعة، وثورة من ثوراتها العاتية، كان لنا أن نرى هذه الصورة التي رسمها القرآن، أمرا ممكنا، إذ يقع كثير من الطوفانات فى العالم بفعل الأعاصير العاتية، فتجتاح المدن، ويرتفع الماء، إلى عشرات الأمتار فوق سطح البحر.. فكيف إذا كان طوفان نوح هذا، ظاهرة فريدة بين تلك الظاهرات؟ إنه معجزة قاهرة متحدية.. لن يقع مثلها، ولن يتكرر أبدا! .. رابعا: هذا الطوفان.. هل كان محليا، شمل المنطقة التي كان يعيش فيها نوح وقومه.. أم تجاوزها فشمل اليابسة كلها، بحيث لم يكن هناك شبر منها لم يغطّه الماء؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1143 إننا نميل كثيرا إلى القول بأنه كان طوفانا محليا.. إذ ليست هناك حكمة ظاهرة لأن تتغير معالم الأرض، وتتحول كلها إلى محيط يشتمل عليها.. وإنه ليكفى- لكى تقوم المعجزة، وتؤدى الغرض منها- أن تحدث ثورة من ثورات الطبيعة فى هذا المكان، فيغرق اليابسة ومن عليها، ويهلك الحرث والنسل.. وخامسا: ابن نوح.. اختلف المفسرون فى نسبته إلى نوح.. وهل هو ابنه، أو ابن زوجه من رجل غيره.. ويجيئون إلى ذلك بقراءة من يقرأ «ابنه» : «ابنها» .. هكذا: «ونادى نوح ابنها» .. ويؤيدون هذا بأن نوحا قال: «إن ابني من أهلى» ولم يقل «إنه منى» ! بمعنى أنه من زوجه، إذ كانت زوجة الرجل أهله، التي أقام منها أهله ونسله.. وكأنهم بهذا إنما يستكثرون أن يكون ابن نبى من الأنبياء كافرا، خارجا على سلطان أبيه، وأن الله سبحانه وتعالى لم يكرم هذا النبىّ، فيحفظ ابنه من الضلال، ويقيمه على طريق الهدى! وهذه كلها مما حكات- وأكاد أقول إنها ضروب من اللهو- ينبغى أن ننزه القرآن الكريم عنها..! وماذا يقول نوح لكى يكشف عن وجه ابنه، أكثر من أن يقول: «رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي» ؟ وهل ليس ابن الإنسان من أهله؟ بل وماذا يقول الذين يقولون هذه الشناعات- ماذا يقولون فى قول الله تعالى: «وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ» بل ماذا يكون من أب نحو ابنه من حنوّ وإشفاق، ومن جزع وحزن، أكثر مما فعل نوح مع ابنه هذا؟. لقد هتف به أن يركب السفينة معه، وذلك حين تفقّده فلم يجده بين أهله الراكبين فيها.. ثم لقد برّح به الحزن، واشتد عليه الألم بعد أن هلك هذا الابن، وكان من المغرقين- فجعل نوح بندب ابنه ويبكيه، ويطلب من الله العزاء والسلوان الذي حكاه القرآن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1144 بقوله: «وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي؟ وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ! وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ!» فبهذا القلب الحزين الذي يتمرق أسى وحسرة يناجى نوح ربه، وكأنه يعاتبه أو يراجعه فيما قضى به سبحانه وتعالى فى هذا الابن العاقّ! أفبعد هذا يقال فى ابن نوح قول غير أنه ابنه؟ اللهم إلا أن تفقد الألفاظ مدلولها، وتتحول إلى ألغاز وطلاسم! وهنا يحتاج الأمر إلى منجّمين.. لا مفسرين لقرآن كريم، بلسان عربى مبين. الآيات: (45- 49) [سورة هود (11) : الآيات 45 الى 49] وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) التفسير: الذين شكّوا فى نسبة ابن نوح إليه، وقالوا إنه ابن زوجته.. لا أدرى كيف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1145 قبلوا على أنفسهم هذا القول، وبين أيديهم أكثر من شاهد يشهد ببنوة هذا الابن إلى نوح، بنوّة حقيقية لا لبس فيها.. وأنه إذا كان من الممكن حمل الألفاظ على غير محاملها، ونقلها من الحقيقة إلى المجاز، فإنه من غير الممكن أن يكون ذلك بالنسبة للعواطف الإنسانية، التي تحكمها صلات النسب، كالبنوّة، والأبوة، والأخوة ونحوها، والتي تحتل عاطفة الأبوة المكان المكين منها؟. فهذا «نوح» لا ينسى ابنه الغارق، مع أنه كان من المخالفين له، الخارجين على طاعته، المكذبين له، الكافرين بالله.. ولكنها عاطفة الأبوة المتأججة، التي لا يطفىء وقدتها ما يكون من الأبناء من عقوق، وما يكون فيهم من انحراف، واعوجاج! وإن الابن ليكون على حال من السوء والسّفه، حتى ليلفظه المجتمع كله.. ولكن عاطفة واحدة تظل ملتحمة به، متّسعة لقبوله على ما هو عليه، أيّا كان هذا الذي هو عليه.. من سوء وسفه.. تلك هى عاطفة الأبوة.. الممثلة فى الأبوين معا.. الأب والأم.. فكيف يسوغ بعد هذا لقائل أن يقول فى ابن نوح إنه ليس ابنا حقيقيا له؟ لقد كانت امرأة نوح من الجبهة المناوئة له، الخارجة على دعوته، الكافرة بالله، وقد أغرقها الله مع من أغرق من قوم نوح، فلم يأس عليها نوح، بل ولم يلتفت إليها، وقد جرفها التيار، واحتواها الموج.. فكيف يأسى على ابنها ويمسك به، ويشدّه إليه؟ ثم كيف يعود إلى ربه باكيا متوجعا، يطلب العزاء والسلوان.؟ «وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ» - وفى قول نوح: «رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ» إشارة إلى قول الله سبحانه وتعالى، لنوح: «احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1146 إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ» .. فقد كان نوح يعلم أن من أهله من حقّ عليه القول بأنه من المغرقين، ولكن عاطفة الأبوة قد حجبت عنه رؤية ابنه أن يكون فى هؤلاء الغرقى، ولهذا ظل ممسكا به إلى أن حال بينهما الموج فكان من المغرقين.. ومع أن نوحا على يقين بأن ابنه قد هلك، ولا سبيل إلى أن يلقاه حيّا فى هذه الدنيا- فإن ما به من لذعة الألم، وحرقة الأسى، قد حمله على أن يشكو إلى ربه هذا الذي يجده.. ليسمع من ربه كلمة يبرّد بها صدره، ويطفىء لهيب النار المشتعلة فيه.. وقد عاد الله سبحانه وتعالى على «نوح» بفضله، فناجاه وواساه، ووقف به على الحد الذي يجب أن يلتزمه نوح مع أمر ربه، وعلمه، وحكمته. «قالَ يا نُوحُ.. إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ.. إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ.. فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ» .. - وفى قوله تعالى: «يا نُوحُ» عزاء جميل، ومواساة كريمة من ربّ كريم.. إذ ناداه الحقّ جلّ وعلا باسمه، كما يدعو الحبيب حبيبه، ويناجى الخليل خليله.. «يا نوح» ! - وفى قوله تعالى: «إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ» إشارة إلى أن هذا الابن ليس من أهل «نوح» الذين ينسبون إليه نسبة ولاء، وطاعة.. إن أهله هم المؤمنون به.. ولهذا كشف الله سبحانه وتعالى لنوح عن السبب الذي من أجله لم يكن ابنه من أهله، فقال سبحانه: «إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ» أي إنه عمل من غير الأعمال الصالحة، التي يتقبلها الله، وما كان لنوح أن يمسك بين يديه عملا غير صالح.. وسمّى الابن «عملا» لأنه غرس من غرس أبيه، وثمرة من زرعه.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1147 ولكن هذا الابن كان غريبا، غرس فى منبت سوء، هى أمّه. فجاء ثمرة معطوبة فاسدة! - وفى قوله تعالى: «فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ.. إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ» - ما يسأل عنه: إذ كيف ينهاه الله سبحانه وتعالى عن أن يسأله ما ليس له به علم؟ وهل يسأل الإنسان إلا عن الذي ليس له به علم؟ والجواب: أن المراد بالعلم هنا، العلم الذي لا يقع فى متناول العقل البشرى، لأنه علم فوق مستوى هذا العقل، وقد استأثر به الله سبحانه وتعالى وحده.. فالنهى الواقع على السؤال عما لا يعلم نوح، هو نهى واقع على العلم الإلهى الذي لا يدركه نوح، ولا يتّسع له عقله..! وفى قصة موسى والعبد الصالح ما يشير إلى شىء من هذا، فقد سأل موسى العبد الصالح أن يعلّمه شيئا من هذا العلم الذي وهبه الله العبد الصالح، واختصه به، وذلك فى قوله تعالى: «فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً..» ولهذا قال له موسى: «هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً» ؟ وكان جواب العبد الصالح له: «إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً» ؟ إنه علم تحار أمامه العقول، وتزيغ به الأبصار.. لأنه علم فوق مستواها، وأكبر مما تحتمل.. كالضوء الباهر تحدّق فيه العين، فيحجبها ضوءه عن أن ترى شيئا، حتى لكأنها فى ظلام دامس مطبق! ولهذا جاء قوله تعالى لنوح: «إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ» منبها له إلى أن هناك علما لا يعلمه نوح، ولا يحتمل وقعه على مدركاته.. فليعلم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1148 أن له علما، وأن لله سبحانه وتعالى علما فوق هذا العلم، لا تناله الأفهام، ولا تدركه العقول.. وقد علم نوح أين يقف به علمه.. فقال: «قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ» . فهو يستعيذ بالله أن يجهل حدّ ما بين المخلوق والخالق، فيجاوز هذا الحد، فيكون ظالما لنفسه، معتديا على حدود الله.. ولهذا، فقد عرف أن ما كان منه من سؤال عن ابنه، وعن حكمة الله فى إغراقه مع المغرقين- هو أمر جاوز به الحدّ الذي ينبغى أن يقف عنده مع الله، فجاء إلى الله تائبا مستغفرا.. فتلّقاه الله سبحانه بالقبول والمغفرة.. فقال سبحانه: «قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ» . ولقد هبط نوح إلى الأرض، يصحبه السلام والبركة من الله: «اهبط بسلام منّا وبركات عليك، وعلى أمم ممن معك» .. وقد أخذ الذين كانوا مع نوح حظهم من هذا السلام وتلك البركة، فكانوا جميعا محفوفين بالسلام والبركة من رب العالمين.. - وفى قوله تعالى: «وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ» - إشارة إلى أن من مواليد هؤلاء الذين كانوا مع نوح ستنشأ أمم كثيرة، وأن هذه الأمم التي ستنشأ من ذرّية هؤلاء القوم المؤمنين، لن يكونوا على شاكلة واحدة، بل سيكون منهم المؤمنون الذين يمسّهم السلام، وتحفّهم البركة من الله، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1149 وهم أمم، ويكون منهم الذين يتخلّون عن نصيبهم من السلام، ويتعرّون عن حظهم من البركة، فيكفرون بالله، فيمتعهم الله فى الدنيا هذا المتاع القليل، ثم يلقون العذاب الأليم فى الآخرة، جزاء كفرهم بالله..! وهم أمم أيضا. وفى هذا إشارة إلى نوح وابنه.. وأن نوحا إذا كان ممن ألبسهم الله لباس السلام والبركة، فإن ذلك ليس مما يرثه الأبناء عن الآباء.. وأن المؤمن قد يكون من ذريته المؤمن والكافر.. كما أن الكافر قد يكون من ذريته الكافر والمؤمن.. وفى هذا إشارة ثالثة إلى أن للإنسان إرادة، وله سعى وعمل، وأنه بإرادته وسعيه وعمله، يأخذ الطريق الذي يريده، ويخرج به عن حكم الوراثة، الذي إن تسلط على جميع الكائنات الحية، وألزم الخلف منها طريق السلف، فإنه لن يتسلط على الإنسان، ذى العقل، والإدراك، والإرادة.. هذا، ومن إعجاز الصياغة فى النظم القرآنى، أنك تقرأ قوله تعالى: «قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ» - فتجد هذا النغم الموسيقى الهادر، فى وقار وسكينة وجلال، أشبه بأنفاس الموج، وقد أخذت تهدأ بعد انحسار العاصفة! ففى الآية الكريمة سبعة عشر ميما، موزّعة بين حروفها، هذا التوزيع الذي يقيم منها ذلك النغم الرائع، الذي يصحب السفينة فى عودتها إلى موطن السلامة والأمن، وكأنه أهازيج النصر، ينشدها العائدون من أرض المعركة، بعد قتال ضار مرير! قوله تعالى: «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا.. فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1150 الخطاب هنا للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- وأنباء الغيب المشار إليها، هى ما ذكره القرآن الكريم من قصة نوح، وهى من الأنباء التي غاب عن النبىّ وعن قومه العلم بها، وإن كان عند أهل الكتاب علم بها.. فهو غيب نسبىّ.. وليس غيبا مطلقا.. ثم إن ما عند أهل الكتاب هو حق مختلط بباطل.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى وصفه لقصص القرآن: «إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ» (62: آل عمران) . - وفى قوله تعالى: «فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ» إشارة ملفتة للنبى إلى مضمون هذه القصة ومحتواها، وهى أنه كما كانت العاقبة لنوح ومن آمن معه، فكذلك ستكون العاقبة للنبى ومن آمن معه، ويكون البلاء والوبال على المكذبين الكافرين، كما كان ذلك جزاء قوم نوح.. والأمر يحتاج إلى صبر على المكروه، فإن وراء هذا المكروه الذي يجده النبي والمؤمنون، فرجا، وسلامة، وأمنا. الآيات: (50- 60) [سورة هود (11) : الآيات 50 الى 60] وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1151 التفسير: تعرض هذه الآيات قصة أخرى من قصص الصّراع بين الحق والباطل.. كما عرضت الآيات السابقة قصّة من قصص هذا الصراع.. ليكون فى ذلك مزيد من العبر والعظات، يتمثلها النبىّ ومن آمن معه، من جهة- فيجدون فيها عزاء لهم، وصبرا على ما يلقون من عنت وعناد، كما يتمثّلها الكافرون والمشركون من أهل مكة- من جهة أخرى- فيجد أهل النظر فيها دعوة مجدّدة إلى الإيمان بالله، واللّحاق بركب المؤمنين، قبل أن يحل بهم ما يحلّ بالمكذبين من بلاء ووبال.. قوله تعالى: «وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ» . تلك هى دعوة هود إلى قومه: «اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» وهى دعوة كلّ نبى إلى قومه.. الإيمان بالله، وإخلاص العبودية له وحده. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1152 - وفى قوله تعالى: «أَخاهُمْ هُوداً» . إشارة إلى أن «هودا» ليس غريبا عن القوم، وإنما هو منهم، وأخ لهم، كما أن «محمدا» هو من قريش، وأخ، وابن أخ لهم.. - وفى قوله تعالى: «إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ» كشف لهذا الباطل والضلال الذي يمسك به القوم، ويعيشون فيه.. إنه من مفترياتهم التي ولدتها أوهامهم وأهواؤهم. «يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ» .. والدعوة إلى الله، دعوة خالصة لله، لا يطلب الداعون- وخاصة الأنبياء- أجرا عليها، فالله سبحانه وتعالى هو الذي دعاهم إلى حمل هذه الدعوة، وهو سبحانه، الذي يتولى جزاءهم، ويوفّيهم أجرهم.. وقوله: «فطرنى» أي أنشأنى من عدم، وأخرجنى من الأرض كما تخرج النبتة، فينفطر لها (أي ينشق) أديمها حتى ترى النور، وتتنفس أنفاس الحياة.. وفى هذا ما يكشف عن قدرة الله، وآثار رحمته فى هذا الإنسان، الذي كان نطفة.. ثم إذا هو خصيم مبين! «وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ» . المدرار: الكثير المتتابع، وأصله من درّ للّبن، إذا اجتمع فى الضرع، وغزر.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1153 والمدرار الذي يرسله الله من السماء: هو الغيث الذي تحيا به الأرض، وتخرج به الحبّ والنبات، والذي به تطيب حياة النّاس، ويكثر فيهم الخير، وتقوى به أيديهم على أن تطول الكثير مما يشاءون من أسباب القوة، والحياة، والسلطان.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ» . - وفى قوله تعالى: «وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ» تحذير لهم من أن يرفضوا هذه الدعوة المباركة، التي تصلهم بالله، وتفتح لهم أبواب رحمته، وتسوق إليهم غيوث رزقه.. فإن هم أعرضوا وتولّوا فقد أجرموا فى حقّ أنفسهم، وجنوا عليها.. - وقوله تعالى: «مجرمين» حال من الفاعل، وهو الواو فى تتولوا.. أي لا تعرضوا عن الاستجابة لى، محمّلين بهذا الجرم الذي أنتم فيه، والذي لا يخلصكم منه إلا الاستجابة لما أدعوكم إليه، والإيمان بالله. «قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ» . البيّنة: البرهان، والدليل.. اعتراك: أي أصابك، وأصله من العور، والعوار، وهو آفة تعرض للشىء فتفسده، ومنه اعتوره بالسيف، أي ضربه به، فأفسد بعض أعضائه، أو أفسد كيانه كلّه.. ومنه العور، وهو عمى إحدى العينين. والردّ الذي ردّ به القوم على «هود» - عليه السلام- هو الذي يلقى به المكابرون المعاندون كلّ دعوة حق. إنهم يطلبون بيّنة من «هود» وإلّا فإنهم لا يأخذون بأية دعوة قوليّة، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1154 ولو كانت تحمل الخير خالصا مطلقا.. «ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ» . والبينة التي يطلبونها، هى آية ماديّة، تقهرهم، وتضطرهم اضطرارا إلى الإيمان.. ولو أنه جاءهم بكل آية ما آمنوا، لأنهم غير مستعدّين للإيمان.. فإن المستعدّ للإيمان، وتقبّل الخير، لا يحتاج إلى دليل يظاهره، ولا إلى بيّنة تشهد له، وحسب الإيمان بالله، ما يحمل فى ذاته من أمارات الفلاح، وما يسوق بين يديه من عافية ورزق كريم! ولكن العناد كثيرا ما يفسد على المرء رأيه، ويقطع عليه الطريق إلى الخير.. لا لشىء إلا لأنه مدعوّ إليه من إنسان مثله، ومحمول له على يد واحد من أبناء جنسه! - «وما نحن لك بمؤمنين» . كأنهم إنما يؤمنون لحساب «هود» وكأن إيمانهم- إذا آمنوا- مما يكسب هودا سلطانا عليهم، ويقيم له دولة فيهم.. فهم لهذا يضنّون عليه بالاستجابة له، ولو كان فى ذلك تفويت للخير الكثير الذي يقع لأيديهم من الإيمان.. إذ يرون- فى تصورهم الباطل هذا- أن ما يصيبهم من خير- إن كان فى دعوة هود خير- هو دون ما يصيب هودا نفسه، إذا هم آمنوا له.. فليكن منهم هذا الإعراض عنه، حتى لا يستحدث بإيمانهم له مكانا عاليا فيهم.. وهكذا يفعل الجهل، والحسد.. بالناس! - وقوله تعالى: «إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ» - هو قول منهم فى مقابل القول الذي قاله «هود» لهم.. فالأمر فى نظرهم لا يعدو أن يكون كلاما فى كلام، وأنه إذا كان لهود أن يقول ما قاله لهم، فليقولوا هم له، وليرموه بالضلال كما رماهم هو بالضلال.. «إن نقول إلّا اعتراك بعض آلهتنا بسوء» أي ليس لنا ردّ على قولك إلا هذا القول، وهو أنك قد أصبت فى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1155 عقلك بخبل أو جنون، من بعض آلهتنا التي تطاولت عليها، ودعوتنا إلى ترك عبادتها.. فخذ منها الجزاء الذي تستحقه! «قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ» أي إنى أشهد الله عليكم، بأنى قد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، كما أشهدكم أنى برىء من هذا الشرك الذي أنتم فيه، ومن التعامل مع هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله.. «فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» . كيدونى: أي كيدوا لى، وخذونى بما تستطيعون من كيد، والكيد: إعمال الحيلة، وإحكام التدبير، لما يراد من الأمور.. ويستعمل الكيد غالبا فى الشر.. ثم لا تنظرون: أي لا تتوانوا فى إعمال كيدكم لى، والمبادرة به. وهكذا ينتهى الموقف بين هود وقومه، كما انتهى إليه الأمر بين نوح وقومه، وكما انتهى إليه أمر كل نبى مع قومه.. القطيعة، والترامي بالنّذر، وانتظار كلّ لمفعول ما أنذر به صاحبه. إنى أشهد الله عليكم بما بلغتكم من رسالته إليكم، وأشهدكم أننى برىء مما تعبدون من دونه من أصنام.. وهأنذا بين أيديكم، أنتم وآلهتكم، فكيدوا إلى كيدكم، وعجلوا به. «إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ» فأنا من توكلى عليه فى قوة، وفى منعة. «ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها» أي ما من دابة تدب على هذه الأرض إلا والله سبحانه وتعالى، مستول على أمرها، ومالك التصرف فيها: لا تتحرك حركة ولا تتنفس نفسا إلا بإذنه، وبعلمه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1156 وإذا كان ذلك هو سلطان الإله الذي أعبده وأتوكل عليه، فإنى لن أعبأ بكم ولا بآلهتكم.. «إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» أي إن الإله الذي أعبده، أمره واضح، وسلطانه قاهر، وحكمه نافذ، وأثره فى الوجود لا يخفى على ذى نظر.. فالطريق إليه مستقيم واضح، لمن طلب التعرف عليه، والإيمان به. وفى قوله «رَبِّي وَرَبِّكُمْ» مع أنهم لا يعترفون بربّه ربّا لهم، هو تقرير لأمر واقع، وحقيقة ملزمة، لا فكاك لأحد منها، رضى أو لم يرض، آمن أو لم يؤمن.. ولهذا فإنه بعد أن قرر هذه الحقيقة، عاد فخصّ نفسه بالإيمان بها وحده، ولم يدخلهم معه فى الإيمان، فقال: «إن ربى على صراط مستقيم» . قوله تعالى: «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ» . أي فإن آمنتم بالإله الذي آمنت به، والذي أدعوكم إليه، فقد اهتديتم، ورشدتم، وإن تتولّوا فلا متعلّق لكم بي.. «فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم» .. «وما على الرسول إلا البلاغ» .. ولستم أنتم عباد الله وحدكم، بل إن لله عبادا كثيرين، يؤمنون به، ويقدرونه حق قدره، يجيئون بعدكم، ويقيمهم الله خلفاء بعدكم على هذه الأرض، وإنكم لن تضرّوا الله شيئا، ولن تنقصوا أو تزيدوا من ملكه شيئا، ذهبتم أو بقيتم، كفرتم أو آمنتم.. «إن ربّى على كل شىء حفيظ» أي مالك كل شىء، حفيظ على كل شىء، لا يستطيع مخلوق أن يغيّر أو يبدّل فى ملكه ذرة من ذرات هذا الوجود. قوله تعالى: «وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ» .. الأمر: الحكم، والقضاء الذي قضى به على هؤلاء القوم الظالمين، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1157 وهو الهلاك.. سمّى أمرا، لأنه قضاء نافذ لا يردّ، فكلّ ما قضى الله سبحانه وتعالى به، هو أمر، واجب تنفيذه على من وقع عليه، طوعا أو كرها.. «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (82: يس) . وقد كان هذا الأمر الذي وقع على «عاد» هو ما رماهم الله سبحانه وتعالى به من مهلكات حملتها إليهم ريح صرصر عاتية.. وفى هذا يقول سبحانه: «وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ» (6- 8: الحاقة) . وكرر فعل النجاة، لأن الله نجّى «هودا» ومن معه من هذا البلاء فى الدنيا، ومن العذاب فى الآخرة، وذلك بما ساق إليهم من رحمته فهداهم إلى الإيمان، وصرفهم عن الكفر، وعزلهم عن القوم الكافرين، فى الدنيا، والآخرة، على حين هلك الظالمون مهلكين.. مهلكا فى الدنيا، ومهلكا فى الآخرة.. قوله تعالى: «وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ» . فى الإشارة إلى جمع العقلاء بتلك، إشارة إلى أنهم ليسوا جمعا، وليسوا عقلاء.. ذلك أنهم قد صاروا ترابا فى التراب، لم يبق من آثارهم إلا تلك الأطلال المتداعية، التي يمرّ عليها أهل مكة فى تجارتهم إلى الشام.. فلا يجدون إلا خرابا مخيفا، يحدّث عن انقلاب حلّ فى هذه المواطن، فمسخ طبيعة كل شىء فيها.. أرضها، وسمائها وجوها.. فلا تنبت الأرض شيئا، حتى الشوك، ولا تحمل السماء شيئا.. حتى السحاب الجهام، ولا يتحرك بين أرضها وسمائها ريح.. حتى السّموم! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1158 فتلك هى ديار القوم، وهذا هو حصيد ما زرعوا.. فلينظر المشركون من أهل مكة ماذا حلّ بديار الظالمين، ولينتظروا ماذا يحلّ بهم هم، إن ظلوا على ما هم عليه من كفر وعناد. - وفى قوله تعالى: «جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ» إجابة عن سؤال هو: ماذا كان من أهل تلك الديار حتى حلّ بهم هذا المسخ؟ فكان الجواب: «جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كلّ جبّار عنيد» ! والجبار العنيد، هو كل رأس من رءوس الكفرة والمشركين، الذين يتولّون كبر الحرب التي يعلنها أعداء الله، على رسل الله. - وفى قوله تعالى: «وَعَصَوْا رُسُلَهُ» ما يسأل عنه؟ كيف جاء النظم القرآنى، محدّثا عن أنهم عصوا رسل الله، مع أنهم لم يعصوا إلا رسولهم «هودا» الذي أرسل إليهم؟ والجواب: أن رسل الله على طريق واحد، يقومون على أداء رسالة واحدة.. هى الدعوة إلى الله سبحانه، والإيمان به، وبكتبه، ورسله، واليوم الآخر.. فهم- من جهة- بمنزلة رسول واحد، يتجدد مع الزمن فى صورة من ظهر منهم من الرسل.. وهم- من جهة أخرى- رسل كثيرون يجىء بعضهم إثر بعض فى صورة رسول.. إذ لا يختلف أحد منهم عن صاحبه فى مفهوم الرسول، وفى مضمون رسالته ومحتواها.. فهم رسل فى رسول، وهم رسول فى رسل! قوله تعالى: «وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ» . أي أن هؤلاء القوم لم يتركوا وراءهم فى هذه الدنيا خيرا يذكرون به، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1159 ولم يخلّفوا أثرا طيبا ينتفع به الناس بعدهم.. وإنما الذي تركوه هو ما يشهد عليهم بالبغي والضلال، والفساد فى الأرض.. فكل من يمر بديارهم، أو يستمع إلى أخبارهم، لا يجد منهم إلا ريحا خبيثة، تجعله ينفر منها، ويلعن الجهة التي صدرت عنها.. «وأتبعوا فى هذه الدنيا لعنة» أي تبعتهم اللعنات بعد أن تركوا هذه الدنيا، وذلك هو بعض ما غرسوا فيها من شر، إذ لم تكن لهم صالحة فيما غرسوا.. راحوا فما بكت الدنيا لمصرعهم ... ولا تعطّلت الأعياد والجمع وكذلك شأنهم فى الآخرة.. فإن أهل الإيمان، إذ يرون ما ساق إليهم إيمانهم من نعيم ورضوان، يجدون لذة إلى لذة فى أن يذكروا أهل الكفر، وما ركبوا فى دنياهم من ضلال، وأن يرموهم باللعنة إذ فوّتوا على أنفسهم هذا المقام الكريم، وباعوها فى الدنيا بثمن بخس رذل! وفى هذا يقول الله تعالى: «وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ قالُوا نَعَمْ.. فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ» (44: الأعراف) - وفى قوله تعالى: «أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ..» تشهير بالقوم، وإذاعة لجريمتهم فى الناس، واستدعاء لكل ذى سمع ونظر، أن يشهد هؤلاء القوم، وينظر إليهم وهم متلبسون بهذا الجرم الغليظ، فلا يقول فيهم إلا ما يسوءهم ويخزيهم. وفى تكرار حرف الاستفتاح «ألا» وفى ذكر «قوم هود» بعد ذكر «عاد» .. فى هذا كله تأكيد لذواتهم، التي توجّه إليها هذه اللعنات، والتي تعرض فى معرض التشهير، والتجريم، حتى لا يقع أىّ لبس فى أنهم هم المقصودون بهذا، وحتى لا يختلط أمرهم بغيرهم.. فإن التهمة خطيرة، والحساب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1160 عسير، والمصير سيّىء، بالغ الغاية فى السوء.. فكان من الحكمة التي يدعو إليها مقتضى الحال أن ينبّه على هذا الخطر، وأن تقوم إلى جانب هذا التنبيه مؤكدات له، أشبه بتلك الإشارات الضوئية الحمراء، التي تظهر فى مواطن الخطر، منبهة إليه، محذرة منه، قائلة بلسان الحال.. هنا «خطر» !! فخذ حذرك منه! وإلا فأنت وما جنت يدك! الآيات: (61- 68) [سورة هود (11) : الآيات 61 الى 68] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1161 التفسير: فى هذه الآيات عرض لقصة نبىّ آخر من أنبياء الله، هو «صالح» عليه السلام، وقد بعثه الله إلى «قومه ثمود» .. وكانوا يسكنون «الحجر» بين المدينة والشام. ولم يكن موقفهم من هذا النبي الكريم بأحسن من موقف من سبقوهم من أهل الضلال والعناد.. قوم نوح، وقوم هود.. «وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً» .. والعطف هنا عطف قصة على قصة، وحدث على حدث.. وقد نصب «أخاهم» بفعل محذوف، تقديره: أرسلنا، أو بعثنا. وهو أخو القوم.. أي منهم.. نسبا، وموطنا، ولغة. «قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» .. فهذا مجمل كل دعوة دعا بها نبىّ قومه.. الإيمان بالله، والانخلاع عن كل معبود سواه.. من بشر، أو حجر! «هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها» .. أي هو وحده- سبحانه- المستحق للألوهية، المستوجب للربوبية.. لأنه- سبحانه- هو الخالق الذي أوجد الناس من عدم.. «هو أنشأكم من الأرض» أي خلقكم من تراب هذه الأرض، وأنبتكم منها، كما ينبت الزرع، وينمو، وينضر، ويزهر، ويثمر.. كما يقول سبحانه: «وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً» (17: نوح) .. «واستعمركم فيها» أي هيأ لكم أسباب الحياة فيها، ومكن لكم من عمرانها، فعمر تموها بإقامة المدن، وغرس الحدائق، وزرع النبات والحبّ، وتسخير الدواب والأنعام.. كما يقول تبارك وتعالى: «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1162 سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ» وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ» (80- 81: النحل) فذلكم مما لله فى عباده.. خلقهم، ورزقهم، وأمدهم بأنعام وبنين وجنات وعيون.. فهل فى شرع العقلاء ما يقضى بالولاء لغيره، والتعبد لسواه؟ «فَاسْتَغْفِرُوهُ.. ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ.. إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ» . ومع أن كثيرا من الناس فى غفلة عن الله، وفى عمى وضلال عن السبيل المستقيم إليه فإنه- سبحانه وتعالى- يبسط لعباده يد المغفرة والقبول، ويبعث للضالين رسلا من عنده، يدعونهم إليه، ويذكرونهم بآلائه ونعمه، ويهتفون بهم: «أن استغفروا ربّكم ثم توبوا إليه» .. والاستغفار، هو طلب المغفرة: مما كان منهم من كفر وضلال، قبل أن يهتدوا ويرشدوا، ويؤمنوا بالله.. والتوبة، هى الرجوع إلى الله، بعد الشرود عنه، وذلك فى حال الإيمان، حيث يقع المرء فى معصية، فيبعد بها عن الله، فيكون رجوعه إليه سبحانه بالتوبة عما وقع فيه.. ولهذا جاء العطف «بثم» .. لأنها تعطف مرحلة على مرحلة قبلها.. مرحلة الإيمان، على مرحلة ما قبل الإيمان، وهذا إشعار بأن كلّا منهما من عالم غير عالم الآخر.. وشتّان بين الإيمان والكفر، والنور والظلام! «قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوّا قبل هذا» . بهذا السّفه، كان ردّ القوم على تلك الدعوة الكريمة التي دعاهم إليها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1163 صالح، عليه السلام.. لقد أنكروه حين سمعوا هذه الدعوة منه، وتغيرت فى الحال حاله عندهم، وشاهت صورته فى أعينهم. فلقد كان عندهم الرجل المرجوّا لكل ملمّة، المدعوّ لكل معضلة، المؤمّل لكل طالب خير، ومرتاد فلاح ورشاد.. ولكنه الآن- وقد دعاهم إلى هذه الدعوة- قد صار فى نظرهم إنسانا غير هذا الإنسان الذي عرفوه!. «يا صالح قد كنت فينا مرجوّا قبل هذا» أي كنت مرجوّا للخير والفلاح قبل أن تدعونا إلى هذا الذي تدعونا إليه.. أما الآن فلا رجاء فيك، ولا خير يؤمّل منك. أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا؟» أي ما هذا الذي جئتنا به؟ وكيف طوّعت لك نفسك أن تقول هذا القول المنكر؟ وإذا لم نعبد ما كان يعبد آباؤنا، فمن نعبد؟ أنعبد إلهك الذي تدعونا إليه؟ «وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ» !. فكيف نترك ما نحن عليه من يقين، قد اطمأنت قلوبنا به، وسكنت نفوسنا إليه- إلى هذا المعبود الجديد الذي تحدثنا عنه، ولم نعرفه، ولم نتعامل معه من قبل؟ أذلك مما يقول به عاقل، ويرضى به العقلاء؟ قوله تعالى: «قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ» . البينة. البرهان، والدليل، والحجة. والتخسير: الخسران بعد الخسران.. إن صالحا- عليه السلام- لعلى هدى من ربه، وعلى يقين من إيمانه به، وإنها لرحمة من رحمات ربه، أن هداه إلى الحق، وشرح صدره للإيمان.. وإنه- لهذا- لن يعصى الله، ولن يخرج عن طاعته، وامتثال أمره، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1164 فذلك بعض ما يوجبه عليه ولاؤه لمن خلقه، ورزقه، وهداه إلى الإيمان، وإلا كان مستحقّا للانتقام، والعقاب.. وإنه لن يجد ناصرا ينصره، ويدفع عنه ما يريد الله به! وشتّان بين ما يدعوهم إليه صالح، مما فيه رشدهم وخيرهم، وما يدعونه هم إليه، مما يعرضه لنقمة الله وعذابه.. - وفى قوله تعالى: «فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ» إشارة إلى أنه إذا أخذ برأى قومه، وخرج عن طاعة الله، ووقع تحت نقمته، ثم دعاهم إلى نصرته من دون الله، فلن يكون له منهم إلا بلاء إلى بلاء، وخسران إلى خسران! لأنه إنما ينتصر بمخذولين، واقعين تحت النقمة والبلاء، فلن يقدموا له- إن قدموا شيئا- إلا ما عندهم من بلاء وعذاب! «فما تزيدوننى غير تخسير» . قوله تعالى: «وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ» . وبين يدى تلك الدعوة، التي دعا بها صالح قومه إلى الإيمان بالله، أقام لهم آية متحدية من آيات الله، تشهد له بأنه رسول الله.. فهذه ناقة الله. قد نصبها الله لهم آية، ورفعها لأعينهم، ليشهدوا منها ما لم يشهدوا من النّياق التي عرفوها.. إنها ناقة على صفة عجيبة.. إنها آية من آيات الله، ولهذا جاء وصفها بأنها «ناقة الله» ، أي آيته إليهم.. فليأخذوا منها الشاهد الذي يشهد بقدرة الله، ويحدّث عن علمه، وحكمته، ومن ثمّ يقوم لهم منها دليل آخر على صدق الرسول، الذي جاءهم يدعوهم إلى الله.. فليصدقوه وليؤمنوا به، وليدعوا الناقة تأكل فى أرض الله- شأنها فى هذا شأنهم، ولها فى الأرض مالهم، لأنها ناقة الله، والأرض أرض الله، وهم عبيد الله، والأرض التي يعيشون عليها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1165 أرض الله.. وإذن فليدعوا ناقة لله تأخذ رزقها من أرض الله، ولا يمسّوها بسوء! فإن اعتدوا عليها، وخالفوا أمر الله فيها، فلينتظروا العذاب القريب الذي سيحل بهم! ولقد كان من سفه القوم، وجهلهم، وغلبة الشّقوة عليهم، أن تخطت نظرتهم إلى الناقة، كل شىء فيها، مما يكشف لهم الطريق إلى الله، وإلى الإيمان به- ووقفوا عند العذاب، الذي أنذروا به منها، إذا هم عرضوا لها بسوء- فعملوا على كشف هذه الآية منها، واستحلابها من ضرعها! وذلك لأنهم كانوا على تكذيب بكل ما حدّثهم به «صالح» عنها، وإنهم لكى يقيموا البرهان على كذبه، استعجلوا العذاب الذي أنذرهم به إن هم مسّوها بسوء. فما هو إلا أن يعقروا الناقة حتى يأتيهم هذا العذاب، إن كان هناك عذاب، وإلا فقد افتضح أمر صالح، وظهر كذبه! وقد فعلوها! «فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم، وقالوا يا صالح: ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين» (77: الأعراف) . وهكذا يلعب الأطفال بالنار، فتقع بهم الواقعة، ويحلّ بهم العذاب الذي لا مردّ له! قوله تعالى: «فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ» . وتلك آية أخرى.. إنها العذاب الذي سيأخذهم الله به، بعد ثلاثة أيام.. وفى توقيت وقوع العذاب بثلاثة أيام: أولا: أن يظلوا خلال تلك المدة واقعين تحت وطأة تلك الخواطر المزعجة المقلقة، بين التصديق والتكذيب، وكانوا كلما مضت لحظة من الزمن ازداد قلقهم واضطرابهم، انتظارا لما يطلع به عليهم هذا الوعيد، فى اليوم الثالث من تلك الأيام التي أقتت لهلاكهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1166 وثانيا: حصر الأجل المضروب لهلاكهم بثلاثة أيام، هو غاية ما يمكن أن يقع فى النفس موقع الاهتمام له والالتفات إليه.. ولو امتد الزمن إلى أكثر من هذا لما التفتت إليه النفوس هذا الالتفات الذي يشدها إليه، ويقيمها على همّ وقلق من لقائه.. ولو قصر الزمن إلى ما دون ذلك لقصرت فترة العذاب النفسي الذي عالجه القوم قبل أن يهلكوا.. فهذه الأيام الثلاثة التي عاشها القوم قبل أن يحلّ بهم الهلاك قد أقتت بحكمة الحكيم العليم، فكانت بوتقة عذاب، تجرّع منها القوم جرعات الموت قبل أن يحل بهم الموت..! لقد شخصت أبصار القوم إلى هذه الأيام الثلاثة وما يطلع عليهم فى أعقابها. وقد طلع عليهم منها الويل والبلاء: «فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منّا ومن خزى يؤمئذ إن ربك هو القوى العزيز» .. لقد نجى الله صالحا والذين آمنوا معه، إذ عزلهم عن القوم الظالمين، وما رماهم به من مهلكات، فهو- سبحانه- الذي لا يعجزه ما يعتزّ به الظالمون من قوة وسلطان، وما يعتصمون به من قلاع وحصون.. «وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها.. أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ» . والصيحة التي أخذ بها القوم، هى صيحة الحق، وهو صوت العذاب الذي نزل عليهم، فرجفت بهم الأرض منه، «فأصبحوا فى ديارهم جاثمين» .. أي جمد الدم فى عروقهم، من رجفة الصيحة، فلم يتحرك أحد منهم حركة، ولم يتنفس نفسا! إنها صيحة تحمل فى كيانها صاعقة، أقرب مثل إليها الرعد المحمل بالصواعق المهلكة.. وهكذا صاروا جثثا هامدة، وتحولت ديارهم إلى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1167 صمت مطبق.. لا حسّ ولا نفس بها.. حتى لكأن لم تكن فيها حياة من قبل «كأن لم يغنوا فيها» أي كأن لم تكن فيها إقامة، وسكن! لقد ذهب كل أثر من آثارهم إلا هذا الخراب الذي اشتمل على كل شىء كان هناك. - وقوله تعالى: «أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ» هو صدى مردد لما شيّع به قوم هود من قبل، «ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود» .. وقد بينا من قبل ما فى هذا الدعاء الذي أعقب هلاكهم.. أما الناقة، وما يقول المفسرون فى أوصافها، فقد عرضنا لها من قبل عند تفسير قصة صالح فى سورة الأعراف.. وحسبنا أن نذكر هنا أنها آية من آيات الله، وضعت بين يدى القوم، لتكون امتحانا لهم وابتلاء.. وليس من الحتم اللازم أن تكون على صفات جسدية خاصة، تخرج بها عن طبيعة النياق.. يل يكفى أن تكون مجرد ناقة، امتحنوا بامتثال أمر الله فيها، وهو تركها تأكل فى أرض الله، وألّا يمسوها بسوء، فإن امتثلوا أمر الله نجوا، وإلا هلكوا. وهى فى هذا تشبه الشجرة التي نهى الله آدم عن أن يأكل منها.. ولم تكن هذه الشجرة إلا واحدة من أشجار الجنة، ولم يكن النهى عنها إلا امتحانا وابتلاء.. الآيات: (69- 76) [سورة هود (11) : الآيات 69 الى 76] وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1168 التفسير: وهذه قصة إبراهيم عليه السلام، وقد ضمت إلى قصة لوط، إذ كانت دعوتهما واحدة، وكان قوما هما متجاورين متقاربين، ديارا ونسبا، وزمنا.. إذ كان لوط- كما يقول المؤرخون- ابن أخى إبراهيم.. «وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ» .. الرسل هنا، هم ملائكة الرحمن، جاءوا إلى إبراهيم فى صورة بشريّة. والبشرى التي جاءوه بها، هى ما بشر به من الولد، بعد أن بلغ من الكبر عتيّا، ويمكن أن تكون البشرى ما حمله الملائكة إليه من أمر ربه بهلاك قوم لوط.. إذ لا شك أن فى هذا انتصارا للحق، وخزيا وخذلانا لأهل الضلال والزيغ، وذلك مما يفرح له المؤمنون، وتنشرح به صدورهم.. «ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله» . والعجل الحنيذ: السّمين الذي نضج شيّا بالنار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1169 - وفى قوله تعالى: «قالَ سَلامٌ» إشارة إلى أن إبراهيم قد أخذ بمجىء هؤلاء الرسل، وأنهم ظهروا فجأة فى بيته، فلم يدر من أين جاءوا.. فأنكرهم ولكنه لم يردّهم، وإنما ردّ عليهم تحيتهم ردّا خاطفا، متجمّلا، يحمل أمارات الاستفهام والتعجب والإنكار، والخوف.. «قالوا سلاما، قال.. سلام!» وإلى هذا يشير قوله تعالى فى آية أخرى: «إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ» (25: الذاريات) .. ويقول سبحانه فى آية أخرى كذلك: «وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» (51- 53: الحجر) .. فكان التبشير بالغلام على كبر ويأس، هو الذي يذهب بكل ما وقع فى نفس إبراهيم من خوف ووجل، سواء أكان وجلا عارضا من ظهور الملائكة له على تلك الصورة، أم وجلا سكن فى نفسه من فوات الأوان لإنجاب ولد! قوله تعالى: «فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ» . ولقد تكشف لإبراهيم من القوم ما قوّى ظنونه فيهم، وأنهم على حال لا تبعث على الطمأنينة من جهتهم، فها هو ذا يقدّم لهم ما يقدّم للضيّفان، فلا يأبهون له، ولا يمدون أيديهم إليه.! وهنا تتحرك دواعى الشك فى نفسه، وتسرى رعشة الخوف فى كيانه، ولكنه يغالب خوفه، ويمسك به فى صدره- كما يقول سبحانه- «وأوجس منهم خيفة» أي وجد فى نفسه خوفا.. فيسأل القوم سؤال المنكر المستريب: «ألا تأكلون؟» (27: الذاريات) - «قالوا لا تخف» إنا رسل ربك.. «إنا أرسلنا إلى قوم لوط» .. فيسكن لذلك روع إبراهيم، وتطمئن نفسه، ويعلم أنهم رسل الله، قد أرسلوا بالهلاك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1170 لقوم لوط.. إنهم لم يرسلوا إلى لوط، وإنما أرسلوا إلى قوم لوط، وليس لقوم لوط عند الله إلّا البلاء والهلاك..! قوله تعالى: «وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ» . قائمة: أي كانت واقفة ترقب ما يكون بين إبراهيم وهؤلاء الضيفان الذين جاءوا إليه على تلك الصورة التي أخافته.. فلما سمعت منهم أنهم رسل الله ذهب عنها الرّوع، ولم تملك نفسها من إظهار الفرحة بهؤلاء الرسل الكرام الذين حلّوا بهم ضيوفا.. فضحكت.. وفى هذا ما يكشف عن طبيعة حبّ الاستطلاع عند المرأة، وأنها لا تملك نفسها من أن تتعرف إلى كل ما يدور حولها، مما يتصل بها أو لا يتصل بها. هذا ويذهب بعض المفسرين فى تأويل كلمة «فضحكت» إلى أنها بمعنى «حاضت» ، وجاءوا لذلك بشاهد من اللغة، وجدوه فى قول الشاعر: وضحك الأرانب فوق الصّفا ... كمثل دم الجوف يوم اللّقا ومع أن الشاهد- إن صح- فإنه لا يدل على أكثر من أن استعمال الضحك بمعنى الحيض هو استعمال شاذ غير مألوف، وحمل القرآن الكريم على هذا الشاذ مما لا يليق ببيانه وبلاغته- ونقول مع هذا، فإن فى قول امرأة إبراهيم: «يا ويلتى أألد وأنا عجوز» منكرة أن تلد بعد أن جاوزت من اليأس- ما يبعد حمل لفظ الضحك على الحيض، لأنها لو كانت قد حاضت لما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1171 واجهت ما بشّرها به رسل الله بهذا الإنكار الصريح! «يا ويلتى.. أألد وأنا عجوز وهذا بعلى شيخا.. إنّ هذا لشىء عجيب؟» . وإسحق الذي بشرت به، هو ابنها.. أما يعقوب، فهو ابن ابنها إسحق.. وفى هذا توكيد لهذه البشرى، وأن ابنها هذا الذي بشرت به، سيولد له ولد هو يعقوب، وأن هذا الحفيد، هو أشبه بمولود ثان لها! «قالوا أتعجبين من أمر الله؟ رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت.. إنه حميد مجيد» . إنه أمر من أمر الله.. ومشيئة له.. فهل فى أمر الله إذا كان على غير ما يألف الناس- ما يثير العجب والدّهش؟ «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون» (82: يس) . - وفى قوله تعالى: «رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ» تطمين لها، وتوكيد لهذه البشرى التي بشرت بها، وأنها رحمة من الله وبركة، على أهل هذا البيت الذين اختصهم الله برحمته وبركاته.. وإذ كانوا كذلك، فإن ما يتلقونه من الله من فضل لا يكون موضع عجب، وإن جاء على غير ما يعهد الناس، فإن لله سبحانه فى أوليائه ألطافا، لا ينالها غيرهم، ممن لم ينزلوا منازل رحمته ورضوانه! وأهل البيت: منصوب على الاختصاص.. ويجوز أن يكون منصوبا بالنداء: أي يا أهل البيت.. - وفى قوله تعالى: «إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» إشارة إلى أنه- سبحانه- يحمد لعباده الصالحين ما يتقربون به إليه من طاعات وقربات، فيجزيهم على ذلك الجزاء الأوفى، ويرفعهم إلى منازل العزة والمجادة والشرف.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1172 وإبراهيم عليه السلام، ممن أعطى الله كيانه كله، فأسلم له وجوده ظاهرا وباطنا.. فاستحق أن يحمد، ويمجّد.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى بعد ذلك. «إن إبراهيم لحليم أوّاه منيب» . والأوّاه: كثير التأوه والشّكاة إلى الله، من تقصيره فى حقّه، والعجز عن الوفاء ببعض شكره.. وهذا شعور أهل التقوى.. لا يرضيهم من أنفسهم ما يقدمون من طاعات وقربات، وإن اجتهدوا، وبالغوا فى الاجتهاد.. إنهم دائما على شعور بأنهم مقصّرون فى حق الله. والمنيب: الراجع إلى الله، التائب إليه.. وقد وصف الله سبحانه وتعالى إبراهيم بثلاث صفات: «إن إبراهيم لحليم.. أوّاه.. منيب» .. وهى صفات كلهن الكمال كله، والحسن جميعه.. وحسبه شرفا ورفعة أن يحلّيه ربه بصفة من صفاته سبحانه، وهى صفة «الحليم» تلك الصفة التي تزين الوجود كله، وتجمع الإحسان جميعه، وفى الأثر: «الحلم سيد الأخلاق» .. فكيف إذا كان من حلم الحليم، الله رب العالمين؟ ولهذا قدّم على الصفات التي أضفاها الله سبحانه على إبراهيم، من التأوّه، والإنابة. والآية التي جاءت قبل هذه الآية وهى قوله تعالى: «فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ» هى من سياق القصة، وقد جاء قوله تعالى: «إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ» وصفا كاشفا لإبراهيم، معترضا بين حدثين: تبشيره بالولد، ومجادلته فى قوم لوط.. وذلك ليأخذ كل حدث منهما بنصيبه من إبراهيم، وما اشتمل عليه من خلق كريم.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1173 فهو أولا، قد استحق البشرى بهذا الولد، لأنه من أهل الله، وأنه حليم، أوّاه، منيب. وهو ثانيا.. يسأل الله أن يلطف بقوم لوط، وأن يدفع عنهم هذا البلاء الموجّه إليهم.. لأنه حليم أواه منيب.. فهو إذ يرى فضل الله عليه، ورحمته به، يريد أن يكون للناس من حوله نصيب، من هذا الفضل، وحظ من تلك الرحمة.. ولكن لله سبحانه وتعالى حكمة فى عباده.. يختص برحمته من يشاء.. - وفى قوله سبحانه: «فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ» وفى جعل جواب «لمّا» فعلا مضارعا بدلا من الفعل الماضي الذي يقتضيه السياق- فى هذا إمساك بإبراهيم، وهو فى موقف المجادلة ليتلقّى وهو فى هذا الموقف، الأمر الذي وجهه إليه ربه، بالإعراض عما هو فيه، من مجادلة عن هؤلاء القوم، ودفاع عن جرمهم، وهذا ما جاء فى قوله تعالى: «يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ» . والتقدير: فلما ذهب عن إبراهيم الروع، أي الخوف، وجاءته البشرى، ها هو ذا يجادلنا فى قوم لوط!! وفى هذا إنكار على إبراهيم أن يقف فى هذا الموقف، فيجادل عن قوم قد بلغوا من السوء ما أنكرته الأرض عليهم. ثم لا يكاد إبراهيم يأخذ فى المجادلة حتى يجيئه أمر الله: «يا إبراهيم.. أعرض عن هذا» . ولو جاء جواب «لمّا» فعلا ماضيا هكذا «جادلنا» لما كان لهذا الأمر، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1174 فى قوله تعالى: «يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا» - هذا الوقع الصادع على نفس إبراهيم، ولأفلت من يده ما كان ممسكا به من المجادلة.. لأنه كان قد جادل فعلا، وانتهى الأمر! أمّا فى هذه الحالة، فهو لا يزال يسأل ربه العفو والرحمة لهؤلاء القوم، ولا تزال الكلمات على شفتيه.. فإذا سمع أمر الله بالإعراض عن هذا، أمسك لسانه وابتلع ما كان يجرى عليه من كلمات! وفى التعبير عن مراجعة إبراهيم ربّه فى قوم لوط بالجدل، وتسميته جدلا، إشارة إلى أن ما كان من إبراهيم، هو مجرد جدل، وأن الجدل لا يثمر ثمرا نافعا، ولا يبلغ بصاحبه غاية.. وقد أشار القرآن الكريم إلى ما كان من إبراهيم فى هذا المقام، فقال تعالى: «وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ. قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها» (31- 32: العنكبوت) . وأنت ترى أن إبراهيم كان مجادلا للملائكة، ولم يكن مجادلا لله.. ولكنهم إذ كانوا رسل الله، والأمناء على ما أرسلوا به، فقد جعل جدله للملائكة، جدلا لله سبحانه وتعالى، وفى هذا تكريم لرسل الله، وإضافة لهم إلى الله رب العالمين. الآيات: (77- 83) [سورة هود (11) : الآيات 77 الى 83] وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1175 التفسير: وتتصل أحداث قصة إبراهيم، بأحداث قصة لوط.. وينتقل المشهد من بين يدى إبراهيم إلى يدى لوط، وإذا هو وجها لوجه مع هؤلاء الرسل الذين يحملون الهلاك إلى قومه.. وكما كان لقاء الملائكة لإبراهيم لقاء مفاجئا، أثار فى نفسه ريبة، وأوقع فى قلبه خوفا، كذلك كان لقاؤهم للوط.. لقاء مباغتا له، ولكنه لم يلتفت إلى هؤلاء الوافدين عليه إلا من جهة واحدة، كانت هى همّه، ومبعث خوفه وقلقه، وهى أن يحمى هؤلاء الضيوف من عدوان قومه عليهم، وفضحه فيهم.. فقد طلع عليه الملائكة فى صورة سويّة من صور البشر.. فيهم الشباب، والنضارة، والجمال، وتلك هى مغريات قومه بهم.. وإنه ليرى عن غيب ما سيكون من قومه، إذا هم رأوا هؤلاء الضيوف الذين نزلوا بساحته.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1176 «وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ» . سىء بهم: أي ساءه وآلمه نزولهم عنده، واحتماؤهم به. وضاق بهم ذرعا: أي أحسّ العجز عن حمايتهم، لأنه يتصدّى وحده لقومه جميعا.. وأصل الذرع من الذراع التي يعملها الإنسان فى تناول الأشياء.. ثم استعملت استعمالا مجازيا فى الدلالة على قدرة الإنسان أو عجزه، حسب طول ذراعه أو قصرها. والإحساس بالمسئولية الملقاة على لوط لحماية ضيوفه، هو الذي آلمه وأوجعه، وضيّق مسالك النجاة بهم فى وجهه، فقال: «هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ» أي يوم قاس، شديد الوقع على النفس، لما سيطلع عليه فيه من أحداث مزلزلة، توقعه فى هذا المأزق، وتفتح بينه وبين قومه مجالا فسيحا للصراع بين جبهتين غير متكافئتين! «وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي.. أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ» . ولقد وقع ما توقعه لوط.. وها هى ذى العاصفة تدور حول بيته، وتحطّم الأبواب.. فيقتحم القوم عليه الدار، وقد جاءوا سراعا من كل جهة، يتسابقون لإدراك هذا الصيد، قبل أن يفلت من أيديهم! «وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ» أي يسرعون إليه فى خفّة وطيش. وانظر كيف تبلغ السفاهة بالقوم.. إنهم ليأتون الفاحشة فى غير مبالاة، ولا ستر من حياء! يأتونها جهرة وفى صورة جماعية، دون أن يجد أحدهم حرجا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1177 أو استحياء! وهذا غاية التدلّى والإسفاف فى عالم الإنسان، إلى درجة لا ينزل إليها كثير من عالم الحيوان.. حيث تأبى على بعض الحيوان طبيعته أن يتصل بأنثاه على مرأى من بنى جنسه! بله اتصاله بذكر! الأمر الذي لم تعرفه الكائنات الحيّة، إلا فى هذا الصنف الرّذل الخسيس من الناس! - وفى قوله تعالى: «وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ» عرض لسيرة هؤلاء القوم، وفضح لمخازيهم، وأن هذا الذي جاءوا إليه ليس ابن يومه، وإنما هو داء تعاطاه القوم من قبل، فكان طبيعة غلبت عليهم، حتى لقد صار عادة مألوفة عندهم، وأمرا مستقرا فيهم، ليس فيه ما يثير أي إحساس عندهم بالخزي أو الاستحياء.. وقد عبّر القرآن عن هذا المنكر الذي يتعاطونه بالوصف المناسب له، دون أن يذكر اسمه، تقزّزا له، وصيانة للأفواه أن تتلفظ به، وللأسماع أن يقع عليها.. ومن جهة أخرى، فقد جاء القرآن بوصفه جمعا.. هكذا: «السيئات» للدلالة على أنه منكر غليظ مركّب، وأنه ليس سيئة، بل هو سيئات، وليس منكرا، بل هو منكرات! - وفى قوله تعالى: «يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ» دعوة لهم إلى أن يكون أربهم وشهوتهم للنساء.. لا للرجال، فذلك هو الوضع الطبيعىّ للحياة الإنسانية.. فهو- عليه السلام- يدعوهم إلى التزوج ببناته، وإلى التعفف بالزواج بالمرأة والاتصال بها، حتى يعفّوا عن ارتكاب هذا المنكر، والاتصال بالرجال.. وفى هذا يقول الله تعالى على لسان لوط لهم: «إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» (28- 29 العنكبوت) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1178 ويقول سبحانه فى موضع آخر على لسان لوط أيضا: «أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ» (165- 166: الشعراء) . - قوله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ» .. والسؤال هنا: هل كان القوم مؤمنين بالله حتى يذكّرهم لوط باسمه تعالى، ويدعوهم إلى تقواه؟ والجواب: أنهم لو كانوا مؤمنين بالله، لما استعلن فيهم هذا المنكر على تلك الصورة التي سجّلها القرآن عليهم.. فإن الإيمان بالله يردّ الإنسان عن كثير من المنكر، ويقيم بين النّاس وازعا يزعهم من أن يخرجوا هذا الخروج السافر عن إنسانيتهم، وأن يتدلّوا هذا التدلّى المسفّ إلى مادون الحيوان. فذكر الله هنا، إنما هو تخويف لهم، وتهديد بقوة الله، إن لم يتقوه، ويستقيموا على طريق المؤمنين.. وفى هذا تجاهل لإنكارهم الله والإيمان به، إذ لا معتبر لهذا الإنكار فى وجه الدلائل القائمة بين أيديهم على وجود الله، وكمال قدرته. «قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ» . لقد أنكر القوم على «لوط» ما دعاهم إليه من التزوج بالنساء، ومنهن بناته اللائي عرضهنّ عليهم، وذلك ليكون اتصالهم بالنساء صارفا لهم عن إتيانهم هذا المنكر مع الرجال! وقد جاء إنكارهم هذا فى صورة فريدة من الدناءة والخسّة والتجرّد من الحياء.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1179 - «لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ» أي إنك لم تعرض علينا أمرا جديدا لتصرفنا عما نطلب.. فأنت تعلم مالنا فى بناتك من حق، وأننا نملك التزوج بهنّ من غير اعتراض.. فالتزوج بالنساء أمر متفق عليه بيننا وبينك، كما هو متفق عليه بين الناس جميعا.. ولكن ماذا عندك لنا فى هذا الذي نطلبه من الضيوف؟ «وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ» ! فهل فى بناتك أو بنات غيرك ما يحقق لنا هذا الذي نريده؟ ولا يجد لوط لهذه السفاهة جوابا، ولا يرى لهذا السوء الذي يراد بضيوفه مردّا.. «قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ» !! وماذا يفعل لوط أمام هؤلاء القوم، الذين ركبوا رءوسهم، فانقلبت فى أعينهم أوضاع الأشياء، وتغيرت معالمها؟ إنه لو كانت بين يديه قوة لأخذ على أيديهم بها، ولعاملهم معاملة الكلاب المسعورة.. ولكن أنّى له القوة، وهو وحده، والقوم جميعا حرب عليه.. حتى امرأته!! كما أنه ليس هناك من يستعين به على هؤلاء القوم، ويطلب غياثه واللّياذ به، حتى يضمن الحماية لضيفه النازلين فى حماه؟ وهنا تجىء نجدة السماء، وتفتح للوط أبواب حصن حصين يأوى إليه، على حين تنزل على القوم صواعق الهلاك، فتأنى عليهم فى لحظة خاطفة! ومن عجب أن تطلع على «لوط» هذه القوى الرهيبة من موطن الضعف الذي كان يريد الدفاع عنه، والحماية له.. الضّيف الذين ظن أنهم وقعوا لقمة سائغة لأيدى هؤلاء القوم الآثمين، هم مطلع هذه النجدة! «قالُوا يا لُوطُ.. إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ.. لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ.. فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1180 مِنَ اللَّيْلِ.. وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ.. إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ.. إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ.. أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ» . لقد كشف الرسل عن أنفسهم للوط، فعرف، من هم؟ وما الأمر الذي جاءوا له؟ إنهم رسل الله، وقد جاءوا إليه بالمهلكات لقومه، وليخرجوه من بين هؤلاء القوم، حتى لا يقع عليه مكروه من البلاء الذي سيحلّ بهم. - «إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ» وإذ كنّا كذلك، فإنهم «لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ» ولن يستطيعوا أن يخلصوا إلينا، وينتزعونا من يدك.. - «فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ» .. سرى، وأسرى، أي سار ليلا.. والقطع من الليل، هى البقية منه، قبيل دخول النهار. والأمر الذي توجه به الملائكة إلى لوط، هو أن يخرج بأهله فى بقية من الليل، أي قبل أن يطلع الصباح، وألا يلتفت هو ومن معه إلى الوراء، حيث القرية التي خلفوها وراء ظهورهم.. وفى النهى عن الالتفات إلى تلك القرية ومن فيها، إشارة إلى أنها دار إثم، ومباءة فسق، ينبغى أن يقطع المؤمن كل مشاعره نحوها، فلا يتبعها بصره، ولا يلقى عليها نظرة وداع.. وهكذا ينبغى أن يكون شأن المؤمن مع كل منكر.. أن يعتزله، ويعتزل مواطنه، والمتعاملين به.. فلا يحوم حوله، ولا يمرّ بداره، ولا يتصل بأهله.. فإن المنكر مرض خبيث، يعلق داؤه بكل من يدنو منه.. أو يتنفس فى الجو الذي تفوح عفونته فيه! .. ولهذا فقد أمر النبىّ صلى الله عليه وسلم المسلمين حين مرّوا بديار ثمود، وهم فى طريقهم إلى تبوك- أمرهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1181 أن يجدّوا فى السير، وألا يلتفتوا إلى هذه المواطن، وأن يغلقوا حواسهم عنها، حتى لا يدخل عليهم شىء منها.. شأنهم فى هذا شأن من يمرّ بجثث متعفنة، تهب منها ريح خبيثة، فيسدّ أنفه، وينطلق مسرعا حتى يبرحها.. وفى هذا درس عملىّ للتشنيع على المنكر وأهله. - وفى قوله تعالى: «إِلَّا امْرَأَتَكَ» إشارة إنى أن امرأة لوط لا تملك من أمرها ألّا تلتفت، بل هى مقهورة على الالتفات، والخروج عن هذا النهى، وذلك لما أراد الله لها من هلاك.. «إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ» .. لأنها كانت مع القوم بمشاعرها وعواطفها، ولهذا التفتت إليهم، وخالفت أمر الله. بألا يلتفت أحد ممن خرج مع لوط من أهله.. ولم تفرّ منهم كما يفرّ المرء من بلاء طلع عليه، أو مكروه أحاط به، فكان أن أخذها الله بما أخذ به هؤلاء القوم الآثمين.. إنها منهم، وحقّ عليها ما حق عليهم: «إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ» . - «إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ.. أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ» .. وفى هذا تطمين للوط، وأن ما بينه وبين القوم سينتهى مع مطلع هذا الصبح من ليلته تلك.. ثم هو من جهة أخرى حثّ للوط على أن يبادر الصبح قبل أن يطلع عليه، وأن يخرج من القرية ومعه بقية من الليل، حتى يبتعد عن القرية قبل أن يقع هذا الانفجار المهول، مع أول خيوط من ضوء الصبح.. «أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ؟» فهذا استفهام تقريرى، بمعنى ألا ترى أن الصبح قريب.. فهيّا أسرع، وخذ أهبتك للخروج من هذه القرية، قبل أن يدركك الصبح، وتقع الواقعة! «فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ.. وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ» . أي ولما جاء الصبح الموعود، وقع أمرنا الذي قضينا فيه بهلاك هذه القرية، فجعلنا عاليها سافلها، أي قلبناها رأسا على عقب، فذهبت كلّ معالمها، وأمطرنا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1182 على أهلها حجارة من سجيل، أي من صوّان أملس.. «مَنْضُودٍ» أي منتظم، كما تنتظم الحبات فى العقد.! وهى حجارة.. «مُسَوَّمَةً» أي معلمة، وموسومة بسمات خاصة، «عِنْدَ رَبِّكَ» أي قد أعدّها الله سبحانه وتعالى، لهلاك الظالمين، أينما كانوا، وحيثما وجدوا.. - وفى قوله تعالى: «وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ» .. تهديد لمشركى قريش، وتلويح بهذه الحجارة المرصودة لهلاك الكافرين والمحادّين لله- تلويح بها فى وجوه هؤلاء المشركين من أهل مكة وأنها قريبة منهم، وأنّهم على وشك أن يمطروا بها، وأن يصيروا هم وقريتهم إلى هذا المصير الذي انتهى إليه قوم لوط وقريتهم. الآيات: (84- 88) [سورة هود (11) : الآيات 84 الى 88] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1183 التفسير: وموقف شعيب مع قومه، هو موقف نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، مع أقوامهم.. دعوة منه لهم إلى الله، وإلى الإيمان به، والاستقامة على صراطه المستقيم.. وخلاف منهم عليه، وتنكّر لما كانوا يعرفونه منه، من خلق ودين! وأنبياء الله- صلوات الله وسلامه عليهم جميعا- كانوا عند أقوامهم قبل دعوتهم إلى الله، بالمنزلة العالية من الاحترام والتقدير، لحسن سيرتهم، واستقامة سلوكهم، فلما أعلنوا فيهم أنهم رسل الله، وأنهم يحملون إليهم كلمته، شغبوا عليهم، وأنكروا منهم ما كانوا يعرفون.. حسدا، وبغيا.. فهذا صالح- عليه السلام-، يقول له قومه: «يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا» وهذا شعيب- عليه السلام- يقول قومه له: «إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ» !! وهذا محمد- صلوات الله وسلامه عليه- يقول له الحق تبارك وتعالى عن قومه: «فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ، وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» .. وهكذا الأنبياء جميعا.. هم صفوة الله المصطفون من عباده.. يأخذون مكان الصدارة فى أقوامهم، وينزلون منهم منازل الإعزاز والإكبار، فى كمال الخلق، وحسن السيرة، حتى إذا آذنوهم بأنهم رسل الله إليهم، أنكروا منهم ما عرفوا، وأصبح ما كان بالأمس حبّا وإكبارا، عداوة وطعنا وتسفيها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1184 ومدين: على أطراف الجزيرة العربية من جهة الشام.. وقد نسب إليها القوم الذين كانوا يعيشون فيها، وهم قوم شعيب! ودعوة شعيب إلى قومه، هى دعوة كل نبى، جاء ليصحح عقيدة قومه التي لعبت بها الأهواء، وأفسدها الجهل والسفه.. فهو يدعوهم إلى الإيمان بالله، وترك ما بين أيديهم من معبودات غيره: «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» .. تلك هى مفتتح دعوته، بل وخاتمتها.. فالإيمان بالله، وإفراده بالألوهية، هو الفلك الذي تدور حوله تعاليم الأنبياء، وهو الينبوع الذي ترتوى منه قلوب المؤمنين، والمغترس الذي تغتذى منه وجداناتهم ومشاعرهم، والمصباح الذي تستضىء به أبصارهم، وتهتدى به بصائرهم.. فإذا عرف المرء ربه وآمن به، عرف الطريق إلى كل خير، وتفتح قلبه لاستقبال كل رشاد.. ولهذا فقد جاءت دعوة شعيب لقومه، بألّا ينقصوا المكيال والميزان- بعد دعوتهم إلى الإيمان بالله: «اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ» .. وذلك أنهم لو آمنوا بالله لكان تقبلهم لدعوته تلك، أمرا مقبولا عندهم، لا يراجعونه فيه.. وفى قوله: «إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ.. وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ» تحريض لهم على الإيمان بالله، وإغراء لهم باستنقاذ أنفسهم من الهلاك، لأنه يتوسم فيهم الخير، ويضنّ بهم أن يكونوا من أهل الشقوة والبلاء فى الدنيا، والعذاب الأليم فى الآخرة.. ويصحّ أن يكون قوله: «إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ» مرادا به أنهم فى حال من الرخاء والنعمة وسعة الرزق، بحيث لا تضطرهم الحاجة إلى الخيانة فى الكيل والميزان. والرأى الأول أولى. وفى وصف العذاب بأنه عذاب يوم محيط، إشارة إلى شناعة هذا العذاب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1185 وأنه عذاب لا يفلت منه من حقّ عليه، ووقع تحت حكمه.. «وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» القسط، والقسطاس: العدل.. والبخس: النقص، واغتيال الحقوق.. وبخس الشيء: عدم أدائه على وجهه كاملا.. ولا تعثوا فى الأرض: عاث، يعيث عيثا، أي ضرب فيها من غير مبالاة، فيكون من ذلك التخبط والفساد.. ولهذا لا يستعمل هذا الفعل إلا مقترنا بالفساد.. تأكيدا له، واستخراجا لمحتواه ومضمونه. وفى إعادة لوط دعوته إلى قومه بالوفاء بالكيل والميزان، توكيد لهذه الدعوة وتقرير لها، فهو قد نهاهم أولا عن إتيان هذا الفعل المنكر، ثم دعاهم إلى إتيان ما ينبغى لهم إتيانه، بعد أن ينتهوا عما نهوا عنه.. وهو أن يوفوا المكيال والميزان، وبهذا يجىء المطلوب منهم على وجهه كاملا.. فقد ينتهى المرء عن الشيء المكروه، ولكنه لا يفعل المحبوب الذي يقابله.. وذلك وقوف منه عند منتصف الطريق إلى الغاية المدعوّ إليها من بلوغ الخير.. وهو موقف سلبى، لا ترضاه الحياة منه.. وإنه لحسن أن ينتهى الإنسان عن الشر، ولكنه ليس بالحسن أن يكون أداة معطلة عن فعل الخير.. هذا، ولم يكرر شعيب دعوته لقومه إلى الإيمان بالله، لأنه جاءهم بها من أول الأمر، أمرا لازما: «اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» ثم جاءهم بها فى دعوة تطبيقية لها، فى قوله تعالى بعد ذلك: «بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ» أي أن ما تدخرونه عند الله من أجر، وما تستبقونه عنده مما يفوتكم من حظوظ الدنيا، هو خير لكم، وأبقى.. وإنكم لتعلمون هذا إن كنتم مؤمنين بالله، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1186 وما له من سلطان وحكم فى عباده.. ولست عليكم رقيبا، يحفظ عليكم أعمالكم، ويحاسبكم عليها، إنما ذلك إلى الله وحده.. وإنما أنا نذير مبين، أبلغكم ما أرسلت به إليكم. «قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ» . وبهذا المنطق السفيه، يردّ القوم على تلك الدعوة الكريمة التي يدعوهم إليها نبى كريم، بلسان عفّ، وبأسلوب يفيض رقّة وحنانا ومودة.. «يا شُعَيْبُ» !؟ هكذا فى جفاء وغلظة، ينادونه باسمه مجردا، دون أن يضيفوه إليهم بنسب، كأن يقولوا: يا أخانا، أو يا أبانا، أو يا ابننا.. أو نحو هذا.. ثم يتبعون هذا قولهم فى استهزاء وسخرية: «أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا» ؟ وهم يريدون بالصلاة، الدّين الذي يدين به، إذ كانت صلاته التي يرونها منه، هى المظهر العملي لهذا الدين.! يعنون بهذا أن الدين الذي يدين به ويدعوهم إليه- هو الذي حمل شعيبا على أن يدعوهم إلى ترك ما كان يعبد آباؤهم من آلهة، وإلى ترك التصرف فى أموالهم، والتسلط عليها حسب ما يشاءون؟ أفهذا دين يدين به العقلاء؟ وأي دين هذا الذي يخرج الناس عن عبادة ما كان يعبد آباؤهم؟ وأي دين هذا الذي يدخل على الإنسان فيما بينه وبين ما فى يديه من مال، فلا يدعه يتصرف فيه كما يشاء.. ويشترى بالأسلوب الذي يرضاه، ويبيع بالوجه الذي يعجبه؟ فما للدين ولهذا؟ فليزن المرء بالميزان الذي يحقق له الربح، وليكل بالمكيال الذي يضاعف من ربحه! فذلك حقّنا فى أموالنا! ولا ندرى كيف ساغ لشعيب هذا الدين الذي يذهب به هذا المذهب المجانب للصواب، والمجافى للعقل، وهو- فيما نعلم- الحليم الرشيد؟ أفهذا يكون من حليم رشيد؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1187 هكذا كان منطق القوم مع تلك الدعوة الكريمة، ومع هذا النبي الكريم.. يسخرون منه، ويسفّهونه، ويستحمقونه، وهم- على ما كانوا يعهدون منه- الحليم الرشيد.. «إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ» . والحليم: من الحلم، وهو العقل.. وهو ضد السفاهة، والجهل.. كما يقول الشاعر: أحلامنا تزن الجبال رزانة ... وتخالنا جنّا إذا ما نجهل والرشيد، ذو الرشد، وهو الكامل العقل.. وكذلك كان شعيب عليه السلام، غاية فى كمال العقل. وسلامة الإدراك. «قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ.. إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» . وبمنطق الحليم الرشيد، يردّ شعيب على قومه: «يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً؟» . أي إذا كان هذا ظنكم بي، وتقديركم للدعوة التي أدعوكم إليها، فكيف يكون الحال لوأننى كنت على بينة من ربّى، وعلى نور وهدى منه، وأن ذلك رزق حسن رزقنى الله إياه، وأنا أدعوكم إلى مشاركتى فى هذا الرزق الحسن- كيف يكون الحال إذن لو فاتكم حظكم من هذا الخير الذي أرتاده لكم وأوردكم موارده؟ .. إننى لا أبغى من وراء هذا الذي أدعوكم إليه إلا خيركم ورشدكم، وصلاح أمركم، وما أريد أن أصرفكم عن هذا الذي أنها كم عنه لأخلفكم عليه، وأستأثر به دونكم.. فما أنتم عليه إلا الضلال، وإلا الهلاك، الذي ليس للعاقل إلا اجتنابه، والفرار منه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1188 - «وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ» .. أي لا أريد بدعوتكم إلى ترك عبادة الأصنام، أن أعبدها، وأستخلص عبادتها لى من دونكم.. وما أبغى بدعوتكم إلى الوزن بالقسطاس، والكيل بالعدل، أن أعود أنا فأخسر المكيال والميزان، وأستأثر بهذا الربح الحرام الذي كان يعود إليكم، من تلاعبكم بالمكاييل والموازين.. كلا «ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ» .. يقال: خلفه، وخالفه: أي جاء خلفه، وأخذ مكانه الذي كان فيه. - «إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ» أي هذا هو كل الذي أبغيه مما أدعوكم إليه، ما أريد به إلا الإصلاح، إصلاح أمركم، وإقامة ما أنتم فيه من زيغ وعوج، وذلك فى حدود ما أقدر عليه. وهو النصح لكم، وليس لى أن أكرهكم على شىء ولو كان فى يدى السلطان القاهر.. - «وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ» فإذا وفّقت إلى بلوغ هذه الغاية التي أريدها. أو إلى شىء منها، فذلك بتوفيق من الله سبحانه وتعالى.. وليس ذلك من عملى، فما أنا إلا زارع يزرع، والله سبحانه هو الذي ينبت الزرع، ويخرج الحبّ والثمر.. - «عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» .. أي أننى معتمد على الله، مستند إليه فى سعيى وعملى، وراجع إليه فيما أسعى وأعمل.. فهو سبحانه الذي يملك كل شىء.. ويملك منّى ما لا أملك من نفسى. الآيات: (89- 95) [سورة هود (11) : الآيات 89 الى 95] وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1189 التفسير: «وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ» . لا يجر منّكم: أي لا يحملنّكم على كسب الجرم، وإتيان المنكر.. والشقاق: الخلاف عن عناد.. وفى هذه الآية يتابع شعيب- عليه السلام- النصح لقومه.. وفى كل مرة يدعوهم إليه بتلك الكلمة الودود: «يا قَوْمِ» أي يا أهلى، ويا أحبابى. «لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي» أي لا يكن عنادكم لى، وخلافكم علىّ، سببا فى ارتكاب هذا الجرم الغليظ فى حق أنفسكم، فتقتلوا أنفسكم بأيديكم! إن امتناعكم عن الاستجابة لى، وعن قبول الخير الذي أبسط به يدى إليكم، هو جريمة تقترفونها فى حق أنفسكم، وتتعرضون لأن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1190 يصيبكم من الله ما أصاب الظالمين من قبلكم.. قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط الذين لم يبعد الزمن كثيرا بينكم وبين ما حلّ بهم من عذاب الله ونقمته.. وقد جاءت قصص هؤلاء الأقوام فى القرآن الكريم حسب ترتيبها الزمنى.. قوم نوح، ثم قوم هود، ثم قوم صالح، ثم قوم إبراهيم وقوم لوط، ثم قوم شعيب، ثم موسى وقومه.. ولم يكن التزام القرآن لهذا الترتيب متابعة لمنطق التاريخ فى تسجيل الأحداث، وإنما لغاية أبعد من هذا وأعمق.. هى ما ينكشف من تسلسل الأحداث على هذا الترتيب، من تطوّر الإنسانية، وانتقالها من طور الطفولة، إلى أطوار الصبا، والمراهقة، والشباب.. حتى تبلغ تمامها عند التقائها بالرسالة الإسلامية «1» على يد خاتم المرسلين «محمد» عليه صلوات الله وسلامه. «وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ» .. أي فإن استمعتم نصحى، واستجبتم لى، فأقبلوا على الله مستغفرين تائبين.. «إِنَّ رَبِّي» الذي أدعوكم إليه «رحيم» بعباده، «ودود» لهم- بما يضفى عليهم من رحمته، وفضله، ورضوانه! وفى العدول عن لفظ «ربكم» الذي يقتضيه النظم- إلى قوله: «ربى» تحريض لهم على مشاركته فى الانتساب إلى هذا الرب الرحيم الودود، ربّ شعيب الذي أضاف نفسه إليه، ونال مانال من رحمته وودّه.. أما إضافتهم إلى الله سبحانه وتعالى فى قوله تعالى: «وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ» فهى إضافة قهر وإلزام، رضوا بذلك أم لم يرضوا، آمنوا به أو لم يؤمنوا.. والمطلوب منهم   (1) اقرأ فى هذا دراستنا لهذه القضية فى كتابنا «إعجاز القرآن» - الجزء الثاني. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1191 هو أن يضيفوا هم أنفسهم إلى الله، وأن يؤمنوا به، حتى ينالوا رحمته وودّه وبغير هذا، فإنهم مطرودون من رحمة الله، مبعدون من ودّه.. «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا» (96: مريم) . قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً، وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ» . «يا شُعَيْبُ!» هكذا، وفى كل مرة، ينادونه باسمه مجردا.. فى جفاء.. وغلظة.. على حين أنه يناديهم أبدا بيا قوم، متوددا متلطفا! وشتان بين أدب النبوة، ومنطق السفهاء! - «ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً» .. أي إنك تخلط فى كلامك، وتأتى بالمحال من القول، فلا نفقه ما تقول، ولا نرى له مدخلا إلى عقولنا.. وإنا إذ نزنك بنا نجدك ضعيف الرأى، طائش الحلم، «وَلَوْلا رَهْطُكَ» أي قرابتك وأهلك الأدنون، «لَرَجَمْناكَ» إذ لا يحق للسفيه الأحمق أن يعيش بين العقلاء! «وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ» إذ كانت تلك صفتك، وهذا هذيانك فينا..! «قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» . إن شعيبا ينتسب إلى الله، ويخلى يده من كل نسب إلى أهل وقرابة.. فكيف يبقون عليه من أجل رعايتهم لأهله، ولا يجعلون لنسبته إلى الله حسابا عندهم؟ «يا قَوْمِ.. أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ» وقد جئتكم من عنده، أدعوكم إليه باسمه، وأحمل إليكم رسالته؟ .. ولكن هكذا أنتم فى جهلكم وضلالكم، قد نظرتم إلى أهلى، وقدّرتموهم قدرهم، ولم تنظروا إلى الله، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1192 سبحانه، ولم تقدروه قدره «وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا» أي جعلتموه من وراء ظهوركم، لا تنظرون إليه، ولا تعملون له حسابا «إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» أي عالم، محيط علمه بكل ما تعملون، ولن تفلتوا من عقابه وعذابه.. «وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ» هذه هى خاتمة المطاف فيما بين شعيب وقومه.. إنه يتركهم وشأنهم، بعد أن بلّغهم رسالة ربه، وبالغ فى إبلاغها إياهم.. «اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ» أي اعملوا على ما أنتم مقيمون فيه من كفر وضلال.. «إِنِّي عامِلٌ» على ما أنا عليه، مما تعلمونه منّى وتنكرونه علىّ.. «سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ» فسينجلى لكم الأمر، ويتكشف لكم الحال عن عملكم وعملى، وسيطلع عليكم من عملكم عذاب يخزيكم، ويؤمئذ تعلمون من هو الكاذب، ومن كان فى ضلال مبين.. أما متى ذلك؟ فعلمه عند ربّى، ولكنه آت لا ريب فيه، فانتظروا يومكم هذا «وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ» .. وقد جاء النظم القرآنى بلفظ «رقيب» بدل «مرتقب» الذي يقتضيه النظم ليدلّ على أن شعيبا فى المكان الذي يشرف منه على هؤلاء القوم، وهم المنزل الدّون الذي يلقون فيه العذاب المهين! إنه رقيب، يقوم على مرقب عال، كما يقوم القاضي على منصة القضاء. «وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ» .. وحين جاء أمر الله، ودنت ساعة القصاص من هؤلاء القوم الضالين، نجّى الله شعيبا والذين آمنوا معه، وحملهم على جناح رحمته، إلى مرفأ الأمن والسّلام.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1193 «وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ» فكان العذاب الذي أخذوا به هو «الصيحة» التي رجفت بها الأرض من تحتهم، فجمد الدم فى عروقهم، خوفا وفزعا.. فلم يتنفس أحد منهم بعدها نفسا.. وهذه الصيحة هى التي أهلك الله بها قوم صالح، كما يقول سبحانه فى هذه السورة: «وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ» (الآية 67) .. ولهذا جاء قوله تعالى: «كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها.. أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ» .. فهو موقف واحد، ومصير واحد.. موقف على مرتع الإثم والضلال، ومصير إلى الهلاك والبلاء فى الدنيا، وإلى النار وعذاب السعير فى الآخرة.. الآيات: (96- 109) [سورة هود (11) : الآيات 96 الى 108] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1194 التفسير: هكذا تختم قصص هذا الصراع، بقصة موسى مع فرعون.. ولا تذكر تفاصيل هذه القصة، بل تجىء فى هذا العرض الموجز، المعجز، الذي يجمع- على إيجازه- كلّ مضمون القصة، ويكشف عن الملامح البارزة فيها، أما من أراد التفاصيل. ففى غير موضع من القرآن الكريم يجد ذكرا لهذه القصة، وفى كل موضع، يقع على مضمون القصة كاملا، ثم يجد بين يديه حدثا من أحداثها التي تتشكل منها.. وهكذا يلتقى قارئ القرآن آخر الأمر بقصة موسى وفرعون كاملة، فى مجريات أحداثها، ومواقف أشخاصها.. وإن التقى بها أكثر من مرة فى معارض مختلفة الشكل، متفقة المضمون.. كما سنبين ذلك فى مبحث «التكرار فى القصص القرآنى» .. «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ» .. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1195 والآيات التي أرسل بها موسى هنا، هى الآيات المادية، التي أراها لفرعون، معجزات متحدية، تشهد له أنه رسول من ربّ العالمين، وهى تسع آيات، كما قال تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً» (101- 102: الإسراء) والآيات التسع هى: العصا، ويده التي كان يدخلها فى جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء، وفى هذا يقول الله تعالى: «وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ.. فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ» (31- 22: القصص) .. ثم خمس الآيات التي ذكرها الله تعالى فى قوله: «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ.. آياتٍ مُفَصَّلاتٍ» (133: الأعراف) .. أما الآيتان الأخريان، فهما: أخذهم بالسنين المجدبة، والنقص فى الثمرات، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» (130: الأعراف) .. أما السلطان المبين، فهو ما كان لموسى بهذه الآيات، من قوة قاهرة على فرعون، إذ أعجزه بها، وأخزاه، ثم ساقه قدره، فكان من المغرقين! .. - وفى قوله تعالى: «فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1196 إشارة إلى ما كان من فرعون وملائه عند لقاء تلك المعجزات، وأنهم كفروا بها، واتبعوا فرعون فى خلافه على موسى.. ولم يكن اتّباعهم فرعون ليدنيهم من خير، أو يمكن لهم من هدى.. فما دعاهم فرعون إلا إلى ضلال، وما ساقهم إلا إلى هلاك.. إنه أمر بالفحشاء، ودعوة إلى بلاء! .. «يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ» .. إنه إمامهم فى الآخرة، كما كان إمامهم فى الدنيا.. وهو إمام ضال، لا يتبعه إلا ضالون.. وهكذا من يلقى رمامه إلى غيره، من غير نظر إليه، أو تدبّر فى أمره.. «وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ» أي بئس هذا المورد الذي ورده القوم.. إنه النار وكفى بالواردين إليها ضياعا، وبلاء! وفى التعبير عن ورودهم النار- بالفعل الماضي، مع أنهم لم يردوها بعد، إشارة إلى أن ورودهم إياها أمر محقق، وأن أعمالهم التي تلبسوا بها فى هذه الدنيا، من كفر وضلال، هى المركب الذي يسير بهم إلى النار.. فهم- والأمر كذلك- سائرون إلى النار، موقوفون عليها، لا مورد لهم سواها. «وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ» .. الإشارة هنا إلى الدنيا، ولم تذكر، استخفافا بها، وامتهانا لها، لا من حيث أنها دنيا، بل لأنها دنياهم هم التي لم يحسنوا العمل فيها، ولم يخرجوا منها بزاد طيب يتزودون به ليوم القيامة.. وإلا فهى دار طيبة لمن أحسن العمل، وغرس فى مغارس الخير والإحسان.. واللعنة التي أتبعتهم فى هذه الدنيا، هى ما يرميهم به الناس بعدهم، من لعنات، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1197 حيث تذكر سيرتهم، فلا يرى فيها الناس إلّا عوجا، وزيغا، وفسادا فى الأرض.. وكذلك شأنهم فى الآخرة، حيث يراهم المؤمنون، وقد وردوا هذا المورد الوبيل، وباعوا آخرتهم بهذا الثمن البخس الذي باعوها به فى دنياهم، من متاع زائل، وسلطان زائف! فيرمون باللّعنات.. «أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ» .. «بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ» .. الرفد: العطاء بعد العطاء، ويستعمل فى مواضع الخير، والإحسان.. وقد استعمل هنا فى العذاب والبلاء، ليدلّ على أن ما يرفدون به، هو اللعنة، وأنها هى الإحسان الذي يمكن أن يحسن به إليهم، إذ لا عطاء لهم إلا من هذا المورد الذي وردوه، وليس فيه ما يعطى إلا النكال والسوء! «ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ» الإشارة هنا إلى هذا القصص الذي قصه الله فى هذه الآيات، الكريمة.. والخطاب للنبى صلوات الله وسلامه عليه، والقرى: هى قرى أولئك الأقوام الذين أهلكهم الله، وصبّ عليهم نقمته، بعد أن ساق إليهم رحمته على يد رسله فردّوها، وآذوا المرسلين إليهم بها.. «مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ» أي من هذه القرى ما هو «قائم» أي باق لم تضع كل معالمه بعد، ومنها ما هو «حصيد» قد اندثر، وذهبت معالمه.. وقد شبهّت القرى بالزرع، لما فيها من حياة، ولما تتعرّض له هذه الحياة من صور التبدّل والتحول.. فتخضرّ، وتورق، وتزهر، وتثمر.. ثم تنضج، وتحصد.. وهكذا تلبس القرى من صور الحياة ما يلبس الزرع من تلك الصور! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1198 «وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ» أي أن أهل هذه القرى، الذين أهلكهم الله، لم يكن إهلاكهم بظلم من الله لهم، ولكن هم الذين ظلموا أنفسهم، بحجزها عن الخير، وسوقها إلى هذا البلاء الذي أخذهم الله به.. «فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ» .. أي أن آلهتهم، لم تردّ عنهم بأس الله إذ جاءهم، ولم تمدّ إليهم يدا تستنقذهم من هذا البلاء الذي هم فيه. «وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ» أي أن هذه الآلهة التي عبدوها من دون الله لم تزدهم إلا خسرانا إلى خسران، وعذابا إلى عذاب، وحسرة إلى حسرة، وذلك حين ينادونهم فلا يسمعون لهم، ويستصرخونهم، فلا يخفّون إليهم.. وهنا يرون أنهم كانوا مخدوعين بهم، وأن تلك الآلهة هى التي خدعتهم وأضلتهم.. حتى إذا جدّ الجدّ تبرءوا منهم، وضلّوا عنهم.. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى فى قوله: «وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا.. كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ» (167: البقرة) .. والتتبيب، والتباب: الخسران، والبلاء. «وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» أي مثل هذا الأخذ بالهلاك والعذاب، يأخذ الله القرى الظالمة.. وفى هذا تهديد للمشركين من قريش، وتلويح لهم ولقريتهم، بهذا المصير الذي صارت إليه القرى الظالمة وأهلها.. «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ.. ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ، وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ» .. الإشارة هنا إلى هذه الأحداث التي مرت بتلك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1199 القرى الظالمة، وما حلّ بها وبأهلها من سوء.. ففى هذا عبرة وعظة لمن خاف عذاب الآخرة، أي آمن بالله، وباليوم الآخر، وعمل لنفسه من أجل هذا اليوم، حتى لا يقع تحت طائلة العذاب الذي أعده الله للظالمين، المكذبين بالله، وبهذا اليوم.. وهو يوم يجتمع له الناس جميعا، بعد أن يبعثهم الله من قبورهم، وهو يوم مشهود، يشهده الناس جميعا، ويرون ما يقع فيه من أهوال، وهو يوم عظيم.. للأحداث العظيمة التي تقع فيه. «وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ» .. أي إن هذا اليوم آت لا ريب فيه، وإن تأخيره إنما هو لاستيفاء الأجل الذي قدّره الله لهذا اليوم. «يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ» أي يوم يأتى هذا اليوم، ويعرض فيه الناس على ربّهم، لا تملك نفس من أمرها شيئا، فلا تنطق بكلمة حتى يؤذن لها من الله سبحانه.. وذلك لهول الموقف، الذي تخمد فيه الأنفاس، وتخرس الألسنة.. وهم بين شقىّ وسعيد.. شقى بما حمل على ظهره من أوزار، وما قدم بين يديه من سيئات.. وسعيد بما جاء به إلى ربّه من عمل صالح يزكّيّه إيمان بالله، وبهذا اليوم الذي هو فيه. «فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ» .. وتلك هى حال من أحوال الذين غلبت عليهم شقوتهم، وأدانهم الدّيان فى هذا اليوم المشهود.. وذلك هو بعض ما يكون لهم فى هذا اليوم، وما يشهده أهل الموقف منهم.. «لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ» .. وفى تقديم «الزفير» وهو دفع النفس إلى الخارج، على «الشهيق» الذي هو أخذ النّفس إلى داخل الجوف.. وذلك على خلاف ما تتنفس الكائنات الحية، حيث تأخذ الهواء شهيقا، ثم تدفع به إلى الخارج زفيرا.. فى هذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1200 ما يكشف عن تلك الحال السيئة التي يعانيها هؤلاء الذين شقوا.. إنهم لا يتنفّسون كما يتنفّس النّاس، فيأخذون الهواء شهيقا، ويتنفسون أنفاس الحياة منه، ثم يلقونه زفيرا، بعد أن يأخذ الجسم حاجته منه.. كلا، وإنما همّهم كلّه هو أن يلقوا بهذا الهواء الذي تغلى به صدورهم، فهم فى «زفير» متصل متقطع.. وأما الشهيق فهو نار تلظّى، لا يكاد أحدهم يأخذ جرعة منه حتى يردّها زفيرا.. ثم يعيدها شهيقا.. وهكذا: يتنفّسون نارا، من داخل صدورهم، ومن خارجها على السواء.. «خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ.. إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ» أي أنهم يظلّون فى هذا العذاب أبدا، لا يتحولون عنه، «ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ» .. والسماوات باقية، والأرض باقية.. فحياتهم فى النّار مرتبطة ببقاء السماوات والأرض.. فهل عندهم من حيلة ليبدّلوا هذا النظام القائم؟ فليحاولوا إذن.. ولينطحوا هذا الصخر.. إن كان فيهم بقية من قدرة على أن يحرّكوا رؤسهم! «إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ» لا يملك أحد معه شيئا، ولا يستطيع أحد أن ينقض من حكمه شيئا..! «وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ» .. العطاء غير المجذوذ: أي غير الناقص.. أي عطاء كاملا، ونعمة سابغة، لا يدخل عليها ما يكدر صفوها، أو يذهب بشىء من لذاذاتها التي وجدوها فى أنفسهم لها.. وهنا سؤال.. وهو: ماذا يراد بقوله تعالى: «إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ» ؟ وهل هو استثناء داخل على تأييد الخلود فى النار أو فى الجنة، الذي يفهم من قوله تعالى: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1201 «خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ» ؟ وكيف والله سبحانه وتعالى يقول فى أصحاب الجنة: «يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ» (21- 22: التوبة) ؟ ويقول سبحانه فى أصحاب النار: «إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» (64- 65: الأحزاب) ؟ ما تأويل هذا؟ وقد جاء الخلود مؤكدا بالتأبيد، لأصحاب النار فى النار، ولأصحاب الجنة فى الجنة؟ والجواب- والله أعلم- أنه لما كان قوله تعالى: «خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ» يشعر بأن هذا الخلود، هو خلود قائم على حال واحدة، لا تتحول فيه بأهل الجنة أو النار الأحوال، ولما كان مثل هذا الخلود المطّرد على وجه واحد، هو شبيه بالعدم، لا يجد فيه المنعّم طعم النعيم، ولا يذوق منه المعذّب آلام العذاب، بعد أن يدوم ويتّصل على هذه الصورة المطردة- لما كان ذلك مما يمكن أن يفهم من قوله تعالى: «خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ» - فقد جاء قوله سبحانه: «إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ» استثناء من مفهوم الخلود المطّرد، الذي يقع تحت مشيئة الله، فتجرى عليه أحكام التبديل، والتحويل، الذي هو سنّة الله فى خلقه، كما يقول الحقّ جلّ وعلا: «يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» (29: الرحمن) . وعلى هذا، فإن خلود أهل الجنة فى الجنة، وخلود أهل النار فى النّار ليس على صورة واحدة، لا تتغير أبدا، ولا تنتهى أبدا.. إذ لو كان ذلك لكان معناه المشاركة لله سبحانه فى دوامه الأبدى، المنزّه عن التحول والتبدّل.. ولكن خلود أهل الجنة وأهل النار، إنما هو خلود يصحبه تنقّل من حال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1202 إلى حال، على مدى الأزمان الطويلة، فتلبس أهل الجنة أحوال وصور، كما تلبس أهل النار أحوال وصور.. فى رحلة طويلة على سفينة الكون السابحة فى رحاب هذا الوجود..! ومن يدرى.. فلعله يكون لأهل الجنة وأهل النار انتقال من دار إلى دار، ومن عالم إلى عالم.. هكذا فى دورات وأطوار «مادامت السموات والأرض» أي مادام هذا النظام السماوي والأرضى قائما، وهو نظام واقع تحت حكم التبدل والتحول، كما يقول سبحانه «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ» (48: إبراهيم) كما أنه واقع تحت حكم الزوال والفناء، كما يقول جل شأنه: «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» (88: القصص) . الآيات: (109- 115) [سورة هود (11) : الآيات 109 الى 115] فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1203 التفسير: بعد هذا العرض الذي حشرت فيه الآيات القرآنية الكريمة الناس إلى ربهم، وساقتهم إلى موقف الحساب والجزاء بين يديه، وسيق أهل النار إلى النار، وعذابها وبلائها، وزفّ أهل الجنة إلى الجنة، وطيباتها ونعيمها- عادت الآيات لتلقى النبىّ الكريم، بما وجد فى مشاعره من تلك المشاهد التي شهدها ليوم القيامة، وهو أنّ للظالمين يوما عبوسا قمطريرا، وأن العاقبة للمتقين.. فيقول له الحقّ تبارك وتعالى: «فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ.. ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ» .. والمرية: الشكّ والارتياب.. وما بالنبيّ الكريم شكّ ولا ارتياب، فى أنّ ما يعبده قومه هو الضلال المودي بأهله، والمورد لهم موارد الهلاك والبلاء.. ولكن هذا النهى، هو تأكيد لما فى قلب النبىّ من إيمان بربّه، وتثبيت له على الطريق الذي هو قائم عليه، وإن لقى فيه مالقى من ضرّ وأذى! وفى الإشارة إلى المشركين من قريش بقوله تعالى: «هؤلاء» دون ذكرهم، هو تهوين لشأنهم، واستخفاف بقدرهم، إذ كانوا على هذا السخف والضلال، وإذ كانوا بحيث يعطون مقودهم لأحجار ينحتونها بأيديهم، ثم يقيمونها آلهة وأربابا عليهم! والآباء المذكورون فى قوله تعالى: «ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ» .. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1204 قد يراد بهم آباؤهم الأبعدون، من قوم نوح، وعاد وثمود، وقوم إبراهيم وقوم لوط، وأصحاب مدين- الذين تحدثت عنهم الآيات السابقة، وكشفت عن كفرهم وضلالهم.. وقد يراد بهم آباؤهم الأولون، من قريش! فالناس هم الناس، والأجيال اللاحقة غرس الأجيال السابقة. وعلى أىّ فالنّسب متصل إلى أن تضمه تلك الدائرة الكبرى التي تضم هؤلاء الآباء، قريبهم، وبعيدهم، جميعا، وتجمعهم على طريق واحد، هو طريق الكفر والضلال. - وفى قوله تعالى: «وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ» تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين، وأنهم سيوفّون نصيبهم من العذاب، كاملا لا ينقص منه شىء.. قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» . الكتاب هنا، هو التوراة.. وهو الذي نزل على موسى، كما نزل القرآن على محمد- عليهما السلام- وقد اختلف بنو إسرائيل فى كتابهم هذا، وتغايرت أنظارهم عليه، وكثر جدلهم فيه، فكانوا فرقا وأشياعا، يكفّر بعضهم بعضا.. وإلى هذا يشير الله سبحانه وتعالى فى قوله: «وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ» (19: آل عمران) ويقول سبحانه: «كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ» (213: البقرة) . - وفى قوله تعالى: «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» .. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1205 الكلمة هى كلمة الله بأن يؤخرهم إلى أجل مسمّى، وألّا يعجل لهم العذاب فى الدنيا، وهذا ما يسير إليه قوله تعالى: «وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» (14: الشورى) فلولا هذه الكلمة «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» وأخذ الله الظالمين منهم بما أخذ به الظالمين من الأمم السّالفة قبلهم، ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمّى، يلقون عنده جزاء الظالمين. - وفى قوله تعالى: «وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» .. الضمير فى: «إنهم» يعود إلى أهل الكتاب المعاصرين للنبىّ، وهم الذين أوتوا الكتاب من بعد آبائهم الذين اختلفوا فيه، وقد أشار إليهم قوله تعالى: «وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» فآباؤهم قد اختلفوا فى كتابهم هذا، وتفرقوا شيعا وأحزابا، وأبناؤهم الذين أورثوا هذا الكتاب من بعدهم، فى ريب منه وفى شك فيه، إذ أورثهم هذا الخلاف الذي وقع بين آبائهم فى الكتاب- حيرة، وقلقا، واضطرابا، حيث يجدون لكل أمر جاءهم به الكتاب أكثر من وجه من وجوه الرأى، وأكثر من مذهب من مذاهب الخلاف، فتتفرق بهم السبل، وتزيغ الأبصار، وتضل العقول.. فلا يكون لهم من نظرهم فى الكتاب إلا الارتياب والشك. «وإن كلّا لمّا ليوفّينهم ربّك أعمالهم إنه بما يعملون خبير» .. أي وإن كلّا من الآباء الذين اختلفوا فى الكتاب، والأبناء الذين ورثوا هذا الكتاب وارتابوا فيه- إن كلّا من هؤلاء وأولئك ليوفينهم ربك أعمالهم، ويجزى كلّا ما هو أهل له.. «إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» .. يزن عمل كل واحد بميزان العليم الخبير، ويجازيه عليه جزاء القادر القاهر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1206 ووصف الله سبحانه وتعالى هنا بأنه «خبير» ، لأن هذه الصفة هى المناسبة للمقام، إذ كان الخلاف الذي كان بين الآباء فى الكتاب، والريب الذي فى صدور أبنائهم منه، لا يكشفه، ولا يعلم الحق من الباطل فيه، إلا عليم خبير. - وفى قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ» تحذير لأصحاب القرآن الكريم من أن يختلفوا فيه، فيضلّوا كما ضل اليهود قبلهم، ثم لا يقف الأمر عند هذا، بل يورّثون أبناءهم من بعدهم الشّك والريب فى القرآن، كما ورّث اليهود أبناءهم من بعدهم الشكوك والرّيب. فى التوراة، الأمر الذي أو هى صلتهم بها، وجرّأهم على التلاعب بأحكامها، وتبديل كلماتها وتحريف نصوصها.. فكانوا كما وصفهم الله سبحانه بقوله: «مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» (46: النساء) .. وهذه هى صفات من لا يثق فيما بين يديه من الأمر الذي يشغل به.. وقد وصفهم الله سبحانه كذلك فى موضع آخر بقوله: «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» (155: النساء) .. إنه إيمان لا ينزل من القلب مكان الاطمئنان، واليقين، وإنما هو إيمان سطحى.. له ظاهر وباطن، أشبه بظاهر المنافق وباطنه! «فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» . فهذا هو الذي ينبغى أن يكون عليه النبىّ والمؤمنون معه إزاء القرآن الكريم.. وهو الاستقامة على وجه واحد فيه، والوقوف به عند مفاهيمه التي تنطق بها كلماته، دون الالتواء بها، والجدل العقيم فيها.. حتى لا يقع فيه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1207 خلاف، ولا يختلف فيه المسلمون، مثل هذا الاختلاف الذي أفسد على اليهود دينهم.. والأمر للنبىّ الكريم هنا، هو توكيد لهذا الأمر بالنسبة إلى المؤمنين.. فالنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- مستقيم استقامة مطلقة كما أمر الله مع الكتاب الذي أنزله الله عليه، فإذا جاءه الأمر بعد هذا بالاستقامة، فإنما ليرى المؤمنين أن أمر الاستقامة مع القرآن الكريم، يحتاج إلى احتراس شديد، ورقابة دائمة، حتى يحتفظ المؤمن بهذا الوضع المستقيم، مع كتاب الله. وإلا انحرف وضلّ.. وأن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- مع ما هو عليه من استقامة مع كتاب ربّه، فإنه قد نبّه إلى هذا، وأمر به، فكيف بغيره من المؤمنين؟ - وفى قوله تعالى: «وَلا تَطْغَوْا» تأكيد للأمر بالاستقامة على كتاب الله، كما أمر الله.. والطغيان هو مجاوزة حدّ الاعتدال فى أي أمر من الأمور، والخروج به عن الوضع السليم الذي ينبغى أن يوضع فيه. والمراد بالطغيان هنا، الطغيان فى الاختلاف فى كتاب الله، ومجاوزة الحدّ فيه، وهذا يعنى أن الاختلاف فى ذاته أمر لا حرج منه، بل إنه أمر لا بدّ منه، إذ كان من شأن النّاس أن ينظروا إلى الأمور بعقولهم، ويزنوها بمدركاتهم.. وبعيد أن تتلاقى عقولهم وأن تتعادل موازينهم، على حد سواء.. فكان الاختلاف بينهم أمرا لا يمكن اجتنابه، بل لا يمكن أن تقوم حياتهم بغيره. ولكن الذي لا يحمد من أمر هذا الاختلاف، هو أن يكون عن هوّى جامح، لا يراد منه البحث عن الحقيقة، بل غايته المراء والإعنات، وذلك هو طغيان، وعدوان على الحقيقة، وتضييع لها.. - وفى قوله تعالى: «إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» إشارة مضيئة مشرقة، إلى أن الاختلاف ينبغى أن يكون عن نظر باحث، وبصيرة نافذة، ابتغاء التعرف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1208 على الحق.. وبهذا يكون اختلاف وجهات النظر بين المختلفين، أضواء مسلطة من كل جهة، على الطريق الموصل إلى الحق، والكاشف عنه.. قوله تعالى: «وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ» . - «وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» أي لا تميلوا إليهم، ولا تتبعوا سبيلهم، ولا تأمنوا جانبهم. وهو نهى عام عن موالاة الظالمين، ومناصرتهم، واتباع سبيلهم.. ومن الذين ظلموا، أولئك الذين يتأولون كتاب الله حسب ما تمليه عليهم أهواؤهم، فيضلّون ويضلون غيرهم.. قوله تعالى: «وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ» . طرفا النهار: أوله، وآخره.. وهما الصبح، والمساء. وزلفّا من الليل. الزّلف: جمع زلفى، مثل قربى وقرب.. لفظا ومعنى، ومنه قوله تعالى: «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ» أي أدنيت إليهم، وقرّبت لهم بحيث ينالونها.. والمراد بالزلف من الليل، أوقات قريبة من الليل.. أي ما يقرب من طرفى النهار، وفيها صلاة الصبح التي هى مدانية لأول النهار، وفيها صلاتا المغرب والعشاء، وهما مدانيتان لآخر النهار. - وفى قوله تعالى: «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» إشارة إلى أن فى إقامة الصّلاة حسنات يكتسبها المرء منها، فتذهب بالسيئات التي تقع منه.. وفى التعبير عن الصلاة بالحسنات، إشارة إلى أن الصلاة إذا أديت على وجهها كانت حسنات خالصة.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1209 - وفى قوله تعالى: «ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ» .. الإشارة إلى ما حدّثت به الآيات السابقة، من الاستقامة مع كتاب الله كما أمر الله، واجتناب الظالمين، وعدم الركون إليهم، وإقامة الصلاة طرفى النهار وزلفا من الليل- فهذه كلها عظات، بالغات، ينتفع بها الذاكرون، أي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.. - وفى قوله تعالى: «وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» إشارة إلى أن التزام الطاعات، واجتناب المنهيات أمر يحتاج إلى معاناة وصبر، وأنّها تكاليف لا يقدر على الوفاء بها إلا من وطّن نفسه على الصّبر.. وفى هذا يقول الحقّ تبارك وتعالى فى شأن الصّلاة: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها» (132: طه) وبهذا يستحق الإنسان الجزاء الحسن على ما احتمل من مشقة.. فالله سبحانه لا يضيع أجر العاملين، الذين يعملون فى مواطن الخير والإحسان! الآيات: (116- 119) [سورة هود (11) : الآيات 116 الى 119] فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1210 التفسير: قوله تعالى: «فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ» . مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآيات السابقة جاءت آمرة بمعروف، وناهية عن منكر، ومنبّهة إلى أن فيما أمرت به ونهت عنه، ذكرى لمن يعقل، ولا يغفل عن مواقع العبرة والعظة. ولما كان فى طبيعة الناس الغفلة عن مواقع الخير، وهم لهذا يحتاجون دائما إلى من يقوم فيهم مذكّرا لهم، آمرا بالخير، ناهيا عن المنكر- فقد جاء قوله تعالى: «فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ» - ناعيا على الأمم السالفة التي أهلكها الله سبحانه بظلمها وضلالها، أنها لم يكن فيها دعاة خير، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقفون بجوار أنبيائهم، يشدون أزرهم، ويشيعون فى الناس دعوتهم، ويسدون على السفهاء نوافذ العدوان على الأنبياء وأتباع الأنبياء. - وفى قوله تعالى: «فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ» إنكار لما كان عليه أهل القرون الماضية، من فقدان أهل الخير بينهم، ودعاة الإصلاح فيهم.. وتحريض للمسلمين ألا يكونوا كهؤلاء الأقوام، بل يقوم من بينهم دعاة هدى وإصلاح، كما يقول الله سبحانه وتعالى: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» (104: آل عمران) ، وبهذا تقوى جبهة المؤمنين، ويشتد ركن الإيمان، وينفتح للناس الطريق إلى الهدى، والنجاة من عذاب الله. - وقوله تعالى «أُولُوا بَقِيَّةٍ» أي أصحاب دين وإيمان، يعملون لما يبقى لهم عند الله فى الآخرة، ومنه قوله تعالى: «بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ» أي ما يبقى لكم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1211 عند الله.. فأصحاب البقية، هم العقلاء الراشدون، الذين لا تلهيهم دنياهم عن آخرتهم.. وقوله تعالى: «إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ» هو استثناء من النفي الواقع على أهل القرون الغابرة.. فقد كان فيهم جماعات قليلة استجابوا لدعوة الله، وآمنوا به، ودعوا إلى الله، كما كان من الرجل الصالح من قوم فرعون.. أما كثرتهم فكانت تموج فى غيّها وضلالها، فلم يكن لأصحاب الدعوات فيهم من يسمع أو يجيب، إذ كانت تضيع أصواتهم وسط هذه الأمواج الهادرة من الغى والضلال.. وقد نجى الله سبحانه هؤلاء القلة المؤمنين، من هذا البلاء الذي أخذ به أقوامهم، الذين قاموا على ما هم فيه من ضلال.. قوله تعالى: «وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ» .. إشارة إلى أن أهل المنكر قد غلبوا على أهل الخير والصلاح فيهم، فلم يلتفتوا إليهم، ولم ينتفعوا بنصحهم، فمضوا على ما هم فيه من ضلال، وغرقوا فيه من إلى أذقانهم، وأترفوا فيه، أي جعلوه نعيمهم فى الدنيا، وحظهم منها.. - «وَكانُوا مُجْرِمِينَ» أي كانوا أهل إجرام وفجور، وبغى وعدوان.. ولذلك أهلكهم الله.. ولو استقاموا على طريق الحق، ما نزل بهم ما نزل من نقم الله عليهم.. كما يقول سبحانه بعد ذلك: «وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ» .. أي أن الله سبحانه، إنما أهلك القرى التي أهلكها بسبب ما كان من أهلها من ظلم وكفر وضلال.. وقد جرت سنة الله ألّا يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، كما يقول سبحانه: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» (53: الأنفال) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1212 قوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» .. أي أن ما حلّ بالظالمين من هلاك هو قدر من قدر الله الواقع بهم، وأنه- سبحانه- لو شاء لهداهم إلى الحقّ، ولعافاهم من هذا البلاء.. «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً» أي على حال واحدة من الإيمان، أو الكفر، ومن الهدى، أو الضلال.. فليس ذلك بعزيز على الله.. ولكنه- سبحانه- خالف بينهم، فجعلهم مؤمنين وكافرين، ومهتدين وضالين. كما يقول سبحانه: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (2: التغابن) .. - وفى قوله تعالى: «وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ» إشارة إلى أن هذا الاختلاف فى الناس أمر لازم اقتضته حكمة الله، وجعلته سنّة قائمة فيهم.. فكما اختلفوا فى صورهم وأشكالهم، وفى ألسنتهم وألوانهم، وفى أممهم وأوطانهم، وفى وجوه أعمالهم وأرزاقهم- اختلفوا كذلك فى معتقدهم فى الله، فمنهم الكافرون، ومنهم المؤمنون، ومنهم أصحاب النار، وأصحاب الجنة، «إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ» ممن ألف بين قلوبهم من المؤمنين، فكانوا كيانا واحدا، فى اتساق خطوهم على طريق الخير والهدى.. فكانوا كيانا واحدا، وجسدا واحدا تنتظمه مشاعر واحدة.. وقليل ما هم.. - وفى قوله تعالى: «وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ» توكيد لهذا الحكم الذي حكم الله به على العباد.. وأنهم هكذا خلقوا مختلفين.. - «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» أي وجبت كلمة ربك- وحقت، وجاءت على تمامها وكمالها، لا استثناء فيها، وهى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1213 أن يملأ جهنم من الجنة والناس.. وإذا كان ذلك كذلك، فإنه لا مفرّ من أن يكون لجهنم أهلها من الناس، ولها يعملون، وليصيروا إليها.. وبغير هذا لا يتحقق لكلمة الله التمام.. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.. الناس.. وهذا الاختلاف فى حظوظ الحياة الاختلاف بين الناس، أمر لازم لانتظام حياتهم.. فلو كانوا على حال سواء فى كل شىء، لما كانوا إلا كتلة متضخمة اللحم، ليس فيها عين تنظر، أو أذن تسمع، أو أنف يشم، أو يد تبطش، أو رجل تمشى، أو رأس يفكر.. إلى غير ذلك من الأجهزة العاملة فى كيان الإنسان.. والتي بها صار الإنسان إنسانا، بل بها صار الكائن الحىّ.. ذا حياة عاملة.. معطية وآخذة.. وهكذا الناس.. هم هذا الإنسان فى صورة مكبرة.. بعضهم يأخذ مكان الرأس، وبعضهم يأخذ مكان العين، أو الأنف، أو الأذن، أو اليد، أو الرجل وبهذا يقوم الجسد الاجتماعى بوظائفه العاملة فى الحياة حيث تأخذ كل جماعة فيه مكانها المناسب فى هذا الجسد، كما تأخذ أعضاء الجسد فى الإنسان مكانها فيه.. سواء بسواء! والسؤال هنا هو: لماذا يكون بعض الناس رأسا، وبعضهم قدما، أو إصبعا، أو عينا؟ ونقول: إن تلك هى مشيئة الخالق فى خلقه.. فكما خلق سبحانه الإنسان ووضع أعضاءه فيه بهذا النظام وعلى تلك الصورة- كذلك جعل الله سبحانه المجتمع الإنسانى موزعا فى الوجود على هذا النظام.. بعضهم رأس، وبعضهم ذنب، وبعضهم قلب، وبعضهم عقل، وبعضهم أبيض، وبعضهم أسود.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1214 وهكذا.. ليملئوا كل فراغ على الأرض، ويسلكوا كل سبيل فيها.. فيكون منهم الزارع والصانع، والتاجر، وراكب البحر، وساكن الفلاة، وصاحب القصر، وصاحب الكوخ! تلك هى مشيئة الله فى عباده، وإرادته النافذة فيهم، وحكمته المقدّرة لكل شىء قدره! يقول الجاحظ فى تعليل هذا الاختلاف بين الناس، وتباين حظوظهم فى هذه الدنيا: «اعلم أن الله تعالى إنما خالف بين طبائع الناس ليوفق بينهم! «ولم يحبّ أن يوفق بينهم فيما يخالف مصلحتهم! «لأن الناس لو لم يكونوا مسخرين بالأسباب المختلفة، وكانوا مخيّرين فى الأمور المتفقة والمختلفة، لجاز أن يختاروا بأجمعهم الملك والسياسة، وفى هذا ذهاب العيش، وبطلان المصلحة، والبوار والتّواء «1» .. ثم يقول الجاحظ: «ولو لم يكونوا- أي الناس- مسخرين بالأسباب، مرتهنين بالعلل، لرغبوا عن الحجامة أجمعين، وعن البيطرة، والقصابة والدباغة «2» ولكن كل صنف من الناس مزيّن عندهم ما هم فيه، وممهل عليهم.. «فالحائك إذا رأى تقصيرا من صاحبه أو سوء خدمة، أو خرقا، قال   (1) البوار: الفساد» والتواء: الهلاك. (2) القصابة: الجزارة.. وهذه الصناعات التي ذكرها الجاحظ كانت محتقرة عند العرب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1215 له- على سبيل الذم: يا حجام! والحجام لو رأى تقصيرا من صاحبه، قال له: يا حائك!! ثم يقول: «ولولا أن الله تعالى أراد أن يجعل الاختلاف سبيلا للاتفاق والائتلاف، لما جعل واحدا قصيرا، وآخر طويلا، وواحدا حسنا، والآخر قبيحا، وواحدا غنيا وآخر فقيرا، وواحدا عاقلا وآخر مجنونا، وواحدا ذكيا وآخر غبيا.. ولكن خالف بينهم ليختبرهم، وبالاختيار يطيعون، وبالطاعة يسعدون.. «ففرق بينهم ليجمعهم، وأحب أن يجمعهم على الطاعة ليجمعهم على المثوبة، فسبحانه وتعالى، ما أحسن ما أبلى وأولى، وأحكم ما صنع، وأتقن ما دبر! ثم يمضى الجاحظ فيقول: «لأن الناس لو رغبوا كلهم عن عار الحياكة لبقينا عراة، ولو رغبوا أجمعهم عن كدّ البناء لبقينا بالعراء، ولو رغبوا عن الفلاحة لذهبت الأقوات، ولبطل أصل المعاش.. فسخرهم على غير إكراه، ورغبهم من غير دعاء. ثم يقول: «ولولا اختلاف طبائع الناس وعللهم، لما اختاروا من الأشياء إلا أحسنها ومن البلاد إلا أعدلها، ومن الأمصار إلا أوسطها.. ولو كان ذلك لتناحروا على طلب الواسط «1» ، وتشاجروا على البلاد العليا، ولما وسعهم بلد، ولما تم بينهم صلح!   (1) الواسط: أي الوسط من كل شىء، وهو أحسنه وأعدله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1216 فقد صار بهم التسخير إلى غاية القناعة! «وكيف لا يكون ذلك كذلك، وأنت لو حركت ساكنى الآجام إلى الفيافي، وساكنى السهل إلى الجبال، وساكنى الجبال إلى البحار، وساكنى الوبر إلى المدر، لأذاب قلوبهم الهمّ، ولأتى عليهم فرط النزاع! «ولولا اختلاف الأسباب، لتنازعوا بلدة واحدة، واسما واحدا وكنية واحدة! «فقد صاروا- كما ترى مع اختيار الأشياء المختلفة- إلى الأسماء القبيحة، والألقاب السمجة.. والأسماء مبذولة، والصناعات مباحة، والمتاجر مطلقة، ووجوه الطرق مخلاة! «ولكنها مطلقة فى الظاهر، مقسمة فى الباطن، وإن كانوا لا يشعرون بالذي دبره الحكيم العليم من ذلك. «فسبحان من حبب إلى واحد أن يسمى ابنه محمدا، وحبب إلى آخر أن يسمى ابنه شيطانا، وحبب إلى آخر أن يسميه عبد الله، وحبب إلى آخر أن يسميه حمارا. «لأن الناس لو لم يخالف بين عللهم فى اختلاف الأسماء، لجاز أن يجتمعوا على شىء واحد. وكان فى ذلك بطلان العلامات، وفساد المعاملات! ثم يختم الجاحظ هذه القضية بقوله: «وأنت إذا رأيت ألوانهم، وشمائلهم، واختلاف صورهم، وسمعت لغاتهم ونغمهم، علمت أن طبائعهم وعللهم المحجوبة الباطنة، على حسب أمورهم الظاهرة (أي أنها مختلفة فى صورها وأشكالها كاختلاف أحوالهم الظاهرة) . وقد حرصنا أن ننقل كلمات الجاحظ فى هذه القضية، لأن الجاحظ لم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1217 ينظر إلى هذه القضية من خلال العقيدة الدينية، ولم يقمها على مقررات النصوص القرآنية، بل نظر إليها نظرا قائما على واقع الحياة، وما ينطق به هذا الواقع الذي هو التطبيق العملي لما قررته الشريعة، ونطقت به كلمات الله.. فالاختلاف بين الناس على هذا الوجه الذي يشمل ماديات حيلتهم ومعنوياتها جميعا، هو سنة الله فى خلقه، وحكمه الواقع عليهم، بحيث لا انفكاك لهم منه أبدا.! - فقوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ» .. هو القانون السماوي الذي يحكم أوضاع الناس فى هذه الدنيا.. حيث لا تستقيم حياتهم، ولا ينتظم أمرهم إلا بهذا الاختلاف الواقع بينهم، والذي لو ارتفع من دنياهم لجمدوا فى أماكنهم، كما يجمد الدم فى جسد فارقته الحياة، وفى هذا يقول الرسول الكريم: «الناس بخير ما تباينوا (أي اختلفوا) ، فإذا تساووا هلكوا» . والاختلاف الذي تشير إليه الآية الكريمة، ويحدّث به الرسول الكريم ليس بالاختلاف الذي يفرق بين الناس، ويعزل بعضهم عن بعض ويضع بعضهم فى مكان السادة، على حين يضع بعضهم الآخر فى منزلة العبيد.. كلا، إنما هو اختلاف فى المنازع والمشارب، وفى الملكات والحظوظ، كما يختلف الإخوة الأشقاء، فى منازعهم ومشاربهم، وفى ملكاتهم، وحظوظهم من الحياة.. بحيث لا يجعل هذا الاختلاف بينهم ميزة لأحدهم على الآخر، فى الحقوق والواجبات، المنوطة بالإنسان، من حيث هو إنسان.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» .. فهذا الاختلاف بين الناس، الذي جعلهم شعوبا وقبائل، هو سبب التعارف بينهم، وهو الذي يعطى كل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1218 أمة أو شعب أو قبيلة، السّمة التي تعرف بها، وتكون معلما من المعالم الدالة عليها.. تماما كالاختلاف بين الأفراد، الذي به يعرف لكل فرد ذاتيته وشخصيته، بحيث لا يكون الناس جميعا على وجه واحد، لا يختلف فيه إنسان عن إنسان. وقول الرسول الكريم: «الناس سواسية كأسنان المشط» مكمل لقوله صلوات الله وسلامه عليه: «الناس بخير ما تباينوا» .. فهم على سواء فى المعنى الإنسانى الذي يجمعهم، وهم فى الوقت نفسه أفراد متمايزون، لكل فرد وجوده الخاص، وذاتيته المشخّصة له، وعالمه المتفرّد به.. وعلى هذا المفهوم للإنسان، قامت أحكام الشريعة الإسلامية ومبادئها.. فهى تتعامل مع الإنسان باعتبارين.. باعتبار أنه فرد له ذاتيته وله عالمه الخاص الذي يعيش فيه، وباعتبار أنه عضو فى مجتمع، أشبه بالعضو فى الجسد.. وهذا النظر الذي تنظر به الشريعة الإسلامية إلى الإنسان، وتعامله به على أساسه، هو الواقع الذي يعيش فيه الإنسان، حيث كانت له حياة يعيش بها فى الناس، وحيث كانت له ذاتية يعرف بها بينهم. فالحياة تتعامل مع الإنسان بوجهيه معا.. وجهه الشخصي الفردى، ووجهه العضوى الاجتماعى.. فتستقبله الحياة فردا.. تعطيه وتأخذ منه، وتستقبله فى مجتمعه الأسرى، والقبلىّ، والشعبي، والأممى، والإنسانى عامة.. فتعطيه، وتأخذ منه أيضا.! والحياة، فى كلتا الحالين، ترى الإنسان بكل مشخصاته، لم يفتقد شيئا من عناصر وجوده الذاتي، ولو ألقى به فى محيط العالم الإنسانى كله.. تراه مرة كما يبدو من خلال عين «المصورة» إذا كان بمفرده فى مجال هذه العين، وتراه مرة أخرى كما يبدو من خلال هذه العين، وقد وقع فى مجالها ملايين البشر! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1219 وكذلك شأن الإنسان مع الحياة ومع الناس.. إنه يرى نفسه من خلال نظرتين.. نظرة لا يرى منها إلا نفسه هو، ووجوده هو، ونظرة يرى منها نفسه، عضوا- كبيرا أو صغيرا- فى المجتمع.. فتعاليم الإسلام تعترف اعترافا كاملا واضحا بذاتية الإنسان وبفرديته، وتفسح لهذا الجانب من الإنسان مكانا بارزا فى تشريعاتها وأحكامها.. فالإنسان فى نظر الإسلام- من هذه الجهة- عالم صغير، له فلكه الذي يدور فيه، وله مشاعره التي يحيا بها، وعواطفه التي يعيش فيها، وضميره الذي يحتكم إليه. ومن جهة أخرى، فإن الشريعة الإسلامية، لا تقف بالإنسان عند هذا الشأن من شئونه، بل تلقاه عضوا فى المجتمع الإنسانى كله، من أضيق حدوده، فى مجتمع الأسرة، إلى غاية مداه، فى الإنسانية جميعها، بل إنها تتجاوز هذا إلى المجتمع الحيواني، بل إلى الوجود كله.. فهى تدعو الإنسان إلى أن يكون نغما منسجما مع هذا اللحن الخالد، الذي يشترك فيه الكون كله، معبّرا به عن جلال الخالق العظيم وقدرته، وعلمه، وحكمته.. وإنه لمن الشقاء الذي ليس بعده شقاء، أن يكون الإنسان صوتا [نشازا] فى هذا اللّحن الكونى الرائع.. إنه سينفصل حينئذ عن الوجود.. ثم لا يكون له وجود! وأرانا قد بعدنا عن موضوعنا الذي تحدثت عنه الآية الكريمة: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ» .. ولكن عذرنا فى هذا، هو أن قضية الاختلاف بين الناس، ليست قضية ذات وجه واحد، قائم على هذا الاختلاف الظاهر بين الأفراد، بل هى قضية- كما قلنا- ذات وجهين: وجه ظاهر يقوم عليه هذا الاختلاف الذي تشهده الحياة بين الناس والناس، ووجه خفّى، تضيع فى ثناياه وجوه هذا الاختلاف، فيبدو الناس جميعا كيانا واحدا، وجسدا واحدا.. الأمر الذي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1220 ينقض حكم هذا الظاهر المشاهد، ويوقع بعض الناس فى حيرة، وبلبلة حينما يقصرون نظرهم على هذا الاختلاف القائم بين الناس والناس، ولا يرون ما وراءه من تلاحم، وتجاوب، وائتلاف: فيخيّل إليهم أن الوجود الإنسانى وجود يحكمه الاضطراب، ويسوده القلق، ويستولى عليه الفساد، بسبب هذا الاختلاف، الذي يبدو وكأنه لا يجتمع معه شمل، ولا يستقر به حال! ومن واقع هذه النظرة إلى ظاهر الحياة الإنسانية، وما يطفو على سطحها من اختلاف بين الناس- حاول الكثير من الفلاسفة والمصلحين أن يعالجوا هذا الاختلاف بين الناس، وأن يعملوا على صوغهم صياغة جديدة، تجعل من مجموعهم إنسانا واحدا، مكررا.. فإن لم يكن ذلك فلا أقلّ من أن يقسّموا إلى مجموعات، كل مجموعة منها تحوى أعدادا من الناس، على هيئة واحدة، لا خلاف بين إنسان وإنسان فيها.. ومن أجل هذا، وقع فى تفكير بعض الفلاسفة ما عرف بالمدن الفاضلة، التي صوّر فيها الناس على هيئة جسد بشرى.. تمثل فيه كل جماعة من الناس، عضوا من أعضائه.. فهناك من يمثلون الرأس، وهناك من يمثلون الأيدى، أو الأرجل، وهكذا.. كما نرى ذلك فى مدينة أفلاطون فى الغرب، ومدينة الفارابي فى الشرق! وإلى جانب هذه المدن الفاضلة التي ارتسمت فى أذهان الفلاسفة، ولم يقدّر لها أن تخرج إلى عالم الواقع- إلى جانب هذا قامت محاولات كثيرة، ودعوات متعددة فى القديم والحديث، يراد بها المساواة بين الناس، مساواة مطلقة، وخاصة فيما يتصل بالملكيّة الخاصة، فكانت تلك الدعوات التي ظهرت فى المجتمعات البشرية والتي تحمل إلى الناس فوضى الإباحة المطلقة لكل شىء فى المال، والنساء، والزرع، والضرع، وكل ما يكون للناس فيه حاجة.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1221 وطبيعى أن هذه الدعوة قد أغرّت عامة الناس على الاندفاع وراءها فى هوس مجنون إذ فتحت أمامهم أبوابا فسيحة يدخلون منها إلى ما يشتهون.. وينالون من قريب كل ما يحبون.. ولكن سرعان ما اصطدم الناس بالواقع، بعد أن صحوا من هذا الحلم الجميل، وأفاقوا من تلك الهلوسة المحمومة. فلم يروا بين أيديهم إلا سرابا خادعا يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.. ذلك أن الناس فى ظل هذه الدعوة، تستولى عليهم مشاعر الأثرة والأنانية، التي تحملهم على أن يأخذوا دون أن يعطوا، وأن يحصدوا من غير أن يزرعوا.. وهذا من شأنه أن يحيل الخصب جدبا، والعامر خرابا.. ثم ينتهى الأمر أخيرا إلى استبداد الأقوياء بالضعفاء، استبدادا دونه ما يجرى فى الغابة بين عالم الحيوان! يأكل قويّهم ضعيفهم فى غير شفقة أو مرحمة، ثم تجىء الخاتمة المفجعة، فإذا كلهم مأكول بيد الضياع والفناء.. وحسبنا أن نذكر هنا ما كان من دعوة «مزدك» ودعوة «بابك الخرّمى» .. فقد كانتا أشبه بإعصار عات لفّ الناس فى كيانه، وحملهم على جناحه، ثم ألقى بهم من حالق.. فكانوا فى الهالكين! الاختلاف إذن بين الناس، ووضع كل إنسان موضعه فى الحياة، حسب استعداده، هو الذي يمكّن للمجتمع الإنسانى أن يحيا حياة خصبة، تملأ هذه الدنيا خيرا يسعد به الناس جميعا، ويتساقون كئوسهم فيما بينهم.. وغاية ما هو مطلوب هنا- كى تطيب للناس حياتهم، وينتظم خطوهم فى موكب الحضارة والمدنية- هو أن تقوى بينهم مشاعر الأخوة الإنسانية، وتؤلّف بين قلوبهم عواطف التراحم، والتوادّ، حتى يتخففوا من دواعى الأثرة والأنانية.. وهذا ما جاءت له الشرائع السماوية، وما قامت من أجله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1222 القوانين الوضعية، وعملت له دعوات القادة والمصلحين فى كل زمان، وفى كل مجتمع صالح رشيد. ونستمع إلى قوله تعالى: «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» (32: الزخرف) . نستمع إلى كلمات ربّ العالمين هذه فنجد فى قوله تعالى: «لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا» ما يكشف عن هذا السرّ العظيم الذي تحدّث به بعض أسرار هذه الآية الكريمة.. فالناس بحكم هذا الاختلاف القائم بينهم، وبحسب استعدادهم الفطري، وحكم ظروفهم وأحوالهم- هم جميعا مسخّرون.. أي يخدم بعضهم بعضا، ليس فيهم خادم ومخدوم.. بل كلّهم يخدم ويخدم، ويستوى فى هذا العالم والجاهل، والزارع، والصانع، والقوىّ والضعيف، والحاكم والمحكوم.. إنهم جميعا أشبه بالآلة الميكانيكية، لا تكون آلة عاملة، ذات قوة محركة، إلا إذا عمل كل جزء من أجزائها.. أيّا كان وضعه فيها، وأيّا كانت قيمته الذاتية بين أجزائها.. بل أنهم أشبه بالجسد الإنسانى فى تجاوب أعضائه جميعا فى العمل على كل ما من شأنه أن يحفظ عليه حياته، ويوفر له أمنه وسعادته. لقد عرف الناس هذه الحقيقة منذ كان لهم وجود اجتماعي، بل إن هذا الوجود الاجتماعى نفسه إنما دعتهم إليه حاجة بعضهم إلى بعض، وخدمة بعضهم لبعض.. وهذا ما يشير إليه قول الشاعر العربي. الناس للناس من بدو ومن حضر ... بعض لبعض- وإن لم يشعروا- خدم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1223 فلولا حاجة الناس بعضهم إلى بعض لما اجتمع بعضهم إلى بعض: ونرتّل قول الحق جلّ وعلا: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ» - فنجد أن هذا الاختلاف بين الناس، هو حكم لازم لا انفكاك لهم منه، إلّا أن يخرجوا عن طبيعتهم البشرية، ويتحولوا إلى عالم الحيوان.. هبوطا، أو عالم الملائكة.. صعودا.. أما وهم فى عالم البشر فلن يكونوا إلا هذا الكون الذي هم فيه.. لكل إنسان مكانه فى الجسد الاجتماعى، كما لكل عضو موضعه من جسد الكائن الحىّ. - وفى قوله تعالى: «وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ» تأكيد لهذا المعنى، وتقرير له.. إذ كان هذا الاختلاف بينهم ليس أمرا طارئا عليهم، وإنما هو سنّة الخالق فيهم، حكمته التي اقتضت أن تخالف بينهم، ليكون فى هذا الاختلاف نظام حياتهم، وانتظام معيشتهم! الآيات: (120- 123) [سورة هود (11) : الآيات 120 الى 123] وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1224 التفسير: قوله تعالى: «وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ» الخطاب للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- أي وكلّ هذا الذي نقصّ عليك من أنباء الرسل وأقوامهم، إنما لتجد منه ما يثّبت فؤادك، ويمدّك باليقين والعزم، حيث تجد إخوانك الرسل وقد استقبلهم أقوامهم بالسّفه، ورموهم بالأذى.. فإذا أنت أوذيت من قومك فقد أوذى الرسل قبلك من أقوامهم! «وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ» (34: الأنعام) .. قوله تعالى: «وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ» .. الإشارة «هذه» إلى أنباء الرسل، أي وجاءك فى هذه الأنباء «الحقّ» ، أي الحق من أخبارها، فهى الصدق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: «وموعظة وذكرى للمؤمنين» أي وفيما جاءك من تلك الأنباء موعظة وذكرى للمؤمنين، الذين يصدّقونك، ويؤمنون بما نزل عليك.. فهم الذين يجدون العبرة والموعظة فى هذا القصص. أما الذين لا يؤمنون فإنهم يمرّون عليها وهم عنها معرضون.. قوله تعالى: «وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ» . العطف هنا على المفهوم من قوله تعالى: «وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» أي إن المؤمنين سيجدون فى هذه الأنباء التي جاء بها القرآن عن الرسل وأقوامهم- ما يزيدهم إيمانا إلى إيمان، فقل للذين آمنوا استقيموا على طريقكم، وأبشروا بالرحمة والرضوان من ربكم، وقل للذين لا يؤمنون اعملوا ما بدا لكم أن تعملوه وأنتم على ما أنتم عليه من كفر وضلال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1225 إنّا عاملون على ما نحن عليه من إيمان.. وانتظروا ثمرة ما تعملون، إنا منتظرون ثمرة ما نعمل.. وسترون ما يطلع عليكم من أعمالكم من بلاء ووبال.. قوله تعالى: «وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» . بهذه الآية الكريمة تختم السورة، جاعلة لله سبحانه وتعالى وحده غيب ما فى السموات والأرض.. إذ قد استأثر- سبحانه- بعلم كل ما هو غائب عنّا.. ومناسبة هذا الختام للسورة، هى أنها اشتملت على كثير من أنباء الغيب التي ذكرت فى قصص الأنبياء.. نوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب.. عليهم السلام.. وهى أنباء إن يكن عند أهل الكتاب بعض منها، إلا أن كثيرا مما جاء به القرآن الكريم لم يكن عندهم به علم، والذي كان لهم به علم، هو خليط من الصدق والكذب، ومزيج من الواقع والخيال.. أما الذي جاء به القرآن فهو الحقّ المطلق، والصدق المصفّى.. ثم إن هذا القصص كان غيبا بالنسبة للعرب، والذي كان عندهم منه هو أوهام وظنون تلقوها من أهل الكتاب شبه أحاج بعيدة عن الحق، وفى هذا يقول الله تعالى: فى هذه السورة: «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا» (الآية 49: هود) . - قوله تعالى: «وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ» أي إن مصائر الأمور كلها راجعة إليه سبحانه.. فهو- سبحانه- الذي يرسل الأمور، فتجرى فى قدرها المقدور لها، ثم تستقرّ آخر الأمر عند الغاية التي أرادها الله لها.. فهو سبحانه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1226 الذي يجريها، وهو سبحانه، الذي يرسيها.. «فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ» وإذ كان ذلك هو الله رب العالمين، فهو المستحق وحده لأن يعبد، وأن يعتمد عليه، وأن يعلم المرء زمامه إليه «فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ» .. فالعبادة هى الزاد الذي يتزود به الإنسان فى طريقه إلى ربّه.. فإذا عبده العابد، وأخلص له العبادة، قويت صلته به، واطمأن قلبه إليه، فتوكل عليه، وأسلم إليه أمره.. - «وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» .. إنه رقيب على كل شىء، عالم بكل شىء، لا تخفى على الله خافية فى الأرض ولا فى السماء.. فهو- سبحانه- يحصى علينا أعمالنا، حسنها، وسيئها، ويحاسبنا عليها، ويجزينا بالإحسان إحسانا، وبالسوء سوءا. «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» (31: النجم) وهكذا تبدأ السورة بتوجيه الخطاب إلى النبىّ الكريم، وإلفاته إلى الكتاب، الذي نزل إليه من ربّه: «الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ» ثم هى تنتهى بخطاب النبىّ أيضا.. ودعوته إلى عبادة ربّه، الذي أنزل عليه هذا الكتاب، والتوكل عليه.. إذ هو أعرف الناس بربّه، وأولاهم بعبادته والتوكل عليه.. وهو سبحانه رقيب على كل شىء، عالم بكل شىء- يرى المحسنين والمسيئين- ويجزى كلّا بما كسب.. «وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1227 12- سورة يوسف نزولها: نزلت بمكة، فهى مكية- باتفاق. عدد آياتها: مائة وإحدى عشرة آية.. بلا خلاف عدد كلماتها: ألف وسبعمائة وست وسبعون كلمة. عدد حروفها: سبعة آلاف ومائة وستة وستون حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 6) [سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3) إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1228 التفسير: «الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» .. بدأت هذه السورة بما بدأت به السورتان- يونس، وهود- قبلها، وكما بدأت به السورتان- إبراهيم والحجر بعدها.. لقد بدأت خمستها بهذه الأحرف الثلاثة: (ألف.. لام.. راء) .. هكذا: «الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ» .. (يونس) «الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» .. (هود) «الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» .. (يوسف) «الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» (إبراهيم) «الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ» .. (الحجر) ويلاحظ: أولا: ذكر الكتاب، أو آيات الكتاب بعد هذه الأحرف.. وهذا يشير إلى ما بين هذه الأحرف وهذا الكتاب، وآيات الكتاب، من صلات.. وقد أشرنا إلى هذا فى أول سورة «هود» وقلنا: إن هذه الأحرف تشير إلى متشابه القرآن، وأن أوائل السور التي من هذا القبيل هى الآيات المتشابهات التي أشار إليها قوله تعالى: «مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ» وأن غيرها من آيات القرآن محكم ومفصل.. وثانيا: أنه إذا ذكر «الكتاب» لم يشر إليه، وأنه إذا ذكرت «آيات الكتاب» أشير إليها بحرف الإشارة «تلك» : وهذا يشير إلى أن القرآن الكريم نسج واحد، وأنّه معجزة متحدّية، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1229 سواء باعتباره كلّا لا يتجزأ، بحيث ينظر إليه من المبدأ إلى الختام، نظرة يلتقى فيها متشابهه مع محكمه، ومجمله مع مفصله، وقصصه مع أحكامه وآدابه.. أو باعتباره آيات تعرض أحداثا ومواقف، وتحدث عن أدلة وشواهد، وتكشف عن أسرار ومغيبات.. وثالثا: فى ذكر الكتاب، والتزام هذا الذكر بعد تلك الأحرف، تحريض على العلم، ودعوة إلى التعلم، وأن من شأن من يتعامل مع القرآن الكريم أن يكون من أهل العلم، الذي مارس الكتابة، ودرس الكتب.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ» (43: العنكبوت) . ولا شك أن هذه اللفتة من القرآن الكريم، إلى قوم أميين، وأمة أمّية، تحمل فى طياتها دعوة إلى هؤلاء الأميين أن يخرجوا من تلك الأمية، وأن ينزعوا عنهم لباس الجهل والجاهلية، وأن يأخذوا بأسباب الحضارة التي لا تقوم إلا على ركائز العلم والمعرفة! ولعلّ فى عرض هذه الأحرف المتقطعة: ألف.. لام.. راء.. وغيرها من الحروف التي بدأت بها بعض السور- لعل فى هذا أول درس عملىّ يقدمه القرآن، ويفتح به الطريق إلى تعليم الكتابة والقراءة، إذ كانت تلك الأحرف هى أول ما عرف العربىّ الأمىّ من أجزاء الكلمة، وعرف منها أن الكلمات التي ينطق بها ليست مركّبات مصمتة، وإنما هى قوالب، يتشكل من كل مجموعة منها بناء، هو الكلمة، كما يتشكل من الكلمات نظام، يتألف منه الكلام، الذي يتعامل به الناس فى لغة التخاطب، وفى نظم القصيد، أو إنشاء الخطبة.. فكما يتعلم المبتدئ القراءة والكتابة بتعلم الحروف الهجائية التي تبنى منها الكلمات، كذلك يتعلم العرب الأميون من هذه الأحرف المقطعة كيف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1230 يشكّلون من هذه الأحرف الكلمات التي ينطقونها، ويصورون منها صورا تكتب وتقرأ. «الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» .. فى وصف الكتاب هنا بأنه مبين، توكيد لوصفه بأنه «حكيم» وبأنه «كتاب أحكمت آياته» . إذ أن الحكمة لا تكون حكمة، والحكيم لا تتم حكمته، حتى تخرج تلك الحكمة على صورة واضحة مشرقة، يرى الناس على وجهها أضواء المعرفة، وإلا كانت حكمة مضمرة، لا ينتفع بها، أشبه باللئالئ فى أصدافها، أو فى أغوار الماء! فالمبين، مبين وحكيم معا. «إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» . ومن بيان القرآن، الذي يكشف عن الحكمة المشتمل عليها، أنه جاء إلى من يخاطبهم باللسان الذي يحسنون التفاهم به، وهو اللسان العربي.. ولو جاءهم بغير هذا اللسان، لما عقلوا منه شيئا، ولما انتفعوا به، ولأفلت من أيديهم كلّ ما اشتمل عليه من حكمة.. وإنه ليس بالحكيم من يخاطب النّاس بالأسلوب الذي لا يفهموته، وباللغة التي لا يحسنون الفهم عنها.. إنه حينئذ لا يجد أذنا تصغى إليه، ولا قلبا ينفتح له، ولا عقلا يتجاوب معه.. إنه يكون فى واد والناس فى واد، إذ يحدثهم بأصوات لا مفهوم لها عندهم. ولهذا، فقد كان من مقتضيات البلاغة، ومن بلاغة البليغ مراعاة مقتضى الحال، فلكل مقام مقال- كما يقولون، فلا يخاطب الجاهل خطاب العالم، ولا العالم خطاب الجاهل، ولا البدوىّ بمفاهيم الحضرىّ، ولا الحضرىّ بمفاهيم البدوىّ.. وإلا فقدت اللغة قيمتها، وضاعت معالمها، وأصبحت أشبه بالنقد الزائف، الذي ينكره الناس، ولا يتعاملون به. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1231 وفى الحديث الشريف كما روى البخاري: «كلّموا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون.. أتريدون أن يكدّب الله ورسوله؟» . والمراد بمخاطبة الناس يما يعرفون، أي بما تبلغه مدركاتهم، ويقع منها موقع الفهم.. والمراد بتكذيب الله، هو اختلاط الأمر على الناس، حين يتحدث إليهم علماؤهم أحاديث لا يفهمونها على وجهها الصحيح، فيتلقون منهم وجوها من الكلام، فيتصورونها تصورا خاطئا، وإذا كل وجه يبدو لهم منها ينكر وجه صاحبه، فيقع التضارب والاختلاف، وتنشأ من هذا مفاهيم خاطئة، يناقض بعضها بعضها، وكلها تحدث عن الله، فيقع لذلك الشك، والارتياب ثم التكذيب، والكفر!! ومن تمام البيان فى الرسالة الإسلامية أن صرف الله الرسول عن قول الشعر وعن أن يكون شاعرا.. فقال تعالى: «وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ» (69: يس) وذلك أن الشعر يحمل فى أسلوبه مضامين كثيرة، لما يعتمد عليه من تصورات وتخيلات، ولما يقوم عليه نظمه من صور الكنايات والرمز، والإيماء، وغير ذلك، مما تتولد من الصورة الواحدة منه.. صور.. الأمر الذي لا يستقيم مع رسالة سماوية، غايتها إقامة الناس على طريق واحد مستقيم لا عوج فيه، ولا خلاف عليه.. وهذا ما يشير إليه ويؤكده قوله تعالى فى التعقيب على قوله سبحانه: «وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ» .. إذ يقول جل شأنه: «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ» أي إن هذا القرآن ذكر، ومن شأن الذكر أن يلقى العقل لقاء صريحا واضحا، حتى يأخذ عنه العبرة والموعظة، صريحة واضحة.. وهذا القرآن هو قرآن مبين.. أي واضح البيان لا لبس فيه ولا خفاء. «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1232 الضمير «نحن» هو لله سبحانه وتعالى.. وفيه استدعاء للرسول، ومداناة له من ربّه، وتكريم لذاته بهذا الحديث الذي يتلقاه من ربه من غير واسطة.. «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ» .. وهذا على خلاف لو جاء النظم هكذا: «الله يقص عليك» .. والقصّ تتبع الأثر، والتعرف على صاحبه. وقصّ الأخبار، تتبعها والكشف عنها.. وأحسن القصص، أصدقه حديثا، وأشرفه غاية، وأكرمه مقصدا، وأقومه طريقا.. ولا نذهب مذهب القائلين بأن التفضيل هنا على غير حقيقته، بمعنى أنه ليس هناك مفضل ومفضل عليه، باعتبار أن لا حسن فى قصص غير قصص القرآن، وأن القصص القرآنى هو الحسن، وهو الأحسن.. بل نقول إن التفضيل على حقيقته.. ونقول: إن القصص القرآنى وإن كان الغاية فى الحسن والكمال، فإن ذلك لا يمنع أن يكون فى القصص غير القرآنى، مما ألّفه المؤلفون، وقصّنّه القاصّون، سواء ما كان من نسيج الواقع، أو من شباك الخيال، وسواء ما كان على ألسنة الناس أم على ألسنة البهائم والطير- إن ذلك لا يمنع أن يكون فى هذا القصص ما هو حسن يتأدب به، وتؤخذ منه العبرة والموعظة.. وليس ذلك بالذي ينزل من قدر القصص القرآنى، أو يزحمه فى منزلته العالية التي انفرد بها، بل إن ذلك من شأنه أن يكشف عن جوهر القصص القرآنى، ويبين عن شرفه وعلوّ منزلته، حين يوزن بميزان الحسن، ويوضع فى الكفّة المقابلة للقصص القرآنى، فيرجح القرآن كلّ ما عرف من قصص حسن، والشأن فى هذا، شأن البيان القرآنى كلّه، مع البلاغة العربية وبيانها.. فإن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1233 اللغة العربية ببيانها المبين، وببلاغتها البالغة غاية الحسن والروعة، هى التي كشفت عن إعجاز القرآن، وألقت بيديها مستسلمة بين يدى بيانه وبلاغته! .. إن فضل الشيء، وعظم قدره، إنما يتبيّن بالقياس إلى الشيء الذي فضّل عليه.. فالناس ينظرون إلى قيمة الفاضل من خلال نظرتهم إلى قدر المفضول. ألم تر أن السيف يزرى بقدره ... إذا قيل هذا السيف خير من العصا؟ إنه لا يشهد لبطولة البطل إلا من كان يلبس ثوب البطولة، بحيث يرى الناس من مواقفه فى ميادينها أنه بطل مشهود له، فإذا صرعه بطل آخر، كان ذلك شهادة لهذا البطل أنه بطل الميدان، وفارس المعركة..! - وفى قوله تعالى: «بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ» - إشارة إلى ما اشتمل عليه القرآن الكريم من قصص، وأنه مع نزول القرآن الكريم على النبىّ الكريم، نزل هذا القصص، الذي كان بعضا منه، ومعجزة من إعجازه، ودرسا من دروسه.. فالباء فى قوله تعالى: «بما» تفيد التبعيض. - وقوله تعالى: «وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ» .. المراد بالغفلة هنا عدم الالتفات إلى الشيء والاهتمام له، إذ لم يكن من النبي قبل نزول القرآن عليه، التفات إلى هذا القصص أو اشتغال به. قوله تعالى: «إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ» . «إذ» ظرف متعلق بقوله تعالى «نَقُصُّ عَلَيْكَ» وفى تعلّق الظرف إذ بالفعل «نقص» إشارة إلى أن هذا القصص ليس على شاكلة ما يروى القصّاص من أخبار الماضين، فهم يتبعون آثارها، إذ لم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1234 يكونوا من شهودها.. أما هذا القصص، فهو من شهود علم الله، ماضيا، وحاضرا، ومستقبلا.. وإنما سمّى قصصا بالنسبة لمن يتلقونه، بعد أن مضى الزمن به. - وقوله: «إِنِّي رَأَيْتُ» أي رؤيا فى المنام.. أي أن يوسف- عليه السلام- رأى فى منامه أحد عشر كوكبا والشمس والقمر.. رآهم جميعا ساجدين له. ولم يكشف يعقوب ليوسف- عليهما السلام- عن تأويل هذه الرؤيا، بل أراه منها أنها تنبىء عن خير عظيم يناله، ومنزلة عالية يبلغها.. وذلك فى قوله: «قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ» لقد نهاه عن أن يتحدث بهذه الرؤيا إلى إخوته، فإنها توحى إليهم بأنه سيكون له من إخوته الأحد عشر ما كان من تلك الكواكب فى موقفها منه، ساجدة له، متخاضعة بين يديه.. وذلك من شأنه أن يبعث الحسد والغيرة فى نفوسهم منه، ويفتح للشيطان طريقا للدخول بينه وبينهم، فيغريهم به، ويسلطهم عليه.. أما تأويل هذه الرؤيا، فقد وقع بعد ذلك بزمن بعيد، طويت فى أثنائه أحداث كثيرة، وقعت ليوسف، حتى استقر به المقام فى مصر، وأصبح متصرفا فى شئونها المالية، ثم جاء إليه أبوه، وأمه، وإخوته الأحد عشر، ودخلوا عليه الباب ساجدين.. وفى هذا يقول الله تعالى فى آخر السورة: «وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي» (الآية: 100) . وفى الحديث عن الكواكب والشمس والقمر بضمير العقلاء «رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ» إشارة إلى إحساسه بها وهو يراها فى منامه، إذ كانت تتصرف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1235 تصرف العقلاء فتسجد له، وتظهر له الولاء والتعظيم، وهذا لا يكون إلا من فعل العقلاء!. إنها تلبس صورة أبويه وإخوته.. فهى بشر فى صورة كواكب! قوله تعالى: «وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» .. هو من تمام كلام يعقوب فى تأويل رؤيا يوسف، أي كما بدأ الله بلطفه بك، وتكريمه إياك صغيرا، فإنه سيتولاك برعايته، ويفيض عليك من نعمه كبيرا، فيجتبيك، أي يختارك ويصطفيك للرسالة والنبوّة، «وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ» أي يكشف لبصيرتك خفايا الأمور وعواقبها فيما تشتمل عليه الأحاديث المتشابهة، وهى التي لا يعلم تأويلها إلا الله والراسخون فى العلم، كالرؤى المناميّة ونحوها.. وقد بينا ذلك فى تفسير الآية الكريمة: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ.. فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» (7: آل عمران) وقد جاء فى السورة حدثان، كشف فيهما يوسف عن المضمون الذي اختفى وراء الصورة التي جاءا عليها فى الرؤيا المنامية، كما سنرى ذلك بعد، فى رؤيا صاحبيه فى السجن، وفى رؤيا فرعون. - وفى قوله تعالى: «وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ» إشارة إلى أنه سبحانه سيختاره للنبوة، وهذا هو تمام النعمة، وكما لها لمن أنعم الله عليهم من عباده، وكذلك سيكون إخوته «آل يعقوب» أنبياء، كما كان أبواهم إبراهيم وإسحق نبيّين..! - «إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» أي بعلمه سبحانه يعلم أولياءه المستحقين لاصطفائه، كما يقول سبحانه: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» (124: الأنعام) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1236 وبحكمته، تنفذ مشيئته، فيما قضى به علمه.. فيدبّر الأسباب، الموصلة للمقدور الذي قدّره «إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ.. إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» (100: يوسف) الآيات: (7- 14) [سورة يوسف (12) : الآيات 7 الى 14] لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14) التفسير: قوله تعالى: «لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ» السائلون: هم الذين سألوا النبي صلوات الله وسلامه عليه، عما وقع بين يوسف وإخوته من أحداث، وهؤلاء السائلون إما أن يكونوا اليهود، أو أهل مكة، بإيعاز من اليهود.. ويجوز أن يكون السائلون هم الذين يطلبون العلم بأخبار الماضين ويبحثون عنها.. فهم يسألون أبدا من يجدون عنده علما بها.. والمعنى: لقد كان فيما وقع من احداث بين يوسف وإخوته آيات لمن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1237 سألوا عن أخبارهم.. إما سؤال امتحان للنبىّ، وتحدّ له.. وإما سؤل تعلّم واستزادة من معرفة، وها هوذا القرآن قد جاء بالحق لمن يطلب العلم ويرتاد المعرفة.. أما من أراد الامتحان والتحدي فلن تزيده هذه الآيات إلا ضلالا، وإلّا عمى إلى عمى.. والسؤال هنا: كيف يجىء القرآن الكريم بهذا الحكم: «لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ» ، ولم يكن قد ذكر شيئا عن يوسف وإخوته؟ أليس من المنطق أن يكون هذا الحكم فى أعقاب القصّة؟ ونعم إنه المنطق.. ولكنه منطق البشر، الذين لا يحكمون على أفعالهم إلا بعد أن ينكشف لهم وجهها، وتأخذ مكانها فى واقع الحياة بينهم.. أما الله سبحانه وتعالى، فعلمه محيط بكل شىء، فما لم يقع منه فى نظرنا، هو واقع فى علم الله، وما سيقع بعد آلاف السنين وملايينها هو واقع فى هذا العلم الشامل الكامل.. فقصّة يوسف قبل أن يعرضها القرآن الكريم، هى واقعة فى علم الله الأزلىّ على الصورة التي ذكرها القرآن، فكان حكمه عليها حكما على أمر واقع!. وهذه شهادة من شهادات كثيرة، تشهد بأن منزّلّ القرآن هو عالم الغيب والشهادة، وأنه ما كان لبشر أن يجد الشعور الذي يملى عليه هذا الحكم، الذي يسبق الحدث قبل أن يحدّث به، ويستوفى عرضه، ويضبط آثاره فى الناس!. قوله تعالى: «إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» . «إذ» ظرف، يتعلق بالفعل «كان» فى قوله تعالى: «لَقَدْ كانَ فِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1238 يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ» أي أن هذا الظرف من حياتهم يحوى آيات وعظات.. وهو ظرف يبدأ من قولهم لأبيهم: «يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ» ثم يستمر إلى أن تنتهى القصّة.. وتبدأ القصة، بهذا الحديث الذي يديرونه بينهم، ويأخذون فيه على أبيهم أنه يؤثر عليهم «يوسف» ويختصّه بالمزيد من عطفه وحبّه، هو وأخوه الشقيق له.. فقد كان يوسف وأخ له من أمّ، وكان الإخوة العشرة الآخرون من أمّ.! فكيف يستأثر هذان الأخوان بحبّ أبيهم دونهم، وهم عصبة، أي جماعة كبيرة، لها شأنها واعتبارها؟ وكيف يفضّل الأب الاثنين على العشرة؟ إن ذلك أمر غير مستساغ، وتقدير غير سليم! وبخاصة فى بيئة بدويّة تعتز بكثرة العدد، وتأخذ مكانها فى مجتمعنا، بما لها من رجال أكثر مما لها من أموال.. هكذا بدا لهم الأمر خارجا على غير مألوف الحياة عندهم، فكان منهم هذا الموقف، الذي انتهى بهم إلى أن يقولوا فى أبيهم: «إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» أي إنّه قد انحرف برأيه فى أبنائه وفى موقفه منهم، عن سواء السبيل، فضلّ ضلالا مبينا.. «اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ» . وقد امتدّ بهم هذا الحديث الذي أداروه بينهم، عن يوسف وأخيه، وإيثار أبيهما لهما بحبّه ورعايته، حتى انتهى بهم ذلك إلى القول بقتل يوسف، أو إلقائه فى أرض بعيدة عنهم، والتطويح به فى مجهل من مجاهلها، حتى يغيب عن وجه أبيه، فلا يراه أبدا، وبهذا يخلو لهم وجه أبيهم، أي يخلص لهم وجهه، فلا يلتفت إلى غيرهم، وهذا كناية عن تعلّق أبيهم بهم، حيث لا يصرفه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1239 صارف عنهم، وقد كان من قبل متجها بكيانه كلّه إلى يوسف وأخيه.. - وفى قولهم: «وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ» إشارة إلى استقرار أمرهم مع أبيهم، وسكون العواصف التي يثيرها بينهم وبينه هذا الإيثار الذي يختصّ به ولديه الصغيرين هذين. وبهذا ينصلح شأن تلك الأسرة التي تكاد تقوّض أركانها بهذا الوضع القائم فيها.. هكذا فكّروا وقدّروا!! «قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ» . وهذا رأى رآه أحدهم فى هذا الأمر الذي دبّروه، وهو ألّا يقتلوا «يوسف» بل يكتفوا بإبعاده عن أبيهم. وأن يلقوه أرضا، ويطوّحوا به بعيدا عنه.. وذلك بأن يلقوه فى غيابة الجبّ، فيلتقطه بعض المسافرين، الذين يمرّون بهذا الجبّ ليستقوا من مائه، ثم يحملونه معهم إلى البلد الذي هم ذاهبون إليه.. والجبّ: البئر الواسعة الفوّهة القليلة الغور.. والسيارة: الجماعة المسافرون، وسمّوا سيّارة لأن دأبهم السير، والانتقال من مكان إلى مكان. قوله تعالى: «قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ» استفهام إنكارى، يدل على أنه قد كانت بينهم وبين أبيهم مواقف من قبل هذا الموقف، طلبوا إليه فيها أن يصحبوا معهم يوسف إلى حيث يسرحون بأغنامهم، فأبى عليهم ذلك، متعلّلا بالخوف عليه من أن يصيبه مكروه.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1240 وفى قولهم: «وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ» تأكيد لإنكارهم على أبيهم هذا الموقف.. فهو لا يأمنهم عليه، حتى لكأنه يتهمهم بتدبير الشرّ له، والعدوان عليه، إذا هم انفردوا به.. وهم ينكرون عليه هذا، ويدفعون عن أنفسهم تلك التهمة بالإنكار على أبيهم أن يكونوا متهمين عنده فى مشاعرهم نحو أخيهم.. وكيف، وهم له ناصحون؟ أي مرشدون، يرعونه، وينصحون له، إذ كان صغيرا، يحتاج إلى من يرشد وينصح؟ «أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» . وهكذا يجىء طلبهم الذي أرادوه من أبيهم، بعد هذا الإنكار الذي واجهوه به، وبعد هذا العتاب الذي عتبوه عليه- يجىء طلبهم هذا مباشرة، دون أن يدعوا لأبيهم فرصة للرد عليهم وتوضيح الأمر لهم، بتقدير أن الأمر واضح، وأن ليس لأبيهم عذر يعتذر به إليهم، وأنه ليس بمقبول عندهم أي عذر منه فى اتهامهم بأخيهم، وعدم النصح له منهم، وإنه لا يردّ إليهم اعتبارهم، ولا يدفع هذه التهمة عنهم إلا بأن يرسله معهم: «أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً» أي فى غير تردد أو انتظار.. فذلك هو الذي يقطع الشك عندهم فى اتهام أبيهم لهم!! وإلا فهو الاتهام، والشك المريب!! وهذا ما لا يرضونه من أبيهم، ولا يقبلونه لأنفسهم!! - وفى قولهم: «يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» إغراء لأبيهم على هذا الأمر الذي أرادوه عليه، وجذب له إلى تلك المصيدة التي نصبوها له! فهو بإجابتهم إلى هذا الطلب يحقق أمرين: أولا: ردّ اعتبارهم عنده، بدفع الشكوك التي ساورتهم من جهة اتهامه إياهم فى نصحهم لأخيهم، وسلامة قلوبهم له.. وثانيا: إتاحة الفرصة ليوسف، ليأخذ حظه مما يأخذه الصبيان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1241 أمثاله، من الانطلاق إلى الخلاء، لاهيا، لاعبا.. فى رعاية من يحفظه، ويدفع عنه كل مكروه. يقال: رتعت الماشية، أي رعت فى مرعى خصيب، والمرتع: المرعى الخصيب.. وقرىء: «يرتعى» من الرّعى.. أي يرعى معنا، ويلعب. «قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ» . لقد سلّم لهم أبوهم بما طلبوه، ولكنه أظهر لهم بعض مخاوفه، إذا هو أجابهم إلى ما طلبوا.. فهو يحزن لبعد يوسف عنه، ولو ليوم أو بعض يوم.. إذ كان سلوته، وأنسه.. ثم هو يخشى أن يصيبه مكروه إذا هم غفلوا عنه، فيعدو عليه ذئب من تلك الذئاب المتربّصة لصيد تناله من إنسان أو حيوان فى هذه الفلاة التي يرعون فيها!. وقد أخذ أبناء يعقوب من ردّ أبيهم حجّتهم عليه، فيما فعلوا بيوسف: فأولا: فى قوله: «إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ» .. كشف لهم أبوهم عن حبّه ليوسف وتعلّقه به، فزاد ذلك من موجدتهم عليه، ومن حسدهم ليوسف، وشدّ عزمهم على ما بيّتوه له من شر! وثانيا: فى قوله: «وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ» قد وضع بين أيديهم السلاح الذي يستعملونه فى تنفيذ أمرهم الذي دبّروه، وليكون لهم منه ما يصدّق ظنون أبيهم ومخاوفه فيما ظنّه وتخوّفه.. فكانت قصّة الذئب التي جاءوا أباهم بها، هى من وحي هذه الظنون وتلك المخاوف التي أعلنها أبوهم لهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1242 «قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ» . إنهم التقطوا من أبيهم كلمة «الذئب» وجعلوها العدوّ المتربص بهم، وأنهم سيأخذون حذرهم منه، وهم عشرة رجال، وإنه لن يستطيع أن ينال شيئا منهم.. وإنهم فى تلك اللحظة ليتمثل لهم الذئب الذي سيقودونه إلى أبيهم متهما بأكل يوسف: «لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ» .. هكذا يقولونها «أَكَلَهُ الذِّئْبُ» ولا يقولون: اقترب منه، أو جرحه! بل يجعلون «يوسف» طعاما مأكولا للذئب قبل أن ينتزعوه من بين يدى أبيهم!! ومن جهة أخرى فإنهم لم يردّوا على قول أبيهم: «إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ» .. فذلك مما لا يحبّون سماعه من أبيهم، ولا يريدون أن يجعلوه حديثا معادا، يتأكد به ما ليوسف فى قلب أبيه من حب خاص، فوق حب الوالد لولده! الآيات: (15- 23) [سورة يوسف (12) : الآيات 15 الى 22] فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18) وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1243 التفسير: قوله تعالى: «فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ» . جواب لمّا محذوف دلّ عليه المعطوف عليه بعده، وهو قوله تعالى: «وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» . والمعنى: أنهم حين انطلقوا بيوسف بعد أن أخذوه من أبيهم، وأجمعوا رأيهم على أن يضعوه فى الجبّ، وأن يتركوه لمصيره، كانت عناية الله معه، فحفظه الله من الشرّ الذي دفعوا به إليه.. ثم صحبته عناية الله وحفّت به ألطافه.. وأوحى الله سبحانه وتعالى إليه أنه سيلتقى بإخوته يوما، وأنه سيخبرهم بهذا الذي كان منهم دون أن يعرفوه.. وهذا ما تحقق حين ملك يوسف أمر مصر، وجاءه إخوته يمتارون من خيرات مصر، حين حلّ الجدب بأرضهم، كما سيجيئ ذلك فى ختام هذه القصة. «وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ» . وهكذا الباطل يفضح نفسه، ويخزى أهله..! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1244 - «وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ» وتلك أول أمارة من أمارات الكذب الذي جاءوا به.. إنهم جاءوا ملففين فى ظلام اللّيل، خوفا من أن يفضحهم ضوء النهار، ويمزّق هذا القناع الزائف المموه بتلك الدموع الكاذبة، التي بلّلوا بها خدودهم. إن العين إذا التقت بالعين كشفت عن كثير من خفايا النفس، وقرأت ما لا يصرّح به اللسان، ولا تبوح به الكلمات.. ولهذا يجرؤ الإنسان على أن يقول فى الظلام، ما لم يكن يقوله فى النور، حين تلتقى العين بالعين!! إنه يخبط خبط عشواء، ويرمى بالكلام فى غير مبالاة! إن العين هى حاسّة الحياء، وموطن الاستحياء.. ولا ينكشف ذلك لها إلا وهى مبصرة.. ولهذا، فإن أصحاب الحياء يضعون أيديهم على أعينهم، حين يرون ما يستحيا منه، أو ينطقون بكلمة تخدش الحياء.. ثم كان البكاء فضيحة أخرى لهم.. إنّه تباك وليس بكاء.. إنه أصوات ليس فيها حرقة الكبد، وزفرة الصدر الكليم! والاذن قادرة على أن تميز التباكي من البكاء، وتفرق بينهما! وفد عرف يعقوب هذه القصّة الملفقة من أول لقاء ببنيه، ولأول كلمة سمعها منهم! - وفى قولهم: «وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ» فضيحة ثالثة، تفضح هذا الباطل، وتكشف عن هذا الزور.. إنهم يتهمون أباهم- مقدّما- بأنه لن يقبل شهادتهم تلك، لأنهم هم- فى الواقع- لا يقبلونها فيما بينهم وبين أنفسهم.. ولو أنهم كانوا صادقين حقّا لما وقع فى تصوّرهم هذا، ولما توقعوه قبل أن يقع.. إنهم اتهموا أنفسهم بقولهم: «وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ» .. اتهموها قبل أن يتهمهم أبوهم.. وهكذا شأن كل متّهم.. إنه يتهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1245 نفسه قبل أن يتهمه أحد.. فهو يطوف دائما حول جريمته إن لم يكن بجسده، فبمشاعره، وهمس خواطره. «وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ» . والدم الذي جاءوا به، هو دليل رابع على أن القصة ملفّقة.. فماذا يحملهم على حمل هذا الدم إلى أبيهم.؟ أليسوا هم أولياء هذا الدم وأهله؟ وهل يجد ولىّ الدم قدرة من نفسه على حمل إصبع، أو عين، أو رأس، من ابنه أو أخيه المقتول، ثم يطوف بها، ويقلبها بين يديه، ويعرضها على الأنظار؟ ذلك مالا يكون، لو أن الذئب كان حقّا هو الذي عدّا على يوسف وأكله! وإذا كان لا بد من مجىء شاهد من هذا القتيل، فإن الدم لا يقوم شاهدا أبدا، إذ ما أيسر أن يحصل الإنسان على الدم الذي يريد.. من إنسان، أو حيوان بل ومن نفسه أيضا.. فليكن الشاهد إذن، رأسه، أو رجله، أو يده.. إذ من غير المعقول أن يأتى الذئب على كل أجزاء ضحيته.. وخاصة إذا كان غلاما فى سن يوسف، الذي قيل إنه كان فى العاشرة أو أكثر من عمره! ويقرر علم الإجرام، أن المجرم، مهما كان ذكيا حذرا، لا بد من أن يترك أثرا يدل عليه، وأن يقع فى تدبيره خلل ما، يكون مفتاحا للكشف عنه! قيل إن القميص الذي جاءوا به ملطخا بالدم، كان سليما لم يمسّه الذئب المزعوم، بظفر أو ناب!! قالوا: ولهذا عجب يعقوب من هذا، وقال متهكما: «تا الله ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا.. أكل ابني ولم يمزّق قميصه!!؟ - وفى قوله تعالى: «بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً» اتهام صريح من يعقوب لبنيه، وأن ذلك الأمر الذي فعلوه إنما هو مما سوّلته لهم أنفسهم، أي زينته لهم، وأغرتهم به.. ولكنه لا يملك شيئا يفعله إزاء هذه المحنة، إلا الصبر: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1246 «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ» .. فذلك هو عزاؤه عن مصابه فى ابنه، وفى بنيه أيضا! «وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ» .. أي إنه سبحانه وتعالى هو الذي يمدّه بالعون على احتمال ما حملت إليه هذه القصة الملفقة من أنباء تصف هذه الفاجعة، وتصور تلك المأساة. «وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ» . وتطوى الأحداث على عجل، وينتقل المشهد فى سرعة خاطفة، إلى حيث يوسف فى الجبّ، يعانى ما يعانى من وحشة، وخوف، وجوع..! وهنا تلوح «سيّارة» أي جماعة من المسافرين، يمرّون بالجبّ ويحطّون رحالهم على مقربة منه، ليستقوا، ولتستقى دوابّهم، ثم ليتزودوا بما يقدرون على حمله من الماء.. - «وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ» .. هكذا جاءت السيارة كما قدّر أبناء يعقوب.. لأن الجبّ على طريق يصل بين الشام ومصر، ويكثر عليه مرور القوافل المسافرة.. وفى مجيئها تباطؤ وثقل.. إنها على طريق طويل، قد كلّت، وأعياها السير! نجد ذلك فى الفعل «وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ» .. ففى واو العطف، والتقائه بحرف الجيم الممدودة هذا اللقاء المتثاقل المتمطّى، وفى مدّة الجيم، كما يقتضيها الترتيل القرآنى- فى ذلك كلّه، ما يوحى بأن القافلة فى غفلة تامة عن هذا الإنسان الذي فى الجبّ، يعالج سكرات الموت، وهى التي يسوقها القدر إليه، لتنقذه، ولتمسك عليه حياته.. وهنا يبلغ المشهد حدّا بالغا من التأزّم، تبهر معه الأنفاس، وتضطرب القلوب، وتذهب النفوس عن الحاضر الذي تعيش فيه، لتقف وراء هذه القافلة تستحثّها، وتصرخ فيها، لتدرك هذا الذي احتواه الجبّ، واشتمل عليه الهلاك!! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1247 وحطّت- القافلة- رحالها- بعد لأى- على مقربة من الجب، وجعلت تعالج فى تثاقل أمتعتها، وتسوى رحالها، وتهيىء لها منزلا آمنا تجد فيه الراحة فى ظله.. - «فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ» ليرد الماء، وليستقى لهم منه.. والوارد، هو الذي يرد الماء. - «قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ» .. لقد جاء الدلو الذي أدلاه فى الجبّ بما لم يكن يتوقع أبدا.. جاءه بالغلام الذي كان ملقى فيه.. وفى كلمات قليلة موحية معجزة، تطوى الأحداث طيا، فلا تعرض منها إلا تلك الشواهد التي تقوم منها معالم مضيئة، تتحرك بها أحداث القصة إلى نهايتها.. - «وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً» أي أخفوه فى أمتعتهم، وجعلوه بضاعة من بضاعتهم، يبيعونه فيما يبيعون من بضائع.. هكذا كان حكم من يقع من الآدميين حينئذ، فى يد من يظفرون به فى حرب أو سلم!. - وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ» .. إشارة إلى أن هذا الذي يعملونه هو ما يقع فى علمه سبحانه وتعالى، وأنه- جل شأنه- غير غافل عما يحدث ليوسف، وفى هذا تطمين لتلك النفوس المشفقة على هذا الغلام، والتي لم تشهد عن بعد ما يكون من صنع الله به.. «وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ» .. شروه: أي باعوه، يقال: شرى الشيء أي باعه، واشتراه: أي أخذه بالثمن الذي ابتاعه به. والثمن البخس: أي الذي فيه غبن على البائع، حيث باع الذي حقّه أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1248 يبذل فيه المال الكثير، بمال قليل.. «دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ» ! ولو عرفوا قدر هذا الجوهر الكريم الذي فى أيديهم لضنّوا به، ولبالغوا فى الثمن الذي يطلبونه فيه، إن كان لا بد لهم من بيعه.. ولكنهم كانوا تجار أمتعة، لا تجار نفوس! ونقدة أموال، لا نقدة رجال!! - وفى قوله تعالى: «وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ» تشنيع على جهلهم بأقدار الرجال، وعمى بصيرتهم عن الكشف عن معادن النفوس! .. «وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» .. وها هو ذا يوسف ينتقل من يد إلى يد حتى يقع أخيرا ليد رجل من مصر.. وإذن فيوسف الآن فى مصر.. فهل يستقرّ به المقام فيها، أم تتناقله الأيدى من بلد إلى بلد، ومن مصر إلى مصر؟ تحدّثنا الآية الكريمة من أول الأمر أنه سوف يستقر به المقام فى مصر وأنه سيكون ابنا من أبنائها.. فالرجل الذي اشتراه من مصر، قد ضمّه إليه، واتخذه ابنا له، إذ لم يكن له ولد، ودعا امرأته إلى أن تكرمه، وتتولى تربيته، وتنشئته، على أنه ابنها.. وهكذا يجد يوسف فى مصر أهلا بدل أهله، وأبا وأمّا مكان أبيه وأمه. وهكذا صنع الله ليوسف.. وليس هذا فحسب، فإنه سيصنع له أكثر وأكثر.. فسيمكن الله له فى الأرض، ويعلمه من تأويل الأحاديث، كما قال له أبوه من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1249 قبل: «وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ» .. - وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ» أي أن ما يقدّره الله سبحانه وتعالى ويقضى به، فإنه لا بد أن ينفذ، إذ هو سبحانه الغالب، لا يغلبه أحد ولا ينازعه مخلوق.. «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» هذه الحقيقة، ولا يقدرون الله حق قدره.. وفى إضافة الأمر إلى الله سبحانه وتعالى، إشارة إلى أن الأمر كله لله سبحانه، وليس له شريك ينازعه الأمر فى أي شىء.. فهو سبحانه، الغالب على كلّ أمر، لا ينازعه منازع، ولا يعترض مشيئته معترض، إذ أنه ليس لأحد معه أمر.. كما يقول سبحانه: «وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ» .. (123: هود) . والآية الكريمة لم تكشف بعد عن وجه هذا الإنسان الذي ضمّ يوسف إليه، وجعله ابنا له.. إنه من مصر! .. أمّا من هو فى مصر، وما مكانته فى قومه، فستكشف عنه أحداث القصة فيما بعد.. وفى هذا تشويق للنفوس، وإثارة لحب الاستطلاع فيها، حتى تظل شاخصة إلى هذا الرّجل، باحثة عنه، إلى أن يلقاها هذا اللقاء المثير الذي يطلع عليها به فى دست الحكم، وعلى كرسى الوزارة.. إنه عزيز مصر.. «وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» .. الحكم: الحكمة. وهى لمن آتاها الله، سلطان مبين، يملك به ما لا يملك أصحاب الملك والسلطان.. وقد استطاع يوسف- عليه السلام- أن يبلغ بتلك الحكمة هذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1250 السلطان الذي كان له فى مصر.. فكان- وهو فى السجن- بحكمته، سيدا، تسمع كلمته، ويحتكم إليه فى المعضلات.. وبحكمته نفذ إلى خارج السجن، وأملى شروطه على فرعون مصر!! ثم بحكمته، وضع يده على مقاليد الأمور، فى مصر وتصريف مقاديرها.. والحكمة التي آتاها الله يوسف- عليه السلام- حكمة مستندة إلى علم، وليست حكمة مودعة فى صدره ينفق منها، بلا حساب أو تقدير.. وإنما هى حكمة قائمة على دراسة، ونظر، أقرب إلى الاكتساب منها إلى الفطرة. وبهذا يجد لها صدى فى نفسه، وأثرا فى عقله وقلبه.. - وفى قوله تعالى: «وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» إشارة إلى أنه- عليه السلام- كان من العاملين الذين أحسنوا العمل، فكان جزاؤه أن أوتى الحكمة، وحصّل العلم.. [يوسف.. والفتنة المتحدّية] الآيات: (23- 29) [سورة يوسف (12) : الآيات 23 الى 29] وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1251 التفسير: قوله تعالى: «وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ» .. الواو للعطف، وهو عطف حدث على حدث.. والمراودة: المخادعة، والمخاتلة، والتدسس إلى النفس فى أسلوب من التلطف والاحتيال.. وهيت لك: هو صوت استدعاء لهذا الأمر الذي يكون بين الرجل والمرأة، وقد جاء به القرآن الكريم، على هذه الصورة التي لم تعرفها اللغة العربية فى لسانها قبل نزول القرآن.. لأنه يحدث عن حال من شأنه أن يكون سرا بين الرجل والمرأة، ولغة مفهومة لهما، لا يعرفها غيرهما.. وذلك إعجاز من إعجاز القرآن.. ودع عنك ما ذهب إليه الذاهبون من تأويلات وتخريجات لكلمة «هيت» وخذها على أنها حكاية صوت، لا على أنها من لغة التخاطب المتعامل بها فى كل مقام!! .. إنها فى مقامها هذا كلمة استدعاء.. وكفى! - وفى قوله تعالى: «الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها» إشارة إلى أنها ذات سلطان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1252 عليه، وأنه ربيب نعمتها، ونزيل بيتها.. وأن لها أن تأمر وعليه أن يطيع.. ولكنها جاءته مترفقة، متلطفة.. إذ كان هذا الأمر الذي تدعوه إليه لا يجاء له بأسلوب الأمر والقهر! - وفى قوله تعالى: «وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ» إشارة إلى أنها هى التي تولت بنفسها الإعداد لهذا الأمر الذي دعته إليه.. فهى التي راودته عن نفسه بما ألقت إليه من كلمات، وإشارات، وتلميحات.. وهى التي غلقت الأبواب، فكانت تلك دعوة صريحة منها إليه.. ثم هى التي- حين رأت أن ذلك كله لم يدعه إليها، ولم يقرّ به منها- دعته إلى نفسها، وقالت: «هَيْتَ لَكَ» أي هأنذا لك، فأقبل! وهذا ما لا تفعله الحرّة ذات الجاه والسلطان، إلا إذا كانت قد استبدّت بها الرغبة، ثم لم تجد من الجانب الآخر استجابة منه لها.. عندئذ تخلع عذار حيائها، وتتخلّى عن مكانتها كامرأة تطلب ولا تطلب! .. وفى كل هذا ما يحدّث عن تعفّف يوسف عليه السلام، وامتلأ كه لداعى الشهوة أمام هذه المغريات، التي تنحلّ لها عزمات الرجال، وتطيش معها أحلام ذوى الحلوم! «قالَ مَعاذَ اللَّهِ.. إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ.. إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» ومع كل هذا الذي ساقته المرأة إلى يوسف- عليه السلام- من جمالها، وسلطانها، ومن تلطّفها به، واستدعائها له، وعرض نفسها عليه، ومع هذا الشباب المتفجّر فيه، والدماء الحارة المتدفقة فى عروقه- فإنه اعتصم بدينه، واستمسك بمروءته، فلم يقبل هذه الدعوة الآثمة، قائلا: «مَعاذَ اللَّهِ» أي عياذا بالله، ولجأ إليه لدفع هذا المكروه عنّى.. - «إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ» - أي إن هذا الفعل فوق أنه عصيان لله، وتعدّ لحدوده، هو خيانة للمروءة، وإنكار لإحسان هذا السيد الذي رباه، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1253 وأحسن مثواه.. والمثوى: المأوى الذي يأوى إليه الإنسان.. - «إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» .. الضمير فى «إنه» ضمير الشأن.. أي إنه فى أىّ حال وشأن لا يفلح الظالمون، الذين يعتدون على حقوق الناس، فيخونون الأمانة فيما اؤتمنوا عليه، أو يجحدون نعمة من كان له نعمة وفضل عليهم..! «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ.. كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ» . اختلف المفسرون فى معنى الهمّ الذي همّ به يوسف.. أهو همّ عزيمة، أم همّ رغبة؟ وهل هو همّ فعل، أم همّ ترك؟ وصريح اللفظ أنه- عليه السلام- همّ بها، كما همّت به.. «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها» هكذا صريح للفظ القرآنى.. فلا وجه إذا للتفرقة بين أمرين متساويين، لفظا ومعنى.. كذلك اختلف المفسّرون فى قوله تعالى: «لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ» - اختلفوا فى البرهان.. أهو ملك جاءه من الله؟ أم شىء وجده فى نفسه؟ أم صورة أبيه يعقوب، وقد ظهر عاضّا على إصبعه، محذرا من هذا الخطر الذي هو مقبل عليه.. إلى غير ذلك من عشرات الصور التي صوّر فيها المفسّرون هذا البرهان.! وهم فى هذا كلّه إنما يريدون أن يدفعوا عن مقام هذا النبي الكريم أن يطوف به طائف من السوء، أو تنحلّ عزيمته أمام أية فتنة، أو تستجيب طبيعته لأى إغراء.. فمقام النبوة هو القمة التي لا ترقى إليها الشبه، ولا يرتفع إلى سمائها هذا الدخان المتصاعد من شهوات النفوس وأهوائها، حين تشبّ فيها نيران الشهوة، ويتّقد لهيب الفتنة؟ ولكن فات هؤلاء الذين ينظرون إلى النبي هذه النظرة- ونحن ننظر إليه كما ينظرون- فاتهم أن النبي بشر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1254 قبل أن يكون نبيّا.. وأنه حين يلبس ثوب النبوة لا يخلع ثوب البشرية أبدا.. وغاية ما هنالك أنها بشرية فى أعلى مستواها وأشرف منازلها.. وعلى هذا، فإن الذي نطمئن إليه، هو أن هذا البرهان كان شيئا حسيا، أو بمعنى آخر، كان حدثا وقع فى تلك اللحظة الحاسمة، فحال دون وقوع هذا الأمر، وكان صارفا عنه.. والذي لولاه لوقع! وهذا البرهان هو- والله أعلم- إشارة كانت تعلن عن قدوم العزيز إلى أهله.. إذ من المعقول جدا أن يكون للعزيز شارة من الشارات، ينبّه بها زوجه إلى أنه قادم إليها.. وذلك كرسول يتقدمه، أو نفير يعلن عنه.. أو نحو هذا.. شأن أصحاب السلطان، حين يغدون، أو يروحون، بين مجلس الحكم، ومجلسه الخاص فى أهله وولده. وعلى هذا يكون المراد بربه هنا، هو سيده الذي ربّاه، وهو «العزيز» الذي يقول عنه: «إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ» .. ويكون بذلك، الضمير فى «ربه» عائدا إلى ربه هذا.. وقد جاء على لسان يوسف أكثر من مرّة، الحديث عن السيد بلفظ الرب.. «اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ» .. «ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ» .. وهذا الحدث الذي كان سببا مباشرا فى الحيلولة دون وقوع المعصية، هو بالنسبة ليوسف عليه السلام برهان من ربّه، وآية من آيات فضله عليه، وحراسته له..! فالأسباب الموصّلة إلى الأعمال الطيبة، أو الحائلة دون السيئة، هى دليل على عناية الله وتوفيقه.. كما أن الأسباب المؤدية إلى الشرّ، أو الصارفة عن الخير، دليل على خذلان الله للعبد، وتخليته وأهواء نفسه ونزغات شيطانه! فللذين التقوا بالأنبياء والرسل، وكانوا من حوارييهم وخلصائهم، إنما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1255 انتصبت لهم الأسباب المسعدة التي وصلتهم بهم، ومكنت لهم من أن يقبسوا من الهدى الذي بين أيديهم! وكذلك الذين التقوا بالرسل والأنبياء، وكانوا حربا عليهم، وظلاما يحجب ضوء الهدى عن الناس- إنما اجتمعت لهم الأسباب التي وقفت بهم هذا الموقف، وساقتهم إلى هذا البلاء! فالأسباب، ألطاف من ألطاف الله، وآيات من آيات رحمته، يدنيها- سبحانه- من أوليائه، وييسرهم لها.. أو هى مزالق وعثرات يهوى إليها أعداء الله، ويتساقطون فيها.. «فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى» (5- 10: الليل) ومجىء العزيز، أو ظهور الشّارة الدالة على مجيئه فى تلك اللحظة الحاسمة، هى آية من آيات الله، ورحمة من رحمته، ولطف من ألطافه، وحراسة قائمة على هذا النبي الكريم أن تزلّ قدمه.. وهكذا تحفّ ألطاف الله بعباده المخلصين، وتتداركهم رحمته، فى أمثال هذه الساعات الحرجة.. يقول الله تعالى فى يونس عليه السلام: «فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» (143- 144: الصافات) .. فهذا التسبيح الذي ألهمه الله إيّاه، هو اللطف الذي أمدّه الله به، وهو حبل النجاة الذي أرسله إليه وهو فى بطن الحوت.. ويقول سبحانه فى يونس أيضا: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» (48- 50: القلم) وفى هذا يقول تبارك وتعالى لمحمد صلوات الله وسلامه عليه: «وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1256 الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً» (74- 75: الإسراء) ويقول سبحانه عن رسله جميعا: «حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا» (110: يوسف) فالرسل، والأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- مبتلون بما يبتلى به الناس من فتن، تلحّ عليهم بأهوالها، فيتلقونها بعزماتهم، ويصدّونها بإيمانهم، ويستعصمون منها بكل ما فى طاقاتهم من قوّى، حتى إذا استنفدوا كل ما فى كيانهم من صبر وبلاء، وكادوا يهزمون فى هذا الصراع المحتدم، جاءهم نصر الله، وتوافدت عليهم أمداده وألطافه، فربطت على قلوبهم، وثبتت من أقدامهم، وإذا هم فى مقامهم الرفيع الكريم، وإذا الفتن صرعى بين أيديهم، ملففة فى تراب الخزي والاندحار! وأي فضل لأنبياء الله ورسله على غيرهم من الناس، إذا هم لم يبتلوا هذا البلاء، وإذا هم لم يجاهدوا هذا الجهاد فى مواجهة الفتن ومغالبة الأهواء والشهوات؟ وأي فضل لهم إذا كانت الفتن لا تحوم حولهم، وكانت الأهواء والشهوات تتساقط من نفوسهم من غير جهد وعناء؟ وأي فضل لهم يحمدون عليه، ويستأهلون به هذا المقام العظيم الذي هم فيه، إذا لم تتحرك فيهم دواعى الشهوات، ولم تنازعهم الأهواء؟ إن الثواب- كما يقولون- على قدر المشقة.. وهذا يعنى: أن نصيب أنبياء الله، ورسله، وأوليائه من المعاناة والمشقة أكبر نصيب، وأنه يقدر ما واجهوا من بلاء وفتنة بقدر ما كان لهم من منزلة عند ربهم.. وفى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المثل الأعلى فيما امتحن به، وفيما تعرض له، من فتن وابتلاء، فى مشاعره، وعواطفه، ونوازعه.. فلقد شهد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1257 أهله يتمزّقون بين يديه شيعا، ورأى أتباعه وأحبابه يعذّبون بسياط الظلم بين يديه، ويموتون تحت وطأة هذا العذاب، كما رآهم وهم يخرجون مهاجرين، فارّين من وجه هذا البلاء، مخلّفين وراءهم أهلهم وديارهم وأموالهم.. ثم رآهم فى ميدان القتال يخرون صرعى، يفدّونه بأنفسهم، وبودّه لو فدّاهم بنفسه.. وهكذا كانت حياة النبىّ ساعة بساعة، بل ولحظة لحظة، مسيرة شاقّة على درب طويل من الآلام والمحن.. وبهذا استحقّ تلك المنزلة التي استوى بها على هامة الإنسانية كلها، فكان سيد خلق الله، وخاتم رسل الله، وإمام أنبياء الله!! وعلى هذا، فإنّ لنا أن نفهم قوله تعالى: «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ» على أن امرأة العزيز قد همّت به، وأنه- عليه السلام- همّ بها وكاد الأمر يقع، لولا أن تداركه رحمة من ربّه، فأقام هذا السبب المادىّ حائلا دون وقوع الفاحشة.. وفى هذا تتجلّى رحمة الله بأوليائه، ورعايته لهم! ومن جهة أخرى، فإن رسل الله- صلوات الله وسلامه عليهم- ليسوا من عالم الملائكة، وإنما هم بشر، تتحرك فى كيانهم نوازع الإنسان وشهواته، وأنّهم يغالبون هذه النوازع، ويمسكون زمام تلك الشهوات، ولكن إلى مدى، هو غاية ما يبلغه احتمال البشر.. حتى إذا كان النبىّ من أنبياء الله أو الرسول من رسله فى مواجهة تجربة كهذه التجربة، التي استنفد فيها- كإنسان وكنبىّ معا- كلّ مالديه من صبر واحتمال، بشرىّ- جاءت أمداد الله، لتمد النبىّ فى هذه المعركة التي لا بد أن يكسبها، ويكتب له النصر فيها، وذلك لحساب النبوّة والرسالة، ولحساب النبىّ كنبىّ والرسول كرسول.. تماما كما جاءت أمداد السّماء لتشارك فى معركة بدر، ولتقوم إلى جانب الجهد الإنسانىّ، فى كسب أول معركة للإسلام، تلك المعركة التي كان لا بد له أن يكسبها!! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1258 وقد أحسن الإمام البيضاوي، حين قال عن همّ امرأة العزيز بيوسف وهمّه هو بها: «قصدت مخالطته، وقصد مخالطتها.. والهمّ بالشيء: قصده والعزم عليه.. والمراد بهمّه عليه السلام، ميل الطبع، ومنازعة الشهوة، لا القصد الاختياري، وذلك مما لا يدخل تحت التكليف، بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من الله، من يكفّ نفسه عند قيام هذا الهمّ ومشارفة الهمّ» . - وفى قوله تعالى: «كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ» أي بمثل هذا البرهان نجىء به إليه، لنصرف عنه «السّوء» أي الأذى، الذي تتعرض له فطرته السليمة «والفحشاء» أي المنكر الممثل فى الزّنا. «إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ» هو تعليل لما أراد الله بهذا النبىّ الكريم من خير، فصرف عنه السوء والفحشاء، لأنه من عباد الله الذي اصطفاهم الله، وجعلهم خالصة له. «وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ» . حين رأى يوسف برهان ربّه، وهو الشارة الدلّة على مقدم العزيز إليهما- رأته معه كذلك امرأة العزيز، فأسرعا إلى الباب المغلق دونهما، وأسرع كل منهما طالبا الخروج من المخدع، وقد كان يوسف أسرع منها، فتناولته من خلف بيدها لتسبقه، ولتنجو بنفسها، فعلقت يدها بقميصه فقدّته من دبر، أي قطعته طولا، من الخلف.. وما كاد يفتح الباب حتى كان «العزيز» معهما وجها لوجه.. وكان جوابها حاضرا، إذ كانت تعيش فى هذه المحنة أياما وليالى، وتفكر فيها وتقلّبها على جميع وجوهها واحتمالاتها.. ومن هذه الاحتمالات أن يعلم زوجها بالأمر، أو يضبطها متلبسة به.. فلما وقعت الواقعة، وجدت الجواب الذي أعدته. «قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1259 وهكذا تتّهم، وتحكم فى التهمة، فلا تدع لزوجها فرصة للتفكير فيما ينبغى أن يواجه به هذه الموقف.. فها هوذا الحلّ حاضر بين يديه، لا يحتاج منه إلى تفكير! - وفى قولها: «مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً» إشارة إلى أن الأمر لم يجاوز حدّ الرغبة والإرادة. - وفى قولها «بِأَهْلِكَ» بدلا من قولها «بي» لتضيف نفسها إلى العزيز، فتثير عاطفته نحوها، على حين أنها تغريه بهذا الذي اعتدى على العزيز فى أهله! «قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي.. وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها.. إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ» . وكان ردّ يوسف على هذا الاتهام الجريء له، قوله: «هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي» .. ففى هذه الكلمات القليلة المستغنية بصدقها عن كل قول، دفع يوسف التهمة الظالمة التي رمى بها.. وهكذا شأن أصحاب الحقّ، يجدون فى الكلمة المرسلة على طبيعتها من غير حلف أو توكيد، ما يغنى عن كل قول.. وليس كذلك شأن أصحاب الزور والبهتان.. إنهم يكثرون من الثرثرة واللغو، ويبالغون فى الأيمان الكاذبة الفاجرة، ليداروا هذا الباطل الذي يجرونه على ألسنتهم، وليبعثوا فيه شيئا من الحرارة والحياة! - قوله تعالى: «وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها» .. هو جملة حاليّة، جاءت مصدقة لقول يوسف: «هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي» .. أي قال هذا القول الذي صدّقه الحال، والذي استدل به العزيز على صدق يوسف وكذبها.. وقد اختلف المفسرون فى هذا الشاهد الذي شهد.. فقالوا إنه طفل، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1260 أنطقه الله، وقالوا إنه رجل من أهل العلم.. وقالوا، وقالوا! والذي نراه- والله أعلم- أن هذا الشاهد هو العزيز نفسه، وأنه إذ نظر إلى يوسف، فرأى قميصه ممزقا، أدار بينه وبين نفسه حديثا عن هذا القميص: لم مزّق؟ ومن مزّقه؟ ولم كان ممزقا من خلف لا من أمام؟ وهل لذلك من دلالة؟ .. ثم أسلم نفسه لتفكير عميق، وفى رأسه تدور الأفكار، وتموج الخواطر.. يقلّب الأمر على جميع وجوهه، ويعرضه على كل احتمالاته.. ثم ينتهى به الرأى إلى تلك الحقيقة التي هى فيصل الأمر، ومقطع الرأى: «إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ» .. هذا ما أمسك به العزيز من الخواطر الكثيرة، والآراء المتدافعة التي كانت تتوارد عليه.. وقد أمسك أولا بالخاطر الذي يبرىء زوجه، ويدين يوسف، فذلك هو الذي كان يرجوه، ويودّ لو أن هذه الفاجعة قد أقامت له الدليل عليه! «إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ..» وإذ استراح العزيز إلى هذا الرأى، تلّفت إلى يوسف، وأخذه بعينيه، ونظر إلى القميص، فرآه قد قدّ من دبر! «فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ» .. وهكذا برئت ساحة يوسف- وهو البريء دائما- وأقبل العزيز على المرأة، لا ليدينها فى شخصها، بل ليجعل هذه التهمة قسمة مشاعة فى بنات جنسها جميعا.. «إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ» أيتها النساء «إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ» إنّ فيكنّ المكر والدهاء، وسعة الحيلة فى هذا المجال.. وإذن فلا يستغرب منك هذا، بل ولا ينكر منك، فما أنت إلّا واحدة من بنات جنسك!! فلا عليك! «يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ» . - «يوسف» منادى، أي يا يوسف، والمنادى له هو العزيز، يحذّره- وإن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1261 ظهرت براءته عنده- من أن يحوم حول هذا الحمى! ثم يلتفت إلى المرأة يطلب إليها أن تستغفر لهذا الذنب، وأن تطلب الصفح عن هذه الخطيئة التي كادت تقع فيها..! وليس من الحتم اللازم أن تكون هذه المرأة مؤمنة بالله، حتى تستغفر لذنبها- كما يقول بذلك المفسرون- بل يجوز- وهو الغالب- أن تكون وثنية، تطلب الصفح والمغفرة من وثنها الذي تعبده، أو من الكاهن الذي يقوم على خدمة هذا الوثن! - وفى قوله تعالى: «إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ» بدلا من قوله: إنك كنت من الخاطئات، ليخفف على نفسها وقع هذه التهمة التي واجهها بها، فلا يجعل تلك الخطيئة مقصورة على بنات جنسها وحدهن، بل يشاركهن الرجال فيها، وهو منهم.. فلا عليها إذن أن تستغفر لذنبها هذا، الذي كان الناس- من نساء ورجال- معرّضين له.. فإذا كنت قد أخطأت فما أكثر الخاطئين قبل الخاطئات! .. وقد رأينا من قبل كيف أنه لم يواجهها بالتهمة فى شخصها، بل واجهها بها فى بنات جنسها: «إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ» .. وقد اتهم بعض المفسرين «العزيز» بأنه كان ناقصا فى رجولته، ولم يكن له أرب فى النساء، لأنه استقبل فعلة امرأته بهذا الاستخفاف والبرود! .. وهذا تعليل غير صحيح.. إذ المعروف أن من كان فى رجولتهم شىء من النقص، داروه بتلك الغيرة الزائدة، المجاوزة لكل حدّ! .. ولعل أقرب تعليل لموقف «العزيز» هذا، هو أنه كان ينظر إلى يوسف نظرته إلى ابنه، وأن ما كان من امرأته لم يكن إلا نزوة طائشة، أعمتها عن أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1262 تنظر إلى يوسف نظرة الأم إلى ولدها، وأنها سرعان ما تعود إلى رشدها وتصحح نظرتها إليه.. والذي جعلنا نميل إلى القول بأن الشاهد الذي شهد بإدانة امرأة العزيز، هو العزيز نفسه- الذي جعلنا نميل إلى هذا القول، هو ما يشهد به واقع الحال، وهو أن «العزيز» وهو صاحب هذا المقام فى قومه، ما كان له أن يفضح نفسه وأهله على الملأ، وأن يستدعى من يحتكم إليه، فى أمر شهده هو بنفسه، واطلع عليه من غير أن يدله عليه أحد! وإنه لمن السفاهة والحمق، بل والعجز، أن يعرّض العزيز مكانته، وشرفه وشرف أهله لهذه الفضيحة على الملأ.. فيصبح، وإذا هو وزوجه على ألسنة الناس، يطلقون فيهما قالة السوء، ويولدون من هذا الحدث أحداثا تنمو وتتضخم على الأيام! فكان من الحكمة إذا أن يتدبر «العزيز» أمره بنفسه، وأن يحصر الأمر فى أضيق حدوده، وأن يحسمه هذا الحسم الرشيد، فى غير صخب وضجيج.. فكان حكمه هكذا: - «يُوسُفُ: أَعْرِضْ عَنْ هذا» .. - «وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ.. إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ» .. لفتة إلى يوسف، ولفتة إليها.. ثم انتهى الأمر عند هذا الحد.. ولكن إلى حين..! فلقد دبّر العزيز فى نفسه أمرا.. ولكن بعد أن تنتهى هذه العاصفة.. فتحيّن ليوسف فرصة يدفع به إلى السجن بها.. ولكن من غير أن يكون لامرأته- فى ظاهر الأمر- شأن يتعلق بها فى أمر يوسف وسجنه.. من قريب أو من بعيد! على ما سنرى فى أحداث القصة.. بعد.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1263 (الآيات: (30- 35) [سورة يوسف (12) : الآيات 30 الى 35] وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) التفسير: العزيز: السيد ذو السلطان والقوة، فهو عزيز بسلطانه وقوته.. شغفها حبّا: أي ملك قلبها، واستبد به.. والشّغاف: وسط القلب. أعتدت لهن متكأ: أي أعدّت وأحضرت، وشىء عتيد أي حاضر.. والمتكأ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1264 ما يتكأ عليه، من وساد ونحوه.. أصب إليهن: أي أميل، والصبوة الميل إلى النساء خاصة، وصبا وصبأ أي مال، ومنه الصابئة، وهم الذين مالوا مع هواهم إلى عبادة غير الله.. والصبا: ريح لطيفة، تهب فى أصائل الأيام القائظة، فتميل إليها النفوس.. قوله تعالى: «وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» . لأول مرة يكشف القرآن الكريم عن شخصية المرأة التي راودت يوسف عن نفسه. فيحدّث عنها بأنها امرأة العزيز، أي السيد الحاكم فى مصر، ومن هذا نعرف أن البيت الذي ضم يوسف إليه واحتواه، هو بيت حاكم مصر.. ولم يكشف القرآن من قبل عن مركز هذه المرأة الاجتماعى، لأن الأحداث كانت تجرى على المستوي المألوف فى حياة الناس، عامّتهم، وخاصتهم على السواء.. فأى بيت كان يمكن أن يضمّ يوسف إليه، وأي امرأة كان من الممكن أن تراوده عن نفسه، سواء كانت امرأة ملك أو سوقة.. إنها امرأة أيّا كان وضعها الاجتماعى! إذ لم يكن ليوسف خيار فى اختيار السيد الذي يملكه!. أمّا حين يكون للحدث ذكر يراد به الكشف عن وقعه فى المجتمع وأثره فى الناس، فإن الأمر يختلف بالنسبة لمن يتعلق به الحدث، من حيث وضعه الاجتماعى ومكانته فى المجتمع.. فالحدث يكبر أو يصغر، وتتسع دائرته أو تضيق تبعا لمن تعلق به الحدث..! إذ يقتل الرجل من عامة الناس، دون أن يشعر الناس بهذا الحدث أو يلتفتوا إليه، على حين يصاب الحاكم أو السيد من سادة القوم، بخدش أو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1265 جرح، فيكون ذلك حديث الناس فى الأندية والمحافل، ليوم أو لبضعة أيام، وربما لشهور أو سنين.. فعيون الناس وآذانهم متعلقة بأصحاب السلطان والسيادة فيهم.. يتسمّعون أخبارهم، ويرقبون أحوالهم، ويشتغلون بالحديث عنهم، فى كل ما يتصل بهم من صغير أمورهم وكبيرها.. هكذا الناس فى كل زمان ومكان.. وعلى الرغم من أن حادثة امرأة العزيز كانت فى دائرة ضيقة، لا تتعدى المرأة، ويوسف وزوجها، فإنه سرعان ما نفذت العيون من خدم القصر إلى هذا السر، ووقعت الآذان عليه، فكان همسا على الشفاه، ثم كان حديثا دائرا على الألسنة، أقرب إلى الإشاعة منه إلى الحقيقة.. وذلك لما كان من العزيز فى معالجة هذا الأمر، بحكمة، ولطف، وحذر. والنساء هن أكثر الناس بحثا عن أسرار البيوت، وأقدرهن على فتح مغالقها وكشفها.. وها هى ذى امرأة العزيز تصبح هى وفعلتها مع يوسف، حديث الطبقة العالية فى نساء المجتمع، ممن هنّ على مداناة وقرب منها. «وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ.. قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .. هكذا يتحرك الخبر، وتتحرك معه التعليقات المناسبة له.. «قَدْ شَغَفَها حُبًّا!!» أي ملأ قلبها حبّا، واستولى عليه.. «إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ! إنها الفضيحة قد أخذت تتحرك بسرعة فى المجتمع، وإنها اليوم حديث نساء الحاشية، وما حولها، وغدا ستكون حديث البلاد كلها.. فلابد إذا من تدبير يمسك هذه الفضيحة، أو يخفف من انطلاقها، وإلّا أفلت الزمام وساءت العاقبة! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1266 وفى سرعة، وحكمة، أخذت امرأة العزيز تعمل وتعمل! كما أخذ العزيز يفكر ويقدّر.. «فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ..» «فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ. وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ.. وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ.. ما هذا بَشَراً. إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ» لقد أعدت امرأة العزيز وليمة، ودعت إليها هؤلاء النسوة اللاتي تحدّثن عنها بهذا الحديث الذي عرّضن فيه بها، وجرّحنها بقوارص الكلم، وطعنّها بألسنة الاتهام! وكان من تدبيرها أنها هيأت لكل واحدة منهن متّكأ، لتسلم نفسها إليه، مسترخية، وتمسك فى يديها بسكين حادّ مرهف، تعالج به بعض الفاكهة التي بين يديها.. وهكذا أخذ النسوة مجلسهن هذا عند امرأة العزيز، وهن متكئات على المساند اللّينة، يتناولن الفاكهة بعد أن امتلأن بما قدّم لهن من شهىّ الطعام، على مائدة حفلت بكل ما لذّ وطاب منه.. وما كاد يبدأ الفتور عليهن، وهنّ مستسلمات لتلك الإغفاءة اللذيذة، التي تطوف بالمرء بعد غذاء شهىّ، يتجاذبن الأحاديث فى تكسّر وفتور أشبه بأحلام اليقظة- حتى تضرب المرأة ضربتها فتصيب منهن مقتلا! وإذا يوسف، وقد أخذ زينته، إلى ما حباه الله من جمال الصورة، وجلال النبوة، يطلع عليهنّ، وكأنه ملك نزل من السماء، لا يدرين من أين جاء، فيصحون صحوة السكران من خماره، حين يجد نفسه بين يدى ظاهرة من ظواهر الطبيعة المفاجئة المذهلة.. وإذا كيانهنّ كله يصبح عيونا معلّقة بهذه المعجزة التي طلع عليهن القدر بها! واستبدّ بهنّ الذهول، ولم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1267 يعدن يدرين ماذا يمسكن فى أيديهن.. وفى حركات لا شعوريّة أعملن السكاكين فى أيديهن، فأصابت منهن ما كان من شأنه أن يصيب الفاكهة منها.. فسالت الجروح، ونزفت الدماء!! وعندئذ تنبهن إلى وجودهن.. «وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ.. ما هذا بَشَراً..! إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ» !! عندئذ استوثقت امرأة العزيز مما وقع فى قلوبهن من يوسف، فصرّحت يمكنون سرّها، ووجدت أن ذلك ليس مما يعيبها، إذ كان الأمر أكثر مما تحتمله هى أو غيرها من النساء، فى مواجهة هذه المعجزة التي لا قبل للنّاس أن يتحدوها. «قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ» وهكذا كان انتقام المرأة لنفسها ممن أظهرن الشماتة بها.. لقد أذاقتهن من نفس الكأس التي شربتها، فسكرن سكرتها، ووقعن أسيرات لهذا الجمال الآسر، وعشن معها بهذا الداء، يعالجنه، ويطلبن الشفاء له.. وهكذا أخرست تلك الألسنة التي كانت تذيع قالة السوء فيها، فشغلت كل واحدة منهن بهمومها، وأشجانها، مع هذا الجمال الملائكى القاهر. أما يوسف- عليه السلام- فقد تضاعفت محنته، وتكاثرت حوله الفخاخ والشباك المنصوبة لصيده، والكيد له، ولم يكن له إلا ربّه- سبحانه وتعالى- يطلب العون منه، والحماية والصون ممّا يكاد له. «قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ» .. إنه بين يدى كيد يكاد له، وفتنة ملحّة تتبدّى أمام ناظريه، وتجىء إليه بكل مغرياتها.. وهو- بعد- إنسان.. معه قلبه، وشبابه وشهوته الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1268 وإنه- فى دينه ومروءته- ليؤثر السّجن على ما يدعونه إليه من إثم.. ولكن للاحتمال طاقة، وللصبر حدّ، ولن يمسك عليه دينه، ويدفع عنه هذا البلاء الذي لا يحتمل، إلّا عون يعينه الله به، وقوة يضيفها الله إلى قوته. «وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ» .. فصرف هذا الكيد، وإبعاد تلك الفتنة من طريقه، هو الذي يصرفه عن هذا البلاء، ويعافيه من هذا الشرّ، وذلك برعاية الله سبحانه وتعالى له، وصرف السوء عنه. «فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ.. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» .. ولا تسل ما تدبير الله فى هذا، فذلك من قدرة الله، ومن آياته.. «ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ» .. أي ثم بدا للعزيز، مع ما شاهد من الآيات الدالة على عفّة يوسف وبراءته مما رمته امرأته به- بدا له أن يأخذه بشىء من العقاب، وأن يلقى به فى السجن، وذلك بعد أن هدأت نار الفتنة، ونسى الناس أمرها، حتى لا يقال: إن العزيز قد ألقى بيوسف فى السجن عقابا للحدث الذي كان بينه وبين امرأته. وتعالت حكمة الله..!! لقد كان هذا السجن هو الصّارف الذي صرف به سبحانه وتعالى هذا الكيد الذي يراد بعبد من عباده المخلصين.. فلقد عزله هذا السجن عزلا تامّا عن موطن الفتنة، وباعد بينه وبين آفاقها التي تطلع عليه منها.. ثم كان هذا السّجن الطريق الذي سلك به إلى هذا الملك الذي أراد سبحانه وتعالى أن يضعه بين يديه: «وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1269 الآيات: (36- 42) [سورة يوسف (12) : الآيات 36 الى 42] وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) التفسير: «وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ» .. والفتى هو الخادم، أو المملوك الذي فى خدمة سيده. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1270 ويجوز أن يكون هذان الفتيان قد دخلا مع يوسف السّجن فى يوم واحد، إثر حدث وقع فى قصر الملك، إذ كان هذان الغلامان ممن يخدمان الملك، فحامت حولهما شبهة دفعت بهما إلى السّجن، ودفع بيوسف إليه معهما، على حساب أنه ممن علقت به تلك الشبهة، بتدبير من امرأة العزيز، وممن معها من النّسوة اللائي كنّ فى حاشيتها.. أو بتدبير من العزيز نفسه انتقاما لشرفه، الذي لاكته الألسنة زمنا.. وكانت المؤامرة التي وقعت فى قصر الملك فرصة لأخذ يوسف مع من أخذ بها. «قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» . إنهما قد رأى كل منهما رؤيا مناميّة، وقد عرفا فى يوسف علما وحكمة، فتحدثا إليه بما رأيا، وطلبا إليه أن يكشف لهما ما تنبىء عنه رؤيا كل منهما. - وفى قول كل منهما: «إِنِّي أَرانِي» - إشارة إلى أن كلّ واحد منهما رأى نفسه فى المنام على الصورة التي حدّثه بها.. فالرائى شخص والمرئى شخص آخر، وإن كان صورة منه. «قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» . لم يلتفت يوسف كثيرا إلى هذه الرؤيا التي رآها صاحبا سجنه، ولم يجعل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1271 بالكشف لهما عن تأويلهما، إذ كانت إحداهما تحمل الموت إلى صاحبها، على حين تحمل الأخرى لصاحبها الحياة والخلاص من السجن.. فآثر أن يتريث قليلا، ولا يكشف لهما عن هذا الجانب المحزن من الرؤيا.. ثم أخذ يحدثهما عما علّمه الله من علم، وأنه إذا كان سيكشف لهما عن تأويل رؤياهما، فذلك مما علّمه الله، الذي يؤمن به، بل إن الله سبحانه قد علّمه أكثر من تأويل الأحاديث، فهو- بما علمه الله- يستطيع أن يخبرهما عن أىّ طعام يحمل إليهما، قبل أن يأتيهما، وذلك على نحو ما كان لعيسى عليه السلام، إذ يقول لبنى إسرائيل: «وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون فى بيوتكم» (49: آل عمران) . ويثير هذا الحديث تساؤلات كثيرة عن صاحبى السجن، تدور فى رأسيهما، وتظهر على قسمات وجهيهما.. يبحثان عن هذا «الربّ» الذي يعلّم المؤمنين به، والعابدين له، هذا العلم.. إن لهما أربابا كثيرة، فلم لم تمنحهما شيئا من هذا العلم؟ وهل ربّ يوسف هذا على غير شاكلة الأرباب التي يعرفونها ويعبدونها؟ ويراها «يوسف» فرصة سانحة، للدعوة إلى الله، وإلى هداية هذين الضالّين إلى الإيمان، فيكشف لهما عن وجه الحق، ويفتح لهما الطريق إلى ربّه الذي يعبده! - «إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ» .. إذن فقد كان من يوسف عمل، حتى وصل إلى ما وصل إليه، وهو أنه ترك دين قوم لا يؤمنون بالله، وهم بالآخرة هم كافرون. وإذن فإنهما إن أرادا أن يلحقا به، فليتركا ملّة من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، كما ترك هو ملّة من لا يؤمن بالله، واليوم الآخر! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1272 ويوسف عليه السلام لم يكن على غير دين التوحيد، فقد ولد مسلما، ابن مسلم، ابن مسلم، ابن مسلم، فهو كما فى الحديث الشريف: «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» .. ولكنه يعنى بهذا أنه لم يكن مجرّد متابع لدين ورثه عن آبائه، بل إنه نظر إلى الدين الذي يدين به آباؤه، وإلى الأديان التي يدين بها الملحدون، الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، فعدل عن هذه الأديان، وتركها وراءه ظهريّا، وأقبل على دين آبائه، لأنه الدين الحقّ، الذي يدين به العقلاء! «وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ» . - وفى قوله: «ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ» - إشارة إلى أنه هو وآباؤه، وقد عرفوا طريق الحق، ما كان يصحّ عندهم أن يعدلا عن هذا الطريق إلى طريق الشك بالله. وذلك من فضل الله علينا، وعلى الناس الذين حمداهم إلى الإيمان، وأقامهم على طريق الحق.. «ولكنّ أكثر الناس لا يشكرون» الله على ما فضل به عليهم من نعم، فإن عدم التعرف على الإله المنعم كفران بهذه النعم، يقود إلى الكفر بالمنعم ذاته. ثم يمضى يوسف، فيشرح لهما قضيّة الألوهية بمنطق الحسّ والمشاهدة: - «يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» ؟ إن العقل يقضى لأول خاطرة، أن الواحد الذي يجتمع إليه كل ما فى يد الآخرين من سلطان، هو أولى بأن يلجأ إليه، ويلاذ به.. فالله- سبحانه- هو ربّ الأرباب، فكيف يعدل عنه إلى من هم تحت سلطانه؟ وكيف يعبدون من دونه؟ ذلك هو الضلال البعيد! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1273 تلك هى القضية.. وهذا هو فيصل ما بين إله يوسف، والآلهة التي يعبدها القوم.. - «ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ» . وذلك ما كشف عنه الواقع من الآلهة التي يعبدها صاحبا السجن وقومهما.. ما يعبدون من دون الله إلا أسماء.. أي مجرد أسماء، لا مدلول لها، ولا قيمة لمسمّياتها.. هى أسماء ليس وراءها إلا خواء، وظلام.. تعلقت بها أوهام القوم، وأعطتها تصوراتهم هذه المفاهيم الخاطئة التي يتعاملون بها معها..! - وفى قوله تعالى: «ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ» أي أن هذه الأسماء ومسمياتها التي تختفى وراءها، لا تستند إلى حجة أو برهان، وأنها لم تقم على دعوة من العقل، أو على كتاب من عند الله.. وإنما هى من مواليد الباطل والضلال، إذ أجاءها العقل لم يجدها شيئا يقف عنده. - «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ. أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ.. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ.. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» . فالحكم بين الناس، والفصل فيما هم مختلفون فيه، فيما يعبدون- هو لله، وسيجزى كلّ عامل بما عمل.. وهو- سبحانه قد أمر ألّا يعبد غيره، وذلك فيما حمل الرسل إلى الناس من رسالات الله إلى عباده، فذلك هو الدّين الحقّ، المستقيم الذي لا عوج فيه. «ولكن أكثر الناس لا يعلمون» هذه الحقيقة، فيضلّون، ويكفرون بالله، ويعبدون من دونه تلك الدّمى التي يسمونها آلهة! وإلى هنا يكون يوسف قد نفذ بدعوته إلى قلبى هذين الرجلين الضالّين، فهداهما إلى الله، وفتح لهما الطريق إلى صراطه المستقيم.. وهكذا لم ينس رسالته الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1274 إلى الناس وإلى هدايتهم ودعوتهم إلى الله، وهو فى سجنه هذا، يعالج المحنة، ويتجرع مرارة الظلم.. وإذ يستريح إلى أنه أدّى رسالته فى هذه الحدود الضيقة، يعود فيكشف لصاحبيه عن السرّ المحجّب وراء رؤياهما.. «يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ، قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ..» وهكذا بعد أن قال يوسف لصاحبى سجنه ما أراد أن يقوله- من الدعوة إلى الإيمان بالله، وهما مشدودان إليه بتلك الرغبة الملحة عليهما فى الاستماع إلى كلمته التي يقولها فى تأويل رؤياهما- أخذ يكشف لهما- مما أراه الله- عن تأويل هذه الرؤيا..! - «أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ..» ويلاحظ أنه لم يقل لكل منهما على حدة تأويل رؤياه، حتى لا يواجه الذي سيصلب بهذا الخبر المزعج، بل ألقى إليهما تأويل رؤياهما معا، ليأخذ كل منهما بنفسه ما يراه متفقا مع رؤياه.. - وفى قوله تعالى: «قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ» توكيد لما كشف عنه من تأويل الرؤيا، وأن ذلك الذي كشف له عنهما من رؤياهما، هو أمر واقع، قضى الله به، ولا رادّ لما قضى الله! .. قوله تعالى: «وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ» .. وحين علم يوسف من تأويل الرؤيا أن أحد صاحبى سجنه سيخلى سبيله، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1275 ويعود إلى مكانه من الملك، ساقيا لشرابه- قال له: «اذكرني عند ربك» أي تحدّث بشأنى عند الملك، واكشف له عن الكيد الذي كاد لى به النسوة حتى ألقوا بي فى السجن، فلعلّه يفكّ قيدى، ويطلق سراحى.. - وفى قوله تعالى: «ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ» إشارة إلى أن علمه بتأويل الرؤيا لم يبلغ مرتبة اليقين المطلق الذي يتلقاه وحيا من ربه، ولكنه علم مستمد من بصيرة نافذة، وقلب ملهم، وهو- أيّا كان- علم ذاتىّ، يراه إلى جانب ما يوحى إليه من ربّه، ظنّا غير مستيقن.. وفى غمرة الفرحة بالخلاص، نسى صاحب السجن هذا الذي نجا، ما عهد إليه به يوسف، فلم يذكره عند سيده، وهكذا نسى الناس أمره، فلبث فى السجن بضع سنين! الآيات: (43- 49) [سورة يوسف (12) : الآيات 43 الى 49] وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1276 التفسير: «وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ.. يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ» .. العجاف: المهازيل، واحدتها عجفاء، وهى قليلة اللحم لضعفها وهزالها.. أفتونى: من الفتيا، وهى الكشف عن أمر خفىّ، يسأل عنه أهل الخبرة فيه.. تعبرون: عبر الأمر، سبره واختبره.. وتعبير الرؤيا: عبورها إلى ما وراءها من دلالات.. وعبر الوادي: جانبه الآخر.. ورؤيا الملك.. هى رؤيا نائم، حيث وقع له فى نومه هذا الذي رآه، وطلب إلى أهل العلم تأويله.. «قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ» .. الأضغاث: الأخلاط من كل شىء، ويجمع الغث والثمين، واحدها ضغث، ومنه قوله تعالى: «وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ» (44: ص) أي مجموعة من أعواد الحطب، وقيل سباطه نخل.. لقد رأى الملك فى منامه تلك الرؤيا التي دعا لتأويلها أهل العلم والنظر من رجال دولته، فلم ينكشف لهم منها شىء.. وقالوا هى أخلاط من الأحلام، أشبه بالهلوسة، لا تستقيم منها صورة سويّة يمكن أن يتحققها النظر، ويقع منها على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1277 مفهوم، له معقول.. فكيف يجدون تأويلا لهذه الأخلاط من الأحلام، وهم لا يعلمون تأويل الأحلام ذاتها؟ إن تأويل الحلم وحلّ رموزه يحتاج إلى بصيرة نافذة، وقلب ملهم، وهذا أمر غير ميسور، لا يقع إلا لقلة قليلة من الناس، ثم لا يكون لهم مع ذلك القدرة على تأويل كل حلم، فكيف بأضغاث الأحلام؟ والأحلام هى من واردات العقل الباطن للإنسان، كما يقول علم النفس الحديث، أو هى من حديث النفس إلى صاحبها، وللنفوس أحاديث ذات منطق خاص بها، لا يلتقى كثيرا مع منطق الحياة، على مألوف الإنسان منها.. فحديثها فى الغالب إشارات ورموز، لا يستجلى مراميها إلا أهل البصيرة النافذة.. ولعل فى قوله تعالى عن يوسف عليه السلام: «وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ» .. لعل فى هذا ما يشير إلى أن المراد بالأحاديث، هو الأحلام، وهى من حديث النفوس إلى أصحابها.. ويشهد لهذا المعنى الذي ذهبنا إليه أن أبرز ما فى حياة يوسف عليه السلام، كان من منطلق الرؤيا التي رآها فى أول حياته.. والتي ذكرها القرآن الكريم فى قوله تعالى على لسانه: «إنى رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين» .. وقد أولها له أبوه.. ثم أعلمه أن الله سبحانه وتعالى سيجتبيه ويعلمه من تأويل الأحاديث كما يقول سبحانه على لسان يعقوب: «وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ» .. وذلك لما رأى من ابنه يوسف هذه النفس الصافية التي تتحدث إليه هذا الحديث.. فهو بمثل الحديث الذي تحدثه به نفسه، يأخذ، وبه يعطى.! ثم كانت بعد هذا تلك المواقف التي وقفها يوسف فى تأويل الأحلام، لصاحبى سجنه، ثم للملك، وعن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1278 تأويل هذا الحلم خرج من السجن، واعتلى منصب الوزارة..! هذا، وقد جاء فى الحديث الشريف: «إن فيكم محدّثين وإن منهم عمر» أي إن فى جماعة المسلمين من يتحدث إليهم من وراء مدركاتهم بأحاديث ملهمة.. سواء أكان ذلك فى اليقظة أو فى النوم.. «وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ..» الذي نجا منهما: هو أحد صاحبى السجن، وهو الذي رأى أنه يعصر خمرا.. ادّكر: أي تذكر، وأصله اذتكر على وزن افتعل، فقلبت تاء الافتعال دالا لتقارب مخرجيهما، ثم أدغمت الذّال فى الدال، لأنها أخفّ منها، ويجوز أن يقال اذّكر، بإدغام الدال فى الذّال. والأمّة: الجماعة من كل شىء والمراد بها هنا كتلة من الزّمن، أي زمن طويل.. ومنه قوله تعالى: «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ» (22: الزخرف) أي على مجموعة متضخمة من العادات والمعتقدات. - وفى قوله تعالى: «وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ» إشارة إلى أنه قد عانى كثيرا من التفكير، حتى تذكر يوسف.. ففى الفعل «ادّكر» معالجة، ومعاناة، وعسر. وكذلك فى كلمة «أمّة» التي تجمع مقاطع متفرقة من الزمن! والسؤال هنا: كيف ينسى الرّجل وجه يوسف، وكيف بغيب عنه شخصه، وهو الذي كشف له عن رؤياه، وأراه منها وجه النجاة، بهذه البشرى المسعدة؟ ونقول- والله أعلم- إنه ربما كان للأيام التي قضاها الرجل فى السجن، والعذاب الذي أخذ به، والرعب الذي استولى عليه من الأهوال التي طلعت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1279 عليه فى سجنه- نقول: ربما كان لذلك آثاره فى تفكير الرجل، وفى ذاكرته على وجه خاص.. فما أكثر ما تضم السجون بين جدرانها من عذاب، يرى المبتلون به شواهد من عذاب القيامة قبل أن تقوم!! «يُوسُفُ.. أَيُّهَا الصِّدِّيقُ.. أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ» هنا أحداث صغيرة وقعت، قبل أن يلتقى الرجل بيوسف، وقد ضرب القرآن الكريم عن ذكرها صفحا، لأنها مفهومة من السياق أولا، ولأنها لا يتعلق بذكرها فائدة، ثانيا.. فالرجل حين قال: «أنا أنبئكم بتأويله» أثار فى الناس- وخاصة الذين دعوا إلى تأويل رؤيا الملك، تساؤلات كثيرة، فكان من أقوال الناس له: كيف تفعل أنت هذا الذي لم يستطعه العلماء وأهل الخبرة؟ ومن أين لك هذا العلم؟ إلى غير ذلك من الأسئلة المنكرة عليه ما قال! ثم لا بدّ أن الرجل أوضح لهم الأمر.. فقال إننى لست أنا الذي أنبئكم بتأويله، ولكن هناك فى السجن رجل يعلم ما لا تعلمون من تأويل الأحلام.. وأن هذا الرجل هو يوسف، فأرسلون إليه.. فأرسلوه إليه. ثم إنه حين دخل على يوسف بدأه بما جاء إليه من أجله.. وقد كان من الطبيعي أن يجرى بينهما حديث وحديث، قبل أن يذكر له ما أراد منه.. ولكن اللهفة إلى إسعاف الملك بما يذهب بحيرته، صرفته عن كل شىء! - وفى قوله تعالى: «أَيُّهَا الصِّدِّيقُ» إقرار من الرجل بما عرف من يوسف من صدق، فيما أوّل له ولصاحبه من رؤيا.. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1280 - وفى قوله: «لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ» - الرجاء هنا ليس واقعا على عودته إلى النّاس، إذ أن عودته إليهم أمر مقطوع به، غير متعلق على شىء.. وإنما وقع الرجاء هنا على محذوف تقديره: لعلى أرجع إلى الناس بما يكشف لهم عما أصابهم من بلبلة واضطراب، إزاء هذه الرؤيا التي رآها الملك، وحار العلماء والسحرة والمنجمون فى فكّ طلاسمها وحلّ رموزها.. أما الرجاء فى قوله: «لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ» فهو واقع على الناس، وعلى العلم الذي يجيئهم به من يوسف عن هذه الرؤيا.. أي لعلهم يعلمون من هذا قدرك وفضلك، وأنك الصّدّيق الذي لا يتّهم، وأنهم قد اتهموك ظلما، وأودعوك السجن بغير جريرة.. أو لعلهم يعلمون ما غاب عنهم علمه من هذه الرؤيا، وأعجزهم الوصول إليه. «قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ» الدأب: المستمر، المتصل، فى جدّ ومثابرة. شداد: أي فيها شدة، وقسوة، وجدب. تحصنون: أي تحفظون.. ومنه الحصن، لأنه يحفظ من فيه، والحصان، والمحصنة، لأنها تحفظ نفسها من الإثم.. والحصان «بالكسر» لأنه يحفظ راكبه، ويمنحه قوة على عدوّه.. يغاث الناس: أي ينزل عليهم الغيث، وهو المطر، الذي يحمل إليهم الحياة، ويمدّهم بالخصب والنماء. يعصرون: أي يصنعون الخمر من الأعناب، التي تزدهر وتثمر فى هذا العام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1281 بهذا التأويل كشف يوسف عن مضمون رؤيا الملك ومحتواها، وأنها تنبىء عن الأحداث المقبلة التي ستجرى على مصر خلال أربعة عشر عاما آتية! فالأعوام السبعة المقبلة، هى أعوام خصب وزرع وثمر.. والأعوام السبعة التي بعدها، أعوام جدب وقحط، لا تنبت زرعا، ولا تطلع ثمرا.. ولم يكتف يوسف بتأويل الرؤيا، بل أعطى التدبير الحكيم الذي ينبغى أن يقوم إلى جانب مدلولها.. وبهذا كشف للناس عن موهبة سياسية نادرة، وأطلعهم منه على بصيرة نافذة، فى الإمساك بدفّة السفينة فى متلاطم الأمواج، ليبلغ بها مرفأ الأمان والسلامة. فكان أن نصح لهم بأن يجدّوا الجدّ كله خلال السنوات السبع المقبلة، فى زرع كل ما استطاعوا زرعه من الحبّ، الذي هو عماد الغذاء للناس.. ثم أن يمسكوا هذا الذي يجيئهم مما زرعوا، دون أن يأخذوا شيئا منه، إلا قليلا مما يأكلون.. ثم أن يدعوا هذا الذي احتفظوا به فى سنابله حتى لا يناله السّوس، أو يمسّه العطب! ومن هذا الذي ادخروه فى سنوات الرخاء والخصب، يكون غذاؤهم فى سنوات الشدة والجدب! ذلك هو التدبير أحكم التدبير، لملاقاة هذه السنوات السبع العجاف التي ستطلع على الناس، بعد سبع سنين من الخصب والرخاء.. - وفى قوله: «إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ» دعوة إلى التزام القصد والاعتدال خلال سنوات الخصب، وأن على الناس فيها أن يأخذوا القليل مما يحتاجون إليه، وأن يعيشوا فى حال أشبه بحال الحرب.. وبذلك يمكن أن يواجهوا هذه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1282 المحنة المقبلة عليهم، وأن يخرجوا منها سالمين، وإلا فإنهم إن نسوا فى خصبهم أيام الجدب المقبلة عليهم، هلكوا جميعا.. إنهم مقدمون على حرب قاسية مع الجدب والقحط، فإذا لم يستعدوا لهذه الحرب هلكوا بيد الجوع والحرمان. - وفى قوله: «ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ» إجابة على سؤال يتردد فى خواطر الناس.. وهو: ماذا سيكون عليه الحال بعد هذه السّنوات المجدبة؟ وهل يجىء بعدها الخصب الذي اعتادوه، أم أنها ستكون سنة تجمع بين الخصب والجدب؟ فكان هذا الذي بشّرهم به، وأراهم منه طريق النجاة، فسيحا، رحيبا: «عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون» .. إنه عام فيه خير كثير، يذهب بكل ما عانى الناس من بلاء وشدة خلال هذه السنوات الأربع عشرة! وفى هذا ما يشدّ عزمات الناس، ويمسك بهم على طريق الصبر والاحتمال، حيث تتوارد عليهم الحياة فى شدتها ولينها، وضرّائها وسرائها.. الآيات: (50- 52) [سورة يوسف (12) : الآيات 50 الى 52] وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1283 التفسير: ما خطبكن: أي ما شأنكن.. حاش لله: أي تنزيها لله.. وحاشا: فعل استثناء يعزل ما بعده عن الحكم الواقع على ما قبله.. حصحص الحق: أي انكشف، وظهر، وتمحّص. «وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ» .. لقد وقع ما تأول به يوسف حلم الملك موقع اليقين من الملك، ورأي ما كان قد رآه مناما أمرا واقعا بين يديه، ورأى فى يوسف الأمل الذي طلع عليه من حيث لا ينتظر، مادّا يده إليه بحبل الخلاص والنجاة، فهتف فيمن حوله: «ائتوني به» !! ولم يقل: ائتوني بيوسف، استعجالا لإحضاره، واختصارا للوقت الذي يضيع فى النطق باسمه، مكتفيا بالإشارة إليه بضميره! - «فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ.. إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ» لقد انتهز يوسف الفرصة السانحة له، وقد أصبح مطلوبا من الملك، لا طالبا له، ومرغوبا لا راغبا، فأراد أن يملى شروطه، ولم تنسه فرحة الخلاص من السجن بعد هذه السنين الطويلة التي قضاها بين جدرانه- لم ينسه ذلك أن يبدأ أولا بمحو هذه التهمة التي علقت به، وأن يقيم الملك على رأى صحيح فيه، وأن يعلم علم اليقين من هو هذا الإنسان الذي رمى بهذا البهتان، وقذف بهذا المنكر؟ فهناك واقعة لا يمكن إنكارها، إذ كانت بمشهد من عدد كثير من النسوة، كما كان أثرها المادي مما لا يخفى، وربما لا يزال بعضه باقيا إلى يومه هذا.. «النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ» .. ما بالهن فعلن هذا الفعل؟ وفى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1284 أية مناسبة حدث هذا لهن؟ ففى الإجابة عن هذا السؤال ما يكشف عن الكيد الذي كدن له به! «قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ» ؟. وسأل الملك عن أمر هؤلاء النسوة، فلما أخبر به، دعاهن إليه، وسألهنّ: «ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه» ؟ ويوسف لم يقل إنهن راودته عن نفسه، بل اكتفى بذكر الحادثة، ولم يذكر مدلولها، وذلك أدب من أدب النبوة الذي يأبى عليه أن يذكر كلمة السوء، وأن يفضح الحرائر! ولكن الملك قالها لهن صريحة: «ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه» ؟ لقد ملك يوسف عليه مشاعر الحب والإجلال، وساءه أن يلقى هذا الإنسان الكريم ما لقى من هذا الاتهام الشنيع، وهو العفّ الطاهر، التقىّ النقىّ، فأراد أن ينتقم له، وأن يعرض هؤلاء النسوة على الملأ فى مقام الخزي والفضيحة!. ولم تجد النسوة فى يوسف ما يقلنه فيه، دفاعا عن أنفسهن، ولم تكن غير كلمة الحق كلمة يمكن أن تنطق بها ألسنتهن، إزاء هذه الشمس التي ملأ نورها الآفاق من حولهن، حتى إن الملك نفسه ليستضىء بضوئها، ويستهدى بهديها.. فكان جوابهن إقرارا منهن ليوسف بالعفة والطهارة.. «قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ» أي تنزيها لله عن كلّ نقص، وكما ننزّه الله عن كل عيب ونقص، ننزه يوسف عن كل منكر وقبيح! «ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ» . ولم تقل النسوة: ما رأينا عليه من سوء وإنما قلن هذا القول: «ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ» تأكيدا لطهره وعفّته، فإنهنّ لم يرين منه ما يسوء ولم يعلمن من أمره ما يشين.. سواء أكان ذلك معهن، أو مع غيرهن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1285 وتتلفت الأنظار هنا إلى امرأت العزيز، وتصغى الآذان إلى ما تقول فى هذا المقام، وهى رأس هذا الأمر كله..فماذا قالت امرأت العزيز؟. «قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ» لقد قهرها الحق، فأقرت على نفسها بمشهد من هذا الملأ: «أنا راودته عن نفسه» .. فقد ظهر الحق، ولم يعد ثمة سبيل إلى إخفائه. «أنا راودته عن نفسه» : تقولها هكذا صريحة مؤكّدة «أنا راودته عن نفسه» ! ولم تكتف بهذا العرض الذي تعرض فيه نفسها فى معرض الاتهام الصريح المؤكد، بل تستحضر يوسف الذي لا يزال فى سجنه، وتستدعى صورته التي لا تزال تملأ خيالها فنقول: «وإنه لمن الصادقين» .. أي إننى لكاذبة فيها تقوّلته عليه، وإنه لصادق فيه نفى هذا الاتهام عنه.. وفى قول يوسف: «فاسأله ما بال النسوة» دون أن يشير إلى امرأة العزيز- أدب عال لا يصدر إلا ممن تأدب بأدب السماء، من أنبياء الله ورسله. «ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ» أي إنّى أقرر ذلك، وأشهد به على نفسى فى غير مواجهة، وذلك ليعلم أنّى لم أكذب عليه فى غيبته، حيث لا يستطيع الدفاع عن نفسه، ودفع ما أتقوّله عليه. وفى قولها: «ذلك ليعلم أنّى لم أخنه بالغيب» اعتذار منها ليوسف، وتودّد إليه، وفتح لباب الصفح والمغفرة بينها وبينه. - وفى قولها: «وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ» تعليق على ما كان منها من كيد وخيانة ليوسف، وأن هذا التدبير السيّء قد فضحه الله، وأخزى أهله.. وهكذا كل باطل لا بد أن تكشف الأيام زيفه، وتفضح وجهه المطلى بالزور والبهتان.. وفى هذا ما يدلّ على حسرتها على ما كان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1286 منها فى حق هذا الإنسان العظيم، الذي لم يكن له من ذنب، إلا أن الله سبحانه صوّره فأحسن صورته، وأكمل خلقه! هذا، ويجوز أن يكون هذا القول من يوسف عليه السلام، وأنه قاله بعد أن علم بإقرار النسوة، وشهادة امرأة العزيز على نفسها، قاله معلّقا ومعلّلا لهذا الطلب الذي طلبه من الملك، وهو أن يسأل النسوة اللّاتى قطعن أيديهنّ. وبهذا ينكشف له واقع الأمر، وقد انكشف هذا الواقع عن براءة يوسف مما رمى به، وبهذا يعلم العزيز أن يوسف لم يخنه فى غيبته وأنه كان أمينا على حرماته، وأنه لو كان خائنا له أو لغيره ما هداه الله إلى كشف هذه الحقائق التي كشف عنها، لأن هذا لا يكون إلا عن بصيرة استضاءت بنور الله، واهتدت بهذا النور، والله لا يهدى كيد الخائنين، ولا ينجح لهم أمرا، ولا يجعل لهم نورّا: «ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور» . ونحن نميل إلى القول بأن قوله تعالى: «ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» .. نميل إلى القول بأن هذا هو من حديث يوسف إلى نفسه، تعليقا على ما انكشف للملك من أمر النسوة، وما ظهر من براءته. وذلك لأنه قد جرى فى هاتين الآيتين، ذكر الله سبحانه وتعالى، ووصفه بصفات الكمال، كقوله: «وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ» .. وقوله: «إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» .. وهذا لا يصدر إلا من إنسان مؤمن بالله إيمانا مشرقا متمكنا.. وامرأة العزيز، لم تكن- فى غالب الظن- مؤمنة.. وأنه إذا كانت مصر قد عرفت التوحيد فى فترة من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1287 تاريخها الفرعوني، فإنها فى فترات كثيرة كانت تعبد أنواعا من الآلهة تتخذها من عالم الحيوان، أو الكواكب، وغير ذلك.. ثم إن مصر فى هذه الفترة بالذات، التي عاصرت يوسف عليه السلام، كانت على غير دين التوحيد، حيث رأينا يوسف فى سجنه يدعو صاحبيه إلى الإيمان بالله، ويكشف لهما عن زيف الآلهة التي يعبدونها من دون الله، كما يقول سبحانه وتعالى على لسانه: «يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ.. إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ.. أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ.. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» والله أعلم. تم بعون الله الجزء الثاني عشر، ويليه الجزء الثالث عشر، إن شاء الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1288 فهرس الموضوعات الموضوع الصفحة الجزاء الدنيوي.. وجزاء الآخرة 937 الإنسان.. وما ينزل من السماء 987 السمع والبصر.. ومكانهما فى الإنسان 999 العلم.. وأسلوب تحصيله 1075 الناس.. وهذا الاختلاف فى حظوظ الحياة 1214 يوسف.. والفتنة المتحدية 1251 الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1289 [الجزء السابع] [تتمة سورة يوسف] (الآيات: (53- 57) [سورة يوسف (12) : الآيات 53 الى 57] وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57) . التفسير: قوله تعالى: «وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» . يجوز أن يكون هذا قد جرى على لسان امرأة العزيز، فى موقفها من يوسف، بعد أن أعلنت على الملأ أنها كانت كاذبة فيما تقوّلته عليه، وأنه كان صادقا فيما قاله عنها، وأنها هى التي راودته عن نفسه ولم يراودها هو عن نفسها.. وهى هنا تؤكد القول بأنها متهمة، وأنها لا تجد ما تبرئ به نفسها من هذا الذنب الذي ارتكبته فى حق يوسف.. إنها قد ضعفت أمام نفسها التي سوّلت لها هذا المنكر.. وإنها ليست إلّا بشرا، من شأنها أن تخطىء وتأثم، وأنها ليست فى عصمة من الخطأ.. «إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ» .. هكذا النفس البشرية، تهفو إلى السوء، وتدعو صاحبها إليه «إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي» أي إلا ما أراد الله دفعه من السوء، لمن رحمهم من عباده، وحفهم بألطافه.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3 فالاستثناء فى قوله تعالى: «إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي» متعلق بالسوء.. بمعنى أن النفس تأمر بالسوء وتدفع إليه، وأن الناس تبع لما تأمرهم به أنفسهم، فيأتون كل ما تسوّل لهم به، إلّا ما أراد الله دفعه عنهم من سوء، رحمة منه، ولطفا بعباده! وهذا بعض السرّ فى كلمة «ما» التي لغير العاقل. وهذا يعنى أن الناس جميعا- بلا استثناء- واقعون تحت سلطان أنفسهم، وأن هذا السلطان غالب عليهم، وأن رحمة الله هى التي تعصم من تعصمه منهم من مواقعة المنكرات، واقتراف الآثام، وإن كان ذلك لا يمنع من أن تقع منهم الهفوات والزلات، فكل ابن آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون. «إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» ففى رحمة الله ومغفرته تغسل السيئات وتمحى الذنوب.. لمن تاب إلى الله، ورجع إليه من قريب. ويجوز أن يكون هذا من كلام يوسف، على اعتبار أن من قوله كذلك: «ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ» - كما أشرنا إلى ذلك من قبل، وأن هذا معطوف على ذاك، ليقرر به أنه لا يبرّىء نفسه براءة مطلقة من هذا الأمر، وأنه قد كان منه رغبة، وهمّ، ولكن الله عصمه وسلّمه.. وهذا الحديث إذا كان من يوسف، فإنه يكون بينه وبين نفسه، معلّقا به على مجرى الأحداث من حوله.. قوله تعالى: «وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي.. فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ» .. أستخلصه لنفسى: أي أجعله خالصا لى، أصطفيه، وأستأثر به. وهكذا يخرج يوسف من السجن إلى حيث يجلس مجلس الإمارة والسلطان، فيكون من خاصة الملك، المقربين إليه، المشاركين له فى الحكم والسلطان..! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4 - «فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ» .. الهاء فى «كلّمه» يجوز أن يعود إلى الملك.. أي فلما كلم الملك يوسف. وهنا يكون كلام محذوف، تقديره، فلماء جاء يوسف كلمه الملك قائلا: «إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ» أي موضع الثقة والائتمان.. ويجوز أن يكون هذا الضمير عائدا إلى يوسف، بمعنى فلما جاء يوسف وكلم الملك، ورأى فى حديثه معه عقلا راجحا، ورأيا سديدا، قال له: «إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ..» «قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» . خزائن الأرض: ما تخرجه الأرض من ثمار الفاكهة والحبّ.. وسمّى ذلك خزائن الأرض، لأنها تخزنه فى كيانها إلى أن يظهره الجهد الإنسانى، ويكشف عنه، بالغرس، والسقي، وغير هذا، مما يحتاج إليه الزرع كى ينمو ويثمر.. لقد طلب يوسف أن يتولى بنفسه الوظيفة التي يحسن القيام بها، والتي كشف عن مضمونها فى تأويل رؤيا الملك.. فهو يريد أن يحقق هذا التأويل الذي تأوله، وأن ينفّذه على الصورة التي تأولها عليه.. إنه هو الطبيب الذي كشف عن الداء، وليس أحد أولى منه بمعالجة هذا الداء والطبّ له، والإشراف على المريض، حتى تزول العلة، ويذهب الداء.. - وفى قوله تعالى: «إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» إشارة إلى الصفات التي تؤهله لهذا الأمر الذي ندب نفسه له، والتي بغيرها لا يتحقق النجاح، ولا يؤمن الزلل والعثار.. وأبرز تلك الصفات هنا صفتان.. هما: الحفظ، والعلم.. والحفظ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 هو الضبط، والحزم فى تنفيذ الخطّة التي رسمها العلم. فهو بعلمه قد كشف عن الداء، وعرف الدواء، وبحزمه وضبطه قادر على أن يحمل المريض على التزام ما يرسمه له من أسلوب الحياة، وما يقدّم إليه من دواء، وإن كان مرّا.. فالمشكلة التي تواجه مصر فى هذا الوقت كانت محتاجة إلى الحزم الصارم، وأخذ الناس على طريق مرسوم لا يحيدون عنه، وإلا كان الهلاك والبلاء! .. إن مصر يومئذ كانت تستقبل سبع سنوات من الخصب والخير، ثم تستقبل بعدها سبع سنين من الجدب والقحط.. فإذا لم تعمل من يومها حسابا لغدها، وإذا لم تستبق من سنوات الخصب ما يسدّ حاجتها فى سنوات الجدب، كان فى ذلك البلاء الشامل، الذي يأتى على كل حياة فيها.. وأمر كهذا لا بد أن يكون الحزم والضبط أول خطة يختطها ولىّ الأمر مع الناس، ويأخذهم بها، وإلا فإن الناس قد ينسون فى يومهم ما هم فى حاجة إليه لغدهم، إذ النفس مولعة بحبّ العاجل، لا تلتفت كثيرا إلى المستقبل وتوقعانه، وفى ذلك ضياع لهم، حين تقع الواقعة بهم، ولم يكونوا قد أخذوا عدّتهم لها. ومن أجل هذا، قدّم الحفظ على العلم: «إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» . فالصفتان، وإن كانتا مطلوبتين لمواجهة هذا الأمر هنا، إلا أن الحفظ أولى، وأهم من العلم.. إذ قد يستغنى الحفظ هنا عن العلم، ويتحقق للناس بعض الخير، أو كثير منه.. على حين أنه لو استغنى العلم عن الحفظ لما تحقق للناس، فى هذه الحال، خير أبدا، ولكان العلم مجرد حقائق مرسومة فى كلمات، أو مودعة فى كتاب.. فإذا اجتمع الحفظ والعلم، اجتمع الخير كلّه. وفى القرآن الكريم موقف شبيه بهذا الموقف، فيما كان بين «موسى» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 و «شعيب» عليهما السلام، حين دعت ابنة شعيب أباها إلى أن يستأجر موسى ويستعمله فى تدبير شؤونه.. إذ قالت: «يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ.. إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ» .. فوصفت «موسى» بالصفتين المطلوبتين فى الأمر الذي هو مطلوب له، وهو القيام على رعى أغنام شعيب، ورعايتها، وتثميرها، وهذا أمر يحتاج إلى يد قوية عاملة، ترتاد مواقع العشب، والماء، دون أن يدفعها عنها أحد.. كما أنه يحتاج إلى «الأمين» الذي يرعى هذه الأمانة التي فى يديه، وأن يعطيها من جهده، وإخلاصه، ما يعطيه لما هو فى ملكه وخاصة شئونه.. وهكذا، توضع الأمور فى نصابها، حين يوضع الرجال فى أماكنهم المناسبة لهم.. فلكلّ عمل أهله الذين يحسنونه، فإذا قام على العمل من لا يحسنه، أفسده، وأضاع الثمرة المرجوّة منه. «وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» . مكنّا: من التمكين، أي مكّنا له، وثبّتنا مكانه ووثقنا أمره. يتبوأ: ينزل، ويحلّ. والمعنى: أنه بهذا التدبير الذي كان من الله، أصبح يوسف ممكّنا فى الأرض، ذا سلطان فيها، يفعل ما يشاء، ويمضى ما يريد، غير واقع تحت سلطان أحد.. وأنه لا خوف من مثل هذا السلطان المطلق، الذي قام عليه حارسان لا يغفلان، هما الحفظ للأمانة، والعلم بمواقع الخير للناس. - وفى قوله تعالى: «نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ» إشارة إلى أن هذا فضل من فضل الله على هذا العبد من عباده، ساقه الله سبحانه وتعالى إليه من غير الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 عمل منه.. هكذا مواقع رحمة الله، تنزل حيث يشاء الله، كما اقتضت حكمته فى خلقه: «وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ» . - وفى قوله سبحانه: «وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» .. إشارة إلى أن المحسنين لا يفوتهم جزاء إحسانهم أبدا.. وإذن فالنّاس جميعا فى مواقع رحمة الله.. ولكنهم- مع هذا- صنفان: صنف محسن، يعمل الصالحات، ويغرس فى مغارس الخير، وهؤلاء قد وقع أجرهم على الله.. يجزون جزاء ما يعملون.. «إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا..» (30: الكهف) .. وصنف آخر.. يفضل الله سبحانه وتعالى عليهم، من غير عمل، فيرزقهم ويوسّع لهم فى الرزق، ويكثّر لهم من المال والبنين.. وهذا هو واقع الناس فى الحياة: عاملون لا يفوتهم أبدا ثمرة ما عملوا وأحسنوا.. وغير عاملين، قد يصيبهم الله سبحانه وتعالى برحمته، وقد يحرمهم! وإذن فالعمل، وإحسان هذا العمل، مطلوب من كل إنسان كى يضمن الجزاء الحسن عليه.. فإنه لا يفوته هذا الجزاء أبدا.. أما من لا يعمل، ولا يحسن العمل، فهو بين الإعطاء والحرمان.. فإن أعطى فذلك فضل من فضل الله، ورحمة من رحمته، وإن يحرم فعن غير ظلم، أو بخس.. قوله تعالى: «وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ» . أي أنه إذا كان للنّاس أجرهم فى الدنيا، وجزاؤهم بما يعملون فيها، فإن جر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون.. فإنهم يوفّون أجرهم مرتين.. فى الدنيا، ثم فى الآخرة.. وأجر الآخرة أكبر وأكرم وأهنأ.. أما غير المؤمنين، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 فإنهم لا أجر لهم فى الآخرة، إذ قد استوفوا أجرهم كله فى الدنيا، التي عملوا لها، ولم يعملوا للآخرة شيئا، لأنهم لا يؤمنون بها. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15: هود) .. وإليه يشير قوله تعالى أيضا: «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً» (18- 20: الإسراء) . الآيات: (58- 62) [سورة يوسف (12) : الآيات 58 الى 62] وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) . التفسير: ومضى الزّمن يطوى الأيام والسنين، ووقعت مجاعة فى أرض كنعان التي كان يعيش فيها يعقوب وأبناؤه.. وكانت مصر قد أخذت لمثل هذه الحال أهبتها، منذ صار أمرها إلى يد يوسف، فبعث يعقوب بنيه إلى مصر ببضاعة يبيعونها فى مصر، ويشترون بثمنها حاجتهم من الطعام.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 9 «وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ» . وفى كلمة «جاء» مع حرف الواو قبلها، ما يشعر بطول الزمن وامتداده، بين فراق يوسف لأهله، واتجاههم إليه فى هذه الرحلة، كما يشعر بطول الرحلة التي قطعوها من كنعان إلى مصر.. «فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ» .. لقد عرفهم ولم يعرفوه، لأنه كان صغيرا يوم ألقوا به فى غيابة الجبّ.. وقد كبر، فتغيرت ملامحه، كما أنّه كان فى حال من الأبهة والسلطان، وما يحفّ به من خدم وحرس، وما يتزيّا به من حلل، وما يتوّج به رأسه من حلى وجواهر- كل ذلك كان مما يخفى على أقرب المقربين إليه من أهله أمره، حتى لو كان عهده به فى كنعان يوما أو بعض يوم! فكيف وقد مضت سنون؟ وكيف وليس فى تصور إخوته ولا فى خيالهم أن يكون يوسف فى مصر، أو أن يكون له هذا السلطان الذي كان عهد الناس به يومذاك، إنه ميراث، ينتقل من الآباء إلى الأبناء..! «وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ» . ولمّا جهزهم بجهازهم: أي حين أعطاهم الكيل الذي يكال لهم ببضاعتهم التي معهم. خير المنزلين: أي خير من يكرم النازلين به، ويحفظهم فى أنفسهم وأموالهم، بما يوفر لهم من أسباب الأمن والراحة. وليس هذا المطلب الذي طلبه يوسف من إخوته قد وقع ابتداء، بل لا بد أن يكون قد جرت بينه وبينهم أحاديث، أراهم منها أنه يجهلهم، كى يتمّ التدبير الذي دبره، وهو أن يحضروا أخاهم من أبيهم، وقد عرف من هذه الأحاديث الجزء: 7 ¦ الصفحة: 10 أنهم إخوة لأب، وأنهم كانوا اثنى عشر أخا، تخلّف أحدهم، وهو أخوهم من أبيهم، وفقد الأخ الآخر صغيرا.. فهم الآن أحد عشر أخا.. عشرة عنده، وواحد عند أبيه! ولأمر ما طلب يوسف أن يأتوه فى المرّة الثانية بهذا الأخ الذي خلّفوه وراءهم، ليأخذ حظه من الكيل مثلهم، وقد أغراهم بهذا، بقوله: «أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ؟» أي ألا ترون أنى أعطى كل ذى حق حقّه، ولا أبخس الناس أشياءهم، وأنى أنزلهم منازلهم، وأوفر لهم أسباب الأمن والراحة؟ .. ثم تهدّدهم بعد هذا بقوله: «فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ» .. أي إن لم تأتونى بأخيكم هذا، فلا كيل لكم عندى، أي لا أكيل لكم شيئا بعد هذا، إذا جئتم تطلبون كيلا جديدا.. «قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ» .. سنراود عنه أباه: أي سنحتال عليه فى طلبه، ونترفق به فى هذا الطلب، والمراودة استدعاء للإرادة، واسترضاء لها بقبول ما يراد.. ولقد فهم «يوسف» من هذا أنّهم على خوف وإشفاق أن يطلبوا من أبيهم هذا الطلب الذي يبدو غريبا، لا مسوّغ له، كما أدركوا هم أن يوسف يشكّ فى قولهم هذا: «سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ» وأنهم إنما قالوا هذا القول عن يأس من تحققه، فأكّدوا له ذلك بقولهم «وَإِنَّا لَفاعِلُونَ» .. أي لقادرون على أن نحمل أبانا، بحسن حيلتنا، على أن يجيبنا إلى هذا الطلب «وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 11 فتيانه: خدمه.. وبضاعتهم: ما كانوا قد حملوه معهم من أرضهم إلى مصر، ليبتاعوا به طعاما.. لقد صنع يوسف مع إخوته صنيعا آخر، يغريهم بالعودة إليه، ومعهم أخوهم لأبيهم الذي طلبه منهم.. فأمر غلمانه أن يدسّوا البضاعة التي كانوا قد جاءوا بها بين أمتعتهم، فى الكيل الذي كاله لهم، فإنهم إذا عادوا إلى أهلهم ورأوا البضاعة التي ظنوا أنهم باعوها لا تزال بين أيديهم- وجدوا فى ذلك داعية لهم إلى أن يعودوا إلى «يوسف» ليردّوا له هذه البضاعة التي أصبحت وليست من حقّهم، بل هى للعزيز الذي أعطاهم بها هذا المتاع الذي عادوا به. - وفى قوله «لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها» أي لعلهم يتحققون من أنها هى بضاعتهم وليست بضاعة قوم آخرين غيرهم، ممن كان قد اختلط بهم من الوافدين على مصر، يمتارون كما امتاروا هم.. وإذن فهى من حق العزيز، ومن واجبهم أن يعودوا بها إليه.. لأنها ثمن ما اشتروه منه، وهذا ما يشير إليه قوله: «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» .. أي لعلهم بهذا الإحساس يجدون الدافع الذي يدفعهم إلى المجيء إلى مصر مرة أخرى، ليردّوا الأمانة إلى أهلها، فإن لم يكن بهم حاجة إلى الميرة والطعام، دفعهم دينهم الذي يعرفه فيهم، أن يعودوا بهذه البضاعة التي ليست لهم! الآيات: (63- 67) [سورة يوسف (12) : الآيات 63 الى 67] فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 12 التفسير: «فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» . هكذا دخلوا على أبيهم بهذا الحديث: «مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ» ! أفبعد هذا الانتظار الطويل، ومعاناة الصبر على الجوع والحرمان، انتظارا لهذا الخير الذي يجىء من مصر- أبعد هذا يطلعون على أبيهم بهذا الخبر المزعج: «مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ!!» ثم ما العلاقة بين أن يمنع منهم الكيل وبين طلبهم أن يرسل معهم أخاهم كى يكتالوا؟ ما شأن الأخ بهذا؟ وهل هو بضاعة يشترى بها من مصر ما يكال؟ ذلك شىء عجيب! ثم كيف يقولون: «وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» ؟ وكيف يحفظونه، وهم يركبون هذه الطرق التي لا يأتى منها خير؟ لقد ذهبوا إلى مصر، واحتملوا هذا العناء الشديد.. ثم عادوا من غير أن يحصلوا على شىء.. فكيف كان هذا؟ وما لأحوال هذه الدنيا قد تبدّلت وتحولت، حتى لا يكون بيع أو شراء إلا بهذه التحكمات التي لا مفهوم لها؟ لا شك أن يعقوب قد لقى هذا الطلب الذي طلبه أبناؤه منه- لقيه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 13 بتساؤلات كثيرة، أطلعته منهم على ما كان بينهم وبين العزيز حتى لقد عادوا دون أن يكال لهم كما يكال للناس! وهنا ينكشف ليعقوب ما أخفاه عنه أبناؤه لأمر ما.. لقد كال لهم العزيز، وعاد كل منهم ومعه حمل بعير..! وإذن فماذا أرادوا بقولهم: «يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ» ؟ إنهم أرادوا أن يحققوا بذلك أمورا.. منها: أولا: الاستيلاء على عواطف أبيهم، وذلك بمواجهته بهذا الخبر الذي يبعث فيه الهمّ والقلق.. ثم لقائه فجأة بهذا الخبر الهنيء المسعد.. إنهم قد اكتالوا، وجاء كل منهم بحمل بعير.. ولكنهم منعوا مستقبلا من أن يكال لهم، حتى يكون معهم أخوهم من أبيهم!! وثانيا: فى الحديث عن منع الكيل فى المستقبل إلا بتحقيق هذا الشرط، إغراء لأبيهم بالمبادرة إلى إجابة طلبهم حتى يسرعوا بالعودة إلى مصر، ليأخذوا دورهم من الميرة قبل أن تنفد! وها هو ذا يعقوب لا يزال واقعا تحت تأثير الصدمة التي صدم بها حين سمع قولهم: «يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ» .. وإنه الآن لحريص على ألا تفوته الفرصة المواتية لجلب الميرة، مهما كان الثمن غاليا!! وهكذا أصاب قولهم: «يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ» - أصاب من أبيهم ما أرادوا من تخويفه بالمستقبل، إن لم يبادر ببعثهم إلى مصر مرة أخرى ليكتالوا، وأن يذلل كل صعب لإنفاذ هذا الأمر.. فهم صادقون فى قولهم: «مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ» لأنه منع منهم مستقبلا إن لم يجيئوا معهم بأخيهم من أبيهم، كما قال لهم يوسف: «ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ» .. وكما قال: «فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ» .. ولكن هذا الخبر حين ألقوه إلى أبيهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 14 لم يحمله على المستقبل، بل حمله على الحال التي كان يعيش فيها. ويتوقع الخير الذي يحمله أبناؤه العائدون من مصر.. عندئذ يلقى يعقوب أبناءه بقوله، الذي حكاه القرآن الكريم عنه: «قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ.. فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» . لقد تمثّل له فى هذا الموقف ما كان منهم من إلحاح عليه فى طلب يوسف، ليرتع ويلعب معهم، كما يقولون، ثم جاءوا إليه عشاء يبكون، قائلين: «يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ» ! لقد تمثل له هذا الموقف، فرأى فيما يطلبه أبناؤه منه الآن صورة مشابهة تماما له، وأن الذي دبّروه ليوسف ليس ببعيد أن يدبّر مثله لأخيه! - ففى قوله: «هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ؟» - اتهام لهم بالكيد ليوسف أولا، ثم السير فى طريق الكيد لأخيه.. ثانيا.. ثم هو- مع هذا الاتهام- ينكر عليهم أن يعودوا فيكرروا فعلهم المنكر الذي فعلوه بيوسف فيفعلوه بأخيه.! - وفى قوله: «فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» .. هو عزاء له، يعزّى به نفسه فى حزنه على يوسف، وذلك بتسليم الأمر لله سبحانه، والاستسلام لقدره، والرضا بمقدوره. وأنه سبحانه لو أراد حفظ يوسف لحفظه، فهو خير الحافظين، لا يقع شىء فى هذا الوجود إلا بأمره.. «وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» .. فما ينزل بالناس من مكروه، هو واقع بهم من ربّ رحيم، فهو رحمة بالنسبة لما هو أقسى منه وأوجع! قوله تعالى: «وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 15 يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ» . لقد كان الحديث الذي جرى بينهم وبين أبيهم أول شىء استقبلوه به، وذلك لأن العيون كانت متطلعة إلى ما يحملون معهم من زاد وميرة.. فكان جوابهم لهذه العيون المتطلعة قولهم: «مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ» ! ثم كان جوابهم عن التساؤلات الكثيرة حول أسباب هذا المنع، قولهم: «فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ» .. ثم كان قولهم: «وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» تزكية لهذا الطلب. ثم بعد هذا نظروا فى أمتعتهم التي معهم، فوجدوا أن البضاعة التي كانوا قد حملوها معهم إلى مصر، والتي اعتقدوا أنها قد أصبحت فى يد العزيز، مقابل الكيل الذي كاله لهم- وجدوا أن هذه البضاعة قد ردّت إليهم: «وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ» - فعجبوا لهذا، وحسبوا أن فى الأمر خطأ، أو أن العزيز ربّما بدا له ألا يأخذ منهم ثمنا لهذا الكيل الذي كاله لهم، انتظارا لعودتهم إليه فى المرة الثانية.. - «قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي» أي ماذا نريد؟ هذه بضاعتنا ردّت إلينا، فماذا نفعل بها؟ وكيف نصبر على ما نحن عليه من حاجة إلى الطعام؟ إنها بضاعة قد أعددناها لنشترى بها طعاما، وها هى ذى لا تزال فى أيدينا، وإنه لا سبيل إلى الانتفاع بها إلا إذا عدنا بها إلى مصر مرة أخرى، وجلبنا بها الطعام الذي نريد.! وفى قولهم: «وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ» الواو هنا للعطف على محذوف تقديره.. إذ كان ذلك كذلك، نعود إلى مصر ونمير أهلنا، أي نتزوّد لهم بالميرة، وهى الطعام، ونحفظ أخانا الذي سنأخذه معنا، والذي بغيره لا يكال لنا، ونزداد به كيل بعير، إذ سيكون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 16 لكل منّا حمل بعير.. «ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ» أي أن العزيز لا يعطى طالب الميرة إلا فى حدود مقدّرة لكل فرد مهما كانت قيمة البضاعة التي يحملها معه! إنه لا يأخذ أكثر من حمل بعير! وانظر كيف استدعوا أخاهم من أبيهم بهذا الأسلوب اللّبق الحكيم: «وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ» .. لقد جعلوه طلبا ثانيا بعد الطلب الأول، وهو الميرة، وشدّوه إليه، بحيث لا تكون الميرة إلّا به.. فهم لم يقولوا: ونأخذ أخانا، بل قالوا: «وَنَحْفَظُ أَخانا» .. كأن أخذه أمر مفروغ منه، لا مراجعة لأبيهم فيه.. فقد سلم به لهم حكما إن لم يكن قد سلم به واقعا.. ثم جاء قولهم «وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ» إغراء لأبيهم بالتسليم لهذا الأمر الذي لا بد منه، ففيه جلب الخير لهم، وهم فى وجه هذا العسر والضيق!. وانظر إلى روعة النظم القرآنى فى تصويره لهذا الإغراء العجيب الذي جاء محمولا إلى يعقوب فى قولهم «هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ» . فهذه الواوات المتتابعة التي تجمع تلك المتعاطفات، وتقرن بعضها إلى بعض- تمثّل أروع ما يمكن أن يبلغه فنّ العرض لمجموعة من فريد اللآلئ وكريم الجواهر، تحركها يد صناع، فتجىء بها واحدة إثر أخرى، حتى لكأنها أنغام موسيقية، تؤلف لحنا! وفى اختيار حرف «الواو» من بين حروف العطف، وفى تكراره، دون مغايرة- فى هذا ما يزاوج بين هذه المتعاطفات، ويؤاخى بينها، بحيث تبدو متجمعة، وهى متفرقة- لما فى حرف «الواو» من رخاوة، ولين، حيث تصبح هذه المتعاطفات على هذا النسق، كيانا واحدا لا يمكن الفصل بين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 17 أجزائه.. «وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ» .. إنها أمر واحد وطلب واحد! «قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ.. فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ» . لم يجد يعقوب بدّا من التسليم بالأمر الواقع، بعد أن أخذ عليه أبناؤه كل سبيل، للتخلص من هذا الطلب الذي طلبوه.. وإنه لكى يقيم لنفسه عذرا بين يدى تلك المخاوف التي يتخوفها على ابنه هذا، دفعهم عنه بقوله: «لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ» ! هكذا بدأهم بهذا الحكم القاطع. كما بدءوه هم بقولهم: «مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ» ..! ثم جاءهم مستثنيا هذا الحكم بقوله: «حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ» .. أي إننى لن أرسله معكم حتى توثقوا معى عهدا وميثاقا تشهدون الله عليه، أن تعيدوه إلىّ، إلا إذا أحاط بكم مكروه، فغلبكم عليه.. فذلك مما لا حيلة لكم فيه.. وفى قوله: «إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ» ما يكشف عن شعور يعقوب، وأنه يتوقع مكروها يقع لابنه هذا.. تماما، كما كان ذلك شعوره حين طلب إليه أبناؤه أن يرسل يوسف معهم، فقال: «إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ» .. وقد صدق شعوره فى كلا الحالين.. فكان للذئب قصة مع يوسف، وكان للأحداث قصة مع أخيه! - «فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ» . لقد تم الأمر إذن، وأعطى الأبناء موثقهم لأبيهم، ورضى الأب، بعد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 18 أن جعل الله وكيلا وشهيدا على ما كان بينه وبينهم.. «وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ» . وحين تحركت القافلة للسير إلى مصر، بأبناء يعقوب، ومعهم أخوهم المطلوب لعزيز مصر، نصح لهم أبوهم فيما نصح بقوله: يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ» ! والسؤال هنا: ما حكمة هذا النصح الذي نصح لهم به؟ وماذا يكون لو دخلوا مصر من باب واحد؟ .. لعل أظهر ما فى هذه النصيحة من حكمة هى ألا يلفتوا الأنظار إليهم، بهذا الموكب الذي ينتظم أحد عشر أخا.. فى سمت واحد، من الجمال والجلال.. فذلك من شأنه أن يدير الرءوس إليهم، وأن تدور الأحاديث عنهم، وتختلف الآراء فيهم، وليس ببعيد أن يكاد لهم من أكثر من جهة: من النساء والرجال، أو من تجار مثلهم، أو من حاشية العزيز نفسه، وقد رأت الحاشية ما كان من العزيز من تلطفه بهم، ومن كيله لهم دون أن يأخذ منهم شيئا.. فما أكثر دوافع الحسد والغيرة فى قلوب الناس، وما أكثر ما فى قلوب الناس من حسد وغيرة حول السلطان وحاشية السلطان! وأيا كان الأمر، فإنه شعور الأب الذي يتخوف على أبنائه نسمات الريح حين تهب عليهم، فكيف وهم على سفر طويل، وفى يد غربة موحشة قاسية؟ ثم كيف وقد كانت فجيعته فى يوسف لا تزال تفرى كبده!؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 19 - وفى قوله تعالى: «وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ» إشارة إلى أن هذا النصح الذي نصح لهم به، لا يردّ عنهم قضاء الله، ولا يدفع القدر المقدور لهم «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» ، فهو سبحانه الذي يحكم فى عباده كما يشاء، لا رادّ لحكمه، ولا معقب لقضائه «عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ» أي فوضت أمرى إليه، وأسلمت مقودى له «وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ» أي عليه وحده ينبغى أن يكون معتمد كل معتمد، ومستند كل مستند.. أما ما سواه فلا معوّل عليه، ولا رجاء عنده، ولا عون منه. الآيات: (68- 76) [سورة يوسف (12) : الآيات 68 الى 76] وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 20 التفسير: قوله تعالى: «وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ.. إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها» . فاعل الفعل «يغنى» ضمير يعود على المصدر المفهوم من الفعل دخلوا والتقدير: فلما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغنى هذا الدخول عنهم من الله من شىء، فقضاؤه نافذ لا محالة، لا يدفعه عنهم هذا التدبير الذي دبّر لهم من أبيهم!. وفى تقييد الجملة الخبرية: «ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ» - فى تقييدها بظرف الدخول. فى قوله تعالى: «وَلَمَّا دَخَلُوا» إشارة إلى أن قضاء الله كان يترصدهم على تلك الأبواب المتفرقة التي دخلوا منها، كما أمرهم أبوهم، وأن ما كان يحذره أبوهم عليهم، وصرفهم عنه إلى حيث قدر لهم الأمن السلامة- هو الذي دفع بهم إلى حيث جرى القدر المقدور لهم، كما ستكشف عنه الأيام بعد.. فسبحان عالم الغيب والشهادة، ومن بيده ملكوت السموات والأرض. لمحة من القضاء والقدر - وفى قوله تعالى: «إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها» إشارة إلى أن يعقوب، يعلم هذا حقّ العلم، وأن نصحه لأبنائه، وتحذيره إياهم أن يدخلوا من باب واحد، وأمرهم بأن يدخلوا من أبواب متفرقة- ما كان يغنى عنهم من أمر الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 21 وقضائه شيئا، وهذا ما أشار إليه يعقوب بقوله: «وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» .. ولكنّها حاجة فى نفس يعقوب قضاها، وكان واجبا عليه أن يقضى هذه الحاجة، كما كشف عنها تقديره، وتدبيره.. ذلك أن واجبا على الإنسان أن يدبّر نفسه، وأن ينظر فى شئونه وأحواله، وأن يزنها بالميزان الذي ترجح فيه كفة خيرها على شرها، حسب تقديره وتدبيره، ثم يمضى أمره ذلك على الوجه الذي قدره.. أما ما قدّره الله سبحانه وتعالى فهو محجوب عنه، لا ينكشف له حتى يقع. وهو واقع لا شكّ على ما قدّره الله سبحانه وقضى به.. سواء اتفق مع تقديره هو أم اختلف.. فالإنسان مطالب بأن يعمل، غير ناظر إلى قدر الله وقضائه، لأنه لا يعلم ولا يرى، ما قدّره الله وقضاه، ولو أنّه انتظر حتى ينكشف له القضاء، ما عمل شيئا أبدا حتى يقع القضاء، وينفذ القدر، حيث لا يكون له فى هذا سعى واجتهاد، ولكان بهذا كائنا مسلوب الإرادة، فاقد الإدراك! وهذا ما لا ينبغى أن يكون عليه الإنسان، وقد وهبه الله عقلا، وأودع فيه إرادة..! وسنعرض لموضوع القضاء والقدر، عند تفسير قوله تعالى: «أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ» (79: الكهف) - فى هذا اللقاء المثير الذي كان بين موسى وبين العبد الصالح.. - وفى قوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ» - إشارة إلى أن يعقوب يعلم هذه الحقيقة، وهى أن قضاء الله نافذ لا مردّ له، ولكنه مطالب بأن يعطى وجوده حقّه، من حيث هو إنسان عاقل مريد.. فهو ذو علم لما علّمه الله سبحانه وتعالى، وهو بهذا العلم يعمل ما يمليه عليه عقله، ويدلّه عليه نظره، متوكلا على الله، مفوضا أمره إليه، راضيا بما يأتى به قضاء الله فيه! «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» هذه الحقيقة.. فهم بين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 22 إنسان يعمل غير ناظر أبدا إلى ما لله من سلطان فيما يعمل.. وبين إنسان لا يعمل شيئا، مستسلما لما يأتى به القدر.. وكلا الطرفين جائر، بعيد عن الطريق السّوىّ المستقيم! قوله تعالى: «وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ، قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» . آوى إليه أخاه. ضمّه إليه، وخلا به، وكان له أشبه بالمأوى الذي يأوى إليه الإنسان، فلا يراه أحد.. لا تبتئس: أي لا تحزن، ولا تضق ذرعا بما سيكون منهم لك، من اتهام وقذف.. وهكذا بدأ يوسف تنفيذ الخطة التي اختطها من قبل، والتي بها حمل إخوته على أن يأتوه بأخيهم من أبيهم هذا، فخلا به يوسف وأنبأه أنّه هو أخوه يوسف، وأنه لن يكشف عن نفسه لإخوته الآن، حتى يضعهم أمام التجربة التي أعدّها لهم، وأن على أخيه ألّا يجزع ولا يقع فى نفسه ما يسوؤه منهم، خلال تلك التجربة! «فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ» . السّقاية: القدح الذي يستخدمه الملك لشرابه، ويستقى به.. والعير: الدوابّ التي تستخدم للحمل والركوب. وتبدأ التجربة بأن يأمر يوسف غلمانه بأن يدسّوا القدح الذي يستخدمه لشرابه فى رحل أخيه، ثم ينادى مناديه وراء القوم وقد تحركوا للمسير نحو العودة إلى ديارهم.. وفى المناداة عليهم بقوله: «أَيَّتُهَا الْعِيرُ» بتوجيه النداء إلى عيرهم، دون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 23 المناداة عليهم بقوله: أيها الركب، مثلا- فى هذا دعوة لهم إلى أن يتوقفوا عن السير.. ولما كانت العير هى المنظور إليها عند هذا النداء، لأنها هى المتحركة، فقد حسن مخاطبتها، لأنها هى المطلوبة أولا.. فإذا وقفت كان للمنادين شأنهم مع راكبيها.. ولهذا فإنه ما إن صدر النداء: «أَيَّتُهَا الْعِيرُ» حتى توقفت، وما إن توقفت حتى كان الحديث إلى راكبيها: «إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ» ! «قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ..ماذا تَفْقِدُونَ؟» .. لقد لوى الركب زمام عيرهم عن السير إلى وجهتهم، واستداروا بها نحو من يهتفون بهم، ويلقون إليهم بهذه التهمة الشنعاء: «إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ» ! فقالوا لهم، وقد أقبلوا عليهم: «ماذا تفقدون» ؟ «قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ» . لقد كان الرد بلسان الجميع: «نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ» هذا هو ما سرق وذلك ما نتهمكم بسرقته.! أما رئيس هذا الجمع المنطلق وراء القوم، فإنه يتحدث إليهم بما يملك من سلطان، لا يملكه غيره من جماعته.. فيقول بلسانه هو: «وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ» .. فهو يريد أن يأخذ الأمر بالحسنى، وأن يستردّ الصّواع من آخذه، فى مقابل جعل جعله له، وهو حمل بعير من الطعام، وأنه كفيل وضامن لتحقيق هذا الوعد! «قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ» .. أي لقد علمتم من أمرنا أننا ما جئنا لنحدث فى أرضكم فسادا، وإنّما جئنا تجارا لا سراقا.. «وَما كُنَّا سارِقِينَ» لهذا الصّواع الذي تدّعونه علينا.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 24 «قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ؟ قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ» . إذن فلقد خرج الأمر عن المياسرة والمسالمة، إلى هذا التحدّى.. - «فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ» ؟ أي ما جزاء السّارق إذا كنتم كاذبين فى قولكم «وَما كُنَّا سارِقِينَ» ؟. - «قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ» أي جزاء السارق أن يؤخذ بجرم ما سرق.. - «كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ» أي هذا هو الحكم الذي ندين به من يعتدى، وهو أن نأخذه بعدوانه.. لا نقبل فيه شفاعة، ولا نعفيه من تحمّل تبعة ما جنى! «فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ.. ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ» . لقد جىء بالقوم إلى العزيز نفسه، حتى يكشف عن أمرهم بين يديه، ليظهر إن كانوا سارقين، أم غير سارقين.. فبدأ بالبحث عن الصّواع فى أوعيتهم، أولا، ثم بالبحث عنها فى وعاء أخيه، وذلك مبالغة فى إخفاء، التدبير الذي دبّره لهم.. «ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ» ! والسؤال هنا: لم كان الحديث عن «الصّواع» بضمير المذكر، ثم كان الحديث عنه هنا بضمير المؤنث» ؟ والجواب: أن الضمير المذكر يعود إلى «الصّواع» على اعتبار أنه «شىء» أو متاع ضائع من الملك.. أما الضمير المؤنث فإنه يعود إلى السّقاية، وهى «الصواع» أيضا، ولكن العزيز ذكره باسم السقاية، كما يقول الله تعالى: «فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ» ثم تدور تلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 25 السقاية دورتها وتعود إلى العزيز مرة أخرى «ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ» .. فهو الذي جعلها فى وعاء أخيه، ثم هو الذي استخرجها من وعاء أخيه. قوله تعالى: «كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ» . الكيد التدبير المحكم، وفى نسبة الكيد والتدبير إلى الله سبحانه وتعالى إشارة إلى ألطافه بيوسف، ورعايته وتولّيه له، وأنه سبحانه هو الذي يدبّر هذا التدبير المحكم، وأنه بمثل هذا التدبير الذي دبّره له، بلغ ما بلغ من منازل العزة والسيادة.. وتسمية تدبير الله كيدا، تقريب لمفهومه المتعارف بين الناس، وذلك أنه إذا كان التدبير محكما، تتشعب مسالكه، وتتباعد أسبابه- ثم تلتقى جميعها آخر الأمر، فتقع على الهدف المراد- كان هذا التدبير كيدا، وإلى هذا يشير قوله تعالى: «إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً» (15- 16: الطارق) . قوله تعالى: «ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» أي أنه ما كان يقع فى تقديره أبدا أن يدخل أخاه فى سلطان الملك، فيصبح رجلا من رجال دولته.. ولكن بمشيئة الله وتقديره، كان هذا الذي لم يكن متصوّرا، ووقع ذلك الذي لم يكن متوقعا. قوله تعالى: «نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ» أي بيدنا الملك، فنهب ما نشاء لعبادنا المخلصين من برّ وإحسان، ومن علم ومعرفة!. قوله تعالى: «وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ» إشارة إلى أن ما بلغه يوسف من علم، هو علم قليل، لا يوازن ذرة من علمنا.. وأن هذا العلم الذي معه، والذي بلغ به هذه المكانة فى الناس- هذا العلم فوقه درجات كثيرة من العلم.. وفوق هذه الدرجات درجات.. وهكذا حتى تصبّ جميعها فى محيط العلم الإلهى الذي لا حدود له.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 26 الآيات: (77- 83) [سورة يوسف (12) : الآيات 77 الى 83] قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) التفسير: قوله تعالى: «قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ» . لقد سقط فى أيديهم، وأمسكت التهمة بهم، ووقع أخوهم لأبيهم فى شباكها.. ولم يكن لهم ما يقولونه إزاء هذا الواقع الصريح، إلا أن يلقوا باللأئمة على أخيهم هذا، وأن ينسبوه إلى السوء، وأن ما وقع منه لم يكن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 27 بالمستبعد عنه.. إنه يسلك فى هذا مسلكا كان لأخ له من قبل.. هو يوسف! فهما ينتسبان إلى أم غير أمهم أو أمهاتهم.. ومن هنا كان منهما هذا المنكر الذي لم يعرفه آل يعقوب! وماذا سرق يوسف؟. إنهم لا يزالون يذكرون إيثار أبيهم إياه بحبه وعطفه.. «إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا» . فهل يرون فى هذا سرقة من يوسف لحب أبيهم؟ وهل يرون أن يوسف قد أخذ منهم ما ليس له!؟ إذن.. فهو سارق؟ ربما كان ذلك هو الذي عدوّه سرقة! «فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ، وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ» .. أي تلقى يوسف منهم هذه التهمة، فأسرّها فى نفسه، ولم يسألهم عنها، ولم يكشف لهم عن وجه يوسف الذي ألقوا إليه بهذه التهمة. «قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ» قال ذلك بينه وبين نفسه. أي أنهم كانوا معتدين عليه، ظالمين له.. والله أعلم بهذا الوصف الذي وصفوه به، حين رموه بالسرقة. قوله تعالى: «قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ..» هنا يجيئون إلى يوسف عن طريق الرجاء والاستعطاف، بعد أن جاءوا إليه منكرين متحدّين.. فقد ظهر أنهم سارقون، وهذا المسروق قد وجد فى أمتعتهم! .. - «يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً» فهم لا يستشفعون له، وإنما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 28 يستشفعون لأبيه الذي بلغ من الكبر عتيّا، فلا يحتمل هذه الصدمة التي تصدمه بفقد ابنه هذا.. - «فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ.. إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» فخذ بجريرته أحدنا، ليلقى العقاب الذي ستعاقبه به.. وهذا منك إحسان بأبيه، وإكرام لشيخوخته، وأنت- كما رأينا من أفعالك- محسن، تفيض يداك بالخير والمعروف لكل من يرد عليك. «قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ.. إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ» أي عياذا بالله أن نبرىء مذنبا وندين بريئا، فنأخذ البريء بذنب المسيء.. إن ذلك ظلم، لا يلتقى أبدا مع الإحسان الذي تدعوننى باسمه. «فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ.. فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ» . استيئسوا: وجدوا اليأس، وانتهى أمرهم إليه. خلصوا نجيّا: أي خلصوا إلى بعضهم، وانعزلوا عن أعين الناس، يديرون الحديث بينهم فى سرّ.. وأصل النجوة: المكان المرتفع، حيث يعتصم به، ويلجأ إليه.. بعيدا عن الناس. أي وحين يئس القوم من أن يستردوا أخاهم، وأن يقيموا أحدهم مقامه فى التهمة التي أخذ بها- أخذوا مكانا منعزلا، بعيدا عن الناس، وجعلوا يتدبرون فيه أمرهم، والأسلوب الذي يواجهون به هذا الموقف المتأزم. - «قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ» .. والموثق الذي أخذه أبوهم عليهم هو ما جاء فى قوله تعالى: «قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 29 مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ» .. فكيف تلقون أباكم الآن؟ وكيف تواجهونه بهذا الخبر؟ وهل نسيتم ما كان منكم من يوسف من قبل؟ إنكم إن تكونوا قد نسيتم فإن أباكم لم ينس.. ولقد اتهمكم اتهاما صريحا به، إذ قال: «لقد سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً» ! - «فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ» .. فهذا هو الموقف الذي سيتخذه كبيرهم.. إنه لن يبرح هذه الأرض- أرض مصر- ولن يغادرها، لأنه لا يستطيع أن يلقى أباه، وأن يجد العذر الذي يعتذر به إليه! .. وإنه لمقيم هنا إلى أن يعلم أن أباه قد علم الأمر وتحققه، فغفر له، وأذن له بالعودة.. أو ينتظر حكم الله فيه، وتبرئة ساحته مما حدث.. «ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ» . أي أما أنتم، فعودوا إلى أبيكم، وأخبروه الخبر، كما وقع على مرأى منكم ومسمع.. فذلك أمر قضى الله به، وليس لنا بما قضى الله به حيلة، وقد أعطينا الموثق، ولم نكن ندرى ماوراء الغيب «وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ» ولو كنا ندرى ما وقع لما أعطينا أبانا ما أعطينا من ميثاق. «وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ» .. ثم قولوا لأبيكم: إن كنت لا تصدق ما نقول، فاسأل أهل القرية التي كنا فيها، أي مصر، فإن عزّ عليك ذلك، ولم تجد فى نفسك القدرة على السّفر لترى بعينك ما حدّثناك به، فهناك الركب الذي كان معنا من أبناء كنعان، الذين أقبلوا معنا من مصر بعد أن أخذوا حاجتهم منها كما أخذنا.. هؤلاء هم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 30 قريبون منك فاسألهم.. ثم إننا- قبل هذا، أو بعد هذا- لصادقون، فيما حدثناك به.. وانظر إلى موقفهم هنا، وقد جاءوا إلى أبيهم بالصدق كله، وإلى موقفهم من قبل مع يوسف، وقد جاءوا إلى أبيهم بالكذب كله! إنهم هنا يجدون لكلمة الحقّ مساغا فى أفواههم، وقوة على ألسنتهم.. فيقيمون عليها الأدلة البعيدة والقريبة.. ثم لا يكتفون بهذا، بل يجزمون بصدقهم، ويؤكدونه، وإنهم لهذا فى غنى عن أن يشهد لهم أحد بصدقهم، «وَإِنَّا لَصادِقُونَ» . أما هم هناك، فإنهم قد حملوا شاهد الزور بين أيديهم.. قميصا ملطخا بالدّم الكذب، ودموعا متلصّصة، تتخذ من الليل ستارا تستر به زيفها.. ثم كلمات مستخزية متخاذلة، تمشى على استحياء، فى رعشة واضطراب: «يا أَبانا.. إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ.. وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا.. فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ.. وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ» !! إن هذا القول كان أولى بهم أن يقولوه فى المرة الثانية، وهم صادقون.. إذ كانت منهم فعلة أولى، افتضح فيها أمرهم، ووقع منهم أبوهم على ما فعلوه بيوسف، حين ألقوه فى الجب وادعوا أن الذئب أكله.. فإذا جاءوا اليوم يقولون عن ابنه الآخر، إنه سرق، وإن العزيز قد أخذه رهينة عنده- كان اتهامه لهم بالكذب أقرب شىء يقع فى نفسه.. وكان ظاهر الحال يقضى بأن يقولوا: «ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ» ولكنهم إذ كانوا صادقين حقّا، فإنهم لم يلتفتوا إلى ظاهر الحال، ولم ينظروا إلى وراء، بل واجهوا أباهم بالحق الصّراح الذي بين أيديهم..! فقالوا: «إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 31 عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ .. وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ» .. «قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً» ! هى نفس المواجهة التي واجههم بها، حين جاءوه يلقون إليه بالخبر المفجع فى «يوسف» .. إنهم متهمون عنده فى الحالين.. لأنه كان يتوقع منهم أن يسيئوه فى يوسف، وفى أخيه.. ففى يوسف يقول لهم: «إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ» .. وعن ابنه الآخر يقول لهم: «هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ؟» . وهكذا يأخذهم بحدسه فيهم، وظنّه بهم، وقد صدقه حدسه فى الأولى، وتحقق ظنه فى الثانية، فوقع المكروه فى كلا الحالين. «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ» أي فصبر جميل على هذا المكروه، هو الدواء الذي لا دواء غيره. «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» .. لقد وقع فى نفس يعقوب أن محنته فى بنيه- يوسف، وأخيه، وكبير أبنائه- قاربت أن تزول، وأن بوارق الأمل أخذت تلوح له فى الأفق، وأن إيمانه بربّه، ورجاءه فى رحمته لن يخذلاه أبدا، ولن يسلماه إلا إلى السلامة والعافية.. ولهذا فهو على رجاء بأن الله- سبحانه- سيلطف به، وسيجمع شمله المبدّد، ويعيد إليه أبناءه الذين لعبت بهم يد الأحداث.. «إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 32 الآيات: (84- 87) [سورة يوسف (12) : الآيات 84 الى 87] وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87) التفسير: «وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ» . لقد انصرف يعقوب عن الحديث مع أبنائه فى شأن أخيهم الذي قالوا عنه إنه سرق، وإنه فى يد العزيز بمصر.. وأسلم نفسه إلى ما يعتمل فى كيانه من حسرة وأسى على مصيبته فى يوسف.. إنه قد عرف- على سبيل الظنّ أو اليقين- أن أخا يوسف فى مصر، أما يوسف، فإنه لا يعلم المصير الذي صار إليه.. أحىّ هو أو ميت؟ وإذا كان حيّا فكيف يحيا؟ وأىّ بلاد الله احتوته؟ ذلك هو الذي يزعجه، ويؤرقه! فلو أن يوسف قد مات لكان لحزنه عليه نهاية.. ولكنه يعلم يقينا أن القصّة التي جاء بها إليه أبناؤه فى شأنه، كانت مكذوبة ملفقة، وأن ذئبا لم يأكله.. فهو حىّ ميت.. يطلع عليه فى كل لحظة بهذه الصورة العجيبة، فتهيج لذلك أحزانه، ويشتد كربه، وتسرح به الظنون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 33 فى كل أفق، باحثا عن يوسف.. ثم يعود آخر المطاف ولا شىء معه، إلّا هذه الزّفرات التي تنطلق من صدره، فترسم على لسانه هذا النغم الحزين: «يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ» !! وهكذا تهجم لوعات الأسى والحسرة على هذا الشيخ الكبير، حتى لقد ابيضّت عيناه من الحزن الدفين، الذي أبى على عينيه أن تبللهما قطرات الدموع، وأن تطفئ النار المشتعلة فيهما، حتى أتت على فحمة سوادهما، وأحالته رمادا! «فهو كظيم» أي يكظم حزنه، ويحبسه فى صدره.. وذلك هو الحزن أفدح الحزن، وأشدّه قسوة.. يقول الشاعر «البارودى» : فزعت إلى الدموع فلم تجبنى ... وفقد الدّمع عند الحزن داء وما قصّرت فى جزع ولكن ... إذا غلب الأسى ذهب البكاء «قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ» . ومع هذه الهموم وتلك الأحزان، التي يعالجها الشيخ الضعيف فى نفسه، ويمسكها فى كيانه، فإنه لم يسلم من اللّوم، الذي يزيد من آلامه، ويضاعف من أحزانه.. فإذا غفل عن نفسه لحظة وجرت على لسانه كلمة يهتف فيها بيوسف، تحركت الغيرة فى صدر أبنائه، وسلقوه بألسنة حداد.. إنه لم ينس يوسف، ولن ينساه، وإنه لا يزال يعيش مع ذكراه، منصرفا إليه بوجوده كلّه، غير ملتفت إلى أحد سواه! ومن كلمات العتب واللوم التي يسمعها يعقوب من أبنائه كلما جرى ذكر يوسف على لسانه- قولهم هذا، الذي حكاه القرآن عنهم: «تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ» .. والحرض: الشيء الذي استحالت طبيعته وتغيرت معالمه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 34 والمعنى: أنك لا تزال هكذا فى هذا الوسواس المزعج حتى تفسد وتختلّ، أو تهلك وتموت.. وهو خبر يراد به اللوم والتقريع.. والفعل «تَفْتَؤُا» من أفعال الاستمرار، ولا يستعمل إلا مصحوبا بالنفي، وقد حذف هنا حرف النفي «لا» لدلالة المقام عليه.. أو أن الفعل «تفتأ» ضمّن معنى الفعل «تستمرّ» الذي لا يصحبه النفي، وقد جاء فى قول امرئ القيس: فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسى لديك وأوصالى - جاء الفعل أبرح متضمنا معنى فعل الاستمرار، فلم يصحبه نفى. الَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» . البثّ: الهمّ، والكرب، الذي يغلب صاحبه، فلا يتسع له صدره، فيصرّح به، ويلقيه خارج صدره.. وأصل البثّ الانتشار، يقال: بث الحديث: أي أذاعه ونشره، ومنه قوله تعالى: «يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ» أي المنتشر فى الفضاء. - وفى قوله تعالى: َ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» إشارة إلى أنه إذ يشكو إلى الله ما به فإنما يشكو إلى رب رحيم، يضرع إليه فى الكروب، وتبسط له الأيدى فى الملمات، وتتجه الوجوه إليه فى الشدائد!! ولمن إذا يشكو الموجوعون؟ وإلى من يستصرخ المستصرخون؟ إذا لم يكن بدّ من الشكوى والاستصراخ؟ أهناك غير الله من يرجى لدفع الضر وكشف البلاء؟ إن اللّجأ إلى الله والهتاف به، والشكوى إليه، والتوجع له، هو من دلائل الإيمان به، والثقة فيه، وإظهار العبودية له والافتقار إليه.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 35 وإنها لعبادة أىّ عبادة، تلك الأكفّ الضارعة إلى الله، وهذه الألسنة الشاكية له، وتلك العيون المتطلعة إليه، ترقب العافية منه، وتنتظر مواطر الخير من غيوث رحمته.. ولهذا، فلقد كان مما أمر الله به عباده أن يدعوه دائما.. فى السراء وفى الضرّاء، وأن يكشفوا بين يديه أحوالهم، وهو الذي يعلم سرهم ونجواهم، وأن يجتهدوا فى الطلب، وهو الذي قدّر كل شىء، وكتب لهم ما هو لهم.. ولكن هذا منهم هو عبادة له، وتسبيح بحمده.. وفى هذا يقول سبحانه.. «ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً» (55: الأعراف) .. ويقول سبحانه: «فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً» (90: الأنبياء) . ويقول سبحانه: «وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» (60: غافر) .. ذلك ما يعلمه يعقوب من موقفه من ربه، ومن تضرعه إليه، وشكاته له، إنه يعلم من الله، أي مما لله من صفات الكمال والجلال ما لا يعلمه أبناؤه.. ولو علموا من الله ما علم لما كان منهم هذا اللوم له. «يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ» . ولعلم يعقوب بربّه، وما عنده من رحمة واسعة، وفضل عظيم، فإنه يدعو أبناءه إلى أن يؤمنوا بالله إيمانه به، ويعرفوه معرفته له، ويطمعوا فى فضله ورحمته طمعه فيهما، وأن ينطلقوا هنا وهناك ليتحسسوا من يوسف وأخيه أي ليبحثوا عنهما، ويتنسموا ريحهما، وألا يدخل عليهم شىء من اليأس من روح الله «إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ» الذين لا يعرفون الله، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 36 ولا يقدرونه قدره.. أما المؤمنون فهم أبدا على رجاء من رحمة الله، وعلى ترقب لفضله، وتوقّع لغوثه.. ويوم ينقطع رجاء العبد من ربه، فذلك شاهد على انقطاع الصلة بينه وبينه، وعلى فراغ القلب من أية ذرّة من ذرات الإيمان به! روى أن بعض الصالحين كان يقول: «إن لى إلى الله حاجة أدعوه لها منذ أربعين عاما، ما استجابها لى، ولا يئست من دعائه..» - وفى قوله «فتحسسوا» إشارة إلى البحث المعتمد على التحسس بالمشاعر والحدس، لا على النظر المادىّ، إذ كان الأمر خفيّا، لا يرى الرائي منه شيئا.. إنه فى البحث عنه أشبه بمن يتحسس طريقه فى الظلام الدامس، حيث يبطل عمل العينين، ويكون الاعتماد على الحدس والتظنّي.. وفى تعدية الفعل بحرف الجر من، وهو فعل متعدّ بنفسه، إشارة إلى أنهم يتبعون آثار يوسف وأخيه أثرا أثرا، ويتحسسونها خطوة خطوة.. فحرف الجر «من» دال على التبعيض فى هذا التركيب. وروح الله: نفحات رحمته، وأنسام لطفه، التي بها تستروح النفوس، وتنتعش الأرواح.. الآيات: (88- 92) [سورة يوسف (12) : الآيات 88 الى 92] فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 37 التفسير: كان لا بد لأبناء يعقوب أن يعودوا إلى مصر مرة أخرى، لا للميرة وحدها- إن كانوا يريدون الميرة- ولكن استجابة لدعوة أبيهم لهم، أن يذهبوا فى وجوه الأرض، ليتحسسوا من يوسف وأخيه.. وإذا كانت مصر هى الوجه البارز، الذي عرفوه وخبروه، ثم هى البلد الذي فيه أحد أخويهم المطلوب البحث عنهما، هذا إلى الأخ الأكبر، الذي لا يزال ينتظر فى مصر- إذ كانت مصر كذلك، فقد جعلوا وجهتهم إليها.. وهناك دخلوا على العزيز يستعطفونه، ويعاودون الحديث معه فى شأن أخيهم الذي اتّهم بالسرقة، وأخذه العزيز كسارق.! «قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ» بما أصابنا فى أخينا الذي حبسته عندك، وحرمت والده الشيخ الكبير النظر إليه.. «وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ» أي بضاعتنا التي جئنا بها هى بضاعة متحركة بين أيدينا من الأنعام: من إبل، وغنم وحمير، ونحوها.. يقال: أزجى الشيء يزجيه، أي دفعه وحرّكه.. كما فى قوله تعالى: «رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ» (66: الإسراء) وقوله سبحانه: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ» .. ويجوز أن تكون البضاعة المزجاة، بمعنى الرديئة، التي يدفعها الناس ولا يقبلون عليها، زهدا فيها. - «فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ» أي اجعل الكيل وافيا على ما عودتنا من قبل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 38 والسؤال هنا: كيف يدعونه إلى أن يوفى لهم الكيل، وهم يعلمون أنه لم ينقص الكيل أبدا، كما شاهدوا ذلك بأعينهم، وكما قال هو لهم: «أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ؟» فكيف يدعونه إلى هذا؟ أفلا يكون ذلك اتهاما منهم لعدالته؟ ثم ألا يكون ذلك استثارة لمشاعر النفور منهم والبغضة لهم، وهم فى مقام يطلبون فيه عطفه، ويستميحون معروفه ونائله؟ .. فكيف يتفق هذا وذاك؟ والجواب: أنهم لم يريدوا بقولهم هذا: «فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ» دعوة له أن يعطيهم حقّهم، وألا يبخسهم منه شيئا.. وإنما هم بهذا يطلبون أكثر مما لهم، إذ كانت البضاعة التي بين أيديهم ليست من الأشياء التي يعزّ وجودها فى مصر، وتشتد الرغبة فيها، مما يجلب إليها من مصنوعات البلاد الأخرى.. وإنما كان الذي معهم أشتات من الأنعام، ساقوها بين أيديهم، وهم فى الطريق إلى مصر.. ولخوفهم من أن يردّها العزيز، ولا يقبلها بضاعة يكيل لهم بها، قدّموا لذلك الضرّ الذي مسهم، «يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ» ثم قدموا إليه البضاعة التي معهم، وكأنهم يعتذرون إليه من تقديمها، إذ لم يكن عندهم غيرها «وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ» .. فإذا جاء بعد هذا قولهم: «فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ» كان معناه فاقبلها منا، واجعلها بضاعة غير مبخوسة عندك، واجعل لكل منا حمل بعير، كما عودتنا، فإن لم يكن ذلك فى مقابل هذه البضاعة، فاجعله فضلا منك وإحسانا.. «فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ..» «وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا..» «إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ..» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 39 لقد ألف القوم يوسف، وألفهم، وأخذ منهم وأعطى.. حتى لقد كادوا يسألونه: من أنت؟ وما لك تؤثرنا بقربك، وتختصنا بالحديث إليك؟ وما اهتمامك بأهلنا، وبمن خلّفنا وراءنا حتّى تحملنا على أن نحضر لك أخانا الذي تخلف عنا، ثم ها هو ذا يصبح رهينة بين يديك؟ هذه الأسئلة، وكثير غيرها، كانت تدور بين القوم، ويتناجون بها أفرادا وجماعات.. ثم لا يجدون عليها الجواب الذي يستريحون إليه، حتى جاءهم الخبر اليقين! «قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ؟» وما كاد يوسف يقول هذا لهم حتى أطلّ عليهم الجواب الذي كان تائها فى رءوسهم: «قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ؟» - «قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» . لقد جلس لهم يوسف مجلس الإمارة، وأجلس أخاه إلى جانبه.. ثم استدعاهم إليه، على تلك الحال التي جاءوا بها.. وهم لم يعتادوا من قبل أن يروا أحدا يشاركه مجلسه.. فلما أخبروه بخبرهم، وبالضرّ الذي مسهم ومس أهلهم، وبالبضاعة المزجاة التي قدموها ليكتالوا بها، وطلبوا إليه أن يقبلها منهم، وأن يحسن الكيل لهم بها- لمّا فعلوا ذلك، لم يجبهم إلى شىء من هذا، بل فاجأهم بقوله: «هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ؟» . إنه سؤال العارف المتجاهل.. يريد بسؤاله هذا عتابا لا لوما، واستئناسا لا استيحاشا، واعتذارا لهم قبل أن يعتذروا، إذ أضاف ما فعلوه بيوسف وأخيه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 40 إلى ما كان منهم من جهل، ولو علموا، ما وقعوا فيما فعلوا، فهم معذورون إذ كانوا جاهلين! وهكذا بسط لهم جناح الصفح والمغفرة.. حتى لقد رأوا فى تلك المداعبة والملاطفة وجه الأخوة الحانية. يطلّ عليهم، طاويا تلك السنين التي غبرت!! وتحول الشك عندهم إلى يقين.. فقالوا بصوت واحد: «أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ» ؟ ونعم إنه ليوسف.. يقولونها هكذا بصيغة التوكيد!! «قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي» : ثم أراهم يوسف أن هذا الذي يرونه ولا يكادون يصدّقونه، هو من فضل الله عليه، وأنه سبحانه قد أحسن جزاءه، إذ كان ممن ابتلاهم فصبروا، وممن مكّن لهم فاتّقوا وأحسنوا: «إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» . «قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ» . وماذا يقولون غير هذا؟ وقد فعلوا بيوسف ما فعلوا به صغيرا، ثم ما رموه به بعد سنين طويلة من انقطاع أخباره عنهم.. حين قالوا للعزيز «يوسف» : «إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ» ؟ لقد أدانوا أنفسهم، وأقروا بالخطيئة. فقالوا: «وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ» مؤكدين هذا الإقرار. ومستشهدين له، بهذا الفضل الذي فضله به الله عليهم، واختصه به دونهم: «تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا» . وإنهم لم يرتضوا الحكم الذي حكمه عليهم يوسف بقوله: «إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ» إذ رأوا أن هذا صفح كريم منه، وتسامح أخوىّ لقيهم به.. أما واقع أمرهم فإنهم كانوا خاطئين، بل وغارقين إلى آذانهم فى الخطيئة!! «قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» . وهكذا يأبى عليه فضله وإحسانه، وبرّه بأهله، إلا أن يؤكد الصفح والمغفرة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 41 بل ويطلب لهم من الله الرحمة والغفران «لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ» أي لا لوم عليكم، ولا مذمّة منذ اليوم، فقد بلغ الأمر بي وبكم غايته، وانتهى إلى تلك النهاية المسعدة، التي تستوجب منا جميعا حمد الله وشكره. «يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» ! لقد غفر هو لهم ما كان منهم معه سابقا ولا حقا.. وإن رحمة الله لأوسع وأرحب، فلن يحرمهم الله سبحانه مغفرته ورحمته.. وكيف! «وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» ؟ الآيات: (93- 98) [سورة يوسف (12) : الآيات 93 الى 98] اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) التفسير: وما أن كشف يوسف لأخوته عن وجهه، وأراهم منه الصفح والمغفرة، حتى التفت بوجوده كلّه إلى أبيه الذي أضرّ به الحزن عليه، وعلاه الكبر، ومسّه الوهن والضعف! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 42 «اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ» ! [قميص يوسف.. ما هو؟] وأي قميص هذا الذي أعطاه يوسف إخوته، ودعاهم إلى أن يلقوه على وجه أبيه، فيعيد إليه بصره الذي ذهب؟ تكثر الروايات، حول هذا القميص، حتى لتنسبه إحدى هذه الروايات إلى إبراهيم عليه السلام، وتحدّث بأنه كان قميصا جاء به جبريل من الجنة وألبسه إبراهيم حين ألقى به فى النار، فلم تمسّه بسوء، وكانت بردا وسلاما عليه.. فجعل إبراهيم هذا القميص ميراثا فى ذريته.. أعطاه إسحق، ثم أعطاه إسحق يعقوب، ثم ألبسه يعقوب يوسف، ثم ها هو ذا يدفع به يوسف إلى إخوته ليلقوه على وجه أبيه، فتتشكل منه معجزة تعيد إليه البصر المفقود! ويمكن أن يكون هذا، إذا كان مستنده كتاب الله، أو حديث رسول الله. وأما وليس فى القرآن الكريم، ولا حديث رسول الله الأمين، شاهد لهذا، فإنه من الخير أن يتخفف العقل من هذه الغيبيات القائمة على الرجم بالغيب، وأن يأخذ الأمور على ظاهرها المكشوفة له.. ومن جهة أخرى، فإن القرآن الكريم يحدّث عن القميص الذي كان يلبسه يوسف، حين خرج به إخوته ثم ألقوه فى غيابة الجبّ- هذا القميص قد انتزعه منه إخوته، وجاءوا به إلى أبيهم عشاء يبكون، وقد لطخوه بالدم مدّعين أن الذئب قد أكله، فكيف يكون مع يوسف القميص الذي يردّ فى أصله إلى إبراهيم عليه السلام؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 43 فليكن القميص إذن واحدا من الأقمصة التي كان يلبسها يوسف، والتي علق بها بعض عرقه، فكان فيها ريحه.. أمّا كيف يجد يعقوب ريح يوسف فى هذا القميص، على هذا المدى البعيد، الذي أحد طرفيه مصر، والطرف الآخر فى الشام؟. فهذا السؤال يرد على أي قميص.. سواء أكان القميص الذي يقال إنه قميص إبراهيم أم أي قميص آخر غيره!. والذي علينا أن نصدّقه هو أن يعقوب وجد ريح يوسف، وهو فى مصر، ويعقوب فى الشام!. أما هذه الريح التي وجدها يعقوب، فهى إما أن تكون ريحا شمّها بأنفه على الحقيقة، كما تشمّ أرواح الأشياء، ذات الريح.. وإما أن تكون الريح هذه مشاعر وخواطر، مثّلت له يوسف قريبا منه، مقبلا إليه، أشبه بالطيف الزائر فى المنام، أو الخاطر المسعد فى أحلام اليقظة.. وذلك كلّه من ألطاف الله بيعقوب، ومن إشراقات النفس الصافية، وانطلاقات الروح من كثافة المادة، وقيود الجسد!. ونحن فى حياتنا اليومية كثيرا ما يقع لنا فى أحلام اليقظة شىء مثل هذا أو قريب منه، فنتمثل شخصا لم نره منذ زمن بعيد، فإذا بنا بعد قليل نلتقى به! أو يرد على خاطرنا فيقع كما ورد! .. فكيف بنبىّ كريم من أنبياء الله فى إشراق روحه، وصفاء نفسه؟ وأما كيف كان لهذا القميص أن يعيد إلى يعقوب بصره بمجرد أن ألقى عليه.. فلهذا أكثر من قول يقال هنا.. فلك أن تقول إنه آية من آيات الله، أجراها الله سبحانه وتعالى بين يدى نبيّين كريمين.. يعقوب ويوسف! أو قل هى معجزة جعلها الله سبحانه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 44 ليوسف- عليه السلام- وآذنه بها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان يوسف: «اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً» .. فهو يعلم من الله، ما يحمل هذا القميص فى طياته من أسرار أودعها الله فيه! ولك أن تقول: إن ذلك لم يكن أمرا معجزا، وإنه جاء جاريا على سنن الطبيعة ومألوف الحياة.. وأن الذي ذهب ببصر يعقوب هو شدة الحزن، وأن الذي أعاد إليه بصره الذاهب هو شدة الفرح..! وأن قول يوسف الذي أنبأ به عن ارتداد بصر أبيه إليه بعد أن يلقى القميص على وجهه- هذا القول هو لمحة كاشفة من لمحاته المشرقة، عرف بها تأويل هذا الأمر.. تماما كموقفه من تأويل الأحاديث والأحلام! «وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ» فصلت العير: أي بدأت رحلتها، بعد أن شدّت رحالها، وأصل الفعل يدل على الانفصال عن الشيء.. ومنه الفصيل، وهو ابن الناقة، يفصل عنها بعد أن يستغنى عن لبنها.. ومن ذلك قوله تعالى: «وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً» أي حمله وفطامه.. والعير: الحمير.. وهى جمع، واحدها عير، مثل: سقف وسقف، وأصل العير، عير على وزن فعل، مثل: سقف.. استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فسكنت الياء، وسبقها ضمة، فقلبت الضمة كسرة، لتناسب الياء، فصارت العير، على وزن فعل، مثل حلم. تفنّدون. أي تهزءون وتسخرون بي، وتنسبوننى إلى الخرف، والأفن وضعف الرأى. «قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ» لقد وقع ما كان يحذره، ولم يسلم من تفنيد المفنّدين، ولوم اللائمين، ممن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 45 سمعوا منه هذا القول، من أهله وجيرانه.. ولم يكن فيهم بنوه، الذين كانوا يومئذ ما زالوا فى طريقهم إليه من مصر.. والمراد بالضلال القديم هنا، ما عرف منه من حبّ شديد ليوسف، وتعلق بالغ به، حتى لقد حسب هذا ضلالا عن طريق القصد والاعتدال فى الحبّ.. وفى هذا يقول الله تعالى على لسان أبناء يعقوب: «إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .. فإلى هذا الضلال يشير أولئك الذين قالوا له: «إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ» «فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» ولقد صدّق الله- سبحانه- ظنون يعقوب، فوقع ما توقعه، وجاء البشير بريح يوسف محمّلة فى قميصه، فلما ألقى القميص على وجهه ارتدّ بصيرا، كما تنبأ بذلك يوسف. وفى غمرة هذا الفرح الكبير، لم ينس يعقوب أن يردّ اعتباره عند هؤلاء الذين فنّدوه ورموه بالضلال.. فقال لائما مؤنبا: «أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» ! أي إنّى كنت على رجاء من رحمة ربّى، وعلى طمع فى فضله.. ولهذا لم أيأس من روحه، ولم ينقطع رجائى فى فضله، وأن ألتقى بيوسف الذي حجبته الأقدار عنّى خلال هذا الزمن الطويل؟ - وفى قوله: «أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» إشارة إلى ما سبق أن قاله لهم حين قالوا له: «تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ» فكان ردّه عليهم: ِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» .. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 46 «قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» هو نفس الموقف الذي وقفوه بين يدى يوسف، حين قالوا له: «تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ» .. إنه الاعتراف بالذنب، وطلب الصفح والمغفرة.. ولقد لقيهم يوسف بالصفح والمغفرة، من غير مهل ولا إبطاء، فقال: «لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ.. يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» أما أبوهم يعقوب، فإنه لم يلقهم بهذا الصفح وتلك المغفرة من فوره، بل جعل ذلك وعدا مستقبلا، يجىء على تراخ من الزمن.. «قالَ: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي» .. ولم يقل سأستغفر لكم ربى! وقد أخذ بعض العلماء من هذا الاختلاف بين موقف يوسف من إخوته، وموقف أبيه يعقوب منهم- أخذ من هذا شاهدا على أن الشباب أسمح نفسا بما فى أيديهم، من الشيوخ الذين يغلب عليهم الحرص على كل ما عندهم، ليكون لهم من ذلك قوة تمسك عليهم البقية الباقية من قواهم الواهية.. والذي نذهب إليه لتعليل هذا الاختلاف فى الموقفين، أن يعقوب، فى هذا الموقف أب، وهو بهذا يملك من أبنائه ما لا يملكه الأخ من إخوته.. إنه يملك التأنيب، والتأديب.. أما الأخ فلا يملك من إخوته هذا الذي يملكه منهم أبوهم.. ومن أجل هذا فقد استعمل يعقوب حقّه فى تأنيب بنيه وتأديبهم، فأمسك عنهم صفحه ومغفرته، إلى حين، ولم ير من الحكمة أن يجيبهم إلى طلبهم فى الحال. وأن يخلى مشاعرهم من القلق والهمّ. بل رأى أن يريهم أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 47 هذا الطلب موضع نظره، وأنه سوف يحققه لهم فى الوقت المناسب! وفى هذا ما فيه من درس بالغ فى التربية والتأديب. فقسا ليزدجروا، ومن يك حازما ... فليقس أحيانا على من يرحم أما يوسف، فهو فى مواجهة إخوة له، وهم أكبر منه سنّا.. فلم يكن بدّ من أن يبادرهم بالصفح والمغفرة، بعد أن أخذ بحقّه منهم، وأجراهم هذا الشوط الطويل، حتى كادت تنقطع منهم الأنفاس، فى غدوهم ورواحهم إلى مصر، وإتيانهم بأخيهم من أبيهم، ثم فى هذا التدبير الذي جعل منه يوسف مدخلا لاتهام أخيه بالسرقة، وأخذه بما سرق، ووضع إخوته فى هذا الموقف الحرج! الآيات: (99- 101) [سورة يوسف (12) : الآيات 99 الى 101] فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) التفسير: آوى إليه أبويه: ضمهما إليه، وكان مأوى لهما.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 48 نزغ الشيطان: أي أفسد الشيطان، والنزغ، والزيغ، بمعنى.. «فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ» .. هناك أحداث كثيرة طويت، ولم يجر لها ذكر هنا، إذ لم يكن لها أثر ظاهر فى مضمون القصة.. وها نحن أولاء نرى يعقوب وبنيه فى مصر، بعد أن كانوا منذ لحظة فى أرض كنعان، نراهم فى موقف استغفار واسترضاء من جهة، وموقف تأنيب وتأديب من جهة أخرى.. وها هو ذا يوسف يلقى أبويه وإخوته، ويضمهم إليه، ويفتح لهم الطريق إلى مصر وينزلهم فيها منزل الأمن والسلامة.. «ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ» .. ثم يرفع أبويه على العرش، ويدعوهم جميعا إلى مشاركته مجلس السلطان والحكم، فيدخلون عليه، ويؤدون له تحية الملك والسلطان، وينزلون على حكم العرف السائد فى مصر، عند لقاء الملوك، فيخرّون له ساجدين.. وإذ يشهد يوسف هذا الموقف، تتمثل له فى الحال رؤياه التي رآها فى صغره، والتي عرضها على أبيه قائلا: «يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ» .. وهنا يقول يوسف لأبيه: «يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ.. قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا» أي قد تحققت كما رأيتها فى المنام.. أمي، وأبى، وإخوتى الأحد عشر.. «أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» .. «وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ» .. فمن إحسان الله إلى يوسف أن حقق له هذه الرؤيا، وأن أخرجه من السجن، وأن جمع بينه وبين أهله، فجاء بهم من البدو، وأنزلهم الحضر. - وفى قوله: «إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى إذا أراد شيئا أحكم تدبير الأسباب الموصلة إليه، فجاء بها على غير ما يقدر العباد، ثم أراهم من عواقبها غير ما يتوقعون.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 49 فمن كان يقع فى تقديره أن تلك الأحداث التي بدأت بها قصة يوسف من إلقائه فى الجب، إلى وقوعه فى يد جماعة من التجار، إلى بيعه لرجل من مصر، إلى كيد امرأة العزيز له، وتآمرها مع جماعة النسوة عليه، إلى إلقائه فى السجن بضع سنين- من كان يقع فى تقديره أن هذه الأحداث ينسج من خيوطها عرش، ويصاغ من حصاها تاج، ويولد من تصارعها ملك يجلس على هذا العرش، ويتوّج بهذا التاج؟ إن ذلك لا يكون إلا من تدبير حكيم خبير، يمسك الأسباب بلطفه، فإذا هى طوع مشيئته، ورهن إرادته، فيخرج الحىّ من الميت، ويخرج الميت من الحىّ، ويجعل من المكروه محبوبا، ومن المحبوب مكروها: «وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ.. وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» (216: البقرة) : «فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً» (19: النساء) - وفى قوله: «إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» إشارة إلى أن لطف الله سبحانه وتعالى، وتدبيره المحكم لما يريد، إنما هو عن علم العليم، وحكمة الحكيم، لا يشاركه أحد فى علمه وحكمته، فبعلمه المحيط بكل شىء، تتولد الأسباب والمسببات، وبحكمته البالغة، تقدّر الأمور، وتحكم فى أسبابها.. وذلك هو اللطف فى كماله وتمامه، فلا يقع شىء فى ملك الله إلا كان اللطف سداه ولحمته!. «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ.. فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ» .. بهذه الابتهالات وتلك التسابيح، يستقبل يوسف هذه النعم التي أنعم الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 50 بها عليه.. فيحدّث بنعمة ربّه، ويسبّحه بها، ويحمده عليها، ويستزيده من فضله، بأن يتم تلك النعمة عليه، وأن يتوفاه على دين الإسلام، وأن يلحقه بالصالحين من عباده.. فذلك هو الذي يجعل لتلك النعم مساغا فى فمه، وطعما هنيئا فى حياته!. وإلى هنا تنتهى قصة «يوسف» التي كانت السورة كلها تقريبا معرضا لها، وحديثا عنها.. ويلاحظ أنّ قصّة «يوسف» - على خلاف القصص القرآنى كلّه- جاءت فى معرض واحد، لم يذكر معها غيرها من قصص الأنبياء، ولم تذكر هى فى معرض آخر، ولم يجر عن يوسف حديث فى غير هذه السورة، اللهم إلا أن يذكر اسمه مع جماعة الأنبياء، ذكرا لا يراد منه إلا تعداد أسمائهم، أو مجرد الإشارة إلى قصته، للعبرة والعظة!. ولعلّ الحكمة فى هذا هى أن هذه القصة تعتبر حدثا واحدا، هو رحلة عبر الزمن، للإنسان من مولده إلى مماته، وعلى طريق هذه الرحلة تقوم سدود، وتهبّ أعاصير، ولكن يد اللطف والقدرة تبلغ بهذا الإنسان مأمنه، وتخرجه من تلك التجربة التي عانى فيها الشدائد والأهوال- جوهرا صافيا، وإنسانا عظيما يمسك بكلتا يديه خير الدنيا والآخرة جميعا.. ولو أن هذه القصّة صنع بها ما فى القصص القرآنى، فعرضت فى أكثر من معرض لتمزقت وحدة الشخصية التي هى العمود الفقرى للقصة. ومن جهة أخرى، فإن القصة وقد اصطبغت من أولها بلون الدم ثم كان ختامها الأمن والسلامة- فقد كان مما يتفق وتطلعات النفوس أن تجىء القصّة هكذا كيانا واحدا، يجمع بين بدئها وختامها. ومع هذا، فلو جاء بها القرآن على نسق القصص القرآنية الأخرى، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 51 فعرضها فى أكثر من معرض لما أخلّ ذلك بشىء من مقوماتها.. ولكن هكذا جاء بها القرآن، فكان ذلك شاهدا من شهوده الكثيرة على امتلاكه ناصية البيان، وتمكنه غاية التمكن من فنون القول! فيجىء بالقصة فى معارض مختلفة، فإذا هى كيان واحد، وخلق سوىّ، ينبض بالحياة، ويفيض بالجمال والجلال.. ثم يجىء بالقصة فى معرض واحد، فإذا هى مائدة تجمع شهى الطعام، وتؤلف بين مختلف الطعوم، فإذا الوارد عليها، والطاعم منها آخذ بحظه من كل طعام، متذوق من كل لون.. حتى إذا قارب حدّ الشبع وجد على لسانه حلاوة هذا الختام الذي انتهت به أحداث القصة.. فسبحان من هذا كلامه، و «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً.. قَيِّماً..» الآيات: (102- 107) [سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 107] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 52 التفسير: بدأت السورة بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم. بقوله تعالى: «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ» .. ثم ما كاد النبي- صلوات الله وسلامه عليه- يفتح قلبه لتلقّى ما يوحى إليه من ربّه من قصص، حتى وجد نفسه مع قصة يوسف عليه السلام، فصغا بقلبه، وروحه إليها.. وفى نغم علوىّ، وبيان ربانىّ، جرت أحداث القصة، وترددت أصداؤها فى كيان الرسول الكريم، وانسكب نميرها فى وجدانه، قطرة قطرة، حتى إذا بلغت نهايتها، كان قد ارتوى، وانتعش، ووجد برد الراحة فى هذه الواحة الظليلة التي يستروح فيها أرواح العافية، بعد أن أضناه السير، وأضرت به لفحات السّموم، التي تهب عليه من المشركين، من سفهاء قريش وحمقاها! ففى أفياء هذه الواحة الظليلة، وعلى خطوات هذه الرحلة الطويلة يستعرض الرسول الكريم ما يجرى بينه وبين قومه وأهله، وما يكيدون له من كيد، وما يرمونه من ضرّ، لا لشىء إلّا لأنه يدعوهم إلى الخير، ويمدّ إليهم يده بالهدى- فيرى أن أخا له من أنبياء الله، قد كيد له هذا الكيد العظيم، من إخوته، وطرح به فى مطارح الهلاك، بيد أبناء أبيه، فلطف الله به ونجّاه من تلك الكروب، ثم مكّن له فى الأرض، وبسط يده وسلطانه على هؤلاء الذين مكروا به، وكادوا له! وتلك هى عاقبة الصّابرين المتقين! فليهنأ النبىّ الكريم إذن ولينظر ما يفتح الله له من رحمة، وما يسوق إليه من فضل.. فإن العاقبة له، والخزي والخذلان على الكافرين! وإنه ما يكاد الرسول الكريم يمسك بأطراف هذه القصة، ويردّد النظر فيها، حتى يجد الرفيق الذي يصحبه، ويقيم نظره على تلك القصّة، ويشير له إلى مواقع العبرة والعظة منها.. وإذا كلمات الله تلقاه بهذا الخطاب الذي يلفته إلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 53 ذاته، ويذكّره بأن ذلك الحديث كلّه إنما هو حديث إليه، ومناجاة له من ربّه، يجد فيها ريح العافية، وبرد العزاء. «ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ» .. فهذا الذي سمعته أيها النبىّ من قصة يوسف، هو من أنباء الغيب، التي أوحى الله بها إليك، ليثبّت بها فؤادك، ويربط بها على قلبك! - «وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ» .. أي أن النبىّ الكريم لم يكن بمشهد من هذه الأحداث، حتى يعلمها، ولم يكن يتلو كتابا من قبل، حتى يقع عليها: «ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا» (49: هود) . والذين أجمعوا أمرهم، وهم يمكرون، هم إخوة يوسف، الذين قالوا: «لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ» .. فهذا ما أجمعوا أمرهم عليه، وهذا هو مكرهم الذي مكروه.. ولم يكن النبىّ بمشهد من هذا. «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» - هو عزاء بعد عزاء للنبىّ الكريم، ومواساة له لما يلقى من قومه من كيد ومكر.. فهكذا النّاس، يغلب شرّهم خيرهم، ويطغى سفهاؤهم وجهالهم على العقلاء والراشدين فيهم.. وإنه مهما حرص النبىّ على هداية الناس، ومهما اجتهد فى طلبهم إليه، وشدّهم نحوه فإن أكثرهم على خلاف وإباء! .. فإذا كان فى بيت النبوة وفى سلالات الأنبياء، ينبت مثل هذا الشرّ، ويقع مثل هذا الذي وقع بين يوسف وإخوته- فليس بالمستغرب، ولا من غير المتوقع أن يرى النبىّ فى أهله، وقومه، من يكيدون له، ويبغون الشرّ به! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 54 «وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ» - هو تقريع، وتسفيه، لهؤلاء الحمقى السّفهاء الذين يتنكرون لحملة الهدى إليهم، ودعاة الخير فيهم، وهم لم يطلبوا منهم على ذلك أجرا، ولا يريدون جزاء ولا شكورا.. فلو أن النبىّ الكريم، كان يطلب من قومه أجرا على هذا الذي يقدّمه لهم من خير، لكان لهم وجه فى ردّه والتأبى عليه، وإن كان الذي بين يديه لا يستكثر عليه أي أجر وإن غلا، وأي ثمن وإن عظم.. ولكنه، إذ كان ولا شىء من متاع هذه الدنيا يوفّى ثمنه، أو يؤدى أجره، فقد جعله الله سبحانه- فضلا منه وكرما- رحمة مهداة إلى عباده.. وهل يقدّر لضوء الشمس ثمن؟ أو للروح التي تلبس الأجساد قيمة؟ ذاك من هذا سواء بسواء! «وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ» . وليست هذه الآيات البينات التي يطلع بها الرسول على قومه، ويؤذّن بها فيهم- ليست إلا بعض آيات الله الكثيرة المبثوثة فى هذا الوجود.. فما أكثر تلك الآيات التي بين يدى النّاس، وتحت أبصارهم، لو أنهم نظروا فى هذا الوجود، وفتحوا عقولهم وقلوبهم له.. وإن العاقل ليهتدى إلى الله، ويتعرف إليه، من غير أن يدلّه على ذلك دليل، أو يرشده مرشد، لو أنه أحسن توجيه أجهزته التي أودعها الله فيه، على هذا الوجود الذي حوله، بل على نفسه ذاتها.. «وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ» (21: الذاريات) .. «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ» (5- 7: الطارق) . ولكن- مع هذا ومع ما يعلم الله سبحانه وتعالى من غفلة النّاس عن تلك الآيات الكونية- فإنه- سبحانه- قد بعث فيهم من أنفسهم هداة يهدونهم إلى الحق، ويكشفون لهم معالم الطريق إلى الله، من غير أجر.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 55 فمكروا بآيات الله، وكذبوا رسله.. «إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» (34: إبراهيم) .. «وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ..» وهذا صنف آخر من الناس.. فإنه إذا كان أكثر الناس لا يؤمنون بالله، ولا يستجيبون لدعوة الداعي الذي يدعوهم إليه، فإن كثيرا منهم كذلك يؤمنون بالله، ولكنهم لا يخلصون إيمانهم له، ولا يقيمون هذا الإيمان على وجهه الصحيح.. فهم مؤمنون، وغير مؤمنين.. يؤمنون بالله، وبغير الله، فيجعلون مع الله آلهة أخرى، أو شفعاء يتقربون بهم إليه، مثل مشركى قريش، الذين يقولون عن أصنامهم التي يعبدونها: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» (3: الزمر) .. فهذا شرك بالله، لا يصح معه إيمان مؤمن. «أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» . الغاشية: هى التي تهجم على الناس، وتشتمل عليهم، ولا تستعمل إلا فى مقام الضرّ والأذى.. البغتة: المباغتة والمفاجئة.. والمعنى، أفيأمن هؤلاء المشركون من قريش، الذين كذبوا رسول الله، وآذوه- أفيأمنون أن يأخذهم الله ببأسه، وأن تغشاهم سحابة من عذابه، فتهلكهم كما أهلكت الظالمين قبلهم؟ وإذا أمنوا هذا، أفيأمنون أن تأتيهم الساعة فجأة، وهم غافلون عنها، لم يعملوا حسابا لها؟. ماذا يكون موقفهم يومئذ؟ وهل يلقون إلا الخزي والهوان، والعذاب الأليم؟ .. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 56 والاستفهام هنا إنكارى، إذ ينكر على هؤلاء المشركين، موقفهم هذا، الذين بعدوا به عن طريق الهدى، وركبوا فيه طريق الضلال، فهم- وهذه حالهم- فى معرض الهلاك فى الدنيا، بنقمة من نقم الله تأخذهم بغتة، فإن لم يعجل لهم الله البلاء فى الدنيا ضاعف لهم العذاب فى الآخرة، «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ» . الآيات: (108- 111) [سورة يوسف (12) : الآيات 108 الى 111] قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) . التفسير: بهذه الآيات تختم سورة يوسف.. فيؤذّن النبىّ الكريم فى قومه بقوله تعالى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 57 «قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» . فالسبيل التي استقام عليها النبىّ بأمر ربه، ودعا الناس إلى أن يأخذوا خطوهم عليها وراءه- هذه السبيل، هى سبيله، لا يحيد عنها، ولا يلتفت إلى غيرها.. وإنه ليدعو إلى الله على هدى ونور من ربه، فقد أبصر الحق، واستيقنه، وعرف الخير وطعم منه.. فهو يدعو الناس إليه، ليأخذوا حظهم من فضل ربهم، ولينزلوا منازل رحمته ورضوانه.. فمن اتبع الرسول، فقد عرف هذا الحق، وطعم من ذلك الخير، فكان على هدى وبصيرة.. - قوله «وَسُبْحانَ اللَّهِ» معطوف على مقول القول: «هذِهِ سَبِيلِي» أي قل هذه سبيلى، وقل سبحان الله، أي تنزيها لله عن الأنداد والشركاء.. وقل «وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» الذين يجعلون مع الله آلهة أخرى.. «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى» .. وهذا ردّ على المشركين الذين ينكرون على النبىّ أن يؤذّن فيهم بكلمات الله، وأن يدعوهم إلى الله بما أوحى إليه من ربه.. فقد صورت لهم أوهامهم المضلّة، أن الرسول الذي يبعثه الله، ينبغى أن يكون على غير شاكلة الناس، كأن يكون ملكا من السماء، أو نحو هذا.. ولو أنهم نظروا إلى أبعد من مواقع أقدامهم، والتفتوا إلى ما حولهم، لرأوا أن رسل الله جميعا كانوا من البشر، وكانوا من أقوامهم، وبلسانهم.. «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» (4: إبراهيم) . - وفى قوله تعالى: «مِنْ أَهْلِ الْقُرى» إشارة إلى تلك القرى، التي يرى المشركون من قريش مخلّفات من عمروها قبلهم من عاد وثمود.. وإلى هذه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 58 القرى يشير الله سبحانه وتعالى بقوله: «وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» (27: الأحقاف) .. قوله تعالى: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» .. هو إلفات لمشركى قريش، إلى تلك القرى التي يمرون عليها فى طريقهم إلى الشام مع رحلة الصيف.. فليقفوا قليلا على أطلالها، وليروا كيف كانت عاقبة الذين كذبوا برسل الله.. ولقد كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا، فما عصمتهم قوتهم، من بأس الله إذ جاءهم، وما أغنت عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله من شىء! قوله تعالى: «وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا» .. إنها العبرة التي يستخلصها العقلاء من الوقوف على أطلال هذه القرى الظالم أهلها.. وإنها لتنطق بأن الحياة الدنيا متاع زائل، وزخرف حائل، وأن الدار الآخرة خير وأبقى، للذين اتقوا ربهم، وتزودوا لتلك الدار بالعمل الصالح والتقوى.. وفى قوله: «أَفَلا تَعْقِلُونَ» تقريع وتوبيخ لهؤلاء المشركين الضّالين، الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا! فلقد عطلوا عقولهم، فلم يهتدوا بها إلى خير، ولم يتعرفوا بها على حق.. فخسروا الدنيا والآخرة.. ذلك هو الخسران المبين. «حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ» .. استيئس: واجه اليأس، ووقع فى تصوره أن لا ملجأ، ولا نجاة، وذلك فى لقاء الأحداث، ومصادمة الشدائد.. كذبوا: أي كذب عليهم، إذ لم يتحقق لهم ما وعدوا به إلى أن بلغ بهم الحال إلى هذا اليأس.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 59 - وقوله تعالى: «حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا» .. حتّى حرف غاية لما قبله.. وهنا كلام محذوف هو الغاية التي يشير إليها هذا الحرف.. والتقدير: أن مهمة الرسل هى الوقوف فى وجه هذا الظلام الزاحف، والتصدّى لتلك القوى العاتية من قوى الشرّ والعدوان، وأنهم مطالبون بأن يثبتوا، ويصبروا، ويصابروا. فإن نصر الله آت لا ريب فيه.. وهكذا يظل الرسل فى متلاطم الشدائد والمحن، حتى لقد يدخل اليأس عليهم، وتغيم الحياة فى أعينهم، ويغمّ عليهم طريق النجاة، ويخيل إليهم أن النصر أبعد ما يكون منهم- عندئذ تهب ريح النصر، وتطلع عليهم تباشير الصباح، فتطوى جحافل الظلام، وتطارد فلوله.. وإذا دولة الباطل قد ذهبت، وذهبت آثارها، وإذا راية الحق قد علت، وخفقت أعلامها.. وفى هذا تسلية للنبىّ الكريم، وشحد لعزيمته، وتثبيت لقدمه، وتطمين لقلبه، وتأكيد للوعد الذي وعد به من ربّه فى قوله تعالى: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» (21: المجادلة) هذا، وليس فى استيئاس الرسل، وفى إطافة الظنون بهم، وبأنهم قد كذبوا- ليس فى هذا ما ينقص من قدر الرّسل، أو يشكك فى كمال إيمانهم بربهم، واستيقانهم من صدق وعده.. فهم على يقين راسخ بما وعدهم الله به، ولكن هناك مواقف حادّة من الضيق، وأحوال بالغة من الشدّة، تأخذ على الإنسان تقديره وتدبيره، وتمثّل له الحقائق المحسوسة التي عايشها، ونزلت من عقله منزل اليقين، وقد قلبت أوضاعها، وتبدّلت حقائقها- عندئذ وللحظة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 60 عابرة عبور الطيف، يخون الإنسان يقينه، ويفلت منه زمام أمره.. ثم يعود إلى موقفه، أشدّ تثبتا، وأقوى يقينا، وأرسخ قدما.. إنها سحابة صيف، تغشى وجه الشمس، ثم لا تلبث حتى تزول، وتسفر الشمس عن وجه أبهى بهاء، وأضوأ ضوءا، وأصفى صفاء مما كانت عليه قبل أن تمر بها تلك السحابة العابرة.. فتلك الحال التي تمثل الرسل فى هذا الموقف، هى القمة التي تنتهى عندها طاقة الاحتمال البشرى، فى مصادمة الأحداث، ومدافعة الأهوال والشدائد.. وهى قمة لا يبلغها إلا أولو العزم من رسل الله.. حيث تون الخطوة التالية بعدها انخلاعا من عالم البشر، إلى العالم العلوىّ، وعندها تهبّ ريح النصر، وتجىء أمداد السماء.! وفى هذا ابتلاء للرسل، واستخلاص لكل ما عندهم من مذخور.. من قوى الصبر والعزم والإيمان.. - قوله تعالى: «فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ» - إشارة إلى أن نصر الله الذي يحقق به لرسله ما وعدهم به، يحمل معه من الهلاك والبلاء للقوم المجرمين.. فإن هذا النصر إنما يمشى على جثث أعداء الرسل، الذين حاربوهم هذه الحرب القاسية، ودفعوا بهم إلى تلك المآزق الحرجة، حتى لكادوا يفتنونهم فى دينهم: «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» (32: التوبة) «لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ.. ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» الضمير فى «قصصهم» يعود إلى الرسل المذكورين فى قوله تعالى: «حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ» ففى قصص الرسل، وفى الصراع الذي يدور بينهم وبين السفهاء والضالين من أقوامهم- فى هذا القصص عبرة لأولى الأبصار، وذوى الفطنة والرأى.. حيث ينجلى الموقف دائما عن إظهار دين الله، وإعلاء كلمته، وانتصار الجزء: 7 ¦ الصفحة: 61 رسله ومن اتبعهم من المؤمنين، على حين يقع البلاء والخزي والخذلان بالذين كذبوا رسل الله وآذوهم، وصدّوا الناس عن سبيل الله.. - قوله تعالى: «ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى» أي هذا القصص الذي يقصه الله تعالى على نبيّه الكريم، من أنباء الرسل، لم يكن حديثا ملفقا، أو مفترى ولكنه كلام ربّ العالمين، قد تلقاه النبىّ وحيا من ربّه، فجاء مصدّقا لما سبقه من الكتب السماوية، مفصّلا كلّ ما كان مجملا فيها، حاملا الهدى والرحمة لمن يؤمنون به، ويهتدون بهديه، ويستقون من موارده. - وقوله تعالى: «وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» معطوف على قوله تعالى: «ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى» وهو عطف يفيد الاستدراك، ويجعل ما بعد «لكن» مخالفا لما قبلها فى الحكم الواقع على المعطوف عليه. - وفى قوله تعالى: «وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» - فى التعبير بالفعل المستقبل «يُؤْمِنُونَ» بدل الفعل الماضي «آمنوا» ، مع أن الهدى والرحمة لا يقعان إلا بعد الإيمان- فى هذا إشارة إلى أن الهدى والرحمة أمران ذاتيان، ثابتان فى هذا الكتاب، يجدهما كل من اتصل به وأخذ عنه، وتعامل معه، على امتداد الزمان، فلا يقطع الماضي ما له من آثار فى المستقبل، ولا ينضب معين الهدي والرحمة، على كثرة الواردين.. فهو أبدا مصدر هدى ورحمة للذين يؤمنون به، لا لمن آمنوا به وحدهم، وسبقوا إلى الإيمان.. فللّاحقين حظهم من هداه ورحمته، مثل ما للسابقين، سواء بسواء.. وإنما تختلف حظوظ الناس بحسب استعدادهم لتقبل الهدى، واستئهال الرحمة.. فكتاب الله. هو هو، وآياته.. هى هى، والهدى المشّع منه.. هو هو، والرحمة المحملة معه.. هى هى.. لا اختلاف مع الزمن فى شىء من هذا، ولا تحوّل أو تبدّل فى كلمات الله وآياته.. وإنما الذي يختلف ويتبدل ويتحول، هم الناس، وعقول الناس، وقلوب الناس! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 62 13- سورة الرعد نزولها: مكية: عند ابن عباس، وعطاء، وسعيد بن جبير.. وقال الحسن وعكرمة وقتادة: إنها مدنية. وقد أخذ بالقول بمكيتها: الإمام النسفي، والفيروزبادى فى بصائر ذوى التمييز، وقال الزمخشري: «مختلف فيها» . أما الإمام البيضاوي فاعتبرها مدنية.. والراجح عندنا أنها مكية.. وذلك لنظمها الذي يبدو عليه الطابع المكي، ولمضامين آياتها التي تعرض آيات الله الدالة على قدرته فيما أبدع وصوّر فى هذا الوجود.. وذلك هو الغالب على القرآن المكي. عدد آياتها: سبع وأربعون على الراجح، وقيل ثلاث، وأربعون وقيل أربع وأربعون، وقيل خمس وأربعون.. عدد كلماتها: ثمانمائة وخمس وستون كلمة.. عدد حروفها: ثلاثة آلاف وخمسمائة حرف، وستة أحرف. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الآيات: (1- 4) [سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 63 التفسير: هذه السورة «مكية» - وقيل إنها «مدنية» وسورة «يوسف» التي قبلها «مكية» باتفاق، ومع هذا فقد كان بدء هذه السورة متلاقيا مع ختام السورة التي قبلها، وهذا يرجح القول القائل بأنها مكية. فقد ختمت سورة «يوسف» بالآية الكريمة: «لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» . والآية- كما أشرنا إلى ذلك من قبل- تنفى عن القرآن الكريم أن بكون قد شابه شىء من الكذب أو الشك، إذ كان مصدّقا لما تقدمه من الكتب السماوية، شاهدا لها بأنها من عند الله. وقوله تعالى: «المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ» - هو توكيد لنفى الشّبه والرّيب عن القرآن الكريم، وتقرير بأنه الحقّ من رب العالمين، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. والإشارة «بتلك» مشار بها إلى «المر» .. تلك الحروف المقطعة.. أي أنه من تلك الحروف وأمثالها من حروف الهجاء، قد نظمت آيات القرآن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 64 الكريم، فكان منها هذا النظم البديع، وهذا البيان المبين، الذي أفخم البلغاء، وأعجز العالمين.. وفى الإشارة إلى آيات الكتاب، بعد ذكرها فى قوله تعالى: «المر» - فى هذه الإشارة تنويه بهذا الكتاب، وعرض له فى معرض التحدي، بهذه الأحرف التي نظمت منها كلماته، ونضّدت آياته.. - وفى قوله تعالى: «وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ» قصر للحق المطلق على آيات هذا الكتاب، فآيات هذا الكتاب هى الحق، ولا حقّ وراءها، لأنها كلمات الله.. وكلام الله صفة من صفاته.. وقد جاء القصر هنا بتعريف الخبر «الحق» .. ولو جاء منكرا- كما هو مألوف لما وقع القصر-: فإنه شتان بين قوله تعالى: «وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ» وبين أن يقال: «والذي أنزل إليك من ربك حق» . قوله تعالى: «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ» .. أي ومع هذا الحق المبين، وتلك الآيات المشرقة الوضيئة، فإن أكثر الناس لا يهتدون بها إلى الحق، ولا يتهدّون بها إلى التعرف على الله. قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ» . وإذا لم يكن للناس عقول تعقل هذه الآيات التي حملها رسول الله إليهم فى هذا الكتاب المبين.. أفلا كانت لهم أعين تنظر فى هذا الوجود الذي أوجده الله سبحانه وتعالى من عدم، وأقامه على هذا النظام البديع؟ وإذا لم يكن لهم نظر ينظرون به فى هذا الملكوت، أفليست لهم آذان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 65 يسمعون بها، هذا النداء الإلهى الذي يناديهم به الحق جل وعلا، ليستيقظوا من نومهم، ولينتبهوا من غفلتهم؟ ألا من كانت له أذنان فليسمع!! وألا من كانت له عينان فلينظر!! وألا من كان له قلب فليخشع! - «اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها» أي ترونها مرفوعة هكذا بغير عمد، فقوله تعالى: «تَرَوْنَها» إما أن يكون صفة لعمد، ويكون المعنى: أن الله سبحانه قد رفع السموات بغير عمد مرئية لنا، وإما أن يكون حالا من السموات. - «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» أي بسط سلطانه على هذا الوجود. - «وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» أي أخضعهما لسلطانه، وأجراهما حسب أمره وتقديره. - «كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى» أي يدور فى فلك محدود، فى زمن محدود. - «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ» أي يقدر لكل شىء قدره، كما يقول سبحانه: «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً» (3: الطلاق) - «يُفَصِّلُ الْآياتِ» يبينها ويوضحها، ويأتى بها آية آية. ولم يأت بها جملة واحدة، وذلك لتنكشف للناس، ولتتضح لهم معالم الحق منها. - «لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ» أي لعلكم ترون فى هذا الوجود، وفى الآيات المفصلة المبثوثة فيه، ما يدعوكم إلى الإيمان بالله، فإذا آمنتم بالله آمنتم بلقائه، وعملتم لهذا اللقاء حسابه، وأيقنتم أنكم مجزيون على ما تعملون من خير أو شر. وفى قوله تعالى: «لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ» بدلا من قوله «تؤمنون» إشارة إلى أن هذا الإيمان الذي يجىء عن طريق النظر والتأمل فى آيات الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 66 الكلامية أو الكونية أو هما معا- هذا الإيمان، هو الإيمان الكامل، الذي يصل إلى مرتبة اليقين. قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» . ومن مظاهر قدرة الله، تلك الآيات الكونية المفصلة، فهو سبحانه: - «الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ» أي بسطها وذللها. - «وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ» أي جبالا راسية، ثابتة، مستقرة، كما ترسو السفن على المرافيء الآمنة. - «وَأَنْهاراً» أي وأجرى فى هذه الأرض التي بسطها أنهارا. - «وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ» أي وجعل من كل ثمرة زوجين اثنين، ذكرا وأنثى.. فالثمرة- أىّ ثمرة- لا تكون إلا بالتقاء الذكر والأنثى، على أية صورة من صورة الالتقاء، سواء فى ذلك عالم النبات، وعالم الحيوان، وعالم الإنسان.. فكل مولود هو ثمرة هذا اللقاء، كل ثمرة هى المولود الذي تولّد من الذكر والأنثى! - «يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ» أي يلبس الليل النهار، ويجعله غشاء له، يجلّله، ويغطّيه. - «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» .. ففى كل هذا، آيات ودلائل، على وجود الخالق، وعلى قدرته، وعلمه.. ولكن هذه الآيات لا تنكشف إلا لمن وجّه إليها بصره، وأعمل فيها فكره.. أما من أعرض عنها، وأغلق عقله وقلبه دونها، فإنه لا يرى من هذه الآيات إلا عوالم جامدة صماء، لا تنطق بشىء، ولا تحدّث عن شىء! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 67 قوله تعالى: «وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» . أي فى هذه الأرض، وفى أية رقعة محدودة منها، نظر لناظر، وعبرة لمعتبر. - «وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ» أي يجاور بعضها بعضا، ولكنها تختلف وجوها، وتتباين صورا وأشكالا.. فبعضها جديب، وبعضها خصيب، وقطع منها مياه، وقطع أخرى يابسة، وجوانب منها عشب وزروع، وجوانب أخرى حدائق وبساتين. - «وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ» أي من قطع الأرض، جنات من أعناب. - «وَزَرْعٌ» أي ومن قطع الأرض كذلك، زرع، من حبوب وغيرها. - «وَنَخِيلٌ» أي ومن هذه القطع أيضا: نخيل. - «صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ» أي هذه النخيل بعضها «صنوان» أي كل نخلتين يخرجان من أصل واحد، أشبه بالتوائم فى عالم الإنسان.. «وَغَيْرُ صِنْوانٍ» أي كل نخلة قائمة بذاتها.. «يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ» أي كل هذه الأنواع من النخيل يسقى بماء واحد، هو هذا الماء الذي تروى منه الكائنات الحيّة، من نبات وإنسان وحيوان.. ومع هذا فقد اختلفت ألوان ثمارها، وتعددت طعومها، ومذاقاتها، فكان بعضها أفضل من بعض، فى طعامه ومذاقه: «وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ» . - «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» أي إن فى هذه الآيات المبثوثة فى كل مكان لآيات ودلائل تشهد بقدرة الخالق، وتحدث عن علمه وحكمته، ولكن ذلك لا يقع إلا لمن كان لهم عقول، تفرق بين المحسوسات، إذ كانت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 68 تلك الآيات من الظهور والبيان، بحيث لا تخفى على أي إنسان له مسكة من عقل.. فكل إنسان احتفظ بإنسانيته قادر على أن يوجّه عقله إلى تلك الآيات، وينتفع بها فى التعرف على خالقه.. ولا بد من وقفة هنا، مع أسلوب هذا العرض المعجز لآيات الله.. فقد جاء العرض على أسلوب من التربية الحكيمة العالية، التي تلتقى مع العقل فى جميع مستوياته، وعلى مختلف أنماط تفكيره.. فقد بدأ العرض بالسماوات، مجملة من غير تفصيل.. هكذا.. «اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها.. ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» وفى السموات، وفى هذا الملكوت الذي يقصر الطرف عنه، ويضيق الخيال عن تصوّره، منطلق لجميع العقول، ومسبح لكل المدركات. وهيهات أن يكون إنسان، لم يرفع بصره إلى هذا الملكوت، ولم يسرح بخياله مع شموسه وأقماره وكواكبه، ونجومه! ثم يمسك القرآن- بعد هذا العرض العام للعالم العلوي- بظاهرتين بارزتين من مظاهر هذا العالم، وهما الشمس، والقمر، ففيهما مجال لنظر الناظرين، وتدبر المتدبرين.. ذلك أنه إذا غفل الإنسان الغافل الجهول، عن الوقوف على ما فى السموات من آيات بيّنات، تحدّث عن قدرة القدير، وحكمة الحكيم، وعلم العليم- فإنه لن يستطيع- ولو حاول- أن يغمض عينيه عن الشمس والقمر، اللذين يملآن عليه وجوده.. وفى هذا يقول سبحانه: «وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى» ثم يتحرك العرض إلى مستوى دون هذا المستوي.. فينتقل العرض من السماء إلى الأرض. وذلك لأنه إذا كان فى الناس- وكثير ما هم- من لا يرى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 69 فى ملكوت السموات، وما فيهن، من شمس وقمر، ونجوم، فلينظر إلى هذه الأرض التي يدبّ عليها، فيقول سبحانه: «وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ.. «وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً.. «وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ.. «يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ..» «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» وهنا على هذه الأرض معارض مختلفة، تتفاوت فيها أنظار الناظرين.. فبعض الأنظار تقف على حدود النظرة الملقاة على هذه الأرض، فلا ترى إلا آفاقا فسيحة ممتدة تتحرك عليها أشياء، أشبه بالأطياف، لا تتبيّن العين منها شيئا.. على حين تنفذ بعض الأنظار إلى مدارج النّمال وأفاحيص القطا. فترى فيها من عظمة القدرة، وجلال العلم، وروعة الحكمة، ما يملأ القلب خشوعا، وولاء، وحمدا للخلّاق العظيم.. رب العالمين.. فهذه الأرض المبسوطة على امتداد البصر.. تقف عندها بعض الأنظار ولا تتجاوزها.. وهذه الجبال الراسية عليها.. هى أبرز ما على هذه الأرض.. تعلق بها الأنظار، وتمسك بها.. ثم هذه الثمار.. التي هى معاش الإنسان.. إن لم يلتفت إليها ببصره، ألجأته الحاجة إلى أن يسعى إليها بقدمه، ويقلّب وجوه الأرض باحثا عنها بيده! وهذا الليل الذي يغشى النهار ويلبسه، ويحيل بياضه سوادا، ونوره ظلاما- هذا الليل يشدّ الأبصار شدّا إليه، لتتلمّس طريقها فيه، وترصد المخاوف التي تطلع عليها منه.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 70 وهكذا، إذا استطاع الإنسان أن يفلت من النظر إلى واحدة من تلك الموجودات، لم يستطع أن يفلت من أخرى.. فإن لم يجىء إليها اختيارا أجاءته إليها اضطرارا.. ثم لا يقف الأمر عند هذا.. فهناك معارض بين يدى الإنسان، وتحت قدميه.. «وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ.. «وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ.. «وَزَرْعٌ.. «وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ.. يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ..» ففى هذا معارض متعددة.. يعيش فيها الإنسان بكيانه كلّه، ويلقاها بحواسّه جميعا.. البصر، والشمّ، والذوق، واللمس.. شأنه فى هذا شأن الحيوان.. فإذا لم يكن وراء هذه الحواس عقلا يدرك، فقد خرج الإنسان من عالم البشر إلى عالم الحيوان، ولم يكن أهلا للخطاب، والتكليف! تلك هى دعوة الإسلام للعقل، كى يتعرف على الله، ويسلك سبيله إليه، بالنظر فى ملكوته، والتدبّر فيما أبدع وصوّر.. وإن العقل- على أي مستوى- لن يخطئه الطريق إلى الله، إذا هو وقف بين يدى تلك الآيات، متجردا من الأهواء الفاسدة، والموروثات الضالة، وأعطى لنفسه الحقّ فى الاستقلال بعقله، والإصغاء إلى صوت ضميره.. الآيات: (5- 7) [سورة الرعد (13) : الآيات 5 الى 7] وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 71 التفسير: من أبرز الأمور التي ضلّت عنها أبصار المشركين، وزاغت عنها عقولهم، ولم يمسكوا بخيط من خيوطها، وهم يدورون بأبصارهم فى هذا الوجود- أمر البعث، الذي لم يتصوروه، ولم يجدوا له مساغا فى عقولهم، فأنكروه أشدّ الإنكار، ورأوا أنه مما يستحيل وقوعه.. إذ كيف يبعث الإنسان بعد أن يموت، ويتحول إلى تراب فى هذا التراب؟ تلك هى مضلّتهم، ومثار الوسوسة والبلبلة التي تضطرب فى عقولهم، من أمر البعث.. فلو أنّهم سلّموا بالبعث، لنازع هذا التسليم، بل وانتزعه من عقولهم، هذا الفهم السقيم لقدرة الله، التي يبدو لأنظارهم الكليلة منها، أنها أعجز من أن تعيد الحياة فى هذا التراب الهامد، وتبعث الموتى من قبورهم على الحال التي كانوا عليها، بعد أن أبلاهم البلى، وأكلهم التراب! ولهذا كان ذلك منهم مثارا للعجب والدّهش، من ذوى العقول، وأصحاب النظر والفهم.. وفى هذا يقول الله تعالى لنبيّه الكريم: «وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» .. أي إن ترد- أن تعجب وتدهش وإن أحببت أن تسمع من القول ما يثير العجب والدهش، فاستمع لهذا القول الذي يقوله هؤلاء المشركون: «أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 72 وقد جاء هذا القول منهم فى صورة هذا الاستفهام الإنكارى، للإشارة إلى أنه كان سؤالا مردّدا بينهم، يلقى به بعضهم إلى بعض، فى تساؤل منكر، وفى استفهام خبيث: «أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟» ولا يجدون جوابا لهذا إلا زرّ العيون، أو زمّ الشّفاه، أو ليّ الألسنة.. تحدّث بما فى قلوب القوم من سخرية واستهزاء! «أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ، أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» . وهذا هو الردّ المفحم على هذه السخرية، وذلك الاستهزاء.. إنهم كفرة بالله.. وليس للكافرين عند الله إلا النّار، يجرّون إليها كما تجرّ الحمر المستنفرة، قد أخذ صائدها بمقودها.. «يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ» (48: القمر) . وفى تكرار الإشارة إليهم.. «أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ.. وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ.. وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» - فى هذا التكرار، فضح لهم على رءوس الأشهاد، وشدّ للوثاق الممسك بهم من أعناقهم، حتى لا يفلتوا وحتّى لكأن كل إشارة من تلك الإشارات الثلاث، طوق من حديد، يطوّقون به.. وإن ذلك لسمة من السّمات الدّالة عليهم بين أهل المحشر، فليس ثمّة شك فى أمرهم، أو فى التعرف على ذواتهم، وقد وسموا بتلك السمات الفاضحة. وفى الإشارة إليهم بأن الأغلال فى أعناقهم، وبأنهم أصحاب النار، مع أنهم لم يبعثوا بعد، ولم يساقوا إلى جهنم بعد- حكم قاطع من الله عليهم بهذا، ولكنه مؤجل التنفيذ إلى يوم البعث..! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 73 «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ.. وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ» . المثلات: جمع مثلة، وهى الحدث الذي يقع فيكون مثلا مضروبا، فى شناعته، وسوء وقعه، حيث يستحضره الناس عند كل أمر، تبدو فيه ملامح لهذا الحدث، فيكون ذكره مغنيا عن كل وصف. والواو فى قوله تعالى: «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ» للاستئناف، بخبر جديد من أخبار هؤلاء المكذبين بيوم البعث.. - وفى قوله تعالى: «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ» - إشارة إلى أنهم لم يقفوا عند حدّ الكفر بالله، وإنكار يوم البعث، بل جاوزوا هذا إلى التحدّى، إمعانا فى الكفر، ومبالغة فى الإنكار، فقالوا ما حكاه القرآن عنهم: «وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (32: الأنفال) .. وهذا من غباوتهم وحمقهم وسفههم.. ولو أنهم كانوا على شىء من العقل والإدراك، لكان لهم فى باب الأمانىّ الطيبة متسع، ولما رموا بأنفسهم فى هذا الوجه المهلك، الذي إن جاء على غير ما قدّروا، كان لهم فيه البلاء المبين، والعذاب الأليم.. وما لهم لو قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فاهدنا إليه، واشرح صدورنا له؟ .. فإن كان حقّا أخذوا بحظهم منه، وعافاهم الله من البلاء.. وإن كان غير حقّ لم يخسروا شيئا؟ ولكنه الضلال الذي يستحوذ على أهله، فيدفع بهم إلى كل مهلكة، وما لهم لو أخذوا بقول الرجل المؤمن من آل فرعون: «وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ» (28: غافر) - وفى قوله تعالى: «وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ» - الجملة هنا حالية، وهى فاضحة لغباوة هؤلاء المشركين، وما استولى عليهم من ضلال وسفه.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 74 ذلك أنهم يستعجلون العذاب، وقد وقع هذا العذاب فعلا بكثير من الأمم التي سبقتهم، والتي كانت على مثل هذا الضلال الذي هم فيه.. فلو أنهم كانوا على شىء من العقل والإدراك لكان لهم فى المثلات التي حلّت بالأمم الماضية عبرة زاجرة، وعظة بالغة.. ولكن أنّى للعمى أن يبصروا؟ وأنّى للسفهاء أن يرشدوا؟ - وقوله تعالى: «وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ» عرض لسعة رحمة الله، ومغفرته لعباده.. فهو يمهلهم، ويستأنى بهم، ويدعوهم إليه، ويفتح لهم باب التوبة والقبول، فإذا استجابوا له، ورجعوا إليه، قبلهم، وتجاوز عن سيئاتهم، وعدل بهم عن طريق الضلال إلى الهدى، وعن النار وأهوالها، إلى الجنة ونعيمها.. فهذا من رحمة الله بعباده، ولو شاء لعجّل لهم العذاب، ولأخذهم بما كسبوا: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» (45: فاطر) .. وإذا كانت تلك هى رحمة الله، وذلك هو لطفه بعباده، فإن مع هذه الرحمة وذلك اللطف بالذين يرجون رحمته، عقاب راصد، عذاب شديد للذين يحاربون الله، ويحادّون رسله، وينأون بأنفسهم عن مواقع رحمته ومغفرته.. وذلك هو حكم الله فى عباده.. «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (26- 27 يونس) «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ» ومن منكرات هؤلاء الكافرين، أنهم يغمضون أعينهم ويصمّون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 75 آذانهم عن آيات الله وكلماته، فلا يرون فيها شواهد صدقها، وصدق الرسول الذي جاءهم بها، بل يتصايحون بهذا القول المنكر: «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ؟» .. والآية التي يريدونها، هى آية مادية من تلك الآيات التي كانوا يقترحونها على النبي، كما يقول الله سبحانه وتعالى عنهم: «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ» وقد تلقى الرسول من ربه هذا الرد المفحم لهم.. «قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا» (90- 93: الإسراء) . فهذه الآية التي يقترحونها هنا هى واحدة من تلك الآيات، وهى قولة من أقوالهم التي كانوا يردّدونها فيما بينهم.. وقد ردّ الله عليهم بقوله: - «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ» وفى هذا التفات للنبىّ الكريم، وخطاب كريم له من ربّه، يواسيه، ويخفف ما به من ضيق، لهذا العنت الذي يلقاه من قومه.. - «وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ» هو الرسول الذي يرسله الله إليهم، ليدعوهم إليه، ويسلك بهم مسالك الخير والهدى.. فتلك هى وظيفة الرسول فى قومه كما يقول سبحانه وتعالى: «إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ» (119: البقرة) وفى تقديم قوله تعالى: «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ» على قوله سبحانه: «وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ» تهديد ووعيد لهؤلاء المعاندين، الذين لجّ بهم العناد، واستبدّ بهم الضلال، فركبوا رءوسهم، ولم يعد ثمّة وجه لهم إلا أن ترفع فى وجوههم راية الإنذار، وأن يساق إليهم ريح من لفح جهنم! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 76 الآيات: (8- 15) [سورة الرعد (13) : الآيات 8 الى 15] اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) التفسير: تعود الآيات مرة أخرى إلى استعراض قدرة الله، بعد هذه الوقفة الفاضحة للمشركين، ولمقولاتهم المنكرة، التي يستقبلون بها آيات الله، ويلقون بها رسول الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 77 وفى هذا الاستعراض تنكشف مظاهر كثيرة لقدرة الله سبحانه وتعالى، وتمكّن سلطانه فى هذا الوجود، وإحاطة علمه بكل شىء فيه.. «اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ» تغيض الأرحام: أي تضع ما فيها من حمل.. يقال غاض ماء البئر، أي ذهب وجفّ.. فهذا مظهر من مظاهر قدرة الله، وسعة علمه.. فهو سبحانه يعلم ما تحمل كلّ أنثى، وما تضع من مواليد وما يتخلّق فى الأرحام من أجنّة.. وفى التعبير عن وضع الحمل بالغيض، إشارة إلى أن الرحم حين يشتمل على الجنين، إنما يحمل فى كيانه حياة، بها تزهو الحياة وتعمر الدنيا، كالماء الذي به تحيا الأرض، وتزدهر وتثمر.. فإذا سكن الجنين إلى الرحم، زاد الرحم ونما، وامتلأ، وإذا ولد الجنين، غاض الرحم، وانكمش.. وقدّم غيض الأرحام على زيادتها، لأن ملاحظة الغيض للرحم أظهر للعين، حيث يبدو فى تمام الحمل على صورة واضحة، ثم إذا وضع الجنين تبدل الحال. - وفى قوله تعالى: «وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ» إشارة إلى أن هذا العلم الإلهى، علم قائم على حكمة، وعلى تقدير وتدبير، وليس علما جزافا، فهو مع إحاطته بكل شىء، ضابط لكل شىء، ومقدّر لكل أمر قدّره.. وهذا هو الفرق بين علم الله، وعلم العالمين، فإذا كان فى العالمين من يعلم ما فى الرحم.. فإنه لا يعلم ما فى الأرحام جميعها فى هذه الدنيا كلها، ولو احتشد لذلك العلماء، وتوفروا له بكل ما وضع العلم فى أيديهم من وسائل.. ولو فرض أنهم علموا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 78 ما فى الأرحام الآدميين جميعا- وهذا هو المحال- فأنّى لهم أن يعلموا ما فى عالم الحيوان؟. «اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ» . وفى إحاطة علم الله تعالى بالحمل الذي تحمله كل أنثى إشارة إلى نفوذ علم الله إلى خفايا الأمور، وأنه سبحانه يتولى هذه الأجنّة، إيجادا، وحفظا، داخل الأرحام وخارجها. فعلم الله سبحانه وتعالى علم شامل، كامل، لأنه علم الخالق، المبدع، المصور.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى بعد هذا. «عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ» .. فذلك هو علم الله سبحانه، علم شامل كامل.. يعلم ما بطن وما ظهر، وما كان غائبا عن حواسنا، وما كان مشهودا لها.. فهو سبحانه «الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ» الكبير الذي وسع كرسيّه السموات والأرض، «المتعال» الذي علا بسلطانه على كل ذى سلطان، وبعلمه على كل ذى علم. «سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ» . فالله سبحانه، فى كبريائه، وفى علوّه، محيط بكل صغيرة وكبيرة فى الوجود.. يتساوى لديه فى ذلك بعيد الأمور وقريبها، خفيها وظاهرها، إذ لا قرب ولا بعد عند من احتوى الوجود كله، ولا خفاء ولا ظهور لدى من ملك الأمر جميعه: «هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ.. وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (3: الحديد) . فمن أسرّ القول كمن جهر به.. الله يعلم سرّه، علمه لجهره: «وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (13- 14: الملك) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 79 ومن تدثّر بالليل واستتر به عن العيون، كمن هو سارب: أي متحرك، بالنهار.. الله يراه فى ظلمة الليل، كما يراه فى ضوء النهار.. «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» . «لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ..» . أي إن لهذا الإنسان الذي يسرّ القول ويخافت به، أو يظهره ويجهر به، أو يحتجب عن الأنظار فى ظلمة الليل أو يتحرك بين الناس فى وضح النهار- هذا الإنسان موكّل به من قبل الله، جند يحفظونه، ويحرسونه، ويرصدون كلّ نفس يتنفّسه، وكلّ خاطر يخطر له، أو طرفة عين يطرفها، أو خفقة قلب يخفقها.. إنه حيث كان، وعلى أي حال كان، هو تحت هذه المراقبة التي لا تغفل، وبين هذه الحراسة التي لا تنام.. فأنّى له أن يخلص إلى نفسه، أو يخلو إلى وجوده، دون أن ترقبه هذه العيون الراصدة المتعقبة له؟ - وفى قوله تعالى «مُعَقِّباتٌ» إشارة إلى أن هؤلاء الجند، يرون الإنسان من حيث لا يراهم، وأنهم أشبه بمن يتبع الإنسان من وراء عقبه، دون أن يراه أو يحسّ به، وهم- مع هذا- بين يدى الإنسان ومن خلفه. - وقوله تعالى: «يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ» .. أمر الله هنا، معناه تقديره، وحكمه، كما يقول سبحانه: «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» (54: الأعراف) والمعنى: أنهم يحفظونه بما أمروا به من تقدير الله، وحكمه، وقضائه فى عباده.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» (2: النحل) .. وقوله سبحانه: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» (52: الشورى) وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» فى هذه الآية الكريمة أمور: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 80 - ففى قوله تعالى فى أول الآية: «لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ» ما يشعر بأن الإنسان واقع تحت قوى خفية مسلطة عليه من الله، وأنه مقهور مغلوب على أمره بحكم هذه القوى الخفية المتعقبة له.. - وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» ما يدفع هذا الشعور، الذي يقع فى نفس الإنسان، من تعقب هذه القوى الخفية له.. فالإنسان ذو إرادة عاملة، يجدها دائما معه، ولا يجد لهذه القوى الخفيّة أثرا ماديا يحول بينه وبين ما يريد.. فهذه القوى إنما هى أشبه بالآلات المصورة، أو المسجّلة.. تصور ما يقع، وتسجّل ما يحدث، دون أن تتدخل فى مجريات الوقائع أو الأحداث.. فالإنسان هو الذي يجريها كما يشاء، ويحدثها كما يريد!. ومعنى هذا، أن الناس عموما هم الذين يكتبون أقدارهم، ويشكلون وجودهم، ويختارون الطريق الذي يسيرون فيه!. وعلى هذا، يكون معنى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» هو إطلاق لإرادة الإنسان، وأن الله سبحانه وتعالى منح الإنسان حرّية الحركة والعمل حيث يشاء، وكما يريد، حسب تفكيره وتقديره، وأن ما يفعله يمضيه الله سبحانه وتعالى له: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» .. فالناس يبذرون الحب.. والله سبحانه وتعالى يعطيهم ثمر ما بذروا.. إن حلوا، وإن مرّا.. وفى تعليق تغيير أحوال الناس بتغيّر ما بأنفسهم، إشارة إلى أن النفس الإنسانية هى جهاز التفكير، والتقدير، ومركز الإرادة والتوجيه، وأنها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 81 هى السلطان الآمر للإنسان، والموجّه لكل أعماله وأقواله، فإذا غيّرت النفس اتجاه مسيرها، تغيّر تبعا لذلك سير الإنسان فى الحياة. وفى إضافة التغيير إلى الله سبحانه وتعالى، إشارة إلى أن إرادة الله سبحانه وتعالى هى التي أجرت هذا التغيير، الذي أحدثه الإنسان، كما أنها هى التي حركت إرادة الإنسان نحو هذا التغيير.. ومعنى هذا، أن إرادة الله سبحانه وتعالى، إرادة شاملة، تدخل فى محيطها كل إرادة، فلا إرادة لمريد، إلا تبع لهذه الإرادة.. وأن إرادة الإنسان إرادة متحركة عاملة، فى محيط إرادة الله العامة الشاملة.. ولكنها لا تخرج فى تحركها وعملها عن إرادة الله..! وفى هذا يقول الله سبحانه: «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ» (4: الروم) ويقول سبحانه: «وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» (29: التكوير) . قوله تعالى: «وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ» - هو تقرير لشمول الإرادة الإلهية وعمومها، وأنها إرادة نافذة ماضية، وأن إرادة الناس لا تتحدّى إرادة الله، ولا تحول بينها وبين أن تمضى ما قضت به، وليس للنّاس فيما يقضى به الله ويريده من ولىّ ينصرهم، ويدفع ما يريد الله بهم من سوء. هذا، مع أن للإنسان إرادته، ومشيئته، التي يجدها، ويملك أموره بها، دون أن تعطل إرادة الله العامة الشاملة إرادته، أو تكرهه على أمر لا يريده، فإن تعطلت إرادته، أو وقعت تحت سلطان قاهر لها، رفع عنه التكليف.. أو بمعنى آخر زالت عنه فى تلك الحال صفة الإنسان، المريد المختار.. وقد عرضنا لبحث هذه القضية، من قبل، فى مبحث خاص، تحت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 82 عنوان: (مشيئة الله، ومشيئة الإنسان) عند تفسيرنا لقوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ» (111: الأنعام) .. «1» قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ» - هو عرض لمظهر آخر من مظاهر قدرة الله وهو أنه سبحانه وتعالى، هو الذي ينشىء هذه السحب الثقال، المحملة بالماء الغزير، ويسيّرها فى جوّ السماء، كما يسير السّفن على الماء، وأنه سبحانه يرسل من بين تلك السّحب بروقاً لامعة، هى إشارة سماوية تشير إلى قدرة الله سبحانه وتعالى، حيث تنطلق تلك الشرارات النارية الملتهبة، من هذا الماء الذي تحمله السحب..! - وفى قوله تعالى: «خَوْفاً وَطَمَعاً» إشارة إلى أن هذه البروق الراعدة تثير فى النفوس مشاعر مختلفة مختلطة.. فيخافها بعض الناس، ويخشى أن تكون صواعق مرسلة بالهلاك، كما يقول سبحانه وتعالى بعد ذلك «وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ» .. على حين يرجوها بعض الناس، وينتظر الغيث الهاطل من ورائها.. وإلى هذا المعنى ذهب أبو الطيب المتنبّى حين يقول: فتى كالسحاب الجون تخشى وترتجى ... يرجى الحيا منها وتخشى الصّواعق قوله تعالى: «وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ» .. المحال: الحول، والطول، والقوة. والمعنى: أن هذا الرّعد الذي ينطلق من السّحب، مدويّا هذا الدوىّ   (1) انظر ص: 262 من الكتاب الرابع- تفسير الجزء الثامن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 83 الذي يملأ الآفاق، هو صوت منطلق فى الوجود، بين يدى تلك السحب المحملة بالغيث، ينادى بحمد الله، ويهتف بكل موجود أن يصحو من نومه، ويفيق من غفلته، ليستقبل هذه الرحمة المرسلة بحمد الله، والشكران له، على ما ساق إلى عباده من نعم! وفى جعل «الرَّعْدُ» مسبّحا بحمد الله إشارة إلى أن الرّعد دائما يصحبه المطر، وهذا يعنى أنه يبشر بتلك النعمة، ويزفّ إلى من يسمعون هذا الصوت، أن رحمة الله قريب منهم، إذ كان من شأن الرعد أن يتبعه المطر دائما.. وليس كذلك البرق، الذي قد يصحبه مطر، وقد لا يصحبه، وهو الذي يسمّى البرق الخلّب، أي الذي يخدع، حيث يوعد بأن وراءه مطرا، ثم يخلف هذا الوعد.. وليست الإشارة إلى تسبيح الرعد، إلا إلفاتا للإنسان، ودعوة له إلى أن يسبّح ربه ويحمده، وإلّا، فإنّ كل شىء يسبح بحمد الله دائما، كما يقول سبحانه: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» . وقوله تعالى: «وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ» معطوف على قوله تعالى «الرَّعْدُ» أي يسبح الرعد بحمد الله، وتسبّح الملائكة من خيفته، أي من خوف ربّهم، كما يقول الله سبحانه وتعالى عنهم: «يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ» (50: النحل) .. - قوله تعالى: «وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ» .. الضمير «هم» يراد به المشركون بالله، الذين لا يرجون رحمة الله، ولا يخشون عذابه. فلا يحمدون الله على تلك النعم التي أفاضها عليهم، مع أن هذه النعم ذاتها تسبّح الله وتحمده، أن جعلها رسول خير للنّاس، ومصدر حياة لهم.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 84 فكيف لا يحمدها، ولا يشكر لله من أجلها، من كانت حياتهم معلقة بها، ووجودهم رهن بوجودها؟ أليس ذلك ضلالا وسفها وكفرا؟ وبلى.. إنه الضلال والسفه والكفر! ثم إذا كان الملائكة، وهم ما هم عند الله.. يخافون ربّهم، ويسبحون بحمده، ويشكرون له، فكيف بهؤلاء المشركين الضالّين.. لا يخشون الله، ولا يخافون بأسه وعقابه؟ لقد غرّهم بالله الغرور.. إنّهم يجادلون فى الله، جدال من ينكره، ويجحد نعمه، ويستخفّ ببأسه! وهو سبحانه آخذ بناصيتهم.. إنه ذو الحول والطول، شديد العقاب.. لن يفلتوا منه، ولن يخلصوا من عقابه. «لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ» .. فى هذا تسفيه لهؤلاء السفهاء الذين يصرفون وجوههم عن الله، فلا يدعونه، ولا يلجئون إليه، وهو الحقّ الذي إذا دعى سمع، وإذا سئل أجاب، وأعطى.. ولكنهم يدعون من دونه من لا يسمع ولا يجيب! «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» (5: الأحقاف) . - وفى قوله تعالى: «لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ» . تصوير كاشف لهذا الضلال الذي عليه هؤلاء المشركون، وهم يمدّون أيديهم إلى تلك الدّمى التي عبدوها من دون الله، وعلّقوا آمالهم بها، وانتظروا الخير الذي يرجونه منها.. إنهم لن ينالوا شيئا.. إنهم مع آلهتهم تلك كمن يبسط يده إلى الماء، يدعوه إليه أن ينتقل من حيث هو، حتى يبلغ فاه، ويرتوى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 85 منه! وهيهات.. فإن الماء لا يسمع له، ولا يستجيب لدعائه.. «وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ» .. إنه دعاء لا يجد له أذنا تسمع، أو عقلا يعقل، أو لسانا ينطق! والسؤال هنا: كيف كانت المعبودات التي يتخذها المشركون آلهة لهم من دون الله- مقابلة فى هذا التشبيه للماء.. مع أن الماء فيه حياة ونفع لمن يتصل به! ويحسن أورد إليه؟ .. فهل فى هذه المعبودات شىء، مما فى الماء من خير ونفع، حتى يقع الشبه بينها وبين الماء؟ والجواب على هذا- والله أعلم- هو أن المنظور إليه فى هذا التشبيه، هو العابدون لا المعبودون، وهؤلاء المشركون الضّالون، لا المعبودات التي يعبدونها.. وذلك أنهم فى هذا التشبيه ينكشف سفههم وضلالهم، وحماقتهم، وأنهم والماء قريب منهم، والظمأ يشوى أحشاءهم، لا يعرفون- لجهلهم وسفههم كيف ينالون منه حاجتهم، فيبسطون أيديهم إلى الماء، ويهتفون به أن يدنو منهم، ويدخل أفواههم..! والحاجة- كما يقولون- تفتق الحيلة، وحاجة القوم إلى الماء شديدة، والوصول إليه، والارتواء منه سهل ميسور، يتهدّى إليه الحيوان بفطرته، ولكنّ القوم قد أفسدوا فطرتهم، وعطّلوا عقولهم، فلم يكن لهم ما للحيوان الأعجم من حيلة! ولو كان المشبّه به، المقابل للمعبودات، شيئا غير مرغوب ومطلوب، لما وقف القوم منه هذا الموقف الحريص المتلهف، ولما اشتد بهم الكرب، واستبدّت بهم الحسرة، حين طال وقوفهم عليه، ثم لم ينالوا شيئا منه! ومن جهة أخرى.. فإن من بين هذه المعبودات التي يتخذها المشركون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 86 آلهة لهم من دون الله، ما فيه نفع وخير، كالملائكة، وبعض الصّالحين، الذين قيل إن ودّا وسواع، ويغوث، ويعوق، كانوا من صالحى العرب، فلما ماتوا صنعوا لهم التماثيل، وأطلقوا عليها أسماءهم، ثم عبدوهم.. فالملائكة، وهؤلاء الصّالحون من عباد الله، ممن عبدهم الناس، أو اتخذوهم شفعاء لهم عنده- هم أشبه بهذا الماء، الذي فيه رىّ وحياة، وأنّ من يسلك سبيلهم، ويتأسّى بهم، ويرد موارد التقوى التي وردوها- يجد الرىّ لروحه، والحياة لقلبه.. ولكن المشركين لم يحسنوا التعامل معهم، والانتفاع بهم، فهلكوا، وطريق النجاة دان منهم، ماثل أمام أعينهم! قوله تعالى: «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ» .. هو قهر للمشركين وإذلال لهم، وأنّهم من حيث لا يريدون، ولا يدرون، هم منقادون لله، خاضعون له، إذ كانوا تحت سلطانه القاهر، وإرادته النافذة.. فهم إذ لم يعبدوا الله اختيارا وولاء، عبدوه كرها واضطرارا.. وأنفهم فى الرّغام، ومصيرهم إلى النار، لأنهم عصوا الله، وكفروا به، وأبوا أن يعطوه ولاءهم مختارين! وليس هذا شأن المشركين وحدهم.. بل إن الوجود كلّه، فى سماواته وأرضه، وما فى سماواته وأرضه، ساجد لله، خاضع لعزته وجبروته، منقاد لإرادته ومشيئته.. فالمراد بالسجود هنا، الخضوع والانقياد «طَوْعاً وَكَرْهاً» !. والوجود كلّه- ما عدا الإنسان- يسجد لله، ويخضع لإرادته، وينقاد لمشيئته «طوعا» من غير تردد، إذ لم يكن فيها- كما نعلم- كائن ذو إرادة، تضعه أمام أوامر الله ونواهيه بين الإقدام والإحجام، وبين الامتثال، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 87 والعصيان.. فيطيع وهو مريد، ويعصى وهو مريد.. الأمر الذي ليس لكائن غير الإنسان.. وفى هذا يقول تعالى: «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» (11: فصلت) . أما الإنسان، فهو الكائن المريد، الذي تقوم فى كيانه قوة موجهة، هى التي تذهب به يمينا أو شمالا، وتقيمه على أمر الله، أو تخرج به عنه.. فإذا استجاب لأمر الله، واتبع سبيله كان نغما متجاوبا مع هذا الوجود المنقاد لله طوعا وإذا لم يستجب لله، وخرج عن طريق الحق الذي دعاه إليه، كان نغما شاذا، ثم كان فى الوقت نفسه منقادا لله «كرها» .. لأنه واقع تحت سلطان الله، منقاد لمشيئته.. فما على هذا الإنسان الجهول لو انقاد لله طوعا، كما هو منقاد كرها؟ - وفى قوله تعالى: «وَظِلالُهُمْ» إشارة إلى أن ظلال هذه الكائنات، - ومنها الإنسان- منقادة لله سبحانه وتعالى، ساجدة لجلاله وعظمته.. فحيثما وقعت أشعة الشمس على كائن من الكائنات، وقع ظلّه على الأرض.. فكان ذلك منه سجودا لله، وولاء له.. إنه لا يملك الظل إلا أن يقع على الأرض. وقوله تعالى: «بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ» . الغدوّ: جمع غدو، مؤنثه غدوة.. وأصله غدوو.. على وزن فعول فأدغمت الواو فى الواو.. والغدو، والغدوة، أول النهار.. والآصال: جمع أصل، والأصل: جميع أصيل.. مثل نذير ونذر.. والأصيل آخر النهار.. وفى قصر سجود الظلال على الغدو والآصال، عرض واضح لسجود هذه الظلال، حيث تكون ظلال الأشياء فى أول النهار وآخره ظاهرة ممتدة، يبدو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 88 فيها ظل الشيء أضعاف أصله، ثم ينكمش رويدا رويدا، حتى يقع تحت قدميه عند الزوال، ثم يبدأ فى الطول شيئا فشيئا، حتى يعود كما بدأ أول النهار، فى طوله وامتداده، أضعافا مضاعفة. إنها دورة كاملة للظل على الأرض، أشبه بدورة الأفلاك فى مداراتها.. وأقرب شىء إلى الإنسان، وألصق الأشباه به، هو ظلّه.. وهذا الظلّ يسجد لله.. فإذا كان الإنسان مؤمنا سجد، وسجد معه ظله.. وإذا كان كافرا يأبى السجود لله، فإنه ساجد لله- كرها- بظله هذا الذي يسجد لله غدوة وأصيلا، وما بين الغدوة والأصيل.. فهل يستطيع أن يحول بين ظله وبين أن يسجد لله؟ فليجرب إذن.. وسيجد أنه كما لا يملك أن يمنع ظله من السجود لله، والانقياد لله، فإنه لا يملك نفسه من الانقياد لله، والخضوع لسلطانه القائم عليه، فى كل حركة يتحركها، أو نفس يتنفسه.. وليجرّب مرة أخرى إن كان يستطيع الخروج عن سلطان الله! وهل يستطيع مثلا أن يعيد نفسه إلى الشباب إن كان شيخا؟ وهل يستطيع أن يدفع عن نفسه عادية الجوع إذا امتنع عن الطعام يوما أو أياما؟ وهل يستطيع أن يغلب النوم فلا ينام أبدا؟ ثم أيستطيع أن يفرّ من الموت الذي هو ملاقيه يوما؟ أليست هذه، وآلاف غيرها من الضرورات القاهرة التي تتحكم فى الإنسان، وتأخذه من مقوده- أليست من مظاهر الخضوع لله، طوعا وكرها؟ وبلى! وإن الله سبحانه وتعالى ليقول: «يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ» (33: الرحمن) الآيات: (16- 18) [سورة الرعد (13) : الآيات 16 الى 18] قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 89 التفسير: بعد أن عرضت الآيات السابقة بعض مظاهر قدرة الله، وقوة سلطانه، وسعة علمه، ثم ختمت هذه المشاهد بهذا الحكم الذي ألزم الوجود كلّه، الانقياد لله، والولاء له، طوعا أو كرها- جاءت هذه الآيات تخاطب العقل، وتدعوه إلى الله، وتضرب له الأمثال الحسية، ليقيم من منطقها طريقه الذي يستقيم عليه، فى التهدّى إلى الحقّ، والإيمان بالله، وإفراده بالألوهية، ونبذ الشركاء والأنداد، التي إذا قايسها العقل بالله، كانت ضلالا وكانت هباء! .. قوله تعالى: «قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟» .. هذا سؤال ينبغى للعاقل أن يسأله، وأن يجيب عليه! .. فإن هذا الوجود الجزء: 7 ¦ الصفحة: 90 فى سماواته وأرضه، لا بد له من خالق قد خلقه، وأجرى نظامه على هذا الترتيب المحكم البديع.. فإذا لم يسأل المرء نفسه هذا السؤال، ولم تثر فى نفسه داعية له، فها هو ذا السؤال يملأ سمعه.. فماذا يكون الجواب؟ ومن ضاع منه الجواب بين سحب الجهل والضلال المنعقد على عقله وقلبه.. فهذا هو الجواب حاضر عتيد.. «قُلِ اللَّهُ!» .. وهذا الجواب هو من بديهية العقل، كما أن السؤال من بديهية العقل أيضا.. وعلى هذا، فإنه حكم لازم، وقضاء قاطع لا مردّ له.. وإذن فليكن الحساب والجزاء على هذا الحكم الذي لم يلتزمه المشركون، ولم يأخذوا أنفسهم به.. «قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا» ؟. والاستفهام هنا إنكارىّ، يضع المشركين فى قفص الاتهام، والإدانة.. إذ كيف لا يعطون ولاءهم لله، ولا يخلصون له عبادتهم، وهو خالق السموات والأرض، على حين يجعلون ولاءهم وعباداتهم لتلك المخلوقات التي لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرّا، والتي هى خلق من خلق الله، تدين له بالولاء، كما دان له كل مخلوق؟ إنهم يسوّون فى هذا بين المتناقضات، ويقولون إن الأعمى والبصير سواء، وإن الظلمات والنور متعادلان، وإن الباطل والحق متشابهان.. وإن المخلوق والخالق سيان! وهذا منطق أحمق سفيه، لا يقبله إلّا من عميت بصيرته، وختم الله على قلبه وسمعه، وجعل على بصره غشاوة! .. «أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ؟» هذا استفهام إنكارى أيضا، يسأل فيه المشركون عن تلك الآلهة التي عبدوها من دون الله، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 91 أو جعلوها شركاء لله.. أهذه الآلهة تخلق كما يخلق الله؟ وهل لها فى هذا الوجود شىء خلقته، حتى يكون لهؤلاء المشركين وجه من العذر حين ينظرون- إن كان لهم نظر- فيرون أن لهذه الآلهة خلقا خلقته، وعندئذ يتشابه الخلق عليهم فلا يفرقون بين ما خلق الله، وما خلق غير الله، أذلك ما يقع عليه نظرنا إلى هذا الوجود؟ وهل يستطيع مشرك أن يمسك بنظره مخلوقا واحدا لهذه الآلهة المعبودة لهم؟ «يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ.. ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ» (73: الحج) فكيف يستوى من يخلق ومن لا يخلق؟ «أَفَلا تَذَكَّرُونَ» ؟.» - «قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» .. لم يبق إذن إلا الصيرورة إلى هذا الحكم، الذي لا حكم غيره، وهو أن الله هو الخالق لكل شىء.. وأنه «الواحد» المتفرد بالخلق «القهار» الذي له كل مخلوق، ويخضع لسلطانه كل موجود.. عظيم أو صغير.. فى السماء، أو فى الأرض.. «فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً؟ ..» (78: النساء) قوله تعالى: «أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ ... » بقدرها: أي بحجمها، ومقدارها.. الزبد: الرغوة التي تتكون من السائل حين يضرب بعضه ببعض، كما يظهر ذلك فى لعاب البعير حين يهدر ويرغو، أو لعاب الإنسان حين يثور، ويرمى بالكلام فى اندفاع وقوة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 92 والرابى: المرتفع، ومنه الربوة، وهى المكان المرتفع.. وهذا مثل آخر ضربه الله سبحانه وتعالى للباطل والحق، وأنهما أمران مختلفان، اختلاف الأعمى والبصير، والظلمات والنور.. الحق والباطل.. دولة ودولة فهذا الماء الذي ينزل من السماء فتسيل به الأودية- كلّ على قدر ما نزل من ماء- فيحمل معه فى جريانه واندفاعه، غثاء ورغوة وزبدا، فيختلط بالماء، ويعكر صفوه، حتى ليبدو لعين الغرّ الجاهل أن ما يراه هو غثاء وزبد، وأن لا شىء وراء هذا.. ولكن الحقيقة غير ذلك، إذ أن بطن الوادي ملىء بالماء، مترع بالخير، وإن هذا الزبد إن هو إلا سحابة صيف لا تلبث أن تنقشع، ولا يبقى إلا ما ينفع الناس من ماء تفيض به الأنهار، وتتفجر منه العيون، وإذا هو حياة يردها الناس فتمسك حياتهم، وحياة كل حىّ! .. هذه صورة واقعة فى الحياة، يراها الناس جميعا.. باديهم وحاضرهم، جاهلهم وعالمهم.. وهناك صورة أخرى تشبه تلك الصورة، قد لا يشهدها إلا أهل العلم والصناعة، ولكنها على كل حال صورة لا تغيب عن المجتمع الإنسانى أبدا، وهى تلك المعادن التي تسلط عليها النار، فتنصهر، وتتحول إلى مادة سائلة، أشبه بالماء، حيث يستطيع الصانع أن يشكل منها ما يشاء من آنية، وحلىّ! .. فهذه المعادن حين تنصهر تحت حرارة النار، يعلو سطحها زبد أشبه بالزبد الذي يعلو سطح الماء المندفع بقوة الجريان من السيل المتدفق، وإن هذه الرغوة التي تعلوا وجه المعدن المنصهر هى خبث يلقى به بعيدا عن جوهر المعدن حتى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 93 يخلص للطرق والصقل، ويصبح آنية نافعة، أو حلية ثمينة معجبة.. - «كذلك يضرب الحق والباطل» أي يضرب بعضهما ببعض، فى هذا الصدام الذي بين أولياء الحق، وأتباع الباطل، فينشأ من هذا الضرب، وذاك الصراع «زبد» .. «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً» أي يرمى به بعيدا، فى جفاء وكره.. «وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ» أي ما ينفع الناس من الماء، ومن المعادن هو الذي يبقى، ويعيش مع الناس- ويكون سببا فى حياتهم.. كالماء، أو سببا فى تمكنهم من أسباب الحياة، ورفهها ونعيمها كالمعادن التي تصاغ منها الآنية والحلىّ.. فالصراع الذي يقع بين الحق والباطل، يثير فى الحياة غبارا، ودخانا، يعكر من صفو الحياة حتى ليبدو لأول نظرة أن غير هذا الصراع أولى بالناس، ولكن تلك هى سنة الحياة، إذ كان من شأن الباطل دائما أن يتحكك بالحق وأن يعترض سبيله، وكان على الحق أن يعمل على الخلاص منه، حتى يصفر وجهه، ويتمكن الناس من الانتفاع به.. تماما كما ينتفعون بالماء بعد أن يدور دورته، ويخلص من الزبد الذي علق به!!. والذين يشهدون الصراع الدائر بين الحق والباطل، ويرصدون مواقع القتال بينهما، وما يقع من انتصارات وهزائم- هؤلاء قد يرون للباطل دولة، دونها دولة الحق، ويرون للمبطلين، صولة، دونها صولة المحقّين، ومن أجل هذا نجد كثيرا من الناس يضيقون بالحق ذرعا، ولا يصبرون على المكاره فى سبيل الانتصار له والدّفاع عنه.. وهؤلاء قد فاتهم أن هذه المكاره التي تحفّ بالحق، هى الثمن الذي يؤديه أصحاب المثل العليا، والنزعات الطيبة لما يجنون من ثمرات مباركة، هى غذاء الأرواح، وزاد القلوب، وهى التي تلد الرجال، وتربىّ للإنسانية قادتها الراشدين، وزعماءها المصلحين.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 94 فليس بمنكور أن يهزم الحق فى معاركه مع الباطل.. فالحق والباطل فى صراع متلاحم لا ينتهى أبدا.. فينتصر هذا مرة، وينتصر ذاك أخرى، حتى يظل هذا الصراع دائما، لا تنقطع موارده، ولا تنطفىء ناره.. ولو كان النصر لأحدهما على الآخر ضربة لازب، لانتهى الصراع القائم فى هذا الوجود من من أول معركة، ولكانت الحياة وجها واحدا.. حقا أو باطلا.. ولو كان هذا لسكن ريح الحياة، ولخمدت جذوة الكفاح التي تدفع موكب الحياة فى قوه وانطلاق، فيتولد من هذا الاندفاع كل ما أقام الإنسان على هذه الأرض من مدنية وعمران.. إن الحياة فى هذا الكوكب الأرضى محكومة بهذا الصراع الأبدى، بين قوى الخير والشر، والحق والباطل.. فى ميزان، تتراجح كفتاه، وتضطربان هكذا أبدا.. وهزيمة الحق فى أروع مظاهره، وأكمل كمالاته، ليست بالتي تنقص من قدره، أو تقلل خطره، أو تحمل أتباعه على الشك فيه، أو الجفوة له.. فالحق وإن بدا أنه خسر المعركة فى بعض معاركه مع الباطل، فإن هذا لا يعنى أنه هزم، وأسلم يده للباطل وأهله.. وإنما ينهزم الحق حين تنهزم مبادئه فى نفس أهله، وتخف موازينه عندهم.. فذلك هو ميدان المعركة بين الحق والباطل.. فما دامت قلوب أهل الحق عامرة به، وما دامت أرواحهم متعلقة بالحياة معه والعيش فى ظله، فإنه لن يهزم أبدا، ولو خسر معاركه فى ميدان الحرب والقتال، وفيما يتقاتل من أجله الناس، من متاع الدنيا وزخرفها.. يقول الفيلسوف «جون ستيوارت» : إن من السخافة أن يتوهم المرء أن الحق لا لشىء سوى أنه حق- يشتمل على قوة غريزية، ليست موجودة فى الباطل، من شأنها أن تمكن الحق من التغلب على ضروب العقاب والتنكيل ... الجزء: 7 ¦ الصفحة: 95 إذ الحقيقة الواقعة أن مقدارا كافيا من العقوبات القانونية أو الظلم الاجتماعى جديرة بأن تحول دون انتشار الحق! .. ثم يقول الفيلسوف: «ولكن الفضيلة الصادقة التي يتميز بها الحق، هى أنه يمكن إخماده، مرة، ومرتين، ومرّات، غير أنه لا بد- على مدى الدهور- من أن يظهر أناس يعاودون استكشافه المرة بعد الأخرى، حتى يوافق ظهوره فى إحدى المرات ظروفا ملائمة، فيفلت من الاضطهاد، ويجمع من الأنصار ما يمكنه من الثبات» يريد هذا الفيلسوف أن يقول: «إن للحق أصولا مستقرة فى ضمير الإنسانية، وأن هذه الأصول، وإن حجبتها قوى الشرّ والبغي، وغامت على شمسها سحب الضلال والزيغ، فإنّ جوهرها النقىّ لا يناله من ذلك شىء، بل يظل هكذا على نقائه، وصفائه، وكرمه، حتى تجىء الظروف المناسبة، التي تجلّى عن وجه الحقّ ما غشيه من ضباب، وما خيّم عليه من ظلام.. وذلك إما بقوة تنبعث من كيان الحق، كما تنبعث الحرارة من الشمس، فتبدّد السحب والغيوم، وإما بأن تنحلّ قوى الباطل من تلقاء نفسها، فيذبل عوده، وتجفّ أوراقه، كما تموت نبتة السوء، وتصبح هشيما تذروه الرياح.. «كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ.. فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ» . والحق دائما ثقيل الوطأة على الناس، إلا من رزقهم- سبحانه- الإيمان الوثيق، والعزم القوىّ، وأمدّهم بأمداد لا تنفد من الصبر على المكاره، والقدرة على احتمال الشدائد، إذ الحق- فى حقيقته- مغالبة لأهواء النفس، وقهر لنزعاتها، وإيثار للآخرة على الدنيا، وذلك من شأنه أن يجعل الإنسان فى حرب متصلة مع نفسه، وما فيها من أهواء ونزعات، حتى إذا أقامها على الحق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 96 وصالحها عليه، وأسلم زمامها له- كان عليه أن يواجه الناس، وأن يجاهد فى سبيل الحق الذي عرفه، وآمن به، فيكون حربا على المنكر، بقلبه ولسانه ويده، جميعا.. ومن هنا كان الصبر قرين الحق فى كلّ دعوة يدعو إليها الإسلام، فى مجال الخير والإحسان، وفى كل ما من شأنه أن يقيم الإنسان والإنسانية على صراط مستقيم.. ففى الدعوة إلى الصفح والمغفرة، ودفع السيئة بالحسنة، يكون الصبر هنا عدّة من يمتثلون هذه الدعوة، ويقدرون على الوفاء بها، وإلّا لو دخلوا المعركة بغير هذه العدة- عدة الصبر- لا يحلّ عزمهم، ولم يكن لهم من سبيل إلى احتمال تبعات هذه الدعوة.. فكان قوله تعالى: «وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ.. ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» (34- 35: فصلت) - جامعا بين الدعوة إلى الصفح والمغفرة، وبين الصبر، الذي بغيره لا يمكن حمل النفس على هذا المكروه عندها، وهو دفع السيئة بالحسنة.. وفى تنبيه الإنسان إلى الخطر الذي يطلّ عليه من تسلط أهوائه، وساوس شيطانه، يقول الله تعالى: «وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ» لا يستثنى سبحانه أحدا من الصيرورة إلى هذا المصير: «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» . هذا، وللحق أصول ثابتة فى الحياة، هى الروح السّارية فى هذا الوجود، وهى الغالبة لكل باطل، حيث يكون له زبد ورغاء عند تشبثه بالحق، وتعلقه بذاتيته، كما تتعلق النباتات الطفيلية بأصول الأشجار الكريمة.. يقول سبحانه وتعالى: «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ.. تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» .. ويقول الجزء: 7 ¦ الصفحة: 97 جلّ شأنه: «وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ» (38- 39: الدخان) .. فعلى هذا الخالق بالحق قامت السموات والأرض وما فيهما من موجودات.. والحق هو اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى، وكفي بالوجود أن ينتسب إلى هذا النسب الكريم، ليهزم كل باطل، ويقضى على كل ضلال.. ومن هنا كان دائما النصر للحق، ولأتباع الحق.. والهزيمة دائما للباطل وأهل الباطل.. «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» .. «لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى» - جملة من مبتدأ وخبر، والتقدير: الحسنى للذين استجابوا لربهم.. أي إن للذين استجابوا لربهم، وآمنوا به، واتبعوا سبيله، - العاقبة الحسنى، والجزاء الحسن.. «وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ..» فهؤلاء هم الزبد والغثاء، ليس لهم فى الآخرة إلا النار لا يجدون عنها مصرفا، ولو كان لهم ملك ما فى الأرض جميعا، ومثله مضافا إليه، لقدموه فدية من هول هذا العذاب.. وهيهات! .. ومناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآية السابقة كانت مثلا مضروبا للحق والباطل وأنهما كثيرا ما يقع بينهما صراع، وقد يعلو الباطل على الحق فى بعض المواقف، كما يعلو الزبد صفحة الماء المتدافع من مسيل الوادي.. ولكنه لا يلبث أن يذهب هباء، ويبقى ما ينفع الناس.. كذلك الذين استجابوا لله وآمنوا به، والذين لم يستجيبوا له، واتخذوا من دونه شركاء.. فالذين استجابوا لله هم أشبه بالماء.. والذين لم يستجيبوا لله هم هذا الزبد.. وإذا كان ذلك كذلك، كان لكل من الفريقين حسابه، وجزاؤه عند الله.. فكما لا يستوى الأعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور، ولا الزبد ولا الماء.. كذلك لا يستوى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 98 الكافرون والمؤمنون.. أولئك أصحاب النار، وهؤلاء أصحاب الجنة: «لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ» (20: الحشر) . الآيات: (19- 24) [سورة الرعد (13) : الآيات 19 الى 24] أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) التفسير: قوله تعالى: «أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ» مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الله سبحانه وتعالى ذكر فى الآيات السابقة، الأعمى والبصير، والظلمات والنور، والزبد وما ينفع الناس.. وهى أمور متضادّة، كتضاد الشر والخير، والضلال والهدى.. كذلك الذين نظروا فى آيات الله فعرفوا أنها الحق من الله، وأنها تنزيل من حكيم خبير، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 99 والذين عميت أبصارهم عن هذه الآيات، فلم يروا منها شيئا يهديهم إلى الله- هما عالمان متضادان.. هؤلاء مبصرون، وأولئك عمى لا يبصرون! والاستفهام فى الآية الكريمة مراد به التقريع والتسفيه لأهل الشرك والضلال، الذين عميت بصائرهم عن التهدّى إلى الحق، على ضوء ما تلا عليهم الرسول الكريم من آيات الله.. - وفى قوله تعالى: «إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ» هو تنويه بالمؤمنين الذين قادتهم عقولهم إلى الحق، فعرفوا الله، وآمنوا به، كما أنه تعريض بالمشركين واتهام لهم بالسّفه، والغفلة، وأنهم ليسوا من أصحاب العقول العاملة المبصرة! قوله تعالى: «الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ» هو صفة لأولى الألباب، أصحاب العقول المبصرة، والبصائر المدركة.. وعهد الله الذي يوفون به، هو كل عهد يقطعونه على أنفسهم لله، أو للنّاس، وقد جعلوا الله كفيلا عليهم فيما أعطوا من عهد.. فالمؤمنون بالله حقّا هم الذين إذا أعطوا مثل هذا العهد من أنفسهم، برّوا به ووفوا، وأبى عليهم إيمانهم، وولاؤهم لله أن يعطوا عهدا باسمه، ثم يغدروا به وينقضوه، فذلك مما لا يتفق مع الولاء لله، والإكبار لذاته، فضلا عن أنه حطّة بالكرامة الإنسانية، وإزراء بقدر الإنسان، وإسقاط لمروءته. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا.. إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» (91: النحل) وأما الميثاق الذي لا ينقضونه، فهو الميثاق الذي أخذه الله سبحانه وتعالى على أبناء آدم وهم فى عالم الأرواح، كما يقول سبحانه وتعالى «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا» (172: الأعراف) وهذا الميثاق الذي أخذه الله على أبناء آدم، هو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 100 ما أودع فيهم من فطرة سليمة، من شأنها أن تتهدّى إلى الله، وتعرف طريقها إليه، وتؤمن به، لو أنها تركت وشأنها، دون أن يدخل عليها ما يفسدها، من وساوس الشيطان، وغوايات المغوين، وضلالات المضلّين. وهذا ما يشير إليه قول الرسول الكريم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، وإنما أبواه هما اللذان يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسّانه» ثم بعد هذا الميثاق، جاء ميثاق آخر يؤكده، ويذكّر به، وهو دعوة الرسول لهم إلى الإيمان بالله، وأخذه الميثاق عليهم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا» (7: المائدة) فنعمة الله هنا هى الرسول الذي جاءهم بكتاب الله إليهم، والميثاق هو ما أخذه الرسول عليهم عند بيعتهم له على الإيمان، حين قالوا: «سمعنا وأطعنا» وإلى هذين الميثاقين- ميثاق الله، وميثاق الرسول- يشير الله سبحانه وتعالى بقوله: «وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (8: الحديد) .. ففى هذه الآية ينكر الله سبحانه وتعالى على المتوقفين عن الإيمان، أو المعرضين عنه، هذا الموقف.. إذ ما كان لهم أن يترددوا فى الإيمان بالله، أو يعرضوا عن الإيمان به، ورسول الله يدعوهم إلى الله، ويذكرهم به، ويقدم لهم بين يديه كتابا من عنده.. هذا إلى الميثاق الذي أخذه الله عليهم من قبل وهم فى عالم الأرواح، وهذا الميثاق هو الفطرة المودعة فيهم، وهى وحدها كانت كافية لأن يتعرفوا إلى الله ويؤمنوا به، إن كانت هذه الفطرة قد بقيت سليمة فيهم، مهيأة لقبول الإيمان: «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» أي إن كنتم ما زلتم على فطرتكم التي فطركم الله عليها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 101 قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ» هو بيان لصفات أخرى من صفات المؤمنين، بعد أن تأكد إيمانهم بالله، ووفاؤهم بعهوده ومواثيقه.. فقد مدحهم الله سبحانه وتعالى بأنهم «يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ» والذي أمر الله- سبحانه- به أن يوصل، هو الإيمان.. فهم بإيمانهم بالله بعد أن أصبحوا فى عالم الأشباح، وصاروا أهلا للتكليف- هم بهذا قد وصلوه بإيمانهم الذي كان منهم وهم فى عالم الأرواح.. وهذا ما أمر الله به أن يوصل، إذ كانت دعوة الرسل إلى الإيمان بالله، دعوة إلى وصل هذا الإيمان، بإيمان الفطرة المستكنّ فيها. ولهذا ذمّ الله سبحانه الكافرين بأنهم قطعوا ما أمر الله به أن يوصل، فخانوا بهذا، عهد الله، ونقضوا ميثاقه، وفى هذا يقول الحق جل وعلا: «إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (26- 27 البقرة) .. ويقول سبحانه: «وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ» (25: الرعد) فالكافرون قد نقضوا عهد الله الذي معهم، بعد أن جاءهم رسله ليوثّقوه، ويذكّروا به، وهم بهذا الكفر قطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وهو أن يصلوا إيمان الفطرة المركوز فيهم، بإيمان الدعوة على يد الرسل.. وهم بهذا الكفر قد أصبحوا أدوات هدم، وإفساد، فى كيان المجتمع الإنسانى. كما يقول سبحانه: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 102 «وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ.. أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ» . - وقوله تعالى: «وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ» بيان لبعض صفات أخرى للمؤمنين، وهى أنهم يخشون ربهم، ويخافون سوء الحساب يوم القيامة، إذا جاءوا إلى هذا اليوم بما لا يرضى الله من سيئات ومنكرات، ولهذا، فهم يتجنبون السوء، ويجانبون المنكر، خشية لله، وخوفا من سوء الحساب، يوم الحساب! قوله تعالى: «وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ» هو أيضا بيان للصفات المكملة لتلك الأوصاف التي ينبغى أن تكون للمؤمنين بالله.. إيمانا حقا.. فهم يصبرون ابتغاء وجه ربهم.. يصبرون على ما أصابهم من ضر، وما مسّهم من أذى، وما نزل بهم من مكروه، يرجون بهذا، الجزاء الحسن من الله على رضاهم بالمكروه، وصبرهم على الضر، إذ كان ذلك تسليما منهم بقضاء الله، وإيمانا بحقه سبحانه وتعالى فى ملكه، يفعل ما يشاء، لا معقّب لحكمه.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» (155: 156 البقرة) ففى الصبر على المكاره، تسليم لله سبحانه وتعالى بما قضى به، وطمع فى رحمته ولطفه «إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ» (87: يوسف) وفى هذا يقول الرسول الكريم: «حفّت الجنة بالمكاره» إذ كان فى استقامة الإنسان على طاعة الله، قهر لأهواء النفس، ومغالبة للشهوات.. - وفى قوله تعالى: «ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ» إشارة إلى أن متوجههم فى احتمال الضر، والصبر على المكروه، إنما هو من أجل الظفر برضا الله عنهم.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 103 إذ كان ذلك هو مبتغاهم من احتمال المكاره، والوفاء بالتكاليف الشرعية، من عبادات، ومعاملات وغيرها.. فالمراد بوجه ربهم هنا، هو إقباله- سبحانه وتعالى عليهم- وقبوله لهم.. - وفى قوله تعالى: «وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ» - هو عطف خاص على عام، إذ كان الصبر جامعا لجميع التكاليف الشرعية، ومنها إقامة الصلاة، والإنفاق فى السر والعلن، ودفع السيئة بالحسنة.. فهذه كلها مما لا يقوم بالوفاء بها إلا من رزقه الله الصبر والاحتمال.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى عن الصلاة: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها» (122: طه) وما يشير إليه قوله سبحانه عن درء السيئة بالحسنة: «وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» (34- 35: فصلت) .. فالصبر هو ملاك كل طاعة، وميزان كل إيمان، وعقد كل عقيدة.. ولهذا جاء قوله تعالى: «وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» - جاء جامعا بين الحق والصبر، إذ أنه لا يقوم حق إلا قام من ورائه الصبر.. إذ أنّ أكل حق يترصّد له الباطل، ويزحمه الضلال.. وتجلية الحق، ودفع الباطل عنه، يحتاج إلى مدد عظيم من الصبر والمصابرة.. - قوله تعالى: «أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ» الإشارة هنا ترجع إلى أولى الألباب، الذين عرفوا الله وآمنوا به، واتصفوا بتلك الأوصاف الكريمة التي عرضتها الآيات السابقة.. فهؤلاء لهم عقبى الدار. والعقبى: العاقبة.. وعاقبة كل أمر خاتمته، وغايته.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 104 والدار هنا: هى دار الدنيا.. «وعُقْبَى الدَّارِ» أي الخاتمة التي ختمت بها هذه الدار، وهى عمل كل عامل فيها، فمن عمل خيرا كانت عاقبته خيرا، ومن عمل سوءا كانت عاقبته بلاء ونكالا.. ولهذا جاء قوله تعالى: «لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ» بإضافة العاقبة لهم، ولم يجعلها عليهم، بمعنى أن هذه العاقبة مما يملكه الإنسان ويحرص على اقتنائه، إذا كان خيرا.. على حين أن العاقبة إذا كانت شرا، نفر منها الإنسان، وحاول أن يفلت منها، ويوليها ظهره، ولكها تحمل عليه حملا.. وإلى هذا يشير قوله تعالى: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» . (286: البقرة) . قوله تعالى: «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ» - هو بدل من قوله تعالى: «لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ» .. أي أن عقبى الدار هذه هى «جَنَّاتُ عَدْنٍ» حيث تنتهى بالمؤمنين حياتهم الدنيا عند جنات عدن.. «يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ» أي أن هذه الجنات التي يجدها المؤمنون عند انقطاع حياتهم الدنيا، هى لهم، مفتحة أبوابها، يدخلونها هم، ومن كان صالحا لدخولها من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، وفى هذا أنس لهم جميعا، حيث يجتمع شملهم، ويكمل نعيمهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ «1» مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ» (21: الطور)   (1) ما ألتناهم: أي: ما نقصناهم. [ ..... ] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 105 - وفى قوله تعالى: «وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ.. فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ» . بيان لما يدخل على المؤمنين من مسرّات، وهم فى جنات النعيم.. إذ يحيّون فيها من ملائكة الرحمن، تحية ترحيب وتكريم: «سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ» وهم لا يدخلون عليهم من باب واحد، بل من أبواب كثيرة.. من يمين وشمال، وأمام، وخلف.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ» (44: الأحزاب) وقوله سبحانه: «أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً، وَسَلاماً» (75: الفرقان) . - وفى قوله تعالى: «سَلامٌ عَلَيْكُمْ» من غير وصله بما قبله، إشارة إلى أن دخول الملائكة عليهم، هو فى ذاته سلام وأمن، وهو تحية حيّة ولو لم ينطقوا بها.. ولهذا لم يجىء اللفظ القرآنى: يقولون «سلام عليكم» بل جاء هكذا: «سَلامٌ عَلَيْكُمْ» .. وفى قوله تعالى: «بِما صَبَرْتُمْ» إشارة إلى أن الصّبر هو المطية الذّلول التي بلغت بالمؤمنين هذا المنزل الكريم، ونقلتهم من عالم الفناء إلى عالم البقاء والخلود فى جنّات النعيم.. «فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ» أي فنعم عقبى الدار الدنيا، هذه الدار.. دار الآخرة.. الآيات: (25- 29) [سورة الرعد (13) : الآيات 25 الى 29] وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 106 التفسير: قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ» - هو بيان للوجه الآخر من وجهى الإنسانية، وهو وجه الكافرين، والمشركين والمنافقين.. الذين نقضوا عهد الله الذي أخذه عليهم الرسول، من بعد الميثاق الذي واثقهم الله عليه، وهم فى عالم الأرواح.. وقد أشرنا إلى شرح هذه الآية من قبل: (الآية 21 من هذه السورة) . قوله تعالى: «اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ» - مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أنه لما كانت الحياة الدنيا ومتاعها مما يفتن الناس، ويفسد عليهم فطرتهم، ويحجب عنهم وجه الحق، فيضل كثير منهم طريقه إلى الله.. لمّا كان هذا هو شأن الدنيا مع الناس، فقد جاء قوله تعالى: «اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ» منبها هؤلاء الضالّين المتكالبين على الدنيا، إلى أنهم لا يملكون لأنفسهم شيئا، وأن الأرزاق بيد الله سبحانه- يبسطها لمن يشاء، ويقدرها أي يقبضها، ويمسكها عمن يشاء، وأنّ تخبطهم فى طرق الضلال، وركوبهم مراكب النفاق لا ينفعهم فى شىء، ولا ينيلهم من الدنيا إلا ما قدّره الله لهم.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 107 - وفى قوله تعالى: «وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا» - هو تشنيع على الضالّين، واستخفاف بهم، وتسفيه لأحلامهم، إذ كان زخرف الحياة الدنيا، وهذا المتاع الزائل الذي وقع لهم منها- هو مبتغى مسعاهم فيها، ومبلغ حظهم منها، فإذا وقع لهم منها شىء طاروا به فرحا، ولو اغتال ذلك إنسانيتهم، وطمس على عقولهم وقلوبهم.. «أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى.. فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ» (16: البقرة) . - قوله تعالى: «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ» إشارة إلى أن الحياة الدنيا هى مزرعة للآخرة، يتزود فيها الناس ليوم الفصل.. فمن كان زاده التقوى، ربح، وسعد، وفاز بنعيم الجنة ورضوان الله، ومن تزوّد بالذنوب والآثام، فقد خاب، وتعس، وكان لجهنم حطبا. قوله تعالى: «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ» . هو بيان لتعلّات الكافرين والضالّين، الذين يدعون إلى الإيمان بالله، وتقرع أسماعهم كلمات الله، فلا يصيخون إليها، ولا يفتحون عقولهم وقلوبهم لها، بل يركبون رءوسهم، ويتنادون فيما بينهم: «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ؟» حتى لكأن هذه الآية التي يقترحونها هى اليد التي تشدّهم إلى الإيمان، وتفتح آذانهم وقلوبهم إلى الله.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ» (146: الأعراف) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 108 - وقوله تعالى: «قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ» .. هو ردّ على تعلّات هؤلاء الكافرين، وردع لهم، وأنهم لن يؤمنوا أبدا.. إذ أنهم لم يكونوا ممن أرادهم الله سبحانه للإيمان، ودعاهم إليه، لما علم من فساد طبيعتهم.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ» (23: الأنفال) .. أما أهل الإيمان، فقد دعاهم الله سبحانه وتعالى إليه، ويسّر لهم الإيمان به، إذ كانوا على فطرة قابلة للخير، مستجيبة للحق، متهدّيه إلى الإيمان، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً» (17: محمد) ويقول سبحانه: «وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً» (77: مريم) . قوله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» - هو بدل من قوله تعالى «مَنْ أَنابَ» يعنى أنه سبحانه يهدى من أناب إليه من عباده، أي رجع إليه، ووجه وجهه إلى رحابه.. وهؤلاء هم المؤمنون الذين استجابوا لله والرسول واطمأنت قلوبهم بذكر الله.. - وفى قوله تعالى: «وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ» إشارة إلى أن من علامات أهل الإيمان، أنهم إذا ذكروا الله، أو ذكّروا به، اطمأنت قلوبهم، واشتملت عليهم السكينة، وغشيهم الأمن والسلام.. - وفى قوله تعالى: «أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» توكيد لهذا الخبر الذي تضمنه قوله تعالى «وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ..» وقوله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ» هو توكيد لقوله تعالى: «أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» .. حيث أن ذكر الله يقيم الإنسان على الإيمان بالله، ويمسك به فى مجال العمل الصالح، فيحيا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 109 حياة طيبة، يجد فيها الأمن والسكينة، فإذا كانت الآخرة، وجد ما عمل من صالحات حاضرا، فيسعد به ويهنأ. والطوبى: مؤنث أطيب، وهو الحسن الجميل من كل شىء.. والمآب: المرجع، والمراد به يوم القيامة.. [ذكر الله.. واطمئنان القلوب به] «أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» .. وذكر الله هو تذكره، فى استحضار جلاله، وعظمته، وقدرته، وكل ما له- سبحانه- من صفات الكمال والجلال.. فإذا ذكر الإنسان ربّه، واستحضر جلاله وعظمته، كان من هذا الذكر فى ظلّ ظليل، من جلال الله وعظمته، وفى حمّى لا ينال من حياطته، ورعايته، وفى عزة تصغر أمامها عزة كل عزيز فى هذه الدنيا، إذ كان معتصمه هو الله القوىّ العزيز! «وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (101: آل عمران) . فالذى يذكر الله وهو موقن به، طامع فى رحمته، معتصم بجلاله، محتّم بحماه، لائد بفضله، عائد به، من هموم الدنيا، ومن ظلم الظالمين، وبغى الباغين- يجد ربا قريبا منه، سامعا دعاءه مستجيبا له، قال تعالى: «وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» .. وقال: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» .. وقال جل شأنه «وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» (186: البقرة) . وليس ذكر الله الذي تطمئن به القلوب، هو هذا الذكر الذي تردّده الألسنة ترديدا آليا، دون أن يكون منبعثا من القلب، دافئا بحرارة الإيمان، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 110 منطلقا بقوة اليقين- فمثل هذا الذكر لا يعدو أن يكون أصواتا مرددة، أشبه بالجثث الهامدة.. لا روح فيه، ولا معقول له.. ومن هنا تكون آفته، فلا يطمئن به قلب، ولا ينشرح به صدر.. أما الذكر الذي يقول فيه سبحانه وتعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ.» ثم يؤكده بقوله: «أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» فهو الذكر الذي ينبعث عن إيمان، فتهتزّ له المشاعر، وتدفأ به الصدور، وتطمئن به القلوب.. ولهذا قدّم سبحانه الإيمان على الذكر.. حتى يكون للذكر أصل يرجع إليه، ومنطق بنطق منه، وهو الإيمان.. فإذا ذكر المؤمن بالله ربّه، غرّدت فى نفسه بلابل البهجة، وزغردت فى صدره عرائس الرضا، واستولت عليه حال من الشجا الممزوج بالنشوة، حتى ليكاد يكون كلّه عاطفة ترفّ بجناحي الصبابة والوجد، وتحلّق فى سماوات عالية، مشرقة بنور الحق، معطرة بأريج الصفاء والطهر. ولا يكون الذكر لله ذكرا يثمر هذه الثمرة، التي يطمئن بها القلب، إلا إذا انبعث من قلب عارف بالله، مدرك لما ينبغى له سبحانه، من صفات الكمال والجلال، فذلك هو الذي يفيض على القلب خشية عند ذكر الله، وهو الذي يستثير مشاعر الولاء لله، والإخبات له، فتقشعر الجلود، وتدمع العيون.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» (2: الأنفال) .. وقوله سبحانه: «وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» (34- 35 الحج) وقوله جلّ شأنه «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ» .. (23: الزمر) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 111 فإذا ذكر المؤمن ربه، وقد تلبست به تلك الحال، واستولت عليه هذه المشاعر، قرب من الله، ودنا من مواقع رحمته، وأحسّ برد السكينة يغمر قلبه، ووجد ريح الأمن والطمأنينة تهبّ عليه، معطرة الأنفاس، زاكية الأرواح. إن الإنسان إذ يذكر حدثا من الأحداث، أو يستحضر صورة شخص من الأشخاص، له به علقة حب أو بعض، فإنه يجد فى كيانه لهذا الذكر، ولذاك الاستحضار ما يهزّ كيانه، ويثير عواطفه، ويهيج أشجانه، أو يبعث مخاوفه.. وإلى هذا المعنى يشير الشاعر العربي فى مدح أحد الخلفاء.. إذ يقول: خليفة الله إن الجود أودية ... أحلّك الله منها حيث تجتمع إن أخلف الغيث لم تخلف مواطره ... أو ضاق أمر ذكرناه فيتسع والشاهد هنا فى قوله: «أو ضاق أمر ذكرناه فيتسع» فهو يريد أن يقول: إنه إذا نزل به ضيق، أو كربه كرب، وجرى ذكر الخليفة فى خاطره، كان له من هذا سعة من ضيق، وخلاص من كرب، وراحة من عناء وهمّ. ويروى أن قيس بن الملوح (مجنون ليلى) وهو فى زحمة الحجيج بمنى، سمع إنسانا يهتف بمن اسمها ليلى، بل لعله عرف المجنون، فأراد أن يهيج لواعجه، ويحرك أشجانه، فهتف بهذا الاسم، كأنه يستدعى ابنة أو زوجا له.. وأيّا ما كان، فقد أثار هذا النداء بيا «ليلى» ثائرة المجنون، وحرك بلابل أشجانه، وعرته حال من الصبابة والوجد. كان وصفه لها فى هذين البيتين، تصويرا لبعض ما استطاع أن يمسك به من مشاعره.. يقول المجنون: وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى ... فهيّج أشجان الفؤاد وما يدرى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 112 دعا باسم «ليلى» غيرها فكأنما ... أهاج «بليلى» طائرا كان فى صدرى! هذا بعض ما تثير ذكريات الأحداث، وتذكّر الأشخاص، فى مجال الخير والشر، وفى مقام الحبّ والبغض.. فكيف يكون الحال عند من يذكر الله، ويستحضر جلاله، وعظمته، وقدرته، وعلمه، وحكمته، وكل ما ينبغى له- سبحانه- من صفات الكمال والجلال؟ إن الذاكر لله على تلك الصفة يجد نفسه فى حضرة مالك الملك، القائم على هذا الوجود، والمصرّف لكل موجود.. وإذا هو فى هذا المقام ذاهل عن كل ما عدا الله، مستخفّ بكل ما سواه، موقن بأن ما هو فيه من خير أو شر، هو مما قضى الله به، وأنه لا يكشف الضرّ إلا هو سبحانه، ولا يسوق الخير إلا هو جل شأنه، فوعى قوله سبحانه: «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (17: الأنعام) وأخذ من ثمراتها الطيبة المباركة، زادا طيبا مباركا، فيه الشبع من كل جوع، والرىّ من كلّ ظمأ، والشفاء من كل داء. فإذا ذكر الإنسان ربّه هذا الذكر الذي يدنيه من ربه، والذي يشهد منه ما يشهد من جلال الله، وعظمته، وقدرته، ارتفع عن هذا العالم الترابىّ، واستصغر كل شىء فيه، فلا يأسى على فائت، ولا يطير فرحا، ولا يأشر بطرا، بما يقع ليديه من حطام هذه الدنيا.. وهذا هو الاطمئنان الذي يسكن به القلب وتقرّ العين.. حيث لا حزن، ولا جزع، ولا خوف!! «أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» .. ذلك أن الداء الذي يغتال أمن الناس، ويقضّ مضاجعهم- هو ما يدخل عليهم من هموم الدنيا، وما يشغلهم من توقعات الأمور فيها.. وإنه لا دواء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 113 لهذا الداء إلا باللّجأ إلى الله، والفزع إليه، وذلك بذكره، وتذكّر سلطانه المبسوط على هذا الوجود، وأمره القائم على كل موجود.. «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ.. تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» . - وفى قوله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ» . وفى التعبير عن الإيمان بالفعل الماضي «آمنوا» وعن الاطمئنان بفعل المستقبل.. «تطمئن» - فى هذا إشارة إلى أن الإيمان حال لا يتحول عنها المؤمن، وأنه لا بوصف بالإيمان إلا إذا كان مؤمنا.. على خلاف الاطمئنان، فإنه غير ملازم للمؤمن فى كل حال، وإنما يقع الاطمئنان عند ذكّر الله، وكلما ذكر المؤمن ربه، حين تعرض له عوارض الفلق والجزع. وهنا، نود أن نشير إلى أن ذكر الله الذي يمنح القلب اطمئنانا وأمنا، يحسن أن يكون منظورا فيه إلى صفة من صفات الله، المناسبة لتلك الحال العارضة، التي أزعجت الطمأنينة عن القلب، وأطارت السكينة والأمن من الجوانح..! فإذا كان الإنسان فى مواجهة مرض، مثلا.. فى نفسه، أو نفس من يحب. ذكر الله الرحمن الرحيم، وذكر قدرته على كشف هذا الضر، ورفع هذا السوء! وإذا كان فى يد سلطان جائر، أو عدوّ متسلط قاهر، ذكر الله القوىّ القاهر، الجبار المنتقم.. فأراه ذلك ضآلة هذا السلطان، وصغر شأن هذا العدو.. وهكذا يذكر للذاكر ربّه، فيرى فى وجهه الكريم، الصفة التي يتجلّى بها عليه، فإذا هى السكن لجوارحه، والدواء لدائه، والطمأنينة لقلبه.. وهذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 114 ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها» (180: الأعراف) فبالاسم الذي ندعو الله به، يتجلّى به الله- سبحانه- علينا، فنرى فى سنا وجهه الكريم، غيوث رحمته، ومواطر فضله ورضوانه. ولعله من المناسب أن نذكر هنا قول الله تعالى: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (152: البقرة) : فالله سبحانه وتعالى لا ينسى، حتى يذكر فيذكر.. بل هو جل شأنه يذكرنا دائما، ذكرناه أو لم نذكره.. ولكن المراد بذكره لنا هنا إذا ذكرناه، هو أننا إذا ذكرناه وجدناه سبحانه حاضرا فى قلوبنا وعقولنا.. وأننا إذا لم نذكره، فهو سبحانه حاضر كذلك، ولكن هذا الحضور لا نحسّ به، ولا ننأثر له. فإذا ذكر المؤمن ربّه، وجد ربه تجاهه.. وكأنه بتفلّته عن ذكر ربه قد بعد عن الله، فإذا ذكر ربّه، وأشرق عليه بنوره السنىّ البهىّ.. وفى الحديث القدسي: «من تقرب إلىّ شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلىّ ذراعا تقربت إليه باعا، ومن أتانى يمشى أتيته هرولة» .. فذكر الله، وامتلاء القلب بهذا الذكر، يفيض على الذاكر أنوارا من جلال الله وبهائه، وإذا هو فى حمّى عزيز لا ينال، وفى ضمان وثيق من أن يهون أو يذلّ لغير الله الواحد القهار.. وأسمى الذكر وأكمله، هو ذكر العارفين بالله، معرفة يطلعون منها على ما يملأ قلوبهم جلالا وخشية لله، حيث يشهدون من كمالات الله ما لا يشهده إلا المقربون، الذي رضى الله عنهم ورضوا عنه.. كما يقول سبحانه وتعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا» .. فهذا الودّ إنما يناله أولئك الذين يذكرون الله فيذكرهم لله، ويعرفونه فيعرفهم.. «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 115 رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا» .. فهذا الذكر المستبصر، هو الذي يضىء الطريق الذي يسلكه الذاكر إلى ربه، فيرى على ضوء هذا النور، قدرة الخالق وجلاله، وعظمته، فيخشع قلبه وتسكن وساوسه. فالذكر- كما قلنا- ليس مجرد كلمات يرددها اللسان، وإنما هو نبضات قلب معمور بالإيمان بالله، وخفقات وجدان ريّان بالرجاء فى الله، والطمع فى فضله وإحسانه، وذلك بعد أن يعرف المرء ربّه، ويعرف ما ينبغى له سبحانه من كمالات.. والرجاء الذي يقوم على غير إيمان، ويستند إلى غير طاعة، هو مكر بالله، وخداع للنفس، وعدوان على سنن الحياة التي أقام الله عباده عليها، فجعل لكل عامل عمله، ولكل غارس ثمرة ما غرس!. وحسن أن يحسن العبد ظنه بربه، بل وأن يبالغ ما شاء فى هذا الظن، ولكن شريطة أن يكون ذلك الظن نابعا من الإيمان بالله، ومستندا على ما يجد العبد من شواهد القرب من ربه.. فهنا يحق له أن يتمنى على ربه، وأن يدلّ دلال المحبوب مع محبوبه.. وفى الحديث الشريف: «ربّ أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبرّه» .. وفى الخبر الثابت أن البراء بن مالك (وهو أخو أنس بن مالك) كان ممن يقسم على الله فيبرّ الله قسمه، وكان المسلمون إذا اشتدت عليهم الحرب فى قتال المشركين، يقولون: يا براء.. أقسم على ربك فيقسم على ربه فينتصرون!. والدعاء، هو من ذكر الله.. حيث يوجّه الداعي وجهه إلى الله، طالبا اللجأ إليه، والمدد من إحسانه وفضله.. يقول ابن قيم الجوزية فى تفسيره المسمى: «التفسير القيم» : إن الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه، متضمن للطلب منه، والثناء عليه بأسمائه وأوصافه، فهو- أي الدعاء- ذكر وزيادة كما أن الذكر سمىّ دعاء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 116 لتضمنه الطلب، كما قال صلى الله عليه وسلم: «أفضل الدعاء: الحمد لله» فسمّى الحمد دعاء، وهو ثناء محض، لأن الحمد يتضمن الحب والثناء، والحب أعلى أنواع الطلب للمحبوب!. ثم يقول ابن القيم: «وتأمل كيف قال «تعالى» فى آية الذكر: «وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً» وفى آية الدعاء: «ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً» فذكر التضرع فيهما معا، وهو التذلل والتمسكن، والانكسار، وهو روح الذكر والدعاء.. وخص الذكر بالخفية لحاجة الذكر إلى الخوف، فإن الذكر يستلزم المحبة ويثمرها ولا بدّ، فمن أكثر من ذكر الله أثمر له ذلك محبته، والمحبة ما لم تقترن بالخوف، فإنها لا تنفع صاحبها، بل تضره، لأنها توجب الإدلال والانبساط وربما آلت بكثير من الجهال المغرورين إلى أنهم استغنوا بها عن الواجبات، وقالوا: المقصود من العبادات إنما هو عبادة القلب، وإقباله على الله ومحبته له، وتأليهه له.. فإذا حصل المقصود، فالاشتغال بالوسيلة باطل! «فإن من سلك هذا المسلك انسلخ عن الإسلام العام كانسلاخ الحبة عن قشرها.. «وسبب هذا، عدم اقتران الخوف من الله، بحبه وإرادته (أي كونه مريدا له) . ولهذا قال بعض السلف: «من عبد الله بالحب وحده، فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده، فهو حرورى «1» ومن عبده بالرجاء وحده، فهو مرجىء «2» ،   (1) الحروري: نسبة إلى فرقة من فرق الخوارج، تعرف بالحرورية، الذين يقولون بالقدرة المطلقة للعبد. (2) المرجئة: من الفرق الخارجة على الملة الإسلامية، وهى التي تتعلق بالرجاء من غير عمل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 117 ومن عبده بالحب والخوف والرجاء، فهو مؤمن» .. وقد جمع الله تعالى هذه المقامات الثلاثة فى قوله سبحانه: «أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ» فابتغاء الوسيلة هو محبته الداعية إلى التقرب إليه.. ثم ذكر بعدها الرجاء والخوف! .. وبعد فإن ذكر الله بالقلب واللسان، هو خير زاد يتزود به الإنسان فى رحلة الحياة، وخير رفيق يؤنسه فى طريقه الموحش، حيث يجد فى جوار الله الأنس، حين يستوحش الناس، ويجد الشبع والرىّ إذا أجدب الناس، وكلب الزمان.. والله سبحانه وتعالى يقول: «فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى» . الآيات: (30- 34) [سورة الرعد (13) : الآيات 30 الى 34] كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 118 التفسير: قوله تعالى: «كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ..» . خلت: أي مضت، وتركت ما كانت تشغله خاليا منها.. وفى قوله تعالى: «كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ» - تنويه بقدر النبىّ، وبشأن رسالته التي أرسل بها.. وأنها وإن تكن مسبوقة برسالات النبيين من قبله- فإنها ذات صفة خاصة، وشأن فريد، اختصت به، حتى لقد أصبحت بهذه الخصوصية، بحيث لا تشبه بالرسالات التي سبقتها، وأنه إذا أريد تشبيهها فلا مشبه لها إلا ما كان مثلها.. وإذا لم يكن هناك ما هو مثلها، شبهت بنفسها هى، «كذلك أرسلناك» أي مثل إرسالك هذا الذي لا شبيه له، أرسلناك.. «فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ» أي أرسلناك فى أمة قد مضت من قبلها أمم، وقد جرت على هذه الأمم سنة الله فى خلقه، فكان فى الماضي منها عبرة وعظة لمن يخلقها ويجىء بعدها.. وفى تعدية الفعل «أرسلناك» بحرف الجر «فى» بدل الحرف «إلى» الذي يتعدى به هذا الفعل دائما- إشارة إلى أن النبىّ هو من صميم هذه الأمة حتى لكأنها أشبه بالظرف الذي يحتويه زمانا، ومكانا، ومجتمعا.. فهو ليس طارئا على هذه الأمة، مستدعى إليها من خارج ذاتها.. وإنما هو فى الصميم منها.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 119 - وفى قوله تعالى: «لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» إشارة إلى مهمة الرسول، وأنها مهمة تبليغية، يتلو على هذه الأمة ما أوحى إليه من كتاب ربّه.. «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» (29: الكهف) . - وفى قوله تعالى: «وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ» تشنيع على المشركين، وتهديد لهم، وتسفيه لجهلهم العنيد.. إذ كانوا كلما تلا النبىّ كلمات ربّه ازدادوا كفرا.. هكذا حالا بعد حال.. فجملة «وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ» جملة حالية، وصاحب الحال هو الضمير فى «عليهم» أي أنت تتلو عليهم الذي أوحينا إليك، وهم يكفرون بالرحمن.. هذا شأنك، وذلك شأنهم.! فما أبعد الفرق بينك وبينهم.. أنت تسمعهم كلمات الله، وهم يسمعونك السّفه والضلال.. وأنت تمدّ لهم يدك بالبرّ والإحسان، وهم يرجمونك بالأحجار والحصى! وفى ذكر الله سبحانه وتعالى باسمه الكريم «الرحمن» دون أسمائه الكريمة الأخرى، ما يشير إلى شناعة جرم هؤلاء المشركين، الذين كلما تليت عليهم آيات الله زادتهم كفرا، وضلالا، وأنهم إنما يكفرون «بالرحمن» الذي بعث فيهم رسولا منهم، يحمل بين يديه الدواء الذي يكشف عن قلوبهم ماران عليها من ضلال، ويرفع عن أبصارهم ما غشيها من ظلام.. أفذلك هو ما تستقبل به رحمة الرحمن؟ وأ هذا ما يجزى به المنعم على ما أنعم به من رحمة وهدى؟ ذلك جحود لئيم، وكفران سفيه..! ومع هذا، فإن الرحمن الرحيم لم يعجّل لهم العذاب، ولم يقبض يده الرحيمة عنهم، بل لقد أمهلهم، ويده الكريمة بالرحمة مبسوطة لهم، ورسوله الكريم قائم فيهم، يتلو عليهم آيات ربّه، ويفتح لهم منها أبوابا واسعة من رحمة الله.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 120 فإن هم أبوا أن يدخلوا فى دين الله، حتى يموتوا على الكفر، فذلك من شؤمهم، ونكد حظهم. قوله تعالى: «قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ» . .. هذا هو موقف النبىّ، بعد أن يبلّغ رسالة ربّه.. فليكفر من يكفر.. أما هو فمؤمن بربّه، الذي لا إله إلا هو، وهو متوكل عليه، لا يلتفت إلى غيره، ولا يطمع فى ثواب إلا منه. قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى..» هو توكيد لهذا الكفر الذي انطبع فى قلوب أولئك الكافرين، الذين كلما تليت عليهم آيات «الرحمن» لجّ بهم العناد، والضلال.. فلم يزدادوا إلا كفرا على كفر، وضلالا إلى ضلال.. فلو نزل عليهم قرآن، تخرج منه آيات مادية محسوسة، من تلك الآيات التي كانوا يقترحونها على النبىّ، فتسيّر بهذا القرآن الجبال، أو تقطع به الأرض، أو تتفجر به العيون، أو يبعث به الموتى من القبور، وينادون فيجيبون- لو نزل عليهم قرآن يرون منه رأى العين هذه الآيات، لما آمنوا، ولما أخذوا موقفا غير هذا الموقف المنحرف الضلال الذي هم فيه.. والسؤال هنا: لماذا حذف جواب «لو» فى قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ ... » ؟ والجواب- والله أعلم- هو أنه لما كان ضلال هؤلاء المشركين وعنادهم قد بلغ الغاية فى هذا الباب، بحيث تنطق شواهده، وتشهد وقائعه، بأن القوم ليسوا طلّاب حقيقة، وإنما هم أصحاب مماحكات وجدل- لمّا كان هذا هو شأن القوم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 121 وتلك هى حالهم، فقد ترك جواب «لو» الشرطية لدلالة الحال عليه، وللإشارة إلى أن الجواب محمول مع الشرط، وأنه جواب واحد لا سبيل إلى غيره، وهو أن هؤلاء المشركين بالذات، لن يؤمنوا أبدا، كما يقول الله سبحانه وتعالى فيهم: «وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا» (146: الأعراف) وكما يقول سبحانه فيهم أيضا «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» . (96- 97: يونس) والتعبير بصيغة الماضي عن هذا القرآن الذي تسير به الجبال، أو تقطع به الأرض، أو يكلم به الموتى، وهذا ما يشير بأن هذه الآيات لو وقعت فعلا أمامهم لم يؤمنوا بها.. ومما يشهد لهذا الرأى الذي ذهبنا إليه فى تأويل هذه الآية هو الأخبار وقد تأول المفسرون لهذه الآية كثيرا من وجوه التأويل، لم نجد فيها ما نطمئن إليه. قوله تعالى: «بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً» - هو إجابة عن سؤال يرد على الخاطر بعد الاستماع إلى قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى» وما يفهم من هذا، من أن هؤلاء المشركين لن يؤمنوا بالله أبدا.. والسؤال هو: لماذا لا يؤمن هؤلاء المشركون، بهذه الآيات التي يؤمن بها الناس؟ وماذا يحجزهم عن الإيمان، ويقيمهم على الشرك والضلال؟ وكان الجواب هو قوله تعالى: «بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً» أي أن الأمر كلّه لله، لا يسأل عما يفعل، وهو- سبحانه- إذ حجز هؤلاء المشركين عن الهدى، وختم على قلوبهم وعلى سمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، فلم يروا آيات الله الكونية، ولم يسمعوا آيات الله المنزلة على نبيّه، ولم يتحوّلوا عن طريق الشرك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 122 والكفر- فذلك مشيئته فيهم.. «وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ» وليس لمخلوق أن يعترض على ما أراد الخالق به! «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ.. تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» .. قوله تعالى: «أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا؟» . اليأس: هو القنوط، وفقدان الرجاء. والاستفهام هنا تقريرى، يراد به أخذ اعتراف المؤمنين باليأس من إيمان هؤلاء المشركين، وقطع الرجاء فى أن يكونوا يوما من المؤمنين.. وأنه إذا كان عند المؤمنين بقيّة من أمل فى إيمان هؤلاء الذين اتخذوا آيات الله هزوا وسخرية، والذين كلما تليت عليهم آيات الله زادتهم كفرا على كفر، ورجسا على رجس- إذا كان عند المؤمنين بقية من أمل فى إيمان مثل هؤلاء، فليقطعوا حبل الرّجاء، وليكونوا على يأس من أن يؤمنوا.. وأنّه إذا سأل سائل منهم: لماذا لا يرجى من هؤلاء المشركين إيمان، ورسول الله فيهم، وآيات الله تتلى عليهم؟ فهذا جواب ما سألوا عنه: «لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً» وهؤلاء المشركون لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم من الشرك! فإذا بقي بعد هذا من يسأل: «ولماذا لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم هم بالذات.. وقد طهّر قلوب كثير من إخوانهم الذين كانوا مشركين مثلهم فآمنوا واهتدوا؟» كان فى قوله تعالى: «أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً» ، الجواب الذي لا تعقيب عليه.. فتلك هى مشيئة الله فى عباده.. «فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» (7: الشورى) .. «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (2: التغابن) .. وهؤلاء المشركون هم ممن حقت عليهم كلمة الله.. «أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ، أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ؟» (19: الزمر) . ونقرأ الآية الكريمة بعد هذا. «وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 123 بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً.. أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا.. أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً» .. وننظر فيها على هذا الفهم الذي فهمناها عليه، فنجد بيانا معجزا، ونظما متفردا بالجلال والروعة، والإعجاز، وإن بدأ فى النظرة الأولى أنه غير جار على مألوف النظم، الذي تتشابك أطرافه، وتتماسك مقاطعه.. حتى لقد ذهب المفسّرون فى هذا مذاهب كثيرة، كلها ليس فيها ما تقع صدى أو يشفى غليلا.. وكان أهداهم سبيلا من تأول قوله تعالى: «أَفَلَمْ يَيْأَسِ» بمعنى أفلم يعلم، وجاء بشاهد من الشعر يشهد لهذا المعنى.. وهو تأويل فاسد متهافت.. وقد استعمل القرآن فعل اليأس هذا فى مواضع كثيرة من القرآن، فلم يكن فى موضع منها ما يشهد لهذا المعنى! وكان من أشنع المقولات التي قيلت هنا، هى قول من قال: إن ييئس بمعنى يتبيّن، وأن كاتب المصحف قد خلط فسوّى رءوس السّينات فى «يتبيّن» فقرئت «ييئس» !! وهذا قول ساقط، لا يستحق أن نلتفت إليه، أو نلقى إليه بالا.. فإن القرآن الكريم لم يودع فى المصاحف إلا بعد أن أودع فى صدور الكرام الحافظين من الصحابة والتابعين.. فكان المحفوظ فى الصدور مهيمنا على ما كتب الكاتبون من كلام الله! والعجب أن يقال مثل هذا القول الشنيع فى تفسير من التفاسير المعتمدة، ولو على سبيل النقل والحكاية.. فإن فى ذلك طعنا فى صحة القرآن الكريم، ومدخلا للشك فى حفظه من التحريف.. الأمر الذي لا يطلب أعداء هذا الذين سلاحا أمضى من هذا السلاح، لطعنه طعنة فى الصميم..!! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 124 إن مثل هذا القول هراء، لا يصح أن يقف أحد عنده، أو ينظر إليه مجرد نظر عابر. وتسأل: ماذا حمل المفسرين على هذا؟ ولا جواب، إلا النية الحسنة!! فهؤلاء المفسرون هم أحرص الناس على كتاب الله، وعلى توقيره، والذود عنه، وكشف مواقع الخير والهدى للناس منه.. ولكن عن نية حسنة أرادوا الدفاع عن النظم القرآنى، وإقامته على قواعد النحو التي استخلصوها من أساليب اللغة.. فكان منهم مثل هذه الزلات.. وفاتهم أن القرآن الكريم، وإن جرى على مألوف العرب فى شعرهم ونثرهم، هو- قبل هذا- أسلوب فريد، تفرد بالكمال كله، واحتوى الحسن جميعه، وإلا لما أعجز العرب، وأفحمهم، وقطع نوازع الرغبة عندهم، فى أن يعارضوه، ولو بسورة من مثله! ولا ندع الآية الكريمة، دون أن نعيد النظر إليها مرة أخرى، لنبحث عن السر فى هذا النظم الفريد الذي جاءت عليه، حتى أنه لم يكن بين مقاطعها ترابط بحرف من حروف العطف! فما سرّ هذا؟ ونقول- والله أعلم-: إن الآية الكريمة فى هذه المقاطع القليلة، قد عرضت أكثر من موقف، ولأكثر من جماعة.. فأولا: المشركون، وعنادهم، وضلالهم، وأنهم لن يؤمنوا أبدا ولو جاءتهم كل آية كانوا يقترحونها على النبي. «وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى..» فهذه جبهة المشركين.. وتلك حالهم، وهذا حكم الله فيهم.. لن يؤمنوا أبدا، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 125 ولو جاءهم قرآن يتلى عليهم، فتطل منه هذه الآيات الكونية المجسمة، يرونها بأعينهم، ويلمسونها بأيديهم: «وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» . (7: الأنعام) وثانيا: الذين يعجبون لهذا الحكم الذي حكم به على المشركين.. سواء أكانوا من المؤمنين أو من المشركين.. وهؤلاء وأولئك جميعا، يلقاهم قول الحق سبحانه وتعالى: «بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً» .. فلتخرس الألسنة، ولتخضع الرقاب! وثالثا: المؤمنون الذين كانوا لا يزالون على طمع فى أن يلحق بهم آباؤهم أو أبناؤهم، أو أزواجهم، أو إخوانهم، من هؤلاء المشركين- هؤلاء المؤمنون مطلوب منهم أن يريحوا أنفسهم باليأس من إيمان هؤلاء الذين يطمعون فى إيمانهم، وأن يستمعوا لقوله تعالى: «أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا؟» .. ورابعا: هذا اليأس الذي وقع فى نفوس كثير من المؤمنين الذين كانوا يطمعون فى أن يلحق بهم أهلوهم وإخوانهم، وأن يخرجوا من ظلام الكفر إلى الهدى والإيمان- هذا اليأس قد ترك مرارة وأسى فى نفوس المؤمنين، فكان قوله تعالى: «أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً» - كان ذلك عزاء لهم، إذ كانت تلك إرادة الله فيهم.. كما يقول سبحانه للنبى الكريم: «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» (56: القصص) وكما يقول له سبحانه: «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» (103: يوسف) وكما يقول له سبحانه أيضا: «إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» (37: النحل) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 126 وهكذا أشرفت كلمات الله من عل على الناس جميعا.. مؤمنين، ومشركين، وخاطبت كل فريق منهم الخطاب الملائم له.. وكان من مقتضى الحكمة ألا تجمع بينهما فى هذا الموقف جامعة، الأمر الذي أوجب عزل مقاطع الآية بعضها عن بعض، فلم يقم بينهما حرف عطف، إذ كان داعية الحال تقضى بأن ينزع المؤمنون من قلوبهم كل عاطفة تعطفهم على المشركين من أهليهم وذوى قرابتهم، وأن يستريحوا إلى اليأس من إيمانهم، غير آسفين على هذا المصير الذي هم صائرون إليه.. إذا أن الأمر كله لله.. وأن لو شاء الله لهدى الناس جميعا.! أفرأيت إذن كيف كان هذا الإعجاز فى النظم؟ وكيف جاءت مقاطع الآية على هذا الوجه الذي جعل كل مقطع منها يكاد يعطى ظهره لصاحبه؟ وهل فى غير كلام الله- سبحانه وتعالى- يجىء مثل هذا النظم الذي يجعل من الكلمات شخوصا ماثلة، مائجة بالعواطف الجياشة، الملتحمة فى هذا الصراع.. من داخل ذاتها، ومن خارجها على السواء؟ فسبحان من هذا كلامه.. «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ» ..! قوله تعالى: «وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ» - هو إرهاص بما سيلقى هؤلاء المشركون والكافرون، من بلاء فى هذه الدنيا على يد المؤمنين. وإنه كما يئس المؤمنون من إيمان أهليهم وإخوانهم، وصبروا على تلك المصيبة فيهم، كذلك ينبغى عليهم أن يوطنوا أنفسهم على ألا يحزنوا، ولا يأسوا على ما سيحل بهؤلاء المشركين من بلاء، وما يصيبهم من قوارع، أي كوارث ونوازل، ذلك أنهم قد استوجبوا بكفرهم، هذا الخزي والبلاء فى الدنيا، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 127 على يد المؤمنين، الذين سينصرهم الله عليهم، ويمكّن لهم من ديارهم وأموالهم.. - وفى قوله تعالى: «تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ» إشارة إلى أن ما سيحل بالكافرين من خزى فى هذه الدنيا، هو مما كسبته أيديهم، ومما جرّه عليهم كفرهم وضلالهم.. والقوارع التي أصابت هؤلاء الكافرين كثيرة.. منها ما أصابهم به المسلمون فى غزوة بدر، وما رماهم الله سبحانه وتعالى به من خزى فى غزوة الأحزاب، حيث يقول سبحانه: «وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً» (25: الأحزاب) .. ثم ما كان فى فتح مكة، حيث وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرفا على عتاة قريش وجبابرتها، وقد خشعوا بين يديه، وضرعوا له فى ذلة واستكانة، فقال: «ما تظنون أنّى فاعل بكم» ؟ فقالوا: «أخ كريم وابن أخ كريم!» فقال- صلوات الله وسلامه عليه-: «اذهبوا فأنتم الطلقاء!!» . - وقوله تعالى: «حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ.. إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ» .. إشارة إلى أن هذه القوارع التي تحل بالكافرين لا ترتفع عنهم أبدا، ما داموا فى هذه الحياة الدنيا، وما داموا فى لباس الكفر، وذلك إلى أن يأتى وعد لله وهو فتح مكة الذي وعد الله سبحانه وتعالى، النبىّ والمؤمنين به فى قوله تعالى: «لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ» (27: الفتح) .. «إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ» .. فقد صدق الله وعده ونصر عبده. وفتح له البلد الحرام، ودخل الناس فى دين الله أفواجا.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 128 قوله تعالى: «وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ» - هو عزاء للنبى الكريم، ومواساة كريمة له. لما كان يصيبه من أذى، يلقى به إليه قومه، بلا مبالاة وبغير حساب.. فالرسول- صلوات الله وسلامه عليه- ليس أول من دعا إلى الخير فلقى الأذى، ومدّ يده بالهدى، فردّ السفهاء يده.. فلقد سبقه إلى ذلك كثيرون من رسل الله، مستهم من أقوامهم البأساء والضرّاء.. ولكن الله سبحانه أملى لهؤلاء السفهاء، أي أمهلهم، وأفسح لهم فى الحياة وزينتها، ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر.. كما يقول سبحانه: «فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (40: العنكبوت) . - وفى قوله تعالى: «فَكَيْفَ كانَ عِقابِ» .. وعيد لهؤلاء المشركين من قريش، وإلفات لهم إلى ما أخذ الله به الظالمين قبلهم: وإنه لعقاب أليم.. وبلاء محيط، يهلك الحرث والنسل.. قوله تعالى: «أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ..» الاستفهام هنا إنكارى.. والهمزة بمعنى أىّ.. والتقدير: أىّ أحق بالعبادة، من هو قائم على كل نفس بما كسبت، فيعلم سرها وجهرها، ويجزيها على ما تعمل من خير أو شر، أم تلك الآلهة التي ولدتها الأوهام والضلالات؟. وقد حذف المعادل لهمزة التسوية استخفافا به، وهوانا له، وتنزيها لله سبحانه أن يقارن به شىء من خلقه، أو من ضلالات خلقه. ولهذا جاء النظم القرآنى عارضا قدرة الله، وأنه القاهر فوق عباده، القائم على كل نفس بما كسبت.. ضاربا عن ذكر الآلهة التي افتراها المفترون، وعبدها المشركون الضالون.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 129 وقوله تعالى: «وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ» هو البديل من المقابل لقوله تعالى: «أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ» فبدلا من أن يجىء النظم القرآنى هكذا: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت أم تلك الأصنام الصماء الخرساء التي تعبدونها؟ - جاء قوله تعالى: «وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ» بدلا من هذا المقابل، الذي يعرض تلك الآلهة فى ميزان واحد مع الله سبحانه وتعالى.. وكان قوله تعالى: «وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ» مشيرا إلى هذا المقابل من طرف خفى، وعارضا له فى معرض الزراية والاستخفاف، كاشفا عن وجه هذه المعبودات التي يعبدونها، وأنها من صنع أيديهم، أو من مواليد أوهامهم وضلالات عقولهم.. «وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ!!» فهى مجهولة، أي مصنوعة، أو مختلقة.. «إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ» (23: النجم) . وقوله تعالى: «قُلْ سَمُّوهُمْ» هو تحد لهؤلاء المشركين أن يكشفوا عن وجه هذا الخزي الذي فى أيديهم، وأن يضعوا لهذه المواليد أسماء تعرف بها! فكما استولدوا هذه الآلهة من ضلالاتهم، كان عليهم أن يضعوا لكل مولود اسما!! .. وفى مطالبتهم بتسمية آلهتهم تلك، إشارة إلى أنها أشياء غير معقولة، وغير متصوّرة، وأنها لا يمكن أن تكون لها أسماء دالة عليها.. إنها أوهام وخرافات وضلالات، فإذا أطلقت عليها أسماء، فهى إشارات عمياء، ليس بينها وبين مسمياتها صلة، من قريب أو من بعيد.. فالاسم عادة صفة من صفات المسمى، ودلالة من دلالاته.. فمن أسماء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 130 الله سبحانه وتعالى.. الرحمن.. الرحيم.. الخالق.. البارئ.. المصور.. السميع.. البصير.. الرازق.. القوى. العزيز.. إلى غير ذلك من أسمائه الحسنى.. ومن أسماء تلك الآلهة: هبل، وودّ، وسواع، ويغوث، ونسر.. وهى جميعها لا يراد منها إلا التفرقة بين هذه الدّمى المنصوبة، ليعرف بعضها من بعض كما كانوا يفعلون ذلك فى تسمية بعض حيواناتهم، وأدواتهم.. فمطالبتهم بذكر أسماء آلهتهم تلك، هو اختبار عملىّ لهم، يضع بين أيديهم ما تكشف عنه هذه الأسماء من مسميات، هزبلة تافهة، لا يرجى منها خير، ولا يحشى منها ضر. قوله تعالى: «أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ.. أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ؟» . هو إشارة إلى أن هذه الأسماء التي أطلقوها على آلهتهم، والتي وجدوا فى أنفسهم الجرأة على النطق بها، وهى مما لا وجود لمسمياتها- إذ أن تلك الأسماء التي أطلقوها عليها، لا صلة بينها وبين تلك المسميات، وإنما هى- كما قلنا- إشارات عمياء، أرادوا بها أن تكون مجرد رمز، أو إشارة، يميزون بها بعضها من بعض، كالأطواق والقلائد التي كانوا يميزون بها أغنامهم وكلابهم! ونفى علم الله عن هذه المعبودات، هو نفى لعلمه بها على تلك الصفة التي جعلوها لها.. وإنما يعلمها الله سبحانه وتعالى على حقيقتها التي هى لها.. - وفى قوله تعالى: «فِي الْأَرْضِ» - إشارة إلى أن هذه الآلهة التي أطلقوا عليها تلك الأسماء، هى من العالم الأرضى.. من أحجاره، أو حيواناته. - وفى قوله تعالى: «أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ» إشارة أخرى إلى أن هذه الأسماء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 131 التي أطلقوها على آلهتهم، هى كلمات، لا معنى لها.. وإنما هى أصوات، تبدو فى ظاهرها كأنها كلام، أما باطنها فأجوف لا شىء فيه! قوله تعالى: «بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ.. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» .. هو الحكم المناسب لما كشف عنه الحال من هؤلاء المشركين، وما اتخذوا من دون الله من آلهة، وما جعلوا لتلك الآلهة من أسماء.. «بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ» .. أي حلا فى أعينهم هذا المكر، وحسن فى عقولهم هذا الضلال، الذي صنعوه بأيديهم، وغذّوه بأوهامهم وخيالاتهم، فكان مكرا سيئا.. «وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ» فأضلّهم الله «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» يهديه، ويرفع عن عينيه غشاوة الضلال.. - وفى قوله تعالى: «وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ» إشارة إلى أن قوة خارجة عنهم هى التي صدّتهم عن سبيل الله، وحالت بينهم وبين الهدى. وتلك القوة وإن كانت خارجة عنهم إلّا أنهم قد استدعوها بضلالهم وعنادهم.. والله سبحانه وتعالى يقول: «فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ» (5: الصف) . - وقوله تعالى: «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» - إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى قد أخلى بينهم وبين أهوائهم، ليضلّوا، فضلّوا.. قوله تعالى: «لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ» . هذا هو جزاء المكذبين الضالّين، الذين حادّوا الله ورسوله.. «لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» بما ينالهم على يد المؤمنين من هزيمة، وبما تغلى به قلوبهم أبدا من حسرة وكمد.. فالكافر همّه كله فى هذه الدنيا، وحياته كلّه محصورة فى الأيام المعدودة التي يعيشها فيها.. فهو من أجل هذا، حريص أشد الحرص الجزء: 7 ¦ الصفحة: 132 على كل ما فى دنياه هذه، فإذا فاته شىء منها- وما أكثر ما يفوته- استبدّ به الجزع، واستولى عليه اليأس، وملكه الحزن.. وإن أصيب بموت قريب أو حبيب- وما أكثر ما يصاب- لم يجد شيئا من ذلك العزاء، الذي يجده المؤمنون الذين يفوضون أمرهم لله، ويسلمون مصيرهم إليه، ويرجون العاقبة عنده، ويحتسبون الصبر لديه..! وهكذا الكافر فى قلق دائم، وجزع متصل، إذ لا حياة له وراء هذه الحياة، حسب تقديره وتفكيره.. فحيثما التفت، وجد العدم باسطا يديه لاحتوائه، والفناء فاغرا فاه لابتلاعه..! - «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ» .. وهذا عذاب لا يتوقعه الكافر، ولا يعمل حسابا له، وإنما هو عذاب يجيئه على غير انتظار، ويطلع عليه من حيث لا يحتسب.. - «وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ» أي ليس هناك من يدفع عنهم هذا العذاب، أو يخفف عنهم من شدته وهوله.. الآيات: (35- 43) [سورة الرعد (13) : الآيات 35 الى 43] مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 133 التفسير: قوله تعالى: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ..» مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أنّه وقد ذكر مصير المشركين فى الآية السابقة عليها، فى قوله تعالى: «لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ» - كان من المناسب أن يذكر فى مقابل هذا المصير المشئوم، المصير الحسن الطيّب، الذي أعدّه الله للمؤمنين المتقين من عباده، ليكون فى ذلك إثارة لأشواق المؤمنين، وتعجيل بتلك البشريات المسعدة لهم، فى حين أنه يملأ قلوب المشركين حسرة وألما، ويقطع أكبادهم كمدا وحسدا.. ومثل الشيء ما يماثله، ويشبهه، فى بعض الوجوه، لا فى كل وجه.. كما نقول مثلا: القط مثل النمر.. وهذه الفتاة مثل القمر، وهذا الطفل مثل الزهرة.. فهناك وجه شبه يجمع بين المشبّه والمشبّه به، وصفة مشتركة بينهما يلتقيان عندها.. والمثل يجمع أكثر من صورة من صور التشبيه، فهو تشبيه مركّب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 134 - وفى قوله تعالى: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ» .. إشارة إلى أن هذا العرض ليس للجنة، فى ذاتها، وإنّما هو عرض لجنّة تشبهها.. إذ أن الجنّة التي أعدها الله للمؤمنين المتقين من عباده، لا يمكن وصفها لنا، إذ لا شىء مما فى دنيانا هذه، يشبه أشياءها.. كما ورد فى الأثر: «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» .. فاشباه الجنة غير واقعة فى فهمنا أو تصورنا، ومن ثمّ لم يكن للكلمات التي نتعامل بها مجال، لتصوير ما لا نفهمه ولا نتصوره.. فكان الحديث عنها بعرض صورة تشبهها، هو أقرب شىء ممكن أن نتمثل فيه صورة لها.. - وقوله تعالى: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ» .. مبتدأ، وخبره محذوف، موصوف، بقوله تعالى: «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» .. أي هى جنة تجرى من تحتها الأنهار.. والتقدير على هذا: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ» مثل جنّد «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ.. أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها» .. فهذه الجنة التي تشبه جنة الآخرة موصوفة بصفتين.. تجرى من تحتها الأنهار.. وأكلها دائم وظلّها.. أي ثمارها دائمة لا تنقطع أبدا، كما تنقطع ثمار الدنيا، وظلّها دائم، أي مورقة مخضرة دائما، لا تتغيّر كما تتغير أشجار الدنيا على مدار الفصول.. وقوله تعالى: «تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ» تأكيد للوعد لذى وعده الله المتقين بهذه الجنة فى قوله تعالى: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ» فهى لهم وحدهم، على حين أن للكافرين النار.. فكل ينزل الدار التي هو أهل لها.. قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 135 الذين أوتوا الكتاب هم اليهود والنصارى.. والسؤال هنا: كيف كان يفرح أهل الكتاب بما أنزل على النبي؟ وإذا كانوا على تلك الصفة فلماذا لا يؤمنون به، ولا يستجيبون له؟ بل لماذا كانوا حربا عليه، وحزبا مع المشركين على الكيد له؟ والجواب على هذا من وجوه: أولا: أن هذا كان فى أول الدعوة الإسلامية، وكان أهل الكتاب يرصدون مطلع النبىّ، وينتظرون ظهوره.. فلما ظهر النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- توقعوا أن يكون مبعوثا إليهم، وإن كان من العرب، وانتظروا فى تلهف ما ينزل عليه من آيات.. وإذ كان ينزل على النبىّ من آيات الله- فى أول الدعوة- هو دعوة إلى الإيمان بالله، والانخلاع عن عبادة الأصنام- فإن أهل الكتاب، لم يروا فى هذا ما يضيرهم، أو يعارض الدين الذي هم عليه.. فكانوا لذلك يستبشرون بما ينزل على النبىّ فى تلك المرحلة من الدعوة، فلما أن دكّ الإسلام حصون الشرك، وهدم معاقله، والتفت إلى أهل الكتاب، وخاصة اليهود، كان منهم هذا الموقف اللئيم المخادع الذي وقفوه من النبىّ الكريم، ورسالته.. وثانيا: أن فى القرآن الكريم ذكرا لليهود والنصارى.. وهذا الذكر منه ما هو فى مقام المدح لهم، ومنه ما هو فى مقام الذمّ لمخازيهم، والفضح لنفاقهم.. فاليهود مثلا، كانوا يسمعون ما نزل على النبىّ مثل قوله تعالى: «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ» (94: يونس) وقوله تعالى: «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 136 وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ» (47: البقرة) كما كانوا يسمعون ما نزل من القرآن فيما كان بين موسى وفرعون، ونجاتهم على يد موسى، وغرق فرعون وجنوده، وكان هذا مما يسرّهم، وينعش نفوسهم.. فيتلّقون ما نزل من القرآن فى مثل هذا، بالقبول والرضا.. فإذا نزل من القرآن ما يفضح الجوانب الخبيثة فيهم، ويكشف عن وجوه الشر المنطوية عليه صدورهم، مثل قوله تعالى فيهم: «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ» 13: المائدة) .. وقوله سبحانه: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً» (51- 52: النساء) - إذا سمعوا مثل هذا من كلام الله، ساءهم وأفزعهم، فأنكروه، وأنكروا على الرسول رسالته كلها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ» .. فالأحزاب هنا هم جماعات اليهود الذين كانوا حزبا على النبي مع مشركى قريش، ومن انضم إليهم من قبائل العرب، فهم لا ينكرون كل ما جاء فى القرآن، وإنما ينكرون منه ما فضح نفاقهم، وكشف تحريفهم لكتاب الله الذي فى أيديهم.. وكذلك كان شأن النصارى.. يفرحون بالآيات التي تحدث عنهم حديثا فيه ذكر طيب لهم، كقوله تعالى: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» (82: المائدة) .. وكقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ» (33: آل عمران) ومثل ما قصّ القرآن من سيرة مريم.. فكل هذا مما يرضاه النصارى من القرآن، ويمسكون به منه، أما ما جاء فى القرآن من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 137 حديث عن عيسى عليه السلام، وأنه عبد من عباد الله، وليس ابنا لله، ولا إلها مع الله، وأن من يعبده على هذا المفهوم الخاطئ، كان كافرا بالله- ساءهم ذلك وأنكروه.. وثالثا: ليس كل اليهود والنصارى وقف من الرسول الكريم، ومن كتاب الله الذي بين يديه، موقف الكفر به والتكذيب له، بل كثير منهم كان على انتظار لظهور هذا النبىّ، تحقيقا للبشريات التي بشرت بها عنه التوراة والإنجيل.. فلما جاء النبىّ لم ينكروه، بل تهيأت نفوسهم لاستقباله، واختبار ما عنده من كلمات الله.. فكانت كلما نزلت آيات من القرآن الكريم كشفت لهم دلائل جديدة تزيد من إيمانهم بالرسول، ومن تيقّنهم بصدقه.. فيفرحون لذلك ويستبشرون.. - قوله تعالى: «قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ» .. هو ردّ على موقف أهل الكتاب الذين ينكرون بعض ما أنزل على النبي، وإنكار لموقفهم هذا من رسول الله، وكتاب الله.. فماذا ينكر أهل الكتاب من رسول الله ومن الكتاب الذي معه؟ إنه يعبد الله.. إلها واحدا لا شريك له.. وهو- صلوات الله وسلامه عليه- بهذه الدعوة يدعو عباد الله، إلى الإيمان بالله.. إلها واحدا لا شريك له.. فماذا فى هذا الكتاب الذي بين يدى الرسول، والذي هو دستور دعوته- ماذا فيه مما يخرج عن هذه الدعوة حتى ينكره المنكرون، ويكفر به الكافرون؟ أليس أهل الكتاب مؤمنين بما فى كتبهم؟ أو ليست كتبهم من عند الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 138 إله واحد؟ إن كان ذلك كذلك- فلماذا ينكرون على النبىّ دعوته، وهو إنما يدعو إلى الله الواحد الأحد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد؟ «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ.. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» (64: آل عمران) . - وفى قوله تعالى: «إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ» أسلوب قصر، يراد به أن الرسول لا يدعو إلا إلى الله وحده، وأنه إذا كان لأهل الكتاب دعوة إلى إله غير الله، فلا شأن له بهم، أمّا هو فإن دعوته إلى إله واحد.. لا شريك له.. وأن مآبه ومرجعه إليه.. فإذا كان فى أهل الكتاب من يرى له مرجعا إلى غير الله، فذلك رأيه، وعليه تبعته.. أما الرسول فإنه لا مرجع له إلا إلى الله.. قوله تعالى: «وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ» .. أي كهذا الذي أنت عليه أيها النبىّ، وهو التزامك بالعبوديّة لله وحده، ودعوتك الخالصة له، وإيمانك بمرجعك إليه- كهذا الذي أنت عليه جاء الكتاب الذي أنزل عليك.. فالزمه، واستقم عليه، ولا تلتفت إلى ما جاء فى غيره من الكتب السابقة إن لم يكن مطابقا له، فهو الذي أنزله الله عليك حكما عربيا.. أي حاكما بأسلوبه العربي الذي نزل به، على الكتب السماوية السابقة، ومهيمنا عليها.. فالحكم هنا بمعنى: الحاكم المهيمن، ذو السلطان.. وجاء اللفظ القرآنى «الحكم» بمعنى «الحاكم» ولم يجىء بلفظه، للإشارة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 139 إلى أن القرآن الكريم هو «حكم» صدر من «حاكم» حكيم، هو الله سبحانه وتعالى.. وفى وصف «الحكم» بأنه عربى، تنويه بشأن الأمة العربية، ورفع لقدرها، ولشرف لغتها التي حملت حكم الله الحكيم العليم على الإنسانية كلها، بلسان العرب، وعلى يد الرسول العربىّ.. - قوله تعالى: «وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ» .. هو تعريض بما مع أهل الكتاب من ضلالات وأهواء أدخلوها على ما جاءهم به رسول الله من نور وهدى.. ثم هو من جهة أخرى توكيد لما فى يد النبىّ من حق، وأنه بهذا الحق قد علم بما فى أيدى أهل الكتاب من أهواء ومفتريات، وذلك حين التقى الحق الذي معه بالباطل الذي فى أيديهم.. وتحذير النبي من اتباع أهواء أهل الكتاب، مع العلم الذي علمه من أمرهم- هذا التحذير هو إشارة لما مع أهل الكتاب من باطل، ينبغى على كل عاقل أن يحذره، ويتوقّى الخطر الذي يتهدد من يقترب منه.. حتى النبىّ نفسه، مع ما يملك من قوى الإيمان، ومع ما يحوطه من رعاية ربه، إن اتبع أهواء هؤلاء القوم تعرض لنقمة الله، ولم يكن له من ولىّ يدفع عنه بلاء الله، أو يقيه بأسه إن جاءه!! فكيف بغير النبي من عباد الله؟ إن الخطر شديد، وإن البلاء داهم، وإنه لا عاصم من أمر الله لمن ألقى نفسه فى لجج هذا الطوفان!. قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً.. وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ.. لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ» . فى هذه الآية ردّ على المشركين، وتحديد لموقف النبي منهم، بعد أن جاءت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 140 الآية السابقة عليها، فاضحة لأهواء أهل الكتاب، محذرة النبي من أن يلتفت إليهم، أو يتعامل معهم بهذه الأهواء التي بين أيديهم.. والمشركون، كانوا ينكرون على النبي أن يكون إنسانا مثلهم، يأكل كما يأكلون، ويعيش كما يعيشون.. كما يقول الله سبحانه وتعالى على لسانهم: «وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ» .. (7: الفرقان) .. فجاء قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً» ليقرر أن هؤلاء الرسل كانوا بشرا، وكان لهم ما للبشر، من أزواج وذرية.. فلست أنت أيها النبىّ بدعا من الرسل حتى ينكر منك المشركون ما أنكروا! .. - وفى قوله تعالى: «وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» هو ردّ على ما كان يقترحه المشركون على النبىّ، كقولهم الذي حكاه القرآن عنهم: «لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها» (7- 8 الفرقان) وقولهم أيضا: «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا» (90- 93: الإسراء) .. فالرسول لا يملك من أمر نفسه إلا ما يملك سائر الناس من أمر أنفسهم.. إنهم جميعا فى قبضة الله، وتحت سلطانه.. وليس لرسول أن يأتى بآية إلّا بما يأذن الله له به من آياته. «قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ» (50: العنكبوت) - وهو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 141 سبحانه الذي ينزلها بقدر: «لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ» .. فكل آية مرهونة بوقتها، شأنها فى هذا شأن المواليد التي تولد، والأحياء التي تموت.. فلا يولد مولود إلا بإذن الله، وفى الوقت الذي قدّره الله له، ولا تموت نفس إلا بإذنه، وفى الوقت الموقوت لموتها.. قوله تعالى: «يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ» المراد بالمحو والإثبات هنا، هو ما يقع فى الوجود من آثار قدرة الله، وتصرفاته فى الموجودات، من إحياء وإماتة، ومن بناء وهدم، ومن زيادة ونقص، ونهار وليل، وزرع وحصاد.. إلى غير ذلك مما يجرى عليه نظام الوجود.. فهناك محو وإثبات، وإثبات ومحو.. وكذلك الآيات التي يحملها رسل الله إلى أقوامهم، هى واقعة تحت هذا الحكم، يمحو الله منها ما يشاء، ويبقى منها ما يشاء.. وينسخ دينا، ويقيم دينا، ويمحو شريعة ويثبت شريعة.. وهذا كله ثابت فى علم الله.. فما يقع شىء فى هذا الوجود إلا وهو واقع فى علم الله الأزلىّ.. يظهر فى وقته الموقوت له فى علم الله.. والمراد «بأم الكتاب» هو علم الله، الذي يرجع إليه كل أمر: «وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» (59: الأنعام) قوله تعالى: «وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» هو وعيد لهؤلاء المشركين والكافرين جميعا، وأنهم فى معرض النقمة والبلاء، من الله، وسواء أوقع عليهم البلاء وحلّت بهم النقمة والنبىّ حىّ يرى بعض هذا ويشهده، أو يموت قبل أن يرى ما توعدهم الله به، فإن ذلك ليس من همّ النبىّ، ولا مما يشغل نفسه به، وإنما مهمته هى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 142 أن يبلغ رسالة ربّه، ويدع حساب المبلّغين لله سبحانه، فهو- جل شأنه- الذي يتولى حسابهم وجزاءهم. قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ» المراد بنقص الأرض، ما يطرأ عليها من تغيير وتبديل، وما يصيب الناس فى أرزاقهم وأعمارهم.. وإذا كان الذي يحدث فى الأرض من نقص يحدث إزاءه ما يقابله من زيادة، إلا أن الأمر الذي أريد الإلفات إليه هنا هو ما يحدث من نقص، فى الأموال، والأنفس، والثمرات، إذ كان ذلك هو الذي يهتمّ له الإنسان أكثر من اهتمامه لجانب الزيادة، وإذ كان المقام هنا مقام تهديد بنقم الله، حيث يرى المشركون والكافرون هذه الغير، وتلك الجوائح التي تقع هنا وهناك فى أطراف الأرض، وأنها ليست بعيدة عنهم، ولا هم بمأمن منها.. - «وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ» أي أنه سبحانه إذا أراد أمرا نفذ، دون أن يعترض عليه معترض، أو يفلت منه مطلوب له: «وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ» (11: الرعد) - «وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ» أي أنه سبحانه وتعالى بقدرته ممسك بكل شىء، عالم بكل شىء. لا يشغله شأن عن شأن، ولا حساب أحد عن أحد، فلو أراد سبحانه حساب الناس جميعا فى طرفة عين لكان ذلك كما أراد! قوله تعالى: «وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ» - هو تهديد لهؤلاء المشركين والكافرين، الذين تصدّوا للنبىّ، وآذوه، وبهتوه وكذّبوا به.. وكان لهم فى هذا مكرهم وتدبيرهم.. ولكن أين يقع هذا المكر والتدبير من مكر الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 143 وتدبيره؟ إنه قطرة من محيطات، وهباءة من جرم السموات والأرض! - «يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ» فيحاسب ويجازى.. لا يفلت مجرم من حسابه وعقابه.. - «وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ» .. وعند الحساب سيرى الكفار بأعينهم لمن الفوز والظفر، وعلى من الخزي والخذلان؟ قوله تعالى: «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ» .. بهذه الآية الكريمة تختم سورة «الرعد» ، فيلتقى ختامها مع بدئها: «المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ» .. ثم يصافح هذا الختام بدء السورة التي بعدها «إبراهيم» : «الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ» .. - فقوله تعالى: «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا» - هو جواب الكافرين على هذا الكتاب الذي جاءهم النبىّ به، والذي هو الحقّ الذي أنزل إليه من ربه.. وقوله تعالى فى أول سورة «إبراهيم» - بعد هذه السورة: «الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» - هو ردّ على جواب هؤلاء الكافرين، وردع لهم، وأنهم لم يخرجوا من الظلمات إلى النور، ولم يأذن الله لهم بالخروج من تلك الظلمات.. - وقوله تعالى: «قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» إحالة للكافرين على موقف الحساب والمساءلة بين يدى الله، وهو سبحانه حكم عدل بينهم وبين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 144 النبيّ، عالم بما كان منه من أمانة فى تبليغ ما أمر بتبليغه من ربه، وما كان منهم من تكذيب وبهت وكفر! - وقوله تعالى: «وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ» معطوف على فاعل الفعل «كفى» وهو لفظ الجلالة «بالله» والباء حرف جرّ زائد.. أي كفى الله شهيدا بينى وبينكم، وكذلك من عنده علم الكتاب منكم، أي أهل العلم، فإنهم يعلمون أنى مرسل من عند الله! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ» (20: الأنعام) وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» (36: الرعد) وقوله سبحانه: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ» (52: القصص) وقوله جل شأنه: «أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ» (197: الشعراء) فعلماء بنى إسرائيل يعلمون صدق الرسول، وصدق ما جاء به من عند الله. وإن كتمه بعضهم، وآمن به بعضهم.. وهم شهود على الكافرين المكذبين من قومهم.. «وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها» «وكفى بالله شهيدا» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 145 14- سورة إبراهيم نزولها: مكية بالإجماع. عدد آياتها: اثنتان وخمسون آية. عدد كلماتها: ثمانمائة وإحدى وثمانون آية. عدد حروفها: ستة آلاف وأربعمائة وأربع وثلاثون حرفا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الآيات: (1- 4) [سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) التفسير: قوله تعالى: «الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» .. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 146 الذي نقوله هنا فى «المر» هو ما قلناة من قبل فى «المر» فى سورة الرعد، وفى الحروف المقطعة، التي بدأت بها بعض سور القرآن الكريم.. وهى أنها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم.. وأن ما جاء فى السورة بعد من آيات الله، هو تأويل هذا المتشابه.. وعلى هذا، يكون: «الر» مبتدأ، وقوله تعالى: «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ..» خبر لهذا المبتدأ.. وقد أشرنا فى آخر سورة «الرعد» إلى أن بدء سورة «إبراهيم» هنا هو ردّ على قول المشركين والكافرين، الذي حكاه القرآن الكريم عنهم، فى قوله تعالى: «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا» .. ففى قوله تعالى: «الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» - توكيد من الله سبحانه وتعالى لرسالة النبي، وأنه يحمل بين يديه كتابا أنزل إليه من ربّه، ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور، وذلك بإذن ربه الذي يهدى من يشاء، ويضلّ من يشاء.. - وقوله تعالى: «إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» بدل من «النور» .. والتقدير لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، إلى صراط الله العزيز الحميد، ذلك الصراط، الذي هو نور تستضىء به البصائر.. وفى وصف الله سبحانه بهاتين الصفتين الكريمتين: «العزيز الحميد» تهديد للكافرين بعزة الله، وسلطانه الغالب، وتذكير للمؤمنين بنعمة الله عليهم بالإيمان، وأنه المستحق للحمد، والحامد لعباده المؤمنين ما يقدّمون له من طاعات وقربات. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 147 - وفى قوله تعالى: «لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» - إشارة إلى عموم رسالة النبي الأمّىّ، وشمولها الناس جميعا.. قوله تعالى: «اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ..» - هو من عطف البيان على قوله تعالى: «الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» .. فالعزيز الحميد، هو الله الذي له ما فى السموات وما فى الأرض، أوجدهما بقدرته وملكهما بعزته، واستولى عليهما بسلطانه.. - وفى قوله تعالى: «وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ» تهديد للكافرين، ووعيد لهم بالعذاب الشديد، الذي ينتظرهم يوم القيامة، من مالك الملك، الذي إليه كل شىء، وبيده كل شىء. قوله تعالى: «الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ» - هو كشف عن صفات أولئك الكافرين، الذين توعدهم الله بالعذاب الشديد، وتلك الصفات التي جرّتهم إلى الكفر، وأقامتهم عليه، وذلك أنهم استحبّوا الحياة الدنيا على الآخرة، وأفرغوا لها جهدهم، وأذهبوا فيها طيباتهم، على حين غفلوا عن الآخرة، وزهدوا فيها، ولم يعملوا أي حساب لها.. وهم لهذا يصدّون عن سبيل الله.. يصدّون أنفسهم عن الإيمان، ويصدّون الناس كذلك عن أن يؤمنوا بالله، ويأبون إلا أن يركبوا طرق الضلال، وأن يركبها الناس معهم. - «أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ» لأنهم ضلوا، وأضلّوا، فكانت جنايتهم غليظة، وجرمهم شنيعا. قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. هو بيان لحكمة الله فى إرسال الرسل، واختيارهم من بين أقوامهم، وذلك ليأنسوا إليهم، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 148 ولا يستوحشوا منهم، أو يأنفوا الانقياد لهم، إذا كانوا من قوم غير قومهم، ومن أمة غير أمتهم. والمراد بلسان قومه، جنسهم، ولغتهم التي يتعاملون بها، إذ كان اللسان هو أداة اللغة وترجمانها.. وإذ كانت اللغة هى التي تكشف عن وجه الإنسان، وعن الأمة التي ينتمى إليها. - وفى قوله تعالى: «لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» إشارة إلى الحكمة التي من أجلها جاء الرسول إلى كل أمة، منها، وبلسانها، حتى يفهموا عنه ما يقول حين يتحدث إليهم «لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» ما أمره الله به.. فببيانه ينكشف لهم الطريق إلى الله، وبغير هذا البيان يظل الطريق بينهم وبين الرسول مسدودا.. - وفى قوله تعالى: «فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ» إشارة أخرى إلى أن هذا البيان الذي يبيّنه الرسول لقومه، ليس فيه قهر لهم، أو إلجاء واضطرار إلى الإيمان بالله.. ذلك أن الإيمان بالله، هو بيد الله، فمن شاء الله له الإيمان، آمن، ومن لم يشأ له أن يكون فى غير المؤمنين بقي على كفره، ولن ينفعه هذا البيان الذي بيّنه الرسول شيئا.. وذلك هو حكم الله فى عباده، وسنّته فى خلقه.. يبعث رسله فيهم، ويقوم الرسل بتبليغ رسالة الله إليهم، وكشف الطريق إلى الله لهم.. ومطلوب من النّاس أن يفتحوا عقولهم وقلوبهم إلى دعوة الله، وأن يستجيبوا لها، فمن كانوا ممن أراد الله لهم الهدى والإيمان، اهتدوا وآمنوا، وحسب ذلك لهم من كسبهم، ومن كانوا من أهل الكفر والضلال، جمدوا على كفرهم، وظلّوا على ضلالهم، وحسب ذلك من كسبهم أيضا.. فإذا ذهبت تسأل: ما أثر هذه الرسالات التي يحملها الرسل إلى النّاس، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 149 وما جدواها فيهم، وقد غلبت مشيئة الله، فكان المؤمنون مؤمنين بمشيئة الله، وكان الكافرون كافرين بمشيئته؟ إذا ذهبت تسأل هذا السؤال، جاء الجواب فى قوله تعالى: «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. العزيز الذي عزّت مشيئته، وغلبت إرادته، والحكيم الذي أقام العباد فيما أراد، ووضعهم حيث شاءت حكمته، وقضت إرادته. وقد عرضنا مشيئة الله ومشيئة العباد فى مبحث خاص «1» . الآيات: (5- 8) [سورة إبراهيم (14) : الآيات 5 الى 8] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) التفسير: فى الآية (4) من هذه السورة، جاء قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» ..   (1) انظر هذا البحث ص 262 من الكتاب الرابع تفسير الجزء الثامن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 150 وفى قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ» .. تطبيق لهذا الحكم، الذي قضى به الله سبحانه وتعالى، وهو ألا يرسل رسولا إلا يلسان قومه.. فها هو ذا موسى، عليه السلام، وهو من بنى إسرائيل، يبعثه الله- سبحانه وتعالى- رسولا إلى قومه، ليخلصهم من فرعون.. أولا، ثم يخرجهم من ظلمات الضلال إلى نور الهدى والإيمان.. ثانيا.. وأيام الله التي يذكرهم موسى بها، هى تلك الأيام التي كانت لله سبحانه وتعالى، فيها نعم ظاهرة عليهم، إذ أنجاهم من آل فرعون، وخلصهم من البلاء الذي يلقونه تحت يد فرعون.. ففى هذه النعم آيات «لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» إذ لا يرى فى تلك الآيات، آثار رحمة الله، وعظيم نعمته، إلا من كان قد وطّن نفسه على احتمال الضر، والصبر على المكروه، احتسابا لله، ورجاء فى العافية، واستشوافا للرحمة والإحسان من فضله- فإذا أذن الله بالفرج، وهبّت أرواح الرحمة والعافية، اتجهت القلوب المؤمنة بالله، إلى الله بالحمد والشكر، كما اتجهت إليه من قبل بالدعاء والتضرّع. وقوله تعالى: «وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ» - هو ما امتثل به موسى أمر ربّه، فى قوله تعالى له: «وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ» - وها هو هذا يذكرهم بأيام الله ونعمه التي أفاضها عليهم فى تلك الأيام.. فيقول لهم: «يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ» ثم بيّن لهم ما كانوا فيه، وهم تحت يد هذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 151 السلطان الجبار، من بلاء. فقال: «يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ» أي يسوقونكم كما تساق الأنعام، ولكن لا إلى المرعى الذي تجد عنده شبعها وريّها، بل إلى العذاب، الذي تصلون ناره، وتتقلبون على جمره.. يقال: سامه على كذا، أي حمله عليه، وأورده إياه.. وسام فلانا الأمر: كلفه إياه ومنه السائمة، وهى الأنعام التي يسوقها الراعي إلى المرعى.. - قوله تعالى: «وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ» هو بيان لبعض ما كان يأخذ به فرعون بنى إسرائيل من بلاء.. إذ يذبّح أبناءهم، ويستأصل ذراريهم، ويستحيى نساءهم، أي يبيح حرماتهن، ويعرضهن لما تستحى الحرّة منه. وقيل: «يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ» أي يستبقونهن أحياء، فلا يقتلونهن، كما يقتلون الأبناء.. وبهذا يتضاعف البلاء على الأمهات.. إذ يلدن، ثم يذبح أمام أعينهن ما يلدن.. وفى هذا موت بطيء لهن، وعذاب أليم، تحترق به قلوب الأمهات.. ولهذا جاء قوله تعالى: «وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ» - وصفا كاشفا لتلك الحال التي أخذ بها فرعون بنى إسرائيل من عذاب ونكال. قوله تعالى: «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ» .. تأذّن ربكم: أي أذن، وحكم، وقضى.. وما قضى الله به هو أنه- سبحانه- يزيد الشاكرين لنعمه وأفضاله، نعما وأفضالا.. أما من كفر بالله، وبنعمه، فله عذاب شديد، وبلاء عظيم، فى الدنيا والآخرة جميعا. قوله تعالى: «وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 152 فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ» - أي إنّ كفر الكافرين لا يضرّ الله شيئا، كما أن إيمان المؤمنين لا ينفعه، فهو الغنى عن خلقه.. إذ كيف يخلقهم، ثم يحتاج إليهم؟ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. - وفى قوله تعالى: «فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ» - إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى غنى عن عباده، ومع غناه، فإنه يتقبل من المؤمنين إيمانهم، ويحمده لهم، ويجزيهم عليه.. فضلا منه وكرما، وتنويها بشأن الطيبات من الأعمال، وتكريما للصالحين من عباده. الآيات: (9- 17) [سورة إبراهيم (14) : الآيات 9 الى 17] أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 153 التفسير: قوله تعالى: «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ؟» - يجوز أن يكون من كلام موسى، خطابا لقومه، وتذكيرا لهم بأيام الله، وما يجرى فيها على عباده.. ويجوز أن يكون كلاما مستأنفا، خطابا من الله- سبحانه وتعالى- للمخاطبين من أمة النبي «محمد» صلوات الله وسلامه عليه.. والنبأ: الخبر ذو الشأن، الذي يغطّى ذكره على ما عداه من الأخبار. وفى هذا الاستفهام: «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» - تهديد للمخاطبين، وإنذار لهم بأن يصيروا إلى مثل مصير هؤلاء الأقوام، الذين كذبوا رسلهم، ومكروا بهم، إذا لم يبادر هؤلاء المخاطبون، فيصدقوا برسول الله، ويستجيبوا لما يدعوهم إليه، مما فيه رشدهم وخيرهم.. وقوله تعالى: «قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ» - هو بيان لقوله تعالى: «الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» .. فالذين من قبل هؤلاء المخاطبين، هم قوم نوح، وقوم عاد، وقوم ثمود، وقوم صالح، وأقوام كثيرون جاءوا بعدهم، وجاءهم رسل الله.. فكانوا جميعا على طريق واحد، من العناد والضلال، والتكذيب برسل الله، والكيد لهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 154 قوله تعالى: «جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ» - هو بيان لنبأ هؤلاء الأقوام، وعرض لأخبارهم، وكشف لمواقفهم من رسلهم.. ويلاحظ أنهم أدرجوا جميعا فى ثوب واحد، لا فرق بين سابقهم ولاحقهم، حتى لكأنهم جماعة واحدة، التقت برسول واحد.. وذلك لما كان منهم جميعا، من خلاف على رسلهم، وإعنات لهم، ومكر بهم.. وكذلك الرسل، هم أشبه برسول واحد، إذ كانت محامل رسالتهم واحدة، وهى الدعوة إلى الإيمان بالله، والاستقامة على الهدى.. فالرسل قد جاءوا إلى أقوامهم بالآيات البينات، التي تحدّث عن صدق رسالاتهم، وأنها منزلة من عند الله، وأنهم رسل الله المأمورون بتبليغها إلى من أرسلوا إليهم. أما المرسل إليهم- على اختلاف أزمانهم وأوطانهم- فإنهم ردّوا أيديهم فى أفواههم، وقالوا: «إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ..» تلك هى قولة أولئك الأقوام، وذلك هو ردّهم على الدعوة التي دعوا إليها من رسلهم.. - «فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ» وذلك كناية عن أنهم سدّوا على الرسل منافذ القول، فلم يدعوهم يبلغون رسالات ربهم، بل قعدوا لهم بالمرصاد، كلما همّوا بأن ينطقوا بدعوة الحق، تصدّى لهم السفهاء، والحمقى من أقوامهم، يسخرون، ويهزءون، ويلغون ويصخبون، فكأنهم بهذا قد وضعوا أيديهم على أفواه الرسل، وحالوا بينهم وبين أن ينطقوا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 155 ويجوز أن يكون الضمير فى أفواههم عائدا إلى أولئك الأقوام، وأنهم حين دعاهم الرسل إلى الإيمان بالله، وضعوا أيديهم على أفواههم، وردّوا عليهم قائلين: إنا كفرنا بما أرسلتم به.. وذلك إشارة إلى أنهم رفعوا أصواتهم بهذا المنكر الذي استقبلوا به دعوة الرسل، ولم يقولوا ما قالوه فى شىء من الأدب والرفق. فإن وضع اليد على الفم وترديد الصوت من خلالها، من شأنه أن يعطى الصوت قوة ووضوحا. ويجوز أن يكون ردّ أيديهم إلى أفواههم كناية عن أنهم استقبلوا دعوة الرسل لهم إلى الإيمان بالله، بالصمت المطبق، استخفافا بهم، واستنكافا من الحديث معهم، كما فعل ابن مسعود- شيخ ثقيف وسيدها- حين جاء النبىّ صلى الله عليه وسلم إلى ثقيف يدعوهم إلى الله، بعد أن يئس من قومه فى مكة، فقال له ابن مسعود: «والله لا أكلمك أبدا.. لئن كنت رسول الله كما تقول، فأنت أعظم من أن أكلمك، وإن كنت كاذبا على الله، فما أنت أهل لأن أرد عليك..» وعلى هذا التأويل، يكون قولهم: «إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ» هو مما نطق به لسان الحال، وأنبأ عنهم صمتهم، وتجاهلهم لما يدعوهم إليه رسلهم، وعدّهم ذلك لغوا من القول، لا يستمع إليه، ولا يردّ على قائله! - «وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ» - أي أنهم إذا حالوا بين الرسل وبين الكلام، تكلموا هم بالباطل من القول، والمنكر من الكلام، وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به، وإنّا لفى شك يبعث الريب والاتهام لكم أيها الرسل، فيما تدعوننا إليه. قوله تعالى: «قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» - أي إذا كنتم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 156 تشكّون فينا، فهل تشكون فى الله، وفى وجوده، وهو الذي خلق السموات والأرض؟ .. إن الشكّ فينا هو شك فى الله، إذ أن دعوتنا هى دعوة إلى الإيمان بالله، والإقرار بوحدانيته.. وأنه إذا لم يكن لكم فى الآيات التي بين أيدينا ما يدعوكم إلى صدقنا، ففى هذه الآيات الكونية، وفى خلق السموات والأرض ما يدلكم على وجود الخالق، وعلى تفرده بهذا الوجود.. ومن ثمّ فليس من العقل أن تنكروا دعوتنا.. هذا إذا كانت لكم عقول تعقل وتتدبر! - وفى قوله تعالى: «يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» هو إغراء لهؤلاء المكذبين بالرسل أن يستجيبوا لله، وأن يقبلوا دعوته التي يحملها إليهم رسله، فإنه- سبحانه- لا يدعوهم إلا إلى خير.. إنه يدعوهم ليغفر لهم من ذنوبهم، وليؤخرهم إلى أجل مسمّى فلا يعجّل لهم العذاب، الذي لا بدّ هو واقع بالمكذبين فى غير مهل، إن هم أصرّوا على ما هم عليه من كفر وضلال، بعد أن جاءهم من الله هذا البلاغ المبين.. - وفى قوله تعالى: «مِنْ ذُنُوبِكُمْ» إشارة إلى أن هؤلاء المدعوّين، هم كتل متضخمة من الذنوب، وأنهم لن يستجيبوا جميعا لدعوة الرسل، وإنما الذي يستجيب منهم هو بعض قليل، وهم الذين يغفر الله لهم ذنوبهم.. فالذى سيغفر من ذنوب هؤلاء الأقوام، هو بعض من هذه الذنوب.. وعلى هذا، فليبادر كل واحد منهم إلى الإيمان بالله، ليكون فيمن يغفر الله لهم، وألا يكون فى المتخلفين الضالين.. «قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» . هى قولة من فم واحد، تلقّاها القوم خلفا عن سلف: «إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا» - فهذه أول تهمة يتهم بها الرسل من أقوامهم، وإنهم لن يكونوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 157 إلّا بشرا مثلهم كما يقول تعالى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ» ! - «تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا» - وتلك هى التهمة الثانية، وهى، أن الرسل يريدون أن يخرجوا بالقوم، عما كان عليه آباؤهم من ضلال وكفر.. وتلك هى قاصمة الظهر عندهم.. وفى هذا يقول الله تعالى على لسان قوم صالح: «قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا؟» (62: هود) .. وبقول سبحانه على لسان أصحاب مدين: «قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا» (87: هود) . - «فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» .. وبعد هذا الاتهام، يجىء التحدّى، بطلب المهلكات التي أنذروا بها، واستعجال العذاب الّذى حذّروا منه!. والسلطان المبين. هو الحجة القاطعة، التي تسقط أمامها كل حجة! «قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ.. وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ.. وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ.. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» .. ولم يكن للرسل أن يقولوا لأقوامهم غير هذا، ولا أبلغ ولا أقطع من هذا.. إنهم بشر.. مثل أقوامهم.. فما الذي فى هذا، مما ينكره المنكرون؟ وإنه الحسد لهؤلاء الرسل- وهم بشر مثلهم- أن يكونوا سفراء بين الله وبين الناس.. ولماذا يختارهم الله دونهم؟ .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان مشركى قريش فى إنكارهم على النبي أن يكون هو المصطفى لرسالة الله إليهم: «وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ؟» وقد ردّ الله عليهم بقوله سبحانه: «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ» (31- 32: الزخرف) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 158 - وفى قول الرسل: «وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» ردّ مفحم على هؤلاء الذين ينكرون عليهم أن يكونوا رسلا من عند الله، حسدا لهم، واعتراضا على مواقع رحمة الله، أن تنزل حيث تشاء مشيئته.. فهذه رحمة الله تنزل. بالنّاس، كما ينزل المطر، فيكون غيثا مدرارا فى موضع، وقطرات قليلة فى موضع آخر.. حسب تقدير الله، وحكمته. - «وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» أي إن ما تقترحونه علينا من آيات، هو مما لا يدخل فى مضمون رسالتنا، ولا يخضع لمشيئتنا.. وإنما الآيات عند الله، وما أذن به لنا منها، قد جئناكم به.. - «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» أي إننا وقد بلغناكم ما أمرنا به، سنمضى لشأننا، متوكلين على الله، الذي عليه يتوكل المؤمنون به، ويفوّضون أمورهم إليه. قوله تعالى: «وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ» .. هو تقرير وتوكيد لتلك الحقيقة التي أعلنها الرسل، وهى أنهم قد توكلوا على الله، وأسلموا وجوههم له.. ولم لا يتوكلون عليه وقد اصطفاهم لأكرم رسالة، وجعلهم مصابيح هدى للناس؟ لقد هداهم الله إلى الحق، وأقامهم على صراطه المستقيم.. فكيف لا يسلمون أمرهم إليه، وهو سبحانه الذي أخذ بأيديهم، فأخرجهم من تلك الظلمات المطبقة على أقوامهم؟ - وفى قوله تعالى: «وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا» هو بعض ما يقدمه الرسل لله، وهو الصبر على الأذى الذي يلقونه فى سبيل تبليغ رسالته.. قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 159 لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ» . وإذا لم يكن فى السفاهة باللسان، والتطاول بالقول، ما يقطع الرسل عن الدعوة التي يدعون بها، فليكن التهديد بالرجم، أو الطرد من الوطن.. ذلك ما قدّره الضالون المعاندون، وهذا ما عملوا له: -- «لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا» .. هكذا يقولونها فى غير حياء، حتى لكأن الرسل غرباء عن هذه الأرض، لا حق لهم فيها مثلهم..! - «أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا» .. الملّة، الدين، والعقيدة.. وعودة الرسل إلى ملّة قومهم، إنما هو باعتبارهم خارجين عليها، بالدّين الجديد الذي يدعون إليه.. وهذا غاية فى الضلال والعناد، إذ يجيئهم الرسل بالهدى الذي يحمله الدين الجديد إليهم، فيدعون الرسل إلى أن يعودوا إلى دينهم الفاسد الذين يدينون به.! - «فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ» .. وإذا كان لهؤلاء الكافرين أرض، فإن لهؤلاء الرسل ربّا.. وقد أوحى إليهم ربهم، وأخبرهم بأنه سيهلك هؤلاء الظالمين، الذين دفع بهم الظلم إلى أن يخرجوكم من أرضكم.. إنهم هم الذين سيخرجون من هذه الدنيا كلها.. إنهم لمأخوذون بنقمة الله، وإنهم لهالكون..! - «وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ» فأنتم أيها الرسل الذين سيرثون هذه الأرض بعد هلاك هؤلاء الظالمين، الذين أرادوا إخراجكم منها.. - «ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ» أي إنّ ذلك الجزاء الحسن وهذا النصر العظيم، إنما هو لمن خاف مقام ربّه، وخشى بأسه، فوقّره وعظّمه، واتقى حرماته، وعظم شعائره.. والرسل من هذا فى المقام الأول، ثم من اقتفى أثرهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 160 قوله تعالى: «وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ» .. استفتحوا: أي طلبوا الفتح والنصر.. ويصحّ أن يعود الضمير على الرسل، أو على أقوامهم المكذّبين بهم.. بمعنى أن الرسل طلبوا من الله أن يحكم بينهم وبين أقوامهم، كما يقول تعالى على لسان شعيب والمؤمنين معه: «رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ» (89: الأعراف) .. أو بمعنى أن الكافرين هم الذين طلبوا أن يأتيهم الرسل بالعذاب الذي توعدوهم به.. كما يقول الله تعالى فى مشركى قريش بعد معركة بدر: «إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ» (19: الأنفال) . وسواء أكان الاستفتاح من الرسل، أو من أقوامهم المكذبين لهم، فإن العاقبة واحدة، وهى الخيبة والخسران للكافرين المكذبين: «وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ» .. قوله تعالى: «مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ» . أي بعد هذا البلاء الذي ينزل بالجبارين المعاندين المكذبين برسل الله- بعد هذا البلاء الذي ينزل بهم فى الدنيا، سيجيئهم (من ورائه) أي من بعده عذاب جهنّم، حيث يلقون الأهوال ألوانا وأشكالا.. فهناك الصديد الذي يسقاه الجبارون.. مكرهين، يتجرعونه جرعة جرعة، وقطرة قطرة.. - «وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ» وهو توكيد لشناعة هذا الصديد، وأنه لا يساغ الشارب أبدا، ولا يكون على أية درجة من درجات الإساغة.. وهذا أبلغ من أن يقال: «ولا يسيغه» لأن نفى الإساغة لا يقطع بأن تكون هناك درجة من درجات الإساغة فى هذا الشراب، ولكن نظرا لقلتها، فقد شملها النفي. أما قوله تعالى: «وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ» فهو نفى قاطع لأى احتمال من احتمالات الجزء: 7 ¦ الصفحة: 161 الإساغة لهذا الشراب.. وهذا مثل قوله تعالى: «فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً» (78: النساء) . قوله تعالى: - «وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ» .. إشارة إلى أن ما يحيط بهذا الجبار العنيد يومئذ، من بلاء ونكال، هو مما تزهق به الأرواح، وأن كلّ سوط من سياط هذا العذاب الذي ينوشه من كلّ جانب، هو موت زاحف إليه، ولكنه لا يموت، بل يظل هكذا أبدا، يذوق عذاب الموت، وما هو بميت.. «كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ» (56: النساء) وفى إفراد الضمير فى قوله تعالى: «وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ» بعد قوله: «وَاسْتَفْتَحُوا» . - فى هذا إشارة إلى أن العذاب الذي يساق إلى الكافرين، إنما يساق إليهم فردا فردا، حتى لكأن كل ما فى جهنم من بلاء ونكال، هو للفرد الواحد من أهل جهنم: «مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ» .. فهنا يجد هذا الجبار العنيد نفسه وقد أفرد وحده فى جهنم، يتجرع صديدها، ويحترق بنارها، ويشوى على جمرها، من غير أن يكون معه أحد، يشاركه هذا البلاء، ويقتسم معه هذا العذاب الغليظ.. وهذا ما لا تتحقق صورته لو جاء النظم القرآنى هكذا: «وخاب الجبارون المعاندون، من ورائهم جهنم ويسقون من ماء صديد، يتجرعونه ولا يكادون يسيغونه ويأتيهم الموت من كل مكان وما هم بميتين ومن ورائهم عذاب غليظ» .. فشتان بين نظم ونظم، وبين قول وقول، وتصوير وتصوير! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 162 الآيات: (18- 23) [سورة إبراهيم (14) : الآيات 18 الى 23] مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23) التفسير: قوله تعالى: «مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ» - هو جواب عن سؤال، يقع فى نفس من يسمع أو يرى ما يحلّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 163 بالكافرين من عذاب الله فى الآخرة.. فيسأل: أليس لهؤلاء الكافرين أعمال طيبة فى دنياهم، تخفف عنهم هذا العذاب، أو تصرفه عنهم؟ والجواب: إن لهم أعمالا تحسب فى الأعمال الصالحة النافعة لو أنهم كانوا مؤمنين.. أما وقد عملوا هذه الأعمال وهم على الكفر بالله، فإن كفرهم يفسد كل صالح لهم، ويخبث كل طيب كان منهم.. ذلك أنهم وقد كفروا بالله لم يكن لهم عمل يتجهون به إلى الله، ويرجون به المثوبة عنده.. فبطل بهذا كل عمل لهم.. - وفى قوله تعالى: «مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ» - جمع بين الذين كفروا وأعمالهم، حيث شملهم هذا الوصف: «كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ» .. فالذين كفروا هم وأعمالهم يوم القيامة لا يلتفت إليهم، إلا كما يلتفت إلى رماد اشتدت به الريح فى يوم عاصف.. إنهم وأعمالهم ريح خبيثة تهبّ على أهل الموقف محمّلة بهذا الرماد الثائر، الذي تتأذى به العيون، وتزكم الأنوف وتنقبض منه الصدور.. ولو جاء النظم هكذا: مثل أعمال الذين كفروا بربهم كرماد اشتدت به الريح، فى يوم عاصف- لو جاء هكذا، لذهب هذا المعنى الذي كشف عنه النظم القرآنى، والذي جمع بين الكافرين وأعمالهم كما تجتمع النار ومخلفاتها من رماد!! وفى تشبيه أعمال الذين كفروا بالرّماد، دون التراب مثلا، الذي هو أكثر شىء تحمله الريح- فى هذا التشبيه إشارة إلى أن الأعمال التي يجدها الكافرون بيوم القيامة، هى مخلّفات تلك الأعمال التي كانوا يعدّونها من الأعمال الصالحة.. وأنها وإن كانت صالحة فى ذاتها، إلا أن كفرهم بالله قد أكلها كما تأكل النّار الحطب، ولم يبق منها إلا هذا الرماد، الذي ذهبت به العاصفة كل مذهب.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 164 فلم يبق منها حتى مجرد رماد ينتفع به على أي وجه من وجوه النفع، ولكنه صار هباء معلقا فى أذيال الرياح العاصفة! فانظر كيف حمل هذا التشبيه من روعة التصوير، ودقة المطابقة بين المشبّه والمشبّه به، حتى لكأن روحا واحدة تلبس جسدين! وفى قوله تعالى: «لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ» هو من تمام التشبيه، وهو أشبه بوجه الشبه الجامع بين طرفى التشبيه.. فإنه كما لا يقدر أحد على الإمساك بهذا الرماد الذي تحمله الريح، كذلك لا يقدر الكفار على الإمساك بشىء من أعمالهم التي كانت لهم فى دنياهم. وقوله تعالى: «ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ» - يمكن أن تكون الإشارة فيه إلى حال هؤلاء الكافرين، وما هم عليه من ضلال، وهو ضلال قد بعد بصاحبه عن طريق الهدى والنجاة.. ويمكن أن تكون الإشارة إلى أعمال الكافرين يوم القيامة، وأنها ضلّت عنهم، وغابت وراء آفاق بعيدة، لا سبيل إلى الاهتداء إليها أبدا.. وقوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ» . الخطاب هنا للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- وهو بعد هذا- خطاب عام، لكل إنسان، من شأنه أن يخاطب.. فى هذه الصورة التي تعرضها الآية الكريمة لقدرة الله، وأن الله سبحانه خلق السموات والأرض، خلقا مقصودا لحكمة يعلمها الله، وليس عبثا ولهوا، وأنه سبحانه كما خلق هذا الوجود قادر على أن يهلك الناس جميعا، وأن يأتى بخلق جديد غيرهم، من جنسهم أو من غير جنسهم، وأن ذلك ليس بالعزيز على الله، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 165 أو المتأبّى على قدرته- نقول فى هذه الصورة يشهد الكافرون بعض مظاهر قدرة الله، بعد أن أشهدتهم الآية السابقة يوم القيامة، وموقفهم الذليل المهين فيها، وأعمالهم الضائعة التي كانت لهم فى الدنيا، فيكون لهم من ذلك واعظ يعظهم، ويفتح لهم الطريق إلى الإيمان بالله، إن كانت لهم عقول تعقل، وكان لهم مأرب فى النجاة من عذاب النار الذي شهدوه، وعاينوا أهواله.. قوله تعالى: «وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ؟» - «وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً» : أي انكشفوا بالعراء، وجاءوا مجردين من كل شىء.. عراة، حفاة.. لا مال، ولا ولد، ولا جاه، ولا سلطان! فهذا مشهد من مشاهد القيامة، وفيه يبرز النّاس جميعا لله، غير مستترين بشىء، لا يحتجب بعضهم عن بعض بجاه أو سلطان، أو حجّاب، وحراس، أو حصون وقصور.. إنهم جميعا عراة بالعراء.. وفى جانب من هذا المشهد يلتقى الضعفاء، وهم عامة الناس، وسوادهم- بالرؤساء، وأصحاب السيادة والسلطان، وقد كانوا قادتهم، وأصحاب الكلمة فيهم، وفى هذا اللّقاء يفزع هؤلاء المستضعفون إلى سادتهم هؤلاء، يسألونهم العون فى دفع هذا البلاء الذي أحاط بهم.. فهم كانوا مفزعهم فى الدنيا، فهلّا كانوا مفزعا لهم فى هذا اليوم العظيم؟ وبم استحقوا إذن أن يكونوا فى مكان القيادة والسيادة، إذا هم لم يكونوا لهم فى هذا الموقف؟ «إِنَّا- كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً.. فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ» ؟ إنه لعار على المتبوع ألا يخفّ لنجدة تابعه، وقد كنّا رعيّة لكم، وأداة طيعة فى أيديكم! فهيّا ادفعوا عنّا بعض هذا العذاب الذي نحن فيه! ويجىء الجواب: «قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ» !! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 166 وهو جواب ماكر خبيث، يحمل عذرا هو أقبح من ذنب! لقد ألقى هؤلاء السادة الضالّون- ألقوا بضلالهم على الله.. ولم يسألوا أنفسهم: لماذا أضلّهم الله؟ ألم يكونوا حربا على الأنبياء؟ ألم يكونوا أفواها نافخة لإطفاء كل شعلة من شعل الحق الذي حملوه إليهم.. لقد أضلهم الله لأنهم أرادوا الضلال، واستحبّوا العمى على الهدى.. «سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ» .. المحيص: المفرّ، والخلاص، وأصله الحيدة عن المكروه، يقال: حاص، يحيص حيصا، وحيوصا، أي حاد.. ويمكن أن يكون هذا من كلام الذين استكبروا، كما يمكن أن يكون من كلام الذين استضعفوا، تعقيبا على هذا اليأس الذي جاءهم من جواب المستكبرين لهم.. كما يمكن كذلك أن يكون صوتا مردّدا من هؤلاء وأولئك جميعا..! فإن المتكبرين والمستضعفين قد أصبحوا فى قبضة العذاب، ولن يفلتوا أبدا.. سواء أجزعوا من هذا العذاب، أم صبروا له.. وهيهات الصبر على هذا البلاء المبين..! قوله تعالى: «وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ.. وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ» وهذا طرف ثالث من أطراف الخصومة بين الضعفاء والمستكبرين.. فإنه حين انتهى الموقف بينهما إلى هذا اليأس القاتل.. تلفتوا جميعا إلى الشيطان، إذ كان هو الذي أغواهم، وأوقعهم فى شباكه، وكأن لسان حالهم يقول له: ما عندك لنا؟ لقد كنت أنت الذي دعوتنا إلى هذا الضلال الذي أصارنا إلى هذا المصير.. فهل تدعنا، وقد ألقيتنا فى هذا البلاء؟ ويجيئهم الجواب من الشيطان، مفحما موئسا.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 167 - «إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ» على يد رسله وأنبيائه.. أما أنا فقد وعدتكم فأخلفتكم، ونكثت عهدى معكم، ونقضت عقدى الذي وثّقته لكم.. فذلك هو أنا، وهذا هو شأنى مع أتباعى.. وإذن فموتوا بغيظكم.. ألم يحذّركم الله منّى فى قوله تعالى: «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي.. هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» (60- 61: يس) وفى قوله سبحانه: «يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ» (27: الأعراف) «وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ» وإن الشيطان ليس بين يديه قوة قاهرة، ملك بها أمر هؤلاء الذين أضلّهم وأوقعهم فى شباكه.. إنه أشبه بالصائد الذي ينصب شباكه للطير، ويضع فيها الحبّ فتسقط عليها، وتعلق بها، وتصبح صيدا فى يده! لقد دعاهم الشيطان إليه، وزيّن لهم الضلال وأغراهم به، فاستجابوا له، دون أن يستخدموا عقولهم التي وهبها الله لهم، ودون أن يستمعوا لكلمات الله على لسان رسله، يحذرونهم هذا العدوّ المتربص بهم، ويدعونهم إلى الفرار من وجهه، إلى حيث النجاة والسلامة، فى حمى الله ربّ العالمين.. فإذا كان هناك من يستحق اللوم فهو هم، لا الشيطان.. إن الشيطان يعمل لنفسه، ويؤدى رسالته فيهم.. أما هم فقد غفلوا عن أنفسهم، وباعوها لهذا العدوّ بيع السّماح.. بلا ثمن! «ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ» - أي ما أنا بالمستجيب لصراخكم المخفّ لنجدتكم، وكذلك أنتم، لن تستجيبوا لى، إذا استصرختكم، ولن تهبوا لخلاصى مما أنا فيه من بلاء.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 168 والاستصراخ هو نجدة المستغيث المستصرخ.. يقول الشاعر: إنّا إذا ما أتانا صارخ فزع ... كان الصّراخ له قرع الظنابيب «1» «إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ» .. أي إنى كفرت بهذا الشرك الذي جعلتمونى فيه معبودا لكم من دون الله.. ويجوز أن يكون هذا إقرارا منه بالكفر بالله من قبل، أي من قبلهم، وذلك حين دعاه الله سبحانه مع الملائكة، للسجود لآدم، فسجد الملائكة وامتنع هو، فطرده الله سبحانه، ولعنه، وأصبح من الكافرين.. فكأنه بهذا يقول لهم: إنكم تعلمون أنّى على الكفر، وقد دعوتكم فأطعتمونى، فلا تلوموا إلا أنفسكم، فأنا- كما تعلمون- قد كفرت بالله الذي أشركتمونى معه فى عبادتكم له. «إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» .. هو حكم من الله سبحانه وتعالى على هؤلاء المتخاصمين جميعا.. من مستكبرين، ومستضعفين، وشياطين.. إنهم، جميعا ظالمون.. وليس للظالمين إلا أن يصلوا هذا العذاب الأليم الذي هم مساقون إليه.. قوله تعالى: «وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ.. تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ» وفى الجانب الآخر من مشهد النار وأهلها هذا المشهد، تفتح أبواب الجنة الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فيجدون فيها النعيم والرضوان، ويلقون فيها التحيّة والسلام. - وفى قوله تعالى: «بِإِذْنِ رَبِّهِمْ» إشارة إلى أن هذا الرضوان، وذلك النعيم الذي صار إليه الذين آمنوا وعملوا الصالحات، إنما هو من فضل الله عليهم، ومشيئته فيهم، وليس ذلك لما كان منهم من إيمان، وعمل صالح، وحسب،   (1) الظنابيب: جمع ظنبوب، وهو عظم الساق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 169 إذ أن هذا النعيم لا يعدله عمل، ولا يؤدّى حقّه إنسان.. وهذا ما يشير إليه الحديث الشريف، إذ يقول النبي صلوات الله وسلامه عليه: «لا يدخل أحدكم الجنّة بعمله..» قالوا: «ولا أنت يا رسول الله؟» قال: «ولا أنا إلّا أن يتغمّدنى الله برحمته» . فالإيمان بالله، والعمل الصالح طريق إلى جنّة الله ورضوانه، ولكنهما لا يوصلان إليها إلّا بإذن الله، وعونه، وتوفيقه.. إنهما أشبه بالطّرقات التي يستأذن بها على ربّ الدار لدخول داره، وإنه لا يأذن إلا لمن يشاء ويرضى..! الآيات: (24- 27) [سورة إبراهيم (14) : الآيات 24 الى 27] أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27) [الكلمة الطيبة.. والكلمة الخبيثة] التفسير: المراد بالاستفهام فى قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا» هو الإلفات إلى هذا المثل، والوقوف عنده، وقفة تدبّر، وتذكر، واعتبار.. فالمراد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 170 بالاستفهام الأمر: أي انظر كيف ضرب الله مثلا.. والكلمة الطيبة، هى كل كلمة جاءت من واردات الحقّ، والخير.. والكلمة الخبيثة، ما كانت من واردات الباطل، والضلال، والشر.. وكلمة «لا إله إلا الله» هى مجمع كل كلمة طيبة.. فمن لم تسكن إلى قلبه هذه الكلمة لا يجىء منه طيب أبدا.. وضرب المثل: سوقه وعرضه.. والأصل فيه ضرب الشيء بالشيء ليخرج منهما شىء آخر، كضرب اللبن بالمخض ليخرج منه الزّبد.. ومنه الضّرب وهو عسل النحل الذي يكون من ضرب أخلاط رحيق الزهر بعضها ببعض. والمثل الذي ضربه الله سبحانه وتعالى للكلمة الطيبة، هو الشجرة الطيبة: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها..» والشجرة الطيبة.. هى أية شجرة يحصّل منها الناس النفع، ويجنون الخير.. وأكثر الشجر الطيب طيبا، هو ما كثر خيره، واتصل عطاؤه، وقلّ الجهد المبذول فى تنميته وتثميره.. ولعل «النخلة» أطيب شجرة وأكرمها، وأقربها وفاء بهذه الصفات التي وصف الله سبحانه وتعالى بها تلك الشجرة الطيبة: «أَصْلُها ثابِتٌ.. وَفَرْعُها فِي السَّماءِ.. تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها..» فالنخلة أكثر الشجر ضربا فى أعماق الأرض، وأطولها امتدادا إلى أعنان السماء، وهى لهذا كانت من الأشجار المعمّرة.. ثم هى من جهة أخرى أقلّ الأشجار المثمرة حاجة إلى عناية ورعاية، وحراسة متصلة من الآفات.. فما هى إلا أن تعلق نواتها بالأرض حتى تضرب بجذورها فى أعماق الثرى، باحثة عن الماء، حتى تبلغه، وتقيم وجودها على مصدر دائم من الرىّ لا ينقطع.. وكما امتدت جذورها فى الأرض، طال فرعها فطاول السماء، باحثا عن الضوء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 171 الصافي، والهواء النقي، والعزلة الزاهدة.. بعيدا عن غبار الأرض، وصخبها وضوضائها.. ثم إن النخلة من جهة ثالثة أكثر الشجر المثمر جودا وعطاءا.. يؤكل ثمرها رطبا ويابسا، وعلى أصول شجره، ومختزنا، من غير أن يلحقه العطب، أو يسرع إليه التلف.. ثم من جهة رابعة.. لا شىء من النخلة إلا وفيه نفع وخير.. خوصها، وجريدها، وليفها، وعرجونها، وكربها.. فهى من أخمص قدمها إلى قمة رأسها، منافع متصلة، يمكن أن تقوم عليها وحدها حياة الإنسان، مستغنيا بها عن كل شىء.. ولعلّه من أجل هذا كانت النخلة من نبت الصحراء، حتى يكون ما فيها من ثراء وغنى، تعويضا لما فى الصحراء من جدب وفقر! ولعل فى قول رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه-: «أكرموا عماتكم النّخل فإنهن خلقن من طينة آدم» - لعل فى هذا القول ما يكشف عن وجه من وجوه الإعجاز النبوىّ، وأنه كما قال الله سبحانه وتعالى فيه: «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى» ، إذ يلتقى قوله هذا مع قوله تعالى: «ومَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ» دالّا على الشجرة الطيبة، ومشيرا إليها.. والسؤال هنا هو: إذا كانت الشجرة الطيبة- نخلة كانت أو ما يشبهها- على تلك الصورة من الرسوخ والثبات، والعلوّ، وعلى تلك الصفة من البركة والنفع، فأين ما فى الكلمة الطيبة من هذا كله؟ وقبل هذا السؤال، سؤال آخر.. وهو: ما هى الكلمة الطيبة، التي شبهت بالشجرة الطيبة..؟ نقول: إن الكلمة الطيبة هى كل كلمة جاءت من واردات الحقّ والخير.. فكل كلمة تتسم بتلك السّمة، وتحمل ضوءة من أضواء الحق، ونفحة من نفحات الخير، هى من الكلم الطيب.. والكلم الطيب كثير: لا يكاد يحصر.. تختلف أشكاله، وتتعدد صوره، وتكثر أو تقلّ معطياته.. كما أن الشجر الطيب كثير، تتنوع ثماره، وتختلف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 172 طعومه وتتفاضل مذاقاته.. كما يقول الله تعالى. «وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ» . وكما قلنا: إن أكثر الشجر الطيّب طيبا، هو ما كثر خيره، واتصل عطاؤه، وقلّ الجهد المبذول فى تنميته- نقول إن أكثر الكلم الطيب طيبا هو ما كثر خيره. واتصل عطاؤه. وقلّ الجهد المبذول فى تحصيله وفهمه. وإذا كانت النخلة- كما قلنا- هى الشجرة التي تتمثل فيها هذه الصفات، فإننا نستطيع أن نقول إن كلمة التوحيد. هى رأس الكلام الطيب كلّه، وأطيبه جميعه.. فكلمة «لا إله إلا الله» هى الكلمة الجامعة لكل خير، المشتملة على كل هدى، الموصلة إلى كل طيب، وبغير هذه الكلمة لا تثبت للإنسان قدم على طريق الهدى، ولا يطلع له نبت فى مغارس الخير.. وليست الكلمة فى ذاتها، من حيث هى كلمة، هى التي يكون لها هذا الوصف من الطيّب، أو تكون لها تلك الأوصاف من الخبث.. وإنما الكلمة- طيبة كانت أو خبيثة- لا يظهر طيبها، أو خبثها، إلا إذا التقت بعقل الإنسان، ونفذت إلى قلبه، وسرت فى مشاعره، وسكنت إلى وجدانه- عندئذ تخرج خبأها، وتصرّح عن مكنونها، وتعطى الثمر الطيب أو الخبيث الذي كان مستودعا فى كيانها- إنها أشبه بالنواة من الشجرة، والبذرة من النبات، لا ينكشف ما بها، حتى تعلق بالأرض، وتترعرع وتنمو، ثم تزهر، وتثمر..! وكما أنه بالتجربة والاختبار، قد عرف- مقدما- ما تعطيه نواة هذه الشجرة أو تلك من ثمر، حلو أو مرّ، إذا هى غرست فى مغارسها وتهيأت لها أسباب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 173 الحياة، والنمّاء، كذلك يعرف الكلام الطيب، وما بثمر من ثمر طيب، والكلام الخبيث وما يثمر من خبيث، إذا هو وقع من النفوس الموقع، الذي يهيىء له حياة، ويقيم له وجودا. ونعود إلى كلمة التوحيد: «لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ» .. باعتبارها الأمّ الولود لكل طيّب.. فماذا نجد فيها من ثمار طيبة؟. ونعود فنؤكد مرة أخرى، أنّها من حيث هى كلمة، مجرد كلمة، يتلفظ بها اللسان، ثم لا يعقلها العقل، أو يمسك بها القلب، أو تنفعل بها المشاعر- هى على لسان المتلفظ بها، شبح كلمة، أو صدى صوت، لا مفهوم لها، ولا ثمرة ترجى منها.. تماما كنواة الشجرة الطيبة تلقى على حجر صلد. أمّا إذا صادفت هذه الكلمة الطيبة المباركة، أذنا واعية، وعقلا ذاكرا، وقلبا حافظا، ومشاعر مستجيبة للخير، متجاوبة معه.. فقل ما تشاء فيما تعطى هذه الكلمة الطيبة المباركة من أكل مباركة طيبة.. فبكلمة «لا إله إلا الله» ينتقل الإنسان من الكفر إلى الإيمان، ومن الظلام إلى النور، ومن الموت إلى الحياة.. بهذه الكلمة المباركة الطيبة يستفتح الإنسان أبواب الخير كلها، فى الأرض وفى السماء..! وبهذه الكلمة المباركة الطيبة يرتفع الإنسان فوق هذا التراب الذي يدبّ عليه، إلى الملأ الأعلى، فإذا هو من أهل هذا الملأ، بل هو فى حضرة ربّ العزّة.. يناجيه، ويتلقّى منه ما يهنأ به، من فواضل كرمه، وسوابغ وجوده وإحسانه!. وبهذه الكلمة المباركة الطيبة، وبهذا المقام الكريم الذي ارتفع إليه صاحبها، يشرف الإنسان من عل على هذا الوجود الأرضىّ، فيرى كل شىء فيه صغيرا.. الدنيا ومتاعها، والمال وشهوته، والسلطان وجاهه، والشباب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 174 وغروره، والقوّة وطغيانها.. كلّ هذا يراه المؤمن بالله، المستظل بعزته وقوته- يراه صغيرا فى عينه، هيّن القدر، ضئيل الشأن.. فى حسابه. والكلمة- كما قلنا- مهما تكن طيبة محملة بكريم المعاني، وجميل الصفات لا تعطى شيئا من ذات نفسها، إلّا إذا صادفت النفس الطيبة التي تقبلها، والمشاعر الكريمة النبيلة التي تهشّ لها، وتتجاوب معها.. أما إذا صادفت نفسا كزّة، ووردت على مشاعر سقيمة، فإنها لا تؤثر أثرا، ولا تندّ بشىء من طيبها وحسنها. وكذلك الكلمة الخبيثة.. لا تبيض، وتفرخ، حتى تلتقى بالنفس الخبيثة، وتخالط المشاعر الفاسدة!. وشاهد هذا، وذاك، واقع فى الحياة. فدعوات الرسل والمصلحين والقادة والعلماء والحكماء، ليست إلا كلمات، تحمل فى كيانها معانى الحق والخير، وترسم من مفاهيمها مناهج العدل والإحسان.. ثم تدع للناس أن يتناولوها كيف شاءوا، وأن يتعاملوا معها حسب ما أرادوا.. فمنهم من يجد فيها هداه، وصلاح أمره فى الدين والدنيا جميعا.. ومنهم من لا يقيم لها وزنا، ولا يرفع لها رأسا، ولا يمدّ نحوها يدا.. وبهذا تختلف حظوظ الناس من هذا الخير المتاح لهم.. فمنهم من يأخذ حظه كاملا، ومنهم من لا ينال شيئا.. وهكذا تتفرق السبل، بين مهتد وضال، ومستقيم ومنحرف، وسعيد وشقى.! إن ما فى عقل الإنسان من مدركات وتصورات، وما فى كيانه من نوازع واتجاهات وميول، هو من عمل الكلمة، وإنه بقدر ما يتلقى العقل من كلمات، يكون حظه من العلم والمعرفة، وإنه بقدر ما فى هذه الكلمات من معانى الخير الجزء: 7 ¦ الصفحة: 175 والشر، يكون اتجاه الإنسان إلى الخير أو الشر.. فالإنسان لا يعطى إلا مما عنده، والإناء لا ينضح إلا مما فيه.. والكلمات هى الرصيد الذي يملكه الإنسان، وينفق منه.. لهذا كان من تدبير الإسلام حراسة الإنسان، من أن تدخل عليه كلمات السوء، فتسكن فى كيانه، وتتحول إلى كائنات حيّة تعيش معه، وتوجه سلوكه.. يقول الرسول الكريم: «لا يقولنّ أحدكم خبثت نفسى، ولكن ليقل لقست نفسى» .. واللفظان معناهما واحد، وهو غثيان النفس، وتهيّؤها للقىء، ولكن النبىّ صلوات الله وسلامه عليه- يأخذ المسلمين بأدب الكلمة، ويحمى ألسنتهم من أن تعلق بها هذه الكلمات السيئة، فتتخلّق منها مشاعر خبيثة.. فالكلمة- فى الواقع- ليست مجرد حروف مرسومة، أو أصوات مسموعة، وإنما هى رسل هدى ورحمة وخير، أو شياطين غواية وضلال وبلاء.! ومن أجل هذا، كان احتفاء الإسلام بالكلمة، وتقديره لها، وحسابه لآثارها ومعطياتها.. فقد عرف الإسلام للكلمة قدرها وخطرها فى تفكير الإنسان، وفى سلوكه.. إذ كانت كل ثمرات تفكيره، من مواليد الكلمة، وكان سلوكه، من وحي هذا التفكير ومتطلباته.. ومن تدبير الإسلام فى هذا، أنه جعل القرآن الكريم المائدة التي يردها المسلمون، فيتزودون من كلماته وآياته، بالترتيل، والاستماع، فرضا فى الصلاة، ونافلة فى غير الصّلاة.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 176 يقول الله تعالى لنبيه الكريم: «وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا» (106: الإسراء) ويقول له سبحانه: «وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا» (4: المزمل) ويقول له جلّ شأنه: «وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» (78- 79: الإسراء) . ويدعو الله سبحانه المؤمنين إلى أن يغشوا مجالس القرآن، وأن يستمعوا له فى صمت وخشوع، حتى تنفذ كلماته إلى قلوبهم، وتخالط مشاعرهم.. فيقول سبحانه: «وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (204: الأعراف) . ويعرض القرآن الكريم صورة من صور الاستماع إلى آيات الله وكلماته، تتجلّى فيها قوة الكلمة الطيبة وأثرها، حين تصادف الأذن الواعية، والقلب السليم، حتّى فى عالم الجنّ، الذي من شأنه أن يزهد فى الخير، ويتكّب طرقه.. يقول الحق جلّ وعلا: «وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» (29- 31: الأحقاف) . وكم من الجنّ، والإنس، من سمع كلمات الله وآياته فلم يجد لها صدى فى نفسه، ولا أثرا فى وجدانه.. كما يقول سبحانه: َيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (7- 8: الجاثية) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 177 روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قرأ على أصحابه سورة الرحمن، حتى فرغ، قال: «ما لى أراكم سكوتا؟ للجنّ كانوا أحسن منكم ردّا.. ما قرأت عليهم من مرة «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» إلا قالوا: ولا بشىء من نعمك نكذب.. فلك الحمد» .. ومن جهة أخرى، فإن الإسلام حذّر أهله من أن يستمعوا إلى زور الكلام وباطله، ونصح لهم أن يفرّقوا بين الطيب والخبيث، والحسن والقبيح، فيستمعوا للطيب الحسن ويأخذوا به، ويتجنبوا الخبيث القبيح ويعرضوا عنه: فقال تعالى: «فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ» (17- 18: الزّمر) .. ويقول جلّ شأنه فى وصف عباده المتقين: «وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً» (72- 73: الفرقان) .. ويقول سبحانه: «وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ» (55: القصص) . فاللغو من القول، والزور من الحديث، آفة تدخل على الإنسان، وتندسّ فى مسارب تفكيره، وفى خلجات وجدانه، ثم إذ هى مع الزمن، ومع ما يرد عليها من كلمات السوء- نبتة فاسدة، لا تلبث أن تستغلظ وتستوى على سوقها، ثم تنداح وتمتد حتى تكون شجرة مشئومة تملأ كيان الإنسان، وتظلل وجوده، وتغذّى من ثمرها النكد الخبيث، ما فى الإنسان من أفكار، ومشاعر.. وإذا هذه الأفكار وتلك المشاعر أعمال وأقوال، تذيع السوء فى النّاس، وتمشى بالشرّ والفساد فيهم! وننظر فى هذه الحياة، فنجد أن كلّ ما يقع فى الناس من خير أو شر، هو فى الواقع أثر من آثار كلمة طيبة، أو كلمة خبيثة.. فكلمة واحدة ينطق بها صاحبها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 178 فإذا هى رحمة راحمة، تزرع المودة، وتثمر المحبّة والإخاء، فتسكن بها فتنة، وتنطفىء بها عداوة، وتحجز الناس عن حرب، لو اشتعلت نارها، لما خمدت حتى تحيل كل عامر إلى خراب، وكل حياة إلى موات.. فكم من الكلمات الطيبة، والحكم البالغة، تعيش فى الناس منذ أزمان، إذا ذكروها طلعت عليهم بوجهها المشرق الكريم، فكانت سكنا للنفوس، ودفئا للصدور، وشفاء من وساوس الشرّ، وخطرات السّوء.. وكم من كلمات خبيثة مشئومة، تعيش فى الناس، أزمانا متطاولة، فإذا ذكروها، خرجت عليهم بما فيها من شياطين، توسوس لهم بالشرّ، وترمى إليهم بمعاول الهدم والتدمير، فإذاهم نذر بلاء، ودعاة شقاق، وقذائف تدمير وتخريب.! وهل الحرب والسلام، إلا مواليد كلمات خبيثة أوقدت حربا، أو كلمات طيبة أطفأت الحرب، وأقامت الناس على سلم وعافية؟ ونستمع مرة أخرى إلى قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ» . نستمع إلى كلمات الله هذه، وننظر إليها، فإذا هى منهج متكامل فى التربية العقلية والخلقية والروحية، بما تحقق للإنسان الذي يأخذ بهديها، ويتأدب بأدبها، من قوى مدركة للحق، ومتجاوبة مع الخير، متهدية إلى منازل الكمال والإحسان.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 179 فالذى تتمثل له الكلمة الطيبة، على هذا الوجه المشرق الطيب، الذي وصفها الله سبحانه وتعالى به، ثم يجعل رصيده كلّه من الكلم الطيب، آخذا ومعطيا- الذي يسلك هذا المسلك، لن يضلّ أبدا، ولن يقع له أو منه، ما يسوء.. فهو شجرة طيبة.. أصلها ثابت وفرعها فى السماء تؤتى أكلها كل حين بإذن ربّها! والذي تتمثل له الكلمة، على هذه الصورة المخفية التي صورها الله سبحانه وتعالى بها، فإنه يرى فى الكلمة الخبيثة، وباء قاتلا، وشرّا راصدا، يهلك من يلمّ بها، ويطمئن إليها.. الآيات: (28- 34) [سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 الى 34] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 180 التفسير: قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ» - الاستفهام هنا يراد به التعجب من أمر هؤلاء الضالين الذين بدلوا نعمة الله كفرا، وعرضهم فى معرض الازدراء لأحلامهم، والاستخفاف بأقدارهم، والتسفيه لتصرفاتهم.. وهؤلاء الذين بدّلوا نعمة الله كفرا، هم سادة قريش، وأئمة الضلال والكفر فيهم.. والنعمة التي بدلوها كفرا، هى القرآن الكريم، الذي جاءهم بالهدى، ليخرجهم من ظلام الجاهلية وضلالها، إلى نور الحق والإيمان.. فأبوا إلا أن يردّوا هذه النعمة، بل وأن يجعلوها نقمة وبلاء عليهم.. ذلك أن الجاهليين كانوا قبل البعثة المحمدية من أهل الفترة، الذين لم تبلغهم رسالة سماوية.. فهم- والحال كذلك- واقعون تحت قوله تعالى: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (15: الإسراء) .. أي أنهم كانوا غير مبتلين بالتكاليف الشرعية، وغير محاسبين على ما يكون منهم.. فهم أشبه بالصغار الذين لم يبلغوا الحلم بعد. فلما بعث الله سبحانه وتعالى فيهم رسوله بالهدى ودين الحق، وبلّغهم الرسول ما أنزل إليه من ربّه، انقطع عذرهم، ولم يكن لهم على الله حجة بعد هذا البلاغ المبين، وفى هذا يقول تبارك وتعالى: «رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» (165: النساء) .. وبهذا فإن الذين لم يدخلوا فى دين الله، بعد بعثة النبي من الجاهليين، قد أصبحوا فى عداد الكافرين، إذ قد كشفت الدعوة الإسلامية عن هذا الداء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 181 الخبيث الذي كان مندسا فى كيانهم.. وكانت نعمة الإسلام التي لبسها من أراد الله لهم السعادة منهم. كانت هذه النعمة نقمة وبلاء على من لم يستجب لرسول الله، ولم يدخل فى دين الله.. وهكذا بدّل هؤلاء القوم نعمة الله كفرا.. إذ لبسوا بها ثوب الكفر، وكانوا قبل بعثة الرسول فيهم، على غير تلك الصفة. ويجوز أن تكون النعمة التي بدّلها هؤلاء المشركون كفرا، هى الفطرة السليمة التي أودعها الله فيهم، فهم بفطرتهم مؤمنون، ولكنهم بما أدخلوا على هذه الفطرة من أهواء وضلالات، قد أفسدوها، فلما التقوا بالقرآن الكريم، لم تستسغه فطرتهم الفاسدة، ولم يجدوا فى هذه النعمة العظيمة التي ساقها الله إليهم ما ينتفعون به، بل نصبوا الحرب لها، وحالوا بين الناس وبينها.. فكانت تلك النعمة بلاء عليهم، ألبستهم لباس الكفر، وهى التي جاءت لتخلع عليهم خلع الإيمان. - وفى قوله تعالى: «وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ» إشارة إلى أن رؤساء القوم الذين تصدّوا للدعوة الإسلامية، وحجزوا أتباعهم عنها، هم الذين أنزلوا قومهم هذا المنزل الدّون، وأوردوهم هذا المورد الوبيل.. قوله تعالى: «وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ» . الأنداد: جمع ندّ، وهو المساوى، والمعادل.. والمعنى: أن من سفه هؤلاء الضالّين، المعاندين، الذين أبوا أن يستجيبوا لرسول الله- أنهم جعلوا لله أندادا، ونظراء، عبدوهم كما يعبد المؤمن ربه، ودانوا لهم بالولاء، كما يدين المؤمن لله ربّ العالمين! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 182 - وفى قوله تعالى: «وَجَعَلُوا» إشارة إلى أن هذا الفعل الذي فعلوه باتخاذ آلهة لهم من دون الله، وجعلهم أندادا له- إنما هو من صنع القوم، ومن تلقيات أهوائهم، وأن ذلك كله ضلال، ما أنزل الله به من سلطان. - وفى قوله تعالى: «لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ» إشارة أخرى إلى أنهم اتخذوا هذه الآلهة، ليفتنوا بها الناس، وليمسكوا بهم على طريق الضلال، وليكون لهم بها دعوة يجمعون الناس عليها، ويأخذون بمقودهم منها: طلبا للسيادة والسلطان.. ولهذا جاء قوله تعالى: «قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ» متوعدا لهم بهذا المصير السيّء، الذي هو فى حقيقته، الثمرة المرّة لهذا الجاه والسلطان الذي تمتعوا به فى دنياهم، وعاشوا معه فى مواقع الضلال والكفر.. قوله تعالى: «قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ» . الخلال: المخلّة، والموادّة، والمواساة، التي تكون بين الصاحب وصاحبه، والخليل وخليله.. وسمّى الصاحب خليلا، لأن كلّا من الصاحبين يتخلل صاحبه، ويدخل إلى مشاعره، ويطّلع على ما لا يطلع عليه غيره.. ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة كانت وعيدا للمشركين الذين بدّلوا نعمة الله كفرا، فأبوا أن يقبلوا دين الله دينا، واتخذوا من دونه آلهة ليضلّوا الناس عن سبيل الله- فجاءت هذه الآية لتلفت المؤمنين الذين استجابوا لرسول الله، وآمنوا بالله، أن يؤدوا لهذا الإيمان حقّه، إذ ليس الإيمان مجرد كلمات تقال، وإنما هو دستور عمل، وشريعة واجبات وتكاليف. وعلى رأس هذه الأعمال، وتلك الواجبات: الصلاة، والزكاة.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 183 فالصلاة حق الله على عباده، والزكاة حق العباد على العباد.. حق الفقراء على الأغنياء.. ولهذا جمع القرآن بين الصلاة والزكاة، فى مواضع كثيرة من القرآن، حتى لا تكاد تذكر إحداهما إلا ذكرت معها الأخرى، تصريحا أو تلميحا.. - وفى قوله تعالى: «قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً» - عدول عن الخطاب إلى الغيبة، إذ كان من مقتضى النظم أن يجىء الأمر هكذا: «قل لعبادى الذين آمنوا أقيموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناكم سرا وعلانية» فما سر هذا؟ السر فى هذا- والله أعلم- هو أنه لكمال العناية بالصلاة والزكاة، جعل الله سبحانه وتعالى الأمر بهما متوجها منه جل شأنه إلى عباده، الذين شرّفهم بإضافتهم إليه بقوله: «قُلْ لِعِبادِيَ» ولم يشأ سبحانه أن يقطعهم عنه، وأن يجعل النبي- صلوات الله وسلامه عليه- هو الذي يتولى أمرهم بقوله: «يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وإنما جعل الرسول ناقلا خطابه إلى عباده، كما يأمرهم ربّهم به! - وقوله تعالى: «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ» .. اليوم هنا، هو يوم القيامة، حيث لا عمل فى هذا اليوم.. وإنما هو يوم حساب على أعمال سلفت فى الدنيا.. حيث لا شفاعة لأحد فى أحد.. «يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ» (41: الدخان) قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ. وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 184 وَالنَّهارَ. وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» . مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة توعدت المشركين الذين بدّلوا نعمة الله كفرا، وجعلوا لله أندادا، على حين نوهت بشأن المؤمنين، وأضافتهم إلى الله، وشرفتهم بالعبودية لله- فجاءت هذه الآية، والآيات التي بعدها لتحدّث عن قدرة الله، وجلاله، وعلمه، وفضله على عباده.. من المؤمنين، والكافرين جميعا.. وفى هذا العرض مجال لأن يراجع الكافرون أنفسهم، وأن يرجعوا إلى ربهم، بعد أن يعاينوا آثار رحمته وبدائع قدرته.. على حين يزداد المؤمنون إقبالا على الله، واجتهادا فى العبادة.. فالله سبحانه، هو الذي خلق السموات والأرض وما فيهن، وهو الذي أنزل من السماء هذا الماء الذي تتدفق به الأنهار، وتتفجر منه العيون، وتحيا عليه الزروع، وما يخرج منها من ثمر وحبّ.. وهو- سبحانه- الذي سخر الفلك، وأجراها مع الماء، وسخر الأنهار لتحمل الفلك على ظهرها.. وسخر الشمس والقمر تسخيرا منتظما، لا يتخلف أبدا، وسخر الليل والنهار، على هذا النظام البديع المحكم.. والمراد بالتسخير هنا.. التذليل، والإخضاع، والانقياد.. وذلك بإخضاع هذه المخلوقات لسنن وقوانين تحكمها، وتضبط موقفها بين المخلوقات، بحيث يمكن الإنسان إخضاع هذه المخلوقات والانتفاع بها، إذا هو عرف القوانين الكونية الممسكة بها.. - وفى قوله تعالى: «وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ» .. إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى، قد شمل العباد بلطفه، وأنزلهم منازل إحسانه وكرمه، فأقامهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 185 على خلافته فى هذه الأرض ومكنّ لهم من أسباب الحياة فيها، فبسط الأرض، وأنزل عليها من السماء ماء، وأجرى فيها الأنهار، وفجر العيون، وسخّر ما فى السموات من كواكب، ونجوم، وما فى الأرض من عوالم وكائنات. وأودع فى الإنسان عقلا، يقدر به على أن يهتدى إلى مواطن النفع من هذه الموجودات، وأن يقيم منها هذه الدنيا، التي نسج من خيوطها هذا الثوب الجميل الذي تزدان به، كما تزدان العروس فى ليلة عرسها. هذا، وليس المراد بقوله تعالى: «وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ» أن كل إنسان قد أوتى سؤله، واستوفى كل مطلوبه من دنياه، فهذا- وإن بدا فى ظاهره أنه خير- هو فى حقيقته آفة تغتال مطامح الإنسانية، وتقتل آمالها، وتدفن ملكاتها.. إذ لو توفرت لكل إنسان حاجته، لما جدّ وسعى، ولما تفتق عقله عن هذه العلوم والمعارف، التي كشف بها أسرار الطبيعة، وأخرج المخبوء فى صدرها، وأقام له سلطانا على هذا الكوكب الأرضى، الذي جعله الله خليفة عليه.. وإنما المراد بقوله سبحانه: «وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ» - هو الإنسانية كلها فى مجموعها، وأن ما سخر الله لها من عوالم السموات والأرض، وما أودع فيها من قوى التفكير والتدبير، هو بمنزلة إعطاء الناس كل ما أرادوا.. فبين أيديهم كل ما يحتاجون إليه.. وليس عليهم لكى يحصلوا على ما يريدون إلا أن يعملوا، ويجدّوا فى العمل، وأن يديروا عقولهم على هذه الموجودات، وأن يلقوا بشباكهم فى كل أفق، فتجيئهم ملأى، باللئالئ والأصداف، والدرّ والحصى! وهذا يعنى أن هذه الدنيا ليست للإنسان وحده، وإنما هى للإنسانية كلها، وأن الناس فى مجموعهم أشبه بالجسد الواحد، تتعاون أعضاؤه جميعا على حفظ هذا الجسد، وصيانته، وتوفير أسباب الحياة الطيبة له..! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 186 - وقوله تعالى: «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» إلفات إلى هذه النعم الكثيرة التي بين أيدينا، والتي نجدها- لو التفتنا إليها- فى كل شىء يحيط بنا.. فى الهواء الذي نتنفسه، وفى الضوء الذي تكتحل به عيوننا، وفى اللقمة نجدها على جوع، وفى شربة الماء نأخذها على ظمأ، وفى نسمة عليلة نستروحها بعد لفحة الهجير.. وفى إغفاءة بعد سهر، وفى صحة بعد مرض.. وفى نجاح بعد إخفاق.. وهكذا.. نحن فى نعم دائمة لا تنقطع أبدا.. يجدها الغنى والفقير، والقوىّ والضعيف، والمريض والسليم.. وهى من الكثرة بحيث لا نلتفت إلا إلى ما نفقده منها، ولا نشعر إلا بما بعد عنّا من وجوهها.. ولهذا جاء التعبير القرآنى عن هذه النعم بلفظ المفرد «نعمة» - «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» .. بمعنى أن النعمة الواحدة من نعم الله، هى نعم كثيرة، لا تحصى، وأن أيّا منها- وإن بدا صغيرا- لا يستطيع الإنسان أن يؤدى لله حقّ شكره.. فكيف ونعم الله- لا نعمته- تلبسنا ظاهرا وباطنا؟ ومع هذا فإن الإنسان لا يحمد الله، ولا يشكر له، على ما أسبغ عليه من نعم، بل يرى دائما أنه مغبون.. ولهذا جاء وصف الله سبحانه وتعالى له بقوله: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» .. أي أنه يظلم نفسه بحجزها عن مواقع الهدى، وبحجبها عن مطالع الخير، فلا يرى ما لله عليه من فضل، فيكفر بالله، ويرد موارد الهالكين.. الآيات: (35- 41) [سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 41] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 187 التفسير: مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أن الآيات السابقة ذكرت مشركى قريش الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار، فعبدوا الأصنام، واتخذوها آلهة من دون الله.. ولما كان هؤلاء المشركون هم من ذرية إبراهيم عليه السلام، الذي كان حربا على الأصنام وعبّاد الأصنام، والذي بنى هذا البيت الحرام، وأرسى قواعد البلد الحرام، فقد ناسب أن يذكّر هؤلاء المشركون بأبيهم هذا، حتى يروا فى دعوة الرسول الكريم لهم، دعوة مجددة لدين أبيهم إبراهيم، ولتسقط بهذا حجتهم التي يحاجّون بها النبي بقولهم: «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ» (22: الزخرف) .. فإذا كان لهم فى آبائهم أسوة، فهذا هو إبراهيم أبوهم الأكبر، فليتأسّوا به، وليهتدوا بهديه! قوله تعالى: «وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 188 وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ» هو تذكير لهؤلاء المشركين، عبّاد الأصنام من قريش، بموقف أبيهم إبراهيم من الأصنام، وأنّه- صلوات الله وسلامه عليه- دعا ربّه أن يجعل هذا البلد الحرام- مكة- بلدا آمنا، مؤمنا بالله، وأن يجنّبه أي يبعده وبنيه عن عبادة الأصنام..! وقد استجاب الله سبحانه وتعالى لإبراهيم دعوته فى البلد الحرام، فجعله آمنا فى الجاهلية وفى الإسلام.. أما فى بنيه. فقد استجاب له فى بعضهم ولم يستجب فى بعض آخر.. فكان منهم فى الجاهلية حنفاء يعبدون الله على دين إبراهيم، كما كان منهم- وهم الأكثرون- عبّاد أصنام، مشركون بالله. وقد أخبر الله إبراهيم بأن دعوته هذه فى بنيه، ليست مجابة على إطلاقها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» (124: البقرة) .. فليس كلّ ذريّة إبراهيم ممن يتابعه، ويكون على دينه إلى يوم القيامة.. وإلا لكان ذلك ضمانا موثقا لكل من اتصل نسبه بإبراهيم أن يكون مؤمنا، وهذا من شأنه أن يرفع التكليف، والابتلاء، ويجعل مثل هذا الإيمان إيمان قهر وإلجاء. ليس للإنسان فيه كسب واختيار. ثم يقول الله سبحانه وتعالى فى آية أخرى: «وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (126: البقرة) فإبراهيم- عليه السلام- إذ يدعو ربّه بما دعاه به، يعلم هذه الحقيقة، وأنه ليس كلّ بنيه إلى يوم القيامة، ممن يهدى الله.. ولهذا قال: «وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 189 الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ» .. فدعا بالرزق لمن آمن، دون من لم يؤمن.. وقد أجابه الله سبحانه، بأنه لن يحرم أحدا رزقه فى هذه الدنيا، فهو سبحانه سيرزق من آمن، ومن لم يؤمن، فهذا الرزق هو متاع قليل، هو متاع الحياة الدنيا.. ولن يحرم الكافر حظّه من هذا المتاع.. أما جزاء كفره فسيلقاه فى الآخرة: «قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» ففى أبناء إبراهيم إذن.. مؤمنون، ومشركون.. هكذا كان، وهكذا يجب أن يكون، تحقيقا لقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» .. وهنا سؤال.. وهو: لماذا ذكر إبراهيم البلد الحرام مرة منكّرا هكذا: «بَلَداً آمِناً» ومرة معرفا «البلد آمنا» ؟ والجواب على هذا- والله أعلم- هو أنه قد كان لإبراهيم- عليه السلام- كما يحدّث التاريخ- أكثر من رحلة إلى البيت الحرام: الرحلة الأولى حين هاجر بإسماعيل وأمه، وأنزلهما هذا المنزل، وأقام هو وإسماعيل قواعد البيت الحرام.. وفى هذا الوقت لم يكن البلد الحرام قد ظهر إلى جوار البيت الحرام، وإنما كان شيئا مطويا فى عالم الغيب لم يولد بعد، ولهذا كان دعاء إبراهيم له: «رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً» .. أي اجعل هذا المكان بلدا آمنا.. ثم بعد زمن، عاد إبراهيم إلى هذا المكان مرة أخرى، فوجد حول البيت الحرام قبائل قد نزلت على ماء زمزم مع إسماعيل، ومنها قبيلة جرهم التي أصهر إليها إسماعيل وتزوج منها.. ولهذا كانت دعوته الثانية لهذا البلد فى مواجهة بلد قائم فغلا، فأشار إليه إبراهيم إشارة إلى شخص قائم أمام عينيه: «رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً» ! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 190 قوله تعالى: «رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» فى هذه الآية: أولا: خطاب الأصنام خطاب العقلاء: «إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ» وفى هذا ما يكشف عن سفه المشركين الذين يعبدون هذه الأصنام، وخفّة أحلامهم، وأنهم يتعاملون مع هذه الأحجار كما يتعاملون مع الآدميين العقلاء.. وهذا لا يكون إلا عن سفاهة أحلام، وسخف عقول، وصغار نفوس.. إن هؤلاء الرّجال الدين يشمخون بآنافهم، ويطاولون السماء بأعناقهم، ليسوا إلا أطفالا فى مساليخ رجال.. فكما يتلهّى الأطفال بالدّمى، ويخلعون عليها من مشاعرهم، أسماء يخاطبونها بها، كما يخاطب بعضهم بعضا، كذلك يفعل هؤلاء المشركون بتلك لدّمى التي يشكلونها من الأحجار، والأخشاب، ويزينونها بالملابس والحلىّ، كما يزبن الأطفال العرائس والدّمى!! وثانيا: فى قول إبراهيم: «فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي.. وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» - إشارة إلى ما عند إبراهيم من علم بما لله فى عباده من حكمة.. وأن ذريّة إبراهيم لن تكون جميعها على طريق سواء.. فهم بين مؤمن يتبعه، وكافر يخرج عن الدين الذي دعا إليه.. وثالثا: فى قول إبراهيم: «وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» تظهر عاطفة الأبوة، كما تتجلّى تلك الصفة الكريمة التي حلّى الله سبحانه وتعالى بها إبراهيم، والتي ذكرها سبحانه فى قوله: «إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ» (75: هود» .. فهو- عليه السلام- يدع العاصين من ذريته لمغفرة الله ورحمته.. وفى مغفرة الله ورحمته، متسع للعاصين، ورجاء للمذنبين. قوله تعالى: «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 191 بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» .. هو استكمال لما دعا به إبراهيم ربه لإسماعيل وذريته، إذ أسكنه فى هذا المكان القفر، وأنزله فى هذا الوادي الجديب.. فأول ما دعا به إبراهيم ربه، لإسماعيل وذريته فى هذا الموطن، هو الأمن: «رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً» .. إذ كان الأمن هو ضمان الحياة، وسكن النفوس، والقلوب، وإنه لا حياة لإنسان، ولا نظام لمجتمع إلا فى ظل الأمن والسلام.. ثم كانت الدعوة الثانية بعد هذا، وهى الإيمان بالله، وذلك بعد أن يضمن الإنسان وجوده: «وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ» .. ثم تجىء الدعوة الثالثة، التي تمسك الإيمان فى القلوب، ويمكّن له فى النفوس، وهى لقمة العيش، التي إن لم يجدها الإنسان، هلك، وطار صوابه، وذهب إيمانه.. وفى هذا يقول إبراهيم: - «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي» أي بعض ذريتى، إذ كان ابنه الآخر وهو إسحق يعيش فى موطن غير هذا الموطن.. فإسماعيل الذي أسكنه فى هذا الوادي هو بعض ذريته، لا كلّ ذريته.. «بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ» أي فى حمى بيتك المحرّم، وهذا هو السبب فى أن اختار إبراهيم لإسماعيل هذا المكان القفر المنعزل.. فإنه وإن كان قفرا جديبا، لا زرع فيه ولا ثمر، فإنه مأنوس خصيب، بنفحات الله، محفوف برحمته ورضوانه. وحسب هذا الوادي أن يشرف بهذا الشرف العظيم، فيكون وعاء حاملا لبيت الله.. أول بيت وضع للناس! - «رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ» أي لكى تنتظم حياتهم، وتطمئن قلوبهم، ويؤدّوا ما فرض الجزء: 7 ¦ الصفحة: 192 الله عليهم من فرائض، كانت دعوة إبراهيم ربّه، أن يجعل قلوب الناس تميل إلى هذا المكان، وتنجذب إليه، وتتعاطف مع ساكنيه، فيكون لهم من ذلك رزق يرزقونه من تلك الأمم التي تجىء إليهم، وتلتقى بهم.. وفى هذا إشارة إلى أن حياة الإنسان لا تنتظم إلا فى جماعة، ولا تكتمل إلا فى مجتمع، حيث كانت دعوة إبراهيم أن يعمر هذا البلد بالناس، وأن تتكاثر أعداد الوافدين عليه، وذلك خير من الزرع والخصب.. فحيث كان الناس كان الخير، وكان العمران! .. وفى المجتمع الذي تتوافر للإنسان فيه وسائل العيش، ويجد فى كنفه الأمن والسلام- فى هذا المجتمع تخصب العواطف، وتزدهر المشاعر، وتتفتح البصائر إلى كثير من حقائق الوجود.. وهنا يجد الإنسان وجوده الذي يستطيع أن يصله بالله، وأن يوثق صلته به، حين يجد الجو الذي يسمح له بالنظر والتأمل، وهو مجتمع النفس، مطمئن القلب.. ومن هنا أيضا يستقيم للإنسان دينه، فيؤدى ما لله عليه من حقوق، لا تشغله عنها شواغل الحياة، ولا تدهله عنها مطالب العيش الملحّة، المهددة للحياة!. - ففى قول إبراهيم: «رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» .. تعليل كاشف عن أن إقامة الصلاة، وما معها من واجبات مفترضة على المؤمن، إنما تجىء بعد أن يجد الإنسان وجوده على هذه الأرض، ويضمن لهذا الوجود بقاء واطمئنانا..! فالإنسان مع الحرمان الشديد، ومع الجوع المهدد بالهلاك، لا يجد العقل الذي يعقل، ولا القلب الذي يخفق خفقات الوجد والشوق.. فإذا عبد الله فى تلك الحال، عبده وهو شارد اللّب خامد الشعور.. ومثل هذه العبادة ولا يجد فيها العابد ريح ربّه، ولا ينسم أنسام جلاله، وعظمته.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 193 يقول الإمام الشافعي- رضى الله عنه- «لا تشاور من ليس فى بيته دقيق، فإنه مولّه العقل» .. أي لا عقل له، إذ كان فيما ركبه من هم، وما استولى عليه من مشاعر الأسى لصغاره الجياع، ما يذهب بكثير من قواه العقلية والنفسية. ومن هنا كان هذا الدعاء: «اللهم أصلح لى دنياى التي فيها معاشى، وأصلح لى دينى الذي فيه معادى وعاقبة أمرى» كان دعاء جامعا لخير الدنيا والآخرة. هذا وليست كثرة المال ووفرة المتاع، بالتي تقيم الإنسان دائما على طريق مستقيم مع الله، إذ كثيرا ما يكون المال ووفرته سببا فى صرف الإنسان عن طريق الحق، وركوبه طرق الغواية والضلال.. ولكن الفقر القاهر والحاجة القاسية، أكثر صرفا للإنسان عن الطريق السّوىّ.. إلا من عصم الله، وأمده بأمداد الحق والصبر. وفى التعبير بكلمة «تهوى» إشارة إلى الدافع الذي يدفع الناس إلى هذا المكان القفر الجديب. وأن هذا الدافع لن يكون طلبا لمال أو متاع، وإنما هو إشباع لهوّى فى القلوب، وإرواء لظمأ فى النفوس، واستجابة لأشواق تهفو بالأرواح إلى هذا المكان.. وذلك لا يكون إلا استجابة لدعوة الله، وامتثالا لأمره، وتحقيقا لركن من أركان دينه.. فكانت فريضة الحجّ، هى دعوة الله إلى اجتماع المؤمنين فى هذا الوادي.. يجيئون إليه فى شوق، وحنين.. وكأنهم على ميعاد مع أمل محبوب طال انتظاره، وأمنية مسعدة، عزّ الوصول إليها.. وإلى هذا يشير الله سبحانه وتعالى بقوله: «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ» (27- 28: الحج) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 194 - وفى قوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» حثّ لأهل هذا الوادي وساكينه على أن يشكروا الله على هذا الفضل الذي ساقه إليهم، حتى اخضرّ واديهم المجدب، وأزهر وأثمر.. وذلك بأن يقيموا الصلاة، ويؤدوا ما افترض الله سبحانه وتعالى عليهم من فرائض، كانت الصلاة عمادها.. ولهذا اقتصر على ذكرها، تنويها بها، ورفعا لقدرها، وأنها هى الدين كلّه، فإذا ضيعها المؤمن فقد ضيع كل دينه، وإذا حفظها كان ذلك داعية له بأن يحفظ كل دينه: «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» (45: العنكبوت) قوله تعالى: «رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ..» تشير هذه الآية إلى أن تقوى لله، وشكره، ليس بأعمال الجوارح الظاهرة وحدها، وإنما بأن يسلم الإنسان لله وجوده كلّه، ظاهرا وباطنا، وأن يخلص له العبادة.. فالله سبحانه وتعالى: يعلم ما نخفى وما نعلن.. وحساب أعمالنا عنده، بما تحمل من صدق وإخلاص.. فإذا تلبس بتلك الأعمال رياء، أو نفاق، ردّت على صاحبها، وكانت وبالا عليه.. قوله تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ» .. هو صلاة شكر وحمد لله، يرفعها إبراهيم لربّه، على النعمة التي أنعم بها عليه، إذ وهب له الولد بعد أن كبر، وجاوز العمر الذي يطلب فيه الولد.. فوهب الله له ولدين، لا ولدا واحدا، هما إسماعيل وإسحق.. وهكذا تجىء رحمة الله من حيث لا يحتسب الناس، ولا يقدّرون.. فهذا إبراهيم الذي بلغ من الكبر عتيّا، ولم يرزق الولد الذي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 195 تقرّ به العين، قد بسط له الله سبحانه وتعالى يد رحمته، فكان له أكثر من ولد..! وهذا الوادي الجديب، الذي كانت تمتدّ العين، فلا ترى فيه إلا مواتا، لا تهبّ عليه نسمة حياة أبد الدهر- هذا الوادي قد عاد لله بفضله عليه، فإذا هو حياة زاخرة، تحتشد فيه الأمم، وتصبّ فيه أنهار الحياة، المتدفقة بالنعم من كل أفق.. وقد شكر إبراهيم ربّه على هذه النعمة، التي جاءته على غير انتظار..، فليشكر أهل هذا الوادي ربّهم على هذا الخير الذي يفيض به واديهم.. من غير عمل منهم! قوله تعالى: «رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ» فيه توكيد لدعوة إبراهيم التي دعا بها ربّه فى قوله: «رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ» .. وفى هذا ما فيه من تنويه بأمر الصّلاة، واحتفاء بشأنها.. ثم هو من جهة أخرى، إشارة إلى أن أداء الصلاة على وجهها والمحافظة على أوقاتها، وإخلاص القلوب لها، وإحلاء النفس من الشواغل التي تشغل عنها.. وذلك أمر يحتاج إلى إيمان قوى، وعزيمة صادقة، يستعان عليهما بالله، ويطلب إليه سبحانه العون والتوفيق فيهما.. ولهذا جاء قول إبراهيم- «رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ» صلاة ضارعة إلى الله سبحانه أن يثبت قدمه على أداء هذه الفريضة، وأن يجعله من مقيميها على وجهها.. - وفى قوله: «وَمِنْ ذُرِّيَّتِي» وفى التعبير بمن التي تفيد التبعيض- إشارة إلى أن دعاءه لذريته بأن يقيموا الصلاة، لا يشمل كل ذريته، بل بعضهم، ممن دعاهم الله إلى الإيمان به، فآمنوا، وأخبتوا، وكانوا من المتقين.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 196 - وقوله: «رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ» .. هو دعاء بأن يتقبل الله منه ما يدعو به لنفسه ولذريته.. فإذا قبل الله سبحانه قوله: «وَتَقَبَّلْ دُعاءِ» - كان ذلك إذنا منه سبحانه بقبول ما يدعوه به.. وكان مستجاب الدعوة عند الله.. وهذا غاية ما يطمح إليه المؤمن من رضا ربّه عليه، ولطفه به، ورحمته له.. وقد كان إبراهيم- عليه السلام- مستجاب الدعوة عند ربّه.. وكان نبينا محمد- صلوات الله وسلامه عليه- دعوة مستجابة من دعوات إبراهيم، حيث دعا إبراهيم ربّه بما حكاه القرآن الكريم عنه فى قوله تعالى: «رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (129: البقرة) .. وفى هذا يقول النبي- صلوات الله وسلامه عليه-: «أنا دعوة إبراهيم.» قوله تعالى: «رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ» هو دعوة عامة، شملت المؤمنين جميعا، بعد أن بدأ إبراهيم بنفسه، ثم بوالديه.. وهذا أدب ربانىّ فى الدعاء، ينبغى أن يلتزمه المؤمن، وهو يدعو ربه.. ذلك، أن الدعاء، هو استمطار فضل من فضل الله، واستنزال رحمة من رحمته.. ومن الغبن للداعى أن يدعو بهذا الخير، ولا يأخذ نصيبه منه.. كما أنه من الأنانية والشحّ أن يحتجز الإنسان لنفسه هذا الخير المرتقب، ولا يشرك إخوانه المؤمنين فيه.. فرحمة الله واسعة، وعطاؤه جزل.. ودعوة مستجابة تسعد الناس جميعا.. روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمع وهو فى المسجد داعيا يدعو، فيقول: «اللهم ارحمني ومحمدا، ولا ترحم معنا أحدا» فقال صلى الله عليه وسلم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 197 «لقد تحجّرت واسعا» ؟ أي ضيقت ما كان شأنه السعة، وأدخلت نفسك فى جحر، وكان بين يديك هذا الوجود الرحيب! وهنا سؤال: كيف يدعو إبراهيم لوالده بالمغفرة، وهو على ما كان عليه من كفر عنيد، وضلال مبين؟ كيف، والله سبحانه وتعالى يقول: «ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» (113: التوبة) وقد نزلت هذه الآية فى مشركى قريش، الذين ماتوا على شركهم.. وقد كان النبىّ والمؤمنون يستغفرون لبعض هؤلاء المشركين، فلما لفتهم الله سبحانه إلى هذا، وكشف لهم عن مصير هؤلاء المشركين- أمسكوا عن الاستغفار لهم.. وكذلك كان شأن إبراهيم عليه السلام، فإنه كان يستغفر لأبيه. على ما كان منه، من جفاء وغلظة، وعلى ما لقيه منه من عناد وإصرار على الكفر.. وذلك طمعا فى أن يهديه الله، وأن يشرح صدره للإيمان، فلما كشف الله له عن مصير هذا الأب، تبرأ منه.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ» (114: التوبة) . وسؤال آخر: لماذا وقّت إبراهيم غفران الله له ولوالديه وللمؤمنين، بيوم القيامة.. «يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ» ؟ والجواب على هذا، هو أن يوم الحساب، هو يوم الإنسان، لا يوم له قبله، وأنه إذا ربح هذا اليوم، وظفر فيه بالنجاة من عذاب الآخرة- وهذا لا يكون إلا بمغفرة الله له، وتجاوزه عن سيئاته- فذلك هو الفوز العظيم حقّا.. أما إذا خسر هذا اليوم، ولم يكن فيمن شملهم الله بعفوه ومغفرته، فذلك هو الخسران المبين.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 198 فدعوة إبراهيم هذه مدخرة له، ولمن استجاب الله له فيهم من المؤمنين، ليوم الحساب: «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً» (30: آل عمران) . الآيات: (42- 45) [سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 الى 45] وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) التفسير: قوله تعالى: «وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ..» هو خطاب للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- ثم هو بعد هذا خطاب عام لكل من هو أهل للخطاب، من المؤمنين والمشركين.. ثم هو تهديد للمشركين، وأخذ لهم وهم متلبسون بجرمهم، وبموقفهم العنادىّ اللئيم من النبي الكريم، ومن كلمات الله سبحانه، التي حملها إليهم.. فالله سبحانه وتعالى مطلع على كل ما يعملون، عالم بكل ما انطوت عليه صدورهم، من تدبير سيىء، ومكر خبيث.. برسول الله، وآيات الله.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 199 وهم إذ كانوا فى دنياهم هذه فى عافية، ولم يؤاخذوا بما أجرموا، فليس ذلك عن غفلة من الله تعالى عن أعمالهم- تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا- وليس عن تجاوز عنهم، إذ هم ليسوا أهلا لأن يحلّوا فى ساحة المغفرة.. وإنما يؤخرهم الله ليوم تشخص فيه الأبصار، أي تتجمد الأبصار، فلا تطرف، لهول ما ترى، حيث يمسك بها هذا الهول، ويشدّها إليه هذا البلاء، فتسكن وتجمد! قوله تعالى: «مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ» .. تبيّن هذه الآية حالا من أحوال هؤلاء الظالمين، وهم فى موقف الحساب والمساءلة وبين يدى هذا الهول العظيم، الذي تنقلب فيه طبيعتهم، ويغيب عنهم صوابهم، وتفلت منهم جوارحهم.. - وفى قوله تعالى: «مهطعين» إشارة إلى أنهم يساقون سوقا عنيفا من قبورهم إلى ساحة المحشر.. كما يقول سبحانه: «يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ» (43: المعارج) وكما يقول جل شأنه: «مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ.. يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ» (8: القمر) . والمهطع: هو المسرع. - وقوله تعالى: «مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ» أي مطأطئى الرءوس، ذلة، وانكسارا، وضعفا عن حمل هذا الهمّ الثقيل الذي ينوءون تحته، من بلاء هذا الهول العظيم. - وقوله تعالى: «لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ» أي مأخوذة أبصارهم، إذا وقعت على هول من أهوال المحشر لصقت به، ولم تعد إلى أصحابها.. فذلك هو اليوم الذي تشخص فيه الأبصار! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 200 - وقوله تعالى: «وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ» أي قلوبهم فارغة، معطلة عن أن تنبض بأى شعور، أو تعى أي حديث، مما استولى عليها من ذهول: «إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ» (1- 2: الحج) . قوله تعالى: «وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ؟» . هذا نذير آخر من نذر يوم القيامة، يأتى فى صورة من صور تلك المحاولات الكثيرة، التي يحاولها أهل الشرك والضلال، ليفلتوا من عذاب هذا اليوم العظيم. وفى هذه الصورة يضرع الظالمون إلى الله أن يعيدهم مرة أخرى إلى الحياة الدنيا، ليصححوا أخطاءهم، وليكفّروا عن سيئاتهم، وليأخذوا طريقا غير الطريق الذي أخذوه.. إنه لو تحقق لهم هذا الرجاء لأجابوا دعوة الله، واتبعوا رسل الله.. وآمنوا كما آمن المؤمنون، وكانوا فى عباد الله الصالحين!! .. هكذا يقولون وهم كاذبون. - وفى قوله تعالى: «أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ؟» تذكير للظالمين بما كان منهم فى دنياهم، وقراءة عليهم لصفحة من صفحات حياتهم المجللة بالسواد.. «أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ؟» لقد كنتم فى دنياكم- وقد غركم الغرور- على يقين بأنكم لن تخلوا مكانكم منها، ولن تتحولوا عنها أبدا.. هكذا كنتم مع الدنيا، ولو عدتم إليها لما كنتم أحسن حالا من حالكم الأولى معها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» (28: الأنعام) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 201 وقوله تعالى: «وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ» . فى هذه الآية ردّ على أولئك الذين ظلموا، وبأن عودتهم مرة أخرى إلى الحياة لن تغير من أحوالهم شيئا، وأنهم لن يرجعوا عما كانوا.. ذلك لأن النّذر لا نقع منهم موقع العبرة والعظة.. فلو أنهم كانوا يأخذون من النذر عبرة وعظة، لكان لهم فيما وقع تحت أبصارهم فى حياتهم الأولى، مزدجر عما اقترفوه من آثام، وفعلوه من منكرات.. فلقد سكنوا فى مساكن الذين ظلموا أنفسهم، ورأوا ما فعل لله بهم، وما أخذهم به من عذاب ونكال.. ومع هذا فإنهم ساروا على نفس الطريق الذي سلكه أسلافهم هؤلاء.. من ظلم، وبغى، وضلال، ولم يكن لهم فيما حلّ بهم نظر واعتبار.! فكيف ينفعهم هذا الموقف الذي وقفوه فى الآخرة، وعاينوا فيه ما أعد الله للظالمين من بلاء وهوان؟ إن هذا من ذاك، سواء بسواء! وإنه إذا كان فى عذاب الآخرة عبرة لمعتبر، فإن فى مصارع الظالمين فى الدنيا، وفيما يأخذهم الله به من بأساء وضراء، لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.. وفى هذا يقول تبارك وتعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ. لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ.. أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ؟ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ» (36- 37: فاطر) . الآيات: (46- 52) [سورة إبراهيم (14) : الآيات 46 الى 52] وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 202 التفسير: قوله تعالى: «وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ» . المكر: التدبير السيّء، والمراد به هنا، ما كان من المشركين من مواقف مع الدعوة الإسلامية، وما كانوا يبيتونه لها. وعند الله مكرهم: أي أن هذا التدبير السيّء، وهذا الكيد الخبيث، هو مما علمه الله منهم، وسجله عليهم، وسيحاسبهم عليه.. والآية الكريمة، تعيد هؤلاء الضالين، إلى الحياة الدنيا، بعد أن عرضتهم الآيات السابقة على النار، وأشرفت بهم على أهوالها، وأرتهم اليأس من العودة إلى الحياة الدنيا، بعد الموت والبعث.. ثم هاهم أولاء يستيقظون من تلك الأحلام المزعجة على هذا الواقع، فإذا هم فى دنياهم لم يبرحوها بعد، وقد كانت أمنيتهم أن يعودوا إليها، ليصلحوا ما أفسدوا.. وها هم أولاء فى دنياهم تلك.. فماذا هم فاعلون؟ إنهم لن يفعلوا غير ما فعلوا، ولن يتحولوا عما هم فيه من كفر وضلال.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 203 - وفى قوله تعالى: «وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ» إلفات لهم إلى هذا الكفر الذي هم فيه، وهذا الضلال المشتمل عليهم.. فهل سيظلّون على صحبتهم لهذا الكفر، ومعايشتهم لهذا الضلال؟ سنبصر ويبصرون! - وفى قوله تعالى: «وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ» إشارة إلى أن هذا المكر هو الذي جعلهم أعداء لله.. يكفرون به، ويجعلون له أندادا، ويقولون فيه مقولات منكرة، تلك المقولات التي تتأذّى منها السموات والأرض، حتى لتكاد تتفطر منها رعبا وفزعا أن يصيبها شىء من غضب الله، الذي سينزل بأصحاب هذه الأقوال.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً» (88- 91: مريم) . والمشركون وإن لم يقولوا بنسبة الولد إلى الله، كما قالت اليهود: عزير ابن الله، وكما قالت النصارى: المسيح ابن الله.. لكنهم قالوا: إن الملائكة بنات الله.. كما يقول الله تبارك وتعالى عنهم: «وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً.. أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ» (19: الزخرف) . قوله تعالى: «فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ» - هو تثبيت للنبى الكريم، وتطمين لقلبه، بأن الله منجز وعده إياه، وهو النصر على كل قوى الشر والعدوان، المتربصة به.. فهذا حكم لله فيما بين رسله وأقوامهم، كما يقول سبحانه: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» (21: المجادلة) .. فالله سبحانه وتعالى «عَزِيزٌ» يغلب ولا يغلب.. «ذُو انتِقامٍ» يأخذ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 204 الظالمين بظلمهم، ولا يدعهم يفلتون من العقاب الراصد لهم. وقوله تعالى: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» .. أي فى هذا اليوم تتجلى عزة الله سبحانه وتعالى، ويتجلى انتقامه من الظالمين، حيث توفى كل نفس ما كسبت.. وأنه إذا كان منه سبحانه وتعالى إمهال للظالمين فى الدنيا، فإنهم إذا حشروا فى هذا اليوم، أخذوا بكل ما عملوا، وذاقوا وبال أمرهم، واستوفوا نصيبهم من العذاب الأليم.. - وفى قوله تعالى: «تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ» إشارة إلى أنه فى هذا اليوم- يوم القيامة- تتغير معالم هذا الوجود الذي عرفه الناس فى حياتهم الدنيا.. فلا الأرض أرض، ولا السماء سماء، وذلك لما ترجف به الأرض من أهوال، كما يقول سبحانه: «يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا» (14: المزمل) وكما يقول سبحانه: «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ» (1- 5: الانفطار) .. قوله تعالى: «وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ» .. مقرنين: أي يقرن بعضهم إلى بعض، ومنه القرين، وهو الصاحب.. والأصفاد: جمع صفد، وهو القيد.. والسرابيل جمع سربال، وهو القميص.. القطران: «الزفت» .. والمعنى: أنه فى هذا اليوم يرى المجرمون وهم مقرنون فى الأصفاد، أي مقيدون بالأغلال، وقد قرن بعضهم إلى بعض.. فكانوا كيانا واحدا، مشدودا إلى سلسلة، قد شدّ كل واحد منهم إلى حلقة فيها.. إذلالا لهم، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 205 وامتهانا.. هكذا شأن المجرمين الذين يساقون إلى ساحة المحاكمة، ليسمعوا إلى حكم القضاء فيهم!. وليس هذا فحسب، بل إنهم ليعرضون هذا العرض المهين، عراة حفاة.. قد طليت أجسادهم بالقطران، فكان هذا القطران لباسهم الذي يراهم الناس فيه، فى هذا اليوم العظيم.. «سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ» .. وليس هذا فحسب أيضا، بل إن لهم من نار جهنم لفحات، تداعبهم بها، ضربا على وجوههم، ولطما على خدودهم: «وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ» أي تغطى وجوههم بلهيبها!. ذلك منظر تقشعر منه الأبدان، وتنخلع منه القلوب.. تتجلى فيه نقمة لله، حيث تنزل بالظالمين، وتأخذهم أحد عزيز مقتدر.. وما ظلمهم الله، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. قوله تعالى: «لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» . هو تعليل لهذا البلاء العظيم، وهذا الهوان المهين، الذي يلقاه هؤلاء الظالمون يوم القيامة، فهذا بما كسبته أيديهم، وقد كان من عدل الله سبحانه أن يعاقب المذنبين الظالمين، وأن يثبت المحسنين المتقين. وهو سبحانه وتعالى يقول: «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ؟ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» ؟ (35- 36: القلم) - وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» إشارة إلى أن كثرة المحاسبين بين يدى الله تعالى، من محسنين ومسبئين، لا يكون منها إبطاء أو إمهال فى أن ينال كل عامل جزاء عمله، فالمحسنون يعجّل لهم جزاؤهم الحسن، حتى يسعدوا به، ويهنئوا بالعيش فيه، وحتى لا يستولى عليهم الفلق، وتهجم عليهم الوساوس، وهم فى انتظار كلمة الفصل فيهم.. وكذلك المسيئون، لن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 206 يمهلوا فى لقاء العقاب الراصد لهم، وذلك حتى تنقطع آمالهم فى النجاة، فإن المحكوم عليه بالموت، لا ينقطع رجاؤه حتى يلقى مصيره، ويشهد الموت عيانا.. قوله تعالى: «هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ.. وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» . - «هذا» إشارة إلى ما جاء فى آيات الله من هدى، فيه بيان للناس، وبلاغ مبين. وحجة دامغة، تخرص كل مكابر، وتفحم كل معاند.. ففى كلمات الله التي حملها رسول الله إلى الناس، بلاغ لهم، وزاد طيّب، يتزودون به فى طريقهم إلى الله، ويبلغون به شاطئ الأمن والسلام. - قوله تعالى: «وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ» معطوف على محذوف، تقديره هذا بلاغ للناس، ليدلهم على ربهم، وليكون نذيرا لهم من عذابه، إذا هم صمّوا وعموا عن الاستماع إلى آياته، وليعلموا إذا تدبّروا هذه الآيات وعقلوها، أن إلههم إله واحد لا شريك له.. - وقوله تعالى: «وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» معطوف على محذوف أيضا.. تقديره- فإذا لم يكن لهؤلاء الضالين أسماع تسمع، أو عقول تعقل، أو بصائر تستبصر وتتذكر- فليتركوا وشأنهم، وليذكر أولو الألباب، الذين ينبغى لهم ألا يمرّوا بآية من آيات الله، دون أن يلتقطوا منها عبرة، أو يأخذوا منها موعظة. وننظر فى الآية الكريمة نظرة شاملة: «هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» .. ننظر فنجد: أولا: أن القرآن الكريم هو بلاغ للناس جميعا، يحمل فى مضامينه أضواء مشعة، تكشف الطريق إلى لهدى والإيمان: «هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ» . وثانيا: أنه مع هذا البلاغ المبين، وذلك البيان الكاشف، فإن كثيرا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 207 من الناس لا تكتحل أبصارهم بهذا النور، ولا تتفتح قلوبهم لهذا الخير.. وكلّ حظهم من هذا البلاغ المبين أنه حجة عليهم، وإنذار لهم بالعذاب الأليم: «وَلِيُنْذَرُوا بِهِ» . وثالثا: أن الذين نظروا فى آيات الله، وأعطوها آذانهم وقلوبهم، قد عرفوا بها طريقهم إلى الله، وعلموا أنه إله واحد، لا شريك له.. «وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ» .. ورابعا: أن فى هذا الذي انكشف من أمر الناس، وموقفهم من آيات.. بين ضال لم يزده هذا البلاغ المبين إلا عمى وضلالا. وبين مهتد، زاده هذا البلاغ المبين هدى وإيمانا- فى هذا وذلك عبرة وعظة، فليعتبر بهذا أهل البصائر، وليتذكر أولو الألباب والعقول.. الذين هم أهل لهذا الخطاب المبين، من ربّ العالمين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 208 15- سورة الحجر نزولها: مكية.. نزلت بمكة.. بلا خلاف. عدد آياتها: تسع وتسعون آية. عدد كلماتها: ستمائة وأربع وخمسون كلمة. عدد حروفها: ألفان وسبعمائة وستون حرفا. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الآيات: (1- 5) [سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) التفسير: مناسبة هذه السورة لما قبلها. هى أن ختام السورة السابقة كان قوله تعالى: «هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» - وهذا الختام يحدّث عن القرآن الكريم بأنه بيان مبين للناس، وبلاغ يبلغ بهم طريق الحق والإيمان- فكان مفتتح هذه السورة- سورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 209 الحجر- حديثا آخر عن القرآن الكريم، بأنه كتاب وقرآن مبين، فكان هذا البدء مؤكدا لهذا الختام.. وقوله تعالى: «الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ» - «الر» مبتدأ، وما بعده خبر.. والإشارة بتلك، مشار بها إلى آيات الكتاب، والتقدير: «الر» تلك هى آيات الكتاب، وآيات قرآن مبين.. وفى الإشارة، تنويه بهذه الآيات، وإلفات الأنظار إلى جلالها وعلوّ شأنها، وأنها إنما يشار إليها كما يشار إلى النجوم فى أفلاكها.. وفى الإشارة إلى القرآن الكريم بأنه «آيات الكتاب» ، وأنه «قرآن مبين» . وصف للقرآن بصفتين: الصفة الأولى: أنه آيات مكتوبه.. أي من شأنها أن تكتب، احتفالا بها، واهتماما بشأنها. وذلك فى أمة أميّة، لم تكن تكتب شيئا إلا ما يشتد حرصها عليه، وضنّها به، أن يفلت من ذاكرتها شىء منه.. وهذا ما فعلته بالمعلقات، وببعض العهود والمواثيق ذات الشأن العظيم عندها! فإذا نبّه المسلمون من أول الأمر إلى أن هذا الذي يتلوه عليهم رسول الله من كلمات ربّه، يجب أن يكتبوه، كان ذلك إلفاتا لهم إلى أن تلك الآيات، هى عهود ومواثيق بينهم وبين ربهم.. إذا عرفنا هذا أدركنا السرّ فى أن كان أول ما تلقاه النبىّ من كلمات ربّه هو قوله تعالى: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» فكانت نعمة التعليم بالقلم، وهى الكتابة، معادلة لنعمة الخلق، والحياة.. فكما أن الله- سبحانه- بالخلق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 210 أوجد الإنسان من عدم، كذلك بالعلم علّم الإنسان الكتابة، فسوّى خلقه، وأتمّ عليه نعمته! وفى هذا إشارة إلى أن خلق الإنسان لن يكمل ويقوم على الصورة السويّة، إلا إذا تجمل بالعلم، الذي وسيلته الأولى، التعلم، الذي مفتاحه الكتابة والقراءة!! والصفة الثانية التي وصف بها القرآن الكريم أنه «قُرْآنٍ مُبِينٍ» .. وفى هذا إشارة إلى أن آيات الله تلك، لم تكتب، ولم تودع فى كتاب، لتعلّق كما علقت المعلقات، وكما أودعت العهود والمواثيق بعد كتابتها فى أحراز، وإنما كتبت آيات الله هذه، لتقرأ وتتلى، ولتكون ذكرا دائما على ألسنة المؤمنين، تعمر بها قلوبهم، وتغتذى منها أرواحهم، وتستبصر بها بصائرهم.! قوله تعالى: «رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ» .. ربّ: حرف جر يفيد التقليل.. فإذا اتصلت به «ما» دخل على الأفعال، وهو هنا مخفف «من ربّ» الثقيلة. هذا، ولم يرد هذا الحرف فى القرآن الكريم إلّا فى هذا الموضع. وقد بذل المفسرون كثيرا من الجهد فى التأويل والتخريج، ليجدوا لهذا الحرف وجها مفهوما، يستقيم مع الآية الكريمة.. وكان محصول هذا كلّه أقوالا متهافتة، رأينا من الخير ألا نقف عندها، وأن نأخذ بما أرانا الله سبحانه من فهم، استراحت له النفس، واطمأن إليه القلب.. فالآية التي سبقت هذه الآية، وهى التي بدئت بها السورة الكريمة، تشير إلى القرآن الكريم، وإلى آياته البينات.. «الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ.. وَقُرْآنٍ مُبِينٍ» .. ومقصود هذه الإشارة هو لفت الأنظار، وتوجيه القلوب والعقول إلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 211 آيات الله تلك، ففيها الهدى لمن نظر واعتبر.. ولكن قليل من الناس هم الذين ينظرون، ويعتبرون، ويهتدون.. أما أكثرهم فهم عن ذكر ربّهم معرضون، وبآيات الله، وبرسله، يمكرون.. ومن هنا كان المؤمنون دائما قلّة بالنسبة إلى أهل الزيغ والضلال.. كما يقول الحق تبارك وتعالى: «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» (103: يوسف) .. وكما يقول سبحانه: «وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً» (89: الإسراء) .. وكما يقول جل شأنه: «وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» (116: الأنعام) . - وفى قوله تعالى: «رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ» تقرير لهذه الحقيقة الواقعة فى الحياة، وهى أن أكثر الناس هم الكافرون، وأقلّهم هم المؤمنون.. وأن هذه الآيات البينات التي بين يدى النبىّ الكريم لن يكون منها أن تهدى الناس جميعا، فليوطن النبىّ نفسه على هذا، وليعلم أنه مهما اشتد حرصه على هداية قومه، فلن يهتدوا جميعا، وحسبه أن يستنقذ من الكفر والضلال، تلك القلّة الكريمة التي استجابت له.. فقليلها خير من كثير. فليحمل النبىّ الكريم هذا النور الذي بين يديه، وهو على علم بأنه يشق طريقه وسط ظلام كثيف، وأن قلّة من الناس، هى التي تكتحل عيونها بهذا النور، فتتبعه، وتهتدى به إلى الله! وفى هذا عزء للنبىّ، وتسرية له من الهموم التي كان يعانيها، من تأبّى قومه عليه، وعنادهم له.. فتلك هى سنّة الحياة، وأولئك هم الناس!! فالآية الكريمة هنا، هى خطاب خاص للنبىّ الكريم، يراد به أن يتخفف النبىّ كثيرا من مطامحه فى إقامة الناس جميعا على طريق الإيمان، حتى لا تذهب نفسه حسرة، على هؤلاء الذين يموتون بين يديه، وهم على ضلالهم وشركهم، كما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 212 يقول الله تعالى: «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» (8: فاطر) وكما يقول جل شأنه: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» (6: الكهف) . وعلى هذا يكون معنى الآية.. ادع يا محمد بهذا الكتاب الذي معك، وأنت على بعض الرجاء، لاكل الرجاء فى أن تجد لدعوتك آذانا تسمع، وقلوبا تفقه، وتستجيب، وتؤمن.. فادع إلى سبيل ربّك، بآيات ربك، وقل: لعلّ وعسى!! أو قل: «رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ!» وهنا لا بد من الإشارة إلى أمور: أولا: المراد من كلمة «يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا» .. فإن الود للشىء، معناه الرغبة فيه، وإيثاره على غيره.. وهذا يعنى أن الإيمان لا يكون عن إكراه، وإنما عن رغبة، وحبّ، وإيثار.. وهذا يعنى- من جهة أخرى- أنه ليس للنبى أن يحمل المعاندين حملا على الإيمان، وألا يجيئهم إليه عن طريق الإخراج الأدبى، تحت عواطف القرابة أو الصداقة.. إن ذلك يكون أشبه بطعام طيب يتناوله مريض، أو ممعود، فى غير اشتهاء له، ولا رغبة فيه.. فمثل هذا الطعام لا تهضمه المعدة، ولا ينتفع به الجسم.. والمعنى: ربما يرغب الذين كفروا فى أن يدينوا بهذا الدّين. وثانيا: قوله تعالى: «الَّذِينَ كَفَرُوا» حيث يبدو من ظاهر اللفظ أنه يشمل الكافرين جميعا.. ونعم، هو كذلك.. فدعوة الله إلى الإيمان به موجهة إلى الناس كلّهم.. وعين الرسول الكريم تنظر إليهم جميعا، ويده الكريمة ممدودة لهم كلّهم.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 213 حيث لا يدرى من يستجيب له، ومن لا يستجيب.. فالإيمان مطلوب من الكافرين جميعا.. ومطلوب منهم كذلك أن يجيئوا إليه برغبة صادقة، ومودة خالصة.. تعمر القلب، وتشرح الصدر! ولكن قليل هم أولئك الذين يعرفون الحق ويؤثرونه على الأهل والولد.. وسؤال يعرض لنا هنا.. وهو: كيف يؤدى النبىّ رسالته، وكيف يعطيها كل مشاعره وأحاسيسه، وهو على يقين من أنه لن يبلغ بدعوته إلى قلوب الناس جميعا؟ أليس فى ذلك توهين لعزمه، وإخماد لجذوة الأمل التي ينبغى أن تكون مشتعلة فى نفس كل داعية، حتى يعطى دعوته كلّ جهده، وعزمه، وصبره؟ والجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل من قبل ربه برسالة، ومأمور بأن يبلغها، وأن يجتهد فى تبليغها، وأنه إن لم يفعل فما بلغ الرسالة، ولا أدّى الأمانة.. وقد امتثل النبي أمر ربه، وصدع به، واجتهد الاجتهاد كلّه، حتى لقد كادت نفسه تذهب حسرة وأسى على من كان يفلت من يده، ويموت على الشرك والضلال من قومه.. فهذا التوجيه الرباني الذي حمله قوله تعالى إلى النبي الكريم: «رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ» - هذا التوجيه، هو دعوة إلى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- أن يتخفف من هذا الشعور الضاغط عليه، والمؤرّق له، وأن يكون على علم من أنه لن يهدى من أضلّه الله، وختم على سمعه وقلبه.. وهم كثير غير قليل.. وقد عتب سبحانه وتعالى على النبي الكريم مشفقا عليه من هذا العناء الذي يعنّى به نفسه، فى شد المعاندين شدّا إليه، وهم يدفعونه، ويتأبّون عليه.. فيقول سبحانه: «أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى؟ وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى؟» (5- 7: عبس) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 214 قوله تعالى: «ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» . فى هذه الآية ما يؤيد الفهم الذي فهمنا عليه الآية السابقة، من أنها دعوة إلى النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- أن يرفق بنفسه، وألا يجعل من همّه أن يقيم الناس جميعا على طريق الإيمان، فذلك أمر لا يقع أبدا. - وفى قوله تعالى: «ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ» توكيد لهذه الدعوة، وإخلاء ليد النبىّ الكريم من الإمساك بهؤلاء الذين يحرنون عليه، ويشردون منه.. فليدعهم وما اختاروا لأنفسهم من حياة، كل همهم فيها أن يأكلوا، ويتمتعوا، ويتلهّوا بالآمال الكاذبة، التي تقيم لهم من دنياهم تلك، عالما من سراب، تتراقص على أمواجه عرائس زائفة، ينخدع لها الحمقى والسفهاء من الناس، ويقطعون العمر فى جرى لاهث وراءها! - وفى قوله تعالى «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين، الذين رضوا بهذه الحياة، واطمأنوا بها، وأذهبوا طيباتهم فيها، واستهلكوا وجودهم فى لذاذاتها الفانية.. إنهم فى سكرة يعمهون.. فإذا جاء أجلهم، صحوا من سكرتهم، ووجدوا ما عملوا من سوء حاضرا بين أيديهم، يقودهم إلى عذاب السعير.. قوله تعالى: «وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ» فى هاتين الآيتين الكريمتين، وعيد بعد وعيد، لهؤلاء المشركين.. وأنهم إذا كانوا لم يؤخذوا بكفرهم وعنادهم وضلالهم، إلى هذا اليوم الذي هم فيه، فما ذلك إلا لأن الله سبحانه وتعالى لم يأذن بهلاكهم بعد، وذلك لما اقتضته حكمته.. فكل قرية لها عند الله أجل معلوم، كما أن لكل إنسان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 215 أجله الموقوت ... فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون «ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ» .. فلا يغترنّ هؤلاء الكافرون بإمهال الله سبحانه وتعالى لهم.. فذلك ابتلاء منه سبحانه كما يقول جلّ شأنه: «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ» (109- 111: الأنبياء) الآيات: (6- 15) [سورة الحجر (15) : الآيات 6 الى 15] وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) التفسير: قوله تعالى: «وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ» لذّكر: هو القرآن، كما يقول الحق سبحانه: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 216 والآية الكريمة تحدث عن مقولة من مقولات المشركين المنكرة، وتكشف عن موقف من مواقفهم السفيهة، من النبىّ، إذ يلقون النبىّ بهذا الاستهزاء، ويلقون إليه بتلك السبّة المفضوحة.. «إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ» .. يقولونها هكذا.. فى تأكيد وإصرار! - وفى الإشارة إلى النبي بقولهم: «يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ» استصغار للنبىّ وإحقار له، إذ ينادونه من مكان بعيد.. «يا أَيُّهَا الَّذِي» .. مع إعراضهم عن ذكر اسمه.. ومناداته بالصفة التي جاءهم عليها، إنما كأنه إنكار لتلك الصفة، وتشنيع عليه بها.. إذ كانوا ينكرون على النبي أن ينزل عليه هو الذكر، من بينهم، كما يقول سبحانه وتعالى عنهم: «أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا؟ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ» (25: القمر) وقوله تعالى: «لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» .. يكشف عما أراده المشركون بقولهم: «يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ» وأنهم إنما يقولون ذلك استهزاء وسخرية وتكذيبا، ولهذا جاء قولهم: «لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» تحدّيا للنبىّ أن يدفع التهمة التي يتهمونه بها، وهى الادعاء الكاذب، بأنه يحمل إليهم آيات الله التي أوحيت إليه.. فإن كان ذلك الذي يدّعيه حقّا، وأنه متصل بالسماء، فليأت بالملائكة تحدثهم، وتشهد له أنه رسول الله.. عندئذ يعرف صدقه، ويقبل قوله! ولو ما: حرف تحضيص، بمعنى هلّا. قوله تعالى: «ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ» أي لا ينزل الله سبحانه الملائكة، استجابة لأهواء أصحاب الضلالات، وإنما ينزلهم سبحانه بما يأمرهم به، كالسفارة بينه وبين رسله، أو كالعذاب الذي يرسلهم به إلى من يريد إهلاكهم من القوم الظالمين. وكل هذا حقّ من عند الله سبحانه..! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 217 - وفى قوله: «وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ» تهديد لهؤلاء المشركين، وأنهم إذا استجاب الله لهم، ونزلت الملائكة عليهم كما يقترحون، فإنهم لا ينزلون عليهم إلا بالهلاك والبلاء، بعد أن نزلوا عليهم على يد رسوله بالرحمة والهدى.. وفى هذا يقول الله سبحانه: «وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ» (8: الأنعام) وقوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» هو ردّ على هؤلاء المشركين الذين سخروا من النبىّ بقولهم: «يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ» فجاء قوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ» كبتا لهؤلاء المشركين، وردعا لهم، وإعلانا بما يملأ صدورهم حسدا وحسرة.. فقد أبوا إلا أن يجهلوا الجهة التي يقول النبىّ إنه تلقّى الذّكر منها، فقالوا «نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ» ولم يقولوا- ولو على سبيل الاستهزاء- نزّل الله عليه الذكر.. فجاءهم قول الحق جلّ وعلا: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ» بهذا التوكيد القاطع.. ثم جاء قوله تعالى «وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» مؤكدا لهذا التوكيد.. إذ أنه سبحانه هو الذي يتولى حفظه من كل عبث، وصيانته من كل سوء.. وهذا هو الدليل القاطع على أنه منزّل من عند الله.. فليحاولوا أن يبدّلوا من صورته، أو يدسّوا عليه ما ليس منه.. فإنهم لو فعلوا، لكان لهم من ذلك حجة على أن ليس من عند الله! وقد حفظ الله القرآن الكريم، هذا الحفظ الربانىّ، الذي أبعد كلّ ريبة أو شكّ فى هذا الكتاب، فلم تمسسه يد بسوء، على كثرة الأيدى التي حاولت التحريف والتعديل، فردّها الله، وأبطل كيدها وتدبيرها.. وهكذا ظلّ القرآن الكريم، وسيظل إلى يوم البعث، حمى الله الذي تحرسه عنايته، وتحفظه قدرته، فلم تنخرم منه كلمة، أو يتبدل منه حرف.. وتلك حقيقة يعلمها أولو العلم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 218 من خصوم الإسلام، كما يؤكدها تاريخ القرآن الكريم، الذي تولّى النبىّ الأمى كتابته فى الصحف، كما تولّى غرسه فى صدور المؤمنين.. كلمة كلمة، وآية آية.. سئل بعض العلماء: لم جاز التحريف والتبديل على الكتب السماوية السابقة، ولم يجز هذا على القرآن الكريم؟ فقال: «إن الكتب السماوية السابقة قد وكل الله حفظها إلى أهلها، كما يقول الله تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ» (44: المائدة) . فأهل الكتاب هم الذين «استحفظوا» أي وكّلوا بحفظ كتبهم.. ومن هنا جاز أن يفرطوا فى هذه الأمانة التي فى أيديهم، وأن يدخل عليها ما دخل من تبديل وتحريف.. أما القرآن الكريم فقد تولّى الله سبحانه وتعالى حفظه، ولم يكله إلى أهله.. فقال تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» .. ومن ثمّ كان من المستحيل أن يدخل على القرآن الكريم- وهو فى حراسة الله- تغيير كلمة، أو تبديل حرف!!. والسؤال هنا: لم وكل الله سبحانه وتعالى حفظ الكتب السماوية السابقة إلى أهلها، ولم يتولّ سبحانه وتعالى حفظها، وهى من كلماته، كما تولّى ذلك سبحانه، بالنسبة للقرآن الكريم؟. والجواب على هذا، والله أعلم: أولا: أن الكتب السماوية السابقة مرادة لغاية محدودة، ولوقت محدود، وذلك إلى أن يأتى القرآن الكريم، الذي هو مجمع هذه الكتب، والمهيمن عليها.. وهو بهذا التقدير الرسالة السماوية إلى الإنسانية كلها فى جميع أوطانها وأزمانها.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 219 فلو أن الكتب السماوية السابقة، كان لها هذا الحفظ من الله سبحانه، لما دخلها هذا التحريف والتبديل، ومن ثمّ لم يكن للقرآن الكريم هيمنة عليها، ولم يكن ناسخا لها.. الأمر الذي أراد الله سبحانه وتعالى للقرآن الكريم أن يجىء له. وثانيا: هذا التبديل والتحريف الذي أدخله أهل الكتب السابقة على كتبهم، لا يدخل منه شىء على آيات الله وكلماته.. كما لم يدخل شىء من ذلك على آياته الكونية، التي يغوى بها الغاوون، وينحرف بها المنحرفون.. وكما لا يدخل شىء من النقص على ذاته الكريمة، أو صفاته وكمالاته، إذا جدّف المجدفون على الله، ونظروا إلى ذاته وصفاته بعيون مريضة، وقلوب فاسدة، وعقول سقيمة. قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ، وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» . الشّيع: جمع شيعة.. وشيعة المرء، من يجتمعون إليه من أهل وعشير.. - وفى قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ» - إشارة إلى أن كل رسول أرسل من عند الله، كان مبعوثا إلى قومه الذين يعرفهم ويعرفونه.. كما يقول سبحانه: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» (4: إبراهيم) .. - وفى قوله سبحانه: «وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» مواساة كريمة للنبىّ، وتخفيف عليه، مما يلقى من قومه من عنت ومكروه.. فتلك هى سبيل الرسل مع أقوامهم.. كلها أشوك، يزرعها السفهاء والحمقى فى طريق رسل الله إليهم.. فليس الرسول إذا بدعا من الرسل، فيما لقى من قومه، من سفاهات وحماقات، فلقد كان إخوانه الذين سبقوه من رسل الله، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 220 يلقون مثل ما لقى، من استهزاء وتكذيب.. بل ومنهم من رجم وقتل، ولم يشفع لهم فى ذلك، ما بأيديهم من هدى، ولا ما بينهم وبين أقوامهم من آصرة النسب والقرابة. قوله تعالى: «كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ» . يقال سلك الطريق: أي سار فيه، ومنه قوله تعالى: «فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا» (69: النحل) .. وسلك الشيء فى الشيء: إدخاله فيه، ومنه قوله تعالى: «اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ» (32: القصص) .. وقوله تعالى: «فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ» (27: المؤمنون) ومنه السلك، وهو الخيط الذي تنتظم فيه حبات العقد. - وفى قوله تعالى: «كَذلِكَ» إشارة إلى أن ما كان من الأقوام السابقين من تكذيب لرسل الله، واستهزاء بهم، هو الذي كان من هؤلاء المجرمين الذين وقفوا من «محمد» هذا الموقف اللئيم، فكذبوه، وسخروا منه، وآدوه بكل ما قدروا عليه من ألوان الأذى.. فكأن هذا الضلال المستولى على بعض النفوس الخبيثة والطبائع المنكرة، هو داء متنقل، وميراث موروث، يأخذه الخلف عن السلف: «كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ» .. أي أن الضلال القديم، ينغرس فى قلوب هؤلاء المجرمين من مشركى قريش، فيكونون أشبه بحبة من حبات هذا العقد الذي ينتظم المقابح والمساويء، ويجمع الأشرار إلى الأشرار.. قوله تعالى: «لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ» . الضمير فى قوله تعالى: «لا يُؤْمِنُونَ» يرجع إلى هؤلاء المجرمين، وهم مشركو قريش، والضمير «به» يعود إلى النبىّ الكريم، الذي جاء ذكره فى قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ» .. والحديث عنه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 221 بضمير الغائب، تنويه بقدر النبي وتكريم له، وإشعار بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتولّى الدفاع عنه، ومحاسبة المجرمين على استهزائهم به.. ويجوز أن يكون هذا الضمير عائدا إلى القرآن الكريم، المذكور فى قوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» . - وفى قوله تعالى: «وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ» .. تهديد ووعيد لهؤلاء المجرمين من كفار قريش، وأن سنّة الله التي مضت فى السابقين، كانت الهلاك والبلاء للمكذبين، والنصر، والعافية للمرسلين وأتباع المرسلين.. ولن تتبدل سنة الله مع هؤلاء المشركين من قريش ومن معهم! قوله تعالى: «وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ» . عرج إلى المكان: صعد إليه، والعروج، هو الصعود من أسفل إلى أعلى.. وسكرّت الأبصار: عميت وعشيت، وزاغت، شأن من تستولى عليه الخمر، ويصيبه دوار السّكر. وفى الآيتين الكريمتين، ما يكشف عن الضلال الكثيف المنعقد على قلوب هؤلاء المجرمين، وأنهم- وهم فى هذا الضلال- لا يرون لمعة من لمعات الهدى أبدا، ولو جاءتهم كل آية مبصرة.. فلو أن الله سبحانه فتح لهم بابا من السماء، فظلوا فيه يعرجون ويرتفعون صعدا، حتى يشهدوا الملأ الأعلى، وما فيه من آيات، تدعوهم إلى الإيمان بالله- لأنكروا ما تشهده حواسّهم، ولاتّهموا أعينهم بأنها قد وقعت تحت حدث من الأحداث، فذهب بقدرتها على الإبصار.. أو لقالوا إن قوة خفية سحرتهم، وخيّلت إليهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 222 هذا الذي يرونه. وهذا يعنى أنهم لن يؤمنوا أبدا، ولو جاءتهم تلك الآيات التي يقترحونها على النبىّ. إذ أن لهم، من ضلالهم، مع كل آية مكر، وفى كل معجزة قاهرة قول.. الآيات: (16- 25) [سورة الحجر (15) : الآيات 16 الى 25] وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) التفسير: مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أن الله سبحانه وتعالى ذكر فى الآيات السابقة، ما استولى على قلوب المشركين من ظلام كثيف، وضلال مبين، حتى لو أنهم أصعد بهم إلى السّماء، وشهدوا ما فى الملأ الأعلى من آيات، ما كان لهم فى ذلك طريق إلى الهدى والإيمان بالله، ولاتّهموا حواسّهم، وكذّبوا المشاهد المحسوس بين أيديهم.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 223 أما الذين يرون الحق ويتبعونه، ويشهدون آيات الله، ويتلقون العبرة والعظة منها- فهؤلاء لهم فى كل شىء آية، ولهم من عقولهم معارج يعرجون بها إلى السموات، وهم حيث هم، على هذه الأرض لم يبرحوها.. وقوله تعالى: «وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ» - إشارة إلى ما للعقول السليمة من قدرة على النظر فى ملكوت الله، وارتياد مواقع العبرة والعظة من آياته المبثوثة فى هذا الملكوت.. فهذه السماء، وقد رفعها الله سبحانه بغير عمد، وجعلها بروجا ومدارات للكواكب والنجوم، وزينها بتلك الكواكب، وحلّاها بهذه النجوم- هذه السماء هى مراد فسيح للأنظار، ومسح معجب للعقول.. ينظر الناظرون إليها، فترتدّ إليهم أبصارهم منها وقد امتلأت عبرة وعظة، بما شهدت من جلال الله، وقدرته وعلمه وحكمته.. «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا» (191: آل عمران) .. فذلك هو ما يعطيه النظر السليم لأهله، من إيمان بالله، وولاء لجلاله وعظمته. قوله تعالى: «وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ» . إشارة إلى أن السّماء ليست معرجا لأهل الأرض، وإن كانت مرادا لأبصارهم، ومسبحا لعقولهم.. وأن الشياطين- وهم من سكان الأرض- إن أرادوا العروج إلى السماء بما لهم من طبيعة قادرة على الانطلاق إلى آفاق عالية بعيدة- هؤلاء الشياطين لا يستطيعون أن يعرجوا إلى السماء، وغاية ما يمكن أن يبلغه أحدهم هو أن يحلّق بعيدا، يريد أن يدنو من الملأ الأعلى، ويسترق السمع، إلى ما احتواه هذا الملأ من غيوب وأسرار.. وعندئذ يجد الشيطان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 224 شهابا راصدا يرمى به، فيحترق ويهلك، دون أن يقع على شىء من علم الله.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ» (212: الشعراء) . وقوله سبحانه، على لسان الجن: «وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً» (9: الجن) . وهنا سؤال.. وهو: هل إذا كان الجن لا يستطيع أن يعرج إلى السماء وأن يسترق السّمع، فهل يستطيع الإنسان أن يعرج إلى السماء، ويبلغ إلى هذا المدى الذي لم يبلغه الجن؟ إن إرهاصات كثيرة تشير إلى أن الإنسان الآن فى طريقه إلى السماء، وأنه كاد ينجح فى أن ينزل على القمر، بعد أن ارتاده بمراكب ألقت بمراسيها على سطحه، وهى تحمل عددا وآلات نقلت إلى الإنسان كثيرا من طبيعة هذا الكوكب.. فهل إذا نزل الإنسان إلى القمر أو إلى أي كوكب من الكواكب، أيكون فى هذا ما يتعارض مع الآية الكريمة؟ والجواب على هذا، أن الآية الكريمة لم تعرض للإنسان، ولم تسلط عليه من السماء رجوما، كما سلطتها على الشياطين.. وعلى هذا،، فإن الطريق إلى السماء مفتوح للإنسان، وليس ثمة ما يحول بينه وبين أن يبلغ منها حيث وسع علمه وجهده.. إلّا أن الذي لا يبلغه الإنسان أبدا، هو أن يخترق حجب الغيب، ويعلم ما استأثر الله سبحانه وتعالى به من علم.. ذلك هو ما يقطع به إيماننا، ويحدّث به كتابنا.. أما ماوراء ذلك، فهو فى مجال الاختبار لقدرة الإنسان.. والقرآن الكريم يفتح للعقل كل طريق لاختبار قدرته، بل ويبارك عليه كل خطوة موفقة يخطوها إلى الأمام، فى ارتياد معالم الوجود، فى الأرض وفى السماء، وكشف ما يستطيع كشفه من أسرار هذا الكون، فى أرضه وسماواته على السواء! والله سبحانه وتعالى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 225 يقول: «يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا.. لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ» (32: الرحمن) ففى الآية الكريمة إغراء وتحريض لعالمى الإنس والجن، على التسابق فى ارتياد هذا الكون، والنفوذ من أقطار السموات والأرض، والغوص فى أعماقهما، ولكن ذلك لا يكون إلا لمن ملك بين يديه القوة التي تمكن له من اخترق أطباق الأرض، وأجواء السماء، وتلك القوة هى التي أشارت إليها الآية الكريمة بكلمة «سلطان» .. والسلطان الذي يمنح الإنسان تلك القوة، هو العلم.. فبسلطان العلم يمتلك الإنسان القوة، وبتلك القوة وبالقدر الذي يحصل عليه الإنسان منها، يكون مبلغه من النفوذ فى أقطار السموات والأرض.. ومع هذا، فإن هناك حرما إن دنا منه الشيطان احترق، كما أن هناك عوالم لا حصر لها، لا تطولها قدرة الإنسان، ولا يبلغ علمه منها شيئا: «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» . (85: الإسراء) فإذا بلغ الإنسان بعلمه وقدرته أن يستوى على ظهر هذه الكواكب المتصلة بفلك الأرض.. فهيهات أن يبلغ شيئا من العوالم الأخرى، التي تبلغ المسافات بينها وبين الإنسان ملايين من السنين الضوئية.. اللهم إلا أن يخرج الإنسان عن طبيعته، ويصبح خلقا آخر.. قوله تعالى: «وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ» - وكما فى السماء آيات لأولى الأبصار، فإن فى الأرض آيات وآيات للناظرين.. فهذه الأرض، قد مدّها الله، وألقى فيها رواسى، أي غرس فيها جبالا راسية، وأنبت فيها من كل شىء موزون، أي كل شىء بحساب وقدر، مما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 226 ينفع الناس، والدواب، والطير، وكلّ حىّ يشارك الإنسان الحياة على هذه الأرض.. فما أنبت الله سبحانه فى هذه الأرض، وما بثّ فيها من نبات، وحيوان، وجماد.. كل هذا بقدر مقدور، وبحساب موزون بميزان الحكمة، حتى يعتدل ميزان الحياة، ويكون للناس مستقر فيها ومتاع إلى حين.. ولو اختلّ هذا الميزان، بزيادة أو نقص، لما صلحت الحياة على هذه الأرض.. قوله تعالى: «وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ» - هو تفصيل لما أجملته الآية السابقة فى قوله تعالى: «وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ» - فهذا الذي تخرجه الأرض، هو مما يعيش فيه الإنسان، وتحيا عليه الأحياء الأخرى، التي لا يتولى الإنسان إطعامها.. من هوامّ، وحشرات، ووحوش، وطيور محلقة فى السماء، وأسماك سابحة فى البحار والأنهار.. وغير ذلك كثير، مما لا يعلمه إلا خالقها سبحانه وتعالى.. فهذه الكائنات كلها يرزقها الله سبحانه، ويقدّر لها أقواتها. قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ» - إشارة إلى أن كل شىء هو إلى الله سبحانه، وفى يده جلّ شأنه، وأنه ينزّل من كلّ شىء بقدر معلوم، حسب ما تقضى حكمته، مما يصلح به أمر الناس وتعمر الأرض. قوله تعالى: «وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ» .. أي إن من قدرة الله سبحانه، ومن حكمته، أن أرسل هذه الرياح، فجعلها لواقح يكون من نتائجها هذا المطر الذي ينزل من الماء.. فالريح هى التي تحمل بخار الماء، فتنقله إلى أجواء باردة فى آفاق السماء، حيث يصير سحابا.. ثم تدفع هذا السحاب، فيصطدم بعضه ببعض، ويتولد من هذا الصدام الجزء: 7 ¦ الصفحة: 227 شرارات، هى البرق، الذي يكون أشبه بإشارة إلى ميلاد المطر ونزوله.. كما يقول سبحانه وتعالى: «اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ، فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» (48: الروم) والرياح لقاح للنباتات، إذ تنقل لقاح كثير من ذكور النبات إلى إناثه، ولكن المنظور إليه منها هنا، هو لقاحها للسحاب، حيث جاء قوله تعالى بعد ذلك: «فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً» .. فالفاء هنا للسببية، بمعنى أن هذا اللقاح، هو الذي يتسبب عنه نزول الماء من السماء.. هذا، والقرآن الكريم يفرّق بين الريح، والرياح.. فيذكر الرياح فى مواطن الخير والرحمة، على حين يستعمل الريح فى مواطن البلاء والنقمة.. ذلك أن الريح إذا كانت من مهب واحد كانت عقيما، لا تنتج شيئا، أو تحمل سموما، وأذى، كما فى قوله: «وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ» (41: 42 الذاريات) وقوله تعالى: «فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا.. بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ.. رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ» (24: الأحقاف) .. فإذا أفردت الريح فى مواطن الرحمة، ألحقت بوصف حسن، يرفع عنها الصفة الغالبة عليها.. كما فى قوله تعالى: «وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ» (22: يونس) . أما إذا كانت الريح من جهات مختلفة، فإنه يلتقى بعضها ببعض، فتتوازن، وتعتدل، وتحمل الخير والرحمة، وتكون لقاحا للسحاب، وللنبات.. - وفى قوله تعالى: «وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ» إشارة إلى أن هذا الماء، هو مما فى يد الله، وفى خزائنه، وأن ليس لأحد أن يتصرف فيه إلا بما يأذن الله به منه.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 228 كما يقول سبحانه: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ» .. فهو مما فى خزائن الله، وفى ملكه، وليس للناس قطرة منه إلا ما يجود الله به عليهم منه.. قوله تعالى: «وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ» .. هو كشف لبعض قدرة الله، وأنه سبحانه بيده الحياة والموت.. وأنه ليس لهذه الحياة بقاء.. «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» (88: القصص) .. والله سبحانه يرث الأرض ومن عليها: «وَنَحْنُ الْوارِثُونَ» فلا يغترنّ أحد بهذه الدنيا، وإن أعطاه الله الكثير من زهرتها، وأفاض عليه الجزيل من متاعها.. فكلّ إلى زوال.. وقوله تعالى: «وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ» .. هو كذلك كشف عن بعض علم الله، وأنه سبحانه قد علم ما كان من خلق قبل أن يخلقوا، السابقين من الخلق واللاحقين.. «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» .. (14: الملك) قوله تعالى «وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» هو تقرير للبعث، وأن الموت المحكوم به على الناس، ليس هو نهاية الحياة الإنسانية، بل هناك حياة أخرى بعد الحياة الدنيا.. فقد اقتضت حكمة الله، أن يكون للناس حياة أخرى يحاسبون فيها على أعمالهم، وينزلون فيها منازلهم حسب ما كان لهم من أعمال فى دنياهم، وهو سبحانه «عَلِيمٌ» بما كان منهم، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة من أعمالهم.. الآيات: (26- 50) [سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 50] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 229 التفسير: تعرض هذه الآيات قصة خلق آدم، وكيف خلقه الله سبحانه وتعالى من طين، ثم نفخ فيه الحق جلّ وعلا من روحه، ثم أمر الملائكة بأن يسجدوا له، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 230 فسجدوا إلّا إبليس، فقد أبى أن يسجد، فلعنه الله وطرده.. ثم تذكر الآيات موقف إبليس من ربه سبحانه وتعالى، وتحدّيه لآدم وذريته، بإغوائهم، وإفسادهم، وخروجهم عن طاعة الله، ثم طلبه إلى الله سبحانه أن يؤخره إلى يوم القيامة، حتى تتاح له الفرصة فى أبناء آدم.. وقد أجابه الله سبحانه وتعالى إلى ذلك، وحذّر أبناء آدم منه، ونههم إلى هذا العدو المتربص بهم.. وقد وردت هذه القصة فى أكثر من موضع من القرآن، شأنها فى هذا شأن القصص القرآنى، الذي جاء فى معارض مختلفة، بين الإيجاز والتفصيل.. وفى سورة البقرة عرضنا بالتفصيل لقصة خلق آدم، وقلنا إنه لم يخلق خلقا مباشرا من التراب، وإنما كان خلقه خلقة فى سلسلة التطور.. وأنه إذا كان الطين مبدأ للخلق، فإنه قد تنقل فى هذا الطين من عالم إلى عالم، ومن خلق إلى خلق، حتى كان الإنسان آخر حلقة فى سلسلة هذا التطور، فظهر فيها الكائن العاقل.. وهو آدم، أو الإنسان.. ولا نعيد هذا القول، وحسبنا أن نقف بين يدى الآيات الكريمة وقفات نطلع فيها وجها من وجوه الإعجاز القرآنى فى التكرار لمعارض قصصه، والذي حسبه بعض الجهلاء السفهاء من المآخذ التي تؤخذ على القرآن، وعدّوه قصورا فى بلاغته.. «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ..» فى هاتين الآيتين عرض موجز لخلق آدم، وخلق الجانّ (إبليس) ، وبيان المادة التي خلق كلّ من آدم وإبليس منها.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 231 فآدم، خلق من صلصال من حمأ مسنون.. والصلصال: الطين الذي جفّ حتى صار له صوت وصلصلة.. والحمأ: الطين المتعفن. وهو الذي تخمّر فى ظروف معينة، وبدأ يأخذ بحكم هذا التخمر صورا وأشكالا، ولهذا وصف «بالمسنون» أي المسوّى والمشكل فى أشكال وقوالب.. وقد ورد فى آيات من القرآن الكريم، أن آدم خلق من تراب، ومن طين، ومن طين لازب.. وهذا يشير إلى أن التراب، هو المادة الأولى التي كان منها هذا الخلق.. ثم تحول التراب إلى طين، ثم تحول هذا الطين إلى طين لازب، أي زبد، ثم تحول هذا الطين اللازب إلى حمأ، ثم أخذ هذا الحمأ صورا وأشكالا فكان حمأ مسنونا.. ثم تحول هذا الحمأ المسنون إلى صلصال كالفخار.. وهكذا سار الإنسان فى هذا المسار الطويل عبر ملايين السنين، حتى ظهرت أول بشائر الحياة الإنسانية فى باكورة إنسان.. هو «آدم» ! أما «الجانّ» فقد خلق قبل آدم، وكان خلقه من نار السموم.. أي من لهب النار لا من جمرها.. فكان جسما هوائيا ملتهبا، مشوبا بدخان.. وقد ذكر فى القرآن الكريم، الجنّ، وإبليس، والشيطان، وكلها تعنى هذا المخلوق الذي أمره الله بالسجود لآدم، فأبى واستكبر وكان من الكافرين.. وقد عرضنا لبحث هذه المسميات- الجن وإبليس والشيطان- فى الجزء الأول من هذا التفسير.. فليرجع إليها من شاء.. «وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 232 هنا يحدّث القرآن عن أن الله سبحانه وتعالى قد آذن للملائكة قبل خلق آدم، وقبل ميلاده المنتظر فى سلسلة التطور، آذنهم- سبحانه- بأن ينتظروا ميلاد هذا الكائن، وأن يسجدوا له ساعة مولده، سجود ولاء لله، وتمجيد لقدرته وحكمته إذ يشهدون هذا الطين يتحرك فى أحشاء الزمن، فيتمخض عن كائنات عجيبة.. ثم يلد أعجب مولود، هو هذا الإنسان، الذي ينطق، ويعقل، ويكون خليفة الله فى الأرض، ويقف بين يديه الملائكة موقف التلاميذ من أستاذهم، يتعلمون منه ما لم يكونوا يعلمون.. فالسجود لآدم فى حقيقته، سجود لله سبحانه، فى مواجهة هذه الظاهرة العجيبة، التي تتجلى فيها قدرة الله، وتطلع منها على الملائكة آية من آياته.. - وفى قوله تعالى: «فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي» - إشارة إلى أن آدم لم يظهر من الطين ظهورا مباشرا، وإنما ظل دهورا طويلة فى بوتقة الزمن، حتى استوى ونضح.. فالفاء فى قوله تعالى: «فَإِذا سَوَّيْتُهُ» تفيد التعقيب، ولكنه تعقيب يأخذ من عمر الزمن ملايين السنين.. «وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» . - وفى قوله تعالى: «فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ» - إشارة إلى كيفية السجود، وأنه سجود لا يملك معه الملائكة أنفسهم، بل يخرون ساقطين على وجوههم، حين يأخذهم جلال الموقف، وتغشاهم رهبته.. والفعل «قعوا» هو أمر من الفعل «وقع» والأمر منه «قع» فإذا أسند إلى واو الجماعة كان: «قعوا» .. أي اسقطوا وخرّوا.. هذا، وقد جاء أمر الله سبحانه وتعالى إلى الملائكة بالسجود لآدم فى موضع آخر، فقال تعالى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 233 «إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ.. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ» (71- 72: ص) . وهذا يشير إلى أن الله سبحانه وتعالى، قد لفت الملائكة أول الأمر إلى المرحلة الأولى من مراحل هذا الخلق الذي سيخرج من هذا الكائن البشرى.. وأن أول هذه المراحل، هى الطين.. وقد أخذ الملائكة منذ هذه اللفتة، يرقبون هذا الطين، ويلحظون مسيرته فى خط الحياة.. ثم حين انتقل الطين إلى مرحلة أخرى، هى مرحلة الصلصال، والحمأ المسنون- لفت سبحانه وتعالى الملائكة مرة أخرى إلى هذا التغيير الذي حدث للطين، والذي بدأ يأخذ طريقه متحركا نحو الغاية المؤدية إلى ظهور هذا الإنسان الذي ستلده الحياة المتولدة من هذا الطين، والذي يجب على الملائكة أن يستقبلوا مولده بالسجود فإن السجود لهذا المولود هو سجود لآيات الله، وما تجلى فيها من رائع حكمته وقدرته.. ويلاحظ أن هذين الأمرين الموجهين توجيها مباشرا إلى الملائكة بالسجود لآدم، يتضمنان الصفة التي يكون عليها هذا السجود، وهو أن يكون سجودا مستوليا على كيان الملائكة، بحيث يخرون خرّا، ويتهاوون هويّا: «فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ» . [إبليس ومن له سلطان عليهم] «فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ..» وإنها لجرأة عجيبة أن يخرج هذا المخلوق الشقىّ عن أمر ربه، وأن يتحدّى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 234 الله سبحانه وتعالى هذا التحدّى الوقاح السافر.. ولكن تلك هى مشيئة الله فى هذا المخلوق الشقىّ التعس.. وقد أراده- سبحانه- ليكون، الظلام الذي يواجه النور، والشرّ الذي يقابل الخير.. وبهذا تتمايز الأمور، وتنكشف حقائق الأشياء.. إذ لولا الظلام ما عرف النور، ولولا الشرّ ما استبان الخير.. وهكذا كل ضدّ يكشف عن ضده.. «وبضدّها تتميز الأشياء» !: «قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ» .. وإنها لشقوة غالبا، وبلاء مبين، وضلال تعمى معه البصائر، وتذهب العقول.. يسأله الحق جلّ وعلا، «ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ» ؟ وذلك ليأخذ اعترافه من فمه، وإلّا فالله سبحانه عالم بما سيقول هذا الشقىّ، مستغن عن أن يسأل، وعن أن ينطق إبليس بما نطق به.. ولقد نطق إبليس بهذا التحدّى لوقاح، «لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ» .. وفى آية أخرى كشف إبليس عن حجته الضّالة فى إبائه السجود لآدم، فقال: «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» ! (12: الأعراف) . ومن أين لهذا اللّعين أن النار خير من الطين؟ وما وجه الخيريّة فى النّار؟ إنه الضلال، ولا شىء غيره، هو الذي زيّن لهذا الغوىّ رأيه فى نفسه.. والله سبحانه وتعالى يقول فى أهل الغواية والضلال: «كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» (32: الروم) .. : «قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 235 ذلك هو جزاء الظالمين.. الطرد من رحمة الله، واللعنة المصاحبة لهم إلى يوم القيامة، حيث يلقون العذاب الأليم المعدّ لهم. والرجيم هو المرجوم.. وما يرجم به هنا هو اللعنة. والضمير فى قوله تعالى «مِنْها» يعود إلى الجنة التي كان فيها.. : «قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ. إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ» . وهكذا يعمى الضلال أهله، ويلقى بهم فى ظلمات المهالك، فلا يخرجون من مهلكة إلا إلى مهلكة.. فلقد أبت على إبليس شقوته إلّا أن يشرب كأس اللعنة إلى آخر قطرة فيها.. فطلب إلى ربه أن يمدّ له فى أجله، وألا يعجّل له العذاب قبل يوم القيامة، وذلك ليثأر لنفسه من هذا الإنسان الذي كان سببا مباشرا فى طرده من رحمة الله، وإلباسه لباس اللعنة.. بل وربما حدّثت هذا الشقىّ نفسه أن يتحدى الله، وأن يحاجّه فى آدم، وفى أنه أفضل منه، وأن امتناعه عن السجود له، كان عن حق، وأنه خير من هذا المخلوق، وما كان للأعلى أن يسجد للأدنى!! هكذا يبلغ الغرور بهذا الأحمق المغرور، فيقيم نظره كله على آدم، ولا ينظر إلى الله سبحانه، ولا يقع فى تصوره أن الله سبحانه هو الذي أمره بالسجود، وأنه ينبغى للمخلوق أن يمتثل أمر الخالق، دون مراجعة أو اعتراض! ولو كان هذا اللعين قد نظر إلى نفسه، ولم يعمه الحقد الأعمى- لكان له فى باب الرجاء عند الله متسع، ولكان طلبه من الله أن يؤخره إلى يوم الدين، التماسا للعافية من هذا البلاء الذي نزل به، فيرجع إلى الله من قريب، ويستغفر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 236 لذنبه، فيجد ربّا غفورا يقبل توبة التائبين، ويكفر عنهم من سيئاتهم.. ولكنه أبى إلا أن يهلك نفسه، فى سبيل إهلاك غيره، وإشباع شهوة الانتقام من عدوّه.. : «قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» . الإغواء: الإضلال، بتزيين القبيح، والإغراء به. وبهذا القسم يتحدى إبليس أبناء آدم، ويلقاهم على طرق الضلال، فيغويهم بركوبها، ويغريهم بمتابعة خطوه عليها، ويمنّيهم الأمانىّ الكاذبة التي تلقى بهم بين يديه! فالباء فى قوله تعالى: «بِما أَغْوَيْتَنِي» هى باء القسم، والتقدير: يحق ما أغويتنى: أي أضللتنى «لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ» أي لأفتننهم بما على الأرض من أشياء، أزينها لهم، وأغريهم بها، فيشغلون عن ذكرك، ويكفرون بنعمك، فيقعون تحت طائلة نقمتك وعذابك. وهذا القسم يكشف عنه قوله تعالى فى موضع آخر: «قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ» (82: ص) . ويجوز أن تكون الباء للسببية، أي بسبب إغوائك لى، وأن تكون اللام فى قوله تعالى: «لَأُزَيِّنَنَّ» لام الأمر، الداخلة على الفعل المضارع، وأن إبليس قد ألزم نفسه بهذا العمل إلزاما، ليردّ به على هذا الإغواء. وفى قصر التزين على الأرض، إشارة صريحة إلى أن إبليس قد أغوى آدم وزين له حتى أكل من الشجرة، وهو على هذه الأرض، وفى هذا دليل على أن ميلاد آدم كان على هذه الأرض، ولم يكن فى السماء.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 237 - وفى قوله تعالى: «إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» استثناء من هذا الوعيد الذي توعد به إبليس أبناء آدم.. فهو يعرف أن لله سبحانه وتعالى فى أبناء آدم أصفياء، أحلصهم لنفسه، واصطفاهم لطاعته، وأرادهم لجنته.. وهؤلاء لا سبيل لإبليس عليهم.. فقد سبقه قضاء الله فيهم، وأنهم من أهل جنته ورضوانه.. والمخلص: هو الخالص من كل سوء، المصفّى من كل شائبة.. أما من يتسط عليهم إبليس، ويتمكن من النّيل منهم، فهم أولئك الذين لم يرد لله أن يطهر قلوبهم، ولا أن يهديهم طريقا إلا طريق جهنم.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ» (41: المائدة) . «قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ» . - الإشارة فى قوله تعالى: «هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ» هى إشارة إلى الصراط المستقيم، وهو الصراط الذي يسلكه السالكون إلى الله، ممن رضى الله عنهم، كما يقول سبحانه: «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» .. فهذا الصراط هو الذي يسلكه عباد الله لمخلصون، وليس لإبليس سلطان على أحد ممن سلك هذا السبيل، واستقام على هذا الصراط.. لأن الله سبحانه وتعالى قد أوجب على نفسه حراسة المستقيمين عليه، من كيد الشيطان وإغوائه. ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» .. فهؤلاء هم عباد الله المخلصون، وقد أضافهم سبحانه إلى نفسه، وأظلهم بحمايته ورعايته، وحرسهم من كل شيطان رجيم.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 238 ويقوّى هذا المعنى قراءة من قرأ: «هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ» أي هذا صراط عال لا يناله إبليس بكيده ومكره، وهو صراط الله، الذي دعا عباده إليه. - وقوله تعالى: «إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ» .. هو استثناء من قوله تعالى: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» .. وفى إضافة الناس جميعا إلى الله سبحانه، هكذا: «عبادى» - فى هذا إشارة إلى أن الإنسان- أي إنسان- يحمل فى فطرته ما يستطيع أن يدفع به كيد الشيطان، فلا ينال منه.. هكذا هم عباد الله، وهم الناس جميعا.. ولكن من عباد الله من يعمل على إفساد فطرته، فيعطى الشيطان فرصته فيه.. وبهذا يكون من الغاوين، الذين أغواهم الشيطان، فاستجابوا له، وكانوا جندا من جنده الضالين الغاوين. «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ» الضمير فى قوله تعالى: «لَمَوْعِدُهُمْ» يعود إلى الغاوين، الذين ذكرهم سبحانه فى قوله: «إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ» .. فهؤلاء الغاوون الضالّون، من كافرين، ومشركين، ومنافقين، وكل من عبد غير الله، أو اتخذ مع الله شريكا- هؤلاء جميعا يلتقون عند جهنم، فهذا هو الموعد الذي يلتقون عنده.. فكما كان التقاؤهم فى الدنيا على الضلال والكفر، كذلك يكون التقاؤهم فى الآخرة على أبواب جهنم وعذاب السعير. - وفى قوله تعالى: «لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ» إشارة إلى أن جهنم دركات ومنازل، عددها سبعة.. وأن أصناف الضالين يصنّفون حسب درجات ضلالهم إلى سبعة أصناف، كل صنف منهم ينزل منزلة من منازل جهنم السبعة، ويدخل إلى مكانه فيها من الباب الذي يؤدى به إلى هذا المكان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 239 «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ» وإذا كان أولياء الشيطان قد نزلوا هذا المنزل لدّون، يلقون فيه ما يلقون من عذاب وهوان- فإن أولياء الرحمن، وعباده الّذين لم يكن للشيطان سبيل إليهم- هؤلاء موعدهم جنات النعيم، حيث العيون التي تغذّى هذه الجنّة، وتفجّر الحياة فيها.. فالعيون يحقّها دائما الشجر، والظل، والثمر. - وفى قوله تعالى «ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ» تحية طيبة، يؤذن بها للمؤمنين بدخول الجنة، على مسمع من أهل النار، فيزيد شقاؤهم، وتعظم مصيبتهم.. وفى العدول من الغيبة إلى الخطاب احتفاء بالمؤمنين، واستدعاء لهم من قبل الله سبحانه، ليسمعوا هذا الأمر المسعد لهم من ربّ العالمين: «ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ» .. ادخلوها إخوانا متحابين. - وقوله تعالى: «لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ» إشارة إلى الحياة التي يحياها أهل الجنة، وأنها حياة أمن، وسلام، وراحة.. فلا عمل إلا ذكر الله، والتسبيح بحمده، والشكر لنعمه.. ومن تمام هذا النعيم أن الذي فيه لا يتهدده خوف من أن يفارقه هذا النعيم أبدا، أو يفارق هو هذا النعيم.. بل هو نعيم دائم متصل «خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ» . «نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ.» الخطاب هنا للنبى صلوات الله وسلامه عليه- وهو خطاب لعباد الله جميعا، وبلاغ لهم كلهم، بأنهم عباد الله، وأن ربّهم الذي خلقهم وأضافهم إليه، هو رب غفور رحيم.. مغفرته شاملة، ورحمته عامة، تسع كل شىء.. وكذلك هو سبحانه- مع رحمته- ذو عذاب أليم، لمن كفر به، وأعطى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 240 ولاءه لغيره، أو لمن طمع فى رحمته، ولم يرع حرماته، مجترئا عليه، مضيفا آثامه وذنوبه إلى رحمة الله ومغفرته.. فذلك مخادعة لله، ومكر بآياته. فمن آمن بمغفرة الله الشاملة، ورحمته الواسعة، آمن به ربّا كريما رحيما، محسنا، وكان ذلك داعيا إلى حبّ الله وطاعته، لا إلى عصيانه ومحاربته..! فالحال التي ينبغى أن يكون عليها العبد مع ربّه هى الطمع فى رحمته، والخوف من عذابه.. فالطمع يحرسه من اليأس إذا هو واقع إثما، أو ارتكب معصية.. والخوف يحرسه من أن يأتى الفواحش، أو يترخّص فيها، ولا يتأثم عند ما يضعف أمام هواه، فيقع فى المنكر.. وقد امتدح الله المؤمنين الذين يخشون ربّهم بالغيب، والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة من ألا يقبل منهم ذلك الإيتاء.. وفى هذا يقول تعالى: «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ» (60- 61: المؤمنون) . وقد روى عن بعض الصالحين أنه كان يقول: «لو أنزل الله كتابا أنه معذّب رجلا واحدا لخفت أن أكونه، أو أنه راحم رجلا واحدا لرجوت أن أكونه، ولو علمت أنّه معذّبى لا محالة، ما ازددت إلا اجتهادا، لئلا أرجع على نفسى بلائمة» . ذلك هو ما يمليه العقل السليم، وما توحى به الفطرة، التي لم تفسدها الأهواء وتغتالها الضلالات. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 241 الآيات: (51- 60) [سورة الحجر (15) : الآيات 51 الى 60] وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) التفسير: فى هذه الآيات، شرح لقوله تعالى: «نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ» .. ففى هذه الآيات نفحات من رحمة الله ومغفرته.. وفيها لفحات من بأسه وعذابه.. رحمته ومغفرته التي تحفّ بالمتقين من عباده، وبأسه وعذابه الذي يحلّ بالضالّين الذين يتخذون الشيطان وليّا من دون الله.. وفى قوله تعالى: «وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ» تذكير بقصّة إبراهيم عليه السلام، إذ جاءه ملائكة الرحمن على هيئة بشرية، فظنهم ضيفا نزل عليه، وإذ كانوا قد دخلوا عليه فجأة من غير استئذان، فإنه وجد فى نفسه وحشة منهم وإنكارا لهم.. فقال فيما بينه وبين نفسه: «قَوْمٌ مُنْكَرُونَ!» كما ذكر ذلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 242 فى موضع آخر من القرآن الكريم.. وهنا يقول لهم فيما بينه وبين نفسه أيضا: «إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ» أي خائفون. وفى قوله تعالى: «قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» إشارة إلى أن الملائكة قد وجدوا دلائل الخوف وأمارات النّكر تظهر على إبراهيم، فقالوا له: «لا توجل» .. وهذا الموقف شبيه بالموقف الذي كان من الملائكة حين دخلوا على داود، ففزع منهم، فقالوا له.. لا تخف، وفى هذا يقول الله تعالى: «وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ.. قالُوا لا تَخَفْ» (21- 22: ص) . - وفى قولهم: «إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» تعجيل بهذه البشرى، لكى يطمئن قلبه إليهم، وتأنس نفسه بهم، وكى يذهب هذا الخبر العجيب بهذا الخوف الذي دخل عليه فجأة. وقوله تعالى: «قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ» .؟ إنكار من إبراهيم لهذه البشرى بالولد أن يجيئه، وقد بلغ من الكبر حدّا انقطع فيه الأمل من الولد، وانصرفت الرغبة عنده عن طلبه، إذ فات الأوان الذي تهفو فيه النفس إلى الولد، ويشتد الطلب له.. وكان جواب الملائكة: «قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ» وكان هذا الجواب تصحيحا لمشاعر إبراهيم نحو الولد، وأنه إذا لم يكن هو الذي يطلب الولد بعد هذا العمر الذي بلغه، فإن إرادة الله هى التي جاءت بهذا الولد فى هذا الوقت، وفى هذه المرحلة من العمر.. وذلك هو الحقّ الذي لا بدّ أن يقع.. ومن ثمّ كان وقوعه فى هذا الوقت هو أنسب الأوقات، حسب تقدير الله، وكان تأخيره إلى هذا الوقت لحكمة يعلمها الله، وإن خفيت على إبراهيم، وغاب عنه ماوراءها من خير. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 243 - وقوله تعالى: «فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ» . القنوط: هو اليأس من أمر محبوب منتظر طال انتظاره، حتى فات وقته.. وقد كان ذلك النصح من الملائكة لإبراهيم، إلفاتا له إلى ما لله سبحانه من حكمة، فى تقدير الأمور، وتوقيت الأحداث، وأنه إذا كان لإنسان مطلب خاص عند الله، فليس له أن يوقّت له، وأنه إذا وقّت له، ثم لم يقع فى وقته فليس له أن ييأس من إجابة طلبه.. فإلى الله سبحانه وتعالى تقدير الأمور وتوقيتها.. وإن اليأس من تحقيق المطلوب بعد فوات الوقت الذي وقّته له- فيه انقطاع الرجاء من الله، وصرف الوجه عنه.. وهذا ما لا ينبغى من مؤمن يؤمن بالله، ويعرف لله قدره.. ولهذا جاء جواب إبراهيم: «قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ» - تقريرا لهذه الحقيقة، وأنه عليه السلام لم يكن قانطا من رحمة الله، ولكنه كان متعجبا دهشا لهذا الأمر الذي طلع عليه فجاءة بولد غير منتظر! وهنا سؤال هو: كيف يقع من إبراهيم هذا الدّهش الذي يبلغ حدّ الإنكار من أن يكون له ولد، وهو الذي كان له ولد وهو «إسماعيل» عليه السلام، لذى سبق مولده مولد إسحاق؟ والجواب على هذا، أن إبراهيم كان ينتظر الولد من امرأته سارة، وأنه إذ طال انتظاره حتى مسّه الكبر، وبلغت سارة سنّ اليأس الذي لا يولد فيه لمثلها- اتجه إلى أن ينجب الولد من امرأة غيرها، فكان له من زوجته «هاجر» ولده إسماعيل، الذي انتقل به وأمّه إلى البيت الحرام، وأسكنه وأمّه هناك حيث المكان الذي هو مكة الآن.. وإذ لم يكن لإبراهيم غير «سارة» التي يعيش معها، فإنه أنكر أن يكون له ولد منها، بعد أن وصلا إلى هذه المرحلة من العمر! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 244 وسؤال آخر.. هو: الوصف الذي وصف به الولد الذي بشّر به إبراهيم هنا من الملائكة هو أنه غلام «عليم» ثم ذكر هذا الوصف مرة أخرى فى قوله تعالى: «فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» (28: الذاريات) على حين أن هناك وصفا آخر لولد بشّر به إبراهيم وهو أنه غلام «حليم» كما يقول سبحانه «رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ» (100- 101: الصافات) .. فما سرّ اختلاف الوصفين؟ وما دلالة هذا الاختلاف.؟ والجواب: أولا: أن وصف الغلام بأنه غلام «عليم» هو وصف للولد الذي بشر به من الملائكة بعد اليأس، وهو «إسحق» عليه السلام.. وأما الوصف الذي وصف به الغلام بأنه غلام «حليم» فهو نصف لإسماعيل عليه السلام، وأنه لم يجىء بعد اليأس، وإنما جاء إجابة من الله سبحانه لدعوة إبراهيم إذ دعا ربّه، فقال: «رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ» .. وهذا مقام غير المقام الذي استقبل فيه البشرى بإسحاق.. فهنا يدعو دعاء الراغب الطامع، وهناك ينكر إنكار اليائس الذي انقطع طمعه فى الولد! وثانيا: أن الوصف الذي وصف به الغلام بأنه «حليم» والذي قلنا إنه وصف لإسماعيل- هذا الوصف، يشير إلى أن إسماعيل هو الذبيح، وأن صفة الحلم، هى الصفة التي تناسب الموقف الذي وقفه من أبيه حين قال له: «يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى» ؟ فكان جوابه: «يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» (102: الصافات) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 245 وثالثا: يجىء بعد هذا الموقف بين إبراهيم وإسماعيل قوله تعالى: «وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» (112: الصافات) . وفى هذا ما يقطع بأن الذبيح هو إسماعيل. وسنعرض لهذا الموضوع فى مبحث خاص إذا شاء الله، عند تفسير سورة الصّافات.. قوله تعالى: «قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ» .. الخطب: الأمر العظيم، والشأن الجلل.. وفى سؤال إبراهيم للملائكة عن شأنهم، وعن الأمر العظيم الذي جاءوا له ما يشير إلى أن ما جاء إليه الرسل لم يكن هو البشرى بالولد، وأن هذه البشرى لم تكن إلا تطمينا لإبراهيم، وإجلاء للروع الذي استولى عليه.. وأنه بعد أن ذهب روعه وأنس إلى هؤلاء الملائكة الكرام.. سألهم: «فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ؟» فكان جوابهم: «إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ» .. وهؤلاء القوم، هم قوم لوط.. وقد استثنى منهم لوط وآله بقوله تعالى: «إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ» .. وهنا سؤال: إذا كان هؤلاء الرسل من الملائكة، قد جاءوا لمهمة خاصة، وهى إهلاك قوم لوط، فلم عرّج الرسل على إبراهيم، ولم يذهبوا رأسا إلى لوط، وهو نبىّ مرسل كما أن إبراهيم نبىّ مرسل؟ .. والجواب على هذا: هو أن لوطا عليه السلام كان من قوم إبراهيم، وممن استجاب لدعوته من دون قومه.. وفى هذا يقول الله تعالى: «فَآمَنَ لَهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 246 لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (26: العنكبوت) .. وقد خرج لوط من بين القوم، واتخذ له موطنا قريبا من إبراهيم، يدعو فيه إلى ربه، بدعوة إبراهيم.. وكانت القرية التي أوى إليها لوط قرية ظالمة فاسدة، وكان أهلها- فوق شركهم- يأتون فاحشة ما سبقهم بها من أحد من العالمين. كما يقول الله تعالى على لسان لوط لهم: «وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» (28- 29: العنكبوت) ولهذا فقد عجل الله لهم العذاب فى الدنيا، ولم يعجله لقوم إبراهيم، إذ كان قوم إبراهيم مجتمعا كبيرا يضمّ أمة فى إهلاكها قضاء على الحياة فى رقعة كبيرة من الأرض، قبل أن يتسع العمران، فيكون هلاكها أشبه بالطوفان الذي ذهب بقوم نوح.. أما قوم لوط، فقد كانوا عضوا خبيثا فى جسد هذا المجتمع الفاسد الذي يضم قوم إبراهيم، فكان من حكمة الله، بتر هذا العضو الخبيث، والإبقاء على هذا الجسد الفاسد يعانى من دائه، حتى يجىء من يطبّ له من رسل الله.. من ذرية إبراهيم..! وعلى هذا، فإن مجىء الرسل إلى إبراهيم قبل ذهابهم إلى لوط، هو مما تقتضيه طبيعة الأمور، إذ كان لوط- وإن كان نبيا مرسلا- هو من قوم إبراهيم، ومن الذين تابعوه، فكان إعلام إبراهيم بما سينزل على لوط من بلاء، مما لا يغفل عنه أدب السماء.. ولهذا فإن إبراهيم- عليه السلام- حين تلقّى هذا النبأ من الملائكة، فزع وقال: «إِنَّ فِيها لُوطاً!!» (32: العنكبوت) وكان جواب الملائكة: «نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها» .. ولم يقف إبراهيم عند هذا الحد، بل جعل يجادل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 247 الملائكة فى هذا الأمر النازل بهؤلاء القوم، وفى ذلك يقول الله تعالى: «فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ» (74- 76: هود) .. الآيات: (61- 77) [سورة الحجر (15) : الآيات 61 الى 77] فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) التفسير: قوله تعالى: «فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ» .. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 248 المرسلون، هم الملائكة، الذين كانوا مع إبراهيم منذ قليل.. وهنا تنتقل أحداث القصة من الموقف مع إبراهيم، إلى لوط.. عليهما السلام.. وكما وجد إبراهيم فى نفسه من مفاجأة الملائكة له ما وجد من فزع وتخوّف- وجد لوط هذه المشاعر منهم، فقال: «إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ» . وفى هذا الموقف نجد فرقا بين إبراهيم ولوط.. فإبراهيم قال ما قال فى همس، وتخافت، دون أن يجبه الضيف بما يسوؤهم، طاويا تلك المشاعر فى صدره، ممسكا بها فى كيانه،. فقال: «إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ» أما لوط فإنه لم يستطع أن يغالب هذا الشعور الموحش الذي استولى عليه من القوم، فواجههم بما وقع فى نفسه منهم، وقال: «إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ» . ولهذا كان إبراهيم أهلا لهذا الوصف الكريم، الذي وصفه الله سبحانه وتعالى به فى قوله سبحانه: «إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ» .. ولعلّ مما يقوم للوط من عذر فى مجابهة القوم بهذا القول هو ما رآه فيهم من ملاحة وحسن، مما يغرى قومه بهم، الأمر الذي يسوؤه أن يقع لمن ينزل فى ضيافته.. وهنا سؤال أيضا.. وهو: لماذا كان الحديث عن لوط فى مجىء الرسل، إليه غير موجه إليه، بل كان موجها إلى آله.. هكذا: «ولمّا جاء آل لوط المرسلون» ؟ ولم التزم القرآن هذا التعبير فى كل مرة ورد فيها مجىء الرسل إلى لوط؟ .. والجواب على هذا- والله أعلم- أن لوطا عليه السلام كان هو وآل بيته.. - غير امرأته- كلّ من آمنوا بالله فى القرية.. كما يقول سبحانه وتعالى: «فَما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 249 وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» (36: الذاريات) .. وبهذا يكون لوط ومن آمن معه من آل بيته، هم كيان واحد سليم، فى مجتمع هذه القرية الفاسدة، ومن هنا كان الحديث إلى لوط فى هذا الجسد الذي يضمه ويضمّ أهله الذين آمنوا معه، والذين هم أشبه ببعض أعضائه!. قوله تعالى: «قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ» .. الامتراء: الجدل فى غير حق.. وهذا هو الردّ الذي واجه به الملائكة إنكار لوط لهم، فقد جاءوه ببشرى أشبه بتلك البشرى التي بشروا بها إبراهيم من قبله، حين بشروه بغلام عليم.. - وفى قولهم: «بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ» إضراب على تلك المشاعر التي وقعت فى نفس لوط منهم، وأنهم ما جاءوا بما يخيفه ويؤذيه، بل جاءوا لنجدته، ولتصديق وعيده للقوم، الذين كانوا يستخفّون بما أنذرهم به من عذاب الله ونقمته.. أي إننا لم نجىء بما يخيفك، بل جئنا بالبلاء الذي كنت نتوعد به القوم فيمترون فيه، ويكذبون به.. فهذا هو ما جئناك به، وإنه للحقّ الذي كنت تتحدى به القوم وهم يكذبون ويسخرون: «وَإِنَّا لَصادِقُونَ» فيما نحدّثك به، فليفرخ روعك، وليطمئن قلبك.. قوله تعالى: «فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ» .. القطع من الليل: الجزء، والبقية الباقية منه.. والمراد به هنا، الجزء الأخير من الليل الذي يسبق الفجر.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 250 وهكذا دبّر الملائكة الأمور مع «لوط» ، وهو أن يسرى بأهله، أي يخرج بهم ليلا، من غير أن يشعر به القوم، وأن يكون هذا السّرى فى آخر اللّيل، وذلك بعد أن تسكن الحياة فى القرية، ويستغرق القوم فى نوم عميق.. وأن يكون وراء أهله السّارين معه، وعلى أثرهم، كالراعى وراء قطيعه. - وفى قوله تعالى: «وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ» إشارة إلى أن يقطعوا ما بينهم وبين القرية وأهلها من كل شعور يلفتهم إليها، ومن كل عاطفة تعطفهم نحوها. - وفى قوله تعالى: «وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ» إشارة إلى أن لوطا فى مسراه هذا لا يعرف الوجهة التي سيأخذها فى سيره، وإنما سيلهم ذلك من الله سبحانه، وسيأتيه الأمر بالاتجاه إلى الجهة التي أرادها الله سبحانه وتعالى له.. قوله تعالى: «وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ» . أي أنهينا إليه ذكر الأمر، وأفضينا إليه بما فيه، وذلك عن طريق الوحى بوساطة هؤلاء الملائكة.. وهو أن «دابر هؤلاء القوم مقطوع مصبحين» أي مهلكهم هو الصبح، بحيث لا تبقى منهم باقية.. قوله تعالى: «وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ» .. لقد أدّى الملائكة مهمتهم مع لوط، وأفضوا إليه بما جاءوا به.. ولكن كان ذلك بعد أن جاءه قومه، حين علموا بهؤلاء الضيوف الذين نزلوا عنده، يريدون الفاحشة بهم، فأقبلوا إليه، وقد طارت قلوبهم فرحا واستبشارا، بهذا الصيد السمين، الذي وقع فى الشرك! وقد دفعهم لوط عنهم، مستبشعا هذا الفعل المنكر فى ذاته، ثم هو أشد استبشاعا وإنكارا له، فى ضيوف نزلوا عنده.. قائلا: «إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي.. فَلا تَفْضَحُونِ.. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ..» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 251 وكان ردّهم عليه، هو ما حكاه الله سبحانه وتعالى عنهم فى قوله: «قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ؟» أي ألم نحذّرك من أن تتعرض لنا، وأن تحول بيننا وبين أحد من الناس أيّا كانوا، سواء أكانوا من قومنا، أو من أي قوم آخرين؟ وهذا ما تشير إليه كلمة «العالمين» التي تشمل الناس جميعا من كل جنس، ومن كل أمة.. «قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ» .. وهكذا يدفع لوط هذا المنكر بكل ما يملك من قوى الدفع.. لقد عرض على هؤلاء القوم الضالّين بناته، ليتخذوا منهن زوجات لهم، وليكون لكل منهم زوجة من نساء قريتهم.. فذلك هو الذي ينبغى أن يكون من الرجال.. «لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ» .. هذه الآية الكريمة، جاءت معترضة فى ثنايا أحداث القصة.. وفيها التفات إلى النبىّ الكريم «محمد» - صلوات الله وسلامه عليه- ليرى صورة من صور الإنسانية الضالّة، التي يستبدّ بها الضلال، ويركبها التزق والطيش، فلا تستمع لرشد، ولا تستجيب لنصح. وفى القسم بالنبيّ الكريم، تكريم له، واحتفاء بشخصه، وتمجيد لقدره، ورفع لمنزلته.. فما أقسم الحق سبحانه وتعالى بإنسان غير هذا الإنسان، وفى ذلك إشارة إلى أنه واحد الإنسانية والممثل لها.. فقد أقسم الحق سبحانه وتعالى بكثير من العوالم الأخرى، إذ كانت كلّها قائمة على ما خلقها الخالق- سبحانه- دون أن تنحرف قيد أنملة.. أما عالم البشر وحده، ففيه انحرافات لم يسلم منها إنسان، إلا أنها فى رسل الله والمصطفين من عباده لا تعدو أن تكون ذبذبات خفيفة، لا تعكرّ صفوهم، ولا تميل بهم عن الصراط المستقيم.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 252 ومحمد- صلوات الله وسلامه عليه- كان فى هذا أكملهم كمالا، وأصفاهم صفاء!! إنه الإنسان الذي تتمثل فيه الإنسانية كلها فى أعلى منازلها، وأكرم صورتها. والسّكرة: ما يعترى الإنسان من ذهاب عقله، بمعاطاة خمر أو نحوها، مما يذهب بالعقل.. والعمه: العمى والضلال.. قوله تعالى: «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ» . الضمير فى أخذتهم، يعود إلى قوم لوط، ومشرقين أي عند الشّروق.. شروق الشمس.. والصيحة، هى العذاب الذي أهلكوا به. قوله تعالى: «فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ» - هو بيان لآثار هذه الصيحة، وأنها قلبت القرية، فجعلت أعلاها أسفلها، أي أنها أتت على بنيانها، فجعلته أرضا.. ثم تبع ذلك مطر من حجارة موسومة، معّدة ومحمّلة بالمهلكات.. قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ» .. المتوسّمون هم الذين يستدّلون على حقائق الأشياء بالسّمات الظاهرة أو الخفية منها.. وهذا لا يكون إلا عن نظر متفحّص، وبصيرة نافذة.. وهذا المصير الذي صارت إليه قرية لوط وأهلها، قد خلّف وراءه كومات من تراب.. فمن رآها بنظر غافل، وعقل شارد، لم ير إلا التراب المهيل، ومن تفحص فيما وراء هذا التراب، رأى ما يجنى الضلال على أهله، وما يخلف الهوى من شؤم وبلاء وراءه. قوله تعالى: «وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ» .. أي إن هذه القرية لا تزال من مخلفات الدمار والهلاك.. قائمة حيث كانت، يراها كل من يمر بها فى هذه المواطن.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 253 قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ» أي فى هذه المخلفات آية لمن كان مستعدا للإيمان، حين تلوح له دلائل الحق، وتبدو له شواهده.. ومن إعجاز القرآن هنا ما نجده فى اختلاف النظم بين فاصلتى الآيتين فى قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ» وفى قوله سبحانه: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ» .. ومن أسرار هذا الاختلاف: أولا: أن المتوسّمين- وهم كما قلنا- أصحاب البصر الحديد والبصيرة النافذة- تتكشف لهم من ظواهر الأشياء أمور لا تتكشف لغيرهم من سائر الناس.. فهم يرون آيات، على حين يرى غيرهم آية.. «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ» وذلك فيما تحدّث به أخبار القوم الظالمين.. وثانيا: أن المؤمنين، أو من فى كيانهم استعداد للإيمان- هؤلاء، لا يحتاجون إلى كثير من الأدلة والبراهين، حتى يذعنوا للحق، ويهتدوا إلى الإيمان، وإنما تكفيهم الإشارة الدالّة، أو اللمحة البارقة، حتى يكونوا على طريق الإيمان.. «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ» .. وذلك فيما تحدث به مخلّفات هؤلاء القوم الهالكين. وثالثا: أن الإيمان أمره هيّن، ومراده قريب.. وأن القاصد إليه، الباحث عنه، لا يحتاج إلى معاناة نظر، أو كدّ ذهن، وكل ما يحتاج إليه فى تلك الحال، هو أن يخلى نفسه من التشبث، والعناد، والمكابرة، وأن يلقى وجه الإيمان بقلب سليم، ورأى مستقيم.. عندئذ يرى أن الإيمان أقرب شىء إليه، وآلف حقيقة عنده.. إذ كان جاريا مع الفطرة الإنسانية، متجاوبا مع أشواقها وتطلعاتها. هذا، وقد جاء النظم القرآنى لقصّة لوط هنا، مخالفا لما جاء عليه فى مواضع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 254 أخرى.. ذلك أن الملائكة هنا أخبروه بهلاك القوم، وبما ينبغى أن يفعله هو وأهله حتى لا ينزل بهم ما ينزل بأهل القرية من دمار وهلاك- أخبروه بهذا قبل أن يعلم أهل القرية بهم، وقبل أن يجيئوا إلى لوط يريدون الفاحشة فى هؤلاء الضيوف.. هكذا تحدث الآيات هنا.. وفى مواضع أخرى جاء النظم القرآنى على غير هذا، كما يقول الله تعالى فى سورة «هود» مثلا: «وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ» (الآيات: 77- 81: هود) وترتيب الأحداث هنا غير ترتيبها فى النظم السابق.. كما ترى.. فما جواب هذا؟ والجواب- والله أعلم- هو أن الملائكة فى هذه الآيات- قد ألقوا بالبشرى إلى لوط، حين التقوا به، ورأوا ما دخل عليه منهم من خوف وفزع، فقالوا له: «لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ» .. ثم جاءه قومه بعد ذلك، وكان ما كان منهم معه ومع الملائكة.. فكان من لوط كرب وضيق مما حلّ بالملائكة، وتشبث قومه بهم، ومحاولة الاعتداء عليهم، فكان حديث الملائكة له بقولهم: «إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ» توكيدا لما حدّثوه به من قبل، وأنهم إذا كانوا على تلك الصفة فلن ينالهم أحد بمكروه.. ثم كان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 255 من تمام ذلك أن أعادوا تذكيره بما حدثوه به من قبل، وهو أن يسرى بأهله بقطع من الليل ولا يلتفت منهم أحد إلى هؤلاء القوم الذين خلفوهم وراءهم ليلاقوا مصيرهم. الآيات: (78- 84) [سورة الحجر (15) : الآيات 78 الى 84] وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84) التفسير: أصحاب الأيكة: هم قوم شعيب.. والأيكة: الشجر الكثيف، المجتمع بعضه إلى بعض.. و «إن» فى قوله تعالى: «وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ» هى إن المخففة من الثقيلة.. واللام فى قوله تعالى: «لَظالِمِينَ» هى لام التوكيد التي تدخل على خبر إنّ.. وقد دخلت هنا على خبر كان لأن كان هى ومعمولاها خبر لأن، واسم إنّ ضمير الشأن، والتقدير: وإنه كان أصحاب الأيكة لظالمين. قوله تعالى: «فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ» .. الإمام: المقدّم، والإمام من كل شىء مقدّمه، لأنه يكون أمامه.. والمراد به هنا: الهادي والمرشد.. والمبين: الواضح البيّن.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 256 وضمير المثنى فى قوله تعالى: «وَإِنَّهُما» بعود إلى قوم لوط، وقوم شعيب.. وهذا ما يشير إليه عطف أصحاب الأيكة (قوم شعيب) على التعقيب الوارد على قصة قوم لوط، وهو قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ» فكان قوله تعالى بعد هذا التعقيب. «وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ» تعقيبا على هذا التعقيب، ويكون المعنى: إن فيما وقع لقوم شعيب من بلاء، لآية لمن كان مستعدّا للإيمان، متقبلا له، وإن أصحاب الأيكة لظالمون، إذ لم يجدوا فى هذه الآية عبرة وعظة لهم، فانتقمنا منهم كذلك، وقد كان بين يدى كل منهما إمام مبين يهديه، يكشف له معالم الطريق، فضلا عن الآيات التي كانت تطل عليهم من مصارع الظالمين فى القرون الغابرة. قوله تعالى: «وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ» هو إشارة موجزة لقصة «ثمود» قوم «صالح» عليه السلام، وسمّوا أصحاب الحجر، لأن ديارهم كانت منحوتة فى الجبال، فكانت حجرا يحجرهم عن أىّ عدو يريدهم، من إنسان أو حيوان.. ومنه الحجر، وهو العقل، وقد سمى حجرا لأنه يحجر صاحبه عن السوء، ويعصمه من الزلل. قوله تعالى: «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» الصيحة: الرّجفة، وهى نفس البلاء الذي نزل بقوم لوط، وقد أخذتهم «مصبحين» أي وقت الصبح، كما أخذت قوم لوط فى هذا الوقت «مشرقين» أي وقت الشروق. وهذا هو السرّ فى الإشارة إلى قوم صالح هنا، دون قوم «هود» ، كما اعتاد القرآن دائما أن يذكرهما معا.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 257 الآيات: (85- 99) [سورة الحجر (15) : الآيات 85 الى 99] وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) التفسير: قوله تعالى: «وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ» مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن ما أخذ الله به أهل الضلال والعناد، ممن كفروا بالله، وآذوا رسله- هو من سنن الله فى خلقه، فإنه سبحانه ما خلق السموات والأرض إلا بالحق، ولم يخلقهما عبثا أو لهو، كما يقول سبحانه: «وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ» (16. الأنبياء) . والإنسان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 258 مما خلق الله، ولم يخلق الإنسان عبثا كما يقول سبحانه: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ» (115: المؤمنون) . لقد خلق الإنسان ليعبد الله، ويسجد لربوبيته، كما يقول جل شأنه: «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» (56: الذاريات) .. وقد خصّ الجن والإنس بالذكر، لأنهما هما الكائنان اللذان فيهما إرادة قادرة على أن تنزع بهما إلى الانحراف عن عبادة الله، وعن الخروج عن طريقه المستقيم.. أو تستقيم على هدى الله. - وفى قوله تعالى: «وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ» إشارة إلى حتمية الحساب والجزاء لهذين الكائنين- الجن والإنس- من بين المخلوقات جميعا.. إذ أنهما- كما قلنا- هما الكائنان اللذان يقع منهما الانحراف، ويكثر فيهما المنحرفون عن طريق الحق، الذي أقام لله سبحانه وتعالى الخلق عليه. ففى هذا الجزاء الذي يلقاه المنحرفون تقويم لهم، وإصلاح لشأنهم.. - وفى قوله سبحانه: «فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ» عزاء للنبى، ومواساة له، وربط على قلبه، لما يلقى من عناد المعاندين، وسفاهة السفهاء من قومه.. فالساعة آتية، وفيها يسوّى حساب هؤلاء الضالين، فليلق النبىّ سفاهاتهم وحمقاتهم بالصفح الجميل، وليدعهم ليوم الفصل: «يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ» (13- 14: الطور) . وقوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ» هو تعقيب على ما تضمنته الآية السابقة، من أن الله سبحانه خلق السموات والأرض بالحق، وأن الساعة آتية لتجزى كل نفس بما كسبت.. وفى وصف الحق جل وعلا بأنه «الخلاق» إشارة إلى أنه يبدع فيما خلق، يخلق.. السماء والأرض.. والنهار والليل، والملك والشيطان، والإنسان الذي يعلو فيكون مع الملائكة، ويسفّ فيكون مع الشياطين.. وفى وصفه سبحانه بأنه «العليم» إشارة أخرى إلى أن هذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 259 التنويع فى الخلق، إنما هو عن تقدير وعلم وحكمة.. وفى إضافة النبي الكريم إلى ربه سبحانه وتعالى «ربك» ، إيناس للنبى، وتكريم له، حيث تحفّه ألطاف ربه، الذي يدنيه إليه، ويضيفه إلى رحاب ذاته العليّة. قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ» . اختلف فى السبع المثاني.. ما هى؟ فقيل إنها السبع الطوال من سور القرآن الكريم: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، (والأنفال، والتوبة. باعتبارهما سورة واحدة) وقيل إنها الحواميم السبعة، وهى غافر (المؤمن) والسجدة (فصلت) والشورى، والزخرف، والدخان، والجاثية، والأحقاف.. وقيل إنها الفاتحة.. (أم الكتاب) . والرأى الذي نطمئن إليه، أن السبع المثاني، هى الآيات السبع التي احتوتها أم الكتاب.. وسميت مثانى لأنها ثناء خالص على الله.. ليس فيها قصص، أو أحكام، أو غير هذا مما تضمنه القرآن الكريم.. فهذه السبع المثاني هى: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ..» «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ..» «الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ..» «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ..» «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ..» فهذا ثناء خالص على الله سبحانه. وتسبيح بحمده، وولاء بالعبادة له وحده، واستمداد للعون منه وحده، والبراءة من كل ما سواه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 260 «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» «صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ..» وهذا دعاء خالص لله سبحانه، والدعاء تسبيح وعبادة، بل هو- كما قيل- مخّ العبادة.. فهذه الآيات السبع هى ثناء على الله.. سواء ما كان منها تسبيحا صريحا، أو تسبيحا فى صورة دعاء.. والمثاني، جمع مثناة، وهى مفعلة من الثناء، اسم مرّة، أو مصدر ميمى.. - قوله تعالى: «وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ» عطف على «سبعا» . من عطف الكل على الجزء، إلفاتا إلى الجزء، واحتفاء به.. كما تقول أكلت العنب والفاكهة.. واختصاص الفاتحة بالذكر، مع أنها من القرآن الكريم، للتنويه بها، لأنها أم الكتاب، وهى التي اختصت من بين آيات القرآن الكريم بأن تكون الذكر الذي يذكر به الله سبحانه وتعالى فى الصلاة.. فمن صلى بغيرها كانت صلاته ناقصة، كما فى الأثر: «من صلّى بغير أم الكتاب فصلاته خداج» أي ناقصة، كما يولد المولود لغير تمام، فيقال: ولد خداجا.. وفى وصف القرآن الكريم بقوله تعالى: «وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ» إشعار بأن تقديم أم الكتاب عليه، وإن كان فيه تنويه بها، ورفع لقدرها، فإنه لا ينقص من عظمة القرآن، ولا ينزل من منزلته العالية التي لا تنال.. فهو القرآن العظيم. قوله تعالى: «لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ» . مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة كانت تمهيدا لهذه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 261 التوجيهات التي تلقاها النبي الكريم من الله سبحانه وتعالى.. فقد ذكّر النبي- صلوات الله وسلامه عليه- فى الآية السابقة بما بين يديه من نعمة عظيمة، وفضل كبير من ربه.. فلقد آتاه الله السبع المثاني والقرآن العظيم.. وهذا عطاء لا توزن الدنيا كلها وأهلها، بكلمة من كلماته.. - وفى قوله تعالى: «لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ» - استصغار لهذا الزخرف من الحياة الدنيا الذي جعله الله سبحانه وتعالى متاعا لهؤلاء المشركين الضالين، وإنه لا ينبغى للنبى الكريم أن يلتفت إلى شىء من هذا المتاع، راضيا بهذا الفضل العظيم الذي بين يديه من كلمات ربه، واصطفائه لتلقيها وحيا من السماء، مستغنيا عن كل ما فى هذه الدنيا من مال ومتاع. - وفى قوله تعالى: «أَزْواجاً مِنْهُمْ» إشارة إلى كثرة من أنعم الله عليهم، وابتلاهم بهذه النعم من المشركين.. فالأزواج كثرة، والأفراد قلة ثم إن التزاوج فى ذاته نعمة من نعم الله، كما يقول سبحانه مذكّرا بهذه النعمة: «وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً» (8: النبأ) . وفى قوله تعالى «مِنْهُمْ» تهوين لشأنهم، وإضراب عن ذكرهم، بالحديث عنهم بضمير الغائب، فهم غائبون وإن كانوا حاضرين.. - وفى قوله تعالى: «وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ» استخفاف بهم أيضا، وأنهم لا يستحقون أن يحزن النبي، أو يجد فى نفسه شيئا من هذا الضلال الذي هم فيه، ولهذا المصير المشئوم الذي ينتظرهم.. فهم أهل لهذا الضلال، وهذا المصير الذي هم صائرون إليه وإن كانوا أهله، وقرابته. - وقوله تعالى: «وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ» احتفاء بشأن للمؤمنين، ورفع لمنزلتهم، وأن على النبي أن يلقاهم حفيّا بهم، مكرما لهم، متجاوزا عن هناتهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 262 قوله تعالى: «وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ» - هو إعلام للنبى بالأذان الذي يؤذّن به فى الناس جميعا، وهو أنه النذير المبين، الذي يكشف لهم معالم الطريق إلى الهدى، ويريهم مغبة التنكّب عن هذا الطريق، وركوب طرق الكفر والشرك.. وقد قالها النبىّ الكريم صريحة لهم كما جاء فى قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا النذير العريان» أي الفزع، كالنذير الذي جاء ينذر قومه بالهلاك المقبل عليهم، فأعجله ذلك عن أن يلبس ملابسه، فجاءهم عريانا. قوله تعالى: «كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ» . المقتسمين: الذين اقتسموا كلام الله، فأخذوا بعضه، وأعرضوا عن بعض.. وهؤلاء هم أهل الكتاب من اليهود الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم: «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» (85: البقرة) .. والعضين: جمع عضو، وأصله عضوين. والتشبيه فى قوله تعالى: «كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ» يشير إلى المشبه، وهو قوله تعالى «وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ» أي قل هذا القول لقومك، كما قاله الرسل السابقون إلى أقوامهم، فيما أنزلنا على هؤلاء المقتسمين من أهل الكتاب على يدرسلهم.. إذ كل رسول كان لسانه إلى قومه هو قوله: «إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ» . - وقوله تعالى: «الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ» هو صفة للمقتسمين، وكشف عن معنى ما اقتسموه، وهو القرآن الكريم الذي قبلوا بعضه، وردّوا بعضه، فجعلوه أبعاضا، وهذا- فوق أنه كفر- هو سفه، ومكر بآيات الله.. فإن الحقّ كيان واحد، فإما أن يقبل كله، أو يرد كلّه.. والقرآن الكريم إما أن يكون كلام الله، فيقبل، أولا يكون من كلام الله، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 263 فيردّ.. أما أن يقبل بعضه ويردّ بعضه، فذلك هو النفاق العقلىّ، الذي يخون به المرء نفسه، ويخادع منطقه. قوله تعالى: «فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ» تهديد لهؤلاء المشركين المعاندين من قريش، وهؤلاء المكذبين المنافقين من أهل الكتاب، ولهذا جاء قوله تعالى «أجمعين» جامعا لهم جميعا فى موقف المساءلة، والجزاء.. قوله تعالى. «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ» . الصدع: أصله الشقّ فى المواد الجامدة.. ومنه قوله تعالى: «لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» (21: الحشر) . والمراد بالصدع الذي أمر به النبي هنا، هو أن يكشف عما أوحى إليه من ربّه، وأن يظهره للناس، ويبلغه إياهم.. والتعبير عن هذا بالصدع، يشير إلى أمرين: فأولا: أن هذه المهمة التي يقوم بها النبي مهمة شاقة عسيرة، من شأنها أن يتصدع لها كيان الإنسان، كما تتصدع الأرض حين تنشق عن النيات المخبوء فى صدرها.. كما يقول جل شأنه: «وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ، وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ» (11- 12: الطارق) ، وإلى ثقل هذه المهمّة يشير قوله تعالى: «إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا» (5: المزمل) وثانيا: أن هذا الذي يصدع به النبىّ ويخرجه من صدره، هو مما تتزوّد به النفوس، وتحيا عليه القلوب، كما تتزود الأجساد بما تخرج الأرض من حب وثمر، يمسك وجودها، ويحفظ حياتها.. قوله تعالى: «إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» هو تطمين للنبىّ، وتثبيت له على طريق دعوته، وعون من الله له، على أداء مهمته الثقيلة. وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي سيتولى حساب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 264 هؤلاء الذين يقفون فى طريقه، يهزءون به، ويسخرون منه، وليس هذا منهم وحسب، بل إنهم ليجعلون مع الله إلها آخر.. فجريمتهم جريمتان.. استهزاء بالنبيّ، وكفر بالله، وواحدة منهما مهلكة لمقترفها، فكيف بمن اقترف الجريمتين معا؟. - وفى قوله تعالى: «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» تهديد ووعيد لهؤلاء المستهزئين بالرسول، الكافرين بالله.. قوله تعالى: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» . التعبير بفعل المستقبل «نعلم» مع أن علم الله سبحانه وتعالى حاضر- إشارة إلى أن ما كان من المشركين من استهزاء بالنبي، وما يكون منهم، فإن الله يعلمه علما قديما قبل أن يكون، وعلما مقارنا للفعل بعد أن يقع. وما يقوله المشركون مما يضيق به صدر النبي، هو ما يرمونه به من قولهم: شاعر مجنون، وقولهم: هو كاذب، وقولهم: هو ساحر.. مما حكاه القرآن من مقولاتهم الحمقاء فى النبىّ الكريم.. - وقوله تعالى: «فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ» هو إلفات للنبى ألّا يعطى أذنه لهذا اللغو الذي يلغو به هؤلاء المشركون، وأن يدع أمرهم إلى الله، فهو الذي يعلم ما يأتون من منكرات فى جانب النبىّ، والله سبحانه هو الذي يتولّى حسابهم، ويكفيه استهزاءهم.. ومن ثمّ وجب على النبىّ أن يتجه بكيانه كله إلى حمد ربّه، والسجود له، حمدا وشكرا، على ما أولاه من نعمه، وأفضاله.. - وقوله تعالى: «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» معطوف على ما قبله وهو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 265 قوله تعالى: «فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ» .. أي اجعل هذا التسبيح، وذلك السجود، عبادتك لله، حتى آخر نفس من أنفاسك فى هذه الحياة، حيث يأتيك اليقين، وهو وعد الله الذي يشهد عنده الإنسان مشاهد الحق، وعندها يستيقن ما كان يؤمن به، أو ينكره، أو يشك فيه، من لقاء ربّه، ومن الحساب والجزاء.. فللإنسان عند لقاء الموت صحوة يطّلع منها على ماوراء هذه الدنيا، فإذا مات، رأى عالم الحقّ عيانا.. وفى هذا يقول النبىّ الكريم: «الناس نيام.. فإذا ماتوا انتبهوا» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 266 16- سورة النحل نزولها: مكية.. إلا آيات منها فمدنية عدد آياتها: مائة وثمان وعشرون آية عدد كلماتها: ألفان وثمانمائة وأربعون كلمة عدد حروفها: سبعة آلاف، وسبعمائة، حرف، وسبعة أحرف بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الآيات: (1- 9) [سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 267 التفسير: بهذا البدء: «أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ» تبدأ هذه السورة، فيلتقى بدؤها مع ختام السورة التي قبلها، وكأنه جواب على سؤال تلوّح به الآية التي كانت ختاما للسورة السابقة.. ففى ختام سورة الحجر، كان قوله تعالى: «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» - كان هذا مثيرا لبعض الأسئلة: ما هو اليقين؟ ومتى هو؟ وهل يطول انتظاره؟ وقد جاء قوله تعالى: «أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ» مجيبا على هذه الأسئلة. فاليقين: هو أمر الله، وهو يوم القيامة.. وقد كان المشركون يسألون.. منكرين هذا اليوم، ومستعجلين وقوعه إن كان له وجود، وفى هذا يقول الله تعالى: «فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً» (51: الإسراء) .. ويقول سبحانه: «اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها» (17- 18: الشورى) . أما موعد هذا اليوم، فعلمه عند الله.. ولكنه قريب.. وهل بعيد هو ذلك اليوم الذي ينتهى فيه عمر الإنسان، ويفارق هذه الدنيا؟ إن الموت قريب من كلّ إنسان، فقد ينتزع روحه وهو قائم، أو قاعد، أو سائر. فليس للموت نذر يقدمها بين يديه لمن انتهى أجله.. وإذن فالموت مصاحب لكل إنسان، دان منه، ممكّن من انتزاع روحه فى أي لحظة من لحظات حياته.. وإذا مات الإنسان، فقد قامت قيامته، بمعنى أنه رحل من الدنيا، دار الفناء، إلى الآخرة، دار البقاء.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 268 - وفى قوله تعالى: «أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ» تقرير لحقيقة واقعة، وهى أن أمر الله، وهو انتقال الناس من دار الفناء إلى دار البقاء- قد أتى فعلا منذ كان للناس حياة على هذه الأرض.. فلم يستعجلون أمر الله فيهم، وهو موجود بينهم، عامل فيهم؟ إن الموت يأتى كل يوم على أعداد كثيرة من الناس، فمن لم يمت اليوم، فهو سيموت غدا أو بعد غد فلم يستعجل الناس أمرا يطلبهم؟ وفى قوله تعالى: «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» تنزيه لله سبحانه وتعالى عن هذا الشرك الذي هم فيه، وعن هؤلاء الشركاء الذين يعبدونهم من دونه.. ثم هو إلفات لهم إلى أن يخرجوا من هذا المنكر الذي هم فيه، وقد أظلّهم يوم القيامة، ونزل بهم أمر الله.. فإنهم إن لم يسرعوا للفرار مما يعبدون من دون الله، أدركهم الموت، ووقعوا فى شباكه ولم يكن لهم ثمّة سبيل إلى النجاة.. وقوله تعالى: «يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ» . هو نذير بين يدى أمر الله الواقع، ينذر هؤلاء المشركين، أن يتخلصوا من شركهم، وأن يخلصوا عبادتهم لله وحده، وأن يتقوه، ويحذروا عقابه.. فهو سبحانه- رحمة بعباده- قد بعث فيهم رسله، وأمرهم أن ينذروا الناس بما أوحى إليهم من أمره، الذي هو دعوة إلى الإيمان به، والولاء له، والبراءة من كل شريك.. والرّوح، هو أمر الله الذي تحمله الملائكة إلى رسل الله، وهو كلماته المنزلة على الرسل، وسميت روحا لأن فيها الحياة للناس، فمن لم يأخذ حظّه منها، فهو ميت، وإن كان فى عالم الأحياء.. وفى هذا يقول الحق جلّ وعلا: «أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها» (122: الأنعام) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 269 قوله تعالى: «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ» . هو استعراض لقدرة الإله الواحد، الذي يدعو رسل الله إلى عبادته وحده.. فهو سبحانه الذي خلق السموات والأرض بالحقّ.. فحقّ على هذه المخلوقات جميعها أن تعبده، وأن توجه وجوهها إليه.. - وفى قوله تعالى: «خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ» - إشارة إلى أن الإنسان، وهو مما خلق لله، قد خرج عن الولاء لله، وكفر به، ووقف خصما لله، ويحاربه.. وهو- أي الإنسان- مخلوق ضعيف خلق من ماء مهين، وجاء من نطفة أمشاج، ولكنّ قدرة الله، قد صورت من هذا الماء المهين، ومن تلك النطفة القذرة كائنا، له عقل، وله إرادة، وقد كان جديرا به أن يرتفع بعقله وإرادته عن عالم الطين، وأن يسمو إلى مشارف العالم العلوي، إلا أنه قد استبد به الغرور، واستولى عليه الهوى، فكان أن كفر بخالقه، وجحد الرّبّ لذى أنشأه وربّاه «إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» (34: إبراهيم) وقوله تعالى: «وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» .. هذا عرض لبعض مظاهر قدرة الله، وفضله على عباده، الذين كفروا بنعمته، وضلوا عن سبيله. فهو- سبحانه- الذي خلق الأنعام كلها، ينتفع الإنسان منها فى وجوه كثيرة.. فمنها كساؤه وغطاؤه، الذي يدفع عنه عادية البرد والحر، ومنها طعامه الذي يغتدى به، فيأكل من لحمها، ولبنها.. ومنها يجد الرّوح لنفسه، والبهجة لعينيه، إذ يراها، غادية رائحة بين يديه، وعليها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 270 يحمل أثقاله، وبمتطيها ركوبة له إلى أماكن بعيدة، لم يكن يبلغها سعيا على قدميه إلا بشق الأنفس.. وذلك من رحمة الله به، وشفقته عليه.. «إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ..» وقوله تعالى: «وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ» . هو تفصيل لهذا الإجمال الذي جاء فى قوله تعالى: «وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ» . فمن هذه الأنعام: الخيل والبغال، والحمير.. وهى دواب الركوب والحمل، ومراكب البهجة والمتعة، حيث يستوى الإنسان على ظهرها، فيجد لذلك ما ببهجة، ويشرح صدره، ويعلى فى الناس منزلته وقدره. - وفى قوله تعالى: «وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ» إشارة إلى ما خلق الله من مخلوقات لا يعلمها إلا هو، ولا يملك تسخيرها إلا هو، إذ لا تخضع لسلطان الإنسان، ولا تستجيب لعلمه. - وفى قوله تعالى: «وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ» إشارة إلى أن من هذه الحيوانات ما هو مستجيب لحاجة الإنسان، قد يسر الله سبحانه وتعالى طبيعته حتى توافق طبيعة الإنسان وتألفه، ومنها ما هو جائر، أي منحرف عن وجهة الإنسان، غير متلاق معه، أو آلف له. - وفى قوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ» دفع لهذا الاعتراض الذي يندفع فى بعض الصدور، حين يرى أصحابها هذه المخلوقات الكثيرة التي لا تفيد الإنسان. بل ربما كانت أعداء تتربص الشر به، وتتحين الفرصة للقضاء عليه، فينكر خلق مثل هذه الحيوانات، ولا يعترف لها بحق الوجود على الأرض، إذ لا حكمة من خلقها، ولا فائدة من وجودها، فى تقدير الإنسان وحسابه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 271 وهذا خطأ من وجوه. فأولا- ليس الإنسان وحده هو المالك لهذه الأرض، المستقل بها.. بل إنه كائن من كائناتها، ومخلوق من مخلوقات الله فيها. وكونه خليفة الله على الأرض ليس بالذي يمنع من أن يكون معه غيره.. بل أن خلافته لا تتم إلا إذا كانت له رعايا يسوسها، ويقوم على تدبيرها. وأنه كلما تعددت هذه الرعايا، واختلفت صورها وأشكالها، كان ضبط الإنسان لها، وسيادته عليها، دليلا على أهليته لهذه الخلافة، واستحقاقه لها.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ» (38: الأنعام) وثانيا- ليس ما لا ينتفع به الإنسان دليلا على أنه غير ذى نفع له، فقد يكون فيه نفع كثير للإنسان ذاته، وإن خفى ذلك عنه.. وأنه إذا لم يكن فى مقدور الإنسان الآن أن يسخر كثيرا من المخلوقات، وينتفع بها، فقد يستطيع يوما أن يجد الوسيلة التي تمكّن له من الانتفاع بها فى وجوه كثيرة.. فقد كان الإنسان الأول يخاف جميع هذه الحيوانات التي استأنسها اليوم وسخرها، بل إنه كان ليعبد بعضها اتقاء لشرّه، فأصبح الآن يتخذها مركبا له!! وثالثا: أن هذه الحيوانات، هى من قوى الطبيعة، التي استطاع الإنسان بذكائه، أن يدلل كثيرا من تلك القوى التي كانت فى وقت ما قوى مخيفة، تهدّد أمن الإنسان وسلامته، فما زال بها حتى انقادت له، وأصبحت قوة مسخرة بين يديه، سواء أكانت تلك القوى من عالم الحيوان أو عالم الجماد.. ومطلوب من الإنسان أن يوجّه مدركاته كلها، إلى كل حرون شارد من هذه القوى، ويتعرف إلى مواطن الخير فيها.. وبهذا تظل مدركات الإنسان معاملة غير معطلة، تزداد مع الأيام قوة وتمكينا.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 272 رابعا: لماذا يرى الإنسان هذه الانحرافات فى عالم الحيوان- وهى انحرافات من وجهة نظره هو- ثم لا يرى ما يموج فى مجتمعه الإنسانى من منحرفين وضالين؟ أليس هذا من ذاك سواء بسواء؟ فكما فى الناس مصلحون ومفسدون، ومهتدون وضالون، كذلك فى عالم الحيوان، المسالم والشرس، والأليف والمتوحش.. هكذا أنتم أيها الناس، وهكذا عالم الحيوان.. «وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ» الآيات: (10- 19) [سورة النحل (16) : الآيات 10 الى 19] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 273 التفسير: ومن عالم الحيوان، وما فيه من نافع وضار، ومسالم ومشاكس، إلى النبات الذي يتغذى من ضرع السماء، فتتزين الأرض بأشجاره وأزهاره، ويطعم الإنسان من حبّه وفاكهته.. ومن عالم الأرض وما فيها من حيوان ونبات، إلى عالم السماء، وما فيها من شمس وأقمار ونجوم- ففى كل عالم، وعلى كل موقع منه، نظر لناظر، وعبرة لمعتبر. وفى قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ» - مظهر من مظاهر قدرة الله.. فهو سبحانه الذي أنزل من السماء ماء، فيه حياة كل حىّ، فيه حياة الإنسان، وحياة الحيوان، طعاما وشرابا. - وقوله تعالى: «فِيهِ تُسِيمُونَ» أي فيه ترعون أنعامكم.. وسمّيت الأنعام سائمة، لأنها تسم الأرض بأرجلها، أي تترك فيها أثرا، أو تسم المراعى بما تأكل منها، فتترك آثارها عليها.. وفى قوله تعالى: «يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ» .. بيان لما تخرجه الأرض من نبات يطعم منه الإنسان، بعد أن أشارت الآية السابقة إلى ما تخرج الأرض من نبات ترعاه الأنعام.. قوله تعالى: «وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» - إشارة إلى مظهر من مظاهر القدرة الإلهية، وما تفيض على الناس من نعم. فبقدرته- سبحانه- سخّر لنا الليل والنهار، وجعلهما يتعاقبان، على هذا النظام، الذي قاما عليه، وانتظم وجودنا به.. - وفى قوله تعالى: «وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ» .. يمكن أن تكون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 274 الواو للحال، والجملة بعدها حالا، من فاعل الفعل «سخّر» وهو الله سبحانه وتعالى.. والتقدير: وسخّر لكم الليل والنهار والشمس والقمر، فى حال أن النجوم مسخرات بأمره.. وبهذا يرتبط النظام الكونى للكواكب والنجوم بعضه ببعض، وتنتظمه حال واحدة، وهى التسخير لقدرة الله.. ويمكن أن تكون الواو للاستئناف، لا للعطف، على اعتبار أن للنجوم- فى ظاهر الأمر- وضعا غير وضع الليل والنهار والشمس والقمر.. إذ أن حركة الليل والنهار، والشمس والقمر، حركة تظهر آثارها، وتنطبع صورتها على الوجود الأرضى، بحيث يتأثر بها كل كائن. فى هذا الوجود، وينظم وجوده عليها.. وليس كذلك شأن النجوم.. إذ يمكن أن يهمل الإنسان شأن النجوم، فلا يلتفت إليها، ولا يقيم وزنا لوجودها، دون أن تتأثر حياته كثيرا بذلك، أو يشعر بأن شيئا ذا بال قد افتقده.. ومع هذا، فإن للنجوم شأنا كشأن الشمس والقمر، وأنها مسخرة بيد القدرة، كالشمس والقمر، وإن كان الإنسان فى غفلة عنها، ولهذا جاءت فاصلة الآية: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» لتلفت العقل إلى هذه الظاهرة، ظاهرة النجوم وحركاتها فى السماء، وتسخيرها فى مداراتها، وأن أصحاب العقول وحدهم هم الذين يرون هذه الظاهرة، ويتعرفون إلى آثار رحمة الله وقدرته.. وأنه إذا التفت العقل إلى هذه النجوم التفاتا جادّا متفحّصا، وجد عالما رحيبا لا حدود له، وأكوانا عجيبة تذهل لجلالها العقول، وتخشع لروعتها القلوب.. إذ ليست هذه النجوم التي تبدو وكأنها حبّات من اللؤلؤ المنثور فى السماء، إلا أجراما أكبر من الشمس، وأن أصغر نجم فيها يعدل جرم الشمس آلاف المرات، وأن صغر حجمها، وقلة ضوئها بالنسبة للشمس إنما مرجعهما إلى بعدها البعيد عنّا، حتى ليبلغ مدى هذا البعد مئات الألوف، وألوف الألوف من السنين الضوئية، كما كشف عن ذلك علم الفلك..؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 275 ولعلك- بعد هذا- تدرك السرّ فى اختلاف فاصلة هذه الآية، عن الآية التي قبلها، والآية التي بعدها، حيث جاءت ثلاثتها هكذا: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ..» «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ..» «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ..» (فاختصّت آية الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم، بأصحاب العقول، كما اختصت بأن فيها «آيات» لقوم يعقلون، لا آية واحدة! .. ففى كل نجم آيات وآيات) (على حين اختصت آية الماء والزروع، بمن يتفكرون، فيرون فيما وراء هذا الظاهر الذي يجابه حواسّهم، دلائل تدل على قدرة الله وعلمه وحكمته) .. (ثم كان الإلفات إلى عالم النبات، وإلى اختلاف ألوانه وطعومه آية بعد آية لقوم يذّكرون، فيربطون بين هذه الوجوه المختلفة للنبات، ويصلون بعضها ببعض) .. قوله تعالى: «وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ» .. ذرأ: خلق، وأوجد.. والذرء: إظهار الشيء.. والآية معطوفة على الآية التي قبلها، والتقدير، وسخر لكم الشمس والقمر، وسخر لكم ما ذرأ.. و «مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ» حال.. والمعنى، أن الله سبحانه قد سخّر لكم ما أنبت فى الأرض من نبات، مختلف الألوان، فجعله مستجيبا لكم، جاريا على ما ألفتموه منه، تغرسون الحب، فينمو، ويزهو، ويثمر.. هكذا على نظام لا يتخلّف أبدا.. إنه آلة مسخرة، لا يملك من أمره شيئا.. إذ ليس له إرادة يمكن أن تخرج به عن السّنن المعهود له، والنظام الذي أقامه الله سبحانه وتعالى عليه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 276 قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» . تتحدث الآية هنا عن مقطع من العالم الأرضى، وهو مقطع البحار، وما سخّر الله سبحانه وتعالى فيها من منافع للناس.. حيث يؤكل منها السمك، ويستخرج منها اللؤلؤ والمرجان للزينة، وتجرى فيها السفن، تحمل الناس والمتاع من بلد إلى بلد.. وفى هذه الآية أمور.. فأولا: إفراد كلمة «البحر» .. وهذا يشير إلى أن عالم الماء كائن واحد، وأن أجزاءه الداخلة فى اليابسة متصلة به، بحيث ينبض كله بحياة واحدة، ويأخذ جميعه مستوى واحدا.. وثانيا: لم تذكر الأنهار، مع أنها مصدر الماء العذب الذي يحيا عليه الإنسان والحيوان والنبات، كما أنها كالبحر.. يؤكل منها السمك الذي يعيش فيها، وتجرى عليها السفن- وذلك لأن الأنهار وليدة البحار، فهى فرع من أصل، وذكر الأصل يغنى عن ذكر الفرع.. إنه أي البحر عالم وحده، وسيجيئ للأنهار ذكر فى مكانها، حين يجىء ذكر الأرض.. وثالثا: وصف لحم السمك بأنه لحم طرىّ، إشارة إلى أنه يختلف عن لحم الحيوان، من ضأن، وبقر، وجمل، وغيرها.. لأن لحم السمك هشّ، طرى، غير متماسك تماسك لحم هذه الحيوانات.. وهو لهذا هيّن المضغ، سهل الهضم.. ورابعا: فى قوله تعالى: «وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ» - عدول عن خطاب الجمع إلى المفرد، وفى هذا مزيد عناية إلى هذه الظاهرة، وتوجيه نظر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 277 الإنسان إليها بذاته، دون أن يكون نظره من وراء نظر الآخرين، أو معهم، وذلك ليشهد بنفسه بعض مظاهر قدرة الله وحكمته، فى هذه الفلك التي تمخر عباب الماء، محمولة على ظهره بأثقالها، وما عليها من إنسان، ومتاع.. على حين أنك لو ألقيت فى هذا الماء حصاة لهوت إلى القاع! فكيف بهذا الماء، يحمل هذه السفن التي كالجبال على ظهره، دون أن تهوى إلى قاعه؟ قوله تعالى: «وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلاماتٍ، وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ» .. وفى مقابل هذا البحر، وما فيه من نعم، هذه الأرض اليابسة وما فيها لله من آيات، وما تحدّث به تلك الآيات من قدرة الله، وحكمته.. - وفى قوله تعالى: «وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ» وفى التعبير عن إرساء الجبال على الأرض بقوله تعالى: «أَلْقى فِي الْأَرْضِ» إشارة إلى أنها جاءت من عل، وذلك لعلوّها وإشرافها على الأرض. وفى تعدية الفعل «ألقى» بحرف الجر «فى» بدلا من «على» إشارة أخرى إلى أن هذه الجبال لم تطرح على الأرض طرحا، بل غرست فيها غرسا، كما تغرس الأوتاد فى الأرض.. كما يقول جل شأنه: «أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً» ؟ (6- 7: النبأ) . - وقوله تعالى: «أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ» علة كاشفة عن بعض الحكمة فى غرس هذه الجبال فى الأرض، وذلك لأن وجودها على الأرض يعطى الأرض تماسكا وصلابة، فلا تضطرب أو تهتزّ أو تذوب فى مياه البحار، كما يذوب الملح فى الماء. - وقوله تعالى: «وَأَنْهاراً وَسُبُلًا» معطوف على قوله تعالى: «وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ» أي وشق فيها أنهارا وسبلا أي طرقا.. وهذه الأنهار الجزء: 7 ¦ الصفحة: 278 والطرق، هى التي تيّسر للإنسان الانتقال من مكان إلى آخر، فتصل الناس، بعضهم ببعض، حيث يتبادلون المنافع بينهم.. - وفى قوله تعالى: «لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» إشارة إلى ما لهذه الأنهار، والسبل من آثار فى هداية الناس، واتخاذها معالم يتعرفون بها وجوه الأرض ومكانهم منها، ومتّجههم فيها، ولولا ذلك لكانت الأرض أشبه بصفحة بيضاء، ليس فيها شىء يقرأ، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَعَلاماتٍ» أي أن هذه الأنهار والسبل كما أنها طرق للسالكين يهتدون بها إلى وجهاتهم التي يقصدونها، هى كذلك معالم، وسمات لبقاع الأرض المختلفة، تميز بعضها من بعض. ويجوز أن تكون «علامات» معطوفة على «أنهارا وسبلا» أي وجعلنا فى الأرض أنهارا وسبلا تهتدون بها، وجعلنا فيها كذلك «علامات» تميز بعض الجهات عن بعض، فبعض الأرض صحارى، وبعضها غابات، وبعضها أحراش، وبعضها سهل، وبعضها وعر.. وهكذا.. - وقوله تعالى: «وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ» هو معطوف على قوله تعالى: «لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» بهذه الأنهار والسبل، وتهتدون كذلك بالنجوم.. وفى العدول عن الخطاب إلى الغيبة حيث جاء النظم القرآنى «وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ» بضمير الغائب، على حين أن سياق النظم يقتضى أن يجىء بضمير المخاطب هكذا: - وبالنجم أنتم تهتدون- فى هذا العدول إشارة إلى أمور.. منها: أولا: أن النجوم فى السماء مشرفة على الناس جميعا، بحيث لا يراها أحد دون أحد، على خلاف الأنهار والسبل، فإنها تختلف فى مكان عنها فى مكان آخر.. وتوجد فى أمكنة ولا توجد فى أخرى.. ومن هنا كان الخطاب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 279 فى حال الأنهار والسبل، ليكون ذلك فى مواجهة من عندهم الأنهار والسبل.. وكانت الغيبة فى حال النجم، ليكون ذلك حديثا عاما للناس جميعا غائبهم وحاضرهم.. ذلك أنه إذا كان الغائبون يهتدون بها، فأولى أن يهتدى بها المخاطبون.. ومن ثمّ فلا داعى لذكرهم، إذ هم مذكورون من باب أولى.. وثانيا: الأنهار والسبل، لا يهتدى بها إلا كلّ من أعمل عقله، وأجهد تفكيره، وأحسن التدبير، وإلا ضلّ الطريق.. فركوب الأنهار، والطرق يحتاج إلى فطنة وذكاء، وإلى جمع خاطر، وحضور فكر.. ومن هنا كان مقتضى الحال أن ينبه إلى ذلك بهذا الخطاب.. أما النجم فهو علامة ظاهرة ثابتة، لا تتبدّل ولا تتحول.. وما هى إلا نظرة يلقيها الناظر إليه، حتى يكون على علم بوجهته التي يريد أخذها.. ومن ثمّ لم يكن ما يدعو إلى استحضار من يهتدون به.. هذا وقد أفرد «النجم» هنا، لأن النجم الذي يهتدى به فى التعرف إلى الجهات هو نجم واحد، وهو النجم القطبي.. وهذا لا يمنع من أن يكون هناك نجوم أخرى يهتدى بها السائرون فى الليل، ولكنها ليست نجوما ثوابت، كالنجم القطبي.. فبعض النجوم تظهر صيفا، وبعضها شتاء. أما النجم القطبي فهو ظاهر أبدا، وفى مكان ثابت دائما.. ومن أجل هذا اختص «النجم» بالذكر هنا، حيث كان فى سياق تعداد نعم الله، فيما هيأ سبحانه للناس من معالم للتعرف بها على مسالك الجهات والبلاد.. ولم يكن للنجم هذا الاختصاص، حين كانت الإشارة إلى هذه النعمة إشارة عامة فى سياق نعم أخرى، فذكر مع غيره من النجوم فى قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» (97: الأنعام) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 280 قوله تعالى: «أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ» هو تعقيب على هذه النعم التي بثّها الله سبحانه وتعالى فى الأرض، وفى السماء، وفى البحار، وفى اليابسة.. وفى هذا استحضار لعظمة الله وقدرته، فى مواجهة هؤلاء المعبودين الذين يعبدهم المشركون، ويسوّون بينهم وبين الخلاق العظيم.. وفى تلك المواجهة يظهر قدر هذه المعبودات، وتنكشف ضآلة شأنها عند من ينظر إليها، وينتفع بما يجىء به إليه نظره منها، إذا هو وازن ذلك بما يأتيه به النظر فى آيات الله ومبدعاته فى هذا الوجود.. قوله تعالى: «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» هو خطاب لأولئك الذين نظروا فى آيات الله، وفى النعم التي أفاضها عليهم، وجعلوا يقرءون فى صحف الوجود هذه الآيات وتلك النعم، وإنهم لن ينتهوا أبدا من القراءة، ولن يطووا هذه الصحف، إذ كلما نظروا إلى آيات الله، جاءهم منها جديد، لا يحصيه عدّ، ولا يحصره عدد.. - وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» إشارة إلى أن هذه النعم التي أفاضها الله على عباده، والتي لا تحصى عددا، لا يقوم بشكرها الشاكرون، ولو أفنوا أعمارهم يسبحون بحمد الله ويشكرون له، ومع هذا فإن الله يقبل منهم القليل من الشكر، ويتجاوز لهم عن كثير.. «إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» .. قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ» .. أي أن شكر الشاكرين وحمدهم، سواء أكان سرّا أو جهرا، هو معلوم لله، وأنه مقبول عنده السرّ والجهر، كما يقول سبحانه. «إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» (271: البقرة) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 281 الآيات: (20- 29) [سورة النحل (16) : الآيات 20 الى 29] وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) التفسير: قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ» - هو جواب لمن أعماه الضلال، فلم يجد الجواب لقوله تعالى: «أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 282 لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ» .. فهؤلاء الذين جعلهم المشركون آلهة يعبدونهم من دون الله، لا يخلقون شيئا، بل هم مما خلق الله، سواء أكانوا أحجارا أو أناسا أو ملائكة.. فكل ما فى هذا الوجود مخلوق لله. وهو وحده سبحانه المتفرد بالخلق.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.. أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ.. أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (4: الأحقاف) . قوله تعالى: «أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» هو حكم على هؤلاء المشركين الذين امتهنوا عقولهم هذا الامتهان الذليل، فعبدوا هذه المخلوقات، ولم يفرقوا بينها وبين خالقها- فهؤلاء الضالون هم أموات غير أحياء، إذ لا حساب لهم فى عالم البشر، وإنهم لا يشعرون- أىّ شعور- أن لهم حياة أخرى بعد هذه الحياة، وأن لهم يوما يبعثون فيه.. «وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» أي متى يبعثون.. والمؤمن وإن كان لا يعلم متى يبعث، فهو على يقين بأنه سيبعث بعد الموت، ويعود إلى الحياة مرة أخرى.. - وفى قوله تعالى: «غَيْرُ أَحْياءٍ» توكيد لموت هؤلاء المشركين، موتا أدبيّا، انسلخوا به عن عالم الإنسانية.. وهذا هو السرّ فى الإشارة إليهم بضمير الغائب فى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» .. ولم تجىء الإشارة إليهم بضمير المخاطب «تدعون» .. وذلك لأنهم ليسوا أهلا لأن يخاطبوا.. وقوله تعالى: «إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ» .. هو خطاب للمؤمنين، وإلفات لهم إلى إلههم الذي يعبدونه، وأنه إله واحد، لا شريك له.. أما المشركون، الذين لا يشعرون- الجزء: 7 ¦ الصفحة: 283 مجرد شعور بالحياة الآخرة- فإن قلوبهم منكرة لهذا القول الحقّ، وهم مستكبرون، فلا يلتفتون إلى داعى الحقّ الذي يدعو إلى الله.. قوله تعالى: «لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ» أي لا شك أن الله يعلم من هؤلاء المشركين ما تنطوى عليه قلوبهم المنكرة، وما يظهر على ألسنتهم وأيديهم من أفعال السوء، ومنكر القول، وأنهم سيلقون جزاء هذا المنكر الذي هم فيه.. «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ» فلا ينزلهم الله سبحانه منازل رضوانه، بل يلقى بهم فى عذاب السعير.. وقوله تعالى: «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ، قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» هو عرض لبعض ما يعلمه الله سبحانه وتعالى من أمر هؤلاء المشركين، وأنهم إذا تليت عليهم آيات الله أعرضوا عنها، وقالوا، «إن هى إلا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» والأساطير: جمع أسطورة، وهى ما كتب، وسطّر.. و «الأولين» الماضيين.. و «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» أخبارهم التي يتناقلها الناس عنهم، فيكثر فيها- بحكم التداول- التحريف، والتبديل، ويدخل عليها من الغرائب ما يجعلها من قبيل الخرافات! وهنا سؤال: كيف يقال لهم: «ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ» وهم ينكرون هذا، ولا يعترفون بأن الله أنزل شيئا؟ والجواب: هو أن هذا تقرير للواقع، وإلزام لهم به، رضوا أو لم يرضوا.. إنه الحقّ.. فليقولوا فيه ما شاءوا.. ويجوز أن يكون الخطاب للمؤمنين، وفى هذا التفات إليهم، واحتفاء بهم، بإضافتهم إلى ربّهم، على حين يحرم المشركون من هذا الالتفات الكريم، من ربّ العالمين.. والمعنى: إذا قيل لهؤلاء المشركين ماذا أنزل ربكم أيها المؤمنون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 284 قالوا أي المشركون: «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» أي هذا الذي تقولون إنه منزل من عند الله، يقول عنه المشركون، هو من أساطير الأولين، وفى خطاب المؤمنين تكريم لهم، ومحاكمة للمشركين، وإشهاد لهم عليهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» (143: البقرة) «لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ.. أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ» . يجمع المفسرون على أن اللّام فى قوله تعالى «لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ» هى لام التعليل.. وعلى هذا يكون الفعل بعدها مسبّبا عن قول المشركين الذي قالوه فيما أنزل الله إنه «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» .. ويكون المعنى أنهم إنما يحملون أوزارهم، أي آثامهم وذنوبهم بسبب هذا القول المنكر، الذي قالوه فيما أنزل الله، فكان ذلك سببا فى كفرهم الذي أثمر هذا الثمر الخبيث، الذي يحملونه على ظهورهم، ليحاسبوا عليه يوم القيامة.. هذا، وإنى أستريح إلى مفهوم آخر، لهذه الآية، وهى أن اللام هنا للأمر، وأن هذا الأمر موجّه إلى هؤلاء المشركين، وفيه استدعاء لهم أن يحملوا هذه الأوزار وتلك الآثام التي جرّهم عليها هذا الموقف اللئيم الذي وقفوه من كتاب الله.. وأنّهم وإن كانوا سيحملونها يوم القيامة، فإنها محمولة عليهم منذ الآن.. وفى هذا ما يلفتهم إلى ما فوق ظهورهم من أحمال ثقال، تدفع بهم إلى النار.. فإن كان فيهم بقية من عقل ونظر، راجعوا أنفسهم، وتخففوا من هذه الأوزار، ورجعوا إلى ربّهم.. - وفى قوله تعالى: «وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ» .. «من» هنا للتبعيض، أي أن هؤلاء السّادة والرؤساء من المشركين يحملون ذنوبهم كاملة، مضافا إليها بعض الذنوب التي تضاف إليهم من ذنوب أولئك الأتباع الذين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 285 أضلّوهم.. لأن هذا الضلال الذي غرسوه فى قلوب أتباعهم، هو ثمرة مشتركة بينهم وبين هؤلاء الأتباع.. وكل واحد منهم سيحمل نصيبه من هذا الثمر الخبيث.. - وفى قوله تعالى: «بِغَيْرِ عِلْمٍ» إشارة إلى هؤلاء الأتباع، وأنهم إنما باعوا عقولهم لرؤسائهم، وأعطوهم مقاودهم من غير تفكير، أو مراجعة.. وفى هذا توبيخ لهؤلاء الأتباع، ووصم لهم بالغفلة والسّفه، كما أنه تهديد لهؤلاء السادة والرؤساء، إذ غرّروا بأتباعهم وزينوا لهم الضلال. - وقوله تعالى: «أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ» تقبيح لهذه الأحمال التي يحملها أولئك الضّالون، وتأثيم لحامليها، وأنهم يحملون ما يسوؤهم، ويجلب البلاء عليهم ... والعاقل إنما يحمل ما يحمل، ابتغاء ما يؤمّل فيه من خير، وما يرجو من نفع.. أما أن يحمل ما يؤذيه ويرديه، فذلك هو السّفه، الذي ينزل بالإنسان إلى أخسّ مراتب الحيوان! قوله تعالى: «قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ» - هو إلفات لهؤلاء المشركين إلى عبر وعظات، يرونها ماثلة بين أيديهم، إن عميت أبصارهم عن أخذ العبرة من أنفسهم.. ففى الأمم الغابرة، كعاد وثمود، التي لا تزال آثار العذاب الذي أخذها الله به- باقية، يمر عليها هؤلاء المشركون، وهم عنها غافلون- فى هذه الأمم مثلات وعبر، إذ كان فيهم ما فى هؤلاء المشركين من مكر بآيات، وكفر بها، وتكذيب برسل الله، وإعنات لهم، فأخذهم الله من حيث لم يحتسبوا، ودمدم عليهم بذنوبهم، فأصبحوا كهشيم تذروه الرياح.. فهل يعجز الله أن يأخذ هؤلاء المشركين كما أخذ أسلافهم؟ أم أنّهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 286 أخذوا على الله عهدا ألا تجرى عليهم سنّة الله فى الذين خلوا من قبل؟ «قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ! (64: النمل) - وفى قوله تعالى: «فَأَتَى اللَّهُ. بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ» - إشارة إلى أن البلاء الذي نزل بهم كان بلاء ماحقا، أتى على حياتهم كلّها من أساسها، واجتثّها من أصولها.. فلم يبق من آثارهم دار ولا ديّار.. - وفى قوله تعالى: «فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ» تأكيد لهذا البلاء الشامل الذي أخذهم الله به، من الأرض والسماء، وأن السماء- وقد كانت سقفا محفوظا فوقهم- قد أطبقت عليهم، ترميهم بحجارة من سجّيل، وأن الأرض، وقد كانت بساطا ممدودا تحتهم، قد فغرت فاها لهم، وألقت بهم فى بطنها.. فالمراد بالسقف هنا، السماء.. كما يقول سبحانه: «وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً» وفى قوله تعالى: «مِنْ فَوْقِهِمْ» مع أن السقف لا يكون إلا من فوق توكيد لهذه الفوقية، وإلفات إليها، وإلى ما ينزل منها من بلاء، وقد كانت تنزل بالرحمة والغيث المدرار. قوله تعالى: «ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ» . الضمير فى «يخزيهم» بعود إلى المذكورين فى قوله تعالى: «قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ، مِنْ قَبْلِهِمْ» فهؤلاء الذين أخذهم الله بالبلاء فى الدنيا من الذين كذبوا الرسل- لم يوفّوا حسابهم بعد، وأنهم إذا كانوا قد رموا بهذا العذاب فى الدنيا فإن لهم فى الآخرة عذابا أنكى وأشدّ.. وإن من صور هذا العذاب الذي ينتظرهم يوم القيامة، هو هذا الخزي الذي يلبسهم، حين يعرضون هذا العرض الفاضح على الملأ، ويسألون هذا السؤال الذي يكشف لهم جريمتهم، حين يسألهم الحق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 287 جلّ وعلا: «أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ؟» ثم يلتفتون فلا يجدون لهؤلاء الشركاء أثرا، فيركبهم الكرب، ويعروهم الهمّ والخزي!. والمشاقّة: الشقاق والخلاف.. وفى تعدية الفعل «تشاقّون» بحرف الجر «فى» الذي يفيد الظرفية، إشارة إلى أن خلافهم وشقاقهم كان منحصرا فى هؤلاء الشركاء. فلم تتسع مداركهم للبحث عن شىء وراء هذا، بل جمدوا عليه، ولصقوا به كما يلصق المرض الخبيث بأهله. - وقوله تعالى: «قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ» .. هذا القول من شهود المحشر يوم القيامة، من الملائكة، والرسل، وأتباع الرسل، حيث وجم المجرمون فلم ينطقوا. قوله تعالى: «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. هو صفة لأولئك الذين قال فيهم أهل العلم: «إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ» .. فهؤلاء الكافرون، تتوفاهم الملائكة وقد ظلموا أنفسهم بإغراقها فى الضلال، والتنكّب بها عن طريق الحق.. فإذا سيقوا إلى موقف الحساب فى ذلّة وصعار «ألقوا السّلم» - أي أعطوا أيديهم مستسلمين لمن يقودهم إلى هذا المصير المشئوم، الذي هم صائرون إليه، وعلى ألسنتهم- التي مرنت على الكذب ولافتراء- هذا القول الكاذب، يرددونه فى غير وعى: «ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ» ! هكذا المجرم يردّد كلمات البراءة من ذنبه، ويداه ملطّختان بدم قتيله- إنها كلمات عزاء ومواساة، يتعلّق بها المجرمون، كما يتعلّق الغريق بمتلاطم الأمواج!. - وقوله تعالى: «بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. هو تكذيب لهم، وقطع لهذا الأمل الكاذب الذي تعلقوا به- بلى- لقد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 288 عملتم السوء كلّه، إذ كفرتم بالله.. وإن الله عليم بما كنتم تعملون.. «وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ» (22- 23: فصلت) . قوله تعالى: «فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ» هذا هو جزاؤهم، وذلك هو مصير المتكبرين.. - وفى قوله تعالى: «فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ» - إشارة إلى تعجيل عقابهم، وأنهم لا ينظرون، فما هو إلا سؤال.. يكون جوابه إلقاؤهم فى جهنم.. وأبواب جهنّم، هى منازلها التي ينزلون فيها، فلكل طائفة من الضالين باب يلجون منه، إلى مثواهم من النار.. والمثوى: المنزل.. الآيات: (30- 32) [سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 32] وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) التفسير: والصورة التي تقابل الكافرين فى موقف الجزاء يوم القيامة، هى صورة المؤمنين المتقين.. هكذا يواجه بعضهم بعضا، فيكون فى هذا إيلام فوق إيلام للكافرين، ونعيم فوق نعيم للمؤمنين، إذ يتضاعف عندهم فضل الله عليهم، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 289 ورحمته بهم، لأنهم نجوا من هذا البلاء.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فيما يتحدث به أهل الجنة: «وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ» (25- 27: الطور) وقوله تعالى: «وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا، ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً» .. هو فى مقابل قوله تعالى فى مساءلة الكافرين: «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» .. فالذين اتقوا ربّهم، عرفوا طريقهم إلى الله، واهتدوا إلى مواقع الهدى مما أنزل الله على رسوله، فحين سئلوا ماذا أنزل ربكم قالوا: «خيرا» أي أنزل ربنا خيرا كثيرا، نتزود منه زادا طيبا لدنيانا وآخرتنا: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ» .. فما يتزوده المؤمن من الإيمان والتقوى، كلّه طيب، والجزاء عليه حسن فى الدنيا، ولكن ما يجده المؤمن فى الآخرة من ثواب الله، ونعيمه، هو الذي يعتدّ به، إذ كان خالدا باقيا، لا يقاس بالقليل منه، ما فى الدنيا كلّها من متاع وقوله تعالى: «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ.. كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ» .. هو عطف بيان على قوله تعالى: «وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ» .. فدار المتقين هذه، هى تلك الجنات، التي تجرى من تحتها الأنهار، لهم فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين.. خالدين فيها. - وفى قوله تعالى: «كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ» تنويه بهذا الجزاء العظيم، الذي لقيه المتقون، من ربّهم، وهو جزاء لا ينال إلّا من الله الكريم الوهاب، لأن ما فى أيدى الناس جميعا، وما فى هذه الدنيا كلّها، يحفّ ميزانه، مع أدنى جزاء جوزى به من نالهم الله برحمته، وأنزلهم منازل رضوانه.. قوله تعالى: «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 290 ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. هو عطف بيان على قوله تعالى: «كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ» .. فالمتقون، هم الذين تتوفاهم الملائكة «طيبين» .. قد طابت نفوسهم، وزكت أرواحهم، بما مسّها من تقوى، وما عبق عليها من إيمان.. فإذا جاء الملائكة لقبض أرواحهم، أقبلوا عليهم فى بشر، يحملون إليهم بشريات مسعدة، حيث يلقونهم بالسّلام، الذي لا خوف معه.. «يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ..» ثم لا تكاد أرواحهم تفارق أبدانهم حتى يروا منازلهم فى الجنة، وبين أيديهم مناد يناديهم: «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. فتلك هى الجنة التي وعد المتقون.. لهم فيها دار الخلد، جزاء بما كانوا يعملون.. والسؤال هنا: كيف يقال لهم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون.. والمعروف أن دخول الجنة، إنما هو فضل من فضل الله على عباده، وليس ذلك من كسب العبد، ولا بسبب ما قدم من صالح الأعمال، إذ أن الجنّة لا يستطيع أحد أن يقدّم الثمن الذي تنال به، مهما بلغ من إيمان وتقوى. وقد قال النبي- صلوات الله وسلامه عليه- «لا يدخل أحدكم الجنة بعمله» قالوا: «ولا أنت يا رسول الله؟» قال: «ولا أنا إلّا أن يتغمّدنى الله برحمته» .. فما تأويل هذا؟ الجواب- والله أعلم- أن الإيمان والعمل الصالح، هما المطلوبان من الإنسان، ليحتفظ بإنسانيته على الصحة والسلامة من الرجس والدنس.. وإذ كان الناس فريقين: مؤمنا وكافرا، وشفيّا وسعيدا، وأصحاب الجنة وأصحاب النار.. هكذا أرادهم الله، ولهذا خلقهم- إذ كان الناس على هذا، فإن المؤمنين الذين عملوا الصالحات هم أهل الجنّة، والذين كفروا وضلّوا هم أهل النّار.. وفى إضافة المؤمنين إلى الجنة، وإنزالهم منازل الرضوان فيها، وحسبان ذلك بسبب إيمانهم وتقواهم- فى هذا تكريم من الله سبحانه وتعالى لهم، وفضل من فضله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 291 عليهم.. حتى إنه- سبحانه وتعالى- ليريهم من هذا أنهم أحسنوا، وهذا جزاء إحسانهم، وأنهم غرسوا فى مغارس الخير، وهذا ثمر ما غرسوا، وفى هذا ما يضاعف نعيمهم، حين يلتقون بيومهم الذي كانوا يوعدون، فيقطفون ثمرا غرسته أيديهم، وينزلون منازل هيأتها لهم أعمالهم.! وليس كذلك من يجنى من غرس لم يغرسه، وينزل منزلا هو ضيف فيه! .. وذلك مزيد من ألطاف الله، وإسباغ من نعمائه على عباده وأهل ودّه، كما يقول سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا» .. وإلّا.. فالمؤمنون، وأعمالهم.. ملك لله، إذ ليس للعبد شىء.. فهو وما ملكت يداه لسيده! أما الكافرون والضّالون والخاطئون.. فإنّهم قد تحوّلوا بإنسانيتهم عن طبيعتها، التي تألف الجنة وتسكن إليها، واصطبغوا بالصبغة التي تطلبها جهنّم، وتدعوها إليها، فكانوا لها حطبا.. والله سبحانه وتعالى يقول: «هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» (63- 64: يس) . الآيات: (33- 40) [سورة النحل (16) : الآيات 33 الى 40] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 292 التفسير: قوله تعالى: َلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» . الخطاب هنا لهؤلاء المشركين من أهل مكة، الذين قالوا فيما أنزل الله: هذا «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» .. فكفروا بالله، وكذبوا رسوله.. والاستفهام إنكارى، ينكر الله سبحانه وتعالى عليهم هذا الموقف المنادي الضّال، الذي يقفونه من الرسول الكريم، ومن آيات الله التي بين يديه.. فماذا ينتظرون بعد هذا البيان المبين، وتلك الحجة الدامغة! َلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ» أي هل ينظرون فى هذا الموقف الضالّ إلّا أن تأتيهم الملائكة، تشهد لهم أن محمدا رسول الله، وأن الكتاب الذي بين يديه هو كلمات الله؟ لقد طلبوا ذلك فعلا فيما حكاه القرآن عنهم فى قوله تعالى: «وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» (6- 7: الحجر) .. أم هل ينظرون أن يأتى أمر الله، وهو العذاب الذي أخذ به الظالمين قبلهم، فيهلكهم بعذاب من عنده كما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 293 أهلك الأولين؟ وقد طلبوا هذا فعلا، فقالوا ما حكاه القرآن عنهم فى قوله تعالى: «وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (32: الأنفال) - وفى قوله تعالى: َ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» إشارة إلى أن هؤلاء الذين أهلكهم الله من القرون السابقة، إنما أخذهم الله بذنوبهم، وما ظلمهم الله بهذا العذاب، بل هم أوجبوه على أنفسهم، بكفرهم وضلالهم.. فكانوا بذلك ظالمين لأنفسهم، إذ عدلوا بها عن طريق الأمن والسلامة، ومالوا بها إلى طرق البلاء والهلاك.. قوله تعالى: «فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» .. هو بيان كاشف لما حلّ بهؤلاء الظالمين من بلاء، وأن هذا الذي نزل بهم هو من آثار ما عملوا من سوء، ومن معقبات مكرهم بآيات الله، واستهزائهم برسله.. وفى هذا تهديد للمشركين الذين يحادّون رسول الله، ويهزءون بآيات الله.. قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.. فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» هو عرض فاضح، لمقولة من تلك المقولات الآثمة، التي يرمى بها المشركون بين يدى شركهم، ليتخذوا منها حجة يحاجّون بها رسول الله، ويلزمونه التسليم بها، إذ يجيئون إليه بهذا المكر السيّء، حين يقولون: «لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ!» وتلك كلمة حق أريد بها باطل.. فلو أنهم آمنوا بمشيئة الله، واعترفوا بسلطانه المطلق، القائم على كل شىء، لآمنوا بالله، ولعبدوه، واتبعوا رسوله، الذي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 294 يكشف لهم الطريق إلى الله.. ولكنهم لا يؤمنون بالله.. فكيف يؤمنون بأن له- سبحانه- مشيئة غالبة، وسلطانا قاهرا؟ وهل يتفق هذا القول الذي يقولونه مع اتخاذهم الأصنام آلهة يعبدونها من دون الله؟ إن ذلك مما لا يستقيم مع منطق القول الذي يقولونه.. ولكن هكذا يفعل الضلال بأهله.. «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» (41: المائدة) - وقوله تعالى: َذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» هو وصل لهؤلاء المشركين بمن سبقهم من أهل الضلال، من القرون الغابرة.. إنهم ليسوا وحدهم هم الذين قالوا هذا القول.. فهم حلقة فى تلك السلسلة الآثمة، التي تنتظم الظالمين، وتجمعهم فى قرن واحد! - وفى قوله تعالى: «فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» - هو قطع لتلك الحجة الكاذبة التي يحتجّ بها المشركون من كلّ أمة، ومن كل جيل.. وأنهم إذ تنكبوا الطريق المستقيم، وركبوا طرق الضلال، وجعلوا القول بمشيئة الله دليلهم على هذه الطرق- فليتركوا وما هم عليه من شرك، وما هم فيه من ضلال، حتى يلقوا ما يلقى المشركون الضالون من عذاب الله.. فلقد أعذر الله إليهم، وقطع حجتهم، بما أرسل إليهم من رسل.. «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» .. وليس على الرسل إلا البلاغ المبين.. وقد أدّى رسل الله رسالة الله، وبلغوها إلى أقوامهم بلاغا مبينا واضحا.. «فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها» .. قوله تعالى: «وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» - هو بيان لهذا البلاغ المبين الذي بلّغه رسل الله إلى أقوامهم.. ففى كل أمة بعث الله سبحانه وتعالى رسولا يدعوهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 295 إلى عبادة الله، وإلى اجتناب الطاغوت، وترك ما هم فيه من ضلال.. «فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ» .. أي فمن هؤلاء الأقوام الذين جاءهم رسل الله، من هداه الله وشرح صدره للإيمان، فاهتدى إلى الحق، وآمن بالله، ومنهم من حقت عليه الضلالة، أي وجب أن يكون من الضالين، إذ لم يرد الله سبحانه وتعالى أن يهديه، وأن يشرح صدره للإيمان.. وتلك هى مشيئة الله فى خلقه، مشيئة غالبة قاهرة.. ولكن لا حجّة لأحد على الله فيها.. وعلى الإنسان أن يسعى إلى الخير جهده، وأن يقيم وجهه على هدى الله.. فإن اهتدى، حمد الله وشكر له، وإن ضلّ وغوى، فليبك نفسه، ويؤثّم موقفه، ويسأل الله العافية من هذا البلاء الذي هو فيه..! - وفى قوله تعالى: «فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» - دعوة إلى إيقاظ تلك العقول النائمة، لتنظر عبر القرون الماضية، ولترى ما فى مصارع المكذبين برسل الله، من عبر وعظات.. قوله تعالى: «إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» .. هو عزاء للنبى الكريم، ومواساة له فى مصابه فى الضّالين المقيمين على ضلالهم من قومه.. ذلك أنه مهما حرص النبي على هداية هؤلاء الشاردين، فلن يبلغ به حرصه شيئا، فيما يريد لهم من هدى وإيمان.. إذ حقت عليهم الضلالة، وغلبت عليهم شقوتهم.. «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً.. أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ» .. «وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» ينصرونهم من دون الله، الذي ابتلاهم بما هم فيه.. قوله تعالى: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ.. بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» هكذا يلجّ أهل الضلال فى ضلالهم، فيحلفون جهد أيمانهم، أي أقصى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 296 ما عندهم من أيمان قاطعة مؤكدة، على أن الله لا يبعث من يموت.. وذلك فى مواجهة ما جاءهم الرسول به من ربه، عن الإيمان بالله، وباليوم الآخر، فعجبوا أشدّ العجب، أن يبعث الموتى من قبورهم، بعد أن تحتويهم القبور، ويشتمل عليهم التراب، ويصبحوا عظاما نخرة.. وفى هذا يقول الله تعالى عنهم: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ.؟ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ» (7- 8: سبأ) وفى قوله تعالى: «بَلى» تكذيب لهم.. أي أن الله يبعث الموتى.. كما يقول سبحانه: «زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ.. وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» (7: التغابن) - وقوله تعالى: «وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا» هو توكيد لهذا التكذيب لحلفهم.. وأن هذا البعث واقع لا شك فيه، وقد جعله الله وعدا. أوجبه على نفسه، ولن يخلف الله وعده.. «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» حكمة الله فى هذا البعث، ولا ما لله من قدرة لا يعجزها شىء.. قوله تعالى: «لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ» - هو كشف عن بعض الحكمة فى البعث، الذي جعله الله وعدا عليه حقا.. ففى هذا البعث تتبين للناس مواقفهم من الحق، ويمتاز الخبيث من الطيب.. وهناك يستيقن الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين فيما يدّعون لأنفسهم ولآلهتهم من مدّعيات باطلة، وفيما يقولون عن البعث وإنكاره.. وفى هذا تهديد للكافرين، ووعيد لهم بما يلقون فى هذا اليوم من فضيحة، وخزى، وهوان.. قوله تعالى: «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» هو توكيد للبعث، الذي جعله الله وعدا عليه حقا.. وأن أمر البعث هيّن أمام الجزء: 7 ¦ الصفحة: 297 قدرة الله سبحانه وتعالى، تلك القدرة التي يستجيب لسلطانها كل شىء.. فما هو إلا أن يصدر الأمر الإلهى لأى شىء حتى يصدع هذا الشيء بما يؤمر به.. «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» . الآيات (41- 50) [سورة النحل (16) : الآيات 41 الى 50] وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50) التفسير: قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 298 مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات التي سبقتها ذكرت البعث وإمكانيته، وكشفت عن بعض الحكمة من وقوعه فى قوله تعالى: «لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ..» وإذ كان هذا وجها من وجوه الموقف يوم القيامة، ناسب أن يذكر الوجه الآخر، وهو وجه الذين آمنوا بالله، وصدّقوا بآياته.. وأكرم ما فى هذا الوجه الكريم هم الذين هاجروا فى الله من بعد ما مسّهم الضر، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وذلك بما ساق إليهم المشركون من ألوان العسف والبلاء.. فهؤلاء سيوفيهم الله سبحانه أجرهم مرتين.. فى الدنيا.. وفى الآخرة.. فهم فى الدنيا سينصرون على عدوّهم، وسوف تمتلئ أيديهم بالخير، بما يمكّن الله لهم فى الأرض.. أما فى الآخرة، فلهم جنات النعيم، ورضوان من الله أكبر.. وذلك هو الفوز العظيم.. وفى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ» إشارة إلى أن الهجرة جهاد فى سبيل الله، ولهذا ضمّن الفعل «هاجر» معنى الفعل «جاهد» ، فعدّى بحرف الجر «فى» .. ويجوز أن يكون حرف الجر «فى» بمعنى الباء، التي تفيد السببية.. ويكون المعنى: والذين هاجروا بسبب الله، أي بسبب الإيمان بالله.. وفى الحديث: «عذبت امرأة فى هرة» أي بسبب هرة.. وقوله تعالى: «لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً» أي لننزلنهم منزلة حسنة فى الدنيا.. يقال: باء يبوء: أي رجع.. وسمّى المنزل مباءة، لأنه المرجع الذي يأوى إليه الإنسان بعد طوافه وسعيه فى الحياة.. ولقد صدق الله وعده، فأيد المؤمنين بنصره، ومكّن لهم فى الأرض، وأذلّ الكافرين والمشركين.. والمنافقين، وجاء نصر الله والفتح، ودخل الناس فى دين الله أفواجا.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 299 وهذا الوعد الذي وعده الله المؤمنين، وأنجزه لهم لم يكن لأشخاصهم فردا فردا، وإنما هو لهم كجسد واحد، ومجتمع واحد.. هكذا المؤمنون، فيما أصابهم، من بلاء، أو عافية، فهم جميعا فيه شركاء، شأن الجسد حين تنزل به علة، أو تلبسه عافية..! قوله تعالى: «الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» هو عطف بيان على قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ» .. فهؤلاء هم الذين صبروا على أذى المشركين، واحتملوا فى سبيل الله ما احتملوا من مفارقة الأهل والوطن.. مخلفين كل شىء وراءهم، فما كان لهم فى هجرتهم من مال ومتاع.. بل هاجروا متوكلين على الله، معتصمين به، مستغنين بما عنده. قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» - هو ردّ مفحم للمشركين الذين أبوا أن يستجيبوا للرسول، لأنه بشر مثلهم، وقالوا: «أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ» (24: القمر) .. وقالوا ما حكاه القرآن عنهم: «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا؟» (21: الفرقان) . - فجاء قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ» : ليرى المشركين أمرا واقعا، لا سبيل إلى إنكاره، أو الجدل فيه، وهو أن كلّ رسل الله الذين بعثوا فى الأمم التي سبقتهم كانوا «رجالا» أوحى الله إليهم بما شاء أن يوحيه إليهم من آياته وكلماته.. فإذا لم يكن عند هؤلاء المشركين علم بهذا، «فليسألوا أهل الذكر، أي أصحاب العلم، وهم أهل الكتاب، من اليهود والنصارى: «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» .. فإن من واجب من لا يعلم أمرا أن يسأل عنه أهل العلم، قبل أن يتعامل به، ويجادل فيه. - وفى قوله تعالى: «إِلَّا رِجالًا» إشارة إلى أن رسل الله جميعا كانوا من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 300 الرجال، ولم يكن أحد منهم من النساء، وأنهم أوحى إليهم وهم رجال، قد بلغوا الرشد، وجاوزوا مرحلة الصبا والشباب، وأنه لم يكن أحد من رسل الله من عالم غير عالم البشر. قوله تعالى: «بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» هو متعلق بقوله تعالى: «نُوحِي إِلَيْهِمْ» .. أي نوحى إلى هؤلاء الرجال الذين اخترناهم لرسالتنا «بالبينات» أي بالآيات البينات، وهى المعجزات المادية المحسوسة، كناقة صالح، وعصا موسى، ومعجزات عيسى. «والزبر» أي الكتب، والصحف.. كصحف إبراهيم، وصحف موسى، وكالتوراة والإنجيل.. - وفى قوله تعالى: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» التفات إلى النبي الكريم، بهذا الخطاب الكريم من رب العالمين.. وأن الله سبحانه وتعالى قد نزّل إليه الذّكر أي القرآن الكريم، وسمّى ذكرا، لأن فيه من آيات الله ما يذكر الناس بالله سبحانه وتعالى، ويلفت قلوبهم وعقولهم إليه.. كما أن فيه ذكرا باقيا للنبىّ الكريم وقومه، كما يقول سبحانه: «وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ» .. فهذا الحديث الطيب المتصل مع الزمن، المردّد على أفواه الأمم، من سيرة النبي الكريم، وسيرة أصحابه الكرام، والهداة المصلحين من أئمة المسلمين وعلمائهم- هذا الحديث، هو أثر من آثار هذا الكتاب الكريم، الذي أنزل على النبي الكريم.. وفى تعدية الفعل «أنزلنا» بحرف الجر «إلى» بدل الحرف المطلوب له وهو «على» إشارة أن إنزال الكتاب لم يكن محمولا إلى النبي حملا، جملة واحدة، وإنما أوحى إليه وحيا، آية آية، أو آيات آيات.. وقد جاء قوله تعالى: «طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى» كما جاء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 301 الفعل فى آيات أخرى، متعديا بإلى وبعلى، وذلك ليجمع بين نزول القرآن مفرقا، وبين الجهة العالية التي نزل منها. - وفى قوله تعالى: «لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» إشارة إلى أن هذا الكتاب الذي أنزل إلى النبىّ، هو كذلك نزّل إلى الناس.. فهم شركاء للنبىّ فى هذا الكتاب، ومطلوب من كل إنسان أن يحسب أن هذا الكتاب هو كتابه المنزل عليه.. يفقهه، ويعمل به، ويدعو الناس إلى العمل به، مقتفيا فى هذا أثر النبىّ، مشاركا فى حمل الرسالة معه، فى حال حياته، أو من بعد وفاته..! وفى مخاطبة النبىّ بقوله تعالى: «أَنْزَلْنا إِلَيْكَ» ومخاطبة الناس بقوله سبحانه: «نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» تفرقة من وجهين: الأول: أن النبىّ الكريم خوطب خطابا مباشرا من الحقّ سبحانه وتعالى: «أَنْزَلْنا إِلَيْكَ» على حين أن الناس خوطبوا بفعل لم يذكر فاعله هكذا «نزّل إليهم» ، لأن التنزيل لم يكن مباشرا لهم، بل كان بوساطة النبىّ، الذي تلقّاه بدوره عن طريق الملك. الثاني: أن الفعل «أنزل» يفيد الجمع، على حين أن الفعل نزّل، يفيد «التفرّق» ، وهذا هو ما يشير إليه الحال من أمر القرآن بين النبىّ والذين تلقوه منه.. فالنبى بالنسبة لهم هو المصدر الأول الذي تجيئهم منه آيات الله وكلماته.. وهم يتلقونها منه آية آية، أو آيات آيات، فناسب أن يخاطب النبي فى مواجهتهم بقوله تعالى: «أَنْزَلْنا إِلَيْكَ» .. وأن يخاطبوا هم بقوله تعالى: «نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» . قوله تعالى: «أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ» .. هو تهديد لهؤلاء الذين يكذّبون رسول الله من المشركين، ويمكرون السيئات، أي يدبّرون الأعمال السيئة، ويرسمون خططها.. فالمكر هو إعمال الرأى والحيلة فى الأمور.. ومنه ما هو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 302 حسن، ومنه ما هو سيّىء.. وهؤلاء إنّما مكرهم من النوع السيّء الذي يبعدهم عن الخير، ويعرضهم للهلاك، والبوار. «وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ» فهل أمن هؤلاء الذين يدبّرون السوء، ويبيتون الشرّ والعدوان أن يخسف الله بهم الأرض، كما خسفها بالظالمين من قبلهم، أو يأتيهم العذاب بغتة وهم لا يشعرون، كما أنى أمما وأقواما، مكروا بآيات الله وكذبوا رسله؟: «فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ» (99: الأعراف) . وقوله تعالى: «أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ.. فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» هو بيان لبعض الأحوال التي يقع فيها عذاب الله بأهل السوء والشقاق.. فهم إمّا أن يؤخذوا على حين غفلة.. وإما أن يلقاهم العذاب وهم فى يقظة، حيث يتقلبون فى وجوه الأرض.. أو يحلّ بهم البلاء وهم «على تخوف» أي على توقع للبلاء، بين يدى إرهاصات، تهدّد به وتنذر بوقوعه.. إن عذاب الله يقع حيث يشاء الله، ومتى يشاء.. وما هو من الظالمين ببعيد.. وفى قوله تعالى: «فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» إشارة إلى الله سبحانه وتعالى من فضل على هذه الأمة، إذ عافاها مما ابتلى به الأمم السابقة، حين عجّل لها العذاب.. أما هذه الأمة، فقد أفسح لله سبحانه وتعالى للفجّار من أهلها فى الأجل، حتى تكون لهم إلى الله رجعة، حين يطول وقوفهم مع رسوله الكريم، وبين يدى ما معه من كلمات ربّه.. وفى هذا مزيد فصل من الله سبحانه على نبيّه، إذ لم يفجعه فى قومه، ولم يهلكهم بسبب خلافهم عليه، ومكرهم السيّء به.. «فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» .. فهل يلقى هؤلاء المشركون المعاندون رأفة ربّهم بهم ورحمته لهم، بالإقبال عليه، ومصافاة رسوله وموادّته؟ ذلك ما كان يجب أن يكون! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 303 قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ» . تفيأ الظلّ: تنقل من جهة إلى أخرى.. والداخر: الصاغر، المستكين.. وفى الآية الكريمة وعيد للمشركين، واتهام لعقولهم الضالّة المظلمة، التي أخرجتهم عن نظام الموجود كلّه، فكانوا نغما نشازا، لا يتناغم مع لحن الموجودات، المسبّحة بحمد الله ربّ العالمين.. وقد أراهم الله سبحانه فى هذه الآية الكريمة صورة محسوسة لهذا الوجود وقد سجد فيه كل موجود، ولاء الله، وخشوعا لجلاله وعظمته.. فما خلق الله من شىء يرونه، فى عالم الجماد، أو النبات، أو الحيوان، إلّا كان له ظل، يتبعه، ساجدا على الأرض، سجود العابدين الخاشعين.. فى ذلة وانكسار لله الواحد القهار.. - وفى قوله تعالى: «ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ» إشارة إلى تلك الأشياء المحسوسة، التي يحدّث جسمها عنها، وينبىء عن وجودها، فهى ليست من عالم المعقولات، ولهذا كان لها ظلّ، لما فيها من كثافة.. - وفى قوله تعالى: «يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ» خروج على مألوف النظم، وهو إما أن يجىء هكذا: «يتفيّأ ظلّه» أو هكذا: «تتفيأ ظلاله» بمعنى أنه إذا أفرد الفاعل جاء الفعل مذكرا، وإذا جمع الفاعل، جاء الفعل مؤنثا.. ولكنه فى النظم القرآنى، جمع بين الأمرين.. فجاء بالفعل مذكرا وبالفاعل جمعا.. وهذا إعجاز من إعجاز القرآن الكريم، إذ دلّ بهذا على أن الفاعل، وهو «الظل» هو مفرد فى أصله.. هو شىء واحد، ولكنه فى أفعاله، وحركاته، بين القبض والبسط، والتحرك من يمين إلى شمال، يكون ظلالا، لا ظلا واحدا.. فهو جمع فى واحد، وواحد فى جمع!! وهذا بيان لا يكون إلا فى كلمات الله، وفى كتابه المبين.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 304 وقوله تعالى: «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» - هو استكمال لما قررته الآية السابقة من سجود ظلال الأشياء لله، وأنها ليست وحدها هى التي تسجد لله سبحانه، بل كل ما فى السموات وما فى الأرض.. من كل دابة تدبّ على الأرض.. ومن الملائكة فى السموات يسجدون لله، وهم لا يستكبرون.. يقول الله تبارك وتعالى فى آية أخرى: «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ» (15: الرعد) . وخصّت الدوابّ بالذّكر، لأنّها من مخلوقات الأرض، ذات الحسّ والحركة، وهى دون الإنسان منزلة.. وخصّت الملائكة بالذكر كذلك، لأنها من عالم السموات، وهى أشرف مخلوقاتها.. وفى هذا قطع لكل حجة للإنسان ألا يكون فى الساجدين لله.. فإذا عدّ نفسه من عالم الأرض، فهذه دوابّ الله كلّها تسجد لله.. فليسجد معها.. وإذا كان يرى أنّه فوق هذه الدواب، فهذه مخلوقات السماء، وهذه الملائكة أشرف مخلوقاتها وأكرمها عند الله، قد سجدت لله فى ولاء وخشوع.. فليسجد لله كما سجدت الملائكة، أو كما سجدت الدوابّ! وقوله تعالى: «يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» - هو وصف للملائكة الذين دأبهم العبادة، وشأنهم السجود لله.. فهم- مع منزلتهم عند الله- يخافون ربّهم الذي علا بسلطانه على كل سلطان «وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» به، من الله، فى غير تردد أو تكرّه.. إذ هم أعرف بما لله فى خلقه، وما على الخلق من واجب الطاعة والولاء للخالق.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 305 الآيات: (16- 60) [سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 60] وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) التفسير: قوله تعالى: «وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ» .. القول من الله سبحانه وتعالى، هو أمر.. بمعنى أمر الله.. وهو هنا أمر باجتناب منكر.. فالأمر واقع على نهى.. وهو قوله تعالى: «لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ» .. فهو توكيد للنهى.. بترك المنهي عنه، والإتيان بما يقابله وهو المأمور به.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 306 ويكون المعنى: لا تتخذوا إلهين اثنين، واعبدوا إلها واحدا.. وفى وصف الإلهين بأنهما اثنان، تجسيد لتلك الصورة التي تجمع بين إلهين، وتقابل بينهما مقابلة الشيء للشىء.. وهذه صورة لا تتحقق أبدا، إذ ليس لله سبحانه وتعالى نظير يناظره، أو شبيه يقابله.. إذ هكذا يكون الإله الذي يعبد.. إلها متفردا بالكمال والجلال.. لا يشاركه أحد فى كماله وجلاله، وإلا كان ناقصا، لا يستحق أن يأخذ مكان التفرد، وعلى العقل أن يبحث عن الإله الذي لا مثيل له، ولا نظير، وإن البحث سينتهى به إلى الله الواحد الأحد.. الفرد الصمد.. «إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ» . - وفى قوله تعالى: «فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ» هو دعوة إلى الله الواحد الأحد، الذي يستحق العبودية، وهو الذي يخافه الملائكة، وهم أقرب الخلق إليه، فكيف لا يخاف ولا يرهب من هم دون الملائكة من خلقه؟ قوله تعالى: «وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ» ؟ الواصب: الخالص، المصفّى من كل شائبة.. ومنه قوله تعالى: «وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ» (9: الصافات) أي خالص، لا يختلط به شىء غريب عنه، يخفف من آثاره وأفعاله فى أهله، الواقع بهم. فلله سبحانه وتعالى ملك السموات والأرض، لا شريك له، وله سبحانه الدّين الخالص، غير المشوب بشرك أو إلحاد، فهو سبحانه طيب لا يقبل إلا طيّبا.. كما يقول جل شأنه: «وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» . (29: الأعراف) ويقول سبحانه: «أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ» (3: الزمر) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 307 ومن كان هذا ملكه وسلطانه، وذلك دينه الذي يعبد عليه من خلقه.. فإن عبادة غيره كفر، وعبادته على غير دينه الذي ارتضاه وأمر به، ضلال. قوله تعالى: «وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ» .. الجأر، والجؤار: رفع الصوت عاليا.. والآية الكريمة، تحدّث عما لله سبحانه وتعالى فى عباده من فضل وإحسان.. فكل ما هم فيه من نعم، هو من عند الله.. حياتهم التي يحيونها.. وحواسّهم، وجوارحهم، ونومهم ويقظتهم، وطعامهم وشرابهم، وما بين أيديهم من مال وبنين.. كل هذا، وأضعاف هذا مما يتقلبون فيه، ويقيمون وجودهم عليه، هو من عطاء الله، ومن فضل الله، ومن رحمة الله.. كذلك ما يبتلى به الإنسان من ضرّ هو من عند الله، وهو سبحانه الذي يدعى لكشف الضر، ويرجى لدفع الشدّة، كما يقول سبحانه: «قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ» (40- 41: الأنعام) . وقوله تعالى: «ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ.. فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» . - هو بيان لجحود الإنسان وكفرانه بفضل الله عليه، ومكره بنعمه.. فهو إذا أصابته نعمة، بطر، وكفر، وأعرض عن الله، وإذا مسّه ضرّ جأر إلى الله، ورفع صوته شاكيا متوجعا، وعاهد الله لئن كشف الضّرّ عنه، ليؤمننّ بالله، وليستقيمن على صراطه المستقيم، فإذا كشف الله الضرّ عنه، نسى ما كان يدعو إليه من قبل، ولم يزده هذا الإحسان إلا ضلالا وكفرانا.. وقليل هم أولئك الذين يذكرون فى هذا الموقف ربّهم، ويشكرون له ما آتاهم من فضله.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 308 وفى هذا يقول الله تعالى: «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» .. - وفى قوله تعالى: «لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ» تهديد ووعيد، لهؤلاء الذين يمكرون بنعم الله، وينكثون عهدهم مع الله.. فليكفروا بما آتاهم الله من فضله، وليتمتعوا بما هم فيه من نعمة، فإن الله- سبحانه- لن يعجّل لهم العقاب، ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمّى، وسوف يعلمون عاقبة ما هم فيه من كفر وضلال.. وفى الانتقال من الغيبة إلى الخطاب فى قوله تعالى: «لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» مواجهة لهؤلاء الكافرين الضالين، بالبلاء الذي ينتظرهم، وبالعذاب المعدّ لهم.. وفى تلك المواجهة التي يجدون فيها ريح العذاب- ما يدعوهم إلى النظر إلى أنفسهم، ومراجعة موقفهم الذي يشرف بهم على شفير جهنم.. وقوله تعالى: «وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ» .. - هو كشف عن وجه من وجوه الضلال، التي يعيش فيها المشركون بالله، وهو أنهم لا يقفون بكفرهم بنعم الله عند حدّ جحدها، وجحد المنعم بها، بل يتجاوزون ذلك إلى أن يضيفوا هذه النعم إلى غير الله، وأن يقدّموها قربانا إلى ما يعبدون من دون الله، من أصنام! وهذا فوق أنه كفر بالله، هو عدوان على الله، وحرب له.. - وفى قوله تعالى: «لِما لا يَعْلَمُونَ» حذف المفعول به، لإطلاق نفى العلم من هؤلاء المعبودين.. وأنهم لا يعلمون شيئا.. وفى هذا تشنيع على المشركين، وتسفيه لأحلامهم.. إذ عدلوا عن التعامل مع ربّ العالمين، الذي يعلم كل شىء، إلى التعامل مع ما لا يعلم شيئا.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 309 - وفى قوله: «نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ» إشارة إلى أن ما بأيدى هؤلاء المشركين من نعم الله، قد ضيعوا حق الله فيها، مما كان ينبغى أن يقدموه منها صدقة وزكاة، ابتغاء وجه الله، وجعلوه قربانا يتقربون به إلى هذه الأحجار المنصوبة، ويرجون الجزاء منها على ما قدموه. - وفى قوله تعالى: «تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ» وعيد لهؤلاء المشركين، وأنهم مسئولون عن هذا الضلال، وذلك الافتراء، ومحاسبون على هذا المنكر حسابا عسيرا، يلقون جزاءه عذابا أليما فى نار جهنم.. وقوله تعالى: «وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ.. وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ» .. هو بيان لوجه آخر من وجوه الضلال، التي يلبسها المشركون حالا بعد حال.. فمن ضلالاتهم أنهم يجعلون الملائكة بنات لله.. فلم يكتفوا بأن جعلوا لله- سبحانه- ولدا، بل جعلوه لا يلد إلا البنات، تلك المواليد التي لفظها مجتمعهم وزهد فيها، واستقبلها فى تكرّه وضيق.. وفى هذا ما يكشف عن مدى جهلهم بما لله من كمال، وما ينبغى أن يكون له من توقير.. فلقد أساءوا القسمة مع الله، حين سوّوه بهم- ضلالا وسفها- فجعلوا له البنات، وجعلوا لأنفسهم «ما يشتهون» من الذكور.. وقد سفّه الله أحلامهم، وكشف عوار منطقهم بقوله تعالى «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ.» (19- 23: النجم) .. وذلك حين أطلقوا على تلك الأصنام هذه الأسماء المؤنثة، وادعوا أنها بنات الله.. وقوله تعالى: «وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 310 أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ» - هو بيان لتلك الحال من الانزعاج، والكرب، والبلاء، التي تستولى على هؤلاء المشركين من العرب، حين يبشر أحدهم بأنه قد ولدت له أنثى.. هنالك ينزل عليه هذا الخبر نزول الصاعقة، فيضطرب كيانه، وتغلى دماء الكمد فى عروقه، ويضيق صدره، حتى لتختنق أنفاسه ويسودّ وجهه.. فإذا ظهر فى الناس جعل يتوارى منهم، ذلّة وانكسارا، حتى لكأنه لبس عارا، أو جنى جناية..! وهذا جهل فاضح، وضلال غليظ.. ولو كان معه شىء من النظر والتعقل، لعرف أن هذا الأمر ليس له، وأن ليس لأحد أن يخلق ذكرا أو أنثى، وإنما ذلك إلى الله وحده.. فلم يخجل من أن تولد له أنثى؟ ولم يمشى فى الناس مطأطىء الرأس، ذليل النفس؟ أيستطيع عاقل أن يتهمه بأنه جنى هذه الجناية المنكرة عندهم، وأنه ولد بنتا ولم يلد ولدا؟ ذلك قول لا يقال إلا فى مجتمع السفهاء والحمقى! - وفى قوله تعالى: «وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى» - إشارة إلى أن الولد نعمة من النعم التي يبشر بها، سواء أكان ذكرا أم أنثى، وأن من شأن هذه البشرى أن تملأ قلب الوالد بالفرحة والبشر.. تلك طبيعة الكائن الحىّ، حين يولد له مولود.. يهشّ له ويسعد به، بمجرد أن يرى وجهه، من قبل أن يتعرف عليه، ويعلم أذكر هو أم أنثى! .. فما يتوقف الحيوان عن فرحته حين يستقبل ولده، حتى يتبين الذكر من الأنثى.. بل إن مواليده كلّها سواء عنده.. هى قطعة منه، وثمرة شجرة الحياة المغروسة فى كيانه، والإنسان الذي يفرّق بين مواليده، هو خارج على الفطرة، منحرف عن سنة الحياة فى الأحياء.. - وقوله تعالى: «كَظِيمٌ» أي مكظوم، ممتلىء غيظا، وألما. ومنه الكظّة: وهى الامتلاء من الطعام.. - وقوله تعالى: «أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ» - هو تعقيب على هذا الموقف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 311 المنحرف الضال، الذي يقفه المشركون من مواليدهم، من التفرقة فى الحكم بين الذكور والإناث.. وقوله تعالى: «لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. المثل الذي ضربه الله سبحانه وتعالى لموقف المشركين من إضافتهم الإناث إلى الله، وإضافة الذكور إليهم، هو هذا الموقف الذي يقفونه هم أنفسهم مع ما يولد لهم من ذكور وإناث، وأنهم حين يبشر أحدهم بالأنثى ينزل به ما ينزل من حسرة، وحزن وبلاء.. فكيف ينسبون لله تعالى، ما لا يرضون نسبته إليهم؟ ذلك ما يعطيه المثل المضروب.. وتعالى الله سبحانه وتعالى عن أن يسوّى بينه وبينهم، فلله سبحانه المثل الأعلى، الذي لا يقابل بمثل.. أما المشركون فلهم كل خبيث، وكل خسيس، يضرب مثلا لهم، تصوّر به أحوالهم، ويكشف به ضلالهم.. - وفى قوله تعالى: «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» إشارة إلى أنه سبحانه وتعالى هو «العزيز» الذي يعلو بعزته فوق كل مثل.. «الحكيم» الذي يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجّهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما.. حسب ما تقضى حكمته.. الآيات: (61- 67) [سورة النحل (16) : الآيات 61 الى 67] وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 312 التفسير: قوله تعالى: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ.» مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أن الآيات السابقة كشفت عن وجوه كثيرة، من وجوه الضلال، التي يعيش فيها المشركون حين كفروا بالله، ومكروا بآياته، وجحدوا أفضاله وأنعامه، فناسب ذلك أن يذكّرهم- سبحانه- بمزيد من فضله عليهم، وهو أن هذه المنكرات التي اقترفوها جديرة بأن تسوق إليهم المهلكات، وأن ينزل بهم ما نزل بالظالمين قبلهم من نقم الله، بل ويشمل البلاء كل ما بين أيديهم من أنعام سخرها الله لهم.. وفى التعميم الذي شمل الناس جميعا، وما على الأرض من دابّة، إشارة إلى أن رحمة الله لم تتخلّ عن الناس، حتى فى مواقع البلاء، والهلاك.. فلم يهلك الله الناس جميعا بسبب ما يقع منهم من ظلم، وشرك، وكفر، ولو أخذهم بظلمهم لما أبقى منهم باقية، ولأخذ غير الظالمين بالظالمين، بل ولما أقام حياة على هذه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 313 الأرض، من حيواناتها ودوابها.. إذ كانوا جميعا كيانا واحدا، مطالبا بأن يقيم خلافة الله فى الأرض، على صراط مستقيم.. قوله تعالى: «وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» - أي ولكن شاءت رحمة الله بالناس ألا يعجّل لهم العقاب، وأن يقيمهم فى الحياة إلى أجل مسمّى، حتى تتاح لهم الفرصة لإصلاح ما أفسدوا، والرجوع إلى ربّهم.. إذ لا شك أن فى امتداد العمر للظالم رحمة به، حتى يراجع نفسه، ويرجع إلى ربّه.. فإن لم يرجع إلى الله، ويؤمن به فإن مطاولة الزمن له لم تضرّه، فقد كان بكفره غير متقبل لجديد من الضرر.. إذ ليس بعد الكفر ذنب. وإلى هذا المعنى يشير الإمام على كرم الله وجهه بقوله: «موت الإنسان بعد أن كبر وعرف ربّه، خير من موته طفلا، ولو دخل الجنة بغير حساب» ! قوله تعالى: «وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى» - هو تنديد بالمشركين، واستنكار لأفعالهم وأقوالهم جميعا، فهم يجعلون لله ما يكرهون، أي ينسبون إليه الإناث، فيجعلون الملائكة بناته، ويسمّون آلهتهم بأسماء مؤنثة، ويقولون عنها إنها بنات الله! وفى هذا يقول الله تعالى فيهم: «إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً» (27- 28: النجم) .. هذا، على حين يجعلون لأنفسهم الذكور، ثم لا يقف بهم الضلال عند هذا، بل يمنّون أنفسهم الأمانى المسعدة، ويقولون إن لهم العاقبة الحسنى عند الله.. كما يقول الله تبارك وتعالى فاضحا هذه الأمانى الخادعة: «أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 314 «عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً؟ كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً» (77- 80: مريم) . - وفى قوله تعالى: «وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى» - إشارة إلى أنهم يصفون الكذب بغير صفته، فهو قبيح، خبيث، لا يثمر إلا القبيح الخبيث، ولكنهم يعطونه صفة الشيء الحسن، ويرجون من ورائه ما يرجو المحسنون من إحسانهم.. ولهذا ضمّن الفعل تصف معنى القول: أي يقولون الكذب الذي يقولونه وهو قولهم «أن لهم الحسنى» .. فهو بدل من الكذب. قوله تعالى: «لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ» . أي لا شك أن لهم النّار، وليست لهم الحسنى كما يزعمون.. وأنهم مفرطون.. أي سابقون إلى النّار.. فهذا هو المجال الذي يسبقون فيه، ويأخذون المكان الأول منه.. أما فى مقام الخير والإحسان فهم فى أنزل منزلة. وقوله تعالى: «تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» . فى القسم من الله سبحانه وتعالى باسمه الكريم تشريف للنبىّ، ومداناة له، وتلطف من الحقّ جل وعلا معه.. أي وحقّ ربّك، لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلا مبشرين ومنذرين، فوسوس لهم الشيطان، وزين لهم ما هم فيه من عمى وضلال، فلم يستجيبوا، لدعوة الحق، ولم يردّوا على رسل الله إليهم ردّا جميلا، بل أعنتوهم، ومدّوا إليهم ألسنتهم وأيديهم بالسوء والأذى.. فلا تأس على ما يصيبك من قومك، وما ترى من عنادهم، وتأبّيهم على الحق الذي تدعوهم إليه، فالشيطان يتولاهم اليوم، ويقودهم كما تولّى الظالمين قبلهم، وقادهم إلى موارد الوبال والهلاك.. «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» أي لأولياء الشيطان جميعا عذاب أليم فى الآخرة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 315 وقوله تعالى: «وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» .. هو بيان لمحامل الرسالة التي أرسل بها النبىّ الكريم، فالكتاب الذي أنزل إليه، ليس فيه ما يدخل منه الضيم على أحد ممن يستجيب له.. إنه لا ينزع من أحد سلطانا، ولا يعتدى على حرمة من حرماته، بل إن كل ما يحمله هو الخير، والرحمة، والأمن، والسلام.. فهو نور يكشف معالم الطريق إلى الحق والخير، ويقيم لمن يهتدى به فهما صحيحا للعقيدة التي يعتقدها.. فالقرآن الكريم ميزان عدل وحق، وفيصل ما بين الحق والباطل وحكم ما بين الخير والشر.. فما استقام على ميزانه، فهو الحق والخير، وما انحرف عنه، فهو الباطل والضلال.. فعلى هديه يجتمع أهل الكتاب على كلمة سواء منه، فيما اختلفوا فيه، وإليه يحتكم أهل الهدى، فيقضى بينهم بما يرفع الخصام والشقاق فيما كان سببا فى خصامهم وشقاقهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا» (59: النساء) .. وقوله سبحانه: «وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ» (10: الشورى) .. وفى هذا يقول الرسول الكريم فى صفة القرآن الكريم: «القرآن مأدبة الله، فتعلموا من مأدبته» ففى مأدبة الله هذه الشفاء والرحمة، والهدى والمعرفة.. إنه مأدبة علم وحكمة، وخلق، وليس مأدبة معدة، ولا طعام بطون.. - وقوله تعالى: «وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» .. هو بيان لما فى القرآن الكريم من معطيات الخير التي لا تنفد.. فهو إذا كان ميزان الحق والعدل الذي تردّ إليه الأمور، وتنزل على حكمه الأحكام، فإنه كذلك هدى ورحمة، لمن آمن به واهتدى بهديه، واستظل بظلّه.. فهو الشفاء من كل داء، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 316 والعافية من كل سقام، والاستقامة من كل ضلال.. كما يقول الحق جلّ وعلا: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» (82: الإسراء) وكما يقول سبحانه: «وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ «آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى» (44: فصلت) . وقوله تعالى: «وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» . مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أنه لمّا ذكر فى الآية السابقة، أن القرآن الذي نزل على النبىّ، هو شفاء لما فى الصدور وروح للأرواح، وحياة للنفوس، فناسب أن يذكر ما ينزّل من السماء من ماء هو روح الحياة، وحياة الأحياء.. وبهذا تتم نعمة الله، حيث ينزل على عباده من رحمته، ما تحيا به حياتهم، المادية والروحية، جميعا.. وفى قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» إشارة إلى أن الآية المبصرة هى التي يتلقّاها الناس من كلمات الله، حين تتلى عليهم، لا من تلك الآيات الكونية التي يرونها بأبصارهم.. فهذه الآيات الكونية وإن كانت موطنا للعبرة، ومرادا للتبصرة، إلا أن كلمات الله التي تعيها آذان واعية، وتتلقاها قلوب متفتحة- هذه الكلمات هى أوضح بيانا، وأفصح لسانا، وأفعل أثرا، إذ هى النور الذي تنكشف على أضوائه الآيات الكونية المبثوثة فى الأرض والسماء.. وهذا هو السر فى أن جاءت فاصلة الآية الكريمة: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» ولم تجىء هكذا: «لقوم يبصرون» حيث كان ذلك هو التعقيب المناسب للآية التي تحدّث عن الماء الذي ينزل من السماء، وأثره فى إحياء الأرض.. وكل هذه صور ترى ولا تسمع» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 317 قوله تعالى: «وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ» .. اختلف المفسرون، وتعددت آراؤهم فى تأويل الضمير فى قوله تعالى: «مِمَّا فِي بُطُونِهِ» فهذا الضمير مفرد مذكر، يعود إلى «الأنعام» والأنعام جمع، فكان مقتضى هذا أن يعود الضمير إلى الأنعام مؤنثا هكذا: «بطونها» .. إذ أن كل جمع غير عاقل، يعود عليه الضمير مفردا مؤنثا.. وقد جاء على تلك الصفة فى قوله تعالى فى سورة «المؤمنون» : «وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ» (الآيتان: 21- 22) فما تأويل هذا؟ ولم اختلف النظم فى الآيتين، فجاء فى آية النحل هكذا: «مِمَّا فِي بُطُونِهِ» على حين جاء فى آية «المؤمنون» : «مِمَّا فِي بُطُونِها» . يقول المفسرون: إن الأنعام، تجىء فى اللغة بمعنى المفرد، كما تستعمل جمعا.. وقد استعملت فى آية النحل بمعنى المفرد، واستعملت فى آية «المؤمنون» الاستعمال الآخر الذي لها، وهو الجمع!! ويأتون لهذا بكثير من الشواهد اللغوية للاستعمالين.. والقول بأن «الأنعام» لفظ مفرد، مثل ثوب «أخلاق» ونطفة (أمشاج) قول متهافت لا يراد منه إلا الخروج من هذا الموقف بين يدى الآية الكريمة، وتسوية نظمها على أية صورة!! فالقرآن الكريم لم يستعمل لفظ «الأنعام» مرة واحدة بمعنى المفرد، على كثرة ما ورد فيه من ذكر هذا اللفظ فى مواضع شتى.. فمن ذلك: «وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ» .. (30: الحج) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 318 «وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ» .. (12: محمد) «فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ» .. (118: النساء) «وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ» (5: النحل) «كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ» .. (54: طه) «مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ» .. (33: النازعات) هذا هو بعض ما ورد فى القرآن الكريم من ذكر الأنعام.. وقد استعملت استعمال الجمع غير العاقل، فعاد إليها الضمير مفردا مؤنثا.. كما أضيفت إليها «الآذان» جمعا.. وكما أضيفت هى إلى الناس هكذا «أنعامكم» وليس بمعقول أن يرعى الناس جميعا بهيمة واحدة!! والذي نراه فى مجىء الضمير فى آية النحل مفردا مذكرا، على غير ما يقتضيه الاستعمال اللغوي، هو أن الحيوان الذي يشرب لبنه، ويؤكل لحمه، هو الحيوان المجترّ، بخلاف الحيوان الذي له لبن، ولكن لا يحل شرب لبنه، ولا أكل لحمه، وهو غير مجترّ، كالكلب، والخنزير. والحيوان المجترّ، له خاصية فى جهازه الهضمى.. فله معدة، وله معى، وله كرش، يختزن فيه الطعام، وبعيد مضغة مجترا.. بخلاف الحيوان غير المجتر فإنه ليس له هذا «الكرش» الذي يختزن فيه الطعام.. ومن هنا يبدو الحيوان المجتر وكأنه لا يحمل بطنا واحدا كسائر الحيوانات، بل يحمل بطونا.. المعدة، والمعى، والكرش، الذي هو أشبه بمجموعة من البطون.. ومن هنا أيضا جاء النظم القرآنى: «نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ» مشيرا إلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 319 بطون هذا الحيوان المجتر الذي أحلّ شرب لبنه، وأكل لحمه، وأن الحيوان الذي ليس له هذه البطون لا يؤكل لحمه، ولا يشرب لبنه..! ومن هنا- مرة ثالثة- كان على الإنسان أن ينظر فى الحيوان الذي يشرب من لبنه ويأكل من لحمه، فإذا كان على تلك الصفة أكل من لحمه وشرب من لبنه، وإلا أمسك عنه.. فالآية الكريمة إذ تنبه الإنسان إلى ما فى بطون الأنعام من عبرة فى خروج اللبن من بين الفرث والدم تنبّهه كذلك إلى ما أحلّ له من الحيوان ذى اللبن، ولهذا جاء وصف اللبن بهذين الوصفين: «لَبَناً خالِصاً.. سائِغاً لِلشَّارِبِينَ» . وعلى هذا يكون الضمير فى «بطونه» عائدا إلى الحيوان المجترّ ذى البطون، وذى اللبن الخالص، السائغ للشاربين.. هذا الحيوان المنتقى من بين مجموعة الأنعام كلها، فهو حيوانها الذي ينبغى أن يتجه النظر إليه فى هذا المقام! مقام أخذ اللبن الخالص السائغ منه. أما آية «المؤمنون» فلم يكن المراد منها التنبيه إلى هذه الخاصية من الحيوان، ذى اللبن الخالص السائغ، حيث جاءت الآية هكذا: «وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ» .. فهى تحدّث عن الأنعام فى جملتها، وعما يجنيه الناس منها من ثمرات، ليس اللبن إلا بعضا منها، وليس فى الآية ما فى آية النحل من إلفات خاص إلى اللبن الصافي السائغ، الذي يخرج بقدرة القدير، وتدبير الحكيم العليم.. من بين الفرث والدم.. فآية النحل تلفت الأبصار والبصائر فى قوة، إلى هذه الظاهرة العجيبة، التي تحدّث عن قدرة الله، وإلى ما تملك القدرة من قوى التصريف والإبداع.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 320 فمن بين الفرث، وهو «الروث» ، وبين الدم- يجرى اللبن الخالص، السائغ، دون أن تعلق به شائبة، أو يمسّه سوء، يغيّر لونه أو طعمه، أو ريحه.. ومن تلك الأخلاط التي تجمع من الأطعمة التي يتناولها الحيوان، وتتجمع فى كرشه ومعدته- من تلك الأخلاط يخرج الفرث، واللبن، والدّم.. فيأخذ الفرث سبيله إلى العمى، ثم إلى خارج الجسد، ويأخذ اللبن مجراه إلى الضرع، ويأخذ الدم مساره فى العروق! دون أن يبغى بعضها على بعض، أو يختلط بعضها ببعض، حتى لكان كلّا منها وارد من عالم لا يتصل بالعالمين الآخرين، بأية صلة.. فتبارك الله رب العالمين..!! وفى تقديم قوله تعالى: «مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ» على قوله سبحانه «لَبَناً» الذي هو مطلوب للفعل «نسقيكم» - فى هذا إلفات إلى الفرث والدم وما يخرج من بينهما، وهو اللبن الخالص السائغ للشاربين.. فإنه قبل أن يقع لنظر الناظر هذا اللبن، يلتقى نظره أولا بالفرث والدم، الذي لا يتصور أن يخرج منهما إلا ما يشاكلهما.. فإذا رأى بعد هذا أن ذلك اللبن الخالص السائغ يخرج من بين هذين الشيئين: الفرث والدم، عجب لذلك كلّ العجب، وحمله ذلك على أن يقف عند هذه الظاهرة وقوفا طويلا، يشهد فيها لمحات من قدرة الله، وعلمه، وحكمته. قوله تعالى: «وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» .. «ومن» من هنا للتبعيض.. أي ومن بعض ثمرات النخيل والأعناب تتخذون سكرا ورزقا حسنا.. وهو ما يؤخذ من التمر.. من خلّ، وما يتخذ من العنب.. من زبيب مثلا.. فليس كل ثمرات النخيل والأعناب، يتخذ، أي يصنع منها السكر، وغير السكر، وإنما يؤكل أكثره من غير صنعة، وقليله هو الذي يصنع من السّكر وغيره.. ولهذا عاد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 321 الضمير فى «منه» على هذا البعض، أو هذا القليل.. أي وبعض ثمرات النخيل والأعناب تتخذونه سكرا ورزقا حسنا ... والسّكر: ما يسكر، وهو الخمر.. والرزق الحسن ما يصنع من التمر والعنب فى أغراض أخرى غير السّكر.. وفى هذا إشارة إلى أن السكر- وهو الخمر- رزق غير حسن.. وإن سمّى رزقا، لأن كثيرا من الناس يصنعه، ويبيعه، ويعيش من العمل فيه.. وهذه أول آية تنزل فى الخمر، وتومئ إليه هذه الإماءة التي تحقره، وتسمه بتلك السمة التي تعزله عن الحسن من الرزق. الآيات: (68- 73) [سورة النحل (16) : الآيات 68 الى 73] وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 322 التفسير: قوله تعالى: «وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ» . الوحى هنا: الإلهام، المركوز فى الفطرة التي فطر الله النحل عليها.. فهكذا خلق الله النحل، تتخذ لها بيوتا فى الجبال، وفى جذوع الأشجار، وفى سقوف المنازل والحيطان، ونحو هذا.. وسميت أعشاش النحل بيوتا، لأنها قائمة على نظام دقيق بديع، تحكمه هندسة دقيقة بارعة، يحار فيها عقل الإنسان. وقوله تعالى: «ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» . هو معطوف على ما قبله.. أي مما ألهمه الله سبحانه وتعالى النحل وجعله طبيعة قائمة فيها، أن يكون طعامها من زهر الزروع وثمارها.. والتقدير: وأوحى ربك إلى جماعة النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا.. ثم كلى من كل الثمرات.. - وفى توجيه الأمر إلى النحل فى قوله تعالى: «أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً» .. وقوله سبحانه: «ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ» ثم قوله تعالى: «فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا» - فى هذا الأمر إشارة إلى أن الوحى الصادر إلى النحل ليس أمرا تكليفيا، وإنما هو أمر تقديرى، ليس للنحل معه تفكير الجزء: 7 ¦ الصفحة: 323 أو تدبير، بل هو أشبه بجهاز عامل فى كيان النحل، أو قل هو الجهاز العامل فى كيانه.. - وفى قوله تعالى: «فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا» المراد بالسبل هنا ما فى كيان النحل من غرائز فطرية، هى التي تحكم حياته، وتضبط سلوكه. والأمر الموجه إلى النحل بأن يسلك سبل ربه ذللا، هو إذن من الخالق جلّ وعلا، للنحل أن ينطلق على طبيعته، وأن يسير على ما توجهه إليه غريزته، حيث لا تتصادم هذه الغريزة، بشىء غريب يدخل عليها من إرادة أو تفكير.. فالسبل التي تسلكها النحل فى بناء بيوتها، وفى تناول طعامها، وفى الشراب الذي تخرجه من بطونها.. كل ذلك يجرى على سنن مستقيم لا ينحرف أبدا، ويسير فى طريق مذلل معبّد.. هو طريق الله، وهو فطرة الله. وقد عاد الضمير على النحل بلفظ المفرد المؤنث: «اتَّخِذِي.. ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ.. فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ.. يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ» مع أن «النحل» اسم جمع مذكر، وذلك أن المراد بالنحل هو «جماعة النحل» أو النحل فى جماعته، من حيث كان النحل من الكائنات الحية التي لا تعيش إلا فى نظام جماعى، تتألف منه وحدة منتظمة، أشبه بالوحدات الإنسانية، فى أرقى المجتمعات، حيث تتوزع أعمال الجماعة على أفرادها، وحيث يؤدى كل فرد ما هو مطلوب منه فى غير فتور أو تمرد.. ومن حصيلة العمل الذي تعمله هذه الجماعة، ويشارك فيه ذكورها وإناثها، وجنودها وعمالها، والملكة ورعيتها- من هذه الحصيلة يتكون الشراب المختلف الألوان، الذي فيه شفاء للناس. - وقوله تعالى: «يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ» - الجزء: 7 ¦ الصفحة: 324 هو جواب عن سؤال يقع فى الخاطر، حين يستمع المرء إلى كلمات الله سبحانه وتعالى عن النحل، وعن وحيه إليه، وأمره له، فيلفته ذلك كله إلى النحل، وإلى أن يسأل نفسه، ما شأن هذا النحل؟ وما الرسالة التي يؤديها هذا المخلوق الضئيل الذي يتلقى من ربه وحيا كما يتلقى الأنبياء؟ فيكون الجواب: «يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ» - تلك هى رسالة النحل، يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه، يتلوّن بلون الغذاء الذي يتناوله.. أما ثمرة هذه الرسالة.. وأثرها فى الحياة، فذلك ما كشف عنه قوله تعالى: «فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ» ففى هذا الشراب الذي يخرج من بطون النحل شفاء للناس.. أي إن فى تناول الناس له شفاء لكثير من أمراضهم وعللهم، وليس لكل الأمراض والعلل.. ولهذا جاء التعبير القرآنى «فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ» بالتنكير، ولم يجىء: «فيه الشفاء للناس» ، الذي يدل بتعريفه على العموم والشمول، وهذا من حكمة الحكيم العليم.. فلو كان شراب النحل شفاء من كل داء لأدخل الخلل على نظام الحياة الإنسانية، التي لا تستقيم إلا مع الصحة والمرض معا. روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه من يشكو إليه مرض أخيه، بداء فى بطنه، فقال صلى الله عليه وسلم: «اسقه عسلا.. فسقاه فلم يشف ما به، فجاء إلى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- شاكيا، فقال: اسقه عسلا.. فسقاه.. فلم يذهب بدائه.. فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاكيا، فقال: «صدق الله وكذب بطن أخيك» اسقه عسلا.. فسقاه، فشفى! هذا ويجوز أن يكون الضمير فى قوله تعالى: «مِنْ بُطُونِها» عائدا إلى السبل، أي يخرج من بطون هذه السبل شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس.. وهذا يعنى أن رسالة النحل فى هذه الحياة، هى أن تسعى هذا السعى فى الحياة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 325 وأن تسلك السبل التي يسّرها الله سبحانه وتعالى لها، وأقام طبيعتها عليها، بحيث لا حياة لها فى غير هذه السبل، وأنه إذ تسلك النحل هذه السبل- ولا بد لها أن تسلكها- يخرج من بطون تلك السبل شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس.. وهذا يعنى مرة أخرى أن النحل ليس إلا أداة من الأدوات العاملة فى هذا الجهاز العظيم الذي يخرج من بطونه هذا الشراب.. وهذا يعنى مرة ثالثة ألا يقف نظر الإنسان عند النحل وما يخرج منه من شراب عجيب، بل يجب أن يمتد النظر إلى آفاق فسيحة وراء أفق النحل.. فهناك الأزهار المختلفة التي يتغذى عليها النحل ويمتص رحيقها، وهى ألوان وطعوم.. كل لون منها، وكل طعم، فيه نظر لناظر، وعبرة لمعتبر.. فليس هذا الشراب المختلف الألوان الذي يخرج من بطون النحل- بأعجب من هذا الزهر المختلف الأصباغ الذي يخرج من بطون الأرض.. ثم هناك أيضا هذا التجاذب، والتوافق بين الزهر والنحل، فإنه لولا هذا التوافق والتجاذب لما جاء هذا الشراب، على صورته تلك.. فلو أنه كان من طبيعة النحل أن يتغذى بالحبّ، أو اللحم، أو ما شابه ذلك لما كان هذا الشراب.. فبطون النحل التي أخرجت الشراب، وبطون الأرض التي أخرجت الزهر، هى جميعا جهاز واحد فى صنعة هذا الشراب المختلف الألوان، الذي فيه شفاء للناس. وقوله تعالى: «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ» .. هو آية من آيات الله فى خلقه.. وهى الحياة والموت.. فقد قضت حكمة الله أن يقرن الموت بالحياة، وأن يصله بها، ويسلطه عليها، مع اختلاف مدة الحياة التي يحياها الكائن الحىّ.. ففى الناس مثلا من يموت جنينا، ومنهم من يموت شابّا، ومنهم من يموت شيخا، ومنهم من يمتدّ به الأجل حتى يبلغ من العمر أرذله..! على أن النهاية هى الموت..! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 326 وفى وقوف القرآن الكريم عند تلك الحالة التي يصل فيها الإنسان إلى أرذل العمر- إشارة إلى ما يلبس الإنسان فى تلك الحالة من صور فى الحياة، أشبه بما كان عليه فى أول مراحل العمر.. فيضمر جسده، وتضعف قواه، وتتحول مشاعره، ومدركاته، إلى مشاعر الطفولة ومدركتها، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ» (68: يس) . - وفى قوله تعالى: «يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ» إشارة إلى أن امتداد العمر بالإنسان، ينتهى به عند نقطة معينة يبدأ بعدها الرجوع إلى الوراء، من حيث بدأ رحلة الحياة، وهو رجوع على وضع مقلوب، منتكس، يجرى على عكس الاتجاه الذي كان يأخذه فى أول حياته، التي كان طريقه فيها يمشى به صعدا، على حين أنه فى رحلة العودة إلى الوراء يهبط منحدرا، حتى ليكاد يقع على مستوى نقطة البدء التي بدأ منها.. وهذا ما يكشف عنه قوله تعالى «أَرْذَلِ الْعُمُرِ..» فالرذل هو الخسيس من كل شىء.. وتلك المرحلة المتقدمة من العمر هى أسوأ مراحل العمر وأرذله.. وقد أحسن المعرى فى قوله: وكالنّار الحياة فمن رماد ... أواخرها، وأولها دخان فأول العمر دخان، ثم يتكشف هذا الدخان عن نار، هى شباب الحياة، وجذوته، ثم تخمد هذه الجذوة، وينطفىء هذا الشباب، فإذا هو رماد.. تسرى فيه بعض حرارة النار، ثم يبرد شيئا فشيئا حتى يكون ترابا.. وذلك هو آخر مطاف الإنسان فى هذه الحياة..! - وفى قوله تعالى: «لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً» إشارة إلى أن هذا الإنسان الذي امتدّ به الأجل إلى هذا المدى، قد عاد من رحلته الطويلة فى الحياة، إلى النقطة التي بدأ منها.. فمن ولد لا يعلم شيئا، انتهى إلى حيث لا يعلم شيئا، كما يقول الله تعالى: «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً» .. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 327 وفى الآية الكريمة صورة كاشفة لهذا الإنسان الذي مكّن الله سبحانه وتعالى له من القوى الجسدية والعقلية، فاتخذ منها أسلحة يحارب بها الله، ويتسلّط بها على خلق الله، فلو أنه عقل ونظر إلى نفسه فى مرآة الزمن، حين يمتد به العمر، لرأى كيف يكون حاله من الضعف والوهن.. وإذن لأقام حسابه مع هذه القوة التي بين يديه على العدل والإحسان، ولأبقى لنفسه رصيدا من الخير والمعروف.. يحتفظ به فى يد الحياة، لتقدّمه له فى تلك المرحلة الحرجة فى حياته.. قوله تعالى: «وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ.. فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» ..؟ هذا التفاوت بين الناس، فيما فضّل الله به بعضهم على بعض، فى الرزق، يشير إشارة صريحة إلى أنه ينبغى أن يكون هناك تفاوت بين الخالق والمخلوق.. ذلك أنه إذا كان الناس وهم من صنعة الخالق، لم يطبعهم الله سبحانه وتعالى على صورة واحدة، ولم يقمهم فى الحياة على درجة واحدة، بل خالف بينهم فى الصورة، واللون، ففيهم الوسيم والدميم، والطويل والقصير، والأبيض والأسود- كذلك قسم الله معيشتهم فى الدنيا، فجعل فيهم الغنىّ والفقير، والمالك والمملوك- فكيف يسوغ بعد هذا أن يسوّى بين الخالق وما خلق؟ فهؤلاء الذين وسع الله لهم فى الرزق، وملأ أيديهم من الجاه والمال والسلطان- أيكون منهم من يردّ ما بين يديه من مال ومتاع على من تحت يده من عبيد وإماء، حتى يسوّى بينه وبينهم فى المأكل والمشرب، والملبس، وفى كل مظاهر الحياة؟ ذلك ما لا يكون، وإن كان شىء منه، فهو واقع- فى صورة لا تزيل الفارق بينه وبين من تحت يده، وإن ارتفع بهم شيئا قليلا! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 328 فكيف يسوغ هذا الضلال لعقل هؤلاء الذين يجعلون لله أندادا يسوّونهم به، وهم صنعة يده، وغذىّ نعمته؟ - وفى قوله تعالى: «أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» إنكار لموقف هؤلاء المشركين، من نعم الله، التي أفاضها عليهم.. وتذكير لهؤلاء السادة من المشركين بما وسّع لهم من رزق، ولو شاء لجعلهم فى المكان الذي فيه عبيدهم ومواليهم.. فإنهم بهذا الرزق الذي رزقهم الله إياه كانوا سادة فى الناس، وكانت لهم الكلمة المسموعة فيهم.. ثم هم- مع ذلك- أئمة يدعون الناس إلى غير طريق الله، ويدفعون بهم إلى مهاوى الهلاك.. وكان الأولى بهم أن يقيموا وجوههم إلى الله، وأن يقدموا له ولاءهم وحمدهم، فإذا لم يكن شىء من هذا، فلا أقلّ من أن يدعوا عباد الله يعبدون الله، لا أن يضلّوهم ويصدّوهم عن سبيله! قوله تعالى: «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ.. أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ» . هذا رزق من رزق الله، الذي جعله حظّا مشاعا فى عباده جميعا، وهو أنه سبحانه، جعل بين الذكر والأنثى فى عالم الإنسان- كما هو فى عالم الحيوان- إلفا ومودة، بما بينهما من مشاكلة وتوافق فى الطباع، الأمر الذي به يتم اجتماعهما، وتآلفهما، ثم ما يكون من هذا الاجتماع والتآلف من ثمرات طيبة، يقتسمان متعتهما منها، هى البنون والحفدة، وهم أبناء الأبناء، أو هم الكبار من الأبناء، الذين يكونون عضدا لآبائهم، يسعون معهم، ويحملون عبء الحياة عنهم.. فالحفد: السعى فى سرعة، ومنه ما ورد فى القنوت: «وإليك نسعى ونحفد» .. ثم إلى هذا الذي رزقه الله سبحانه وتعالى، الناس من بنين وحفدة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 329 ما رزقهم به من طيبات فى هذه الحياة، مما يتقلبون فيه من فضل الله ونعمته.. وهذا كلّه من عطاء الله، وهو جدير بأن يحمد ويشكر.. ولكن كثيرا من النّاس يكفرون بالله، ويجحدون فضله ويجعلون ولاءهم لغيره، مما هو باطل وضلال.. «أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ» ؟ .. إن ذلك وضع مقلوب للأمور.. حيث يكون الباطل متعلّق الإنسان وموطن رجائه، بدلا من الحق الذي ينبغى أن يكون متعلّقه ومناط ولائه ورجائه.. وحيث يستقبل النعمة بالكفران والجحود، بدلا من أن تستقبل بالحمد والشكران.. وفى العدول من الخطاب إلى الغيبة فى قوله تعالى: «أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ» .. إبعاد لهؤلاء المنحرفين عن طريق الحق، من أن ينالوا شرف الخطاب من رب العالمين، وأن يأخذوا مكانهم بين من هم أهل لهذا الشرف العظيم.. وقوله تعالى: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ» .. هو تسفيه لهؤلاء المنحرفين الضالين، ووعيد لهم، إذ تعلقوا بهذه الأوهام، وخدعوا أنفسهم بهذا السراب، فعبدوا من دون الله، ما لا يملك شيئا من هذا الرزق الذي ينزل عليهم من السماء، ويخرج لهم من الأرض، ولا يستطيع- هذا المعبود- إن هو حاول- أن ينال شيئا، وهو كله فى ملك الله، وفى سلطان الله.. الآيات: (74- 77) [سورة النحل (16) : الآيات 74 الى 77] فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 330 التفسير: قوله تعالى: «فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» الأمثال: جمع مثل، وهو شبيه الشيء ونظيره.. وضرب المثل: مقابلته بمثله، حين يجمع بين النظير ونظيره، أو الشيء وضده، كما يقول سبحانه: «كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ» والأمر هنا موجه إلى المشركين، الذين يضربون أمثالا، يقيمون منها حججا لضلالهم، وهى أمثال باطلة فاسدة، تولدت من عقول مريضة، وقلوب سقيمة.. كما يحكى القرآن بعض أمثالهم فى قوله تعالى: «وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ» .. (78: يس) أما الأمثال التي يضربها الله، فهى التي تكشف الطريق إلى الحق والخير، لأنها أمثال مستندة إلى علم الله المحيط بكل شىء.. «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» . وقوله تعالى: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 331 مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ؟ الْحَمْدُ لِلَّهِ.. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» . هذا مثل من الأمثال التي يضربها الله.. وفيه الحجة البالغة، والبيان المبين، لما بين الحق والباطل، من بعد بعيد! فهذا عبد مملوك.. هو فى يد مالكه، لا يملك من أمر نفسه شيئا.. وهذا إنسان رزقه الله رزقا حسنا، ليس لأحد عليه سلطان، فهو ينفق من هذا الرزق الحسن كيف يشاء، سرا وجهرا.. يعطى من يشاء مما فى يده، ويحرم من يشاء! فهل يستوى هذا، وذاك؟ هل يستوى العبد والسيد؟ هل يستوى المملوك والمالك؟ ثم هل يستوى المخلوق والخالق؟ هل يستوى من لا يملك ومن يملك؟ هل يستوى من لا يرزق ومن يرزق؟ العقلاء يحكمون بداهة أن لا مساواة بين هذين النقيضين.. ثم يخرجون من هذا إلى الاتجاه إلى الله بالحمد على أن كشف لهم الطريق إليه، وعرّفهم به.. أما أهل الزيغ والضلال، فإنهم لا يجدون فى هذا المثل شعاعة من أضوائه، بل يظلون على ما هم عليه من عمى وضلال.. - وفى قوله تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ» إشارة إلى أن هذا هو منطق الذين يستمعون إلى هذا المثل ويعقلون، فيؤمنون بالله ويحمدونه.. قوله تعالى: «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ، أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .. وهذا مثل آخر، لما بين الحق والباطل من تفاوت كبير، وبعد بعيد.. هذان رجلان: أما أحدهما فأبكم، مغلق الحواس، والمشاعر، والمدارك. لا يفهم شيئا، ولا يحسن شيئا.. إنه حيوان، يمسك به من مقوده إلى حيث الجزء: 7 ¦ الصفحة: 332 يقاد.. وأما الآخر فعاقل رشيد، حكيم، يرتاد مواقع الخير، ويلقى بشباكه فيها، فتجيئه ملأى بكل طيب كريم. إنه على طريق مستقيم، لا تزلّ قدمه، ولا تتعثر خطاه، ولا يظل به الطريق! فهل يستوى الرجلان! وهل هما فى ميزان الحياة، وفى تقدير العقلاء، على سواء؟ ذلك ما لا يقول به عاقل، ولا ينزل على حكمه إلا أحمق سفيه! قوله تعالى: «وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» . ذلك هو ما يؤدّى إليه النظر فى هذين المثلين.. وهو أن الله سبحانه وتعالى هو المتفرد وحده بجلاله، وقيّومته على هذا الوجود.. لا يماثله شىء من خلقه، ولا يوازن به كائن من مخلوقاته.. فله- سبحانه- غيب السموات والأرض.. يعلم ما تكسب كل نفس، وسيوفّى كل إنسان جزاء ما عمل.. وذلك فى يوم الحساب والجزاء، يوم يقوم الناس لرب العالمين.. وهذا اليوم، ليس ببعيد.. لا يحتاج مع قدرة الله إلى معاناة وجهد.. فما هو إلا أن يأذن الله به، فإذا هو واقع فى لمحة كلمحة البصر، أو أقرب.. «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» . الآيات: (78- 83) [سورة النحل (16) : الآيات 78 الى 83] وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 333 التفسير: قوله تعالى: «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» .. هو إلفات إلى قدرة الله، وإلى ما لهده القدرة من سلطان حكيم، وتصريف محكم.. ففى خلق الإنسان، وفى أطواره التي مرّ بها، ما يفتح للعقل كتابا مبينا، يرى فى صحفه من مظاهر قدرة الله، وعلمه، وحكمته، ما يأخذ بالألباب، ويأسر المشاعر.. من أبن جاء الإنسان؟ وكيف كان هذا الكائن السميع، البصير، العاقل، العالم؟ ألم يكن نطفة، ثم كان علقة، ثم كان مضغة، ثم جنينا.. ثم طفلا؟ ثم كيف بهذا الطفل، الذي استقبلته الحياة أشبه بقطعة من اللحم المتحرك، ثم هو يصبح هذا الإنسان الذي يقود سفينة الكوكب الأرضى، ويقوم عليها خليفة لله فيها؟ - وفى قوله تعالى: «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» توجيه للقوى العاقلة المدركة فى الإنسان أن تؤدى وظيفتها فيه، وأن يفتح الإنسان منها طاقة على هذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 334 الوجود، فيرى ما لبسه من نعم الله عليه، وإحسانه إليه، فيحمده، ويشكر له.. قوله تعالى: «أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» .. هو إشارة إلى آية من آيات الله، خارج كيان الإنسان، وعالمه الداخلى.. فإذا لم يكن فى الإنسان نظر يرى به ما بداخل كيانه، كما يقول الله تعالى: «وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ» (21: الذاريات) - فليقم نظره على هذا العالم الخارجي.. وليوجه مدار نظره على هذا الطير السابح فى السماء، الصّافّ بأجنحته على هذا العالم الأثيرى، وليسأل نفسه: من يمسك هذا الطير أن يقع على الأرض؟ ومن أعطاه تلك القدرة التي يقهر بها جاذبية الأرض، ويخرج بها عن سلطان هذه الجاذبية، فلا يسقط كما يسقط لإنسان القوى العاقل إذا هوى من فوق شجرة، أو دابة مثلا؟ إن القدرة القادرة- قدرة الحكيم العليم- هى التي تمسك بهذا الطير السابح، أو الصاف على موج الأثير.. فى جو السماء! «ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ» . أليس فى هذا آية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد؟ بلى إنها لآية لقوم لا يمكرون بآيات الله، ولا يخونون أنفسهم بما تحدثهم به من الحق، فينكرونه فى عناد ومكابرة. قوله تعالى: «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ» .. وإذا قصرت بعض الأنظار أن ترى ما فى جوّ السّماء من طيور سابحة، أو زاغت عن أن ترى وجودها الإنسانى، وما بداخلها من آيات الله فيها، فهذه آيات مبثوثة على الأرض.. لا تحتاج إلى نظر، وإنما هى مما يمسك باليد.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 335 فهذه البيوت التي جعلها الله سكنا للإنسان، يأوى إليها، ويجد فيها أنس النفس وروح الروح، بما يجتمع إليه فيها من زوج وولد.. أليس هذا من نعم الخالق ومن سابغات أفضاله؟ ثم هذه البيوت الخفيفة الحمل التي يتخذها الإنسان من جلود الأنعام، أو مما على جلودها من أصواف وأوبار وأشعار- أليست مما يسّر الله للإنسان، ومكن له منها؟ أفبعد هذا يجد العاقل متجها إلى غير الله، يلوذ به، ويعطى ولاءه له؟ قوله تعالى: «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ» .. أي ومن فضل الله على عباده أن جعل لهم- من غير صنعة منهم- ظلالا يستظلون بها من وقدة الشمس، حيث يجدون هذه الظلال الفسيحة فيما أنبت الله من شجر، كما جعل لهم- من غير عمل ولا جهد- أكنانا من الجبال، يأوون إليها من البرد.. وذلك رحمة من رحمة الله بكثير من الناس الذين لا يتسع حولهم أو حيلتهم، لبناء البيوت، وصنعة المساكن.. كذلك من فضله سبحانه على عباده، أن هيأ لهم أسباب العلم والمعرفة فنسجوا من الحرير، والصوف، والشعر، والوبر.. وغيرها «سرابيل» أي ملابس يتسربلون بها، ويغطون أجسادهم، يتقون بها لفح الهجير، ولذعة السموم.. ثم مكن لهم سبحانه، من أن يتخذوا من الحديد سرابيل، أي دروعا يتقون بها عدوان بعضهم على بعض بالحراب والسيوف.. وفى قصر منفعة السرابيل، التي تتخذ لوقاية الجسم من عادية الحرّ، على هذه المنفعة وحدها، دون ما يتخذ من الملابس لانقاء البرد، أو التجملّ والتزين- فى هذا إشارة إلى تلك المنفعة الخفية التي ربّما غفل عنها كثير من الناس، حيث يحسبون أن اتقاء البرد، هو الدافع الأول للإنسان على اتخاذ الملابس والأغطية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 336 وقاية له.. وهذا وإن كان صحيحا إلا أن اتقاء لفح الحرّ بالملابس لا تقلّ دواعيه عنها فى حال البرد. فإن لفح الهواجر، ولذعة السّموم، تحرق الأجسام، وتشوى الوجوه، إن لم يتوقّها الإنسان بما يتسربل به.. - وفى قوله تعالى: «كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ» الإشارة هنا، إلى تلك النعم السابغة الشاملة، التي تلقى الإنسان حيث كان، وتستقبله أنّى دعت حاجته إليها، وذلك ما لا يخلى إنسانا من واجب الشكر لله ذى الطول والإنعام.. قوله تعالى: «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ» .. مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنها تعقب على تلك النعم التي أفاضها الله على عباده، ولم يحرم أحدا حظه منها.. وفى هذه النعم تتجلّى قدرة الله، وحكمته- فكان لقاء النبىّ قومه بعد هذا العرض العظيم لآيات الله، وتذكيرهم بالله سبحانه، أنسب الدواعي التي تدعو الإنسان إلى لله، وإلى الإيمان به.. فإن تولّى بعد هذا، فليس على الرسول إلا البلاغ المبين، وقد بلّغ الرسول أبين بلاغ وأوضحه.. قوله تعالى: «يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ» هو كشف عن هؤلاء المشركين، وما انطوت عليه نفوسهم من ضلال وظلام.. «يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ» ويشهدون آثارها فيهم وفيمن حولهم «ثم ينكرونها» ظلما وبغيا.. ومن نعم الله التي أنعم عليهم بها، هذا القرآن الكريم، الذي يعرفونه ويعرفون ما فى آياته من حق وصدق.. ولكنهم يكابرون ويعاندون، فينكرونه، ويصمّون آذانهم عنه، ويغلقون قلوبهم دونه. - وفى قوله تعالى: «وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ» إشارة إلى ما استولى على قلوب الكثرة فيهم، من كفر صريح غليظ، كما يدل على ذلك تعريف الخبر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 337 المحدّث عنهم بالكفر.. بقوله تعالى: «وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ» .. أي الكافرون كفرا بالغا الغاية التي ليس وراءها شىء منه.. الآيات: (84- 89) [سورة النحل (16) : الآيات 84 الى 89] وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89) التفسير: قوله تعالى: «وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» .. هو وعيد للكافرين، وما يلقون يوم القيامة من ذلّة وهوان، وما ينزل بهم من بلاء وعذاب.. ففى هذا اليوم تجىء كل أمة، ومعها رسولها الذي بعث فيها، ليؤدّى فيهم الشهادة بين يدى الله، كما يقول سبحانه: «فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ» (6: الأعراف) وكما يقول تعالى: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ» (71: الإسراء) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 338 - وقوله تعالى: «ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» .. أي لا يؤذن لهم بالكلام، إذلالا لهم، وكتبا.. كما يقول سبحانه: «هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ» أي ليقيم المذنب لنفسه عذرا عما فعل من قبيح.. والمراد بعدم الإذن لهم بالكلام هو فى تلك الحال التي يواجهون فيها رسلهم.. الذين يتكلمون.. أمامهم فيسمعون شهادة رسلهم فيهم دون أن ينطقوا بكلمة، إذ ليس لهم كلمة يقولونها هنا، بين يدى هذا الحق الذي تخرس معه الألسنة. قوله تعالى: «وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ، فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ» .. أي حين يشهد الظالمون، العذاب، ويستيقنون أنهم صائرون إليه، يفزعون منه، ويشتد بهم البلاء، ويحيط بهم الكرب.. ولكن لا مفزع لهم.. فذلك هو العذاب لذى أعدّ لهم، ولن ينظروا ويمهلوا، بل يلقى بهم فيه قبل أن يردّوا أبصارهم عنه. قوله تعالى: «وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ» . هذا مشهد من مشاهد القيامة. وفيه، يرى المشركون وقد دارت أعينهم تبحث عن طريق للنجاة، من هذا البلاء المحيط بهم، حتى إذا رأوا شركاءهم الذين عبدوهم من دون الله تعلقوا بهم قائلين: «رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ» .. إنهم هم الذين أضلونا، ووقفوا فى طريقنا إليك.. «فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ» أي رموهم بهذه الكلمات القاتلة التي قطعت هذا الحبل الذي تعلقوا به، وظنوا أنهم ناجون.. «إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ» أي إننا لم ندعكم إلى عبادتنا، بل عقولكم الفاسدة، هى التي أضلتكم، وأرتكم منّا ما رأيتم، حتى جعلتمونا آلهة تعبد من دون الله.. قوله تعالى: «وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ..» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 339 أي حين أفلت من المشركين هذا المتعلق الكاذب الذي تعلقوا به، وملأ اليأس قلوبهم، أسلموا أمرهم لله، وقد تخلّى عنهم ما كانوا يفترون على الله من أباطيل.. قوله تعالى: «الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ» - وأولئك هم الذين كفروا بالله ثم لم يقفوا عند هذا الجرم الغليظ، بل حالوا بين الناس وبين الهدى والإيمان، فقعدوا لهم بكل سبيل، وتسلطوا عليهم بكل سلطان ليردّوهم عن مورد الحق.. فهؤلاء لهم عذاب فوق العذاب الذي استحقوه بكفرهم.. وفى هذا يقول الله تعالى. «وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ» (13: العنكبوت) . - وفى قوله تعالى: «بِما كانُوا يُفْسِدُونَ» بيان للسبب الذي من أجله ضوعف لهم العذاب، وهو أنهم مع كفرهم بالله، كانوا يفسدون فى الأرض، ويفتنون الناس فى دينهم. قوله تعالى: «وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ» .. هو خطاب للنبىّ الكريم، وبيان لموقفه من قومه يوم القيامة، فهو الشهيد عليهم، كما أن كل نبى سيكون شهيدا على قومه.. - وفى قوله تعالى: «وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ» الإشارة هنا بهؤلاء، تتجه أولا إلى أولئك المشركين، الذين يتولّون كبر الوقوف فى وجه الدعوة الإسلامية، ويحادّون الله ورسوله.. ثم إلى من بلغته الدعوة. - وقوله تعالى: «وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ» .. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 340 هو بيان كاشف لاستحقاق النبىّ أن يقوم شاهدا على قومه، وذلك لأنه قد جاءهم بالكتاب الذي تلقاه من ربّه ليبيّن لهم ما اختلفوا فيه، وليكون حكما يحتكمون إليه، ومنار هدى يهتدون به إلى الحق والخير، ومورد رحمة يستظلون به، ويجدون الشفاء فى آياته وكلماته، وبشير خير بما أعدّ الله المسلمين من حياة طيبة فى الدنيا، وجنات لهم فيها نعيم مقيم فى الآخرة.. وخصّ المسلمون بالذكر، لأنهم هم أهل هذا الكتاب، وهم المسمّون بالمسلمين، كما يقول الله تعالى: «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ» (78: الحج) فهم مؤمنون ومسلمون.. أما غيرهم من أتباع الرسل فهم مؤمنون أصلا، مسلمون تبعا. [القرآن الكريم.. والحقائق الكونية] هذا، وقد أخذ بعض المفسرين من قوله تعالى: «وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ» أن القرآن الكريم يحوى فى آياته وكلماته علوم الأولين والآخرين،، وأنه خزانة المعارف كلها، ما عرفت الإنسانية منها وما لم تعرف، وجاءوا على هذا بشاهد آخر من القرآن الكريم وهو قوله تعالى: «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ» (38: الأنعام) .. وهذا ماحدا بكثير من علماء المسلمين إلى أن ينظروا فى كتاب الله على أنه كتاب علمىّ، يقرر حقائق علمية، تكشف عن أسرار هذا الوجود، وتحدّث عن القوانين المتحكمة فيه، وخرّجوا على هذا كثيرا من الآيات الكريمة، يقابلون بينها وبين ما كشف عنه العلم من أسرار الكون، وقوانينه. إن داء التحكك بالقرآن الكريم، ومحاولة استخلاص علوم كونية، وأسرار دفينة- داء قديم، أصيب به كثير من الناس، فانحرفت نظرتهم إلى كتاب الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 341 ونظروا إليه بعيون حولاء، تذهب بآياته وكلماته مذاهب مختلطة إلى مقررات العلوم والفنون، فتخرّجها عليها وتلوى زمامها نحوها.. وقد انفتح هذا الباب على مصراعيه، فدخل منه كثير من أهل الأهواء والبدع، يتأولون كلمات الله وآياته تأويلات فاسدة يدّعونها على القرآن، ويقولون إنها من علوم الباطن التي احتواها كتاب الله واشتمل عليها، والتي لا يعلم علمها إلا الراسخون فى العلم! فكان ذلك مدّعى يدعيه كلّ ذى هوى يريد أن يدعم مذهبا فاسدا، أو ينتصر لفرقة مارقة.. وكان من ذلك ما رأيناه فى تلك الفرق المنحرفة من فرق الشيعة والخوارج وإخوان الصفاء، وغيرهم ممن تأولوا كلمات الله، وصرفوا منطوق ألفاظها على غير ما وضعت له فى اللسان العربي، الذي جاء عليه القرآن الكريم.. يقول الإمام الشاطبي: «إن كثيرا من الناس، تجاوزوا فى الدعوى على القرآن الحدّ، فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين والمتأخرين.. من علوم الطبيعيات، والتعاليم- أي العلوم الرياضية- والمنطق، وعلم الحروف- اليازرجة- وجميع ما نظر فيه الناظرون، من هذه الفنون وأشباهها.. ثم يقول: «وربما استدلّوا على دعواهم بقوله تعالى: «وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ» .. وقوله: «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ» .. ونحو ذلك.. وبفواتح السور- وهى ما لم يعهد عند العرب- وبما نقل عن الناس فيها، وربّما حكى ذلك عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، وغيره- أشياء..! «فأما الآيات.. فالمراد بها عند المفسّرين، ما يتعلق بحال التكاليف والتعبّد، أو المراد بالكتاب فى قوله تعالى: «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ» : اللوح المحفوظ، ولم يذكروا فيها- أي التفاسير- ما يقتضى تضمنه- أي القرآن- لجميع العلوم النقلية والعقلية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 342 «وأما فواتح السور، فقد تكلم الناس فيها بما يقتضى أن للعرب بها عهدا، كعدد الجمّل الذي تعرفوه من أهل الكتاب، حسب ما ذكره أصحاب السير، أو هى المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله تعالى، وغير ذلك، وأما تفسيرها بما لا عهد به، فلا يكون» «1» . هذا ما يقرره الإمام الشاطبي فى جلاء لا يحتاج إلى تعقيب! والذي يمكن أن نقوله، هو أن القرآن الكريم هو مادة العلم، ومائدة العلماء، وأنه مادة لا تنفد أبدا بالأخذ منها، بل تزداد على الأخذ وتعظم، وأنه مائدة تسع الناس جميعا، وتعذّى عقولهم، ومشاعرهم، غداء طيّبا مشبعا، على اختلاف مداركهم، وتباين مشاعرهم.. وإن العلم هو الذي يجعل لنا نظرا كاشفا لبعض ما فى آيات القرآن الكريم من روائع وعجائب، وإن العلم هو الذي يعين على فهم المستور من أسرار الكتاب الكريم، وما أودع فيه من علم وحكمة.. إن العلم ليلتقى مع القرآن الكريم لقاء الماء يدفع به السيل فى صدر المحيط، فيذوب فيه، ويصبح بعض مائه، إذ ليس العلم كله- ما عرف الناس منه وما سيعرفون- إلا قطرة أو قطرات من محيط هذا البحر الزخار.. «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» (109: الكهف) . فإذا انكشف للناس فى الحياة ضوءة من أضواء العلم، فهى بعض ما فى القرآن الكريم من علم، إذ كان مجتمع آيات الله ومكنون علمه. هذا، ومع قولنا بأن القرآن الكريم، قد حملت آياته المطهرة، أسرارا   (1) الموافقات للشاطبى: الجزء الأول: ص 81. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 343 عجبا، تتكشف حالا بعد حال، كلما جاء إليها الناس بمزيد من العلم والمعرفة- فإننا لا نعرض القرآن الكريم على المخترعات العلمية، ولا الآيات الكونية، التي تنكشف للناس زمنا بعد زمن.. إذ ليس القرآن الكريم كتاب علم يشرح للناس قضايا العلوم.. من طب، وهندسة، وفلك، ورياضة وغيرها.. وإنما هو كتاب عقيدة وشريعة، يتجه أول ما يتجه إلى ضمير الإنسان، ليصحح صلته بخالقه، ثم يقيم لهذه الصلة من التشريع، ما يمسك بها سليمة قوية فى كيانه.. فإذا تمّ ذلك، صحح صلة الإنسان بالإنسانية، ووضع لذلك من التشريعات ما يقيم هذه الصلة بين الناس.. على أساس من الحق والعدل والإحسان.. تلك هى المهمة الأولى للقرآن الكريم، وقد انكشفت هذه الغاية من القرآن الكريم للمسلمين، فى الصدر الأول للإسلام، انكشافا تامّا، فأحذوا حظهم كاملا منها، على نحو لم يكن للخلف من بعدهم أن يبلغوا منه بعض ما بلغوا، على وجه لم تشهد الحياة مثيلا له فى سموّ الإنسان وعظمته، واستعلائه على كل ضعف بشرى.. مهمة القرآن الكريم الأولى إذن، هى أن يصنع هذا الإنسان المتكامل السوىّ فى مداركه، وعواطفه، ومشاعره.. أو بمعنى آخر هى أن يحفظ على الإنسان فطرته السليمة، وأن يغذيها بهذا الغذاء السماوىّ، الذي يقيمها على طريق الحق، والعدل، والإحسان. ثم يدع لهذا الإنسان وجوده هذا، يتعامل به مع الوجود كله، فينظر فيه بعينه، ويفكر فيه بعقله، ويقطف من ثماره ما تطول يده، ويبلغ عزمه، وصبره، وجهده.. هذا هو الإنسان الذي يتربّى فى حجر القرآن، ويغتذى من أنواره.. هو الإنسان الذي يتقدم ركب الإنسانية فى عصره الذي يعيش فيه.. فإذا تخلف عن مكان القيادة والصدارة، لم يكن هو الابن الذي ينتسب إلى القرآن، ويحسب على الإسلام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 344 إن القرآن الكريم، لم يكن كتابا قد جاء بمقررات علمية، تشرح حقائق العلوم، وتكشف أسرار الوجود، وتضع فى أيدى الناس مفاتح هذه الأسرار. ولو كان هذا من تدبير القرآن، ومن غاياته، لما جاء على هذا الأسلوب ذى الرنين النفاذ والإشعاع اللماح من النظم، بل لجرى على ذلك الأسلوب العلمىّ، الذي تبرز فيه الحقائق العلمية مضغوطة فى قوالب من اللفظ، أشبه بالأرقام الحسابية، التي لا يختلف عليها أحد، ولا تكتم عن أحد شيئا وراءها.. ولو كان ذلك من شأن القرآن، لما كان معجزة الدهر الخالدة، ولأخذ الناس منه كل ما فيه، لأول عهدهم به، ثم لم يطلعوا إلى جديد غيره، شأن الكتب العلمية، التي تعيش فى الناس زمنا، ثم لا يكادون يلتفتون إليها بعد هذا. ولو كان ذلك من شأن القرآن أيضا لكان ذلك داعية من دواعى التخدير العقلي للإنسان، والتحريض له على الاستنامة فى ظل هذا الغذاء الممدود له على مائدة مهيأة، لم يعمل لها، ولم يسع إليها.. الأمر الذي يقطع الصلة التي أراد القرآن أن يقيمها بين أتباعه وبين هذا الوجود أبد الدهر، ينظرون فيه نظرا مجددا، ويطالعون فى صحفه آيات الله وكلماته التي لا تنفد أبدا.. إنه ليس هذا من شأن القرآن أبدا، ولا من تدبيره بحال.. فإن دعوة القرآن، هى إيقاظ مشاعر الإنسان، وتنبيه ملكاته، وتوجيه نوازعه وسلوكه إلى العمل فى طريق مستنير، واضح، مستقيم.. ومن هنا كانت آيات القرآن الكريم متجهة إلى القلب أولا.. إلى المشاعر، والوجدانات، والأحاسيس المائجة فيه، المتقلبة بين صفو وكدر، وبين نور وظلام، فإذا أصابها قبس من نور الحق الذي نزل به القرآن، سكن مائجها، وصفا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 345 كدرها، وانجلى ظلامها، وأصبح الإنسان وقد اطمأن قلبه، وعمرت بالحق جوانبه، وخلت من وساوس الضلال نوازعه.. إن القرآن الكريم، هو شريعة ووازع معا، هو قانون، وهو فى الوقت نفسه السلطان الذي يقيم أحكام هذا القانون.. أو هو بلغة العصر هو سلطات: تشريعية، وقضائية، وتنفيذية.. جميعا.. وبالكلمة، وبالكلمة وحدها، جاء القرآن، ليقيم فى كيان المسلم قانونا يدركه بعقله، ويحتكم إليه بقلبه، ويمضيه بوجدانه، وينفّذه بجوارحه.. ولن يكون ذلك للكلمة إلا إذا كانت كلمة الله، كلمة القرآن، التي تملك بسلطانها الإنسان كله: عقله، وقلبه، وضميره..! وينتهى من هذا إلى القول بأن القرآن الكريم، هو تبيان لكلّ شىء، كما وصفه تبارك وتعالى، وأنه كما يقول الحق جلّ وعلا فيه: «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ» .. ولكن لا بما تحمل آياته وكلماته من حقائق علمية، يجدها الناظرون فى منطوق تلك الآيات وهذه الكلمات، أو فى مفهومها- وإنما بما تنير هذه الآيات وتلك الكلمات من بصائر، وبما تكشف من عمى، وبما تمكّن للإنسان من قوى روحية وعقلية يستطيع بها أن يثبّت قدمه على طريق الحقّ، ويتهدّى بها إلى مواقع الخير.. فالإنسان الذي يعرف ربّه مهتديا بهدى القرآن، مستضيئا بنوره، هو إنسان قد عرف كلّ شىء يستطيع أن يبلغه العقل الإنسانى فى أعلى مستوياته، وأرفع منازله.. فإذا بلغ الإنسان هذه المنزلة، وارتفع إلى هذا المستوي كانت آيات الله وكلماته فى كتابه الكريم، هى الوجود كله، وكان الوجود بين يديه صفحات يقرأ فيها ما يفتح الله له من أبواب العلم والمعرفة..! فهذا القصور العلمي الذي نحن فيه، وهذا التخلف الاجتماعى الذي يضع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 346 المجتمع الإسلامى فى مؤخرة العالم الإنسانىّ- هو نتيجة لازمة لانفصالنا عن هذا الدستور السماوي، الذي أمرنا الله باتباعه، ووعدنا الحياة الطيبة الكريمة فى ظله.. ففى كتاب الله مفاتح العلم كلّها، بما يفتح من بصائر، وما يشرح من صدور، وما يعمر من قلوب، وما يشيع فى النفوس من سلام، ورضى وطمأنينة، وبهذا يقف الإنسان من هذا الكون وقفة خبير بصير، وينظر إليه نظرة متوسّم دارس، يربط المسببات بالأسباب، ويصل المعلولات بالعلل، فإذا هذا الوجود وحدة متماسكة متناعمة، يجتمع قريبها إلى بعيدها، ويلتقى علوها مع سفلها، بيد القدرة القدرة، وتدبير الحكمة العالية.. «تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ» ! والنظر الذي يدعو إليه القرآن الكريم، ويوجهه إلى هذا الوجود، ليس نظرا حالما مستسلما لتلك المشاعر الغافية، التي تهدهدها نغمات الجمال والانسجام التي تنجلى فى صفحة الكون، فذلك نظر سلبى لا يغنى من الحقّ شيئا.. إنه أشبه بأحلام اليقظة، وخيالات الشعراء.. وإنما الذي يدعو إليه القرآن الكريم، هو النظر اليقظ الجادّ، الباحث عن الحقيقة، فى أعماق الأشياء، وإن صحبه فى ذلك ما يصحبه من مشاعر الجمال والجلال، فذلك هو الذي يشوقه إلى الحقيقة، ويغريه بالبحث عنها والتعامل معها، فيكون له من تلك المشاعر قوىّ تعينه على البحث والدرس، وتخفف عنه معاناة التأمل والتخيل.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 347 وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ» .. فمن ثمرة هذا النظر الذي ينظر به أولوا الألباب فى خلق السموات والأرض، هى تلك الحقيقة التي إليها يؤدى هذا النظر، وهو التعرف على الله سبحانه وتعالى، والاستدلال على وحدانيته، وقدرته، وعلمه، وحكمته، وأن هذا الوجود ما خلق إلا بالحق، وما قام إلا على سنن وقوانين تمسك به، وتحفظ عليه وجوده ونظامه.. الآيات: (90- 97) [سورة النحل (16) : الآيات 90 الى 97] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97) الجزء: 7 ¦ الصفحة: 348 التفسير: قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» .. مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أنه وقد ذكر الله سبحانه وتعالى فى الآية السابقة: «وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ» ناسب أن يجىء بعدها بيان لما فى القرآن الكريم من تبيان لكل شىء، وهدى، ورحمة، وبشرى للمسلمين.. وهذا ما ضمت عليه هذه الآية: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ..» فما فى القرآن الكريم كله، هو دعوة إلى العدل والإحسان وإيتاء ذى القربى، ونهى عن الفحشاء، والمنكر والبغي.. فالعدل هو القيام على طريق الحق فى كل أمر.. فمن أقام وجوده على العدل استقام على طريق مستقيم، فلم ينحرف عنه أبدا، ولم تتفرق به السبل إلى غايات الخير.. ومن أتبع العدل بالإحسان، انما الخير فى يده، وطابت مغارسه التي يغرسها فى منابت العدل.. وقد جاء الأمر بالعدل والإحسان مطلقا، ليحتوى العدل كله، ويشمل الإحسان جميعه.. فهو عدل عام شامل.. حيث يعدل الإنسان مع نفسه، فلا يجوز عليها بإلقائها فى التهلكة، وسوقها فى مواقع الإثم والضلال.. ويعدل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 349 مع الناس فلا يعتدى على حقوقهم، ولا يمدّ يده إلى ما ليس له. ويعدل مع خالقه، فلا يجحد فضله، ولا يكفر بنعمه، ولا ينكر وجوده وقيّومته عليه، وعلى كل موجود.. كذلك الإحسان، هو إحسان مطلق، يتناول كل قول يقوله الإنسان، وكل عمل يعمله.. وإحسان القول أن يقوم على سنن العدل، والحق والخير.. وإحسان العمل ينضبط على موازين الكمال والإتقان.. كما بقول سبحانه: «وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (195: البقرة) . بل إن الإحسان، هو الإيمان بالله على أتم صورة وأكملها، بحيث لا يبلغ درجة الإحسان، إلا من عبد الله على هذا الوجه الذي بينه الرسول الكريم، فى قوله حين سأله جبريل، وقد جاء على صورة أعرابى، فقال: «ما الإحسان؟ فقال صلوات الله وسلامه عليه: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك..» - وقوله تعالى: «وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى» هو عدل وإحسان معا.. والإيتاء هو الإعطاء، وفعله آتى، بمعنى أعطى.. ولا يستعمل الإيتاء إلا فى مقام البرّ والإحسان.. والبر بذي القربى هو عدل، لأنه وفاء لحق القرابة، وهو إحسان إذا قدمته النفس فى سماحة ورضى. - وقوله تعالى: «وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ» هو نهى عن محظورات، فى مقابل ما أمر الله به من عدل وإحسان، وبرّ بالأقارب.. وفى توارد الأمر والنهى على أمر من الأمور، توكيد للإتيان بالمأمور به.. فالفحشاء، ما قبح من الأمور، وعلى رأسها «الزنا» .. وإتيان الفاحشة ظلم للنفس، وعدوان على حرمات الناس.. وفى هذا مجافاة للعدل.. والمنكر، كل ما تنكره العقول السليمة على من يفعله.. سواء أكان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 350 قولا أو فعلا.. ولا يكون هذا إلا بالتخلي عن الإحسان فى القول أو العمل.. والبغي: الجور، والظلم، وهضم الحقوق. وهو مجف للعدل والإحسان معا.. - وقوله تعالى: «يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» هو تنبيه لما تحمل آيات الله للناس من آداب. وأحكام، تدعو إلى الحق، والخير، وتذكّر بهما، وتفتح للعقول الراشدة والقلوب السليمة طريقا إليهما.. وهذه الآية الكريمة، تجمع أصول الشريعة الإسلامية كلها.. فهى أقرب شىء إلى أن تكون عنوانا للرسالة لإسلامية، ولكتابها الكريم، إذ لا تخرج أحكام الشريعة وآدابها عن هذا المحتوى الذي ضمت عليه تلك الآية: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ» . وما فى كتاب لله كله هو شرح لما أمر الله سبحانه به من العدل والإحسان، وإيتاء ذى القربى، وما نهى عنه من الفحشاء والمنكر والبغي. قوله تعالى: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» . العهد: الميثاق، يكون بين الناس والناس، أو بين الناس ورب الناس.. وعهد الله.. هو العهد الذي يوثق باسمه، ويقام تحت ظل سلطانه.. ونقص العهد: نكثه، وعدم الوفاء به.. والكفيل: هو الضامن لما كفل من عهد. ومعنى الآية الكريمة، هو أمر ملزم للمؤمنين بالله بالوفاء بعهد الله، الذي وثقوه باسمه، وجعلوه كفيلا وضامنا لما عاهدوا عليه.. إذ كان باسمه تعالى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 351 أمضى المتعاهدان ما تعاهدا عليه.. فأعطى أحدهما ما تعهّد به وعدا، وأقام اسم الله تعالى كفيلا على هذا الوعد، وقبل الآخر ما أعطى الأول، مطمئنا إلى كفالة الله، وإلى أن صاحبه لن يخون عهد الله! وإنه لجرم عظيم أن يعطى الإنسان عهدا باسم الله، ويتخذ من هذا الاسم الكريم مدخلا إلى ثقة الناس به، واطمئنانهم إليه، ثم يكون منه غدر وخيانة! إنه عدوان على الله، ومخادعة باسمه، وسرقة تحت ستار من جلال الله وخشيته..! وتلك جرأة على الله، واستخفاف بقدره، وليس لمن يتعرض لهذا، إلا أن ينتظر ما يحلّ به من غضب الله ونقمته. - وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» تحذير من نكث العهد، ومن التلاعب باسم الحق جل وعلا.. فهو- سبحانه- يعلم من بفي بعهده، ويعرف لاسمه الكريم جلاله، ومن لا يوقّر الله، ولا يحفل بالعهد الذي قطعه، وأشهد الله عليه.. والله- سبحانه- غيور على حماء أن يستباح.. فمن استباحه، فقد أورد نفسه موارد الهالكين.. قوله تعالى: «وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» . الغزل: ما يغزل من صوف، وغيره.. ونقض الغزل: حلّه بعد فتله وغزله، فيتقطع، ويتفتت، ولا يعود إلى مثل حالته الأولى لو أعيد غزله، كشأن من بينى ثم يهدم ما بنى.. فلو أراد أن يبنى بما هدم، لا يستقيم له بناء.. والأنكاث: جمع نكث، وهو ما يكون من خيوط النسيج بعد نقضها، لإعادة غزلها ونسجها، بعد أن تصبح قطعا مهلهلة. الدّخل: الفساد. والأمة: الجماعة. وأربى: أكبر قوة، وأكثر عددا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 352 وهذا مثل ضربه الله سبحانه وتعالى لمن يعطون العهد باسمه تعالى، ثم ينقضون ما عاهدوا عليه.. فهؤلاء هم أشبه بامرأة خرقاء، تغزل غزلا محكما، ثم تعود بعد هذا فتنقض ما غزلته، وأجهدت نفسها فيه.. وهذا لا يكون من عاقل، يحترم عقله، ويعرف لآدميته قدرها.. وهؤلاء الذين أعطوا العهد باسم الله ثم نقضوه، كانوا قد أحكموا أمرهم، ووثقوه ثم أفسدوه، وأحلّوا أنفسهم من هذا الميثاق الذي واثقوا الله عليه.. - وقوله تعالى: «تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ» جملة حالية.. فهم إذ يتخذون أيمانهم التي يوثّقون بها العهود بينهم. ثم ينقضونها- هم أشبه بتلك المرأة التي تغزل غزلا، ثم تعود فتنقضه، قبل أن تنسجه، وينتفع به! وقوله تعالى: «أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ» هو تعليل لنقص العهد، واتخاذ الأيمان ذريعة للإفساد، وتلبيس الأمور على الناس، وذلك أن هذا النكث بالعهد كان ممالأة لجماعة قوية على حساب جماعة ضعيفة. أي أنكم تتخذون أيمانكم التي لا تبرّون بها، للإفساد لا للإصلاح، حين تميلون عن الحق، وتنحازون إلى جانب الأقوياء، فتنقضون العهد الذي كان بينكم وبين الجانب الضعيف، لتتحولوا بذلك إلى الجانب القوىّ. وهذه الآية خاصة بحال من أحوال نقض العهد، وهى تلك الحال التي يكون الداعي فيها إلى نقض العهد هو الميل إلى جانب الأقوياء، والتخلّي عن جانب الضعفاء، وذلك بأن يكون الناقض للعهد، بينه وبين جماعة عهد موثق، فإذا رأى جماعة أخرى ذات شوكة وقوة انضمّ إليها، ونقض عهده الذي كان بينه وبين الجماعة الضعيفة، غير ملتفت إلى هذا العهد الذي بينه وبينها. أما ما يتصل بنقض العهود عامة، فقد جاء فى قوله تعالى بعد هذه الآية: «وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها ... الآية» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 353 - قوله تعالى: «إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ» .. الضمير فى به، يعود إلى «عهد الله» الذي جاء ذكره فى قوله تعالى: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ» .. أي أن هذا العهد يقطعه المرء على نفسه، ويجعل الله كفيلا عليه فيه- هذا العهد، هو ابتلاء من الله، وأمانة من الأمانات التي يطالب الإنسان بصيانتها والوفاء بها.. فمن وفّى بالعهد فقد أبرأ ذمته، واستحق الجزاء الحسن من ربه، ومن نكث، فهو غريم لله سبحانه وتعالى، وسيقتصّ الله منه. قوله تعالى: «وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» .. هو معطوف على محذوف تقديره: «ليعلم» . ومعنى الآية مرتبط بالآية قبلها، والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى، إنما ابتلاكم بهذا التكليف، وهو الوفاء بالعهود، ليعلم المفسد من المصلح، والناكث للعهد والموفى به، وليبين لكم يوم القيامة هذا الذي أنتم مختلفون فيه، بين مفسد ومصلح، وعاص ومطيع، وناقص للعهد، وموف به. قوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» . هو تعقيب على قوله تعالى: «وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» - أي هذا الخلاف الواقع بين الناس، هو مما قضت به حكمه لله فيهم.. فلو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة، تجرى أمورهم جميعا فيها على نمط واحد، كما هو شأن الأمم الأخرى من عالم الحيوان، لا اختلاف بين أفراد الأمة الواحدة منها، فى سلوكها، وفى منازع حياتها، وأسلوب معيشتها، حيث تسير جميعا فى طريق واحد، وعلى اتجاه واحد، لا يشذّ عنه فرد من أفرادها.. وليس كذلك شأن الناس، فكل فرد، هو أمة فى ذاته. له مدركاته، ومشاعره، وأنماط سلوكه.. بحيث لا يكاد يتشابه إنسان بإنسان، أو يلتقى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 354 إنسان مع إنسان، لقاء مطلقا! وفى هذا يقول الله تعالى: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ.. وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ» (118: 119 هود) . على أن اختلاف الناس هذا الاختلاف الذي لا يتشابه فيه إنسان مع إنسان، ليس بالذي يفرّق بينهم، أو يقطع علائق الإنسانية التي تشدّ بعضهم إلى بعض، وتجمع بعضهم إلى بعض، فهم وإن تفرقوا مدركات، وطبائع، ومنازع، واختلفوا مشارب ومسالك وسبلا- هم مجتمعون على مورد الإنسانية، حيث يجتمعون شعوبا، وقبائل، وأمما.. ثم تضيق شقّة الخلاف بينهم شيئا فشيئا، حتى تكون خطا واحدا يفصل بين المجتمع الإنسانىّ كله، ويجعله فريقين: مؤمنين وكافرين.. مهتدين وضالين. حتى لكأن ذلك فى أصل خلقتهم، كما يقول الله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ.. فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (2: التغابن) . - وقوله تعالى: «وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ» .. هو بيان لمشيئة الله الشاملة، التي إليها إضلال الضالين، وهداية المهتدين.. - وفى قوله تعالى: «وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» تحريك لمشيئة الإنسان وإرادته، مع إرادة الله سبحانه ومشيئته.. وذلك حتى لا يعطل الإنسان وجوده كإنسان له إرادة، وله مشيئة. فمطلوب من الإنسان أن يعمل إرادته ومشيئته، وأن يحركهما فى الاتجاه الصحيح الذي يقضى به العقل، وتدعو إليه الشرائع السماوية، وتحدده القوانين الوضعية.. وكما لا يعفى الإنسان نفسه من التحلل من القوانين الوضعية، بل يعمل على حراسة نفسه من الخروج عليها، ويحذر الوقوع تحت طائلة العقاب المرصود له الجزء: 7 ¦ الصفحة: 355 إن هو خرج عليها- كذلك ينبغى ألا يعفى نفسه من التحلل من القوانين السماوية، بل يجب أن يعمل على حراسة نفسه من الخروج عليها، ويحذر الوقوع تحت طائلة العقاب المرصود له إن هو خرج عليها.. فهذا من ذاك.. سواء بسواء.. إن الإنسان مسئول عن تصرفاته كإنسان رشيد، وليس من شأنه أن يسأل الله سبحانه وتعالى عن مشيئته فيه، وما يريده به.. فذلك إلى الله وحده.. يقضى فيه بما يشاء ويريد.! قوله تعالى: «وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» .. هو توكيد للوفاء بالعهود والمواثيق التي أعطيت باسم الله، وتحذير من الاستخفاف بجلال الله الذي أشهد على هذه العهود والمواثيق.. فإنّه لا يجرؤ على النكث بعهد الله إلا من استخفّ بالله، واتخذ من اسمه الكريم وسيلة يتوسّل بها إلى الغدر بالناس، وأكل أموالهم بالباطل.. وذلك إن لم يكن كفرا صريحا، فإنه مدخل واسع إلى الكفر! - وفى قوله تعالى: «فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها» إشارة إلى أن الاستخفاف باسم الله، ونقض العهد الموثّق باسمه، هو مزلق إلى الكفر، حيث ينزلق الإنسان شيئا فشيئا إليه، فتزل قدمه عن طريق الحق، فإذا لم ينتزع نفسه، مما وقع فيه، مضى به الطريق إلى حيث يضع قدميه جميعا على طريق الضلال.. ثم يمضى فيه إلى غايته.. وهذا ما يشير إليه الحديث الشريف: «وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدى إلى الفجور، وإن الفجور يهدى إلى النار.. وما يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا» .. - وقوله تعالى: «وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» هو بيان للنهاية التي تنتهى إليها حال من يستخفّ باسم الله، حتى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 356 لا يبالى بما يعطى أو يأخذ به.. كاذبا، حانثا.. فمثل هذا الإنسان لا بد أن يرد يوما موارد الكفر، ويتحول من الإيمان بالله، إلى الكفر به، إذ صدّ عن سبيل الله الذي كان قائما عليه، وولى وجهه نحو الضلال، وثبت أقدامه عليه.. وليس لمثل هذا الإنسان إلّا أن يذوق السوء والهوان فى الدنيا، والعذاب العظيم فى الآخرة.. قوله تعالى: «وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» . هو تحذير، بعد تحذير، بعد تحذير، من الاستخفاف بعهد الله، وبالأيمان التي يحلف بها الحالفون باسمه.. إذ أن ما يبتغيه الناكثون لعهد الله، والحانثون بيمينه، هو التوسل إلى الحصول على متاع من متاع هذه الحياة الدنيا بغير حق.. وهذا المتاع وإن كثر، هو إلى زوال، وهو قليل إلى ما يعقب من خسران وحسرة وندامة فى الدنيا والآخرة.. فلو أن الإنسان الذي أعطى عهدا باسم الله، حفظ هذا العهد، ووقّر الله فلم يحنث بيمينه، ووطن نفسه على الصبر إزاء هذا المتاع الزائل الذي يلوح له من وراء الحنث بيمينه- لو أنه فعل هذا لوجد عاقبة ذلك خيرا كثيرا، وجزاءا حسنا جزيلا عند الله، ولتقبّل الله تعالى منه هذا العمل الطيب، وجعله له عدّة فى الدنيا، وزادا كريما طيبا فى الآخرة، لا يخالطه خبث مما عمل من سيئات، كما يقول الحق جلّ وعلا: «أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ» (16 الأحقاف) . قوله تعالى: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 357 هو حكم عام بالجزاء الحسن على العمل الصالح مطلقا، بعد الحكم الخاص بالجزاء الحسن على الوفاء بالعهد، والصبر على احتمال تبعات الوفاء به.. فالأعمال الحسنة جميعها مقبولة عند الله، سواء ما كان منها من قول أو عمل، وسواء أكانت صادرة من ذكر أو أنثى من عباد الله.. فالناس جميعا على اختلاف أجناسهم، وتباين صورهم وأشكالهم، سواء عند الله، يخضعون لقانون سماوى عام، لا محاباة فيه، ولا تفرقة بين إنسان وإنسان.. إلا بالعمل.. وقد خصّ الذكر والأنثى بالذّكر هنا، لأنهما يمثلان جانبى الإنسانية كلها، إذ كانا مصدر المجتمعات الإنسانية كلها.. كما يقول الله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى» (13: الحجرات) .. ومن جهة أخرى، فإنه إذا كان الاختلاف النوعىّ بين الذكر والأنثى أمام القانون السّماوى على منزلة سواء- كانت التسوية بين الناس جميعا أمام هذا القانون أحق وأولى.. وقوله تعالى: «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» جملة حالية، وهذه الحالة قيد واقع على الشرط الذي لا يتحقق جوابه إلا وهو مقترن بهذا القيد.. فالإيمان شرط لازم لقبول العمل الطيب، والجزاء عليه.. وكل عمل لا يسبقه إيمان بالله، هو عمل ضالّ، مردود على صاحبه.. لأنه قدّمه غير ناظر إلى الله سبحانه وتعالى، ولا محتسب له أجرا عنده، إذ كان غير معترف بوجوده.. فالعمل الصالح الذي لا يزكيه الإيمان بالله، أشبه بالميتة التي لم تدركها زكاة بالذبح، ويذكر اسم الله عليها.. وقوله تعالى: «فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً» .. المراد بالحياة، هى الحياة الدّنيا، وطيب هذه الحياة يجىء من نفحات الإيمان بالله، تلك النفحات التي تثلج الصدر بالطمأنينة، والرضا، وتدفىء النفس بالرجاء والأمل، بتلك القوة التي لا حدود لها، والتي منها مصادر الأمور، وإليها مصائرها.. وذلك كلّه من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 358 عاجل الثواب الجزيل الذي أعدّه الله لعباده المؤمنين، كما يقول تبارك وتعالى: «مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ..» (134: النساء) - فى قوله تعالى: «وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» اختلف النظم هنا بعودة الضمير جمعا على أداة الشرط «من» بعد عودته عليها مفردا فى قوله تعالى: «فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً» ، وذلك ليتحقق أولا لكل من جنسى الذكر والأنثى هذا الحكم، فإذا تقرر ذلك، وعرف كل منهما أنه مجزىّ عن عمله، بلا تفرقة من حيث النوع- عاد الضمير إلى من يشملهم الجنسين ممن يعملون الأعمال الصالحة.. من الناس جميعا. الآيات: (98- 102) [سورة النحل (16) : الآيات 98 الى 102] فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) التفسير: قوله تعالى: «فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ» . مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآية السابقة جاءت بوعد كريم من رب كريم، لعباده الذين يؤمنون بالله ويعملون الصالحات، بأن لهم حياة طيبة فى الدنيا، وأجرا عظيما فى الآخرة- فناسب ذلك أن يقدّم للمؤمنين دستور الجزء: 7 ¦ الصفحة: 359 إيمانهم، وكتاب شريعتهم، وهو القرآن الكريم، وأن يدعوا إلى تلاوته، ومدارسته، وتلقّى أصول الإيمان، وشريعة العمل.. من آياته وكلماته.. ومن آداب تلاوة القرآن، أن يستفتح التالي تلاوته بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم.. وذلك أن قارئ القرآن إنما يلتقى بالله عن طريق كلمات الله التي يتلوها.. وإذ كان هذا شأنه، فقد كان من المناسب فى هذا اللقاء الكريم أن يخلى نفسه من وساوس الشيطان، ومن كل داعية إليه، وأن يرجم الشيطان بمشاعر الإيمان التي يستحضرها وهو يتهيأ للقاء الله مع كلمات الله.. ثم يستعين على ذلك بالله، فيدعوه متعوّذا به من هذا الشيطان الرجيم، الذي رحمه الله سبحانه بلعنته، وطرده من مواقع رحمته.. فالدعوة إلى الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، فى هذا الموقف الذي يقف فيه الإنسان بين يدى كلمات الله، هى فى الواقع دعوة إلى إعلان الحرب من داخل الإنسان على هذا الشيطان، الذي يتربص بالإنسان، ويقعد له بكل سبيل.. وبهذا يقبل قارئ القرآن على آيات الله بقلب قد أخلاه لها من كل وسواس.. وبهذا أيضا تؤثّر كلمات الله أثرها الطيب فيه، فينال ما شاء الله أن ينال من ثمرها المبارك. قوله تعالى: «إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» - هو تعليل لتلك الدعوة إلى الاستعاذة من الشيطان الرجيم عند الاستفتاح بتلاوة القرآن الكريم.. وذلك أن الإنسان إذا ذكر الله، واستشعر جلاله وعظمته، ولجأ إليه، مستعيذا به من وساوس الشيطان، وكيده، ومكره- إنه إذا فعل الإنسان ذلك فرّ الشيطان من بين يديه، ونكص على عقبيه مستخزيا ذليلا، ولم يكن له ثمّة سلطان عليه حينئذ، لأنه أصبح بذلك من عباد الله الذين يقول الله سبحانه وتعالى فيهم: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 360 سُلْطانٌ» (65: الإسراء) .. وعباد الله، هم الذين يتعاملون مع الله، ويعادون عدوّ الله. قوله تعالى: «إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ» .. الذين يتولون الشيطان هم الذين يوالونه، ويسلمون إليه زمام أمرهم، فلا ينظرون إليه نظر العدوّ المتربص بهم، ولا يلقون كيده، ومكره بأى شعور محاذر منه.. فهؤلاء هم أولياء الشيطان.. وهؤلاء هم الذين أصبحوا رعيّة للشيطان، يتسلط عليهم كيف يشاء، ويسوقهم إلى المرعى الذي يريد.. وهو مرعى وبيل.. لا ينبت فى أرضه إلا الخطايا والآثام.. - وفى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ» - الباء فى «به» للسببية، والضمير يعود إلى الشيطان.. والمعنى أن الشيطان إنما يتسلط بسلطانه على من يستسلمون له، ويتخذون وليّا من دون الله، ويصبحون بسبب هذا الولاء له، من المشركين بالله. لأنهم عبدوا الشيطان من دون الله. قوله تعالى: «وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ.. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» . [مع النسخ.. مرة أخرى] أكثر المفسرين على أن الآية الكريمة نصّ فى تقرير النسخ فى القرآن، وتبديل آية بآية.. ولهم على ذلك كلمة «بدّلنا» التي تدل على التبديل، وإحلال آية مكان آية.. ثم قوله «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ» فيه قرينة دالة على أن التبديل واقع فى المنزّل من عند الله، وهو القرآن.. ثم ما يظاهر هذا من قوله تعالى: «ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها» .. فهذه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 361 الآية جاءت صريحة بلفظ النسخ، على حين جاءت الآية السابقة بلازم النسخ، وهو تبديل آية بآية..! ثم إنهم- بعد هذا، أو قبل هذا- يأتون شاهدا على ذلك بأكثر من رواية تحدّث عن سبب نزول هذه الآية.. وأنها كانت ردّا على المشركين، الذين كانوا كلما ورد نسخ لحكم من الأحكام التي كانت شريعة للمسلمين زمنا- قالوا: إن محمدا يقول ما يشاء، حسبما يرى.. ولو أن هذا القرآن كان من عند الله، لما وقع فيه هذا التناقض فى الأحكام، ولجاء الحكم قولا واحدا، لا نقض له، ولا تبديل فيه!! هذه بعض مقولات القائلين بالنسخ، وتلك بعض حججهم عليه.. ونحن على رأينا الذي اطمأن إليه قلبنا، من أنه لا نسخ فى القرآن.. وأن هذه الآية الكريمة- مع شىء من النظر والتأمل، ومع إخلاء النفس من ذلك الشعور المتسلط على جمهور المسلمين من أن النسخ فى القرآن حقيقة مقررة، تكاد تكون شريعة يدين بها المسلم، ومعتقدا يعتقده- نقول إن هذه الآية الكريمة لا تفيد بمنطوقها أو مفهومها دلالة على النسخ.. وذلك: أولا: منطوق الآية هو: «وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ» .. فلو كان معنى التبديل المحو والإزالة، لما جاء النظم القرآنى على تلك الصورة، ولكان منطق بلاغته أن يجىء النظم هكذا: «وإذا بدّلنا آية بآية» .. ولما كان لكلمة «مكان» موضع هنا.. فما هو السر فى اختيار القرآن الكريم لكلمة «مكان» بدلا من حرف الجر وهو الباء؟ نرجئ الجواب على هذا الآن، إلى أن نفرغ من عرض القضية. وثانيا: مفهوم كلمة «التبديل» بأنه محو وإزالة، أو تعطيل ونقض- يتعارض مع ما تنزهت عنه كلمات الله، من أي عارض يعرض لها، فيغيّر وجهها، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 362 أو ينقض حكمها، والله سبحانه وتعالى يقول مخاطبا نبيه الكريم: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا.. لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» (115: الأنعام) فكيف تبدّل كلمات الله، وينسخ بعضها بعضا، وينقض بعضها ما قضى به بعضها؟ والله سبحانه وتعالى يقول فى وصف كتابه: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً.. قَيِّماً» (1- 2: الكهف) ويقول فيه سبحانه: «قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» (28: الزمر) ويقول فيه سبحانه وتعالى: «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» (82: النساء) . وإذن فما تأويل هذه الآية؟ وما المراد بالتبديل لآية مكان آية؟ الجواب- والله أعلم- أن المراد بتبديل آية مكان آية هنا، هو ما كان يحدث فى ترتيب الآيات، فى السور، ووضع الآية بمكانها من السورة، كما أمر الله سبحانه وتعالى.. وذلك أن آيات كثيرة كانت مما نزل بالمدينة، قد وضعت فى سور مكية، كما أن آيات مما كان قد نزل بمكة، ألحقت بالقرآن المدنىّ.. وهذا الذي حدث بين القرآن المكي والمدنىّ من تبادل الأمكنة للآيات بينهما، قد حدث فى القرآن المكىّ، والمدني- كلّ على حدة- فكانت السورة المكية مثلا تنزل على فترات متباعدة، فتنزل فاتحتها، ثم تنزل بعد ذلك آيات آيات، حتى يتم بناؤها.. وعلى هذا، فإن تبديل آية مكان آية، هو وضع آية نزلت حديثا بمكانها الذي يأمر الله سبحانه وتعالى أن توضع فيه بين آيات سبقتها بزمن.. قد يكون عدة سنين..! فقد اتفق علماء القرآن على أن آيات نزلت بمكة، ثم حين نزل من القرآن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 363 فى المدينة ما يناسبها، أخذت مكانها فيه.. وهذا يعنى أنها نقلت من مكانها فى السورة المكية، إلى مكانها الذي كانت تنتظره أو كان ينتظرها.. فى السورة المدنية..! ومن أمثلة هذا، قوله تعالى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» .. فهذه الآية مكية باتفاق، وقد وضعت فى سورة الأنفال، وهى مدنية باتفاق أيضا.. وهذا يعنى أن الآية من هذه الآيات كانت تأخذ مكانها مؤقتا فى السورة المكية، حتى إذا نزلت سورتها المدنية أخذت مكانها الذي لها فى تلك السورة.. ومن هذا أيضا قوله تعالى: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ..» إلى آخر سورة التوبة.. وهاتان الآيتان مكيتان، وقد وضعتا بمكانهما من آخر التوبة، وهى مدنية.. وهكذا كان الشأن فى السّور المكية، فإنها كانت تستقبل جديدا من الآيات المدنية، تأخذ مكانها المناسب لها بين آيات السورة، حيث يأمر الله.. وذلك كثير فى القرآن الكريم، وقلّ أن تخلو سورة مكية من دخول آية أو آيات مدنية على بنائها.. فهذا التدبير السماوي لبناء القرآن الكريم، وترتيب الآيات فى السور- اقتضى أن تأخذ بعض الآيات أمكنة ثابتة دائمة، بدلا من أمكنتها الموقوتة التي كانت تأخذها بين آيات أخرى غير تلك الآيات التي استقرت آخر الأمر معها.. ولا شك أن كثيرا من المشركين والمنافقين، ومرضى القلوب، كانوا ينظرون إلى هذا التبديل والتغيير، الذي كان يؤذن النبي أصحابه وكتاب الوحى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 364 به- كانوا ينظرون إليه نظر اتهام للنبىّ بأنه إنّما يعيد بناء قرآنه، ويغيّر ويبدل فيه، ويصلح من أمره ما يراه غير مستقيم عنده، شأنه فى هذا شأن الشاعر، ينشىء القصيدة، ثم يجرى عليها من التعديل والتبديل ما يبدو له: حتى تستقيم لنظره، وتقع موقع الرضا من نفسه.. هكذا فكروا وقدّروا! وإذن.. فما محمد والقرآن الذي معه، والذي يجرى عليه هذه التسوية، بالتبديل والتغيير فى بنائه- إلّا واحدا من هؤلاء الشعراء، الذين يجوّدون شعرهم، ويسوّون وجوهه، فيكون لهم من ذلك تلك القصائد المعروفة بالحوليّات التي يعيش الشاعر معها حولا كاملا، يعالج ما فيها من عوج، حتى تستقيم له! وإذن، فما دعوى محمد بأن هذا القرآن من عند الله، إلا محض كذب وافتراء! هكذا كان يقول المنافقون والذين فى قلوبهم مرض، فى النبىّ الكريم، حين كانوا يرونه يصنع هذا الصنيع فى ترتيب الآيات القرآنية فى سورها، حسب الوحى السماوي الذي يتلقاه من ربّه.. وقد ردّ الله سبحانه وتعالى على هؤلاء السفهاء بقوله: «قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ» . وروح القدس، هو جبريل، عليه السلام، وهو السفير بين الله سبحانه وتعالى، وبين النبىّ الكريم، بهذا القرآن الكريم.. - وقوله تعالى: «لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا» أي ليربط على قلوبهم، ويقوّى عزائمهم، ويثبت أقدامهم على طريق الإيمان، بما ينزل عليهم من آيات تؤنس وحشتهم، وتكشف لهم عن العاقبة المسعدة التي ينتهى إليها صراعهم، مع قوى البغي والعدوان.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 365 فالثابت من تاريخ القرآن- كما قلنا- أن آيات كثيرة نزلت، ثم لم تأخذ مكانها فى السور التي هى منها، إلا بعد زمن امتدّ بضع سنين..! فهذه الآيات التي سبقت سورها، إنما كانت للتعجيل ببشريات للنبىّ وللمؤمنين.. معه.. فسورة الأنفال مثلا، وهى مدنيّة باتفاق.. قد ضمّ إليها سبع آيات كانت قد نزلت بمكة.. وهى قوله تعالى: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ» [30- 36: الأنفال] .. ففى ظلّ هذه الآيات استروح النبىّ والمؤمنون- وهم فى مكة- أرواح الأمل والرجاء، ومن تلقاه هذه الآيات استقبل النبىّ والمؤمنون بشائر النّصر لهذا الدّين، الذي تلقّى على يد المشركين ألوانا من الكيد والمكر، وضروبا من السفاهة والجهل.. لقد كانت تلك الآيات، وكثير عيرها، هى الزاد الذي يتزود به النبي والمؤمنون، أثناء تلك الرحلة القاسية التي قطعها النبي والمؤمنون معه فى شعاب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 366 مكة ودروبها، من أول البعثة إلى أن أذن الله سبحانه وتعالى له بالهجرة.. وبهذا الزّاد تقوّى النبي والمؤمنون معه على حمل هذا العبء الثقيل خلال تلك الرحلة المضنية القاسية.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا» . وقد اختصّ الذين آمنوا بالذّكر هنا، لأنهم كانوا فى حاجة ماسّة إلى هذا الزّاد، ليثبتوا فى مواقفهم، وليصبروا على هذا البلاء الذي كانوا فيه، انتظارا لهذا الوعد الكريم الذي وعدهم الله سبحانه وتعالى به، فيما سيأخذ به المشركين من خزى وخذلان، كما يقول سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فَسَيُنْفِقُونَها.. ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً.. ثُمَّ يُغْلَبُونَ.. وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ» .. ولم يذكر النبىّ الكريم هنا لأنه- صلوات الله وسلامه عليه- محفوف دائما بألطاف ربّه، وعلى يقين راسخ من نصر الله.. فهو- صلوات الله وسلامه عليه، - يحمل فى كيانه من قوى الحقّ والإيمان ما لا تنال منه الدنيا كلها لو اجتمع أهلها على حربه والكيد له. وفى هذا يقول صلوات الله وسلامه عليه لعمه أبى طالب: «والله يا عمّ لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر أو أهلك دونه.. ما تركته» ! وهذه الظاهرة فى القرآن الكريم، من تبادل الآيات أماكنها خلال الفترة التي نزل فيها، تقابلها ظاهرة أخرى، وهى نزول القرآن منجّما، خلال ثلاث وعشرين سنة، حيث لم ينزل جملة واحدة، وإنما نزل آية آية، وآيات آيات، حتى كمل، وتمّ بناؤه على الصّورة التي أراده عليها سبحانه وتعالى كما تلقاه النبي الكريم من جبريل، فى العرضة الأخيرة التي كانت بينهما، بعد أن تم نزول القرآن، قبيل وفاة النبي بزمن قليل.. فهناك إذن عمليتان، قام عليهما بناء القرآن الكريم، وهما: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 367 أولا: نزوله منجما.. أي مفرقا.. وثانيا: نزوله غير مرتب الآيات فى السور.. وقد كشف الله سبحانه وتعالى عن السبب الذي من أجله كان بناء القرآن على هذا الأسلوب. أما عن نزول القرآن مفرقا، فالله سبحانه وتعالى يقول ردّا على المشركين الذين أنكروا أن يحىء القرآن على هذا الأسلوب: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً» (32- 33: الفرقان) . فتثبيت فؤاد النبي هو من بعض ما فى نزول القرآن على تلك الصورة، من حكمة.. وأمّا عن نزول القرآن غير مرتب الآي، فقد رأينا أن من حكمته تثبيت قلوب المؤمنين، بما تحمل إليهم الآيات التي تسبق سورها، من بشريات، كما يقول الله سبحانه وتعالى: «وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ» . ففى هذا التدبير، من نزول القرآن الكريم غير مرتب الآي، - فى هذا ما يسمح بنزول بعض الآيات متقدمة زمنا على سورها التي ستلتقى بها، وتأخذ مكانها فيها، بعد أن يتم نزول القرآن كله.. وفى هذه الآيات التي كانت تنزل متقدمة زمنا على سورها، تثبيت لقلوب المؤمنين، وهدى لهم، وبشرى بالمستقبل المسعد الذي ينتظر الإسلام، وينتظرهم معه.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 368 ولو كان معنى قوله تعالى: «وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ» - لو كان معنى ذلك، نسخ آية بآية، لما كان من المناسب أن يكون التعقيب على ذلك قوله تعالى: «لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ» .. إذ أن النسخ للآيات القرآنية، ليس من شأنه أن يثبّت قلوب المؤمنين، بل إنه يكون داعية من دواعى الإزعاج النفسىّ، بسبب تلك الآيات التي يعيش معها المسلمون زمنا، ثم يتخلّون عنها.. ثم إنه من جهة أخرى لا يحمل النسخ على إطلاقه، بشريات للمسلمين.. إذ أن أكثر ما وقع النسخ- كما يقول القائلون به- على أحكام مخففة، نسخت بغيرها، مما هو أثقل منها، كما يقال فى الآيات المنسوخة فى الخمر وفى الربا، وفى حدّ الزنا.. ثم- قبل هذا كله- إن هذه الآية: «وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ» .. هى مكية النزول، بل من أوائل القرآن المكىّ، حيث لم تكن قد شرعت الأحكام بعد، فى العبادات، والمعاملات، وفى القتال، وما يتصل به من غنائم، وأسرى، وغير ذلك مما يمكن أن يرد عليه النسخ، إن كان هناك نسخ.. إذ أن النسخ، إنما تناول الأحكام الشرعية وحدها. هذا، وقد استدل القائلون بالنسخ فى القرآن بآية أخرى، هى قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ» (52- 53: الحج) .. وسنعرض لهذه الآية فى موضعها إن شاء الله.. وحسبنا أن نقول هنا: إن النسخ وارد على ما يلقى الشيطان، لا على آيات الله، وأن الله سبحانه وتعالى يحكم آياته ولا ينسخها.. وإذن فلا نسخ فى آيات الله.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 369 ولعل فى قوله تعالى: «وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ» (114: طه) .. لعل فى هذا ما يشير إلى شىء من هذا التدبير السماوي فى نزول القرآن غير مرتّب الآي، إذ ربما كان صلى الله عليه وسلم تتنزل عليه الآية من القرآن، غير منسوبة إلى سورة من السور التي نزلت، فيبادر إلى وصلها بما سبقها أو لحقها، حتى لا تظل فى عزلة، بين سور القرآن التي تتلى فى الصلاة، أو ترتّل فى غير الصلاة.. فجاء قوله تعالى: «وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» ليدفع عن النبي هذا الشعور من القلق على تلك الآيات المفردة أن ينظر إليها غير تلك النظرة التي للقرآن الذي جمعت آياته، وتمت سورة! .. فتلك دعوة للنبىّ ألّا يعجل ببناء القرآن قبل أن يتمّ وحيه إليه به، إذ ما زال هناك قرآن كثير لم ينزل بعد، وفى هذا القرآن الذي سينزل علم كثير، يزداد به النبي علما إلى علم.. ويؤنسنا فى هذا الفهم لتلك الآية الكريمة، ما نجده فى قوله تعالى: «لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ» (16- 19: القيامة) .. ففى هذه الآيات ما يكشف عن مشاعر النبي نحو تلك الآيات التي كانت تتنزل مفردة غير منسوبة إلى سورة من السور، وإشفاقه من أن تفلت منه حيث لم ترتبط بغيرها من آيات القرآن وسوره. وفى قوله تعالى: «إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ» تطمين للنبى بهذا الوعد الكريم من الله سبحانه، بأنه جل شأنه، هو الذي سيتولى جمع هذا القرآن المفرّق، وبناءه على الصورة التي أراده الله سبحانه أن يقرأ عليها.. وذلك ما كان بعد أن تمّ نزول القرآن، وانقطع الوحى، فكان القرآن على تلك الصورة، التي تلقاها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 370 النبىّ من جبريل، فى العرضة الأخيرة للقرآن، ثم تلقاها من النبي الصحابة وكتّاب الوحى.. ثم تلقاها المسلمون.. جيلا بعد جيل، إلى يومنا هذا، وإلى يوم الدين.. الآيات: (103- 105) [سورة النحل (16) : الآيات 103 الى 105] وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) التفسير: قوله تعالى: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ.. لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ» .. هو رد على المشركين الذين أشار إليهم قوله تعالى: «وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ» .. فهم- أي المشركون من قريش- يتهمون النبي- صلوات الله وسلامه عليه- بهذه التهمة، وأنه يفترى على الله الكذب، إذ يقول إن هذا القرآن منزل عليه من الله.. ثم إنهم لا يقفون عند هذا، بل يرمون النبىّ بأنه لا يفترى هذا الافتراء من ذاته هو، بل يستعين على ذلك بأهل العلم، الذين يتصل بهم، ويتلقى عنهم ما يجىء به من مفتريات.. وذلك أنهم إذ يرون هذا العلم الذي تحمله آيات الله وكلماته، لا يرون أن مثل محمد- وهو واحد منهم- يستطيع أن يكون عنده شىء من هذا، ولكنه باتصاله بأهل الكتاب، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 371 وبأخذه عنهم، يمكن أن يفعل هذا، وأن يحدثهم بما يحدثهم به من أخبار الأولين، وفى هذا يقول الله تبارك وتعالى عنهم: «وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» (5: الفرقان) .. - وفى قوله تعالى: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ» بالتعبير بفعل المستقبل- إشارة إلى أن علم الله محيط بهم، وأنه سبحانه وتعالى يعلم ما قالوا، وما سيقولون من تلك المقولات المنكرة، التي يقولونها فى النبي الكريم، وفى كتاب الله الذي بين يديه.. - وفى قوله تعالى: «إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ» - إلفات لهم إلى كلمة «بشر» وإلى أنه يجب أن يقفوا عندها، وأن ينظروا فى هذا القول الذي يقولونه من غير رويّة، ولا تدبر.. وهل فى استطاعة بشر- أيّا كان- أن يأتى بمثل هذا القرآن؟ أليسوا هم بشرا؟ فما لهم إذن لا يأتون بسورة من مثله؟ .. ثم ما لهذا البشر الذي يعلم محمدا ألّا يأخذ مكان محمد، ويدّعى لنفسه هذا الذي يدّعيه محمد من أنه نبىّ، وأنه متصل بالسّماء، يتلقى منها هذا القرآن؟ - وقوله تعالى: «لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ.. وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ» .. هو فضح لهذا المنطق السقيم، الذي أقام عليه المشركون اتهامهم للنبى.! فالبشر الذي «يلحدون إليه» .. أي يشيرون إليه، ويتخذونه تكأة يتكئون عليها فى هذا الاتهام- هذا البشر، هو رجل أعجمىّ، لا يحسن العربية، ولا يستقيم لسانه عليها.. وهذا القرآن الذي بين يدى محمد، هو بلسان عربىّ مبين، قد تحدّى ببيانه وفصاحته بلغاءهم، وفصحاءهم، وأهل اللّسن فيهم، من خطباء وشعراء.. فما لهم وهم أصحاب هذا اللسان، ألا يقفوا لمحمد، ويتحدّوه يقول كقوله، وحديث كحديثه؟ .. ثم ما لهم لا يتلقون أخبار الأولين من هؤلاء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 372 الأعاجم، ثم ينسجونها بلسانهم العربىّ كما نسجها محمد؟ تلك حجة داحضة، وقول هزل! وقد اختلف فى اسم هذا الأعجمى الذي يشير إليه المشركون، كما اختلف فى أهو يهودى أم نصرانىّ! وقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» .. الذين لا يؤمنون بآيات الله، هم هؤلاء المشركون، وهم كلّ من فى قلبه مرض، وفى عقله دخل، فلا يلتفت إلى آيات الله، ولا يفتح عقله وقلبه لها، بل يلقاها معرضا منكرا، ويمرّ بها مجانبا مجافيا.. فهؤلاء الذين يقفون من آيات هذا الموقف، لا يهديهم الله، ولا يمدّهم بأمداد توفيقه وهدايته.. لأن «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً» .. «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» جزاء هذا الضلال، وهذا الصدّ عن آيات الله.. قوله تعالى: «إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ» - هو اتهام لهؤلاء المشركين، بأنهم هم الذين يفترون الكذب ويتعاملون به، ولا يجدون حرجا فى أن يكذبوا، ويكذبوا، فى غير حياء! إنهم لا يؤمنون بآيات الله، ومن ثمّ فهم لا يؤمنون بالله، ولا يخشون عقابه.. ولا يجدون فى أنفسهم وازعا يزعهم عن الكذب والافتراء على الله.. أما الذين يؤمنون بآيات الله، فإنهم يؤمنون بالله، ويوقّرونه، ويخشون عذابه.. فلا يخرجون عن الجادّة، ولا يقبلون أن تكون كلمة الكذب من بضاعتهم! وفى هذا دفاع عن النبىّ، ودفع لهذا الاتهام المفترى، الذي يتهمه المشركون به.. كما أنه دمغ للمشركين بالكذب والافتراء حيث حكم الله سبحانه وتعالى عليهم هذا الحكم الأبدى بقوله: «وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ» .. حتى لكأن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 373 الكذب مقصور عليهم وحدهم، من دون الناس جميعا.. فهم أصل فى الكذب والافتراء، ومن سواهم تبع لهم، يقتدى بهم، ويتعلق بأذيالهم.. الآيات: (106- 111) [سورة النحل (16) : الآيات 106 الى 111] مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) التفسير: قوله تعالى: «مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» .. فى هذه الآية أمور: أولا: مناسبتها لما قبلها.. فقد ذكرت الآيات السابقة، موقفا من تلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 374 المواقف اللئيمة، التي كان يقفها المشركون من النبىّ.. وهذا الموقف هو اتهامهم للنبىّ، بأنه افترى على الله هذا القرآن الذي جاءهم به، وأنه إنما تلقى هذا القرآن من أحد علماء أهل الكتاب.. ولهذا كان تكذيبهم له، وتصدّيهم لدعوته، وتطاولهم عليه وعلى من آمن به، بالضرّ والأذى.. وقد امتحن كثير من المؤمنين فى أنفسهم.. كبلال، وعمّار بن ياسر، وأبيه وأمه، حتى لقد مات بعضهم تحت وطأة العذاب الذي كان المشركون يرمونهم به، فى غير رحمة أو مبالاة! وفى مواجهة هذا البلاء الذي استمر بضع سنوات، لم يكن أمام المسلمين إلا أن يهاجروا، وأن يوطنوا أنفسهم على استقبال الأذى، والصبر على المكروه حتى الموت. وقد هاجر كثير من القادرين على الهجرة.. الذين يملكون أمر أنفسهم.. وتخلف كثيرون، لم يكن أمرهم إلى أيديهم، إذ كانوا فى جملة العبيد والإماء.. أو تحت حكم العجز والمرض.. ونحو هذا.. وفى المتخلفين من صبر حتى مات تحت وطأة البلاء، مثل سميّة أم عمار بن ياسر، ومنهم من رأى أن يرى المشركين منه، أنّه قد استجاب لهم، ورجع عن الدين الذي آمن به على يد محمد- فأعطاهم بلسانه ما لم يسمح به قلبه، الذي ظلّ على إيمانه بالله، وولائه للدّين الذي دخل فيه.. ومنهم من أعطى المشركين بقلبه ما أعطاهم بلسانه.. فعاد كافرا.. ودخل فى الكفر فى غير تحرّج أو تأثّم، بل اطمأن إليه، وشرح صدره له! ولا شك أن هذه حال أثارت البلبلة والاضطراب فى نفوس المسلمين، وخاصة أولئك الذين انعقدت قلوبهم على الإيمان، وإن صرحت ألسنتهم بالشرك، تقيّة، تحت حكم القهر والاضطرار.. فهم- والحال كذلك- الجزء: 7 ¦ الصفحة: 375 يعانون من صراع حاد، بين ظاهرهم هذا الذين يعيشون به فى الناس، وبين باطنهم الذي يعيشون فيه مع دينهم الذي أمسكوا به فى قلوبهم.. فكان من رحمة الله بالمؤمنين أن تقبّل ما فى قلوبهم، وتجاوز لهم عما قالوا بأفواههم. - فقال تعالى: «مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» .. فهذا الاستثناء يخرج من أكره، فقال كلمة الكفر بلسانه، واحتفظ فى قلبه بالإيمان الذي انعقد عليه.. ويلاحظ هنا أنه لم يتقرر فى الآية حكم لأولئك المستثنين من الكفر، بل تركوا هكذا، بمعزل من الكافرين، الذين عادوا إلى الكفر بأفواههم وبقلوبهم جميعا.. وهذا يعنى أن «التقيّة» وإن كانت بابا من أبواب التيسير والرحمة بالمؤمنين، إلا أنها باب محفوف بالمخاطر، لا يدخله الإنسان إلا على حذر وإشفاق، وإلا ريثما يمسك نفسه من التّلف.. فإن هذه حال لا ينبغى أن يركن إليها المؤمن، أو يطمئن إلى مقامه فيها.. إذ هو يلبس فيها ثوب النفاق ظاهرا.. ولا يجتمع إيمان ونفاق أبدا.. روى أن المشركين من قريش أرادوا عمار بن ياسر، وأباه ياسرا وأمّه سميّة، على الكفر بعد أن أسلموا، وأخذوهم بالبأساء والضراء، فأبوا، فربطوا سميّة، بين بعيرين ثم وجئت بحربة فى قبلها، وقالوا إنما أسلمت من أجل الرجال، فماتت، ومات ياسر قتيلا كذلك، فكانا أول قتيلين فى الإسلام، أما عمار فأعطى المشركين بلسانه ما أكرهوه عليه، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عمارا كفر!! فقال- صلى الله عليه وسلم- «كلا. إن عمّارا ملىء إيمانا من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه!!» وروى أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين، فقال لأحدهما ما تقول فى محمد؟ قال: «رسول الله» فما تقول فىّ؟ قال: وأنت أيضا..! فخلّى سبيله.. ثم قال للآخر: ما تقول فى محمد؟ قال: «رسول الله» قال: فما تقول فىّ؟ قال: أنا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 376 أصمّ! فقتله.. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: «أما الأول فقد أخذ برخصة الله تعالى، وأما الثاني فقد صدع بالحق.. فهنيئا له» . وثانيا: هذا النظم الذي جاءت عليه الآية الكريمة.. فقد جاء نظم الآية على غير مألوف اللغة، حيث جاء الشرط: «مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ» ولم يذكر له جواب.. ثم دخل على هذا الشرط الاستثناء: «إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» ثم لم يذكر لهذا الشرط والاستثناء الوارد عليه جواب.. ثم ورد هذا الاستدراك: «وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» - محمّلا بشرط، وجواب.. أما الشرط، فهو الشرط السابق موصوفا بمفهوم المخالفة للاستثناء الوارد على هذا الشرط، وأما الجواب، فهو الجواب الذي يصلح للشرطين معا.. ولكنه اتجه إلى الشرط الثاني، بعد أن وقع الاستثناء على الشرط الأول.. والتقدير: من كفر بالله من بعد إيمانه شارحا بالكفر صدره فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم.. إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان.. هذا ما يدل عليه مفهوم الآية الكريمة، وإن جاء نظمها على هذا الأسلوب الذي تراه!! والسؤال هنا هو: ماذا وراء هذا النظم الذي جاء على غير مألوف اللغة؟ والجواب- والله أعلم- هو أن تلك الحال التي تعرضها الآية الكريمة من أحوال المؤمنين، حين يمتحنون فى دينهم، ويتعرضون للفتنة فى عقيدتهم- هذه الحال ليست من الأحوال المألوفة للإنسان، بحيث يروض نفسه عليها، ويوطنها على احتمال مكروهها.. وإنما هى تجربة قاسية يلقاها الإنسان مرة واحدة فى حياته، حين تحمله البلوى على أن يتبدّل دينا بدين، وعقيدة بعقيدة، ولو كان ذلك فى ظاهر أمره، وعلى ما يرى الناس منه.. فليس الدين ثوبا يلبسه الإنسان زمنا حتى إذا يلى خلعه، واستبدل به غيره.. وإنما هو أشبه بجلد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 377 الإنسان، وبالصبغة التي صبغه الله عليها.. فهو لون واحد لا يتغير، ولا يتبدل! هى تجربة قاسية إذن، تلك التجربة التي يخرج فيها الإنسان عن دينه، ولو ظاهرا، تحت حكم القهر والتسلط.. حيث يعالج الإنسان فى كيانه الداخلى صراعا صارخا، تتمزق معه مشاعره، وتتصدع به وحدة بنائه الفكرى، وإذا هو فى تيه، لا يطلع عليه من آفاقه، إلا ما يزعجه ويؤرقه.. ومن هنا جاء النظم القرآنى فى الآية الكريمة على هذا الأسلوب، الذي يمسك بتلك المشاعر المضطربة، ويصور تلك النفوس القلقة المذعورة، التي انعقدت فى سمائها سحب متراكمة، ترمى برعودها، وبروقها، وصواعقها، فى غير مهل أو انقطاع.. وهكذا يحكى النظم القرآنى بموسيقى ألفاظه، ما تحدّث عنه الألفاظ بدلالة معانيها، فيقع المعنى فى النفس موقعا متمكنا، حيث يدخل عليها مصوّرا، مجسدا.. قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» . الإشارة هنا إلى هذا الوعيد الذي توعد الله به سبحانه، أولئك الذين كفروا بعد إيمانهم، وعادوا إلى الكفر الذي كانوا فيه، وأنسوا إليه كما يأنس الغريب بلقاء أهله، بعد غيبة وفراق، فلم يقع فى نفوسهم وحشة للكفر، ولا تكرّه له. فهذا الغضب الذي صبّه الله عليهم، وهذا العذاب العظيم الذي أعده لهم، إنما هو بسبب أنهم استحبّوا الحياة الدنيا على الآخرة، وآثروا العافية مع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 378 الكفر، على البلاء مع الإيمان..! «فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» . والإيمان- فى حقيقته- هو ابتلاء، وأقلّ ما يبتلى به المؤمن، هو التكاليف الشرعية التي تحملها أوامر الدين ونواهيه.. ثم فوق هذا ضروب من الابتلاء، فى هذا الصراع الذي يكون بين الإيمان والكفر، وبين الحق والباطل، قد ينتهى آخر الأمر إلى الاستشهاد فى سبيل الله! وفى هذا يقول الحق جل وعلا: «الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ» (1- 3: العنكبوت) . - وفى قوله تعالى: «وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ» إشارة إلى سبب آخر من أسباب وقوع الكافرين تحت طائلة هذا الوعيد، وهو أنهم من جبلّة مظلمة، لا تقبل النور، ولا تتهدّى إليه.. فكان أن أضلهم الله، وتركهم فى ظلمات يعمهون. قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ» . الإشارة «بأولئك» واردة على هؤلاء الكافرين الذين وصفهم الله سبحانه وتعالى فى الآية السابقة، بأنهم استحبّوا الحياة الدنيا على الآخرة، وبأنهم حرموا من هداية الله وتوفيقه، لما انعقدت عليه قلوبهم من ظلام وضلال.. إذ قد طبع الله على قلوبهم، وختم عليها بخاتم الكفر، فلا تقبل إيمانا، ولا تطمئن إليه.. كما ختم الله على سمعهم، فلا يسمعون كلمة الحق، ولا يستجيبون لها، وختم على أبصارهم، فلا يبصرون مواقع الهدى، ولا يتجهون إليها.. فكانوا فى غفلة مطبقة، عن كل ما يصلهم بالحق، أو يلفتهم إليه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 379 قوله تعالى: «لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ» .. هو تعقيب على هذا العرض الكاشف لأولئك الذين كفروا، وعموا عن الهدى، وصمّوا عن الداعي الذي يدعوهم إليه.. فهؤلاء لا شك فى أنهم هم الخاسرون، إذ يجيئون إلى هذا اليوم العظيم، وليس معهم غير الكفر، وحسبه جرما، أن يكون صاحبه حصب جهنم خالدا فيها أبدا. قوله تعالى: «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» . العطف «بثم» هنا، هو عطف حدث على حدث، وموقف على موقف.. فهناك موقف للكافرين الذين لبسوا الكفر بعد أن دخلوا فى دين الله، ونكصوا على أعقابهم لأول مسّة مستهم من أذى فى سبيل الله.. وهنا موقف لأولئك الذين لبسوا الكفر ظاهرا، واستبطنوا الإيمان.. تقية من تلف النفس، وفرارا من وطأة البلاء. وفرق كبير بين هؤلاء، وأولئك.. ولهذا جاء العطف بالحرف «ثمّ» ، الذي يشير إلى هذا الفاصل المعنوي الشاسع، الذي يفصل بين الفريقين.. فأولئك كافرون.. وهؤلاء مؤمنون.. وما أبعد ما بين الكافرين والمؤمنين: «لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ» . وفى قوله تعالى: «رَبَّكَ» بإضافة النبي الكريم إلى ربه الكريم، مزيد من الفضل والإحسان إلى رسول الله من ربه، الذي يضيفه إليه، ويدعوه إلى ساحة كرمه وإحسانه، وقد كررت هذه الدعوة، فكانت إحسانا إلى إحسان، ولطفا إلى لطف، وحقّ للنبى الكريم بهذا الإحسان أن ينزل من ربه هذه المنزلة التي لا تعلوها منزلة لبشر.. وكيف والله سبحانه وتعالى يقول له: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 380 «وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً» (113: النساء) . ويقول له: «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى» . - وقوله تعالى: «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا» .. هو تطمين لقلوب أولئك الذين فتنوا فى دينهم، وأعطوا كلمة الكفر بألسنتهم، ولم يعطوا من الإيمان الذي انعقدت عليه قلوبهم شيئا.. فهؤلاء قد كشفوا عن حقيقة إيمانهم بهذا السلوك الطيب، الذي أخذوا فيه طريقهم مع المؤمنين.. فهاجروا مع المهاجرين، وجاهدوا مع المجاهدين، وصبروا على ما لقيهم من بلاء وشدة فى مواقف الجهاد. فوطّنوا أنفسهم على الموت فى سبيل الله، دون أن تحدثهم أنفسهم بالفرار من وجه العدو.. فهؤلاء يغفر الله لهم ما كان منهم، ويقبلهم فى عباده المؤمنين، المهاجرين، المجاهدين.. وفى العطف «بثم» فوق أنه عزل للذين أعطوا كلمة الكفر بألسنتهم وقلوبهم مطمئنة بالإيمان، عن أولئك الذين شرحوا بالكفر صدرا- كما أشرنا إلى ذلك من قبل- فيه إشارة إلى أن مغفرة الله لم تجئهم إلا بعد تراخ، وإبطاء، حتى لقد كادت لا تلحقهم، وفى هذا ما يلقى ظلالا معتمة على التقية، وأنه لا يلجأ إليها المؤمن إلا عند الضرورة القصوى. - وفى قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» إشارة إلى المغفرة التي عاد الله سبحانه وتعالى بها على أولئك المفتونين، بعد أن هاجروا، وجاهدوا وصبروا.. فقد رحمهم الله، وغفر لهم، وأدخلهم فى عباده المؤمنين.. والضمير فى قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِها» يعود إلى تلك الحال التي تلبّس بها المفتونون حين فتنوا فى دينهم، وأعطوا كلمة الكفر بأفواههم.. وفى عودة الضمير إلى تلك الحالة دون ذكرها، إشارة إلى أنها شىء بغيض لا يذكر فى هذا المقام، الذي لبس فيه أولئك المفتونون ثوب الإيمان ظاهرا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 381 وباطنا، والذي شملتهم فيه رحمة الله ومغفرته.. فكان من تمام تلك النعمة التي أنعم الله بها عليهم ألا يذكّروا فى هذا المقام بما يسوءهم، وألا تمسّ مشاعرهم ذكريات هذا الماضي البغيض، الذي انسلخوا منه وفارقوه.. ثم كان من الحقّ أن يدفن هذا المنكر، وألا يرى المؤمنون له وجها أبدا.. قوله تعالى: «يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» . هو تذكير بهذا اليوم العظيم، يوم القيامة، حيث يحاول كل إنسان جهده أن يدفع عن نفسه شرّ هذا اليوم، فيتعلّق بكلّ ما يظن أنه مغن عنه شيئا فى هذا الكرب العظيم، وحيث يكون الإنسان أكثر ما يكون حاجة إلى مغفرة الله ورحمته.. فإذا ذكر الإنسان هذا اليوم فى دنياه، وذكر ما يستقبل الناس فيه من أهوال، ثم ذكر رحمة الله، ومغفرته، اللتين ينالهما المتقون من عباده، ويستظل بظلمها المؤمنون الذين يخشون ربّهم بالغيب- إذا ذكر الإنسان ذلك كلّه، كان فى ذلك ما يشدّ عزمه ويقوّى يقينه، ويمسك به على طريق الإيمان، وإن مسّه الضرّ، وأصابه المكروه.. - فقوله تعالى: «يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ» متعلق بقوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» .. أي إن مغفرة الله ورحمته يتجليان فى هذا اليوم، يوم تأتى كل نفس تجادل عن نفسها.. وليس هذا بالذي يقصر تجلّى رحمة الله ومغفرته على هذا اليوم، إذ رحمة الله ومغفرته لا يحدهما زمان، ولا يحصرهما مكان.. ولكنّ الإشارة إليهما فى هذا الظرف، إشارة إلى شدة الحاجة إليهما فيه، وأنه إذا كان الإنسان فى حاجة دائمة إلى مغفرة الله ورحمته، فإنه فى هذا اليوم أكثر ما يكون طلبا لهما، واحتياجا إليهما.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 382 الآيات: (112- 119) [سورة النحل (16) : الآيات 112 الى 119] وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) التفسير: قوله تعالى: «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» .. «الواو» هنا للاستئناف، ووصل حدث بحدث.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 383 وهذا الحدث هنا، هو المثل الذي ضربه الله لمن يعقل، ويعتبر، ويأخذ من مضرب المثل عظة وعبرة.. والمثل المضروب هنا، هو تلك القرية التي كانت آمنة مطمئنة، بما يسوق الله إليها من نعم.. فبطرت معيشتها، وكفرت بأنعم الله. وقد اختلف المفسّرون فى هذه القرية.. أهي قرية من قرى الأولين التي أهلكها الله ودمدم على أهلها؟ أم هى مكة.. والذي نميل إليه هو أن هذه القرية هى واحدة من تلك القرى التي أهلكها الله، والتي أشار إليها الله سبحانه وتعالى بقوله: «وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ» (11: الأنبياء) .. وبقوله سبحانه: «وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً» (59: الكهف) وبقوله تعالى: «وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ» (48: الحج) . فأية قرية من تلك القرى الظالمة التي أهلكها الله بظلمها، والتي عرف المشركون أخبارها وما حلّ بأهلها- أية قرية من تلك القرى صالحة لأن تكون المثل المضروب لأهل مكة.. يرون فى مخلّفاتها العبرة والعظة، إن كانوا يعتبرون ويتعظون.. فلقد عرف مشركو قريش ما حلّ بالقرى التي حولهم من عذاب الله.. فيما قصّ عليهم سبحانه وتعالى من أخبار «سبأ» فى قوله تعالى: «لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ» (15- 17: سبأ) . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 384 فهذه القرية- مثلا- كانت- كما يقص القرآن الكريم من أخبارها- فى حياة طيبة، يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، تحفّ بها الجنات عن يمين وشمال، فأكل أهلها من رزق الله، ولم يشكروا له، بل كفروا بنعمه، ومكروا بآياته، فأخذهم بالبأساء والضرّاء، وبدّلهم بجنتيهم ذواتى الثمر الطيب، والخير الموفور، أرضا قفرا لا تمسك إلا ببقايا حياة باهتة من شجر لا يعطى إلا خسيس الثمر، وقليله..! وهكذا كل من يكفر بنعم الله، ويمكر بآلائه. - وفى قوله تعالى: «فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ» إشارة إلى ما حلّ بهذه القرية الظالمة من بلاء، وما وقع عليها من بأس الله إذ جاءها، فقد بدل الله أمنها وطمأنينتها، جوعا دائما وخوفا متصلا، حتى لقد اشتمل عليها الجوع والخوف، كما يشتمل الثوب على الجسد ويحتويه، وحتى أنه كلما بلى هذا الثوب، ألبسهم الله ثوبا غيره.. وهكذا، لا يخلعون ثوبا إلا لبسوا غيره، ليذوقوا العذاب، بما كانوا يصنعون.. وقوله تعالى: «وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ» - هو إشارة إلى أن هذه القرية الظالمة، التي حلّ بها هذا البلاء، لم تؤخذ هكذا على غير حجّة قامت عليها، بل لقد بعث الله سبحانه وتعالى إلى أهلها رسولا منهم، فبلغهم رسالة ربّه إليهم، ودعاهم إلى الإيمان بالله، وإلى الاستقامة على طريق الحقّ والخير، فأبوا إلا عنادا وكفرا.. فكان أن أوقع الله بهم البلاء، كما يقول سبحانه: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (15: الإسراء) . وقوله تعالى: «فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» هو إلفات إلى أهل مكة خاصة، وإلى كل ذى عقل ونظر، أن يأخذوا العبرة من هذا المثل، وأن يجدوا فى النعم التي أنعمها لله عليهم، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 385 داعية يدعوهم إلى شكر الله، والولاء له.. وإلّا حلّ بهم عذاب الله، كما حلّ يتلك القرية الظالمة.. - وفى قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» تحريض المؤمنين على التمسك بالإيمان بالله، وإخلاص العبادة له وحده، وأن يقطعوا كل صلة كانت تصلهم بمعبوداتهم التي عبدوها من دون الله، وذلك أنهم كانوا فى جاهليتهم يدّعون أنهم مؤمنون بالله، وأنهم إنما يعبدون هذه الأوثان التي يعبدونها ليتقربوا بها إلى الله، كما يقول الله سبحانه على لسانهم: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» (3: الزمر) .. وهذا ضلال مبين، وشرك صراح بالله، فهو سبحانه الذي تفرّد بالخلق والرزق، فواجب أن يفرد بالولاء والعبودية. قوله تعالى: «إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» - هو بيان لتلك المآكل الخبيثة التي يجب على المؤمن بالله أن يتجنّبها، حتى يكون مأكله حلالا طيبا. وتلك المآكل الخبيثة، هى: الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما ذكر اسم غير اسم الله عليه.. فمن اضطر إلى أخذ شىء من تلك المآكل، «غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ» أي غير محلّ لها، وغير متجاوز حدود الحاجة التي يدفع بها الهلاك الذي يتعرض له- «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» أي يتجاوز للمضطر عن هذا المنكر الذي ألمّ به، وعليه أن يخلّص نفسه منه فى أقرب فرصة تسنح له. إنه أشبه بالتقيّة، التي يتقى فيها المؤمن بلسانه، الأذى الذي يعرض له، إذا هو وقع ليد عدوّ من أعداء الله.. قوله تعالى: «وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ قَلِيلٌ «وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» .. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 386 فى هذا تحذير لأولئك الذين تدعوهم أهواؤهم إلى إتيان المنكر، فيسوّغونه بتلك الصفات الكاذبة التي يخلعونها عليه، ويلبسونه بها ثوب الحلال الطيب.. فما اشتهته أنفسهم جعلوه حلالا طيبا، وإن كان فى حقيقته حراما خبيثا، وما لم تمل إليه أهواؤهم وسموه سمة الحرام، وإن كان حلّا مباحا.. - وفى قوله تعالى: «وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ» إشارة إلى أن هذه المقولات التي يقولونها فى حلّ الأشياء وحرمتها، إنما هى مما أملته عليهم أهواؤهم، وأنهم لم يحتكموا فيها إلى شرع أو عقل.. - وقوله تعالى: «الْكَذِبَ» بدل من ضمير النصب المحذوف، وهو العائد على الاسم الموصول من الفعل «تصف» - أي ولا تقولوا لما تصفه ألسنتكم، الذي هو الكذب، فما تصف ألسنتهم إلا كذبا، ولا تقول إلا زورا وبهتانا.. - وقوله تعالى: «هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ» هو مقول قولهم، أي إن قولهم عن مطعوماتهم، هذا حلال، وهذا حرام، هو قول كذب، قالوه لينتهى بهم إلى الافتراء على الله.. فاللام فى قوله تعالى: «لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ» هى لام العاقبة.. - وقوله تعالى: «مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» - هو تعليل لنفى الفلاح عن الذين يفترون على الله الكذب، فإنهم بافترائهم الكذب قد خسروا خسرانا مبينا.. ذلك أن هذا الذي عاد عليهم من كذبهم وافترائهم، هو شىء تافه، استرضوا به أهواءهم فى هذه الحياة الدنيا، فأوقعهم فى هذا الذي هم فيه، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 387 من عدوان على حرمات الله، وعصيان لله، وشرك به.. وذلك هو الخسران المبين..! قوله تعالى: «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» . هو ردّ على الذين هادوا، أي اليهود، الذين كانوا من وراء المشركين، يزكّون أفعالهم المنكرة، ويقولون لهم: إن هذا الذي أنتم عليه فيما تحلّون وتحرّمون من مطاعمكم، هو الحق، وأنه من شريعة إبراهيم، وأن ما يحدثكم به محمد، هو مما يفتريه على الله.. فاثبتوا على ما أنتم عليه، ولا تستمعوا له..! وقد رد الله عليهم سبحانه وتعالى بقوله: «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ.. فَإِنَّهُ رِجْسٌ.. أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ..» (145: الأنعام) .. ثم كشف سبحانه وتعالى عما أخذ به اليهود من عقاب، فحرّم عليهم طيبات كانت أحلّت لهم، نكالا لهم، بسبب عدوانهم على حرمات الله، وافترائهم عليه.. فقال تعالى: «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ.. ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ» (146: الأنعام) . ففى قوله تعالى: «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ» إلفات إلى هذا الموقف الذي وقفه اليهود من النبي، حين دعا المشركين بكلمات ربه، إلى أن يدعوا الزور الذي أدخلوه على مطاعمهم، كما ذكر الله لهم ذلك فى قوله تعالى: «وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 388 بِما كانُوا يَفْتَرُونَ وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» (138- 139: الأنعام) .. فجاء اليهود إلى المشركين يكذبون النبي فيما يقول لهم عن ربه فى هذه المطاعم، فرمى الله اليهود بهذا الخزي الذي حملته إليهم الآية الكريمة: «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ... » .. فهذا الذي حرمه الله سبحانه وتعالى على اليهود فى تلك الآية هو، ما أشارت إليه الآية: «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ» .. وهذا يقطع بأن آية الأنعام قد سبقت آية النحل نزولا.. قوله تعالى: «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» .. هو دعوة كريمة من رب كريم، إلى الضالين عن سبيله، والشاردين عن الحق الذي يدعو إليه رسوله، أن يرجعوا إلى الله من قريب، وأن يتوبوا إليه، ويصلحوا من أنفسهم ما أفسدوا.. فإن فعلوا، وجدوا ربّا غفورا رحيما، يغفر لهم ما كان منهم، ويدخلهم فى عباده المؤمنين.. - والجهالة فى قوله تعالى: «عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ» ليس المراد بها الجهل بالشيء، والوقوع فى الإثم عن جهل بأنه إثم.. فهذا من المعفوّ عنه ابتداء، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ» (115: التوبة) . وإنما المراد بالجهالة هنا، ما يركب المرء من نوازع الحمية والعصبية، وما يستولى عليه من حماقات الكبر والعناد.. وهذا هو أكثر ما يحمل الناس على معاندة الحق، ومعاداته، ويدعوهم إلى إتيان المنكرات، وركوب الضلالات وإلى هذا المعنى للجهالة، يشير الشاعر الجاهلى، عمرو بن كلثوم بقوله: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 389 ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا فالدعوة هنا إلى الرجوع إلى الله، دعوة عامة إلى كل شارد عنه، مسوق بهواه، محمول على مطية حميته، وعناده. وفى العطف «بثم» فى الموضعين هنا، إشارة إلى هذا البعد البعيد، الذي ينتقل به الإنسان من حال إلى حال.. فالذين عملوا السوء بجهالة، ثم كانت لهم إلى أنفسهم عودة، وكان لهم معها حساب.. هم على حال مباينة بونا شاسعا، لأولئك الذين يعملون السوء، ثم لا يقع فى أنفسهم ما بسوؤهم منه، ولا تمس ضمائرهم نخسة من آثاره.. فالأولون لا بد أن تكون لهم إلى الله رجعة، وقليل منهم من يمضى على طريق السوء الذي هو فيه إلى آخره.. والآخرون هيهات أن يراجعوا أنفسهم، ويرجعوا إلى ربهم.. وقليل منهم من يفعل. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً» (17: النساء) .. وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (135: آل عمران) والذين انتقلوا من حال المراجعة مع أنفسهم إلى حال التوبة وإصلاح ما أفسدوا، هم فى حالهم الثانية على بعد بعيد من حالهم الأولى.. ولهذا جاء العطف «بثم» فى قوله تعالى: «ثُمَّ تابُوا» . والضمير فى قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِها» يعود إلى التوبة، المفهومة من قوله تعالى «تابُوا» .. وهذا يعنى أن المغفرة والرحمة من الله تجىء بعد التوبة من الذنب، لا قبلها.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 390 الآيات: (120- 124) [سورة النحل (16) : الآيات 120 الى 124] إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) التفسير: مناسبة ذكر إبراهيم- عليه السلام- هنا فى قوله تعالى: «إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً» .. هو ما ذكر فى الآيات السابقة من موقف المشركين واليهود، من أحكام الله، فى حلّ المطاعم وحرمتها.. ولما كان كلّ من المشركين واليهود ينتسب إلى إبراهيم- عليه السلام- ويدّعى كل منهم أنه على دينه- فناسب هذا أن يذكر إبراهيم- عليه السلام- ويذكر دينه الذي كان عليه، وإيمانه بربه، وشكره لنعمائه، الأمر الذي لم يستقم عليه أىّ من الفريقين من أبنائه. فإبراهيم- عليه السلام- كان أمة، أي كان مجتمعا وحده، يؤمن بالله، بين مجتمعات كلها على الشرك والكفر.. فهو بهذه الصفة يمثل أمة مميزة عن غيرها، بالإيمان، تقابل تلك الأمم التي تمثل الكفر.. فهو الإنسان المؤمن، الذي يقابل بإيمانه الكفر والكافرين جميعا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 391 وكان إبراهيم مع إيمانه بالله قانتا، أي خاشعا لله، مسلما أمره له.. وكان «حنيفا» أي مائلا عن طرق الضلال والكفر.. «وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» أي لم يشرك بالله أبدا، ولم تستجب فطرته لأن يعبد ما كان يعبد أبوه وقومه، فنشأ مجانبا لهذه الضلالات، عازفا عنها. وفى وصف إبراهيم- عليه السلام- بأنه كان «حنيفا» - إشارة إلى أن المجتمع الذي كان يعيش فيه إبراهيم كان مجتمعا يسير على طرق الكفر والشرك، حتى لكأن ذلك هو وجهة الحياة فى زمنه، وحتى لكأن الخروج على هذه الوجهة، يعدّ ميلا وانحرافا.. وهذا مما يعظم من شأن إبراهيم، ويرفع قدره فى العالمين، بين أتباع الحق، وأهل الإيمان.. فقد خرج إبراهيم بإيمانه عن هذا الإجماع المطلق، وشق لنفسه ثقبا فى هذا الحائط الصفيق، المضروب حوله من الكفر، ونفذ إلى عالم النور! ولهذا استحق إبراهيم بأن يوصف هذا الوصف الكريم من ربه، بأن كان حنيفا.. والحنيف هو المائل.. ولكنه هنا ميل إلى الحق والهدى والإيمان.. ولهذا أيضا اختصّ إبراهيم- عليه السلام- بهذا الوصف دون سائر الأنبياء.. إذ كان أمة وحده. - وفى قوله تعالى: «وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» تعريض بالمشركين من أهل مكة، إذ كانوا يدّعون أنهم على شريعة أبيهم إبراهيم.. فكيف يكونون على شريعته، وهم مشركون، وهو الحنيف، الذي لم يكن فى يوم من أيامه من المشركين؟ وقوله تعالى: «شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .. هو معطوف على خبر كان فى قوله تعالى: «كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً..» أي وكان شاكرا لأنعم ربه، إذ اجتباه ربه، أي اصطفاه لرسالته، وأخرجه من عالم الكفر المتكاثف حوله، وهداه إلى الحق، والخير، والإيمان.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 392 وفى هذا تعريض باليهود، الذين خرجوا على شريعة أبيهم إبراهيم خروجا صارخا، فكفروا بأنعم الله، ومكروا بآياته، وكذبوا رسله، وتنكبوا طريق الحق، وركبوا طرق الضلال. قوله تعالى: «وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» .. هو عطف على قوله تعالى: «اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» : وفى الحديث عن الله سبحانه وتعالى بضمير الغيبة فى قوله تعالى: «اجْتَباهُ وَهَداهُ» .. ثم الحديث عنه تعالى بضمير الحضور «وآتيناه» .. إشارة إلى تلك المنزلة التي بلغها إبراهيم عند ربه، بعد أن اصطفاه لرسالته، وهداه إلى دينه.. فقد استقام إبراهيم على هذا الطريق المستقيم، مجتهدا فى الطاعة، مخلصا فى العبادة، حتى اتخذه الله سبحانه وتعالى خليلا له، وأقبل عليه بعطاياه ومننه: «وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً» .. فهو عطاء كريم تناوله من ربه من غير واسطة. والحسنة التي آتاها الله سبحانه وتعالى إبراهيم، هى على إفرادها وتنكيرها، تسع ببركتها وخيرها، الناس جميعا.. ومن ثمرات هذه الحسنة هذا الذّكر الطيب الذي لإبراهيم فى هذه الدنيا، حيث كان من ذريته الأنبياء، ومنهم: موسى، وعيسى، ومحمد، أصحاب الرسالات السماوية التي يدين بها المؤمنون بالله!. وفى قوله تعالى: «وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» إشارة إلى ما لإبراهيم عند الله فى الآخرة.. فهو عند الله من الصالحين، الذين سلموا من كل سوء، فاستحقوا منازل الرحمة والرضوان.. قوله تعالى: «ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 393 العطف بثم هنا، إشارة إلى الفاصل الزمنى بين رسالة إبراهيم، ورسالة محمد، عليهما الصلاة والسلام.. وليس هذا الفاصل الزمنى على امتداده بالذي يفصل بين حقيقة الرسالتين، فهما من معدن واحد.. بل هما شىء واحد، فى الأصل الذي قامتا عليه، وهو توحيد الله، وإخلاص العبودية. قوله تعالى: «إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» .. السبت هو اليوم الذي جعله الله لبنى إسرائيل، يوم طاعة وعبادة، يتخففون فيه من شئون الحياة الدنيا، ويراجعون أنفسهم فيما وقع منهم من سيئات، خلال أيام الأسبوع الستة.. وبذلك يمكن أن يجد الواحد منهم فرصته فى إصلاح نفسه، وتصحيح أخطائه، قبل أن يمضى بها الزمن فينساها، أو تكثر ويزحم بعضها بعضا، فيعجز عن معالجتها، وتفتر عزيمته عن لقائها.. هكذا كان يوم السبت، لبنى إسرائيل، يوما خالصا لله، وفرصة مهيأة للتطهر من الآثام، والتخفف من الذنوب.. شأنهم فى هذا شأن النصارى فى يوم الأحد، والمسلمين فى يوم الجمعة.. فهذا اليوم من كل أسبوع، هو أشبه بالمنازل التي ينزلها المسافر خلال رحلة طويلة شاقة، حيث تتهيّأ له فى هذا المنزل فرصة للراحة والاستجمام، والتزود بالماء والطعام، وإصلاح أدوات السفر ومعدّاته، إلى غير ذلك مما يعين المسافر على قطع المرحلة القادمة، من رحلته.. وهكذا.. حتى تنتهى الرحلة، ويلقى عصا التسيار! .. ولو أحسن بنو إسرائيل استقبال هذا اليوم، واستقاموا على ما أمرهم الله به فيه- لكان لهم من ذلك خير كثير فى دينهم ودنياهم جميعا.. ولكنهم مكروا بنعمة الله وكفروا بها، شأنهم فى هذا هو شأنهم مع كل نعمة أنعم الله بها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 394 عليهم، فخانوا الله فى هذا اليوم، وجعلوه يوم لهو، وعربدة.. فجعله الله نقمة عليهم، وابتلاهم فيه بتحريم، صيد البحر، فلما لم يستقيموا مع هذا الأمر، ضاعف عليهم البلاء، فأمسك عنهم السمك أن يجدوه فى البحر إلا يوم السبت، وبهذا وضعهم الله أمام هذا البلاء، وأوقعهم فى هذا الحرج.. فإن صادوا فى يوم السبت أثموا، وإن لم يصيدوا حرموا الصيد أبدا.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ» .. (163: الأعراف) ولم يحتمل القوم هذا البلاء.. فاعتدوا فى السبت، وصادوا فيه ما حرم الله عليهم صيده.. فأخذهم الله بعذابه، وأوقع بهم نقمته.. فمسخهم الله، وألبسهم طبائع القردة، كما يقول الله سبحانه: «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ، فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ» .. (65: البقرة) . وأكثر من هذا.. فإن الله قد حرم عليهم أن يعملوا فى هذا اليوم عملا، وأن يتحولوا إلى جمادات لا حس لها ولا شعور.. وفى هذا تقول التوراة: «اذكر يوم السبت لتقدسه ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك لا تصنع عملا ما، أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك.. «لأن فى ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها واستراح فى اليوم السابع. لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه» . هكذا تقول التوراة فى الأصحاح العشرين من سفر الخروج، ولكن بنى إسرائيل لم يستقيموا على هذا الأمر ولم يحتملوا الصبر على هذا التكليف، الذي لا حرج فيه.. ولا إعنات، فكثرت حوله تأويلاتهم الفاسدة، حتى أبطلوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 395 الأثر الطيب الذي كان سيعود عليهم منه.. ولهذا جاءهم الله سبحانه وتعالى بما هو أشقّ وأمرّ، نكاية بهم، ولعنة لهم.. فكان حكم التوراة بعد هذا هو: «ستة أيام يعمل كل عمل وأما اليوم السابع ففيه يكون لكم سبت عطلة مقدس للرب كل من يعمل فيه عملا يقتل.. لا تشعلوا نارا فى جميع مساكنكم يوم السبت» هكذا تقول التوراة فى «الإصحاح الخامس والثلاثين من سفر الخروج» .. فالعمل فى يوم السبت، يوجب على اليهودي القتل، وهذا ابتلاء عظيم من الله سبحانه، لهذا القطيع المعربد، حتى يكونوا من هذا الابتلاء بين أمرين، أحلاهما مر.. فإن عملوا أي عمل فى يوم السبت، ولو فى دفع عدوّ مغير عليهم وقعوا تحت حكم الله، وهو استحقاقهم للقتل، وإن لم يعملوا كانوا صيدا دانيا لكل من يريد اقتناصه.. وفى قوله تعالى: «إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ» .. هو بيان لما حل ببني إسرائيل بافترائهم على الله فى يوم السبت، وخروجهم على حكم الشريعة فيه، بما تأوّلوا من تأويلات فاسدة، أملتها عليهم أهواؤهم، فكان لكل جماعة منهم رأى فيه، وكلها آراء فاسدة قائمة على الهوى.. - وفى تعدية الفعل «جعل» بحرف الجر «على» إشارة إلى أن هذا اليوم جعل لعنة على بنى إسرائيل، بعد أن كان رحمة لهم.. فما كان للإنسان، فهو خير، وما كان عليه فهو شر، كما يقول الله تعالى: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها.. لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» (286: البقرة) - وقوله تعالى: «وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» تهديد لليهود، وأنهم سيؤخذون بآثامهم التي حملوها معهم، من تلك الخلافات التي وقعت بينهم فى شريعة الله الواضحة الصريحة، التي لا تحتمل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 396 تأويلا، ولا تثير خلافا، إلا حيث تتنازعها الأهواء، وتتوارد عليها النظرات الزائغة والعقول السقيمة. الآيات: (125- 128) [سورة النحل (16) : الآيات 125 الى 128] ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) التفسير: بهذه الآيات تختّم سورة النّحل.. وهى السورة التي تدعو إلى الإيمان بالله، بما تكشف من آيات قدرته، المبثوثة فى هذا الوجود، والتي تحدّث كل آية منها عن قدرة الصانع، وعلمه وحكمته، كما تحدّث عن النعم التي أفاضها الخالق جلّ وعلا على الإنسان، حيث أخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئا، وجعل له السّمع والبصر، والفؤاد، ثم سخّر له ما فى السموات وما فى الأرض، وهيأ له أسباب الانتفاع بما فى الأرض والسماء.. من عوالم وموجودات.. ودعوة الرسول إلى الله سبحانه وتعالى، إذ تحمل هذه الدلائل البيّنة على قدرة الله، لا تحتاج إلى قوة قاهرة، توجه إليها الأبصار، وتفتح لها العقول والقلوب.. فإن القوة هنا تضرّ ولا تنفع، حيث أن العقل هو المدعوّ إلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 397 التعرف على الله، والإيمان به، وليس سبيل العقل إلى العلم والمعرفة، هو القهر والقسر، وإنما سبيله النّظر والاقتناع، فى جوّ من الحرّية المطلقة، البعيدة عن الضغوط المادية، أو المعنوية.. فالإيمان الذي يكون تحت أىّ مؤثر خارجى، يختل العقل، أو يقهره، هو إيمان مدخول، لا يطمئن إليه القلب، ولا تتأثر به المشاعر، ولا يجنى منه صاحبه ما يجنى المؤمنون من إيمانهم من ثمرات طيبة مباركة.. ولهذا كان أمر الله سبحانه وتعالى إلى نبيه الكريم بأن تكون دعوته قائمة على هذا المنهج الذي يمثّل الكمال كلّه فى غرس المعارف، وتربية النفوس: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ» .. ومن الدعوة بالحكمة مراعاة مقتضى الحال، ومخاطبة كل قوم بما يعرفون، وأخذهم بالرفق والتلطّف، واختيار الوقت المناسب للموعظة التي يراد وعظهم بها، حتى تتقبلها النفوس، وتنتفع بما فيها من خير.. إن الرسول طبيب يحمل الدواء إلى العقول، والقلوب، والأرواح.. ومن هنا كانت مهمته عسيرة شاقة، يحتاج معها إلى بصيرة نافذة، تتدسس إلى خفايا النفس الإنسانية، وتضع يدها على موطن الداء. ثم تختار من الدواء ما يشفى العلة، ويذهب بالداء.. وقوله تعالى: «وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» هو بيان لمرحلة من مراحل الدعوة، وهى المرحلة التالية، للدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.. فالرسول مطالب بأن يعرض دعوته فى أسلوب من الحكمة والموعظة الحسنة، فإذا تقبّل المدعوّون دعوة الرسول فى هذا الأسلوب، من غير عناد أو جدال، فذاك، وإن كان من المدعوين عناد وجدال، فلا يلقى النبىّ المعاندين المجادلين، معاندا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 398 مجادلا، فذلك من شأنه أن يعمّى على الحق، وأن يسدّ المنافذ الموصلة إليه، وإنما على الرسول أن يلقى جدال المجادلين بالحسنى، وأن يصرفهم عن هذا الجدل العقيم، إلى ما هو أجدى وأنفع لهم.. وقد أرى الله سبحانه وتعالى النبىّ المثل الأمثل فيما يلقى به المجادلين، حين أجاب سبحانه وتعالى عن سؤال إلى المشركين عن الأهلة، فقال تعالى: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ.. قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ» (189: البقرة) ففى هذا الجواب الحكيم، دعوة للمشركين أن ينصرفوا عن هذا الجدل العقيم حول الأهلة، وكيف تبدو صغيرة، ثم تكبر، ثم تعود صغيرة- إلى ما فى هذه الأهلة، ودورتها، من آثار يتعرفون بها المواقيت لأمور الدين والدنيا جميعا.. ذلك هو الجدل بالتي هى أحسن وأقوم.. وعلى هذا المنهج ينبغى أن يكون جدل النبىّ، فى كل موقف يكون بينه وبين المشركين أو الكافرين، جدال.. وقوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» - هو تهديد لأولئك الذين يجادلون بغير علم، ولغير غاية، إلا المراء والإعنات.. فالله أعلم بهؤلاء الضالين عن سبيله، لا يجتمعون مع المهتدين، ولا ينزلون منازلهم، بل يعزلون عنهم، ويلقى بهم فى عذاب السعير. قوله تعالى: «وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ» .. قيل إن هذه الآية والآيتين اللتين بعدها نزلت بالمدينة، بعد غزوة أحد، ولهذا حسبت الآيات الثلاث من القرآن المدني، على حين أن السورة كلها- فيما عدا هذه الآيات الثلاث- مكية.. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 399 والمستند الذي يقوم عليه القول بنزول هذه الآيات بعد غزوة أحد- هو ما يروى من أن المشركين حين ظفروا بالمسلمين فى غزوة أحد مثّلوا بالشهداء تمثيلا لم تعرفه العرب، فبقروا بطونهم، وصلموا آذانهم، وجدعوا أنوفهم، إلى غير ذلك مما يقال من أن المشركين ونساءهم فعلوه بالشهداء، تشفيّا لما أصابهم فى يوم بدر، حتى ليقال إن هند بنت عتبة، زوج أبى سفيان، بقرت بطن حمزة- رضى الله عنه- وأخذت كبده، وأكلت شيئا منها! ثم تمضى الرواية فنقول: إن النبىّ صلى الله عليه وسلم، حين رأى ما فعل المشركون بحمزة، وغيره من الشهداء حزن لذلك حزنا شديدا، وحلف لئن أظفره الله بالمشركين أن يمثّل بسبعين منهم.. وكذلك فعل كثير من المسلمين. فنزل قوله تعالى: «وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ..» .. فأخذ النبىّ بما هو خير، ولم يعاقب المشركين بمثل ما عوقب به، وكفّر عن يمينه.. واقتدى المسلمون به. ومما يؤيد القول بأن هذه الآيات مدنية، ما تضمنته من دعوة المسلمين إلى أن يعاقبوا بمثل ما عوقبوا به، أو يصبروا على ما أصابهم، فذلك خير لهم، وأولى بهم.. وتلك حال لم تكن للمسلمين فى مكة، إذ كانوا ولا قدرة لهم على ردّ العدوان بالعدوان، وإنما كان الصبر على المكروه، هو كل عدّتهم فى هذا الدور من الصراع الذي كان بينهم وبين المشركين.. قوله تعالى: «وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ» - هو دعوة النبىّ الكريم إلى الأخذ بما هو خير له من الأمرين اللذين خيّره الله سبحانه وتعالى بالأخذ بأيّ منهما، فى قوله تعالى: «وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ» .. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 400 فإذا كانت الدعوة إلى الأخذ بالصبر على سبيل التخيير فى جانب المسلمين عامة فإنها فى جانب النبي- صلوات الله وسلامه عليه- أمر وإلزام. وقد اختص النبىّ الكريم بالدعوة إلى الأخذ بالصبر وحده، دون أن يعاقب بمثل ما عوقب به- لأن ذلك مقام لا يحتمله إلا قلة قليلة من الناس، على رأسهم أنبياء الله ورسله.. ولهذا جاء أمر الله خاصة إلى النبىّ الكريم: «وَاصْبِرْ» .. ولم يجىء هكذا: «واصبروا» وإن كان هذا لا يمنع من أن يتأسّى المسلمون بالنبيّ فى هذا.. فهو قدوة المسلمين فى كل ما هو كمال، وخير، وإحسان.. - وفى قوله تعالى: «وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ» .. هو تطمين للنبىّ الكريم، وتثبيت لفؤاده على التزام الصبر، وإيناس له من وحشة هذا العبء الثقيل الملقى عليه، إذ أنه سيتلقى المدد والعون من الله، وأن هذا الصبر الذي يدعى إليه، إنما هو صبر عظيم، لا تحتمله النفوس إلا بالاستعانة عليه بالله.. والله سبحانه وتعالى معينه وممدّه بألطافه. وفى إضافة الصبر إلى النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه-: «وما صبرك إلا بالله» - إشارة إلى أنه صبر من طبقة عالية، لا ينالها إلا النبىّ الكريم، المؤيد من الله، والمزوّد منه سبحانه بالقوة والعزم على احتمال هذا النموذج الفريد من الصبر.. فهو صبر ذو صفة خاصة.. هو صبر النبىّ صلوات الله وسلامه عليه.. وقوله تعالى: «وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ» - هو عزء للنبىّ الكريم، فيما كان يجد فى نفسه من حزن وأسّى على قومه الذين غلبت عليهم شقوتهم فماتوا على الكفر، حتف أنوفهم، أو فى ميدان القتال بأيدى المسلمين.. - وقوله تعالى: «وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ» .. هو مواساة للنبىّ، وتخفيف لما يقع فى نفسه من ألم، إذ يرميه قومه بالضرّ والأذى، ويبيّتون له الجزء: 7 ¦ الصفحة: 401 الكيد، ويدبرون له السوء.. كما يقول الله سبحانه وتعالى: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» (30: الأنفال) .. فالله سبحانه وتعالى هو الذي يتولى عنه دفع هذا الكيد، وإبطال هذا المكر.. قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ» .. هو حكم عام لله سبحانه وتعالى فى عباده، وهو أنه سبحانه وتعالى، يتولّى المتقين المحسنين منهم، ويحوطهم برعايته، ويمدهم بأمداد عونه ونصره.. وفى هذا الحكم يرى النبىّ الكريم أن هذه الأمداد التي يمدّه بها ربّه، إنما هى مما قضى الله به فى حلقه، وأن هذا العطاء الكريم هو من نصيب المحسنين المتقين، وأنه بقدر ما يبلغ الإنسان من إحسان وتقوى، يكون قربه أو بعده من معيّة الله.. والنبىّ الكريم- لا شك- أوفر عباد الله حظّا من التقوى والإحسان، فهو لهذا أكثر عباد الله قربا من ربّه.. والمعيّة فى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ» هى معيّة القرب من ألطاف الله، والتعرض لنفحات رحمته وإحسانه.. كما يقول سبحانه وتعالى: «إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» (56: الأعراف) . والتقوى: أساسها الإيمان بالله.. لا تنبت مغارسها، ولا يثمر زرعها، إلا إذا غرس فى تربته، وارتوى من مائه.. وملاك أمر التقوى، هو امتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، أو كما يقول بعض العارفين: «هى ألّا يراك الله حيث نهاك، وألا يفتقدك حيث أمرك» . أما الإحسان.. فهو التقوى فى كمالها وتمامها.. حيث يستقيم المؤمن على شريعة الله، ويلتزم حدوده، فيصطبغ بصبغة التقوى، التي يصبح بها من عباد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 402 الله المحسنين المقربين.. وقد أجاب النبىّ صلى الله عليه وسلم عن الإحسان، حين سئل عنه، فقال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» . وقد كشف الله سبحانه عن حقيقة الإحسان فى قوله تعالى: «لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (93: المائدة) .. ففى هذه الآية ما يكشف عن قيمة الإحسان، ومكانة المحسنين. إذ هو الغاية التي يبلغها المؤمنون بإيمانهم، وينالها المتقون بتقواهم.. وعلى هذا، يكون المتقون، والمحسنون، فى منزلتين من منازل الإيمان.. وأن كلّا من المتقين والمحسنين له شرف «المعيّة» مع الله.. وإن كان المحسنون أقرب قربا، وأكثر عطاء ورفدا.. جعلنا الله سبحانه وتعالى من عباده الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأنزلنا منازلهم، وحشرنا فى زمرتهم، ونفعنا بهم فى الدنيا والآخرة.. إنه سميع مجيب والحمد لله رب العالمين. تم بعون الله الجزء الرابع عشر ويليه الجزء الخامس عشر إذا شاء الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 403 [الجزء الثامن] 17- سورة الإسراء نزولها: نزلت قبل الهجرة بنحو عام، فهى مكية.. وقيل إن فيها بضع آيات نزلت بالمدينة، منها قوله تعالى: «وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ» .. إلى قوله تعالى: «وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ» .. ومنها آية: «أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ» .. وآية: «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ» ويقول «الفيروزآبادي» فى كتابه «بصائر ذوى التمييز» : إن السورة مكية باتفاق!! عدد آياتها: مائة وإحدى عشرة آية.. عدد كلماتها: ألف وخمسمائة وثلاث وستون كلمة.. عدد حروفها: ستة آلاف وأربعمائة وستون حرفا.. [ما يقال فى تسمية السورة] الرأى على أنها سميت الإسراء.. لأنها بدأت بالإسراء، ولأن الإسراء أعظم حدث فى حياة النبىّ، بل وفى حياة البشرية كلها.. فلم يقع هذا الحدث فى الحياة البشرية، إلا تلك المرّة.. فكان بذلك أعظم معلم من معالم تلك السورة، وحقّ له أن يكون وحده دون غيره، عنوانا لها. هذا، و «البيضاوي» فى تفسيره، يسمّى هذه السورة سورة: «أسرى» جاعلا فعل الإسراء «أسرى» ، هو العنوان للسورة، دون تغيير فيه.. ومن أعجب الأعاجيب هنا، أن نجد لهذه السورة اسما، يجعله المفسّرون من بعض أسمائها، على ما جرت به عادتهم من تكثير الآراء وحشدها، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 405 للأمر الواحد.. فجعلوا من أسماء هذه السورة، اسم: «بنى إسرائيل» .. وواضح أن هذا الاسم دخيل منتحل، تسلّل إلى المفسّرين وأصحاب السّير، فيما تسلّل من الإسرائيليات، التي دسّها اليهود على هؤلاء العلماء، فقبلوها منهم بحسن نيّة.. ولو كان لبنى إسرائيل أن تكون لهم سورة باسمهم فى القرآن الكريم، لكانت سورة البقرة- مثلا- أولى من الإسراء فى هذا المقام، إذ كانت البقرة تحوى من أخبار بنى إسرائيل، أكثر مما تحويه سورة الإسراء، ومع هذا فقد أخذت السورة اسم البقرة، وهى بقرة بنى إسرائيل، ولم تأخذ اسمهم! الأمر الذي يحمل على القول بأنه مستبعد أصلا أن يكون لبنى إسرائيل سورة باسمهم فى كتاب الله، وإن كان لأبى لهب سورة باسمه! ومن جهة أخرى، فإنا نرى سورا فى القرآن، فيها حديث مستفيض عن بنى إسرائيل، كسورة الأعراف، وسورة طه، مثلا، ومع هذا فلم تسمّ أىّ منهما سورة بنى إسرائيل!! فلماذا كانت سورة «الإسراء» بالذات، هى التي يدخل عليها هذا الاسم، وينازعها شرف هذه التسمية التي سميت بها تلك السورة؟ إننا نشمّ هنا ريح «اليهود» ونجد بصمات أصابعهم المتلصصة، التي تريد أن يكون حديث «الإسراء» حديثا خافتا، لا بذكر إلا عند تلاوة الآية، دون أن يجرى له ذكر عند الحديث عن سور القرآن الكريم، كلما ذكرت آية من آيات هذه السورة، ونسبت إليها الآية.. وذكر السورة فى القرآن الكريم يحرى عادة أكثر من ذكر أي آية من آياتها. هذه واحدة، من فعلات اليهود فى حديث الإسراء! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 406 وأكثر من هذا كيدا، ومكرا، ما أدخلوه على حديث الإسراء ذاته من زور الأحاديث، التي أخذها عنهم بعض العلماء، عن غفلة، ونيّة حسنة، باعتبار أن هذه الأحاديث المبالغ فيها تعالى من قدر النبىّ، وترفع من شأنه.. وما دروا أن تلك المفتريات إذ تجتمع مع الحقّ، تبعث حوله الشك والاتهام، الأمر الذي يذهب بجلال الحقيقة وروعتها، وإنما مردّ ذلك الجلال، وتلك الروعة، إلى قربها من الطبيعة البشرية، ومداناتها للواقع المألوف.. وحسبنا شاهدا لهذا، القرآن الكريم، فى إعجازه الذي قصرت عن مداناته أيدى الإنس والجن، ومع هذا، فهو من كلام لم يخرج عن مألوف اللسان العربىّ، ولم يجاوز حدود اللغة العربية! وسنرى فى حديث الإسراء، ما دخل على هذا الحديث من دسّ اليهود وكيدهم، الأمر الذي ألقى شبها كثيرة عند من يستمعون إلى هذا الحديث وما اختلط به، فلا يدرى المؤمن ماذا يأخذ من هذه الأحاديث وماذا يدع، فلو أنه أخذها جملة لما اطمأن إليها قلبه، ولما سكن إليها عقله، ولو أخذ بعضا وترك بعضا، لفقد الثقة فيما أخذ أو ترك.. جميعا!! [مناسبتها للسورة التي قبلها] ختمت سورة النحل، التي قبل هذه السورة بقوله تعالى: «وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ» . وهذا الختام يحدّث عما كان يعانيه الرسول الكريم من ضيق، وما يجده فى نفسه من مشاعر الحزن والألم، لما يلقى من قومه وأهله من كيد، وما يرى فيهم من عناد وإصرار على الكفر والضلال.. فناسب ذلك أن يذكر معه، ما كان من فضل الله على النبي الكريم، بهذه الرحلة المباركة التي رأى فيها النبىّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 407 الكريم ما رأى من آيات ربّه، فوجد فى هذا، الروح لنفسه، والانشراح لصدره، والعزاء الجميل من مصابه فى أهله.. ولعلّ فيما حدّث به ختام سورة النّحل ما يكشف عن بعض حكمة الإسراء، وأنه- كما سنرى- كان استضافة للنبىّ الكريم فى رحاب الملأ الأعلى، ليستشفى مما نزل به من ضيق، وما ألمّ به من ألم، فى هذا الصراع الذي كان محتدما بينه وبين قومه، حتى لقد كانت تتنزّل عليه آيات الله تدعوه إلى أن يرفق بنفسه، وأن يتخفف من مشاعر الحزن على أهله، ألا يكونوا مؤمنين. وفى هذا يقول سبحانه «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» (8: فاطر) ويقول جلّ شأنه: «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (99: يونس) ويقول سبحانه: «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» (56: القصص) .. ويجتمع هذا كله فى قوله تعالى فى آخر سورة النحل: «وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ» .. فناسب هذا الختام للسورة أن تجىء بعدها سورة الإسراء، وما كشف الله لنبيه فى هذه الرحلة المباركة من جلال ملكوته، وما أراه من أسرار علمه وحكمته! بسم الله الرّحمن الرّحيم الآية: (1) [سورة الإسراء (17) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 408 التفسير: سبحان: مصدر، منصوب، بفعل محذوف تقديره سبّح الله تسبيحا، أو سبّحه سبحانا.. أسرى: أسرى بكذا، أي سار به ليلا.. وأصل الفعل من السرّ، وهو ما خفى عن غير صاحبه من الأمور.. ولأن الليل يستر الناس، ويخفى شخوصهم وأفعالهم عن الناس، فقد سمّى السير فيه سرى.. وسمّى تحرك الليل نفسه، سرى، وذلك لأنه يقطع رحلته فى دورة الفلك من أول الليل إلى آخره دون أن يدلّ دليل على حركته، إلا شواهد باهتة خفية لا يراها إلا من يتربص له، ويرصد مسيرته.. فأول الليل وآخره سواء، فى مرأى العين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ» .. فالليل نفسه يسرى، أي يسير متخفّيا فى ظلام، مستترا به، لا ننكشف حركته للناس..! وعلى هذا، فكل حركة، أو عمل، يكون فى خفاء يمكن أن يطلق عليه لفظ «سرى» ، فيقال: أسريت بهذا الأمر أي فعلته سرّا، دون أن يطلع عليه أحد.. وقيد السّرى باللّيل هنا، يراد به تحقيق أمرين: أولهما: اتخاذ الليل ستارا للسير، وظرفا حاويا له، حتى لا تنفذ إليه الأبصار.. وثانيا: التحرك فى حذر، وحيطة، وفى خفاء، دون جلبة أو ضوضاء.. الأمر الذي يعين على إنفاذ الأمر دون أن يفضح.. فإن الليل وإن كان سترا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 409 يحجب الأبصار، فإن مع الأبصار التي حجبها الليل أسماعا، لا يعطّل وظيفتها ظلام الليل، بل سكونه يزيد من قدرتها على التقاط الأصوات، والإمساك بها.. ولعلّ هذا هو ما نلمحه فى قوله تعالى للوط عليه السلام: «فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ» (81: هود) وقوله تعالى لموسى عليه السلام: «فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ» (23: الدخان) .. فقد جاء الأمر إلى النّبيّين الكريمين بالسّرى ليلا، ليكون اللّيل ستارا لهذا السير، إلى جانب ما يكون من حذر وحيطة واحتراس، فى إخفاء كل حركة، وكل صوت، ينبىء عن هذا السير، أو السّرى..! ومن هنا سمّى النّبع الجاري فى سلاسة، ورفق- سمّى «سريّا» كما يقول سبحانه وتعالى لمريم: «فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا» (24: مريم) . وقد توسعنا فى شرح كلمة «أسرى» وفى قيدها بظرف الليل، لندرك السرّ فى قوله تعالى: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا» وأن قيد السّرى هنا بالليل، وجعله وعاء حاويا له، لم يكن توكيدا للخبر بأن الإسراء كان بالليل، كما يقول بذلك المفسّرون، فهذا الظرف- فى رأيهم على هذا القول- ليس له أثر فى معنى لفظ «الإسراء» .. إذ الإسراء أو السّرى- عندهم- لا يكون إلا ليلا.. فكلمة «ليلا» عندهم لمجرد التوكيد، بالتكرار!! وقد رأيت أن معنى الإسراء، أو السّرى، هو الخفاء، وأنه مشتق من السّرّ، وأنه وإن غلب السّرى على اللّيل، فإن ذلك لا يمنع من أن يكون بالنّهار إذا وقع الأمر فى ستر من الخفاء، غير هذا الستر الطبيعي الذي يتّخذ من الليل.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 410 فقوله تعالى: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا» يشير إلى أمرين: أولهما: أن ظرف الإسراء كان ليلا، وثانيهما: أنه كان بحيث لم يشعر به أحد، بل وقع فى ستر، بحيث لم يلحظه أحد من المتصلين بالنّبيّ، القريبين منه، الذين كانوا يشاركونه الحياة فى بيته، وفى الحجرة التي كان ينام فيها. ونستظهر من هذا أمرين أيضا: أولهما: أن الإسراء بالرسول، صلوات الله وسلامه عليه، كان بجسده، ولم يكن بروحه الشريف وحده.. وأنه لو كان بروحه لما جاء التعبير القرآنى عنه بلفظ «أسرى» الذي يدلّ فى ذاته على الستر والخفاء، ولما جعل هذا السّتر فى مضمون ستر آخر هو الليل، كما يقول سبحانه: «ليلا» .. وثانيهما: أن هذا الإسراء بالنبيّ الكريم، لم يكن معجزة متحدّية، وإنما هو رحلة روحيّة، واستضافة من الله الرحمن الرحيم، للنبىّ، فى رحاب ملكوته، حيث يشهد من ملكوت الله، ويتزود من ألطاف الله، ما لم يشهده بشر، وما لم يتزود به إنسان! هذا، وقد كان للإسراء حديث طويل متصل، امتلأت به كتب التفسير، والسّير، وقد دخل على هذا الحدث كثير من الخيال، وكثير من الكذب والدسّ، حتى كاد يختنق الشعاع المنبعث منه، وتغيب عن نظر الناظر فيه، مواقع العبرة والعظة منه.. ولهذا رأينا أن نقف من هذا الحدث وقفة، ندفع بها ما نستطيع دفعه من هذا الضباب المتكاثف حول «الإسراء» ، حتى يستطيع المسلم أن يرى وجه هذه الآية الوضيئة التي اختص الله سبحانه وتعالى بها خاتم النبيين، وإمام المرسلين.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 411 [وقفة مع الإسراء.. والمعراج] قد رأينا فى مفتتح هذه السورة أنها تبدأ بقوله تعالى: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» . فهذه الآية، هى كلّ ما ذكر القرآن ذكرا صريحا عن الإسراء.. وكان من أجل هذا أن سمّيت السورة سورة «الإسراء» ، باعتبار أن «الإسراء» هو أبرز حدث فيها، وأظهر وجه من وجوه الأحداث التي عرضت لها هذه السورة. وإذن، فالحديث الحقّ عن الإسراء، ينبغى ألا يخرج عن مضمون هذه الآية، وألا يجاوز حدودها.. والإسراء- كما يفهم من هذه الآية- هو رحلة سماوية، أرادها الله سبحانه لنبيّه الكريم، ليريه سبحانه وتعالى من آياته، ما لا تراه العيون، ولا تتظنّاه الظنون! وحدود هذه الرحلة- كما يذكر القرآن- هى: من المسجد الحرام بمكة، إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس. وزمانها، لحظة من لحظات الليل.. كما يقول سبحانه: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا..» فالآية صريحة فى «الإسراء» وفى أنه كان فعلا للنبى الكريم، وأنه واقعة حقيقية، وليس رؤيا مناميّة، وإلّا لما كان له ذكر خاص فى سورة خاصة. والذي يقف بالإسراء عند هذا الحدّ الذي قطعت به هذه الآية الكريمة، يجد أن تلك الإضافات الكثيرة، وتلك الذّيول الطويلة التي علقت بحديث الجزء: 8 ¦ الصفحة: 412 الإسراء، ليس من معطيات الآية الكريمة، من جهة، ولا تستدعيه غاية الإسراء، ولا يحتاج إليها الكمال الذي يجب أن يكون عليه- من جهة أخرى.. فالإسراء، على ما تشهد به الآية- لم يكن- كما أشرنا من قبل- معجزة متحدية، وإنما هو- كما قلنا- رحلة روحية إلى بيت المقدس، مجمع الأنبياء، وأول قبلة للإسلام!! دواعى هذه الرحلة: كان الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- قبيل الإسراء، فى وجه خصومة عنيفة ظالمة، من قومه.. يدعوهم إلى الرشاد والخير، فيلقونه بالتكذيب والبهت، وبرمونه بالسّوء والأذى.. وهو رحيم بهم، حريص على هدايتهم، تكاد تذهب نفسه حسرة عليهم، إذ يراهم يتمزقون شعبا، ويتقطعون أوصالا، بين يدى دعوته التي يدعوهم إليها.. وليس حال أدعى من هذه الحال، للخروج من هذا الجوّ الثقيل الخانق، إلى جوّ آخر، فيه راحة للصدر واسترواح للنفس! ولكن: إلى أين المذهب والنبىّ قائم على دعوة السماء، موجه برسالتها؟ إنه لا مفرّ للنبىّ- إن أراد أن يظل فى سجل الأنبياء- من أن يثبت فى موقفه، لا يزايله، ولا يتحول عنه أبدا، وإن هلك! وقد قالها رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- لعمّه أبى طالب، حين دعاه عمّه إلى أن يترك ما هو فيه، ويلقى قومه بالموادعة، حتى لا تتمزّق وحدة قريش، ويقتل بعضها بعضا، فقال قولته الخالدة: «والله يا عمّ لو وضعوا الشّمس فى يمينى ولقمر فى بسارى على أن أترك هذا الأمر ما تركته، أو أهلك دونه» ! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 413 ولكن.. ها هى ذى الأحداث تزداد شدة، والشر يشتد اشتعالا، فتأتمر قريش فيما بينها على أن تكون جبهة واحدة فى وجه النبي، ومن يقف إلى جواره من قومه.. وقد أبت العصبية العربية على بنى هاشم، وبنى عبد المطلب- رهط النبي الأدنين- أبت عليهم العصبية العربية، أن يتخلوا عن النبي، وأن يسلموه لقريش، تنال منه، وتستبد به! وكان من هذا أن عمدت قريش إلى مقاطعة بنى هاشم، وبنى عبد المطلب، وعقدت فيما بين بطونها وأفخاذها عهدا، على ألا يتعاملوا مع بنى هاشم، وبنى عبد المطلب، فلا يزوّجوهم، ولا يتزوجوا منهم. ولا يأخذوا منهم أو يعطوهم. بل إنها القطيعة التامة فى كل شىء بتواصل الناس به. وقد واجه بنو هاشم، وبنو عبد المطلب، هذه الحرب الاجتماعية والاقتصادية، بشجاعة وصبر، وإباء، وأبوا أن يعطوا الدنيّة فى هذا الامتحان، الذي تعرف فيه معادن الرجال.. فجمع أبو طالب- عميد بنى هاشم- أهله، وانحاز بهم إلى شعب أبى طالب «1» .. واستمر هذا الحصار، نحو ثلاث سنين، بلغ بهم الجهد فيها غايته، حتى سمع أصوات صبيانهم يتضاغون جوعا من وراء الشّعب! وطبيعى أن النبي الكريم، كان خلال هذه المحنة يحمل فى نفسه كل ما لقى آل عبد المطلب، وآل هاشم، من جهد ومشقة.. فكل ما كان يقع من آلام فى محيط أفرادهم، فردا فردا، وفى جماعاتهم، أسرة أسرة، كان يقع على مشاعر   (1) شعب أبى طالب: هو محلة انحاز إليها بنو هاشم مدة الحصار، فسميت بهذا الاسم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 414 النبي، ويهيج خواطر الألم والإزعاج فى نفسه. قبل أن يصل إليهم.. أضعاف ما كانوا يجدون من ألم وإزعاج! ذلك أنه- وهو النبي- يألم لآلام الناس جميعا، ويود لو حملها عنهم، أو رمى بها فى مكان سحيق.. فكيف بما يقع فى نفسه من هذا، للآلام التي يراها فى أهله وذوى قرابته القائمين على نصرته؟ ثم هو من جهة أخرى، يرى أن ما نزل بأهله من آلام وشدائد، خلال تلك المحنة، إنما كان بسببه هو، وأن ذلك الذي احتملوه من أجله، لم يكن بسبب العقيدة والدّين، وإنما كان من أجل القرابة والدم. ولو كان من أجل العقيدة والدين، لهان الأمر، ولكان على أصحاب العقيدة أن يؤدّوا ضريبة الدفاع عن عقيدتهم، لقاء الثواب العظيم الذي ينتظرهم من رب العالمين! إن الآلام النفسية والروحية، بل والجسدية، التي احتملها النبي حلال تلك المحنة التي عاش فيها أهله.. كانت من أقسى ما لقى النبي فى طريق دعوته من آلام.. إنه حمل آلام أهله كلها، وإن ذهب كل منهم بنصيبه منها.. فمن أجل النبىّ احتملوا هذه التجربة القاسية، وفى سبيل حمايته، والدفاع عنه، واجهوا هذه القطيعة المرة، واحتملوا عبء هذا الحصار المحكم الظالم. ثلاث سنين! رحلة فى العالم الأرضى: وحين بلغ الأمر من الشدة والضيق مداه فى نفس النبي، وأصبح جو مكة ثقيلا خانقا.. أراد- صلوات الله وسلامه عليه- أن يلتمس له متنفسا خارج مكة، لعله يجد أعوانا على الحق، وأنصارا للخير، يستمعون له، ويستجيبون لدعوته. كان لا بد أن يلتمس النبي لنفسه ولدعوته مجالا آخر خارج مكة، بعد أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 415 لقى هو وأهله الأدنون ما لقوا من هذا البلاء الشديد، أثناء الحصار الذي ضربته عليهم قريش نحو ثلاث سنين.. ومما ضاعف من وقع الآلام فى نفس الرسول، أن سقط فى ذلك الحين الجناحان اللذان كانا يرفّان عليه رحمة وحنانا.. ذلك أنه ما كادت تنتهى محنة الحصار، ويفسد تدبير قريش، وتنقض صحيفتها التي أبرم فيها هذا العقد الذي عقدته بينها لمقاطعة بنى هاشم، بعد أن سلّط الله عليها الأرضة فأكلتها جميعا، إلا ما ورد فيها من ذكر اسم الله عز وجل- ما كادت تنتهى هذه المحنة. حتى مات عمه أبو طالب، بعد خروجه بقومه من الشّعب بستة أشهر.. ثم لحقت به الزوجة البرّة الرحيمة السيدة خديجة، بعد موته بثلاثة أيام!! فانظر كيف ابتلى النبي الكريم هذا الابتلاء فى عمه وفى زوجه، وكيف تفرغ يده من كلّ قوة مادية على هذه الأرض كانت تقف إلى جانبه، وتشد أزره؟ ومتى كان ذلك؟ إنه كان فى أحرج مواقف الدعوة، وحين بلغ الأمر من الشدة والشقاق مداه، بين قريش، وبين النبي. إن ذلك كله من ألوان الشدائد والمحن التي مرت بالرسول خلال تلك السنوات العشر التي قضاها النبي الكريم بين قومه، يغادبهم، ويراوحهم بآيات الله وكلماته، فلا يسمع منهم إلا ما يسوء، ولا يلقى منهم إلا ما يكره- نقول إن ذلك كله كان تربية وإعدادا للجولة التالية من الدعوة، واستعدادا لاستقبال الطور الجديد من أطوارها- حيث ستشهد الأيام التالية أحداثا جساما، وتطورات خطيرة فى حياة هذا الدين الجديد. فسيلتقى النبي بوجوه كثيرة من قبائل مختلفة، وسيسمع أحاديث متباينة، وسيتلقّى أجوبة مختلفة لما يلقى على الأسماع من آيات الله، وسيهجر النبي موطنه، ويهاجر إلى موطن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 416 آخر، وأقوام آخرين غير قومه.. وستدور معارك، وتسيل دماء، ويبتلى النبي فى نفر كريم عزيز من أصحابه، يسقطون فى هذه المعارك، وسيقوم النبي على توجيه مجتمع إسلامى ضخم، بعد أن يجيئه نصر الله، ويفتح مكة، ويدخل الناس فى دين الله أفواجا! إن هذا البلاء العظيم الذي ابتلى به الرسول، هو- كما قلنا- إعداد لما سيستقبل من تلك الأحداث الكبرى، وإن هذا البلاء أشبه بعمل المحاريث والفئوس، فى شقّ الأرض، وتقليب تربتها قبل أن يلقى فيها الحبّ.. فذلك هو الذي يتيح لها الجو الصالح، لأن تعطى خير ما فيها من عناصر الإنبات، لما يلقى فيها من حبّ! نقول إنه فى هذا الجو الثقيل الخانق، الذي كان يضيق به صدر الرسول فى مكة- خرج إلى الطائف، يعرض نفسه، ويقدّم دعوته إلى «ثقيف» يلتمس منهم الاستجابة له، والنصرة لدعوته، والمنعة بهم من قومه.. وكان معه فى رحلته تلك، مولاه زيد بن حارثة! ولما انتهى الرسول الكريم إلى الطائف، عمد إلى سادة ثقيف وأشرافهم، فدعاهم إلى الله، فلم ير منهم إلا إعراضا، وسفها، وتكذيبا، واستهزاء.. وكان فيما قال له صاحب كلمتهم: «والله لا أكلمك أبدا! لئن كنت رسولا- كما تقول- لأنت أعظم خطرا من أن أردّ عليك السلام! ولئن كنت تكذب على الله. ما ينبغى لى أن أكلمك!!» إنها سفسطة أحمق، وضلالة ظلوم جهول! فقام رسول الله من عندهم، وقد يئس من خيرهم، إن كان فيهم خير، وقال لهم صلوات الله وسلامه عليه: «أما إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عنى..» إذ كره رسول الله، أن يبلغ ذلك قومه عنه، فيغربهم ذلك به، ويدفعهم إلى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 417 الانتقام منه، ومضاعفة الكيد له.. ولكن القوم لم يفعلوا، وبعثوا إلى قريش من يخبرها بما كان من أمر محمد معهم، ثم أغروا به سفهاءهم وعبيدهم، فوقفوا له سماطين (أي صفين) وجعلوا يسفهون عليه، ويرمونه بالحجارة حتى دميت قدماه، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه، حتى أصابه شجاج فى رأسه! وترك الرسول الكريم- بأبى هو وأمي- الطائف على تلك الحال، وقد امتلأت نفسه أسى وحسرة، وفاض صدره، ضيقا وحزنا! ولكن إلى أين المسير؟ وهل هناك غير مكة؟ إنه على أي حال، لا يزال يمسك منها على شىء من الأمل والرجاء، ولا يزال يطمع فى خير من أهل أو صديق فيها! وقبل أن يتخذ الرسول وجهته إلى مكة، أسند ظهره إلى شجرة نائية هناك، حتى تجتمع نفسه، وتسكن خلجاته ويخف عنه بعض ما حمل من أهل ثقيف من آلام! وفى ظل هذه الشجرة، وجّه الرسول وجهه إلى ربّه، يناجيه، ويطلب العون والمدد من رحمته، فخلق قلبه بهذا النداء الدافئ العميق، وتحركت شفتاه بهذا الدعاء الندىّ العطر، المعقود بأنفاس الأمل والرجاء فى مالك الملك، ومن بيده ملكوت السماوات والأرض.. فيقول صلوات الله وسلامه عليه: «اللهمّ.. أشكو إليك ضعف قوّتى، وقلّة حيلتى، وهو انى على الناس! «يا أرحم الراحمين. أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربى ... «إلى من تكلنى؟ إلى بعيد يتجهّمنى «1» ؟ أم إلى عدوّ ملّكته أمرى؟ «إن لم يكن بك غضب علىّ فلا أبالى..   (1) أي يتنكر بي. والمراد بالبعيد ثقيف، وبالعدو: قريش. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 418 «غير أن عافيتك أوسع لى.. «أعوذ بنور وجهك، الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحلّ علىّ غضبك، أو أن ينزل بي سخطك. «لك العتبى حتى ترضى «1» «ولا حول ولا قوّة إلا بك.. بهذه الكلمات المشحونة بالإيمان الوثيق بالله، المخلّقة بأنفاس النبوّة الطاهرة، اتجه الرسول إلى ربّه.. متضرعا، متوجعا، طالبا رضا ربّه ورحمته، فى صبر وحمد، على السّرّاء والضرّاء! مدد غير منتظر: وفى طريق الرسول الكريم من الطائف إلى مكة، نزل منزلا بمكان يسمّى «نخلة» وقضى فيه ليلته، ثم قام فى جوف الليل يصلّى، ويتهجّد بكلمات ربّه، فصرف إليه نفر من الجنّ، فاستمعوا له، وباتوا الليل معه، دون أن يشعر بهم! .. وفى الصّباح، وقبل أن يزابل النبىّ مكانه الذي بات فيه، تلقّى خبر السّماء فى قوله تعالى: «وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ..» .. (الآيات: 29- 32) من سورة الأحقاف. فكان هذا عزء كريما للرسول الكريم، ومواساة رقيقة مسّت مشاعر النبىّ، وذهبت بكثير مما خالطها من الألم والحزن، فشاع فى كيانه الرّضا والاطمئنان.. إنه ليس وحده، وإن صوت السماء متصل به، وإن جندا   (1) العتبى: ما يزيل آثار الأمر الذي استوجب العتاب أو اللوم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 419 من جنود الله- لا يراهم- يحفّون به، ويستمعون إليه، ويؤمنون به، وبالكتاب الذي أنزل عليه. ومن هذا الذي يستمع إلى كلام الله، ويستجيب لرسوله؟ إنهم جماعة من «الجنّ» .. الجنّ الذي يضرب به المثل فى الخروج على كل نظام، والتأبّى على كل نداء!. فكيف لا يكون لهذا القرآن مثل هذا الأثر فى نفوس الناس، وفى أضلّهم ضلالا، وأعتاهم عتوّا؟ ولا شك أن فى هذا قدرا كبيرا من التنفيس عن رسول الله، والتطييب لخاطره، بعد تلك التجربة القاسية التي مرّت به فى الطائف.. وإنها لزاد يتزوّد به الرسول، ويجد منه القوة على مواصلة السّير فى طريقه إلى قومه، وفى مواجهة تحدّيهم له، وعنادهم وتأبّيهم عليه!. وعلى هذا العزم، ومع تلك القوة، مضى الرسول إلى مكة!. ولا يجد الرسول قومه، على غير ما عرف منهم.. إنهم على هذا الضلال المبين، وعلى تلك العداوة له، والخلاف عليه.. وأنه إذا كان قد وجد من استماع الجنّ إليه، ما يشدّ عزمه، ويدفع به إلى مواجهة قومه فى مكة- فإنه ما زال فى حاجة إلى أمداد أخرى، تثبّت قدمه، وتشدّ عزمه، وتلقى أضواء على هذا الظلام الكثيف المنعقد فى سماء مكة، بينه وبين قومه. لقد أبلى الرسول الكريم بلاءه، فى الأرض، واستنفد كل ما يعطى ويأخذ منها ومن أهلها، فكان لا بد من عالم آخر، يتزود منه بزاد روحى، يشيع فى كيانه قوى مجدّدة، لا تنفد على كثرة ما ينفق منها فى هذا النضال المتصل بينه وبين قومه، حتى يحكم الله بينه وبينهم بالحق، وهو خير الحاكمين.. فكانت رحلة الإسراء! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 420 رحلة فى العالم العلوي: وفى الإسراء إلى العالم العلوي.. يجد الرسول من آيات ربّه، ومن دلائل قدرته، وعجائب ملكوته، ما تذوب فى عباب محيطاته كل شرور العالم الأرضى وآلامه.. فلم يكن الإسراء فى صميمه، إلا رحلة روحية لرسول الله، فى عالم النور، وإلّا استدناء له إلى مواطن الرحمة واللطف.. وإن ذلك لهو الجزاء الحسن للرسول على جهاده الصّادق، فى سبيل الله، وفى قيامه على أداء الرسالة التي أرسل إليها، واحتمل ما احتمل من أجلها.. وماذا يكون للرسول من جزاء فى هذه الدنيا، على مالقى فى سبيل الدعوة من عنت وإرهاق، وما أصابه من ضرّ وأذى فى نفسه، وأهله، وصحبه؟ إن كلّ ما فى الأرض لا يقوم ببعض هذا الجزاء.. وإن الرسول الزاهد فى كل ما فى هذه الأرض، وما عليها من مال ومتاع.. فلم يكن إلا ما فى السماء، هو الذي يناسب حال الرسول، ويليق به! وقد ذكر القرآن الكريم حادثة الإسراء فى، أول سورة الإسراء.. والذي ذكره من أمر الإسراء، أنه وقع ليلا، وأن حدوده كانت من المسجد الحرام بمكة، إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس، وقد وصف بالأقصى لبعده عن المسجد الحرام، فهو فى مكان قصىّ بالإضافة إلى المسجد الحرام. يقول ابن إسحق فى سيرته: «وكان مسراه- صلّى الله عليه وسلّم- وما ذكر منه، بلاء وتمحيصا، وأمرا من أمر الله، فى قدرته وسلطانه.. فيه عبرة لأولى الألباب، وهدى ورحمة، وثبات لمن آمن به وصدّق، وكان من أمر الله على يقين.. فأسرى به كيف شاء، ليريه من آياته ما أراد، حتى عاين ما عاين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 421 من أمره وسلطانه العظيم، وقدرته التي يصنع بها ما يريد» «1» . وقد طلع النبىّ على قريش بهذا الخبر، وأنه أسرى به فى ليلته تلك من مكة إلى بيت المقدس، فبهتوه، وكذّبوه، وأطلقوا ألسنتهم بالقول السيّء فيه.. وقال قائلهم: «هذا والله الإمر «2» ، والله إن العير لتطّرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة، وشهرا مقبلة.. أفيذهب محمد فى ليلة واحدة ويعود إلى مكة» ؟ ولم يقف الأمر عند كفّار قريش، بل تجاوزهم إلى ضعاف الإيمان، ممن أسلموا، فارتدّوا عن الإسلام، وارتابوا.. وتحدّث الروايات أن الكفار ذهبوا إلى أبى بكر- رضى الله عنه- لعلهم يجدون عنده ما وجدوا عند ضعاف الإيمان، فقالوا له: «هل لك يا أبا بكر فى صاحبك؟ يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس، وصلّى فيه، ورجع إلى مكة؟ فقال لهم أبو بكر: أنتم تكذبون عليه؟ فقالوا: ها هو ذا فى المسجد يحدّث به الناس! فقال أبو بكر: «لئن كان قاله لقد صدق! فما يعجبكم من ذلك؟ فو الله إنه ليخبرنى أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض فى ساعة من ليل أو نهار، فأصدقه.. فهذا أبعد مما تعجبون منه «3» » . ونحن نشكّ فى هذه الرواية.. فما كان أبو بكر بالذي يخفى عليه شىء من أمر النبىّ، حتى يعلمه كفار قريش قبل أن يعلمه، وما كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه يحدث بهذا الخبر العجيب قبل أن يلقى به أبا بكر، وهو الذي كان أشبه بظلّ رسول الله، لا يفارقه أبدا!   (1) السيرة لابن هشام: جزء 2 ص 2. (2) الإمر بالكسر- الأمر العظيم فى شناعته: «لقد جئت شيئا إمرا» (3) زاد المعاد جزء 2 والسيرة لابن هشام جزء 2 ص 4. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 422 ونعود إلى «الإسراء» فنقول- كما قلنا من قبل- إنه كان شأنا خاصّا بالنبيّ، ورحلة روحيّة فى الملأ الأعلى، أرادها الله سبحانه وتعالى له، ليشرح بها صدره، وينعش بها روحه، ويذهب بها ما ألمّ به من ضيق وحزن، بموت عمّه، وزوجه، وبتألّب قريش عليه، وعلى آله، وبما لقى من أهل الطائف من لقاء بارد ثقيل، وردّ سمج قبيح. وفى حدود هذا المعنى ينبغى أن نقيم نظرتنا إلى الإسراء.. فهو بهذا المعنى، ليس معجزة للتحدّى، تقف من الناس موقف التعجيز لهم، والتحدّى بالإتيان بمثلها، وإنما هى إخبار بأمر شهده الرسول وحده.. فإذا حدّث به كان حديثه الصدق كلّه، لا ينبغى لمن آمن بأنه نبىّ أن يكذّبه، أو يشك فى شىء مما يقول.. إنه أمين السّماء.. لا يكذب أبدا.. هذا مبدأ يجب أن يسلم به كل من يدخل فى هذا الدين، ويؤمن بالله ورسوله.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» (7: الحشر) . إن حديث الإسراء اختبار عملىّ لإيمان المؤمنين.. فمن آمن بالله، لا يكون إيمانه إيمانا حقّا، حتى يؤمن برسوله، ولا يكون مؤمنا برسوله حتى يصدّق كل قول يقوله، ويسلّم به، قبل أن ينظر فيه، أو يعرضه على عقله.. وإن كان ذلك لا يمنعه من أن ينظر بعد هذا فى قول الرسول، وأن يعرضه على عقله فذاك نظر غايته الفهم والإدراك لمرامى قول الرسول والعمل به.. فهذه آيات الله التي كانت تنزل على الرسول الكريم، إنها لم يقم عليها شاهد بأنها كلام الله، إلّا إيمان المؤمنين به، بأنه رسول من عند الله، وإن كان فى آيات الله ذاتها ما يحدث عن إعجازها، وأنها ليست من قول بشر.. ولكن هذا لا يعرف إلا بعد نظر فى وجه آيات القرآن، واستعراض ما فيها من قوى الحق، وشواهد الإعجاز! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 423 هذا ما ينبغى أن نقف عنده من حديث الإسراء، فإذا كان لنا أن نمدّ النظر إلى ماوراء هذا، فهو ما جاء من ذكر المسجد الأقصى، وجعله معلما من معالم الإسلام، يناظر المسجد الحرام.. وفى هذا، ما يصل مشاعر المسلمين بهذين المسجدين، ويجعلهما معا آيتين من آيات الله فى الأرض، يستظلّ المسلمون بظلهما، ويقومون على عمارتهما وتأمين السّبل إليهما.. وهذا لا يكون إلا إذا كان هذان المسجدان داخل دار الإسلام، وتحت يد المسلمين، الأمر الذي يكشف عن وجه من وجوه إعجاز القرآن، فى إخباره بالغيب، الذي لم يكن يقع لنظر أحد من المسلمين يومذاك، أو يدور فى خواطرهم.. وقد مكّن الله للمسلمين من المسجد الأقصى، ودخل هو وما حوله فى دار الإسلام، منذ خلافة عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى اليوم، وإلى ما بعد اليوم، وإلى يوم الدين.. وإنه على رغم ما بذل أعداء الإسلام من جهود فى إخراج هذا البيت من يد المسلمين- فإنه لا يلبث أن يعود إليهم، كما يعود إليهم، كما يعود المسافر إلى أهله، بعد رحلة، قد تطول وقد تقصر! ونحن نكتب هذا، فى سنة ألف وثلاثمائة وتسع وثمانين من الهجرة (1969 من الميلاد) وبيت المقدس فى يد اليهود، منذ عامين تقريبا، اليهود الذين عملوا لذلك من قبل ظهور الإسلام يوم كانوا خاضعين لحكم الرومان، ثم عملوا له بعد الإسلام، فأشعلوا الفتن، وأقاموا الحروب، وأغروا النصارى بالمسلمين، حتى وقع الشر بينهم فى تلك الحروب التي اتصلت نحو قرنين، والتي عرفت بالحروب الصليبية.. - كل هذا ليجد اليهود فرصتهم إلى هذا البيت الحرام، وها هم أولاء قد وجدوها اليوم، مستعينين بأموالهم، وسلطانهم على أمريكا، التي ساندتهم، ووقفت وراءهم، وأمدتهم بالعتاد والرجال والأموال.. ولا ندرى السبيل الذي نستردّ به هذا البيت.. أهو بالحرب أم بالسلم، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 424 ولكن الذي ندريه ونستيقنه، هو أن هذا البيت لا بد أن يعود للمسلمين، وأن يدخل فى دولة الإسلام، وأن غربته فى يد اليهود ستنتهى حتما، ويعود الغريب إلى أهله.. إن شاء الله.. هذا عن الإسراء.. أما المعراج، فإن حديثه يطول.. ولكنّا سنكتفى بلمحات نشير بها إليه، لنكشف عن تلك المقولات التي قيلت فيه.. بلا حساب، ولا تقدير، حتى اشتبه فيه الحق بالباطل، وغلب فيه الخيال على الواقع. قصّة المعراج: والمراد بالمعراج، هو عروج النبي- صلوات الله وسلامه عليه- أي صعوده إلى السماء، من بيت المقدس بعد أن أسرى به إليه.. والآيات التي يستند إليها الذين يصورون حديث المعراج هى ما جاء فى أول سورة النجم فى قوله تعالى: «وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى» . وهذه الآيات محتملة لكثير من التأويلات، بحيث لا يرى فيها المعراج إلّا بعد جهد، وطول نظر، ومن خلال ثقب ضيق جدّا.. وذلك ليكون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 425 المعراج فى حدود هذا الإطار، الذي يومأ فيه إليه إيماء، ولا يتحدّث عما احتواه من أسرار وعجائب، لم يطلع عليها إلا الرسول وحده، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر..! وقد رويت عن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- أحاديث عن المعراج، تحدّث بها إلى بعض أصحابه، فى بعض ما رأى من آيات ربّه، ولم تكن هذه الأحاديث إلا إشارات أشار بها الرسول الكريم إلى بعض ما رأى من ملكوت الله، مما تنشرح به صدور المؤمنين، ويزداد به إيمانهم نورا ويقينا! وليس فى هذه الأحاديث- إن صحت- ما يتصل بالعقيدة، أو يضاف إلى الشريعة. ولكن الذي يقرأ القصص التي صورت فيها رحلة المعراج، يجد فيها كثيرا من الدّسّ، والكذب، والتلفيق! ولليهود هنا، فى هذه القصة، دور كبير فى دسّ الأخبار، وتلفيق الأحاديث، حيث المجال فسيح، يتسع لكل قول يقال فى هذا العالم العلوى، وفى المشاهد التي يمكن أن يشهدها من يصل إلى هذا العالم ويطوّف به.. وأبرز ما نراه من دسّ اليهود هنا، هو ما يروى فى حديث المعراج، من اللقاء الذي كان بين النبي وبين موسى- عليهما الصلاة والسلام- وأن موسى سأل النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- عما افترض الله على أمّته من الصلاة، فلما قال النبىّ لموسى: إنها خمسون صلاة افترضها الله سبحانة وتعالى على المسلمين فى اليوم والليلة، قال له موسى: ارجع إلى ربّك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق ذلك» .. ثم تقول الرواية: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، رجع إلى المولى سبحانه وتعالى، وسأله التخفيف فاستجاب له ربّه فجعلها أربعين، فلما عاد النبىّ إلى موسى وأخبره بما خفف الله سبحانه وتعالى من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 426 الخمسين إلى الأربعين- قال موسى: ارجع إلى ربّك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق ذلك.. ثم تمضى الرواية فنقول: إن النبىّ ما زال يراجع ربه، فيخفف عنه، ثم يعود إلى موسى فيطلب منه أن يسأل زيادة فى التخفيف.. فكانت ثلاثين، ثم عشرين، ثم عشرة.. ثم خمسة.. وعندها قال النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- لموسى: «لقد استحيت من ربى» ..!! وبهذا أصبحت فريضة الصلاة خمسا فى العمل وخمسين فى الأجر!!. هذه الرواية تشير إلى أمور.. منها: أولا: أن تجعل لموسى عليه السلام، ما يشبه الوصاية على النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- وهذا من شأنه أن يجعل لليهود منزلة على المسلمين أشبه بهذه المنزلة.. هذا، إذا جعلنا فى اعتبارنا أن هذا الخبر المدسوس، إنما يحدّث به المسلمون، دون أن يرى أحد أن لليهود شأنا فيه، إذ كانوا ينكرون نبوّة النبىّ أصلا، فكيف يعترفون بعروجه إلى السماء! وهذا ما يجعل لهذا الحديث، هذا الأثر الذي أشرنا إليه! وثانيا: ما وجه الحكمة فى أن يكون من تدبير الله سبحانه وتعالى أن تجىء فريضة الصلاة على هذا الأسلوب الذي يشبه أسلوب المناقصات!! والذي يبدأ بخمسين صلاة، ثم ينتهى بخمس صلوات؟ وما الحكمة فى أن يغدو النبىّ الكريم، ويروح بين موسى وربّه كل هذه الغدوات والروحات؟ ألا غدوة وروحة واحدة تكفى إن كان لا بد من هذا؟. إن ذكاء واضع هذه الرواية قد أبى عليه إلّا أن يجيب عن هذه التساؤلات، وأن يكشف عن وجه الحكمة فى هذا، فيجعل من تمام الرواية: «أنها خمس فى العمل وخمسون فى الأجر» !! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 427 وهذا الذي جعله واضع الرواية وجها داعيا إلى قبولها، هو فى الواقع الوجه الذي يكشف عن ردّها.. إذ ليست الصلاة وحدها هى التي تختص بهذه المزية فى اعتبار الصلاة بعشر صلوات، بل إن كل الأعمال الطيبة توزن عند الله سبحانه وتعالى بهذا الميزان، كما يقول سبحانه وتعالى: «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها» . هذا، وقد فصّل القاضي «عياض» فى كتابه «الشفا» ، مذاهب القول فى الإسراء والمعراج.. وهل كان مع الإسراء معراج؟ وهل كان الإسراء بالروح وحده؟ أو بالروح والجسد معا؟ يقول القاضي عياض: «اختلف السلف والعلماء: هل كان إسراؤه- عليه الصلاة والسلام- بروحه أو جسده.. على ثلاث مقالات: 1- فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح، وأنه رؤيا منام، مع اتفاقهم على أن رؤيا الأنبياء حق، ووحي.. وإلى هذا ذهب معاوية، وحكى عن الحسن (البصري) - والمشهور عنه خلافه- وإليه أشار محمد بن إسحاق.. وحجتهم قوله تعالى: «وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ» وما حكوه عن عائشة رضى الله عنها من قولها: «ما فقد جسد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» . 2- «وذهب معظم السلف والمسلمين إلى أنه إسراء بالجسد، وفى اليقظة.. وهذا هو الحق. وهو قول ابن عباس، وجابر، وأنس، وحذيفة، وعمر، وأبى هريرة، ومالك بن صعصعة، وأبى حية البدري، وابن مسعود، والضحاك، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن المسيب، وابن شهاب، وابن زيد، والحسن، وإبراهيم، ومسروق، ومجاهد، وعكرمة، وابن جريج.. وهو قول الطبري، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 428 وابن حنبل، وجماعة عظيمة من المسلمين.. وهو قول أكثر المتأخرين من الفقهاء والمحدّثين، والمتكلمين، والمفسرين. 3- وقالت طائفة: كان الإسراء بالجسد يقظة، إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح، واحتجوا بقوله تعالى: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» فجعل المسجد الأقصى غاية الإسراء، الذي وقع التعجب فيه بعظيم القدرة، والتمدح بتشريف النبي صلّى الله عليه وسلّم به، وإظهار الكرامة له بالإسراء إليه.. قال هؤلاء: «ولو كان الإسراء بجسده إلى زائد عن المسجد الأقصى، لذكره، فيكون أبلغ فى المدح.» وبعد أن انتهى القاضي عياض من عرض هذه الآراء، عرض رأيه هو، فرجح جانب القول بأن الإسراء كان بالروح والجسد معا.. فقال: «والحق من هذا، والصحيح إن شاء الله، أنه إسراء بالروح والجسد فى القصة كلها- أي الإسراء والمعراج- وعليه تدل الآية وصحيح الأخبار ... ثم يقول: «وليس فى الإسراء بجسده وحال يقظته استحالة، إذ لو كان مناما لقال: «بروح عبده» ولم يقل «بعبده» وقوله تعالى: «ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى» .. ولو كان مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة، ولا استبعده الكفار، ولا كذبوه فيه، ولا ارتدّ به ضعفاء من أسلم، وافتتنوا به.. إذ مثل هذه المنامات لا ينكر.. بل لم يكن ذلك الإنكار منهم إلا وقد علموا أن خبره إنما كان عن جسمه، وحال يقظته.» وممن قال بأن الإسراء كان بالجسد والروح معا.. البيضاوي فى تفسيره، وقد أراد أن يخرج هذا الرأى على أسلوب البحث العلمي، وأنه من الممكنات التي لا ينكرها العلم.. يقول البيضاوي: «والأكثر- أي من آراء العلماء- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 429 أنه أسرى بجسده إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السموات، حتى انتهى إلى سدرة المنتهى، ولذلك تعجّب قريش واستحالوه.» ثم يقول: «والاستحالة مدفوعة بما ثبت فى الهندسة أن ما بين طرفى قرص الشمس ضعف ما بين طرفى كرة الأرض مائة ونيفا وستين مرة، ثم إن طرفها- الشمس- الأسفل يصل موضع طرفها الأعلى فى أقل من ثانية!! وقد برهن فى الكلام أن الأجسام متساوية فى قبول الأعراض، وأن الله سبحانه قادر على كل الممكنات، فيقدر أن يخلق مثل هذه الحركة السريعة فى بدن النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو فيما يحمله، والتعجب من لوازم المعجزات.» والذي نقف عنده من كلام البيضاوي هنا قوله: «وقد برهن فى الكلام أن الأجسام متساوية فى قبول الأعراض» .. وهذا يعنى أن الأجسام جميعها ترجع إلى أصل واحد، وأن هذا الأصل قابل لجميع الأعراض التي تقبلها الأجسام، بمعنى أن المادة التي شكل منها كائن ما، قابلة لأن يشكل منها كائن آخر مخالف له، مع اختلاف فى نسب الأجزاء التي يتكون منها الكائن وفى أوضاع هذه الأجزاء، بل إن ذلك نفسه واقع فى أجزاء الكائن الواحد.. فالعين مثلا هى من نفس المادة التي تخلّق منها الأنف، أو الكبد أو القلب، أو الشعر.. فكلها جميعا ترجع إلى ما عرف اليوم باسم «الذرّة» أو ما كان يعرف قديما بالجوهر الفرد.. فمن كتل الذرات تتكون الأجسام، ومن الاختلاف فى بناء الذرات، وترتيب أوضاعها، تظهر الأجسام فى صورها وأشكالها.. وهذا ما فهمه البيضاوي وقرّره فى قوله: «إن الأجسام متساوية فى قبول الأعراض» يعنى أنه من الممكن أن يتحلل جسم الإنسان- مثلا- إلى ذرات فيصبح كائنا لطيفا غير مرئى، ثم يعاد تركيبه إلى وضعه الأصلى، فيكون جسدا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 430 كثيفا كما كان.. كل ذلك فى لحظة خاطفة كلمح البصر أو هو أقرب، دون أن يخرج الجسد عن سلطان «الروح» فى حالى تحليله أو تركيبه..! وذلك هو الإعجاز أو المعجزة التي تظهر من انتقال النبي الكريم بجسده الشريف إلى المسجد الأقصى، أو العروج به إلى السماء فى طرفة عين! ونعود بعد هذا، فنقول: إن الخلاف فى أن الإسراء والمعراج، كان بالجسد، وبالروح، خلاف لا يؤثر فى حقيقة الإسراء، وما نال الرسول الكريم فيه من ألطاف ربه، وما رأى من آياته.. وإن قدرة الله سبحانه وتعالى لا تتقيد بتلك القيود التي تحكمها الضرورات البشرية، وخير من هذا الخلاف الذي يذهب بجلال الإسراء، ويعبث بالستر الخفىّ الملقى عليه من عالم الروح- خير من هذا أن ننظر إلى الرسول الكريم فى موكب جلاله وعظمته، تحفّ به ألطاف ربه، وتحدوه رعايته، إلى حيث يسبح فى عالم الحق، ويطعم بروحه من طيبات الملأ الأعلى.. أما أن نجسّد العالم العلوىّ، ونحيله إلى أشياء من عالم التراب الذي نعيش فيه، فذلك مما يهوّن من خطر الإسراء والمعراج، ويزرى بقدرهما، ويبخس من قيمتهما.. إن الذي يطالع قصة الإسراء والمعراج، على تلك الصورة أو الصور المجسدة التي تعرضها كتب السيرة، والتفسير، ليموت فى نفسه كثير من تلك المشاعر الروحية، التي كان خليقا أن يثيرها فيه حديث الإسراء والمعراج، لو أزيح من طريقه هذا الركام الكثير من العوائق والسدود.. ولا تنخدع لتلك الأصباغ الساذجة التي يلطخ بها القصاص وجه الحقائق المادية، ليحعلوا لها بتلك الأصباغ وجها تدخل به إلى العالم العلوىّ.. فإن هذا «المكياج» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 431 المصطنع يجعل منها مسخا أكثر منها حقيقة.. فالبراق مثلا.. الذي يأخذ فى حديث «الإسراء» لونا بارزا صارخا- والذي يهيأ للرسول ليتخذ منه مطية إلى العالم العلوي- هذا البراق ليس إلا «أتانا» ركب عليه جناحان من ريش، فصار أشبه بلعبة من لعب الأطفال التي يؤلفونها من حطام بعض لعبهم التي انتهى دورها معهم..! ثم هذا الحجر الذي يشدّ إليه الأنبياء دوابهم عند المسجد الأقصى، وتلك الحلقات المغروسة فى هذا الحجر لتمسك المقاود واللّجم- إنها جميعها لتمسك بالمعاني الكريمة العالية التي كان يجدها المرء فى نفسه لو أزاح هذا الحجر من طريقها، وانزاحت معه اللّجم والمقاود والسروج وغيرها، مما يكون فى مرابط الحيوان! وعلى أىّ فإن الإسراء، على أية صورة وقع، لم يكن فيه ما يخرج النبىّ الكريم عن بشريّته، ويباعد ما بينه وبين الإنسان الذي هو «محمد» .. فقد عاد الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- بعد الإسراء، ولقى قومه مؤمنين، وكافرين، فلم ينكر أحد من أمره شيئا مما كان يعهد فيه.. حتى إن أعداءه أنفسهم لم يجدوا عليه أمارة من أمارات هذه الرحلة المباركة.. فإن خيرها كلّه كان مخبوءا فى كيانه، منطويا فى صدره، ساريا فى روحه.. إنه شأن من شأن الله مع نبيّه، وزاد روحىّ زوّده به ربّه، تكريما له، وترويحا عن كيانه المجهد المكدود. وحديث المسلمين عن الإسراء، ينبغى أن يكون حمدا لله، وتنزيها له، وثناء عليه، أن أنزل نبيّهم هذا المنزل الكريم، ورفعه إلى هذا المقام العظيم، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 432 وأفاض عليه ما أفاض من ألطافه ومننه.. وهذا ما يدعونا إليه الله سبحانه وتعالى فى قوله جل شأنه: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» أي فسبّحوا الله واحمدوا له، أن أسرى بعبده محمدا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وأن أراه من آياته وأسبغ عليه من آلائه، ما هو أهل له عند ربّه «ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» . الآيتان: (2- 3) [سورة الإسراء (17) : الآيات 2 الى 3] وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3) التفسير: مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما، هى أنه لما كانت الآية السابقة التي افتتحت بها السورة، قد ذكرت تلك النعمة العظمى التي أنعم الله سبحانه وتعالى بها على النبىّ، إذ أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فى تلك الرحلة العجيبة، التي رأى فيها ما رأى من آيات ربّه- فناسب ذلك أن يجىء ذكر النعم التي أنعم الله بها على عباده.. ولما كان أجلّ تلك النعم وأعظمها إرسال الرسل إلى الناس، يحملون إليهم هدى الله، ويدعونهم إلى الخروج من الظلمات إلى النور، ولما كانت التوراة التي نزلت على موسى، هى الشريعة القائمة عند أهل الكتاب المعاصرين للنبوّة- من يهود ونصارى- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 433 فقد كان ذكر موسى.. والكتاب الذي أنزل عليه، أقرب وأولى ما يذكر فى هذا المقام.. ولهذا جاء قوله تعالى: «وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا» . فهذه الآية معطوفة على ما قبلها. والتقدير: سبّحوا- أيها الناس- ربّكم الذي أسرى بعبده محمد ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والذي آبى موسى الكتاب وجعله هدى لبنى إسرائيل، فوجب عليهم أن يشكروا الله، وأن يأخذوا حظهم من هذا الهدى الذي جاءهم به رسول الله، وألا يتخذوا من دون الله وكيلا يتعاملون معه، ويسندون إليه أمورهم، ويجعلون عليه معتمدهم! .. [الحقيقة المحمّدية.. وما يقال فيها] ونلمح فى هذا العطف سرّا لطيفا، تشّع منه دلالات تشير إلى مقام النبي الكريم، ومنزلته عند ربّه، وأنه صلّى الله عليه وسلّم، هو هدى فى ذاته وشخصه، يقابل الهدى الذي حملته التوراة إلى بنى إسرائيل! فالرسول- صلوات الله وسلامه عليه- بما رأى من آيات ربّه الكبرى فى إسرائه ومعراجه، وما حمل فى كيانه من معالم الحق فى هذه الليلة المباركة- قد أصبح هو فى ذاته كتابا من كتب الله، ورسالة من رسالاته، يجد فيها أولوا البصائر للشرقة، وأصحاب القلوب السليمة، ما يجد المؤمنون بالله، فى آياته وكلماته من هدى ونور.. وهذا ما يحدّث به الحديث الشريف: «أنا رحمة مهداة» .. فالنبىّ الكريم فى ذاته، هو رحمة، بما نطق به من كلماته، وبما استملى الناس من سيرته، وبما اقتبسوا من أدبه وعلمه وحكمته.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 434 وإنّا لنجد مصداق هذا، فى هذا المجتمع الإسلامى الأول الذي أقامه الرسول الكريم، واستنبته من جدب الصحراء وقفرها، وأطلعه من غياهب ظلامها، وضلالها.. وذلك بما حمل إلى الناس من كلمات الله، وبما أراهم من آثار كلمات الله فيه، وتربيته له سبحانه وتعالى على منهجها، فكان إنسانا يقرأ الناس فى سيرته- قولا وعملا- منطوق كلمات الله ومفهومها، كما تحدّث السيدة عائشة رضى الله عنها، فتصف خلقه عليه الصلاة والسلام بقولها: «كان خلقه القرآن» . فما أعظمه من إنسان! وما أكرمه من رسول! وما أعلى مقامه فى العالمين! وأحبّ هنا أن أقف وقفة قصيرة مع تلك المقولة التي تقال وتذاع بين المسلمين، فيما يعرف عند أصحابها «بالحقيقة المحمدية» . فالذين يستمعون من المسلمين إلى هذا العنوان: «الحقيقة المحمدية» وما يجىء وراء هذا العنوان من حديث عن هذه الحقيقة، قد يجدون فى صدورهم حرجا من أن يدفعوا عن هذه الحقيقة تلك الدعاوى التي يدّعيها عليها القائلون بها، والتي يصوّرون فيها النبىّ الكريم هذا التصوير العجيب، الذي يقطعه عن العالم البشرى، بما يضيفون إليه من صفات وأعمال، لا تقتضيها طبيعة البشر، ولا تثقل بها موازينه فى المصطفين من عباد الله.! إنها مقولات كثيرة مغرقة فى الخيال، تضفى على ذات النبىّ أثوابا فضفاضة- بل مهلهلة- من نسيج الوهم، ومن واردات الخرافة، يحسب بها أصحابها- عن إيمان، أو عن كيد- أنّهم إنما يمجّدون النبىّ، ويفردونه وحده بتلك المنزلة التي تتقطع دونها الأوهام والظنون! ومن هنا، كان خطر هذه المقولات وأثرها داهما مزلزلا، فى المجتمع الإسلامى، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 435 إذ هى مقولات- كما قلنا- يجد كثير من المسلمين حرجا فى دفعها، والوقوف لها.. لأنها كلّها- كما تبدو فى ظاهرها- تمجيد فى مقام النبىّ، وإعلاء لقدره، وإنه لأحبّ شىء عند المؤمن أن يمجّد مقام النبىّ، وأن يعلى قدره! وإنه لا حرج فى هذا المقام من المبالغة والغلوّ.. فذلك خير، والمبالغة فى الخير خير!! هكذا يلقى كثير من المسلمين تلك المقولات التي تقال فى «الحقيقة المحمدية» .. حيث يستقبلها المسلم بمشاعره، فيجد فيها ريحا طيبة، تحدّث عن مقام النبوة، وكمالها، فتتخدّر لذلك مشاعره، وتغيب مدركاته، وإذا هو مهيأ لقبول كل ما يقال فى هذا المقام.. فإذا صحا بعد هذا، وجد كلمات كثيرة قد علقت بصدره، ودارت فى كيانه، تحدّث عن النبىّ بأنه النّور الذي خلق منه هذا الوجود، وأنه الرّوح العظمى التي سرت فى هذه الكائنات.. وأنه لولاه- صلّى الله عليه وسلّم- ما خلق الله هذا الوجود، ولما كانت أرض ولا سماء، ولا شمس ولا قمر، ولا كواكب ولا نجوم، ولا ملائكة ولا لوح ولا قلم! إلى غير ذلك من المقولات التي تقال فى «الحقيقة المحمدية» ! مما لا مستند له من كتاب، أو سنّة، أو عقل.. فالقرآن الكريم، يقرر فى مواضع كثيرة منه أن «محمدا» بشر من رأسه إلى أخمص قدمه.. فيقول سبحانه وتعالى، آمرا نبيّه الكريم أن يعلن الناس به: «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» (110: الكهف) ويقول سبحانه: «قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ» (9: الأحقاف) . فهو- صلوات الله وسلامه عليه- فى الناس، واحد من النّاس.. وهو- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 436 صلوات الله وسلامه عليه- فى الرسل، واحد من الرسل، ليس بدعا من بينهم! فماذا يقول القرآن أصرح من هذا القول، فى تحديد صفة النبىّ، وأنه بشر لم تتخلّ عنه بشريته، ولم يخرج هو عن بشريته بحال أبدا؟ ثم ماذا يقول النبىّ عن نفسه أكثر وأوضح من هذا القول الذي أمره به ربّه أن يقوله، حتى يدفع عن نفسه ما ليس له، مما يقوله عليه من يقولون من المغالين فيه، هذا الغلوّ، الذي هو وقول المتطاولين على مقامه- سفاهة وجهلا- والمتنقّصين لقدره- افتراء وكذبا على سواء؟ بل وماذا يقول النبىّ أكثر وأصرح من قوله: «أنا عبد آكل كما يأكل العبد» - حتى يمسك هؤلاء المغالون فيه على طريق قاصد مستقيم فى شأنه؟ يتكىء القائلون بالحقيقة المحمدية، وبالصفات التي يوردونها عليها- يتكئون على حديث يروى عن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، هو قوله: «كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين، وكنت نبيّا ولا آدم ولا الطين» .. ويتخذون من هذا منطلقا ينطلقون به إلى اصطياد كل واردة وشاردة.. فلقد فتح عليهم هذا القول الذي يفهم منه أن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم كان نبيّا قبل أن يخلق آدم- نقول فتح عليهم هذا القول بابا بل أبوابا يلجون منها إلى اصطياد المقولات التي تتخذ من هذا المفهوم منطلقا إلى كل قريب وبعيد، وإلى كل معقول وغير معقول، حتى لقد اجتمع للقوم من هذا، ما تسمع من تلك المقولات التي لا تنتهى، ولا ينتهى حديث أصحابها عنها! ولا نعرض لصحة هذا الحديث، ولا لمكانه من القوة أو الضعف.. بل نأخذه مسلّمين به، قائلين بصحته.. سندا، ومتنا! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 437 فماذا فى هذا الحديث؟ بل ماذا وراءه مما يسر أو يعلن من الحقيقة المحمدية؟ ولكن قبل أن نجيب على هذا، نسأل القائلين بالحقيقة المحمدية عن معنى منطوق الحديث: «كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين.. وكنت نبيا ولا آدم ولا الطين! ..» أين كان «محمد» صلوات الله وسلامه عليه قبل آدم؟ يقولون فيما يقولون: إنه كان درة أو ياقوتة فى العرش! ونقول لهم بما يقوله الله سبحانه وتعالى فى المشركين الذين جعلوا الملائكة إناثا: «أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ.. وَيُسْئَلُونَ» (19: الزخرف) أفشهد هؤلاء القائلون بتلك المقولة- أشهدوا خلق محمد؟ ثم نسأل، هؤلاء القائلين بالحقيقة المحمدية: أين كان «محمد» قبل أن يولد لأبويه: عبد الله بن عبد المطلب، وآمنة بنت وهب؟» يقولون إنه ما زال منذ آدم يتنقل من الأصلاب الزاكية إلى الأرحام الطاهرة إلى أن ولد! ونقول: إنّ كل إنسان تنقّل منذ آدم من الأصلاب، إلى الأرحام، حتى انتقل من صلب أبيه إلى رحم أمّه.. فماذا فى هذا؟ والحديث الذي يقول: «كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين ... » إن صحّ- فإنه لا يخرج عن هذا المعنى، الذي فهمناه عليه. إذ تنقّل ويتنقل الناس جميعا فى أصلاب الآباء، وأرحام الأمهات! فالحديث- إن صحّ- يشير بهذا إلى تلك الحقيقة التي يؤمن بها المؤمنون بالله، وهى أن علم الله سبحانه وتعالى، قد وسع كل شىء، وأن هذه الموجودات كلها، فى ملكوت السموات والأرض، هى فى علم الله سبحانه وتعالى، وأنها فى كتاب مكنون، كما يقول سبحانه جلّ شأنه: «وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 438 إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» (75: النمل) وكما يقول تبارك وتعالى: «ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها.. إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» (22: الحديد) . فالذى يفهم من هذا الحديث- إن صحّ- أنه يحدّث عن علم الله سبحانه وتعالى، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان فى علم الله نبيا قبل أن يخلق آدم، ويتحقق له وجود على هذه الأرض.. وليس هذا شأن النبي وحده، بل هو شأن كل مخلوق، إذ كان فى علم الله على تلك الصفة التي جاء، أو يجىء عليها، قبل أن يخلق آدم، بل وقبل أن يخلق أي مخلوق فى السموات والأرض.. إذ قبل الخلق، كان العلم، وفى مستودعات هذا العلم كانت المخلوقات جميعها، قبل أن تخلق وتبرز من عالم الغيب إلى عالم الشهادة. وعلى هذا، فلك أن تقول كنت جالسا على هذا الكرسي الذي أجلس عليه، أو نائما فى هذا المكان الذي أنام فيه، أو آكلا من هذا الطعام الذي آكل منه. إلى غير ذلك مما أنت فيه من شئونك وأحوالك- لك أن تقول: «كنت على هذه الحال، أو على هذا الشأن، وآدم بين الماء والطين، وكنت على تلك الحال وهذه الشأن ولا آدم ولا الطين..» !! وبعد، فإن الحقيقة المحمدية ليست هى تلك الصورة المشوهة المضطربة التي تتراقص فى عالم الخيالات والأوهام، والتي تسبح فى سموات من الدخان والضباب.. وإنما هى تلك الحقيقة التي عاشت فى هذه الدنيا، فكانت نورا هاديا، وسراجا منيرا، يجلّى غياهب الظلمات، ويكشف للناس الطريق إلى الله، وإلى الحق، والخير.. ذلك هو محمد رسول الله، كما ينبغى أن يراه المسلم، وذلك هو «محمد» رسول الله، كما وصفه ربه جلّ وعلا: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 439 إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً» (45- 46: الأحزاب) . ثم لينظر أولئك الذين يتحدثون عن «الحقيقة المحمدية» هذا الحديث الأسطورىّ.. فهل يجدون للنبىّ فى دخان هذا الحديث، وجودا؟ وهل يحققون له ذاتا؟ إنهم قد يقولون: إنا نراه بعيون غير عيونكم، وبقلوب غير قلوبكم، وبمشاعر وأحاسيس غير مشاعركم وأحاسيسكم!! ونقول لهم: إننا لسنا من عالم الملائكة، ولا من عالم الشياطين.. إننا بشر مثلكم نعيش على هذه الأرض.. ننظر بعيون بشرية، ونتعامل بقلوب إنسانية، ونعيش بمشاعر وأحاسيس آدمية! وبهذا الكيان البشرى نرى محمدا، ونتعامل معه، ونوليه قدره من الحب والاحترام والإجلال، ونتخذه إمامنا وقدوتنا، ونصلّى عليه، ونطلب له المزيد من الدرجات العلا عند ربه..! «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» (110: الكهف) إننا لم نلتق بمحمد إلا على أنه إنسان، نعرفه، ونعرف أصوله وفروعه، وقد عاش بيننا أربعين سنة من عمره لم يكن فيه ولا له إلّا ما فى الناس، وإلا لما للناس، حتى إذا شرّفه الله سبحانه وتعالى بالرسالة، أصبح بهذا التشريف رسولا من رب العالمين، شأن رسل الله جميعا.. وهذه الرسالة لم تغير من بشريته شيئا، ولو كان شىء من ذلك لما أنكرت عليه قريش أن يكون بشرا ثم يكون رسولا.. وفى هذا يقول الله على لسانهم، هذا القول الذي ينكرون فيه على الرسول رسالته: «أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا؟» . (94: الإسراء) فصلوات الله وسلامه عليك يا رسول الله، رسولا من أنفسنا، ورحمة وهدى للعالمين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 440 قوله تعالى: «ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً» . الذرية: أي النسل، الذي تناسل من نوح وأبنائه، وهى فعلية، من الذّرء، وهو الخلق.. وأصلها: ذرئية. أي أن بنى إسرائيل هؤلاء، هم من أبناء وذرارى البقية الباقية من قوم نوح، الذين آمنوا معه، وحملوا فى السفينة، ونجوا من الغرق.. وفى وصف بنى إسرائيل بهذه الصفة إلفات لهم إلى أنهم من ذرية قوم مؤمنين، نجّاهم الله بإيمانهم من الغرق الذي حلّ بإخوانهم الكافرين.. وإذن، فخروج بنى إسرائيل من الإيمان الذي كان عليه آباؤهم الأولون، وعودتهم إلى الكفر الذي كان عليه إخوان آبائهم هؤلاء- هو تضييع لهذا الميراث الكريم الذي تركه لهم آباؤهم، ثم هو عدوان على الله، وتعرّض لنقمته، كما انتقم من عمومتهم، فأغرقهم واجتثّ أصولهم. وقد نصب «ذرية» على الاختصاص، وقيل نصب بالنداء، أي يا ذرية من حمل الله سبحانه، مع نوح.. - وفى قوله تعالى: «إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً» تحريض لبنى إسرائيل على أن يلحقوا بنوح، ويتأسّوا به، ويشكروا الله أن بعث فيهم رسولا، وأنزل معه كتابا يهديهم ويبين لهم طريق الحق! الآيات: (4- 7) [سورة الإسراء (17) : الآيات 4 الى 7] وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 441 التفسير: قضينا: أي أوجبنا، وقدّرنا، وحكمنا.. فهذا هو ما حكم الله سبحانه به، على بنى إسرائيل، وقضاه عليهم.. [بنو إسرائيل.. ووعد الآخرة] فقد حكم الله سبحانه وتعالى عليهم: أن يفسدوا فى الأرض مرتين [وهو قضاء لا مردّ له] ولهذا جاء الفعل مؤكدا: «لتفسدنّ» .. فكأنه أمر لهم بأن يفسدوا- وذلك لأنهم واقعون تحت هذا القضاء الذي لا يردّ، حتى لكأنهم مأمورون به! وهذا من ابتلاء الله لهم، وغضبه عليهم، لما سبق فى علمه- جل شأنه- من أنهم لن يستقيموا على هدى، ولن يسكنوا إلى عافية! والفساد الذي ينضح من كيان بنى إسرائيل، هو فساد يجىء عن بطر وكبر، وكفر بنعم الله التي يفيضها عليهم، ولهذا جاء قوله تعالى: «وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً» معطوفا على هذا الفساد، مؤكدا لتأكيده، حيث أنه كائن منه، ومتولد من كيانه.. فهو علوّ فاسد، نتاج غرس فاسد. فهم إنما يفسدون حين يمكن الله لهم فى الأرض، ويفيض عليهم الكثير من نعمه، وعندئذ يستبدّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 442 بهم الغرور، ويستولى عليهم الأشر والبطر، شأن أصحاب النفوس النكدة، والقلوب المريضة، إذا مستها رحمة من رحمات الله، مكرت بها، وأحالتها فى كيانها شرّا وبلاء، تتغدى منه، وتلقى بثمره النكد إلى كل ما حولها.. كالأرض الملح، ينزل عليها الغيث، فتتحول إلى برك ومستنقعات، لا تفوح منها إلا الروائح العفنة، ولا يتحرك على صدرها إلا الهوامّ والحشرات! وفى قوله تعالى: «فى الكتاب» إشارة إلى أن ما قضى الله به فى بنى إسرائيل، وألزمهم إياه- هو مما فى كتاب الله، وهو اللوح المحفوظ.. وفى هذا توكيد لهذا القضاء المبرم، المكتوب، وأنه لا مفرّ منه.. هذا، ويرى «الزمخشري» أن المراد بالكتاب هو «التوراة» متابعا فى هذا من سبقه من المفسرين، وقد تبعه على هذا الرأى من جاء بعده..! وقليل من المفسرين من قال بأن الكتاب هو «اللوح المحفوظ» باعتبار أن ذلك رأى مرجوح.. والذي نقول به، هو أن المراد بالكتاب، هو الكتاب المسطور، وهو اللوح المحفوظ، وهو أم الكتاب.. كما يقول سبحانه وتعالى: «وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ» وهذا هو الأنسب والأولى فى هذا المقام.. وذلك لأمرين: أولهما: أن الله سبحانه وتعالى قد وصف الكتاب الذي جاء به موسى- وهو التوراة- بأنه هدى لبنى إسرائيل.. وليس يتفق مع هذا الوصف أن يحمل إليهم هذا الكتاب دعوة إلى الإفساد والتحبّر فى الأرض! أما ما فى كتاب الله المسطور، فهو قدر مقدور لهم، خفى عليهم أمره.. شأنهم فى هذا شأن ما قدّر على الناس من أقدار.. فهم- والحال كذلك- مدعوّون إلى الهدى، بهذا الكتاب الذي جاءهم به موسى، ثم هم- مع هذا- واقعون تحت هذا القضاء الذي حجبه الله عنهم!! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 443 فالرسل- عليهم الصلاة والسلام- مطالبون بدعوة الناس إلى الله، ومدّ أيديهم إليهم بالهدى الذي معهم والناس مطالبون بأن يقبلوا على هذه الدعوة، وأن يستجيبوا لها. ثم ينجلى الموقف آخر الأمر، عن مؤمنين آمنوا بالله، وانتفعوا بهذا الهدى، وعن كافرين، كفروا بالله، ولم يأخذوا بحظهم من هدى الله.. وكلا الفريقين- من مؤمنين وكافرين- أخذ الطريق الذي رسمه له القدر، دون أن ينكشف له ما قدّر الله عليه، ولا أن يجد فى نفسه أنه مقهور تحت سلطان هذا القدر، وإنما هو مطلق العنان، يأخذ الطريق الذي قدّره هو، ورآه هو.. وهو عين ما قدره الله، وقضى به! وثانيهما: أنه لو حملت التوراة إلى بنى إسرائيل هذا القضاء المقضى به عليهم، فى صورة الأمر أو فى صورة الخبر.. لكان ذلك مما يسقط التكليف عنهم، إذ يضعهم تحت أمر نافذ لاسلطان لهم عليه، ولا قدرة معهم لدفعه، وتعالت حكمة الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.. أما ما أنذر الله سبحانه وتعالى، به بنى إسرائيل من سوء، وما رماهم به من لعنة، وما أخذهم به من مسخ، فقد كان ذلك واقعا على جماعات منهم، بحيث يبقى بعد ذلك بقية منهم خارجة عن هذا الحكم.. وتلك البقية هى متعلق أنظار القوم جميعا، بحيث يرى كل واحد منهم أنه فى غير الملعونين، والممسوخين، وإن كان- فيما قدّر عليه- فى الصميم منهم! - وفى قوله تعالى: «لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ» خبر محقق بأن الإفساد الذي يقع من القوم سيكون «مرّتين» يقعان على امتداد حياة بنى إسرائيل فى هذه الأرض.. وقد اختلف فى الزّمن الذي يقع فيه هذا الفساد فى كلّ مرة من المرتين، وهل وقعت هاتان المرتان أو لم تقعا بعد؟ أم وقعت إحداهما ولم تقع الأخرى؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 444 والذي عليه أكثر المفسّرين أن هاتين المرتين قد وقعتا بالفعل، وأن إحداهما كانت عند الأسر البابلىّ، على يد بختنصّر، الذي استولى على دولة بنى إسرائيل ودمرها تدميرا، وهدم بيت المقدس، وساق القوم أسرى إلى «بابل» .. وأما المرة الثانية، فكانت بعد أن قتلوا النبىّ «أرميا» ، وقيل بعد أن قتلوا النبىّ «يحيا» ..! والذي ينظر فى قوله تعالى: «لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً» يرى أن الإفساد الذي يقع من بنى إسرائيل مصاحب لصفة دالّة عليه، مرهصة به، وهى أن يكونوا فى حال، هم فيها أصحاب قوة متمكنة وسلطان ظاهر، وعلوّ فى الأرض.. وأن هذا السلطان الظاهر لهم، وهذه القوة العتيدة بين أيديهم، وهذا العلوّ البادي لهم، إنما هو نعم مستنبتة فى أرض فاسدة، وغيث هاطل على مستنقع عفن.. ومن هنا يكون البناء الذي أقاموا منه سلطانا، وحصلوا منه على قوة، وبلغوا به ما بلغوا من علو- هو بناء فاسد، يحمل فى كيانه معاول هدمه وتدميره.. فإذا نظرنا إلى بنى إسرائيل من خلال هذه الصفة التي يكونون عليها حين يأخذهم الله سبحانه وتعالى بما يأخذ به الظالمين، فيسلط عليهم من يرميهم بالنقم، ويأخذهم بالبأساء والضراء.. نجد أن تاريخ القوم يحدّث عن أنهم قد كانوا على تلك الصفة، بعد سليمان عليه السلام، الذي أقام لهم دولة، وأنشأ فيهم ملكا واسعا عريضا.. وأنهم بعد أن ورثوا هذا الملك العريض، وملكوا هذا السلطان العتيد- بغوا وطغوا، وأقلقوا من حولهم من أمم وشعوب.. فسلط الله سبحانه وتعالى بعضهم على بعض أولا، فانقسموا إلى مملكتين، مملكة «يهوذا» فى الجنوب، وتضم بيت المقدس، ومملكة إسرائيل فى الشمال، وتضم سامريّا.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 445 ثم سلط الله على المملكتين من يضربهما الضربة القاضية، ويقضى عليهما القضاء التام- فقام الأشوريون فى عام (853 ق. م) وقضوا على مملكة إسرائيل، وضموها نهائيا إلى أشور، وقضوا على كل وجود للشخصية الإسرائيلية حيث وقع معظمهم تحت القتل، ومن نجا منهم من القتل، وقع فى الأسر، وأصبح سلعة تباع فى الأسواق.. ولما ورث البابليون دولة الأشوريين فى العراق، فعلوا فى مملكة «يهوذا» ما فعله الآشوريون فى مملكة «إسرائيل» . ففى سنة (586 ق. م) غزا البابليون مملكة «يهوذا» بقيادة ملكهم بختنصر، واستولوا عليها، ودمّروا الهيكل، وقادوا القوم ورؤساءهم أسرى.. وهكذا أصبحت مملكة سليمان كلها تحت الحكم البابلي، أو الأسر البابلي. وعلى هذا يمكن أن نقول إن هذا الأسر البابلي هو الذي يشير إليه قوله تعالى: «فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا» . فهذا الحدث هو أقرب وأبرز بلاء وقع على بنى إسرائيل، بعد أن أفسدوا فى الأرض وعلوا علوّا كبيرا.. وليس يعترض على هذا بأن «بختنصّر» لم يكن من المؤمنين بالله، وإذن فلا يصحّ أن ينسب إلى الله. فى قوله تعالى: «عِباداً لَنا» فإن بختنصر- إذا صحّ أنه لم يكن مؤمنا بالله- ليس إلا عبدا من عباد لله، فالناس جميعا- مؤمنهم وكافرهم- هم عبيد الله. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» (93: مريم) . ويقول سبحانه لإبليس- لعنه الله-: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ. إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ» فقد أضاف الله سبحانه الناس جميعا إليه.. هكذا: «عبادى» .. ومن عباده هؤلاء الغاوون. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 446 وليس يعترض على هذا أيضا بقول من يقول: كيف يسلّط لله الكافرين على المؤمنين، فقد كان بختنصر وقومه وثنيين، على حين كان بنو إسرائيل أهل كتاب.. مؤمنين بالله؟ والجواب: أن بنى إسرائيل، وإن كانوا أهل كتاب، فإنهم قد مكروا بآيات الله، وبغوا فى الأرض، وملأوا الدنيا من حولهم ظلما وبغيا.. فهم- وإن كانوا مؤمنين ظاهرا- لم يكونوا أحسن حالا من الوثنيين فى أفعالهم السيئة المنكرة.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» (129: الأنعام) وكذلك يبتلى الله الظالمين بالظالمين، أو بمن هم أشد ظلما منهم، فهى نقم تضرب فى وجه نقم، وظلم يسوء وجوه الظالمين! ثم جاء بعد هذا قوله تعالى: «ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً» .. وفى هذا إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى بعد أن أخذهم بعقابه، وألقى بهم فى هذا الضّياع زمنا، كما فعل بهم حين ضرب عليهم التيه أربعين سنة- عاد الله سبحانه بفضله عليهم، وأخرجهم من هذا البلاء، بعد أن جعل من الآباء عبرة للأبناء.. ومعنى ردّ الكرة عليهم أنهم أخذوا مكان القوة، على حين نزل القوم الذين ابتلاهم الله بهم إلى حال أشبه بتلك الحال التي كان عليها اليهود من الذلة والهوان، وذلك حين أغار الفرس، على البابليين، واستولوا على أوطانهم، وجعلوهم غنيمة لهم، كما فعل البابليون ببني إسرائيل.. «وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ» (140: آل عمران) . وفى قوله تعالى: «وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً» إشارة إلى القوة التي لبسوها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 447 بعد هذا الضياع، وأنهم أصبحوا أصحاب شوكة أكثر من شوكة البابليين الذين ساموهم الخسف.. والنفير: الجماعة التي تنفر للحرب وتخفّ مسرعة إليها.. ثم جاء بعد هذا قوله تعالى: «إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها» تحذيرا لبنى إسرائيل، أن يركبوا الطريق الذي ركبه آباؤهم من قبل، وأن يفسدوا فى الأرض كما أفسدوا، فيحلّ بهم ما عرفوه من بلاء حل بآبائهم. ثم إذا أعدنا النظر إلى بنى إسرائيل بعد الأسر البابلي، لم نجد لهم دولة ظاهرة ولا ملكا قائما.. وإنما هم دويلات ممزقة، متقاتلة فيما بينها، تخرج من حكم البابليين لتقع تحت حكم الفرس فى سنة (518 ق. م) .. ثم تحت حكم الرومان، إلى أن جاء الفتح الإسلامى.. الذي أدخل بيت المقدس فى دولته، فأصبح المسجد الأقصى من مساجد الإسلام.. ليس لبنى إسرائيل شأن به منذ ذلك الوقت إلى يوم الناس هذا.. وإذن، فهناك المرّة الثانية، وهى التي أشار إليها قوله تعالى: «فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً» .. والسؤال هنا هو: هل جاء وعد الآخرة.. أي المرة الثانية؟ وإذا لم يكن قد جاء فمتى يجىء؟ وما الإرهاصات الدالة عليه؟ والجواب على هذا: أولا: أن هذا الوعد- وعد الآخرة- كان إلى نزول القرآن الكريم غير واقع، وأنه سيقع فى المستقبل، القريب، أو البعيد.. والدليل على هذا ما يحدّث به القرآن الكريم فى هذا المقام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 448 فقد تحدّث القرآن الكريم عن مجىء المرة الأولى هكذا: «فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا» .. وتحدث عن مجىء المرة الثانية هكذا: «فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً» . فالآيتان تحدثان عن المستقبل، الذي يدل عليه الشرط: «إذا» .. وهذا يعنى أن المرتين على سواء، فى تعليقهما بالمستقبل، وقت نزول القرآن.. الأمر الذي يجعل القول بأن إحداهما قد وقعت، والأخرى لم تقع.. قولا لا حجة عليه، ولا مبرّر له.. ولكن الذي ينظر فى الآيتين، يجد: - أن الشرط الذي يعلّق الفعلين بالمستقبل، هو منظور فيه إلى ما قضاه الله سبحانه وتعالى فى كتابه، وجعله قدرا مقدورا على بنى إسرائيل، فى وقوع هاتين المرتين من الإفساد.. وعلى هذا يكون وقوع الأحداث المسطورة فى كتاب الله كلها، لم تكن وقعت، حين قضى الله بها، وأودعها خزائن علمه.. - وعند النظر فى الآيتين الكريمتين، نجد أن النظم القرآنى قد خالف بينهما.. فجعل ما وقع منهما عند نزول القرآن معبّرا عنه بلفظ الماضي: «بعثنا.. جاسوا» .. على حين جعل المرّة التي لم تقع بلفظ المستقبل: «لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ.. وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا» . - ولو تساوت المرتان، فى الوقوع، أو عدم الوقوع، عند نزول الجزء: 8 ¦ الصفحة: 449 القرآن، لم يكن لاختلاف النظم فيهما سبب ظاهر، وهذا أبعد ما يكون عن بلاغة القرآن وإعجازه، حيث لا تجىء كلمة أو حرف فيه، إلا ومعها ما لا حصر له من أسرار! وثانيا: إذا تقرر أن المرة الثانية، لم تجىء حتى نزول القرآن الكريم.. فهل وقعت بعد هذا، أم أنها لا تزال معلقة بالمستقبل، لم تقع بعد؟ والقرآن الكريم هو دليلنا فى الإجابة على هذا السؤال.. ففى قوله تعالى: «فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً» - فى هذه الآية نجد حديثا عن «المسجد» .. والمسجد كما هو معروف معلم من معالم الإسلام، وسمة من سمات بيوت الله التي يتعبّد المسلمون فيها.. إذ كان السجود أبرز عمل من أعمال المسلمين فى الصلاة.. ولهذا فقد كان الاسم الذي يعرف به المسجد الأقصى هو: «بيت المقدس» حتى إذا أسرى الله سبحانه وتعالى بالنبي الكريم إليه، أسماء- سبحانه- المسجد الأقصى.. وجعله بهذا الاسم، القبلة الأولى للمسلمين، كما جعله بهذه التسمية، مسجدا لهم يعبدون الله فيه.. ثم كان الوصف الذي يعرف به المسلمون فى المجتمع الإنسانى هو سمة السجود الذي فى وجوههم. كما يقول تعالى: «سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ.. ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ» (29: الفتح) . فذكر «بيت المقدس» باسم «المسجد» يشير إشارة واضحة إلى أن المرة الثانية، التي يقع فيها من بنى إسرائيل هذا الإفساد، إنما تكون فى العهد الإسلامى، وفى الوقت الذي يكون فيه بيت المقدس مسجدا للمسلمين، على خلاف ما كان عليه من قبل، حيث لم تشر الآية الأولى إلى المسجد، من بعيد أو قريب.. بل جاءت الآية هكذا «فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ» أي تنقلوا كما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 450 يشاءون بين الديار، وهذا يعنى أن العدو الذي ابتلاهم الله به، كان متمكّنا، بحيث يمشى فى ديارهم، ويتخلل طرقاتها دون أن يخشى أحدا. ونسأل مرة أخرى: هل وقعت المرة الثانية؟ وهل جاء وعد الآخرة قبل يومنا هذا؟ والجواب هنا نأخذه أيضا من القرآن الكريم، ثم من أحداث التاريخ.. وننظر مرة أخرى فى الآية: «فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً» . فهناك حقائق تقررها الآية الكريمة، وهى: - أن الذين يتسلّطون على بنى إسرائيل فى هذه المرة، سيدخلون المسجد الأقصى.. «كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ» . وهذا يعنى أمورا: - أن الذين يدخلون المسجد الأقصى هذه المرة، قد كان لهم دخول إليه من قبل، وأنهم إنما يفعلون فى هذه المرة، ما فعلوه فى المرة السابقة.. - ودخول المسلمين المسجد الأقصى أول مرة، كان فى خلافة عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- وقد ظل فى أيديهم إلى أن دخله بنو إسرائيل فى هذه الأيام، من عام ألف وثلاثمائة وسبعة وثمانين للهجرة.. نعم.. خرج المسجد الأقصى من يد المسلمين إلى يد الصليبيين.. ثم أعيد إليهم مرة أخرى، على يد صلاح الدين.. ولم يكن لبنى إسرائيل حساب أو تقدير فى هذا الأمر.. - ودخول المسلمين إلى المسجد الأقصى وانتزاعه من يد الصليبيين، ليس له شأن بالدخول الذي سيدخله المسلمون، بعد أن ينتزعوا هذا المسجد من يد بنى إسرائيل، لأن بنى إسرائيل لم يدخلوا المسجد، ولم يستولوا عليه منذ الفتح الإسلامى، حتى وقع لأيديهم فى هذه الأيام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 451 - فهذه إرهاصة من إرهاصات المرة الثانية، أو وعد الآخرة، وهى أن يكون المسجد الأقصى فى يد بنى إسرائيل، ثم يجىء إليهم من يخرجهم منه، وينتزعه من أيديهم، وهم أولئك الذين كان «المسجد» مسجدهم الذي «دخلوه أول مرة» ! وليس المسجد إلا مسجد المسلمين، وليس الذي يدخله للمرة الثانية وينتزعه من اليهود، إلا المسلمين.. - والإرهاصة الثانية، هى الحال التي عليها اليهود أنفسهم، وهى أن يكونوا على الصفة التي وصفهم الله بها، حين يفسدون فى الأرض، ويعلون علوّا كبيرا، وحين يدخل عليهم أصحاب المسجد كما دخلوه أول مرة، ليسوءوا وجوههم، أي يلبسوهم الخزي والسوء، وقد اختصّت الوجوه بهذا، لأنها الصفحة التي ترتسم عليها أحوال الإنسان كلها، وما يمسّه من خير أو شر، وما يلقاه من نعيم أو بؤس. والذي ينظر فى واقع بنى إسرائيل اليوم يجد: أولا: أنهم منذ عهد سليمان لم تقم لهم دولة، بعد الدولة التي خربها يختنصّر، حتى قامت لهم دولة فى هذه الأيام، هى المعروفة باسم «إسرائيل» والتي تدعمها وتسندها قوى كثيرة من قوى البغي والعدوان.. التي تكيد للإسلام وتتربّص به. ثانيا: أن هذه الدولة التي أقامها بنو إسرائيل هذه الأيام دولة ولدت من أحشاء الظلام، تحمل معها كل ما عرفت الإنسانية من أدوات الشر، والبغي، والعدوان.. فقد ملكت بكيدها ومكرها، كثيرا من الوسائل الخبيثة، التي مكنتها من تلك القوة، وأقامت بها هذه الدولة.. فالمال الذي أقيمت به هذه الدولة، هو عصارة تلك الدماء التي امتصها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 452 اليهود من الأمم والشعوب، فى شتى أقطار الأرض.. بما أشعلوا من حروب وبما أثاروا من فتن، وبما اشتروا من ضمائر وذمم.. وثالثا: هذه الدولة، هى غاية ما يمكن أن يبلغه بنو إسرائيل من علوّ، وغاية ما يمكن أن تطوله أيديهم من إفساد فى الأرض.. فهم الآن يضعون أيديهم على فلسطين كلها، وعلى شبه جزيرة سينا من مصر، وعلى مرتفعات جولان من سوريا.. وكل ذلك قد وقع ليد إسرائيل فى لحظة خاطفة، من لحظات الزمن، لا تتجاوز ستة أيام، الأمر الذي جعل لبنى إسرائيل اسما ذائعا رهيبا فى العالم، جعلت تتغذى منه إسرائيل بمشاعر العظمة والزهو والغرور، حتى تورّمت، وأوشكت أن تنفجر، مما بها من كظة وامتلاء، من الزهو والخيلاء.. ومن هنا كان منهم ذلك البغي والعدوان، والإفساد فى الأرض.. بنسف الدور، وقتل الأطفال والنساء، بلا وازع من حياء أو ضمير، وبلا خوف من قوة رادعة فى الأرض، أو فى السماء! المرة الثانية إذن هى ما فيه إسرائيل الآن.. من فساد فى الأرض، وعلوّ واستكبار.. فساد إلى أبعد مداه، وعلوّ واستكبار إلى غاية حدودهما. أما الذي ينتظر بنى إسرائيل بعد هذا، فهو ما يقع تأويلا لقوله تعالى: «فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً» . والذي سيتولّى هذا- بلا شك- هم المسلمون، أصحاب المسجد، الذين دخلوه أول مرة، أيام عمر بن الخطاب رضى الله عنه، والذين سيدخلونه اليوم- إذا شاء الله- كما دخلوه أول مرة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 453 وفى قوله تعالى: «لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ» إشارة إلى هذا الخزي الذي سيلبس بنى إسرائيل، حين تحل بهم الهزيمة، ويقع بهم البلاء، ويهوون هويّا من هذا العلوّ الساحق، الذي تسلقوا إليه متلصصين فى الظلام.. ويومها يعرف العالم أنهم هم اليهود، أجبن خلق الله، وإن لبسوا جلود النمور والأسود! - وفى قوله تعالى: «وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ» - إشارة إلى صحوة جديدة، ستبعث القوة، وتعيد الحياة إلى الأمة الإسلامية، وتجدد شبابها.. وإذا هى أقرب ما تكون إلى عهد الفتح الأول.. وشواهد هذا البعث للأمة الإسلامية كثيرة.. فقد تحررت أوطان العالم الإسلامى جميعها من الاستعمار، وأخذت الحياة تدبّ فى أرضها الموات، بما يتدفق منها من ينابيع الذهب الأسود «البترول» الذي أمدها بأقوى قوة تقوم عليها الأمم فى العصر الحديث، وهى المال، الذي يمكّن لها من العلم، وما يقوم على العلم من أسباب المدنية والعمران.. - وفى قوله تعالى: «وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً» .. التبار، والتتبير: التدمير، والإهلاك.. وفى هذا إشارة إلى أن المسلمين سيجيئون بقوة قاهرة، ذات بأس متمكن غالب، يأتى على القوم، وعلى كل ما معهم من سلاح وعتاد.. فكلمة «ما» وهى اسم موصول لغير العقلاء، يراد به بنو إسرائيل، وما معهم من معدات الحرب، وأدوات القتال، التي جلبوها من كل مكان، ورصدوها للشر والعدوان.. إن بنى إسرائيل بغير معدات الحرب هذه، لا حساب لهم، ولا وزن.. ولهذا كان ميزان الأسلحة والمعدات أثقل من ميزانهم، ولهذا أيضا جاء التعبير يلفظ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 454 «ما» تغليبا لغير العاقل، وهو الأسلحة والمعدات، على العاقل، وهم بنو إسرائيل كان السلاح والعتاد أرجح منهم كفة، وأعظم أثرا.. فإنهم بغير هذا السلاح شىء لا وزن له.. إننا لنقطع عن يقين، أن بنى إسرائيل معنا اليوم، واقعون تحت قوله تعالى: «فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً» .. وإذن فالجولة التالية بيننا وبين بنى إسرائيل، هى لنا، وسندخل المسجد إن شاء الله كما دخلناه أول مرة، وسنخزى القوم ونعرّيهم من كل ما لبسوا من أثواب الزهو والغرور.. وسنقضى على هذه الدولة المولودة سفاحا.. فلن تقوم لها قائمة إلى يوم القيامة.. بقي هنا أمران، نود أن نشير إليهما فى إيجاز.. أما الأمر الأول: فهو أن هذه الدولة قامت تحت اسم «إسرائيل» ولم تقم تحت اسم «اليهود» أو دولة «يهوذا» .. وهذا ما يجعل لقوله تعالى: «وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ... » متوجها إلى تلك الدولة القائمة تحت اسم «إسرائيل» الأمر الذي يجعل من العسير أن تدخل تحت حكم هذه الآية، لو أنها اتخذت أي اسم آخر غير هذا الاسم.. وهذا إعجاز من إعجاز القرآن.. وأما الأمر الثاني: فهو ما جاء فى قوله تعالى فى آخر هذه السورة: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 455 الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ.. فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً» .. (101- 104: الإسراء) ونقف من هذه الآيات عند قوله تعالى: «وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً» .. ففى قوله تعالى: «وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ» إشارة إلى أمرين: أولهما: أن سكنى بنى إسرائيل الأرض، لن تكون إلا سكنى ذليلة مهينة، لا يرتفعون فيها عن هذه الأرض، ولا يستعلون بآدميتهم عن الدوابّ التي تدبّ عليها.. فهم أبدا لا صقون بهذه الأرض، يغوصون فى طينها، ووحلها إلى أذقانهم، بحثا عما تعطى الأرض.. أما ما وراء هذا من مطالب الروح، فلا حظّ لهم فيه، ولا شغل لهم به..! وثانيهما: أنهم سيشرّدون فى الأرض كلها.. فى طولها وعرضها.. إذ كان همّهم من سكنى الأرض، هو البحث عن كل مرعى فيها، فهم يتتبعون مواقع الرعي حيث كانت، وهذا ما تحدث عنه حياة اليهود، حيث هم فى كل صقع من أصقاع الأرض.. وفى قوله تعالى: «فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً» - إشارة إلى ما جاء فى قوله تعالى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ، وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً» فبنو إسرائيل الذي جاءوا لوعد الآخرة، واجتمعوا اليوم فى فلسطين، وأقاموا الدولة الواقعة تحت حكم الله الذي قضى به عليهم يوم يجىء وعد الآخرة- بنو إسرائيل هؤلاء، قد جاءوا من كل أفق من آفاق الأرض مسوقين إلى حتفهم، مدعوّين إلى قدرهم المقدور، فى قوله تعالى: «فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً» .. أي جمعناكم من كل جهة.. فاللفيف من الناس: الجماعة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 456 التي تجتمع من وجوه شتّى، كما يجتمع الناس فى الأسواق، والأسفار.. ثم ينفضّ السوق، ويتفرق السّفر! «وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» . الآيات: (8- 14) [سورة الإسراء (17) : الآيات 8 الى 14] عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) التفسير: قوله تعالى: «عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً» .. هو خطاب لبنى إسرائيل، وإلفات لهم إلى بأس الله الذي لا يردّ عن القوم الظالمين، وأنهم بعد أن ينفذ فيهم قضاء الله، ويقعوا تحت «وعد الآخرة» لن يرفع عنهم التكليف المفروض على كل إنسان.. فهم- شأنهم شأن الناس- الجزء: 8 ¦ الصفحة: 457 معرضون لرحمة الله، إن نزعوا عماهم عليه من شر وفساد، ورجعوا إلى الله، واستقاموا على طريق الحق والخير.. فإن عادوا- بعد أن يضربوا الضربة الثانية تلك- عاد الله سبحانه وتعالى عليهم بالبلاء ورماهم بالنقم، وسلط عليهم من عباده من يأخذهم بالبأساء والضراء.. ثم حشروا محشر الكافرين، فكانت لهم النار حصيرا، أي سجنا مطبقا عليهم، يحصرون فيه، ولا يجدون لهم طريقا للخلاص منه.. وقوله تعالى: «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» .. مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن بنى إسرائيل قد تنكبوا طريق الحق، وركبوا طرق الباطل والضلال، فضربهم الله سبحانه وتعالى هاتين الضربتين المدمرتين، وكانت إحدى هاتين الضربتين، على يد المسلمين، أصحاب المسجد، الذي استولى عليه بنو إسرائيل.. فكان قوله تعالى: «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» دعوة لبنى إسرائيل إن هم أرادوا أن يرفع عنهم بلاء الله، وتستقيم طريقهم فى الحياة أن يؤمنوا بهذا القرآن، الذي يهدى للطريق المستقيم وألا يبحثوا عن دواء غيره يطبّون به لدائهم، إن أرادوا أن يخرجوا من هذا البلاء الذي ضربه الله عليهم. - وفى قوله تعالى: «وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» إشارة إلى بنى إسرائيل، وإلى أنهم المرادون بهذا الخطاب، فهم لا يؤمنون بالآخرة، كما يؤمن بها المؤمنون، وإنما يرون أن الجزاء معجل فى هذه الدنيا، وأن الجنة والنار هما فى هذه الدنيا، حيث السعداء والأشقياء، وحيث الأغنياء والفقراء.. هذه هى عقيدة بنى إسرائيل فى الآخرة.. وقد أشار إليهم سبحانه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 458 وتعالى فى أول سورة البقرة بقوله: «وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ» .. فالمراد بهذه الآية هم اليهود.. والمطلوب منهم أن يؤمنوا بالآخرة وأن يستيقنوها.. فهم وإن ذكروا الآخرة لا يذكرونها إلا بألسنتهم، ولكن قلوبهم منعقدة على إنكارها.. قوله تعالى: «وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا» . تكشف هذه الآية عن حال من أحوال الإنسان، وهو أنه مولع بحبّ العاجل من المتاع، يطلبه، ويؤثره على الآجل، وإن كان فيه من الخير أضعاف العاجل الذي طلبه وآثره..! ومن هنا، كان أكثر الناس يطلبون الدنيا، ويستوفون حظوظهم منها، دون أن يتركوا للآخرة شيئا.. وهذا ما يحملهم على أن يهتفوا بالشرّ، ويلحّوا فى طلبه، حتى كأنه خير محقق. ووصف ما يستعجله الناس من متاع الحياة الدنيا بالشرّ، إنما هو بالإضافة إلى الحال التي يتلبّس بها طالبوه، حيث يصرفهم عن الآخرة، ويعمى أبصارهم عن النظر إليها.. فهذا المتاع ليس شرا فى ذاته، وإنما هو شرّ بالنسبة لمن شغلوا به عن الآخرة، وأذهبوا طيباتهم فى حياتهم الدنيا، واستمتعوا بها.. وفى هذا أيضا نخسة لبنى إسرائيل، وأنهم طلّاب دنيا، لا ينظرون إلى ما وراءها.. قوله تعالى: «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا» .. مناسبة هذه الآية لما قبلها.. أنها تكشف عن وجهين من وجوه الحياة المتسلطة على الناس، وهما النور والظلام، وهما أشبه بالوجهين اللذين يعيش فيهما الناس، وهما وجها الخير والشرّ اللذان أشارت إليهما الآية السابقة.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 459 والليل والنهار آيتان من آيات الله، تحدّث كل آية منهما عن قدرة الله، وعن حكمته.. وكلّ منهما مكملة للأخرى، بل ومعلنة عنها، ومحققة لوجودها.. فلولا الليل ما كان النهار، ولولا النّهار ما عرف الليل.. وكذلك الخير والشر.. آيتان من آيات الله فى الناس.. كلّ منهما مكمّل للآخر، ومعلن عنه، ومحقق لوجوده.. فلولا الخير ما كان الشر، ولولا الشرّ ما عرف الخير.. والدنيا والآخرة.. آيتان من آيات الله.. فى الناس.. فكل منهما مكملة للأخرى، موصولة بها.. فلولا الدنيا ما كانت الآخرة، ولولا الآخرة ما كانت الدنيا إلا لعبا ولهوا، وما غرس الغارسون ما غرسوا فيها من معالم الحق والخير.. وما أعدّوا فيها هذا الزاد الطيب الكريم، الذي ادخروه للآخرة. - وفى قوله تعالى: «فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ» إشارة إلى أن الليل موقف سلبىّ بالنسبة لحياة الإنسان.. يخلد فيه الإنسان إلى الراحة، ويسلم فيه نفسه للنوم، ليعبّىء ذاته بأسباب القوة، والنشاط، حتى يعمل فى وجوه الحياة حين يطلع النهار بآيته المبصرة! والليل هو الليل، وإن بدّد الناس ظلامه بتلك المصابيح التي تجعل منه نهارا أو ما يشبه النهار! فهو سكن الناس، وهو الظرف الذي يأخذون فيه حظهم من الراحة والنوم.. إنه أشبه بالدنيا، والنهار أشبه بالآخرة..! أكثر الناس فى الدنيا، فى ليل لا يبصرون، وفى سبات لا يستيقظون.. فإذا كانت الآخرة، فهم فى نهار مبصر، وفى يقظة واعية مدركة.. وفى هذا يقول الرسول الكريم: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا» .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» (22: ق) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 460 - وفى قوله تعالى: «وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ» إشارة إلى أن النّهار سعى وعمل، حيث يبصر فيه الإنسان طريقه ومسربه فى الحياة.. فلينتفع بهذه النعمة، وليضع قدمه على طريق مستقيم، حتى يتجنّب العثرات والزلات.. وقد قرىء: «مبصرة» بفتح الميم وسكون الباء، وفتح الصاد.. اسم آلة.. أي جعلنا آية النهار آلة للإبصار.. - وقوله تعالى: «وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ.» أي أن الليل والنهار، إذ يقتسمان الزمن، ويتداولانه فيما بينهما، كان سببا فى معرفة الزمن، وفى رصد حركاته، وعدّ السنين وحسابها.. وأنّه لو كان الزمن ليلا سرمدا، أو كان نهارا دائما، لما عرف الناس للزمن حركة، ولما تولّد لهم من حركته الأيام، والسنون! قوله تعالى: «وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً» .. ألزمناه: أي أوجبنا عليه، وأخذنا به.. وطائره: عمله، من خير أو شر.. وسمّى عمل الإنسان طائره، لأنه حصيلة سعيه فى هذه الدنيا، وقد كان العرب، يتخذون من الطير فألا يجرون عليه أعمالهم.. فإذا أطلقوا طائرا، فطار من الشمال إلى اليمين، تفاءلوا به وسمّوه «سانحا» وإذا طار من اليمين إلى الشمال، تشاءموا به وسموه «بارحا» .. فأعمالهم كلها- على هذا التقدير- من خير أو شر، هى مما جرى به الطير: سانحا، أو بارحا.. وقد ورد فى القرآن الكريم، ما جرى على ألسنة الذين يتخذون من الطير الجزء: 8 ¦ الصفحة: 461 فألا! فقال تعالى: «قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ» (18: يس) وقال سبحانه: «فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ.. أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ» (131: الأعراف) . والمعنى: أن كل إنسان يأنى يوم القيامة، وقد حمل معه حصيلة أعماله كلها، التي عملها فى دنياه، من خير أو شر، وقد لزمته، ونيطت به، حتى لكأنها قلادة تمسك بعنقه.. فهذه هى الحلية التي يتحلّى بها الإنسان من دنياه.. هى طائر، قد علق بعنقه، لا يطير يمينا أو شمالا، ولا يتحرك سانحا أو بارحا.. حيث لا عمل بعد أن يترك الإنسان هذه الدنيا.. لقد انقطع عمله، وسكن طائره الذي كان يصحبه فى الشرّ والخير ونزل معه إلى قبره، متعلقا به، كما يتعلق الطفل بصدر أمه، ويشدّ يديه إلى عنقها.. وقوله تعالى: «وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً» .. أي أنه بعد أن يبعث الإنسان، يجد هذا الطائر قد أصبح كتابا منشورا.. «لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها» .. قوله تعالى: «اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» هو أمر إلى كل ذى كتاب أن يقرأ كتابه، وأن يحاسب نفسه بما فى هذا الكتاب، فهو ناطق مبين.. «هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (29: الجاثية) الآيات: (15- 22) [سورة الإسراء (17) : الآيات 15 الى 22] مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 462 التفسير: قوله تعالى: «مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» . فى هذه الآية أمور: أولا: أنها تعقيب على الأحكام، والمقررات التي عرضتها الآيات السابقة، وعرضت فيها المؤمنين، والكافرين، وحصيلة كل ما يعمله الإنسان فى الدنيا، وحسابه عليه فى الآخرة.. - «مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها» فما يعمله الإنسان من خير فهو له، وما يعمله من شر فهو واقع عليه، لا يصيب أحدا غيره.. «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» . ثانيا: أنه لا تزر وازرة وزر أخرى.. فلا يلقى حمل أحد على أحد.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 463 والوزر: الحمل، ويستعمل للدلالة على الأعمال السيئة، إذ كانت هذه الأعمال عبئا على أصحابها، بما يصيبهم منها من عناء وضنى، فصحّ أن تشبّه بالأحمال الثقيلة.. ومعنى: «تزر» تحمل، والوازرة الحاملة.. وقد أسند الفعل إلى «النفس» ولهذا أنّث.. والمعنى: ولا تحمل نفس حمل نفس أخرى.. كما يقول سبحانه وتعالى: «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» (38: المدثر) . ثالثا: أنه مما قضت به حكمة الله سبحانه وتعالى ورحمته بالناس، أن يقيم حجته عليهم، قبل أن يحاسبهم، وذلك بدعوتهم إليه عن طريق رسل يختارهم من الناس، ليبلغوهم رسالة الله إليهم، ويكشفوا لهم الطريق إليه.. «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» .. فإذا جاء الرسول إلى الناس لم يكن لهم على الله حجة فى أخذهم بالعذاب إن لم يستجيبوا لرسول الله، ولم يؤمنوا بالله! وإنه مما يسأله الكافرون، والضالون يوم القيامة، وهم يعرضون على الله سبحانه، هذا السؤال التقريرى: «أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟ قالُوا بَلى! وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ» (71: الزمر) . قوله تعالى: «وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً» . قرىء فى هذه الآية «أمرنا» آمرنا، بمدّ الهمزة، وأمرنا بكسر الميم، وأمّرنا بتشديدها، وفسّرت كلها بمعنى كثّرنا. هذه الآية الكريمة تشير إلى قضاء الله سبحانه، النافذ فى العباد، وسنّته الجارية عليهم، المطّردة فيهم.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 464 فإذا أراد الله سبحانه وتعالى أمرا استدعى له أسبابه، ثم أجراه على هذه الأسباب، وأقامه على سننه الكونية.. وهو سبحانه مبدع، قادر، يقول للشىء كن فيكون.. وليست هذه الأسباب وتلك السنن حدودا تحدّ من سلطان القدرة، والإبداع.. وإنما هى فى ذاتها من عمل القدرة، ومن آيات الإبداع، إذ كانت الحكمة قائمة مع الإبداع والقدرة.. وإلا فلو كانت القدرة قدرة مطلقة لا تتلبس الحكمة بها لكانت قوة طاغية، ترمى بالفوضى، والاضطراب.. تعالت قدرة الله عن ذلك علوّا كبيرا.. وصفات الله سبحانه وتعالى، فى كمالها وجلالها، ليست على هذا التصور الذي نتصوره، من أنها صفات متعددة.. وإنما هى فى ذاتها صفة واحدة لله.. فكما أنه سبحانه واحد فى ذاته، هو سبحانه واحد فى صفاته.. ولكن هذا التعدد فى الصفات، إنما هو من حيث نظرتنا نحن إلى تجلّيات الله سبحانه وتعالى، فحين ننظر إلى العلم مثلا، ننسب العلم الكامل الشامل لله سبحانه وتعالى.. ولكنه علم من؟ إنه علم الله المتصف بصفات الكمال كلها.. وهكذا الشأن فى كل صفة نصف الله جلّ وعزّ بها.. إنها صفة الله المتصف بكل كمال، المنزّه عن كل نقص.. والآية الكريمة تحدّث- كما قلنا- عن قضاء الله فى عباده، وسنّته فيهم، وأنه- سبحانه- إذا قضى بأن يهلك قرية لم يهلكها حتى يقيم الحجة عليها، بإرسال الرسل أولا، ثم بما يكون منها من عصيان الرسول، وكفر بالله، وبما يسوق إليه الكفر من ضلال وفساد.. ثانيا. - وفى قوله تعالى: «أَمَرْنا مُتْرَفِيها» إشارة إلى قضاء الله النافذ فيهم، وأنهم- تحت حكم هذا القضاء، لن يؤمنوا أبدا ولو جاءتهم كلّ آية.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 465 فكأنهم مأمورون بالكفر والعصيان، وإن لم يكن ثمّة أمر ولا إلزام..! «إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ» .. وتسأل: ما الحكمة من إرسال الرسل إلى من حقّ عليهم القول؟ والجواب، ما علمت من قوله تعالى: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» وذلك لإقامة الحجة عليهم، ولإظهار مالديهم من إرادة تواجه إرادة الله.. وإن كانت إرادة الله هى الغالبة! وتسأل: ما بال هؤلاء الذين حقّ عليهم القول يعذّبون وهم مسوقون سوقا إلى قدرهم المقدور؟ ولا جواب، إلّا أنّ هذه هى مشيئة الله فى عباده.. «وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ» .. ولا يسأل الخالق عما يفعل فيما خلق: «لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ» (23: الأنبياء) . وفى الإشارة إلى «المترفين» وهم أصحاب الثّراء، الذي يعيش له أهله فى فراغ وبطالة- يعنى أن هؤلاء المترفين لا يرجى منهم خير، ولا يطبّ لدائهم بدواء.. فهم كائنات فاسدة هازلة، لا تجدّ أبدا.. ثم هم مع هذا قدوة الناس، وقادتهم بما لهم من ثراء! - وقوله تعالى: «فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ» - هو إشارة إلى ما قضى الله به فى عباده، وما حكم به على هذه القرية، من الهلاك والتدمير.. فقول الله: هو قضاؤه وحكمته.. وإحقاق القول: هو وقوعه، ونفاذه.. وأخذ القرية كلها بفساد المفسدين من أهل الترف فيها، إنما لأن أحدا من أهل القرية لم يضرب على أيديهم، ولم ينكر عليهم هذا المنكر، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» (25: الأنفال) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 466 قوله تعالى: «وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً» .. أي من سنن الله فى عباده، هذا الموت الذي كتبه عليهم، وجعله حكما واقعا على كل حىّ.. وهذه القرون، التي خلت من بعد نوح إلى اليوم، قد هلك أهلها جميعا، وهم أعداد كثيرة، تضمّ أمما وشعوبا لا يعلمها إلا الله، وقد مضوا جميعا إلى ربّهم، ليس معهم شىء مما كان لهم فى دنياهم، إلا ما عملوا من خير أو شر.. - وفى قوله تعالى: «وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً» ..- إشارة إلى أن علم الله محيط بكل ما عمل الناس، لا يعزب عنه مثقال ذرة مما عملوا.. وخصّ الذنوب بالعلم، لأنها هى الخطر الذي يتهدد الناس، حتى يحذروه، فيكتب لهم الأمن والعافية.. فإنه إذا توقّى الإنسان الذنوب، استقام على طريق الحق والخير، لأنها هى الوارد الذي يرد عليه ويفسد فطرته.. قوله تعالى: «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً» . العاجلة، هى الدنيا، وما فيها من متاع.. فمن قصر نظره على الدنيا، وعمل لها، ولم يلتفت إلى الآخرة.. فذلك هو كل حظّه، وهو حظ قدّره الله تبارك وتعالى له، لا أنّه جاء عن تقديره وتدبيره، وإرادته.. فليس كل من أراد الدنيا بمستجيبة له، وإنما الذي يستجاب له منها، هو ما أراده الله له.. وفى هذا ما يشير إلى أن طالب الدنيا قد بخس نفسه حظّها من الآخرة، حيث لم يعمل لها، ولم يصرف من همّه شيئا إليها، على حين أن طلبه للدنيا وحصر همّه فيها لم يجىء إليه بشىء إلا ما أراده الله له.. وهذا ما يشير إليه قوله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 467 تعالى: «مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ» (20: الشورى) . - وفى قوله تعالى: «لِمَنْ نُرِيدُ» إشارة إلى أن طالبى الدنيا لم يطلبوها إلا لأن الله سبحانه وتعالى أرادهم لها، وجعلهم من أهلها.. - وقوله تعالى: «مَذْمُوماً مَدْحُوراً» . المذموم: المنحوس الحظ، والمدحور: المخذول.. قوله تعالى: «وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً» . هو الوجه المقابل لطلاب العاجلة.. وفى هذا الوجه يظهر أولئك الذين يريدون الآخرة، ويعملون لها.. وعملهم هذا محمود طيب، يشكره الله سبحانه وتعالى لهم، ويجزيهم الجزاء الطيب عليه.. - وقوله تعالى: «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» هو قيد وارد على العمل الذي يعمله العاملون للآخرة، حتى يكون عملا مبرورا مشكورا، وهذا القيد هو الإيمان.. فكل عمل- وإن كان فى أصله حسنا- لا يقبل عند الله، إلا إذا زكّاه الإيمان بالله، وبهذا يكون العمل مرادا به الله، ومبتغى به مرضاته.. فيتقبله الله، ويجزل الثواب عليه.. قوله تعالى: «كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً» .. هو تعقيب على ما كشفت عنه الآيات السابقة من العاملين للدنيا، والعاملين للآخرة.. فهؤلاء وهؤلاء جميعا، إنما يرزقون من فضل الله، وينالون من عطائه.. «وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً» فهو عطاء يشمل الخلق جميعا.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 468 محسنهم ومسيئهم..! فهذه النعم التي يتقلب فيها الذين لا يؤمنون بالله، هى من عطاء الله، ولكنهم فى عمى وفى ضلال: «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» (41: المائدة) .. قوله تعالى: «انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا» - هو إلفات إلى هذه الدرجات المتفاوتة بين الناس، فيما أمدهم به الله سبحانه وتعالى فى هذه الدنيا.. فهم ليسوا على حظ واحد فيما نالوا من حظوظ الدنيا.. إذ فيهم من وسّع الله له فى الرزق، فملك القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وفيهم من لا يملك إلا ثوبا مرقعا وكسرات من الخبز.. وبين هؤلاء وأولئك درجات.. هذا كلّه فى الدنيا.. الناس على تفاوت كبير فى حظوظهم منها.. وهم فى الآخرة كذلك، درجات متفاوتة، وحظوظ متباينة.. فريق فى الجنة، وفريق فى السعير.. وأهل الجنة درجات، وأصحاب النار دركات.. وشتّان ما بين الدنيا والآخرة، وما بين النار والجنة.. «وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا» .. إنها دار البقاء والخلود.. «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» (185: آل عمران) . قوله تعالى: «لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا» .. الخطاب للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- وهو خطاب عام يشمل الناس جميعا، إذ كان صلوات الله وسلامه عليه- إمام الإنسانية، ورسولها، وفى توجيه هذا النّهى للنبىّ ما يشير إلى خطر الأمر المنهىّ عنه، وإلى أنّه إن وقع من إنسان- أي إنسان- حبط عمله، وساء مصيره.. وفى التعبير عن سوء المصير، بالقعود، ما يشير إلى فداحة الخطب، وأنه من الهول بحيث ينهار معه بناء الإنسان، وتنحلّ قواه، فلا يقدر على الحركة، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 469 بل يتهاوى، ويسقط على الأرض، وعن يمينه وشماله، بقاياه ومخلّفاته، التي لا يأتيه منها غير الذم والتأنيب، على ما فرط منه، وإلا الخيبة والخذلان مما جمع وأوعى! الآيات: (23- 30) [سورة الإسراء (17) : الآيات 23 الى 30] وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) التفسير: قوله تعالى: «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 470 فى الآية السابقة على هذه الآية جاء قوله تعالى: «لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» - جاء ناهيا ومحذّرا ومتوعدا من يشرك مع الله إلها آخر.. وفى هذه الآية جاءت دعوة الله الناس جميعا إلى الإيمان بالله. فهذا ما قضى الله سبحانه وتعالى به فى عباده، حين أخذ عليهم العهد، وهم فى ظهور آبائهم.. كما يقول سبحانه: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى.. شَهِدْنا» (172: الأعراف) .. فالناس جميعا- بحكم هذا العهد- مؤمنون بالله، بفطرتهم، يولد المولود منهم، وهو على هذه الفطرة، كما يقول الرسول الكريم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، وينصّرانه، ويمجّسانه» . ومن هنا يبدو إيمان الناس بالله وكأنه قضاء قضى الله به عليهم، وألزمهم إياه.. فهم مؤمنون بالله، بحكم فطرتهم المودعة فيهم، ومطلوب منهم أن يستقيموا على هذه الفطرة، وألّا يخرجوا عنها.. فالإيمان بالله غريزة مركوزة فى كيان الإنسان، أشبه بتلك الغرائز التي تتحكم فى سلوك الحيوان.. ولكن الإنسان حين يعقل ويدرك، يصبح كائنا ذا إرادة.. وهو بهذه الإرادة قد يلتقى مع الفطرة، وقد يصطدم بها.. ومن هنا يكون الإيمان والكفر، والهدى والضلال.. - وقوله تعالى: «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» معطوف على ما قبله، ويصحّ عطف النهى على الأمر، والأمر على النهى، لأنهما طلبيّان.. وفى النهى معنى الأمر.. فقوله تعالى: «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» يحمل معنى الأمر، وهو اعبدوا الله.. فحسن عطف الأمر عليه: «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» .. وقدّم معمول المصدر، على المصدر، للاهتمام به، لأنه مطلوب الإحسان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 471 وغايته.. وأصل النظم «وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وإحسانا بالوالدين» .. ونصب إحسانا بفعل محذوف، تقديره «أحسنوا» .. وفى عطف الأمر بالإحسان إلى الوالدين، على النهى عن عبادة غير الله، مزيد اهتمام بالوالدين، واحتفاء بقدرهما، وتنويه بفضلهما.. وذلك لأنهما هما السبب المباشر فى إيجاد الإنسان، حيث ينظر الناظر إلى مواليد الحياة، فيجد أنها ترجع إلى الذكر والأنثى، أو الأب والأم، وإن كان الخلق كله لله سبحانه وتعالى.. ثم لا يقف أمر الوالدين عند حدّ ولادة المولود، بل إنهما يقومان على أمره، ويسهران على كفالته، وتنشئته، حتى يجاوز مرحلة الطفولة والصبا، وحتى فى مرحلة الشباب، لا تنقطع رعاية الأبوين، ولا عنايتهما بأولادهما.. ومن هنا كان للأبوين هذا الحق فى عنق الأبناء، وهو حق توجبه المروءة، ويقتضيه العدل، قبل أن يوجبه الدين، وتقتضيه الشريعة.. وقد دعت الشريعة إلى أداء هذا الحق، فى صورة عامة مجملة، وهو الإحسان إليهما، الإحسان المطلق، الذي يشمل كل خير، ويضمّ كل إحسان.. سواء بالقول، أم بالعمل.. فكل ما هو داخل فى باب الإحسان ينبغى على الأبناء أن يقدموه إلى آبائهم.. «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» . - وفى قوله تعالى: «إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما» . إشارة إلى مقطع من مقاطع الحياة، ومرحلة من مراحلها، يبلغها الأبوان، فيكونان فيها فى حال من الضعف والوهن، وذلك حين يتقدم بهما العمر.. وهنا قد يجد بعض الأبناء أن الفرصة ممكنة لهم فى أن يتخفّفوا من حقوق الوالدين، أو أن يسيئوا الأدب معهما.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 472 ولهذا جاء قول الله هنا منبّها إلى تلك المرحلة التي قد يبلغها الأبوان من العمر، وما ينبغى أن يكون عليه سلوك الأبناء فيها معهما: «إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً» . و «إمّا» أصلها «إن» الشرطية، «وما» الزائدة للتوكيد. و «أفّ» صوت، يدل على الضجر، والضيق من قائله إلى المقول له.. ولا تنهرهما: النّهر: الزجر، والتعنيف فى الخطاب.. فالآية الكريمة، ترسم أدب الحديث مع الوالدين فى حال بلوغهما الكبر.. فالكلمة النابية تجرح مشاعرهما، وتكدر خاطرهما، والكلمة الطيبة تنعش روحيهما وتشرح صدريهما.. إن الأبوين فى حال الكبر لا يحتاجان إلى كثير من الطعام أو الكساء، أو غيرهما من متع الحياة، وإنما الذي يحتاجان إليه فى تلك الحال، هو الإحسان إليهما بالكلمة الطيبة، إذ كان أكثر ما يملكانه ويتعاملان به فى هذه الحال هو الكلام، أخذا، وعطاء.. قوله تعالى: «وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً» .. هو معطوف على قوله تعالى: «وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً» .. وخفض الجناح، كناية عن لين الجانب، ولطف المعاشرة، ورقّة الحديث. والإنسان فيه جانبان من كل شىء.. جانب الخير، وجانب الشر.. جانب القوة، وجانب الضعف، جانب الشدة، وجانب اللين، وهكذا.. وبين جانبى الإنسان إرادة، هى التي تنزع به إلى أي الجانبين.. فهو فى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 473 هذا أشبه بالطائر، حين يريد الاتجاه إلى أية جهة، يخفض جناحه لها، على حين يفرد الجناح الآخر.. فكأنّ الإنسان حين دعى إلى أن يلين لأبويه، وأن يرّق لهما، قد مثّل بطائر أراد أن يأخذ هذا الجانب من جانبيه، وهو جانب الرحمة والعطف، فخفض جناحه ومال إليه.. قوله تعالى: «رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً» .. هو تعقيب على ما تضمنته الآيات السابقة من النهى عن الشرك بالله، والأمر بالإحسان إلى الوالدين.. وهذا التعقيب يقرر أنّ أساس الأعمال كلها، هى القلوب، وما تنطوى عليه، من صلاح.. فإذا كان قلب الإنسان سليما، ونيّته معقودة على الإيمان بالله، والإحسان إلى الوالدين، ثم كان منه زلة أو عثرة، فذلك مما لا يفسد على المؤمن إيمانه، ولا يضيّع على المحسن إحسانه، إذا هو رجع إلى الله من قريب، وأصلح ما أفسد.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً» .. والأوابون: جمع أواب، وهو كثير الأوب، أي التوبة والرجوع إلى الله.. وهذا يعنى أن الإنسان فى معرض الخطأ والزلل.. وأن الذي يصلح من خطئه، ويصحح من عوجه، هو رجوعه إلى لله، وطلب الصفح والمغفرة منه. قوله تعالى: «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً» . هو دعوة إلى الإحسان إلى جماعات لهم حقوق على الإنسان، بعد حقّ الوالدين، وهؤلاء هم: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 474 ذوو القربى: أي الأقارب.. غير الأبوين.. كالإخوة، والأخوات، والأعمام والعمّات، وغيرهم ممن تربطهم بالإنسان رابطة القرابة والنسب.. والمساكين: وهم وإن لم يكونوا ذوى قرابة قريبة من الإنسان، فإنهم ذوو قرابة له فى الإنسانية، وهم بعض المجتمع الذي هو منه.. وأبناء السبيل: وهم الذين يقطعهم السفر عن أهلهم، ومالهم.. فهم فى عزلة ووحشة، وهم لذلك، فى حاجة إلى من يؤنسهم ويذهب بوحشتهم. - وفى قوله تعالى: «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ» إشارة إلى أن ما يبذله الإنسان لهؤلاء الجماعات هو حقّ لهم عنده! فإذا أداه لهم، فإنما يؤدى دينا عليه.. ثم هو مع أداء هذا الدين مثاب عند الله، يضاعف له الأجر، ويجزل له المثوبة.. وقد أطلق الحق، فلم يحدّد، ولم يبيّن، ليشمل كل ما هو مطلوب، حسب الحال الداعية له. - وفى قوله تعالى: «وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً» ما يشير إلى أمرين: أولهما: الإغراء بالبذل والإنفاق.. وهذا على خلاف منطوق النظم «وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً» .. فإن النهى عن التبذير هنا، يشير إلى أن الدعوة إلى الإنفاق قد وجدت أو من شأنها أن تجد قلوبا رحيمة، وأيديا سخيّة، تنفق وتنفق، حتى تجاوز حدّ الاعتدال إلى الإسراف، والتبذير.. فجاء قوله تعالى: «وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً» ليمسك المسرفين فى البذل والعطاء على طريق الاعتدال.! وهذا الإغراء إنما هو لما يغلب على النفوس من شحّ وبخل.. وثانيهما: النهى عن التبذير حقيقة.. وذلك أن بعضا من الناس، قد يشتد بهم الحرص على مرضاة الله، والمبالغة فى تنفيذ أمره، فيجاوزون حدّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 475 الاعتدال، ويجورون على أنفسهم، سواء فى العبادة، أم فى غير العبادة من القربات والطاعات.. فإلى هؤلاء يكون النهى عن التبذير طلبا موجّها إليهم.. حتى يلتزموا الطريق الوسط، كما يقول سبحانه، فى مدح المنفقين: «وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً» (67: الفرقان) . قوله تعالى: «إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً» .. هو تنفير من التبذير، والإسراف.. فى أي وجه من الوجوه، حتى فى مجال الخير والإحسان.. وكفى بالتبذير نكرا أن يكون وجهه دائما مصروفا فى وجوه الشرّ، وقلّ أن يظهر له وجه فى باب الإحسان.. ومن هنا كان مكروها على أي حال، إذ كان الغالب عليه هذا المتّجه المنكر.. قوله تعالى: «وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً» . الضمير فى «عنهم» يعود إلى المذكورين فى قوله تعالى: «وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ» .. والإعراض عنهم، هو الإمساك عن إعطاء الحق الذي هو لهم. والرحمة المرجوّة من الله: هى الرزق المنتظر من فضله سبحانه وتعالى.. ومعنى الآية: إنك أيها الإنسان، إن أمسكت لضيق ذات يدك عن أن تؤدّى حق ذى القربى والمسكين وابن السبيل، منتظرا رزقا وسعة فى الرزق من الله.. فلا يمنعنّك هذا من أن تحسن إليهم بالكلمة الطيبة «فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً» .. أي طيبا ليّنا، فيه مسرّة لهم، وجبر لخاطرهم، وتيسير لمعسورهم، وفى الحديث: «الكلمة الطيبة صدقة» .. قوله تعالى: «وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 476 هو تحذير من الشحّ والبخل، وقد صوّر بهذه الصورة التي يبدو فيها البخيل الشحيح، وقد غلّت يده إلى عنقه، فلا ينتفع بها فى أي وجه من وجوه النفع، كما أنه لم يكن يوجهها بخير إلى أحد.. فهى يد معطلة، فكان شدّها إلى عنقه إعلانا عن صفتها التي أصبحت عليها.. وكما أن الشحّ مذموم، فكذلك السّرف مذموم.. كلاهما خروج عن حدّ الاعتدال، الذي هو ميزان العدل، والحكمة! والبخيل والمبذر، كلاهما ينتهى أمره إلى الندم والحسرة.. البخيل إذ لم ينتفع بما بين يديه من نعم الله.. والمبذر، إذ ضيّع هذه النعم، ولم يبق على شىء منها.. قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً» .. بسط الرزق: سعته وكثرته.. وقدر الرزق: قلّته بالنسبة للرزق الكثير المبسوط.. والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى، هو الذي يرزق الناس، وهو سبحانه الذي يبسط الرزق ويوسعه لبعضهم، على حين يعطى منه بقدر لآخرين.. وهذا وذاك إنما هو بحساب وتقدير، وعن علم وحكمة.. «إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً» .. الآيات: (31- 39) [سورة الإسراء (17) : الآيات 31 الى 39] وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 477 (العرب. وقتل الأبناء ووأد البنات) التفسير: رسمت هذه الآيات منهجا متكاملا لبناء لإنسان على أسس سليمة، وقواعد ثابتة، من الحق، والخير، ولإحسان. ففى اجتناب منهيات هذه الآيات، وإتيان مأموراتها، ضمان لسلامة الإنسان، وسعادته فى الدنيا والآخرة، ولهذا جاء وصف هذا المنهج بأنه مما أوحى به الله سبحانه وتعالى إلى نبيه، من معالم الحكمة، كما يقول سبحانه: «ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ» . وقوله تعالى: «وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً» - هو وصاة للآباء بما يجب عليهما نحو أولادهم، وذلك مقابل ما أوصى به سبحانه الأولاد، بما يجب عليهم نحو آبائهم.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 478 والآباء- فى الواقع- فى غير حاجة إلى تنبيه إلى ما يجب عليهم نحو أولادهم، من صيانة ورعاية، فتلك فطرة، أقوى من أن تخضع لمؤثرات من الخارج، تضعفها، أو تنحرف بها عن غير طريقها المرسوم لها.. فحبّ الأبناء غريزة فى كل كائن حىّ، حتى النّبات، الأمر الذي يجعل من الأصول قوة عاملة، ساهرة، على صيانة الفروع، وتثبيت أقدامها فى الحياة، وذلك لحفظ النوع، الذي هو أقوى قوة عاملة فى الكائن الحىّ.. والنهى عن قتل الأولاد، إنما هو لمحاربة آفة عارضة، أصابت بعض القبائل العربية فى الجاهلية، فدفعت بهم إلى قتل أبنائهم، ووأد بناتهم.! والذي يتأمل فى هذه الظاهرة التي فشت فى بعض القبائل العربية، يجد أنها إنما قامت أصلا على غريزة حبّ الآباء للأبناء، وحرصهم على كفالتهم، وضمان أمنهم وسلامتهم.. وذلك أن ما كان يلقاه الأعرابى من فقر، وما يقاسيه من بلاء وضرّ فى سنى الجدب والمحن، هو شىء مفزع مخيف.. إذا نظر الأعرابى إليه وهو يتجه إلى بنيه، ويمدّ يده إليهم، ويبسط جناحه المشئوم عليهم، هاله ذلك وأفزعه، ورأى الموت لبنيه رحمة من هذا البلاء، وشفاء من هذا الداء.! لهذا، كان التخلص من الأبناء، عند الولادة، هو المهرب الذي فرّ إليه بعض الأعراب بأبنائهم من وجه هذا المستقبل الكئيب الذي ينتزع أبناءهم من بين أيديهم- تحت وطأة الجوع، ويسلبهم الحياة نفسا نفسا، ويذيقهم الموت موتات، لا موتة واحدة! قد يكون هو الجهل، وسوء التدبير، وفساد العقيدة، ذلك الذي سوّل لبعض الأعراب أن يصنعوا بأبنائهم هذا الفعل الشنيع المنكر.. ولكن ليس هو جفاف العاطفة، ولا جفاء الطبع، ولا بلادة الحس، بل ربّما كان ذلك- كما قلنا- عن زيادة فى خصب العاطفة، ورقة الطبع، ورفاهة الحسّ، حيال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 479 تلك الظاهرة- ظاهرة الميلاد- التي يرى فيها البدوىّ وجه الحياة مطلّا عليه، فى صورة وليد أو وليدة له من بين هذا الموات العريض الذي يملأكل دنياه، وإذا هذه الحياة البازغة عنده، محملة بألوان الضرّ والبلاء، ملففة فى أكفان الموت الرهيب! وفى «الرثاء» الذي نجده فى مخلفات الشعر الجاهلىّ، ما يشهد لما فى الطبيعة العربية الجاهلية من تعلق بالحياة والأحياء، وخاصة حياة الأبناء، وفلذات الأكباد.. ففى تلك المقطعات من الشعر، نشمّ ريح أكباد تحترق، ونجد مسّ أنفاس تلتهب، ونحس أنين زفرات لا تكاد تنقطع، وتساقط عبرات لا تكاد ترقأ. فعلى الذين يتخذون من هذا الفعل الذي كان يفعله بعض الأعراب بأبنائهم- شاهدا على وحشيّة العرب، وفساد طبيعتهم، وانتكاس البشرية فيهم- عليهم أن يصححوا نظرتهم إليهم، وأن يردّوا هذه الظاهرة إلى أصلها الذي جاءت منه، وسيرون من هذا، أن قتل بعض الأعراب لأبنائهم، كان- حسب تقديرهم- حماية لهم من الموت البطيء، وفرارا بهم من ملاقاة تلك الحياة القاسية المهلكة.. ولأمر ما تأكل بعض الحيوانات أبناءها.. كما تفعل القطط مثلا، حين ترى أولادها فى معرض الهلاك، من عدوّ يهجم عليها، وينتزعها منها.. إنها حينئذ لا تجد مكانا أمينا تغيبهن فيه عن عين عدوّها إلا بطنها الذي خرجن منه منذ قليل! أمّا وأد البنات، فهو فرع من هذا الأصل، وهو قتل الأبناء خشية الفقر.. وأنه إذا كان بعض الآباء يمسك البنين، ويئد البنات، فلأن البنات أقلّ احتمالا من الأبناء، ولأن فى تعرضهن لهذه الحياة القاسية ما قد يمسّ شرفهن. ويلحق العار بهن وبآبائهن! ولهذا كان وأد البنات فاشيا أكثر من قتل الأبناء! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 480 ولا نجد عاطفة للأبوة أرقّ وأحنى وأنبل من تلك العاطفة التي كان يحملها العربي «للبنت» وحسبنا أن نذكر قول أبى خالد المازني، وكان من «الخوارج» .. وقد لامه قطرىّ بن الفجاءة على أن يكون فى القاعدين عن الحرب، فقال: لقد زاد الحياة إلىّ حبّا ... بناتي إنهن من الضعاف أحاذر أن يرين الفقر بعدي ... وأن يشربن رنفا «1» بعد صاف وأن يعرين إن كسى الجواري ... فتنبو العين عن كوم عجاف «2» ولولا ذاك قد سوّمت مهرى ... وفى الرحمن للضعفاء كاف والأبيات فى غنى عن الشرح والتعليق.. فهى كما ترى من توهج العاطفة، وصدق الشعور، وقد جاءت نغما رائعا يأخذ بمجامع القلوب، ويستولى على مواطن الحبّ والرحمة والحنان.. وفى الشعر العربىّ كثير من مثل هذه المواقف التي تكشف عن تلك العواطف الرقيقة التي كان يحملها العربىّ لبناته، صغيرات وكبيرات. الفقر إذن، وما قد يقاسيه الأولاد من مسغبة قاتلة بيد الحرمان، هو الذي دفع ببعض العرب، إلى هذا الفعل المنكر، الذي كانوا يفعلونه، وأكبادهم تتمزق حسرة، وقلوبهم تتنزّى ألما، ولهذا جاء قوله تعالى: «خَشْيَةَ إِمْلاقٍ» كاشفا عن العلّة التي من أجلها كان يقتل العربي ابنه، أو أبناءه، أو يئد بنته أو بناته. وقد صحّح الله سبحانه وتعالى ما وقع فى تفكيرهم من خطأ، أدّى بهم إلى   (1) الرنق: العكر. (2) الكوم: جمع كوماء، وهى الناقة الفتية، والعجاف: جمع عجفاء، وهى الهزيلة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 481 هذا التفكير السقيم، وذلك السلوك المنحرف، فقال تعالى: «نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ» .. فهؤلاء الأولاد قد خلقهم الله، كما خلق آباءهم من قبل، وقد تكفّل بأرزاقهم كما تكفّل بأرزاق آبائهم، حتى كبروا وصاروا آباء.. فلم يقطعون على أبنائهم طريق الحياة؟ ولم لا يدعونهم يعيشون كما عاشواهم؟ إنّهم لا يرزقونهم، ولكن الذي يرزقهم ويرزق آباءهم- هو الرزّاق ذو القوة المتين.. الله ربّ العالمين.. وفى تقديم رزق الأبناء على الآباء ما يشير إلى أنهم جميعا على سواء فى الرزق عند الله، لا يملك هؤلاء، ولا هؤلاء رزقا لأنفسهم، وإنما يرزقون جميعا من فضل الله.. - وفى قوله تعالى: «إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً» تأثيم لهذا الفعل، وتجريم له، وتشنيع عليه، وأنه خطأ ارتكبه الآباء عن نيّة حسنة، ولكنه يحمل قدرا كبيرا من الشناعة والمنكر، فهو خطأ وخطء معا.. والخطء، هو الذنب، والخطيئة. قوله تعالى: «وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا» .. ومناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآية السابقة تضمنت فيما تضمنت نسبة الأبناء إلى الآباء.. وهذه النسبة لا تعرف إلا إذا كانت علاقة الرجل بالمرأة قائمة على أساس سليم، فلا يتصل الرجل بغير امرأته، ولا تتصل المرأة بغير زوجها..! فاتصال الرجل بغير امرأته، والمرأة بغير زوجها، فيه عدوان على هذه الحرمة التي يجب أن تقوم بين الزوجين.. ثم فيه من جهة أخرى، اختلاط للأنساب، وضياع للحقوق التي تقوم على هذه الأنساب، فلا تكون هناك صلة جامعة بين آباء وأبناء. والفاحشة، والفحش: المنكر، السيّء، القبيح. والوصف الملازم للزنا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 482 دائما، هو أنه فاحشة، حيث يطلّ منه هذا الوجه المنكر الكريه، الذي ينطق بالخيانة، والعدوان.. قوله تعالى: «وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً» .. بعد أن نهت الآية السابقة عن قتل الأولاد بيد الآباء، صيانة للنفس من حيث هى نفس، ورعاية لهذه الصلة الوثيقة، وتلك الرابطة القوية التي تربط بين الآباء والأبناء- جاءت هذه الآية ناهية عن قتل النفس- أىّ نفس- لتلك الاعتبارات التي تمسك يد الآباء عن قتل أبنائهم.. فالناس جميعا أبناء نفس واحدة، وإن تفرقوا شعوبا وقبائل، واختلفوا ألسنة وألوانا.. فكما تقوم بين الآباء والأبناء صلة الدم التي تحجزهم- أو من شأنها أن تحجزهم- عن قتلهم، كذلك تقوم صلة بين الإنسان وأخيه الإنسان، من شأنها أن تكفّ يده عن قتله.. - وفى قوله تعالى: «إِلَّا بِالْحَقِّ» قيد وارد على النهى المطلق، وهو أنه وإن كان للنفس الإنسانية هذه الحرمة التي تعصمها من القتل، فإن هناك بعض النفوس ترفع عنها هذه العصمة فتستحق القتل، وذلك حين يستخفّ صاحبها بنفس غيره، ويستبيح دمه.. هنا يكون القصاص، ويكون قتل القاتل، حقّا مشروعا.. فذلك هو العدل الذي إن لم يستقم ميزانه بين الناس على هذا الوجه، اضطرب أمنهم، وشاع الفساد فيهم.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ» وتقتل النفس كذلك، وقتلها حق، فى حال الكفر بعد الإيمان، والزنا مع الإحصان. فالكفر بعد الإيمان عدوان على الله، وإهدار لآدمية النفس التي لبست الإيمان، ثم خلعت هذا اللباس وارتدت الكفر.. إنها كانت حيّة بالإيمان، فأماتها صاحبها بالكفر، فكان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 483 الحكم عليها بالموت تحقيقا لأمر هى فيه، فعلا.. وكذلك الزاني المحصن، قد اعتدى على حقّ غيره، وغرس فى مغارسه، التي يستنبت منها حياة إنسانية مثل حياته. وفى قوله تعالى: «وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً» . - الذي قتل مظلوما، هو الذي قتل عدوانا وبغيا من غير جريرة استحق عليها القتل، وهو أن يكون قاتلا لنفس بغير حق.. والولىّ، هو من يكون إليه أمر القصاص من القاتل، سواءا كان قريبا، أم سلطانا.. والسلطان، هو سلطان الحق، الذي فى يد ولىّ المقتول على القاتل.. فهو بهذا الحق يقتل القاتل.. وليس لولىّ المقتول، أن يجاوز الحق الذي له على القاتل، فيقتل غير القاتل، أو يقتل مع القاتل غيره، كابن أو أخ.. كما أنه ليس له أن يمثّل بالقاتل.. وإنما هى ضربة بضربة..! فهذا هو الإمام علىّ- كرم الله وجهه- حين طعنه ابن ملجم- لعنه الله- هذه الطعنة الغادرة، استدعى أبناءه الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية- رضى الله عنهم- وأوصاهم فيما أوصاهم به، فقال: «إن عشت فأنا صاحب الحق، إن شئت أخذت بحقّى، وإن شئت عفوت، وإن متّ فضربة بضربة، ولا تمثّلوا» .. فالتمثيل بالقاتل هو من الإسراف فى القتل الذي تضمنه النهى فى قوله تعالى. «فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ» .. هذا، السلطان، الحاكم، هو ولىّ دم كل قتيل يقتل ممن هم تحت سلطانه.. وله أن يتولىّ قتل القاتل، أو أن يسلّمه إلى يد أولياء القتيل، ليقتلوه هم بأيديهم، شفاء لما فى أنفسهم من حزن على قتيلهم، ومن نقمة على قاتله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 484 قوله تعالى: «وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا» .. تنهى هذه الآية عن حرمة من حرمات الله، وهى مال اليتيم، التي هى أشبه بحرمة النفس، التي حرّم الله قتلها، إلا بالحقّ.. فمال اليتيم، قد حرّم الله سبحانه وتعالى أن يقربه أحد إلا بالتي هى أحسن، أي بما فيه إحسان إلى اليتيم، وتنمية لماله، وتثمير له.. وبهذا يستحق القائم على هذا المال أن يأكل منه، فى مقابل الجهد الذي بذل فيه.. «وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» (6: النساء) . - وفى قوله تعالى: «وَلا تَقْرَبُوا» تنبيه إلى هذا الخطر، الذي يتهدّد من يقرب مال اليتيم، ويطوف بحماه، حيث نوازع النفس إليه، ودواعى الطمع فيه، إذ كان ولا قدرة لصاحبه على دفع يد من يريده بسوء.. - وفى قوله تعالى: «وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا» هو إلفات إلى الأوصياء على اليتامى، وأن أموالهم هى أمانة فى يد هؤلاء الأوصياء، فهذا عهد أخذه الله عليهم وألزمهم الوفاء به.. وإن العبث بهذا المال، أو التفريط فيه، أو العدوان عليه- هو نقض لهذا العهد، وخيانة لتلك الأمانة. - وفى قوله تعالى: «إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا» تنويه بهذا العهد، وتشديد النكير على من يغدر به، إذ جاء النظم مصورا العهد، بتلك الصورة الحيّة العاقلة، التي ترى وتعقل ما كان من أصحابها من غدر أو وفاء.. فإن هى سئلت، أجابت، وكشفت عن حالها مع الغادرين أو الموفين! قوله تعالى: «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا» . القسطاس: الميزان، ويقول اللغويون والمفسرون، إن الكلمة فارسية معرّبة.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 485 وقد استعمل بمعنى العدل، كما فى قوله تعالى: «وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ» - ونحن نرى أنها عربية صميمة، فى بنائها، وفى ميزانها الصرفى.. وقد تصرّف القرآن الكريم فى هذه الكلمة على جميع الوجوه، فجاء منها بالفعل.. فقال تعالى: «وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» .. وبالمصدر فى قوله تعالى: «قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ» وباسم الفاعل فى قوله سبحانه: «وَمِنَّا الْقاسِطُونَ» .. وهكذا تصرّف القرآن بهذه الكلمة كما يتصرف فى كل كلمة عربية متمكنة فى عروبتها.. أما وزنها، فهو جار على وزن المصدر من الفعل الرباعي.. فقسطاس على وزن فعلال، من قسطس، مثل دحراج من دحرج، وزلزال من زلزل.. والتأويل: العاقبة، وهو ما يؤول إليه الأمر وما ينكشف مع الزمن منه.. والآية، تدعو إلى رعاية الحقوق، وقيامها على ميزان الحق والعدل، أخذا وعطاء.. والكيل والوزن، هما أكثر ما تقع الخيانة فيهما، ولهذا توعد الله سبحانه وتعالى الذين يعبثون بهما، ولا يرعون الأمانة فيهما، فقال تعالى: «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» .. بل إن الأمر لأكثر من هذا، فقد بعث الله نبيا كريما هو «شعيب» كانت رسالته قائمة على رعاية الكيل والميزان.. قوله تعالى: «وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا» .. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 486 اختلف النظم فى هاتين الآيتين عنه فى الآيات السابقة، حيث جاء الخطاب فيهما بلفظ المفرد، على حين كان الخطاب فى الآيات السابقة موجها إلى الجمع.. والسرّ فى هذا، هو أن المنهي عنه فى الآيات السابقة كان عن أمور لا تحقّق إلّا بأكثر من شخص، كقتل الأبناء، الذي هو فى أضيق صوره لا يتم إلا بين أب وابنه، وكقتل النفس، الذي لا يكون إلا بين قاتل ومقتول.. ومال اليتيم، الذي هو بين اليتيم والوصىّ عليه.. والزنا، الذي بين رجل وامرأة، وكذلك الكيل والميزان، ونحوهما.. إنها عمليات لا تتم إلا بين آخذ ومعط.. أما ما جاء فى قوله تعالى: «وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» .. فهو شأن من شئون الإنسان وحده، لا يكاد يطّلع عليه أحد سواه.. - ومعنى قوله تعالى: «وَلا تَقْفُ» أي لا تتّبع.. وأصله من القفو والقفا، وهو أن يتبع الإنسان خطو غيره، ويسير وراءه، أي يجىء من قفاه.. ومنه القافية فى الشّعر، لأنّها آخر البيت.. وفى الآية الكريمة دعوة آمرة، إلى إيقاظ مشاعر الإنسان، وتوجيه ملكاته إلى هذا الوجود، فلا يقول إلا عن علم، ولا ينطق إلا بما يمليه عليه عقله، ويوحى إليه به إدراكه.. فالآية الكريمة تنهى عن أن يكون الإنسان إمّعة، يتبع كل ناعق، ويجرى وراء كل داع، دون أن يكون له رأى فيما يعمل ويقول.. وهذا معناه تعطيل لمدركاته، وعدوان على إنسانيته بحرمانها من حقّها فى التزوّد بزاد العلم والمعرفة.. - وفى قوله تعالى: «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا» - إشارة إلى ما للسمع، والبصر، والفؤاد من قوة قادرة على اصطياد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 487 المعرفة، وتحصيل العلم.. إنها أجهزة قادرة على أن تمكّن للإنسان من أن يتهدّى إلى مواقع الخير، وأن يصل إلى مواطن اليقين من كل أمر يعرض له، إذا هو أحسن استعمال هذه الأجهزة، وأصغى لندائها.. إنها أجهزة عاقلة رشيدة، فى كيان الإنسان العاقل الرشيد، ولهذا جاءت الإشارة إليها بلفظ العقلاء: «أولئك» .. والفؤاد: هو القلب، وما يتصل به من قوى الإدراك والشعور. - وفى قوله تعالى: «كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا» - إشارة إلى أن الإنسان سيسأل عن تلك الجوارح وهذه القوى التي أمدّه الله بها، ليتعرف بها إلى الحق والخير، فإن هو عطلها أو وجهها إلى وجوه الشر والفساد، كان مسئولا عنها، محاسبا على تفريطه أو إفراطه فيها.. قوله تعالى: «وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا» .. هو دعوة إلى الإنسان فى ذات نفسه إلى أن يعرف قدره، ولا يجاوز حدوده.. فإذا كان فى الناس من يزرى بقدر نفسه، فلا يرى لها حقّا فى أن تأخذ مكانها فى الحياة، وموقفها مع الناس، ويرضى لنفسه أن يقاد فينقاد، دون أن يفكر أو يقدر.. فإن فى الناس من يذهب به الغرور بنفسه إلى حدّ يجعله يقيم لنفسه مقاما من مدّعيات وأباطيل، يطاول به السماء، ويتعالى به على العالمين.. وكلا الرجلين مذموم، مجانب لطريق الحق والهدى. والمحمود من الإنسان هو أن يأخذ طريقا وسطا.. فيستعمل قواه وملكاته بحكمة، واعتدال، ثم إذا بدا له أنه ممن آتاهم الله بصيرة نافذة، وعقلا راجحا، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 488 فلا يكن ذلك داعية له إلى التعالي على الناس، وإلى النظر إليهم معجبا بنفسه، مزهوّا بعلمه.. فإنه مهما بلغ من قوة وعلم، فإنه إنسان، وفى حدود البشرية ينبغى أن يعيش.. وإنه مهما بلغ من قوة، فلن يخرق الأرض بقدميه الواهيتين، إذ يضرب بهما وهو يسير فى الأرض مرحا.. وإنه مهما شمخ بأنفه، ونفخ فى أوداجه فلن يطاول الجبال.. فلم إذن هذا الضّرب على الأرض بالقدمين؟ ولم هذا التشامخ بالأنف والتطاول بالعنق؟ إن ذلك عناء لا جدوى منه، ولا طائل تحته! قوله تعالى: «كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً» . لفظ الإشارة «ذلك» مشار به إلى كل ما تقدم من منهيّات وأوامر.. وأن هذا الذي وقع النهى عليه هو السيّء، المكروه عند الله، يجب اجتنابه وحراسة الإنسان نفسه من أن يلمّ به.. قوله تعالى: «ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً» .. الإشارة «ذلك» إلى ما تحدثت به الآيات السابقة من منهيات ومأمورات، وهى من الحكمة التي أوحى الله سبحانه وتعالى بها إلى النبىّ.. وفى الخروج عليها مهلكة وضياع. - وفى قوله تعالى: «وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً» إظهار مزيد من العناية بهذا الذي أوحى به الله سبحانه وتعالى من الحكمة، وهو النهى عن الشرك بالله، إذ كان الشرك بالله- عصمنا الله منه- هو كبيرة الكبائر، لا يصلح لإنسان مع الشرك عمل أبدا.. وليس للمشرك مصير إلا النار. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 489 وفى توجيه الخطاب إلى النبي الكريم، تشنيع على الشرك، وتهويل لخطره، وأنه مطلوب من النبىّ- وهو من هو عند الله- أن يحرس نفسه منه.. ويتوقّى المواطن التي يجىء منها. فإذا كان هذا شأن النبىّ، وهو المصطفى من بين عباد الله، والمحفوف بألطاف الله ورحمته.. فكيف شأن الناس، وهم فى مواجهة هذا الداء الخطير؟ إنّهم فى حاجة إلى مراقبة شديدة، وإلى حراسة دائمة، من أن يندسّ إليهم هذا الداء، فى سرّ أو علن.. فما أكثر المسارب الخفيّة التي ينفذ بها الشرك إلى الناس.. الآيات: (40- 44) [سورة الإسراء (17) : الآيات 40 الى 44] أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) التفسير: قوله تعالى: «أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً» .. ذكرت الآية السابقة على هذه الآية، الشرك، والخطر الذي يتهدّد الناس الجزء: 8 ¦ الصفحة: 490 منه.. فناسب أن تجىء هذه الآية، لتضبط المشركين من أهل مكة، وهم متلبسون بشركهم بالله، وعبادتهم الملائكة واتخاذهم لهن ربّات، على حساب أنهن بنات الله! وفى هذا الاستفهام إنكار عليهم، وتوبيخ لهم أن يجعلوا لله البنات، على حين أنهم لا يرضون أن يولد لهم البنات.. فكيف يئدون البنات، ثم يعبدونهن؟ ثم كيف يجعلون لله البنات، ويجعلون لهم البنين؟ أهذا يتفق- حتى فى منطقهم- مع مقام الله الذي يعبدون بناته؟ إنّ أقل ما يقتضيه هذا المنطق أن يكون أبناء الله ذكورا، إذ كان الذكور عندهم فى مقام محمود محبوب! ولهذا جاء قوله تعالى: «أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى» (21- 22: النجم) .. منكرا عليهم هذه القسمة الجائرة، مسفّها أحلامهم الفاسدة، وتصوراتهم المريضة! - وفى قوله تعالى: «إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً» اتهام لهم بهذا القول المنكر الشنيع الذي يقولونه على الله سبحانه وتعالى.. ووراء هذا الاتهام إدانة، وعقاب راصد شديد! وأصفاه بالشيء: اختصه به، وجعله خالصا له.. وفى نسبة الإصفاء إلى الله: «أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ» إشارة إلى أن الله سبحانه هو الذي يهب لكم ما يهب من بنين، إنه لا يستقيم مع منطق أن يخصهم الله تعالى بالبنين، ثم يجعل لنفسه البنات؟ قوله تعالى: «وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً» .. التصريف: عرض الأمر على وجوه مختلفة، حتى يظهر ظهورا تاما، ويتضح وضوحا مبينا.. وفى القرآن الكريم معارض كثيرة للقضايا التي عرضها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 491 على العقل الإنسانى، حتى يراها على كل وجه من وجوهها، وذلك زيادة فى البيان، حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد هذا البيان المبين.. - وفى قوله تعالى: «لِيَذَّكَّرُوا» إشارة إلى الحكمة من هذا التصريف الذي جاء فى القرآن لآيات الله.. وذلك ليكون للناس منه عبرة وذكرى، حيث تلقاهم العبر، ناطقة الدلائل والشواهد.. - وفى قوله تعالى: «وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً» إشارة إلى ما فى الناس، وخاصة هؤلاء المشركين من قريش، من عناد، يعمى أبصارهم عن الحق، ويصمّ آذانهم عن الاستماع إلى آيات الله وكلماته.. فلا يبصرون شيئا، ولا يعقلون حديثا.. قوله تعالى: «قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا» .. فى هذه الآية ردّ على مفتريات المشركين، على الله، واتخاذهم آلهة يعبدونها من دونه، ويجعلونهم شركاء له، قائلين: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» . فالله سبحانه وتعالى- عند المشركين- هو إله مع آلهة، وربّ مع أرباب، وإن كان له المقام الأول فيهم.. وهذا ما لا يجعل لله السلطان المطلق فى هذا الوجود، بل يجعل لهذه الآلهة، وتلك الأرباب شأنا معه، كشأن الأمراء مع الملك مثلا.. الأمر الذي لا بد أن ينتهى يوما إلى منازعة وشقاق، بين هؤلاء الآلهة وبين الإله الأكبر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا» أي لو كان مع الله آلهة، لتطاولت أيديهم إلى صاحب العرش، ولنازعوه السلطان، فرادى أو مجتمعين.. وهل سلم صاحب سلطان من أن ينازعه فى سلطانه من هم دونه من أمراء، ووزراء؟ فكيف يكون مع الله سبحانه وتعالى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 492 آلهة أخرى ثم لا ينازعونه سلطانه؟ وهل إذا وقع تنازع فى هذا الملكوت، يستقيم له نظامه هذا الذي يقوم عليه؟ قوله تعالى: «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً» .. هو تنزيه لله، وتقديس لمقامه أن يقال فيه هذا القول المنكر، وهو ما يقوله المشركون، من أن لله أبناء، أو بنات، هن آلهات معه.. قوله تعالى: «تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً» . إن السموات السبع والأرض ومن فيهن من مخلوقات ناطقة أو صامتة، كبيرة أو صغيرة كلها، تسبّح بحمده، تسبيح ولاء وخضوع، كما يقول جلّ شأنه: «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» (93: مريم) وكما يقول سبحانه عن الملائكة: «وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ» (26- 27: الأنبياء) . - وقوله تعالى: «وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» .. أي إن هذه العوالم المبثوثة فى السموات والأرض، تسبّح لله تسبيحا لا يفقهه إلا العالمون، الذين يرون فى تجاوب هذا الوجود، وفى خضوعه للسنن التي أجراه الله عليها، تسبيحا وولاء، وعبودية خالصة لله ربّ العالمين.. ففى التعبير بكلمة «تفقهون» إشارة إلى أن هذا التسبيح لا يراه ولا يدرك معناه إلا أهل الفقه، الذي اختصّ به الراسخون فى العلم. - وفى قوله تعالى: «إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً» إشارة إلى تلك المقولات الضّالة التي يقولها المشركون فى الله سبحانه وتعالى، وأن الله سبحانه وتعالى، قد أخذهم بحلمه، فلم يعجّل لهم العقاب، بل أفسح لهم فى الأجل، ومدّ لهم فى العمر، حتى يتاح لهم إصلاح ما أفسدوا، ويرجعوا إلى الله، ويستقيموا على طريق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 493 الحق، حيث مغفرة الله الواسعة التي تظلل بجناحها التائبين اللائذين بجناب الله، الطامعين فى رحمته. الآيات: (45- 47) [سورة الإسراء (17) : الآيات 45 الى 47] وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) التفسير: قوله تعالى: «وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً» .. الواو هنا للاستئناف، والآية حديث مستأنف، يكشف عن حال المشركين، وهم فى حال يستمعون فيها إلى النبي، وهو يقرأ القرآن.. إن الله سبحانه وتعالى قد جعل بينهم وبين النبىّ حجابا مستورا، فلا يصل شىء مما يقرأ من القرآن إليهم، ولا ينفذ إلى قلوبهم.. - وفى قوله تعالى: «لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» إشارة كاشفة عن الداء الذي يسكن إلى كيان المشركين، ويفسد عليهم مدركاتهم وتصوراتهم وإيمانهم بالله. إنهم لا يؤمنون بالآخرة، ولا يرجون لقاء الله.. ومن هنا، كانت الصلة بينهم وبين الله قائمة على هذا الضلال والفساد.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 494 - وفى قوله تعالى: «حِجاباً مَسْتُوراً» إشارة إلى أن هذا الحجاب، شىء معنوى، غير محسوس، لا يرى، فهو مستور عن نظر القوم.. إنه حجاب مضروب على آذانهم فلا تسمع، وعلى قلوبهم فلا تعقل. قوله تعالى: «وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً» .. هو بيان لهذا الحجاب المستور، الذي جعله الله سبحانه وتعالى بين المشركين وبين النبىّ، وهو يقرأ القرآن، ويرفع منه للناس معالم الهدى.. فهؤلاء المشركون قد جعل الله على قلوبهم أكنة، أي أغطية كثيفة، أشبه بالجحر الذي يستكنّ فيه الحيوان، ويعتزل فيه العالم الخارجي، فلا يرى أحدا، ولا يراه أحد.. كذلك جعل على آذانهم «وقرا» أي ثقلا فى السّمع، فلا تسمع شيئا.. فقد يحتجب الحيوان داخل كنّه عن العالم الخارجي، ولكن يظل مع ذلك متصلا به عن طريق السّمع.. أما هؤلاء المشركون، فقد أخذ الله سمعهم وأبصارهم، وختم على قلوبهم.. فهم أموات غير أحياء، وإن خيل إليهم أو للناس أنهم أحياء.. يسمعون، ويبصرون، ويعقلون! - وفى قوله تعالى: «وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً» - إشارة إلى ما ركب المشركين من ضلال، فى تصورهم لمقام الألوهية.. فهم يقبلون الاستماع إلى أي حديث يذكر فيه الله مع الآلهة التي يعبدونها.. أما إذا ذكر الله وحده فى قرآن أو غيره، فذلك حديث بغيض إليهم، يلقونه منكرين، بل مذعورين، إذا وقع على آذانهم: «وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً» أي صدموا به، فارتدوا على أدبارهم كما ترتدّ الكرة، اصطدمت بحائط! قوله تعالى: «نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» .. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 495 فى الآية الكريمة، تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين، الذين يستمعون إلى القرآن، بقلوب مريضة، ونيّات خبيثة، منعقدة على الكيد، لا تبتغى بهذا الاستماع طلب هدى، أو التماس حق.. وإنما غايتها اصطياد المعاثر، والوقوع على ما يغذّى ضلالهم، ويقيم لهم حجة على هذا الضلال. - وفى قوله تعالى: «بِهِ» إشارة إلى تلك الأجهزة الفاسدة التي صحبوها معهم، ليستمعوا بها إلى القرآن.. فهذا الذي يستمعون به من أجهزة، إن هو إلا قلوب مريضة، وطوايا خبيثة، مبيّتة للشر، راصدة للعدوان! - وفى قوله تعالى: «إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى» فصح لهؤلاء المشركين، وهم يستمعون إلى القرآن.. إنهم يستمعون إليه متلصصين، بعيدا عن أن يراهم أحد.. حيث تقع لآذانهم كلمات الله، فيتناجون فيما بينهم بها، ويبحثون عما يقولونه من زور وبهتان فيها.. ثم تنتهى بهم تلك المناجاة إلى هذا الحكم الفاسد، الذي يصدرونه على القرآن، وعلى النبىّ لذى يتلو هذا القرآن فيقولون: «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» أي إن اتبعنا هذا الرجل فلن نتبع «إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» قد مسّه طائف من الجنّ، فاضطرب عقله، واحتلّ تفكيره، وأصبح يهذى بهذا القول الذي يردّده، ولا يملّ ترديده.. «إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ» (25: المؤمنون) . الآيات: (48- 52) [سورة الإسراء (17) : الآيات 48 الى 52] انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 496 التفسير: قوله تعالى: «انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا» .. الأمر هنا «انظر» هو إلفات للنبىّ، ولكلّ مؤمن، أن ينظر فى تلك المقولات التي يقولها المشركون، وإلى تلك الأمثال التي يضربونها، ويتحدون منها حجة على إنكار البعث.. وقد كانت تلك الأمثلة التي ضربوها مما أملته عليهم أهواؤهم الفاسدة، وعقولهم المريضة- كانت سببا فى أن ضلّوا هذا الضلال، الذي ألقى بهم فى متاهات لا يستطيعون الخروج منها، ولا يجدون فيها من يدلّهم على طريق يسيرون فيه، حتى فى وسط هذا الضلال.. إنهم فى حيرة مطبقة، يدورون فيها حول أنفسهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا» حيث نفى الاستطاعة المطلقة عنهم، إلى التعرّف على أي طريق.. ولو كان من طرق الضلال.. وقدّم الأمر بالنظر إلى تلك الأمثال التي ضربوها، على هذه الأمثال، حتى يتهيأ الناظر إليها، ويخلى نفسه من كل نظر إلى غيرها.. وذلك لما فيها من فتنة وضلال.. الأمر الذي يدعو إلى إمعان النظر فيها، حتى يتوقى الناظر إليها ما فيها من شرّ مستطير، وخطر داهم.. قوله تعالى: «وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً» هذا هو المثل الذي ضربوه.. وهو مثل واحد، وقد سمّى «أمثالا» لأنه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 497 يحوى منكرا غليظا، تتولد منه منكرات.. إذ هو ينكر البعث أولا، وينكر قدرة الله ثانيا، ثم يتولّد من هذا وذاك ما يتولّد، من كفر، وضلال، وشرك بالله ثالثا والاستفهام هنا، استفهام إنكارى.. ينكرون فيه أن يبعثوا، بعد أن تبلى أجسادهم وتصير ترابا. والرّفات: العظام المتحلّلة، التي ضاعت معالمها، وصارت ترابا فى التراب.. قوله تعالى: «قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ.. فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً» .. ينغضون إليك رءوسهم: أي يحركونها فى إنكار، وإباء، وتكرّه.. شأن من يأخذ دواء مرا، فيأتى بهذه الحركة الجنونيّة برأسه، من غير وعى! والآية تردّ على المشركين هذا الضلال، الذي ضربوا له مثلهم هذا.. إنهم يستنكرون أن يبعثهم الله بعد أن تبلى عظامهم، وتتحلل أجسامهم.. فدفع الله سبحانه مثلهم هذا بمثل هو أشدّ إنكارا عندهم للبعث، فقال تعالى: «قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ» .. أي كونوا على أية صفة هى أبعد وأغرب من صفتكم التي تكونون عليها بعد الموت.. كونوا حجارة جامدة، لا صلة بين الحياة وبينها، أو حديدا، أصلب من الحجارة، وأبعد منها نسبا إلى الحياة.. أو كونوا أي خلق آخر يكبر فى صدوركم، ويكون أبعد من الحجارة والحديد استحالة فى بعث الحياة فيه.. كونوا عدما مطلقا.. فإن قدرة الله سبحانه وتعالى لا يعجزها شىء.. وإنكم إذا أنكرتم هذا، وقلتم: من يبعثنا إذا صرنا على هذه الحال أو تلك، فهذا هو الجواب: «قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» إنه سبحانه، قد خلقكم من تراب وفطركم منه، أي أنبتكم كما ينبت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 498 النبات، الذي يفطر الأرض، أي يشقّ وجهها.. وإذا قلتم فى إنكار: «متى هو؟» أي متى هذا البعث؟ فهذا هو الجواب أيضا: «عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً» . إنكم لا تعلمون وقته، ولكنه آت لا ريب فيه، وربما كان ذلك قريبا، أقرب مما تقدّرون وتتصورون.. «وعسى» فعل يفيد الرجاء، وتوقع الحدوث لما وقع عليه.. وهذا الرجاء إنما هو بالنسبة إلى المخاطبين.. وأنهم فى موقف الانتظار لهذا الأمر لذى لن يطول انتظارهم له.. قوله تعالى: «يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا» .. هو بيان لميقات هذا البعث الذي سأل المشركون عنه هذا السؤال الإنكارى، بقولهم: «متى هو؟» .. إنه اليوم الذي ينتظر أمر الله، ودعوته الموتى من قبورهم، كما يقول سبحانه: «ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ» (25: الروم) - وفى قوله تعالى: «فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ» - ما يسأل عنه، وهو: كيف يستجيبون لدعوة الله لهم من قبورهم، بالحمد، وقد جاء فى قوله تعالى فى سورة يس «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟» فهم ينادون هنا بالويل، فكيف يستجيبون هناك بالحمد. والموقف هو هو؟ والجواب على هذا- والله أعلم-: أن هذا وذاك وإن كان منهم فى يوم البعث، إلا أن كلّا منهما فى موقف غير الموقف الآخر.. فهم حين يبعثون من قبورهم، يحمدون لله، على أن أحياهم بعد موتهم، فالحياة نعمة تستوجب الحمد والشكر لله ربّ العالمين.. ولكنهم حين يشهدون أهوال هذا اليوم، ينادون بالويل، إذ يرون بأعينهم المصير الذي هم صائرون إليه، كما يقول سبحانه: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 499 «وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً» (53: الكهف) .. ويصحّ أن يكون هذا الحمد على سبيل القهر، إذ لا يملكون من أنفسهم شيئا، فهم والحال كذلك- مسلمون، مستسلمون، يحمدون الله على السّرّاء والضرّاء.. - وفى قوله تعالى: «وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا» - إشارة إلى هذه الدنيا، ومتاعها القليل الزائل.. فإنه مهما عاش الإنسان فيها، ثم طويت صفحته منها، وجد أن ما عاشه فى هذه الدنيا لم يكن إلا ساعة من نهار، كما يقول سبحانه وتعالى: «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها» (46: النازعات) وكما يقول جل شأنه: «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ» (35: الأحقاف) . الآيات: (53- 57) [سورة الإسراء (17) : الآيات 53 الى 57] وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 500 التفسير: قوله تعالى: «وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً» . الواو، فى قوله تعالى: «وَقُلْ لِعِبادِي» للاستئناف، وما بعدها كلام مستأنف، موجّه إلى «عباد الله» .. وعباد الله، هم الذين أضافوا أنفسهم إلى الله، فقبل الله سبحانه وتعالى ضيافتهم، وأضافهم إليه، إضافة تكريم هكذا: «عبادى» .. حتى لكأن غيرهم من المشركين والضالين، ليسوا عباده، الذين يستحقون إضافتهم إليه سبحانه، وإن كانوا عبيدا له: «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» (93: مريم) . - وقوله تعالى: «الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» أي القولة «الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» ، وهى الإيمان بالله واليوم الآخر، على حين قال المشركون والكافرون القولة السيئة، قولة الكفر بالله وباليوم الآخر.. فهذه القولة من عباد الله، هى اعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، وذلك هو الذي يؤهّلهم لهذا المقام الكريم، فيضيفهم المولى جل وعلا إليه: «عبادى» وقوله تعالى: «إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ» أي يفسد بينهم، ويعمل على إضلالهم، وعباد الله هم الذين يحرسون أنفسهم منه، ويردّون كيده إلى نحره، كما يقول سبحانه: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» (42: الحجر) . قوله تعالى: «رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا» . هذه الآية ردّ على اعتراض، قد يدور فى بعض الرءوس، فيقول قائل: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 501 لم اختار الله أناسا من خلقه، فأضافهم إليه. وجعلهم عبادا له؟ ولماذا لم يضف الناس جميعا إليه، وكلّهم عبيده، وصنعة يده؟ وقد جاء الجواب: «رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ» إنّه كما خلقكم بيده، أقامكم بعدله وحكمته.. كلّ فى مكانه الذي أراده له.. «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (14: الملك) . إنه ليس لمخلوق شىء مع الخالق.. «إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ» أيها المخلوقون، فيجعلكم من عباده، وأهل طاعته «أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ» فيضلكم، ويختم على قلوبكم.. وليس للمرحومين من الناس، ولا للمعذبين منهم مذهب إلى غير هذا المقام الذي أقامهم الله فيه، وأرادهم له: «لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ» (23: الأنبياء) . - وفى قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا» إشارة إلى أنه ليس إلى النبىّ أن يغيّر من قدر الله فى الناس شيئا.. فمن قدّر عليه الشقاء فهو من أهل الشقاء، لا يتحول عنه أبدا، ومن كتبت له السعادة فهو من السعداء لن يدفعها عنه أحد.. وليس الرسول وكيلا على الناس، يدبّر أمرهم، ويتسلط على مصيرهم، وإنما هو بشير ونذير، يؤذّن فى الناس بكلمات الله وآياته.. كما يقول سبحانه: «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ» (7: الرعد) . قوله تعالى: «وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً» . فى الآية الكريمة ردّ على شبهة قد تقع لبعض الناس من قوله تعالى: «رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ» .. إذ قد يسأل بعض الناس: لماذا كان هذا الحكم واقعا فى أبناء آدم، حيث يرحم بعضهم ويعذّب بعضهم؟ فكان الجواب: إن ذلك هو حكم لله فى المخلوقات جميعا، فى السموات وفى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 502 الأرض، حيث يأخذ كل مخلوق حظّا مقدورا له.. فيجىء على صفة خاصة، وفى وقت معين، ومكان محدود.. فيكون فى عالم الأرض، أو السماء، ويكون نباتا، أو حيوانا أو جمادا، ويكون كوكبا أو ملكا.. وكلّ مخلوق من تلك المخلوقات، هو فى عالمه، وفى جنسه، آخذ وضعا خاصا به، لا يشاركه فيه غيره من عالمه، أو جنسه! تلك هى سنة الله فى خلقه: الإبداع فى الخلق، والتّباين بين المخلوقات.. ثم بيّنت الآية بعد هذا صورة من صور التباين والاختلاف بين جماعات، هم من صفوة خلق الله، وهم الأنبياء.. فالأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- وهم فى هذا المقام الكريم، وفى تلك المنزلة العالية- ليسوا على درجة واحدة، وفى مقام واحد.. وإنما هم درجات عند الله.. وإن كانوا جميعا فى مقام القرب، وفى منازل الرضوان.. وهنا سؤال، وهو: لماذا اختصّ داود عليه السّلام بالذّكر، هو والزبور الذي آتاه الله إياه؟ وداود- عليه السلام- لم يكن فى منزلة إبراهيم، خليل الله، ولا موسى كليم الله، ولا عيسى كلمة الله، ولا محمد خاتم رسل الله. ولم يكن الزّبور فى منزلة التوراة أو الإنجيل أو القرآن.. فما تأويل هذا؟ الجواب على هذا- والله أعلم- أن داود عليه السلام، هو النبىّ الذي جمع الله سبحانه وتعالى له الملك والنبوة معا، كما جمعهما لابنه سليمان من بعده.. أي أن الله قد جمع له الدنيا والآخرة جميعا، فآتاه للدنيا خير ما فيها، وهو الملك، وآتاه للآخرة خير مالها، وهو النبوّة.. ولهذا يقول تبارك وتعالى مخاطبا إياه: «يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» .. ولهذا أيضا لم يكن داود عليه السلام صاحب كتاب يحمل شريعة، وإنما كان الزّبور الذي آتاه الله إياه، صلوات وتسابيح، يمجّد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 503 فيها الله سبحانه، ويشكر له.. إذ أن هذا الملك الذي فى يده يحتاج- كى يستقيم على ميزان الحق والعدل- إلى اتصال دائم بالله، حتى يدفع بهذا الاتصال ما يعرض له من شهوة السلطان، ومغريات الملك.. وعلى هذا، فاختصاص «داود» بالذكر هنا، إنما هو لبيان أن التفاضل الذي يقوم بين الموجودات كلها، هو قائم بين الأنبياء والرسل.. فمنهم من جعله الله سبحانه نبيا ورسولا، ومنهم من جعله نبيا ولا رسالة له، إلا فى خاصة نفسه وأهله، ومنهم من جعله رسولا إلى قرية، أو أمة، ومنهم من جعله رسولا إلى الناس كافة، وذلك هو مما اختص به «محمد» - صلوات الله وسلامه عليه- من بين رسل الله جميعا.. وفى ذلك يقول الله تعالى: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ.. مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» (253: البقرة) وداود- عليه السلام- قد جمع له حظ الدنيا والآخرة جميعا.. فهو ملك ليس خالص الملك، إذ يقوم على ملكه سلطان النبوة، وهو نبىّ غير خالص النبوّة، إذ يقوم على سلطان نبوته سلطان ملكه.. فهو نمط وحده بين أنبياء الله، وفى ملوك الأرض. قوله تعالى: «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا» .. هو تهديد للمشركين، ووعيد لهم، وتسفيه لعقولهم، إذ يعبدون من دون الله مالا يملك لهم ضرّا ولا نفعا.. فهاهم أولاء وتلك هى معبوداتهم التي يعبدونها، فليدعوها لضرّ مسّهم، أو لبلاء وقع بهم، فهل تستجيب لهم آلهتهم تلك؟ وهل يسمعون أو يعقلون؟ فكيف إذن يتعاملون مع من لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنهم شيئا؟ ولكنه السّفه والضلال. قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 504 أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً» .. المشار إليه هنا باسم الإشارة «أولئك» - هم المؤمنون الذين يعبدون الله، إلها سميعا بصيرا مجيبا.. وهؤلاء المؤمنون، هم فى مقابل أولئك المشركين الذين يدعون خشبا مسنّدة، أو أحجارا منحوتة.. لا تسمع ولا تبصر.. وشتان بين دعاء ودعاء! وفى الإشارة إلى المؤمنين من غير ذكرهم، تنويه بهم، ورفع لمنزلتهم، وأنهم أعرف من أن يعرّفوا.. - وفى قوله تعالى: «يَدْعُونَ» وفى حذف المفعول به، إشارة إلى أنهم يدعون من ينبغى أن يدعى، إذ لا مدعوّ- على الحقيقة- غيره، وهو الله سبحانه وتعالى.. - وفى قوله تعالى: «يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ» بيان لما يدعو به المؤمنون ربّهم، وهو أنهم يدعونه مسبّحين بحمده، شاكرين لفضله.. فهذا هو دعاء المؤمنين: عبادة، وصلاة، وتسبيح.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» (28: الكهف) .. وابتغاء الوسيلة، طلبها، وإدراكها.. والوسيلة ما يتوسّل به، ويتقرب به إلى الله، من عبادات وقربات. - وفى قوله تعالى: «أَيُّهُمْ أَقْرَبُ» إشارة إلى محذوف، تقديره: أيهم أقرب إلى ربّه أكثر توسلا إليه بالطاعات والعبادات.. إذ أنه كلما قرب العبد من ربّه، اشتدت خشيته له، لازدياد معرفته بجلاله، وعظمته، فيشتدّ حرصه على مرضاته، والتفانى فى العبودية والعبادة، ليزداد من الله قربا، كلما ازداد طاعة وخشوعا وعبودية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 505 - وقوله تعالى: «وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ» هو بيان للدوافع التي تدفع المؤمنين إلى دعاء الله سبحانه، وإلى ابتغاء الوسيلة إليه، وهو الطمع فى رحمته، والخوف من عذابه.. وتلك هى الحال التي ينبغى أن تقوم عليها الصلة بين العبد وربّه وهى منزلة بين الرجاء والخوف.. فالرجاء يدفع المؤمن إلى الإحسان، والتزام الطاعات.. والخوف، بحرسه من العدوان على محارم الله، ومواقعة الآثام والمعاصي. - وفى قوله تعالى: «إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً» تعقيب على قوله سبحانه: «وَيَخافُونَ عَذابَهُ» .. وهو أن هذا العذاب شديد، حيث يقع بأهله، لا يدفعه عنهم من الله دافع، وهو لهوله وشدته، يحذره ويتوقى الدنوّ منه، كلّ من يطلب الأمن والعافية لنفسه. ولم يأت فى النظم القرآنى تعقيب على قوله تعالى: «وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ» كما جاء التعقيب على قوله سبحانه: «وَيَخافُونَ عَذابَهُ» .. لأن أكثر ما يؤتى النّاس من استخفافهم بعذاب الله، أو غفلتهم عنه.. أمّا الرجاء فى مغفرته ورحمته.. فالناس جميعا واقفون على باب الرجاء، حتى أن أكثرهم عصيانا لله، ومحدّة له يتخذون من الطمع فى رحمة الله، مدخلا يدخلون به على المعاصي فى جرأة فاجرة، حتى ليقول صاحب الجنتين الذي كفر بربّه: «وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً» (36: الكهف) .. وهذا مكر مع الله، وتغرير بالنفس.. إن من يرجو ويطمع فى رحمته، يجب أن يكون ممن يخشاه، ويتوقّى محارمه.. فإذا زلّ، كان طمعه فى الله قائما على منطق.. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» .. (56: الأعراف) هذا، وفى الآية الكريمة وجه آخر.. وهو أن المشار إليه فى قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ» هم المعبودون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 506 الذين كان يعبدهم المشركون، من ملائكة وغيرهم، من عباد الله الصالحين.. ويكون قوله تعالى: «يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ» هو خبر لقوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ» .. أي أن هؤلاء الذين يعبدهم المشركون من دون الله، هم عباد من عباد الله المؤمنين به، يبتغون رحمته ويتخذون الوسائل إلى مرضاته بالطاعات والعبادات، وهم أبدا على رجاء فى رحمته، وخشية من عذابه.. كما يقول سبحانه وتعالى فيهم: «يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» (50: النحل) وكما يقول جلّ شأنه: «وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ» (19- 20: الأنبياء) . الآيات: (58- 60) [سورة الإسراء (17) : الآيات 58 الى 60] وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60) التفسير: قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً» . «إن» حرف يفيد النفي.. بمعنى «ما» أي: ما من قرية إلا نحن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 507 مهلكوها قبل يوم القيامة.. فهذا حكم الله فى عباده.. «إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ» (29: يس) . وإهلاك ما يهلك الله من القرى، هو تركها للزّمن، يفعل فيها ما يفعل فى الأحياء، فإذا عمارها خراب، وإذا أهلها تراب فى التراب.. كما يقول سبحانه: «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» (88: القصص) . أما عذاب ما يعذّب من القرى، فهو ما يحلّ بتلك القرى من نقم الله، فيأخذها بما أخذ به القرى الظالمة، كقرى عاد، وثمود، وقوم لوط، حيث أهلكها الله سبحانه مرة واحدة، بما سلط عليها من عذاب- وقوله تعالى: «كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً» تقرير لحكم الله فى خلقه.. وهو أن ذلك مما قضى الله به فى أم الكتاب، وجرى به القلم وسطّره فى اللوح المحفوظ.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» (22: الحديد) . وفى هذا، إنذار لمشركى قريش، ولقريتهم التي تقف من النبىّ هذا الموقف العدائى، الظالم.. فتؤذى رسول الله، وتصدّ الناس عن سبيل الله.. إن هذه القرية لن تفلت من هذا المصير الذي تصير إليه القرى جميعا.. فإذا لم يأخذها الله سبحانه وتعالى ببأسه، ويعجّل لها العذاب، أخذها بسنته فى خلقه، فابتلعها باطن الأرض فيما ابتلع قبلها من قرى وأمم! قوله تعالى: «وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً» .. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 508 فى هذه الآية ردّ على مقترحات المشركين التي كانوا يقترحونها على النبي، وهى أن يأتيهم بآية كما أرسل الأولون إلى أقوامهم، وجاءوهم بآيات ماديّة.. كعصا موسى، ويد عيسى، وناقة صالح، وطوفان نوح! فهذه الآيات، التي يقترحها المشركون، قد جاءت إلى أقوام مثلهم، فكفروا بها، ولم يروا فيها الدلائل التي تدلّهم على الله، وتهديهم إلى الإيمان به.. فكان أن أخذهم الله ببأسه، وعجّل لهم العذاب. وهذا هو السبب الذي من أجله، لم يجىء الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- إلى قومه بآية كتلك الآيات.. لأنها كانت بلاء على من جاءت إليهم ولم يؤمنوا بها، ولن يكون حال هؤلاء المشركين مع أيّة آية يأتيهم بها النبي، بأحسن من حال الذين سبقوهم.. والله سبحانه وتعالى يقول عن هؤلاء المشركين: «وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ» (14- 15: الحجر) . - وفى قوله تعالى: «وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً» وفى وصفها بأنها مبصرة إشارة إلى أنها كانت آية واضحة، تعيش فى النّاس، وتتمشّى بينهم، يمرّون بها مصبحين وممسين.. وليست كعصا موسى، ولا يد عيسى، فكلتاهما تظهر المعجزة فيها بإذن من صاحبها، ثم تختفى، دون أن يتاح للناس تقليبها، وترديد النظر فيها.. وهذا هو بعض السرّ فى اختصاص ناقة صالح بالذكر هنا، إنها كانت تعيش مع الناس، بين سمعهم وبصرهم.. - وقوله تعالى: «فَظَلَمُوا بِها» إشارة أنها كانت سببا فى أن اعتدوا عليها، فأصبحوا آثمين، ظالمين.. فحقّ عليهم العذاب. - وقوله تعالى: «وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً» أي ما نبعث بهذه الآيات الجزء: 8 ¦ الصفحة: 509 المادية إلا لتكون نذر هلاك وبلاء لمن تأتيهم.. لأنه إذا لم يؤمن بها القوم المرسل بها إليهم- وهيهات أن يؤمنوا- كان لا بد أن يقع العذاب بهم، ويصبحوا فى الهالكين.. فمن رحمة الله بهذه الأمة، أن لم تأتها الدعوة إلى الله بين يدى آية مادية.. فإنه لو حدث هذا، لكان فيه القضاء على أهل مكة التي طلعت منها شمس الدعوة الإسلامية، ثم لا نقطع ما بين النبىّ وقومه الذين يدعوهم إلى الله، إذ لم يكن له- والأمر كذلك- قوم.. وبهذا تطوى الدعوة كتابها، وينسحب الرسول من الميدان..! ولكن الله بالغ أمره.. فجاءت الدعوة الإسلامية على هذا الأسلوب، لتعيش فى الناس، ما دام للناس حياة فى هذه الحياة! قوله تعالى: «وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً» . فى هذه الآية أمور: - أولها: قوله تعالى: «وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ» «إذ» هنا ظرفية، تشير إلى وقت قيل فيه هذا القول للنبىّ. فمتى كان ذلك؟ وما هو القول الذي قاله سبحانه وتعالى للنبىّ؟ وقيل هذا وذاك.. ما معنى الإحاطة بالناس؟ وما المراد منها؟ إحاطة الله بالناس، علمه بهم، علما محيطا، كاشفا لكل شىء منهم.. وإذن فكل آية فى القرآن جاءت تحدّث عن علم الله، صالحة لأن تكون هى هذا القول الذي قيل للنبىّ، والذي دعى هنا إلى تذكّره.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 510 وأقرب آية نجدها هنا، هى قوله تعالى: «وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» وقد ذكرت قبل هذه الآية بثلاث آيات.. فتكون إذن هى الآية المقصودة، ويكون وقتها معلوما للنبىّ! - ويكون معنى قوله تعالى: «وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ» هو ردّ على المشركين الذين يقترحون الآيات المادية.. فهذه الآيات إنما ينزلها الله حسب مشيئته، وبما يقضى به علمه فى عباده. - ثانيهما: قوله تعالى: «وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ» ما هى الرؤيا؟ وما الفتنة التي فتن بها الناس منها؟ اختلف فى الرؤيا التي أريها النبىّ هنا.. وهل هى «الإسراء» ؟ أم أنها الرؤيا التي رآها وهو فى مكة من أنه سيدخل المسجد الحرام؟ أم أنها الرؤيا التي أريها فى مكة أيضا من أنه سيكون بينه وبين قريش حرب، وأن القوم سيهزمون؟. وكان فيما نزل من القرآن المكي قوله تعالى: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ» حتى ليروى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه كان يقول: «كنت لا أدرى أي الجمع يهزم، فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ» .. أي أنه عرف أن هذه الآية قد جاء يوم بدر بتأويلها.. ولا يعترض على الرأى الأول بأن «الرؤيا» تشير إلى أن الإسراء كان رؤيا منامية، مع أن الرأى المعوّل عليه أنها كنت رؤية اليقظة.. ذلك أن الرؤيا تستعمل فى اللغة بمعنى الرؤية.. وخاصة إذا كانت الرؤية بالليل، كالسير فإنه إذا كان فى الليل سمّى سرى، مع أنه فى حقيقته سير. أما الفتنة التي فتن بها الناس من هذه الرؤيا، فقد ارتدّ بعض ضعاف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 511 الإيمان من المؤمنين، بعد الإسراء.. كما أن رؤياه صلّى الله عليه وسلّم دخول المسجد الحرام، كانت مثار اضطراب وبلبال بين المسلمين، حين جاء النبىّ بالمسلمين معتمرا قبل الفتح فردّته قريش، وعقد صلح الحديبية بينه وبينها.. وكذلك الشأن فى رؤياه- صلّى الله عليه وسلّم- أنه سينتصر على قريش فى أول معركة معها.. والرأى الراجح أن «الرؤيا» هى الإسراء، وقد عرفت الاعتراض على هذا الرأى، وردّنا عليه. - وثالثها: قوله تعالى: «وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ» . ما الشجرة الملعونة فى القرآن؟ ولم لعنت؟ ثم لم كانت فتنة؟ لم يذكر القرآن الكريم، شجرة موصوفة بتلك الصفة، وهى اللعنة.. ومن هنا ذهب المفسّرون مذاهب شتّى فى هذه الشجرة. والذي نتخذه دليلا فى بحثنا عن تلك الشجرة، أنها ذات صلة بقريش، وأنها مثار فتنة للمشركين.. وعلى هذا، فإنا نجد فى القرآن الكريم شجرة ذكرت فى سورة «الصافات» وهى من القرآن المكي، وقد تهدّد بها الله سبحانه وتعالى، المشركين، وأذاقهم طعامها النكد، فى هذه الدنيا، قبل أن يملئوا منها بطونهم فى جهنم، فقال تعالى: «أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ» (62- 68: الصافات) . وفى سورة الواقعة، وهى مكية أيضا، جاء قوله تعالى: «ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 512 لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ» (51- 56: الواقعة) وفى سورة الدخان، وهى مكية أيضا، جاء قوله تعالى: «إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ» (43- 46) . فهذه الشجرة قد ذكرها الله سبحانه وتعالى فى القرآن المكي، وعرضها فى هذه المعارض، مهددا بها المشركين، متوعدهم بها، مذيقهم طعامها الذي يغلى فى البطون كغلى الحميم. وقد كان المشركون، يستمعون إلى هذا القرآن، ويتناجون بما تملى لهم أهواؤهم وضلالاتهم فيه، كما يقول الله سبحانه وتعالى: «نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى» (47: الإسراء) . وقد كانت هذه الشجرة مثار استهزاء وسخرية فيما بينهم، كما أنها كانت مادة للعبث منهم بالمسلمين، وبمعتقدهم فى صدق الرسول، الذي يقول لهم مثل هذا القول.. إذ كيف يقول «محمد» بأن النار التي سيعذّب فيها من لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، هى جحيم، وأنّها نار تلظى، وقودها الناس والحجارة- كيف يقول هذا، ثم يقول إن هناك شجرة أو أشجارا من زقّوم تطلع فيها، ثم تثمر ثمرا يأكله المعذّبون بتلك النار؟ أهذا قول يتفق أوله مع آخره؟ النار التي تأكل كل شىء، تصلح لأن تكون مغرسا ومنبتا لشجر؟ وأكثر من هذا، فقد بدا لبعض الذين سفهوا أنفسهم من هؤلاء المشركين، أن يتخذوا من هذا الوعيد الذي توعدهم الله به، مادة للتسلية، والعبث، إمعانا فى الاستهزاء والسخرية، ومبالغة فى التكذيب والتحدي.. فمن ذلك ما روى عن أبى جهل أنه كان يقول: «هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يقول ينبت فيها الشجر؟ وما نعرف الزّقوم إلا التّمر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 513 بالزّبد، ثم يأمر جارية له، فتحضر تمرا وزبدا، ثم يقول لأصحابه: تزقّموا» ! وقد وجد هذا القول سبيلا إلى بعض ضعاف الإيمان، وصغار الأحلام من الذين دخلوا فى الإسلام، فوقع الشك فى نفوسهم، فكان ذلك داعية لهم إلى أن يرتدّوا عن الإسلام، خاصة وأنهم فى وجه محنة قاسية، وبلاء عظيم، لا يمسكهم عليه إلا إيمان وثيق، فإذا زاحم هذا الإيمان شىء من هذه الشكوك الكاذبة، التي يسوقها إليهم المشركون، وجد ضعاف الإيمان منهم الفرصة سانحة للخروج من هذا البلاء، بأوهى سبب! وهذا، ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ» .. فهاتان آيتان من آيات الله المأدبة، وهما القول بالإسراء، والقول بتلك الشجرة التي تنبت فى أصل الجحيم.. وفى هاتين الآيتين فتنة للناس، أي لهؤلاء المشركين، كما كانت الآيات المادية فى الأمم السابقة فتنة لتلك الأمم! وأنه إذا كان المشركون يريدون آيات مادية فهاتان آيتان مادّيتان، أو شبه ماديتين، وقد كانتا فتنة لهم.. فهل تزيدهم الآيات المادية إلا فتنة إلى فتنة؟ - وفى قوله تعالى: «وَنُخَوِّفُهُمْ، فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً» إشارة إلى أن هذه الآيات المادية أو شبه المادية، هى نذير بلاء وفتنة، ومطلع عذاب عاجل يقع بالمشركين، إن هم أصروا على موقفهم هذا الذي يقفونه من آيات الله..! بقي أن نعرف لم وصفت الشجرة بأنها ملعونة؟ ولم تلعن وهى لم يكن منها ما يستوجب اللعن؟ والجواب: أولا: أن الله سبحانه وتعالى قد وصفها بأنها تنبت فى أصل الجحيم، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 514 ووصف طلعها- أي ثمرها- كأنه رءوس الشياطين.. والشيطان ملعون من الله.. فهى لهذا عدوّ مبين للإنسان، الذي سيسوقه شؤمه إلى أن يطعم منها، فيجب أن يحذرها، كما يحذر الشيطان.. فناسب ذلك أن تبدو لأعين النّاس فى صورة الشيء الملعون، الذي يحذر، ويتوقّى. وثانيا: أن وصف الشجرة بأنها ملعونة، لا ينبنى عليه أنها ملعونة من الله، وإنما هو وصف بالنسبة لآثارها فيمن يذوق طعمها، فهو طعام كريه، لا يطعمه إلا الخاطئون.. فإذا وصف الشيء بأنه مرّ المذاق، أو خبيثه، فهو بالنسبة لطاعمه.. وقد لا يكون طعمه على تلك الصفة فى حقيقته.. ثالثا: جاء فى قوله تعالى فى وصف الشجرة: «إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ» .. فهى فتنة، كما أن الشيطان فتنة.. وقد جاء فى قوله تعالى: «وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ» أي هى فتنة كذلك.. وهذا مما يرجح القول بأن المقصود بالشجرة هى شجرة الزقوم، كما يقيم ذلك دليلا على أنها شجرة ملعونة.. أما عن استنكار المشركين للجمع بين النار، والشجر.. فذلك لجهلهم بقدرة الله، أولا، ولجهلهم بأسرار الطبيعة ثانيا.. فالنار، والشجر، والماء، والطين.. وكلّ ما يرون فيه من تناقض. هو من أصل واحد، ومن مادة واحدة، وإن اختلفت صوره وأشكاله.. وقد استطاع العلم الحديث أن يحوّل الأشياء من حال إلى حال، بإجراء بعض التغييرات فى تركيب عناصرها، كتحويل الصلف إلى لبن، والخشب إلى ورق مصقول، أو حرير ناعم.. إلى غير ذلك مما يتحول به الشيء من النقيض إلى النقيض.. بل إن الطبيعة نفسها لتقوم بهذه العمليات كل يوم، فتحول الهواء الشفاف إلى ماء، وتحول الماء إلى هواء.. كما تحول الماء السائل إلى ثلج جامد، والملح الجزء: 8 ¦ الصفحة: 515 الذي يتغذى به النبات إلى مادة سكرية، كما فى القصب، وأشجار الفاكهة. وقد أشار القرآن الكريم، إشارة خاطفة إلى تحوّل الأشياء إلى طبيعة غير طبيعتها، كالشجر يتحول إلى نار، فيقول سبحانه: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً، فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ» (80: يس) .. ففى الشجر نار مستكنة، كما أن فى النار ماء مستكنّا.. فليس إذن بالمستحيل أن يجتمع الشجر والنار، وأن تنبت فى أصل الجحيم أشجار تأخذ طبيعة النار، وتتغذّى منها. الآيات: (61- 65) [سورة الإسراء (17) : الآيات 61 الى 65] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) التفسير: قوله تعالى: «وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً» ؟ مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآيات السابقة أشارت إلى بعض ما يفتن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 516 به الناس من آيات الله.. كالإسراء، وشجرة الزّقوم.. والأولى، نعمة وخير، والثانية، شرّ وبلاء. فناسب أن يجىء بعد شجرة الزّقوم، التي فتن بها المشركون، شىء يشبهها، هو مضلّة للمشركين، وفتنة للغاوين، وهو إبليس، لعنه الله. وقد دعى إبليس من الله تعالى أن يسجد لآدم، فأبى واستكبر وقال: «أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً؟» .. وقال فى موضع آخر: «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» .. وقد كان خلق آدم من طين آية من آيات الله المادية، وكان على إبليس أن يؤمن بها.. ولكن هذه الآية كانت سببا فى كفره بالله، وطرده من رحمته. قوله تعالى: «قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا» . أرأيتك: أي أرأيت يا الله.. والكاف حرف خطاب للمولى سبحانه وتعالى، يؤكد الضمير المتصل قبله، والمراد بالرؤية هنا، العلم.. أي أعلمت يا الله!. أحتنكنّ: أي أفسدنّ، وأستولينّ.. احتنك الشيء: لاكه فى حنكه وعلكه، كما تعلك الدابّة لجامها. وهذا تحدّ من إبليس- لعنه الله- لله سبحانه وتعالى، فى آدم، وأنه أضعف شأنا من إبليس، وأنه إذ كان كذلك، فكيف يسجد القوىّ للضعيف؟ .. هكذا فكر إبليس وقدّر.! قوله تعالى: «قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً» . اذهب: أمر مراد به الطرد من رحمة الله.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 517 - وفى قوله تعالى: «فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ» إشارة إلى أن البلاء واقع على إبليس، ومن تبعه من أبناء آدم.. إذ كانوا فى اتّباعهم له أنصارا له وأعوانا، على هذا التحدّى الذي تحدّى به الله فى أبناء آدم.. وقد كان جديرا بهم أن يكونوا أعداء لهذا العدو لله ولهم.. وفى هذا تسفيه لهؤلاء المشركين الذين اتبعوا آباءهم، كما اتبع أبناء إبليس، إبليس. فمتابعة الذرّية لآبائهم، مضلّة لهم، إذ كان عليهم أن ينظروا لأنفسهم، وأن يأخذوا الطريق الذي يؤدى إليه نظرهم.. - وقوله تعالى: «جَزاءً مَوْفُوراً» أي جزاءا كاملا، لا ينقص منه شىء.. فلا يخفف عنهم العذاب، ولا يقصر مداه.. قوله تعالى: «وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً» . استفزز: أي: أخف، وأفزع، واستفزّ فلان فلانا: أي أخافه وأفزعه. وأجلب: أي: أجمع أمرك، وادع كل ما تملك من قوة.. وأجلب القوم، جاءوا من كل صوب، ومنه الجلب، وهم التجار الواردون على السوق.. والخيل: المراد بها راكبوها.. والرّجل: جمع راجل، وهو من يمشى على رجليه إلى غايته، سواء فى حرب أو غيره.. والأمر هنا، يراد به الاستخفاف بإبليس، وبكيده الذي يكيد به للناس. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 518 والاستخفاف إنما هو بالإضافة إلى أبناء آدم.. فإبليس بما معه من كيد ومكر، هو مدحور مخذول أمام الإرادة الصادقة، والعزم الوثيق، فهو أضعف من الإنسان، الذي يعرف قدر إنسانيته، ويحترم وجوده كإنسان كرّمه الله، ورفع بين العالمين قدره.. والله سبحانه وتعالى يقول بعد هذا: «وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ، وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا» (70: الإسراء) : ويقول عن الشيطان: «إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً» (76: النساء) . فليعلن الشيطان الحرب على أبناء آدم، وليأت بكل ما معه من عدد وعدّة.. وليجلب بخيله ورجله، وليشاركهم فى أموالهم وأولادهم، وذلك بما يفسد عليهم من أموال وبنين.. ثم إذا لم يجد فى ذلك ما يمكنه منهم، فليأتهم متلطفا، متودّدا، بعد أن جاءهم مهددا، متوعدا، مفسدا.. وليمدّ لهم فى حبل الأمانىّ، وليكثر لهم من الوعود المعسولة الكاذبة.. فذلك كلّه لن يبلّغه شيئا من أبناء آدم الذين جعلهم الله من أهل طاعته، وأرادهم لجنته، كما يقول سبحانه وتعالى: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» فهؤلاء هم أبناء آدم، ليس لإبليس سلطان عليهم، إلا من كان من أهل الشّقوة والضلال.. فهؤلاء- بما سبق فيهم من قضاء الله- هم مستجيبون للشيطان موالون له.. إذ كانت أهواؤهم متفقة مع هواه، ووجهتهم قائمة على وجهته.. إنهم، وهو، من أهل الشقاء والبلاء. - وفى قوله تعالى: «وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً» تحذير من الشيطان، وأمانيه ومغرياته التي يمنّى بها الناس، ويغريهم بها، فما هى إلا ضلال فى ضلال، وأباطيل لا تجىء إلا بالأباطيل! وتحذير الناس من الشيطان ومغرياته، وإن كان لا يردّ شيئا مما قضى به الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 519 فى عباده، فإنه تحذير من الشر، وترغيب فى الخير.. وعلى التحذير والترغيب يعتدل ميزان الناس، حيث يجدون القانون الذي يحتكمون إليه.. وهنا يصحّ الابتلاء، ويقع الاختبار.. فمن كان من أهل السعادة، اهتدى بهدى الله، وعمل بأوامره، واجتنب نواهيه، ومن كان من أهل الشقاء، أخذ طريقه مع الشيطان، فضلّ بضلاله، وغوى بغوايته.. وكل ميسّر لما خلق له.. قوله تعالى «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا» . فعباد الله، هم أولئك الذين سبقت لهم من الله الحسنى، وهؤلاء لا سبيل للشيطان إليهم، إنهم فى عصمة منه بهذا القضاء الأزلىّ من الله فيهم.. وهو قضاء خفىّ لا يعلمه أحد، ولا يدرى مخلوق إن كان من أهل السعادة أو أهل الشقاء.. ومن هنا كان السعى والعمل، والتسابق إلى الإحسان- من مطلوبات الناس، ومن مبتغياتهم.. لأن الإحسان هو الأمارة الدالة على الفوز والنجاة. فمن كان من أهل السعادة، عمل عمل المحسنين، ومن كان من أهل الشقاء عمل عمل المسيئين.. وفى الحديث: «إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه القضاء فيعمل بعمل أهل النار، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه القضاء فيعمل بعمل أهل الجنة!» .. وهكذا نحن فى الحياة.. طلاب العلم مثلا: العاقلون المجدّون منهم، هم على طريق النجاح عند الامتحان، والمهملون الغافلون، هم على طريق الإخفاق.. وقد يجدّ للعامل المجدّ ما يصرفه عن العمل والجدّ، فيخفق، ويجدّ للكسول المهمل ما يدفعه إلى الجدّ والتحصيل، فينجح. وكل سائر إلى القدر المقدور له.. ولكن سنّة الله قائمة فى الناس: أن لا ثمرة بغير عمل، ولا حصاد إلا بعد زرع! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 520 - وفى قوله تعالى: «وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا» .. فى هذا ما يسأل عنه، وهو: كيف يخاطب إبليس بهذا الخطاب الذي يشعر بالقرب: «كَفى بِرَبِّكَ» ؟ والجواب على هذا، - والله أعلم- أن هذا الخطاب ليس لإبليس، وإنما هو التفات إلى الإنسان، الذي هو داخل فى عموم قوله تعالى: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» وكأنهم بمشهد من هذا الخطاب.. ثم إنه بدلا من أن يجىء النظم بصيغة الجمع هكذا: «وكفى بربكم» جاء النظم القرآنى بصيغة المفرد «وَكَفى بِرَبِّكَ» .. وذلك لينظر كل إنسان إلى خاصة نفسه، وليعمل ما وسعه العمل على أن يتوقّى هذا الشيطان المترصد له، والمتربص به، وليكن مما يستعين به على ذلك أن يتوكل على الله، وأن يستعين به، وليجعل فى يقينه أنه من عباد الله، الذين لا سلطان للشيطان عليهم.. ويجوز أن يكون الخطاب للشيطان، قهرا له: وإلزاما له بسلطان الربوبية، الذي خرج بكفره عن سلطانه.. وأنه مقهور مخذول، ليس له على عباد الله سلطان، وهو سبحانه وتعالى وكيلهم الذي يدفع عنهم كيده. الآيات: (66- 70) [سورة الإسراء (17) : الآيات 66 الى 70] رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 521 التفسير: قوله تعالى: «رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً» .. بعد أن خوطب الإنسان من الله سبحانه وتعالى، بقوله: «وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا» جاء الخطاب إلى النّاس جميعا، شارحا هذه الوكالة، وما يجىء منها إلى الإنسان من إمدادات الخير والإحسان من ربّ العالمين، فالله سبحانه، هو الذي سخّر للناس البحار والأنهار، تجرى فيها الفلك بأمره حاملة الناس وأمتعتهم من بلد إلى بلد، دون أن يطغى الماء على الفلك، أو يمسكها على ظهره بلا حراك.. كما يقول سبحانه: «إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ» (33: الشورى) وهو سبحانه بهذه الوكالة القائمة على الناس قادر على أن يدفع عنهم ما يكيد به الشيطان لهم، إذا هم آمنوا بالله واتخذوه وكيلا. قوله تعالى: «وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً» وفى الحال التي تتعرض فيها الفلك لريح عاصف، أو موج صاحب، لا تجدون أيها الناس من يكشف هذا البلاء، إلا الله.. «ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ» فليس لمعبوداتكم التي تعبدونها سبيل إليكم وأنتم فى هذا الكرب.. إنهم قابعون هناك حيث تركتموهم فى معابدكم، أحجارا جاثمة، أو جثثا هامدة.. ولكن سرعان ما تنسون أيها الناس فضل الله عليكم، ورحمته الجزء: 8 ¦ الصفحة: 522 بكم: «فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ» عنه، وأعطيتم وجوهكم لآلهتكم.. وهذا فوق أنه سفه وضلال، هو كفران وجحود. قوله تعالى: «أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا» . ولكن أين تذهبون؟ إذا أنتم أمنتم جانب البحر؟ أو تخرجون من ملك الله؟ ثم أتدفعون بأس الله عنكم إذا جاءكم؟ فهل تأمنون، وأنتم فى البرّ أن يرسل الله عليكم ريحا عاصفة، محملة بالهلاك والدمار، فتغرقكم فى الأرض، وتدفنكم فى بطنها.. فإذا كنتم قد سلمتم من الغرق فى البحر، فهل تعجز قدرة الله من أن تنالكم بالبلاء وأنتم على ظهر اليابسة؟ وهل إذا وقع بكم هذا البلاء، هل هناك من يتولى دفعه عنكم؟. - وفى قوله تعالى: «جانِبَ الْبَرِّ» إشارة إلى هذا الحمى وذلك الجناب الذي يجد فيه الإنسان طمأنينة وأمنا حين يضع قدمه على اليابسة، بعد أن يترك البحر ومخاطره.. فهذا الجانب لا يعصم من أمر الله، ولا يردّ بأسه. قوله تعالى: «أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً» . وهل أمنتم، بعد أن نجاكم الله من الغرق وأنتم على ظهر السفين، ثم كفرتم بالله، ولم تذكروا فضله عليكم ورحمته بكم- هل أمنتم أن يعيدكم إلى البحر مرة أخرى، مسوقين إليه بسلطان قدره وقدرته، ثم يرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم.. إنه انتقام من كفركم بالله ومكركم بنعمه عليكم.. فهل إذا أغرقكم الله فى تلك المرّة، هل يكون لكم على الله حجة؟ أليس هذا هو الجزاء العادل الذي أنتم أهل له بكفركم، وضلالكم؟ لقد أراكم الله سبحانه فضله ورحمته، فأنكرتم الفضل والرحمة.. وهذا بلاؤه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 523 ونقمته.. فهل تنكرون البلاء والنقمة؟ «قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ» !. (165: آل عمران) والتبيع: من يتبع غيره، والمراد به هنا من يطالب الله بما يحلّ بالمشركين من بلاء. قوله تعالى: «وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا» . هو استعراض عام لنعم الله على الناس جميعا.. أبناء آدم.. فقد كرمهم الله سبحانه وتعالى بهذه الصورة التي خلقهم عليها، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة، كما يقول سبحانه: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» (4: التين) وكما يقول جلّ شأنه: «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ» (6- 8: الانفطار) . ومع هذا التكريم فى الخلق، فقد سخر الله للناس ما فى البرّ والبحر، وأفاض عليهم من الخيرات والنعم، وأقامهم على هذه الأرض، وجعلهم خلفاءه عليها.. وهذا كلّه من شأنه أن يدعو الإنسان إلى الولاء لله، وإفراده سبحانه بالحمد والثناء! - وفى قوله تعالى: «وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا» - ما يسأل عنه وهو: ما منزلة الإنسان بين المخلوقات؟ وما المخلوقات التي فضّل عليها؟ وما المخلوقات التي فضّلت عليه؟ صريح منطوق الآية يدل على أمرين: أولهما: أن الإنسان فضّل على كثير من المخلوقات التي بثّها الله سبحانه وتعالى فى هذا الوجود كلّه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 524 وثانيهما: أن هناك مخلوقات لا يفضلها الإنسان، وهى إما أن تكون مساوية له فى الفضل، أو هى أفضل منه.. والذي لا شك فيه، هو أن الإنسان فى أصل خلقته، أفضل المخلوقات التي تعيش معه على هذا الكوكب الأرضىّ، ولهذا جعله الله خليفته فى هذه الأرض.. كما يقول سبحانه وتعالى: «إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» ولكن هذه الخلقة المهيأة لأن تكون بمقام الخلافة لله تعالى على الأرض، لا يتحقق لها هذا، حتّى تحقق هى ذاتيتها، وتخرج القوى الكامنة فيها، وتفجّر الطاقات المندسّة فى كيانها.. كالنواة التي تضمّ فى كيانها عناصر شجرة عظيمة، أو نخلة باسقة.. تظلّ هكذا شيئا ضئيلا ميتا، حتى تندسّ فى صدر الثّرى، ثم تتفاعل معه، وتخرج خبأها بعد جهد وصراع. أما الإنسان الذي لا يعمل على الانتفاع بما أودع الله فيه من قوى، فسيظل كتلة باردة من لحم ودم، لا يرتفع كثيرا عن مستوى أدنى الحيوانات وأحطها منزلة.. والله سبحانه وتعالى يقول: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» (4- 6: التين) . هذا هو مقام الإنسان فى العالم الأرضى.. إنه سيد المخلوقات كلها فى هذا العالم، مادام محتفظا بإنسانيته، عاملا على الارتقاء بوجوده.. أما المخلوقات التي فى غير هذا العالم الأرضى، فلا شأن للإنسان بها، كما أنها لا شأن لها بالإنسان، ومن ثمّ فالمفاضلة بينه وبينها شىء غير وارد، وغير منظور إليه.. إذ لا تعامل بين الإنسان وبين تلك المخلوقات! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 525 الآيات: (71- 77) [سورة الإسراء (17) : الآيات 71 الى 77] يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77) التفسير: قوله تعالى: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا» . الإمام: المقدّم من كل شىء.. وإمام القوم: رئيسهم، وصاحب الكلمة فيهم.. والفتيل: النّتوء البارز فى شقّ النواة، ويضرب به المثل فى الشيء الحقير. والآية تنتقل بهؤلاء الناس، الذين كرمهم الله، وفضلهم على كثير من خلقه، وحملهم فى البر والبحر، ورزقهم من الطيبات- تنتقل بهم من الدنيا، التي يتقلّبون فيها، ويسرحون ويمرحون، فإذاهم بين يدى الله فى مقام الحساب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 526 والجزاء يوم القيامة.. وإذا كل جماعة مع إمامها الذي كانت تتبعه، وتنقاد له.. فأتباع الأنبياء مع أنبيائهم، وأتباع الضلال مع أئمتهم.. وهكذا كل طائفة، وكل جماعة، وكل أمة، مع إمامها، وقائدها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ» (69: الزمر) .. فالنبيون والشهداء، يشهدون على أتباعهم بما كان منهم فى الدنيا.. وليس علم الله سبحانه وتعالى بهم، فى حاجة إلى من يقيم الشهادة عليهم، ولكن هذه الشهادة هى خزى وفضح للمجرمين، بعرض مخازيهم على الملأ. - وقوله تعالى: «فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا» هو عرض لأهل الفوز والنجاة فى الآخرة.. وهم الذين أخذوا كتابهم بيمينهم.. فهؤلاء يجدون مسرّة بلقاء كتابهم، وتهشّ نفوسهم لقراءته، والاستمتاع بما يرون فيه من أعمال طيبة، تؤهلهم لرضوان الله، والفوز بالجنة.. وفى هذا يقول الله تعالى: «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً» (7- 9: الانشقاق) ويقول جل شأنه: «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ» (19: الحاقة) .. إنه لسعيد بهذا الكتاب، وإن الفرحة لنملأ كيانه، فيطير بها فرحا هنا وهناك، يدعو من يلقاه ليقرأ ما فى كتابه، وليشاركه هذه الفرحة، فيتضاعف فرحه، ويعظم سروره.. وفى إفراد الضمير العائد على الموصول فى قوله تعالى: «فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ» ثم إعادته إليه جمعا فى قوله سبحانه «فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ» - فى هذا ما يشير إلى أن كل واحد يدعى ليأخذ كتابه بيده.. ثم إذا أخذ كلّ كتابه، اجتمع بعضهم إلى بعض، والتقى أهل اليمين بأهل اليمين، وأهل الشمال بأهل الشمال.. ومن هنا كانت قراءة أهل اليمين لكتبهم فى صورة جماعية.. كل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 527 يقرأ كتابه، ويقرأ كتب أصحابه! أما أهل الشمال.. فكل منهم فى شغل بما بين يديه من همّ ثقيل!! قوله تعالى: «وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا» هو بيان للجماعة المقابلة لأهل اليمين، الذين أخذوا كتبهم بأيمانهم، وجعلوا ينظرون فيها، ويقرءون أعمالهم الطيبة التي تبشرهم بالفوز والفلاح.. ولم تذكر الآية أصحاب الشمال ذكرا صريحا، وإنما دلّت عليهم بأوصافهم.. فهم عمى يوم القيامة، لما يغشاهم من كرب هذا اليوم، وما يطلع به عليهم كتابهم الذي يأخذونه بشمالهم، من نذر الشؤم والبلاء.. فلا ينظرون إليه، وإذا نظروا لم يبصروا شيئا.. حيث ملك الرعب وجودهم، وأخذ الفزع قلوبهم وأبصارهم! إنهم كانوا عميا فى هذه الدنيا، فلم يروا آيات الله، ولم ينظروا فيما جاءهم به رسل الله من هدى ونور.. وهاهم أولاء فى الآخرة على ما كانوا عليه فى الدنيا، قد غرقوا فى بحر متلاطم الأمواج من الكرب والبلاء، فلا يجدون طريقا للنجاة، ولا يرون وجها للفرار من هذا الهول العظيم.. قوله تعالى: «وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا» .. فتنه يفتنه عن الشيء فتونا: أضلّه عنه، وصرفه إلى غيره. والافتراء: الاختلاق، وتلفيق الأخبار.. وفى هذه الآية، يردّ المكذّبون بالآخرة، إلى الدنيا مرة أخرى، بعد أن رأوها عيانا فيما يشبه أحلام اليقظة.. وما يكادون يصحون من غفوتهم تلك حتى يواجهوا بما كانوا يأخذون به النبىّ من عنت، وما يتهدّدونه من أذى.. حيث يريدونه على أن يترك آلهتهم، ولا يعرض لها فى القرآن الذي يتلوه على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 528 الناس بشىء ينقص من قدرها عندهم، وينزل من منزلتها فى نفوسهم.. ويقولون له فيما يقولون: «ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا، أَوْ بَدِّلْهُ» .. فيجيئه أمر الله: «قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي.. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ» (15: يونس) . ولا يجد هؤلاء الضالّون المتكبّرون مقنعا فيما يجيبهم به النبىّ على ما يسألون، ولا يرضيهم منه، أو يدفع عنه سفههم، إلّا أن يأتى بقرآن غير هذا القرآن.. - وفى قوله تعالى: «وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ» إشارة إلى هذا الصّراع العنيف بين هؤلاء المشركين وبين النبىّ، وإلى ما يسوقون إليه من ألوان التهديد والوعيد.. حتى ليبلغ الأمر غايته من الشدّة والبلاء، وحتى ليكادا لنبىّ يصل إلى حال يوشك أن يفلت فيها الأمر من يده، إذ جاوز حدود ما تحمل الطاقة البشرية من جهد وعناء، كما يقول سبحانه وتعالى فيما يعرض للرسل من بلاء: «حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا» (110: يوسف) . فهذا التصوير للموقف، يكشف عن مدى ما يسوق الكافرون إلى النبىّ من أذى، وما يأخذونه به من عنت.. وأنه صلوات الله وسلامه عليه وهو فى معرض هذه العواصف الهوجاء، يمسك نفسه على الطريق الذي أقامه الله تعالى عليه، ويضمّ يديه فى قوة وإصرار على الرسالة التي حمّلها الله إياه، إلى أن يحكم الله بينه وبين قومه! .. - وفى قوله تعالى: «وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا» إشارة إلى أنه لو تحوّل النبىّ قليلا إلى ممالأة قومه، ونزل شيئا عما يدعوهم إليه، لجاءوا إليه موادعين مسالمين، ولهدأت هذه العواصف المزمجرة حوله، ولجرت سفينته فى ريح رخاء!. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 529 قوله تعالى: «وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا» بيان لفضل الله تعالى، على النبىّ الكريم، إذ شدّ أزره، وثبّت على الحق قدمه، فلم يزلّ ولم ينحرف. - وفى قوله تعالى: «لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا» إشارة إلى ما عند النبىّ صلى الله عليه وسلم من رصيد عظيم من العزم والصبر، وأنه- صلوات الله وسلامه عليه- مع هذا الكيد العظيم الذي يكيد له به قومه، لو ترك وشأنه لما تزحزح عن موقفه إلا شيئا قليلا.. ولكنّ أمداد السماء قد جاءته فى وقتها فأمسكت به، فربطت على قلبه، وشدّت من عزمه وثبتت من قدمه.. وهكذا يصنع الله لأوليائه وأحبائه، فيدفع بهم إلى مواطن البلاء، حتى يبلوا بلاءهم، ويعطوا كل ما عندهم، وحتى إذا كاد يفرغ كل ما معهم، وينفد كلّ ما لديهم، جاءهم نصر الله، وتتابعت عليهم أمداده. - وقوله تعالى: «لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا» . ركن إلى الشيء: مال إليه.. والنبىّ صلّى الله عليه وسلّم لم يركن إليهم، ولم يمل إلى ما يدعونه إليه، ولو قيد أنملة، وإن كاد يفعل ذلك، ولكن الله سلّم.. ونحو هذا قول الشاعر: هممت ولم أفعل وكدت وليتنى ... تركت على عثمان تبكى حلائله وقوله تعالى: «إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً» . أي لو فعلت هذا- أيها النبىّ- وملت هذا الميل القليل لكان حسابك عسيرا.. فإن صغيرتك كبيرة، لمقامك الكريم الذي أنت فيه، وإنه على قدر علوّ مقامك يكون حسابك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 530 والمراد بضعف الحياة وضعف الممات، مضاعفة العذاب فى الدنيا، ومضاعفته فى الآخرة.. ومثل هذا قوله تعالى: «يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ» (30: الأحزاب) . - وفى قوله تعالى: «ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً» إشارة إلى ما لله سبحانه من سلطان فى خلقه، وأنه- سبحانه- يجرى حكمه فى عباده كما أراد، دون أن يكون لأحد اعتراض على حكمه، أو دفع له.. قوله تعالى: «وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا» . استفزّه: أجفله، وأزعجه.. أي أن هؤلاء المشركين من قومك أيها النبىّ، قد أعنتوك، وأجلبوا عليك بكل ما استطاعوا من صور البغي والعدوان، حتى لأوشكوا أن يخرجوك من الأرض، أي يطردوك منها طردا، فلا يدعون لك موضعا فيها، تدعو فيه إلى الله، وتبلغ رسالته.. وإنهم لو فعلوا لأخذهم الله بالعذاب، ولما بقيت لهم فى الأرض باقية بعدك.. فهذه هى سنّة الله فى الرسل من قبلك مع أقوامهم. وأنهم إذا تأبّوا عليهم، وأخذوهم بالبأساء والضرّاء، أخرجهم الله من بين أقوامهم، ثم صبّ على هؤلاء الأقوام عذابه، فأهلكهم، مصبحين، أو ممسين. وفى هذا تهديد للمشركين، وإنذار لهم، وأنهم إن فعلوا بالنبيّ هذا الفعل أخذهم الله بما أخذ به الظالمين من قبلهم. «سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» (62: الأحزاب) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 531 الآيات: (78- 82) [سورة الإسراء (17) : الآيات 78 الى 82] أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82) التفسير: قوله تعالى: «أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ.. وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً» . مناسبة هذه الآية لما قبلها.. هى أنه لما كانت الآيات السابقة قد حملت شيئا من التلويح للنبىّ الكريم أن يعدّ نفسه للصبر والاحتمال على ما يلقى من المكاره من قومه، فقد ناسب أن تجىء هذه الآية وما بعدها، محمّلة بالزّاد الذي يتزود به، فى هذا الموقف المتأزّم، الذي تنحلّ فيه العزائم، وتزلّ الأقدام، فيجد منه المدد الذي يقوّى عزمه، ويثبت قدمه. وذلك بإقامة الصّلاة من دلوك الشمس، أي من وقت الزّوال عند الظهر، «إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ» أي ظلمته.. - «وَقُرْآنَ الْفَجْرِ» أي وصلاة الفجر، وهى صلاة الصبح، وسميت قرآنا، لأن قراءة القرآن أظهر وجوهها.. «إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً» أي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 532 ذا شأن عظيم، يلفت إليه الأنظار، ويستدعى إليه المشاهدين.. وقيل إن هذا الوقت يحتشد فيه الملائكة، حيث يلتقى ملائكة الليل، وملائكة النهار.. ودعوة النبىّ إلى إقامة الصلاة من وقت زوال الشمس عن كبد السماء، إلى دخول الليل واشتداد ظلامه، هو دعوة له- صلوات الله وسلامه عليه- إلى إقامة أربع صلوات، هن: الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء.. وأما صلاة الصبح، فقد جاء الأمر بها فى قوله تعالى: «وَقُرْآنَ الْفَجْرِ» .. وقد أفردت وحدها، لما فيها من مشقّة، ولما فى وقتها من بركة. وفى قوله تعالى: «وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» - دعوة خاصة إلى النبي الكريم، أن يتهجّد بالقرآن.. إلى جانب إقامة الصلاة المفروضة.. وقد كانت تلاوة القرآن هى عبادة النبىّ فى أول الدعوة، حيث جاء أمر الله سبحانه وتعالى إليه بقوله: «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا..» فلما فرضت الصلاة، ظلت تلاوة القرآن فريضة واجبة على النبىّ، مندوبة، للمؤمنين.. والتهجّد: اليقظة بالليل بعد النوم.. ومن الليل: أي من بعض الليل، لا كلّه.. فحرف الجرّ «من» للتبعيض. والنافلة: الزيادة، على المطلوب.. فالنبىّ صلّى الله عليه وسلّم، مطالب فى هذا، بما لم تطالب به أمته، وهو أن يقوم من الليل، بعد أن ينزع عنه لباس النوم، وأن يصحب القرآن معه، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 533 يصلّى به ما شاء الله له أن يصلّى.. وذلك واجب عليه هو، مندوب لأمّته.. - وفى قوله تعالى: «عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» شرح لصدر النبىّ، وإغراء له بهذا التهجّد الذي تحمل فيه النفس ما تحمل من عناء ومشقة، فذلك قليل فى سبيل مرضاة الله سبحانه، والقرب منه، والفوز بالمقام المحمود عنده.. والمقام المحمود، هو مجمع المحامد كلّها، حيث لا يناله إلا من جمع المحامد جميعها.. وفى التعبير عن الرفع إلى المقام المحمود، وإحلال النبىّ به- فى التعبير عنه بالبعث، إشعار بأنّ هذا المقام هو مرتبة لن تصل إليها البشرية، إذ لم تؤهلها لها طبيعتها.. فالإنسان الذي ينال هذا المقام كأنما خلق خلقا جديدا. وانسلخ انسلاخا يكاد يكون تامّا عن طبيعة البشر..! وهذا هو سرّ من أسرار تصدير هذا الوعد الكريم من ربّ العالمين بفعل الرجاء «عسى» ليظل النبي- صلوات الله وسلامه عليه- متطلعا إلى هذا المقام، طامعا فيه، راجيا أن يبلغه.. وقد بلغه- صلوات الله وسلامه عليه- كما أخبر الله سبحانه وتعالى بقوله: «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى» ولا يتحقق رضاه- صلوات الله وسلامه عليه- إلا إذا تحقق له هذا الرجاء، الذي تعلّقت به نفسه، وهو أن يبعثه ربّه مقاما محمودا.. قوله تعالى: «وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً» .. هو دعاء علّمه إياه ربه، ليدعو به عند كل أمر يعالجه، ويعمل له، وهو أن يستعين ربّه عليه، بأن يدخله مدخل الصّدق إلى هذا الأمر، ويسدّد خطاه عليه، ويهيىء له الأسباب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 534 المنجحة له، حتى يخرج منه موفقا، بالغا الغاية المرجوة منه.. فالدخول إلى أي أمر ما، هو مباشرته، والخروج منه، هو الفراغ منه.. كالمعركة مثلا فى ميدان القتال.. الدخول إليها هو الالتحام فى القتال، والخروج منها هو انتهاء المعركة بانتصار أحد الفريقين المتقاتلين.. والدخول مدخل الصدق إليها، يكون أولا وقبل كل شىء بتخليص دوافعها من البغي والعدوان، بأن تكون دفاعا عن حق، ودفعا لظلم.. ثم يكون ثانيا، بالإعداد لها إعدادا روحيا وماديا، بتوطين النفس على الاستشهاد فى سبيل الله، وباستيفاء وسائل الحرب، وخطط القتال. وهكذا كل أمر يعالجه النبىّ.. يدعو الله أن يكون دخوله إليه من مدخل الحق، لا يبغى غير الحق ولا يعمل لغير الحقّ. وأن يكون خروجه منه من مخرج الحقّ، فلا يتلبّس أثناء ممارسته لهذا الأمر بشىء من الباطل.. وهذا إنما يستعان عليه بالله سبحانه وتعالى، ولهذا جاء قوله تعالى: «وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً» فبهذا السلطان الذي يمدّه الله به، يجد الحراسة القوية الأمينة، التي تدفع عنه كلّ عارض يعرض له من وهن أو ضعف أو خذلان. قوله تعالى: «وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً» .. هو الوصف الكاشف لخاتمة أمور النبىّ كلّها، قبل أن تجىء خاتمتها.. فكل أموره- صلوات الله وسلامه عليه- سيدخلها مدخل صدق، وسيخرج منها مخرج صدق، مستندا إلى سلطان الله، مؤيّدا بنصره.. وهذا إعلان- مقدّما- بانتصار الحق الذي يدعو إليه النبىّ، ويعمل له، وهو دعوة الإسلام، وهداية الناس إلى الله.. وقد تحقق هذا.. فانتصرت دعوة الإسلام، ودخل الناس فى دين الله أفواجا! .. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 535 روى أن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم، حين دخل مكة فاتحا، دخل الكعبة وفيها حشود حاشدة من الأصنام التي كان يعبدها المشركون، فجعل صلوات الله وسلامه عليه- يدفع بها صدورها، فتتهاوى على الأرض، وهو يقول: «جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً» . قوله تعالى: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً» . هو إلفات إلى هذا القرآن الذي بين يدى النبىّ، والذي يتلقّى آياته وكلماته من ربّه- إنه هو الحقّ الذي فيه الشفاء لما فى البصائر من عمى، وما فى القلوب من ضلال، وهو الرحمة التي تبسطها يد الرحمن الرحيم إلى عباده ليستشفوا بها من جهالتهم وضلالهم.. ثم هو الرائد الأمين الذي يدخل المصاحب له مدخل الصدق، ويخرجه مخرج الصدق، ويجعل له من عند الله سلطانا نصيرا. والمؤمنون، الذين يستجيبون لدعوة النبىّ هم الذين ينتفعون بكلمات الله وآياته، ويجدون فيها الشفاء والرحمة. أما الذين يشاقّون النبىّ، ويصدّون عن سبيل الله، فلن يزيدهم القرآن إلّا ضلالا إلى ضلالهم، ومرضا إلى مرضهم.. «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً» (10: البقرة) . - وفى قوله تعالى: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ» إشارة إلى أن القرآن الكريم، إنما يتنزل حالا بعد حال، ولم ينزل جملة واحدة.. وهذا يعنى أن كل ما ينزل من القرآن، هو شفاء ورحمة، سواء ما نزل، أو سينزل.. لا أنّ بعضه فيه شفاء ورحمة، وبعضه الآخر ليس فيه شفاء ورحمة، كما يذهب إلى ذلك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 536 أكثر المفسّرين.. فكل القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين، وكل القرآن لا يزيد الظالمين المكذبين به إلا خسارا وتبابا. الآيات: (83- 88) [سورة الإسراء (17) : الآيات 83 الى 88] وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) التفسير: قوله تعالى: «وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً» .. مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة عليها قد جاءت لتذكر الناس بنعمة من أعظم النعم عليهم، وهى هذا القرآن، وما يحمل إليهم من شفاء ورحمة: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» . وإذا كان كثير من الناس يكفرون بنعم الله، ويستقبلونها بالجحود والنكران، فقد ناسب أن يجىء قوله تعالى: «وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ» ليكشف بذلك عن طبيعة مندسّة فى كيان الإنسان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 537 فى عمومه، وهو أنه إذا ألبسه الله نعمة من نعمه، بعد عن الله، وشغل بهذه النعمة، وأنه لا يذكر الله إلا إذا مسّه الضرّ.. فإذا ذكر الله فى تلك الحال، ذكره وقد بعدت به الطريق عن الله إذ قطع كل صلة بربّه، وهذا من شأنه أن يضعف ثقته بالله، ويؤيسه من رحمته.. وهكذا الذين لا يؤمنون بالله.. إنهم لا يرجون ثوابه، ولا يطمعون فى رحمته، لأنهم لا يعرفونه، بل ولا يعترفون به إلّا عند الشدّة والبلاء، حيث تطيش أحلامهم، ويضيع صوابهم.. وليس كذلك المؤمنون بالله، إنهم على طمع دائم فى رحمته، وعلى رجاء وثيق فى كشف ما يحلّ بهم من سوء، وما ينزل بهم من ضر.. «إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ» (87: يوسف) . هذا وفى الآية الكريمة باب فسيح من أبواب رحمة الله، يدخل منه الناس جميعا إلى حيث يجدون الرحمة والإحسان.. «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» .. فسبحانك سبحانك من ربّ كريم رحيم.. وشاهت وجوه من اتجهوا إلى غيرك، ومدّوا أيديهم إلى سواك. قوله تعالى: «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا» .. الشاكلة: الطبيعة التي يكون عليها الإنسان، وهى التي تحدد طريقه ومذهبه فى الحياة. وفى هذه الآية إشارة إلى أن الناس ليسوا كلّهم على شاكلة هذا الإنسان الذي تحدثت عنه الآية السابقة فى قوله تعالى: «وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً» .. ففى الناس من يقدر الله حقّ قدره، إذا أنعم الله عليه، شكر، وإذا مسّه الضّرّ، صبر، وانتظر فى أمل ورجاء رحمة الله، وفضله.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 538 - وفى قوله تعالى: «كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ» تحريض لأهل الغواية والضلال أن يكونوا من أهل الهدى والاستقامة.. وأن تكون أعمالهم على صورة طيبة مرضية.. فالأعمال، مشاكلة، ومشابهة لأصحابها. فإذا ساءت الأعمال كان أهلها أهل سوء، وإذا صلحت الأعمال، كان أهلها أهل استقامة وصلاح. - وفى قوله تعالى: «فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا» - وفى إضافة الناس جميعا إلى ربّهم، دعوة لهؤلاء الشاردين عن طريق الحق، أن ينظروا إلى أنفسهم، وأن يعودوا إلى ربّهم، حتى يكونوا أهلا لأن يضافوا إليه، وينزلوا دار ضيافته وكرمه.. قوله تعالى: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» .. «الواو» فى ويسألونك، للاستئناف، وهى فى نظمها هذا، إنما تنادى بصوت عال فاضح لهؤلاء الذين يسألون هذا السؤال الذي لا يريدون به هدى، ولا يبغون منه معرفة، وإنما هو المراء والجدل، واللّجاج فى والضلال والعناد.. وفى الحديث عن هؤلاء السائلين بضمير الغيبة «الواو» فى «ويسألونك» دون أن يجرى لهم ذكر- فى هذا تجهيل لهم، وإتاحة الفرصة لمن اشترك فى هذه الجريمة أن يفرّ بنفسه، وأن يطلب السلامة بالبعد عن هذا الموطن، الذي من ضبط فيه متلبسا بهذا التساؤل المنحرف عن طريق الاستفادة والمعرفة- كان فى وجه الاتهام والمؤاخذة.. - وقوله تعالى: «قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» أي من شأنه سبحانه وتعالى، ومما وسعه علمه هو، جلّ شأنه.. - وفى قوله سبحانه: «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» .. أمور.. منها: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 539 أولا: الإشادة بمقام العلم، والاحتفاء بأهله.. وأنه بقدر حظ الإنسان من المعرفة، ومبلغه من العلم، تكون منزلته، ويكون قدره.. وأن الله سبحانه وتعالى، وقد أحاط بكل شىء علما، فإنه- سبحانه- قد استأثر بكثير من أسرار الوجود، لا يصل إليها علم العلماء.. وهكذا، كل من حصّل شيئا من العلم، هو مستأثر بسرّ ما علم، مالك له، متصرف فيه، وإن على من أراد أن يكون له مكان فى هذا المقام، فليطلب العلم وليلحق بركب العالمين.. وثانيا: أن العلم الذي يحصّله العلماء، وتتسع له المدارك والعقول.. هو علم قليل قليل.. لا يبلغ شيئا إلى جانب علم الله.. ويكفى الإنسان جهلا وصغارا أنه يجهل نفسه، ويجهل الروح السارية فيه، والتي هى مبعث حياته، وحركته.. فكيف يكون له علم مع علم الله الذي وسع الوجود كله علما وحكمة ورحمة.؟ وثالثا: التحريض على طلب العلم، والاستزادة منه، حتى يكون هذا العلم القليل الذي نعلمه، كثيرا، نفيد منه فى أمور معاشنا ومعادنا.. فما أكثر ما نجهل من عالمنا الأرضى المحدود الذي نعيش فيه، وما أكثر ما ينكشف لنا كل يوم من خباياه وأسراره.. فلنطلب العلم، ولنجدّ فى الطلب.. ولكن ليكن ذلك لحساب العلم والمعرفة، لا لإشباع شهوة المماحكة والجدل.. هذا، والرأى عندنا أن يكون المراد بالروح هنا القرآن الكريم، فهو روح الأرواح، وحياة النفوس، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم بهذه الصفة فى قوله تعالى: «يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ» (2: النحل) وفى قوله سبحانه: «رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ» (15: غافر) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 540 فالروح هنا، كلمات الله تنزل بها الملائكة على رسل الله، ليبلغوها أقوامهم الذين أرسلوا إليهم.. وقد اتصلت كلمة الروح فى هاتين الآيتين بقوله تعالى: «مِنْ أَمْرِهِ» كما اتصلت فى قوله تعالى: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ» .. فكان الرّد عليهم: «قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» .. وفى هذا قرينة على أن الروح هنا هو الروح هناك.. وأصرح من هذا، فى الدلالة على أن المراد بالروح هو القرآن الكريم ما جاء فى سورة الشورى فى قوله تعالى: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (الآية: 52) .. فالروح هنا صريح الدلالة على أن المراد به هو القرآن الكريم.. وكذلك ما جاء فى سورة القدر: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ..» ففى ليلة القدر تنزل الملائكة، كما نزل القرآن الكريم فيها، إذ يقول سبحانه وتعالى: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» .. وفى اقتران نزول «الروح» بقوله تعالى: «مِنْ أَمْرِ رَبِّي» و «مِنْ أَمْرِهِ» و «مِنْ أَمْرِنا» و «مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» إشارة إلى ما يحمل القرآن الكريم من أحكام الله سبحانه وتعالى، وما قضى به سبحانه، من أمر ونهى.. وخصّ الأمر بالذكر، لأن النهى فى حقيقته أمر بالترك للمنهىّ عنه ومجانيته، فهو داخل حكما فى الأمر.. وهذا المفهوم لكلمة «الروح» وأن المراد بها القرآن الكريم، يسانده ما جاء فى الآية الكريمة بعد هذا «وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» حيث كان المشركون يسألون عن القرآن الكريم سؤال استهزاء، من أين جاء به؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 541 وعمن أخذه؟ ومن أعانه عليه، كما يقول الله سبحانه وتعالى عنهم: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ.. فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً» (4: الفرقان) . وقد جاء الرد عليهم فى قوله سبحانه: «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» أي فهذا القرآن وما اشتمل عليه من علم، هو من بعض علم الله.. قوله تعالى: «وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً» . المشيئة الإلهية هنا غير مرادة ولا واقعة، لأنها معلقة بإرادة الله سبحانه وتعالى.. والله سبحانه وتعالى لا يريدها.. فهى مشيئة غير مشاءة.. «فلو» حرف شرط، يفيد امتناع الشرط لامتناع جوابه.. والتقدير: لو شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك.. ولكننا لم نشأ.. والغرض من هذا الشرط غير الواقع، الإشارة إلى أنه ممكن الوقوع، وأن إمكان وقوعه متوقف على مشيئة صاحب المشيئة.. ومنه قوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً» .. ولكنه سبحانه وتعالى لم يشأ أن يقع هذا، ولذلك جاء التعقيب بعد ذلك: «وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ.. وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ» وفى توكيد الفعل الواقعة عليه المشيئة: «لنذهبنّ» - إشارة إلى ما لمشيئة الله سبحانه وتعالى من سلطان غالب لا يدفع، وقوة قاهرة لا تردّ.. وفى الآية إلفات إلى العلم الكثير الذي اشتمل عليه القرآن الكريم، والذي ضمّت عليه آياته وكلماته، وأنه إذا أصغت الآذان إليه، وتفتحت القلوب له، ووردت العقول موارده- وجد عنده واردوه، والمتعاملون معه، والآخذون منه، مذخورا لا ينفد من العلم والمعرفة.. كما يقول سبحانه وتعالى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 542 «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» وكما يقول جل شأنه: «أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ» (51: العنكبوت) فهذا القرآن، وما حمل إلى الناس من هدى ورحمة، وما جمع بين دفتيه من علم ومعرفة- هذا القرآن، وهذا شأنه، قد غفل عنه هؤلاء الغافلون الجاهلون.. ولم يقفوا عند هذا، بل تصدّوا له، وحاربوه، وقال بعضهم لبعض: «لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ» (26: فصلت) .. ثم ها هم أولاء يجيئون من خلف القرآن، ويتسلّلون من ورائه، فى خبث ومكر، يسألون سؤال من يطلب العلم، ويبغى المعرفة، وما هم بطلاب علم، ولا روّاد معرفة.. إذ لو كانوا كذلك لكان فيما نزل عليهم من قرآن ما يملأ عليهم حياتهم علما ومعرفة: «أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ» ؟ (51: العنكبوت) .. - ففى قوله تعالى: «وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» .. تهديد لهؤلاء المشركين بتحويل هذا القرآن عنهم، ورفعه من بينهم، وحرمانهم هذا الخير العظيم المسوق إليهم! ولكن رحمة الله سبحانه وتعالى بك أيها النبىّ وبقومك، هى التي أمسكت هذا الخير عندهم، وأبقته فيهم: «إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً» فبفضل الله سبحانه وتعالى عليك، وإكرامه العظيم لك، قد أبقى على قومك، فلم يعجّل لهم العذاب، ولم يقطع عنهم هذا الخير الذي حملته إليهم بين يديك.. بل جعله الله سبحانه مائدة ممدودة لهم، وموردا يردونه أنّى شاءوا، غير مدفوعين عنه، ولا محرومين منه. قوله تعالى: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 543 الظهير: السّند والمعين.. وهو الذي يسند إليه الإنسان ظهره، فيكون قوة من ورائه. بعد أن أشارت الآيتان السابقتان إلى القرآن الكريم، تلك الإشارة الدالة على ما فيه من علم غزير، وخير كثير، قد غفل عنه المشركون، وأنهم- إذ فعلوا ذلك- ليسوا أهلا لأن يعيش بينهم هذا الخير وذلك العلم، ولكن فضل الله العظيم، على نبيّه الكريم، قد أمسك على قومه هذا القرآن فيهم، ليتداركوا أنفسهم، وليأخذوا بحظهم منه.. نقول: بعد أن أشارت الآيتان السابقتان إلى القرآن الكريم وموقف المشركين منه- جاء قوله تعالى: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً» - ليكون ذلك بيانا كاشفا عن قدر هذا القرآن، وعن علوّه الذي لا ينال، وأنه روح من أمر الله، يحيى موات القلوب والنفوس. فهذا القرآن، مع أن مادته مما يصوغ منها العرب شعرهم ونثرهم، ومع أن كلماته وتراكيبه جارية على ألسنتهم، معروفة لهم- هو معجزة قاهرة متحدّية للإنس والجنّ، أبد الدهر، فمن شاء منهم، فليقف لهذه المعجزة، وليتحدّ هذا التحدي، وليدع إليه من استطاع من الإنس والجنّ، ثمّ لينظر ماذا يكون هذا الذي استطاع هو ومن معه أن يأتوا به، وليعرضوه فى مقام الموازنة والمقايسة بينه وبين القرآن العظيم، ثم ليكن حكمهم فى هذا هو مقطع القول فى إعجاز القرآن أو غير إعجازه! وهو الجواب المفحم عن الروح الذي سألوا عنه! نقول هذا، ولا نحسب أحدا منذ نزل القرآن إلى اليوم، قد دخل فى هذه التجربة، ثم استقام له منها شبهة فى أن أي كلام، مهما بلغ من البلاغة، يدنو من سماء القرآن، وينتظم فى عقده.. وكيف وهو أرض والقرآن سماء، وهو حصى والقرآن جواهر؟! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 544 روى أن أبا العلاء المعرى كان يردد قوله: كم بودرت «1» غادة كعاب ... وعمّرت أمّها العجوز أحرزها الولدان خوفا ... والقبر حرز لها حريز يجوز أن تبطئ المنايا ... والخلد فى الدهر لا يجوز ثم تأوّه مرات، وتلا قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ» (103- 105: هود) .. ثم صاح وبكى بكاء شديدا، وطرح وجهه على الأرض زمانا، ثم رفع رأسه ومسح وجهه، وقال: سبحان من تكلم بهذا فى القدم.. سبحان من هذا كلامه! وإنها لشهادة ناطقة على إعجاز القرآن، وأنه يسقط بين يديه كل كلام وإن علا، وأنه يستخرى بين يديه كل بليغ، وأنه ملك البلاغة، وبزّ البلعاء «2» . الآيات: (89- 96) [سورة الإسراء (17) : الآيات 89 الى 96] وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96)   (1) بودرت. أي عاجلها الموت، وهى كعاب أي صبية قد نهد ثدياها. [ ..... ] (2) انظر فى هذا كتابنا «إعجاز القرآن» فى الجزءين الأول والثاني. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 545 التفسير: قوله تعالى: «وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً» . صرّفنا: بيّنا، وكشفنا، وذلك بعرض الأمر على وجوهه كلّها، حتى ينكشف للناس جميعا.. والتصريف التنويع، ومنه تصريف الرياح، وهو هبوبها من جهات مختلفة. بعد أن بيّن الله سبحانه وتعالى ما فى القرآن الكريم من هذا الإعجاز الذي أعجز الإنس والجنّ، جاء قوله تعالى: «وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً» - جاء ليكشف عن هذا الضلال المبين، وذلك العناد الأعمى، الذي يستبدّ بالناس، فيعميهم عن الحق، ويصرفهم عن الهدى، ويزين لهم الباطل.. فهذا القرآن فى بيانه المبين، وحجته المشرقة القاهرة، وهذه الآيات التي صرّفها الله سبحانه وتعالى فى هذا القرآن، والأمثال التي ضربها للناس فيه، كلّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 546 هذا لم تبصره أبصار الضالين، ولم تطمئن به قلوب المشركين، بل إن ذلك قد زادهم نفورا عن الهدى، وبعدا عن الحق.. شأنهم فى هذا شأن كثير من الهوامّ والحشرات التي يأخذ ضوء النهار على أبصارها، فتفرّ من كل مكان يلوح منه ضوء! قوله تعالى: «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً» . هذا بيان لما كان عليه المشركون من عناد ومكابرة فى الحق.. فهم إذ عموا عن آيات الله، وإذ لم يروا منها ما يراه أهل السلامة والعافية، لم يتّهموا أنفسهم، ولم ينظروا إلى هذا الداء المتمكن منهم، فلجّ بهم فى الضلال، وساقهم إلى هذا التيه الذي هم فيه، بل اتهموا القرآن نفسه، وقالوا: «إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ» «إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» ثم راحوا يتحدّون النبىّ، ويقترحون عليه فى مجال التحدّى أن يأتيهم بآيات مادّية يرونها بأعينهم، ويلمسونها بأيديهم.. - «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً» .. فهذه واحدة من مقترحاتهم.. أن يفجر لهم ينبوعا من الأرض يتدفق منه الماء، كما فعل موسى مع بنى إسرائيل بعصاه. وأخرى.. هى أن تكون للنبىّ جنة من نخيل وعنب، تجرى من تحتها الأنهار فى وسط هذه الصحراء الجديب.. «أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً» .. وثالثة.. هى أن يسقط عليهم السّماء، فتطبق على الأرض وتحيلهم وديارهم ترابا فى ترابها. «أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً» .. والكسف: القطع.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 547 ورابعة.. وهى أن يأتيهم بالله ومعه الملائكة.. «أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا» .. والقبيل: ما يقابل الشيء ويواجهه، ومنه القبلة، لأنها فى مقابل من يتجه إليها، ويقبل عليها.. وخامسة.. وهى أن يكون له بيت عظيم، وقصر مشيد، كقصر كسرى أو قيصر، تحتشد فيه الزخارف، وتجتمع فيه ألوان الزينة والترف.. «أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ» أي من ذهب. وسادسة، وهى أن يرقى فى السماء، ويرى صاعدا إليها، كما تصعد الطيور الى ما فوق السحاب.. «أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ..» وإنهم لن يصدّقوا ما تراه أعينهم، إذا هو صعّد إلى السماء، فقد يكون ذلك من قبيل السّحر، وإنّما الذي يجعل من صعوده إلى السماء آية عندهم، أن يعود إليهم، ومعه كتاب كالكتاب الذي جاء به موسى.. «وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ» .. فهذه مقترحاتهم المتحدية، التي اقترحوها على النبىّ، وله أن يختار أيّا منها.. فإن أعجزته واحدة، فليختر غيرها.. فإن أعجزته هذه المقترحات كلها، فقد أسقط فى يده، وظهر عجزه، وكان عليه أن يستسلم لهم، ويدع ما يدعوهم إليه.. وفى هذه المقترحات أمور.. منها: أولا: أنها صيغت صياغة يبدو منها أن القوم قد أنصفوا النبىّ، ولم يجيئوا إليه متعنّتين، حيث وضعوا بين يديه أكثر من سبيل، فيتخيرّ أيسرها عليه، وأقربها تناولا منه.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 548 وثانيا: أنهم لم يقصروا مقترحاتهم على مطالب ذات نفع خاص بهم، حتى يقال عنهم إنهم طلّاب منفعة، وأصحاب أهواء.. فهم إذ طلبوا أن يفجّر لهم من الأرض ينبوعا، طلبوا أن يسقط السّماء عليهم كسفا.. وهم إذ طلبوا لأنفسهم أن يفجّر لهم من الأرض ينبوعا، طلبوا له أن ينشىء لنفسه جنّة من نخيل وعنب، تجرى من تحتها الأنهار وليس نهرا واحدا، كما طلبوا أن يقيم له قصرا مشيدا، مزخرفا، مموها بالذهب. وثالثا: أن أصابع اليهود تبدو بصماتها واضحة على تلك المقترحات، وأنهم هم الذين صاغوها للمشركين تلك الصياغة الخبيثة الماكرة.. إذ هم أصحاب قدم راسخة فى هذا الضلال الذي كانوا يلقون به رسل الله إليهم.. فقد سألوا موسى أن يريهم الله جهرة، كما يقول الله تعالى عنهم: «وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» (55: البقرة) . ومن مواقفهم الماكرة مع موسى أنهم أرادوا أن يمتحنوا قدرته على الاتصال بالله، فطلبوا إليه أن يأتيهم بطعام غير المنّ والسّلوى، وهو طعام سماوى وضعه الله فى أيديهم.. فقالوا «فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها، قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ» (61: البقرة) . فهذه المقترحات التي اقترحها المشركون على النبىّ لم يكن مرادا بها إلّا التحدّى، حتى ولو كان فى هذا التحدّى هلاكهم! فقولهم: «أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً» هو من قبيل ما طلبه بنو إسرائيل، من استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير!! وقد أمر الله نبيّه أن يردّ على مقترحاتهم تلك بقوله سبحانه: «قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا» .. وقد تضمن هذا الرد أمرين: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 549 أولهما: أنه- صلوات الله وسلامه عليه- ليس إلا بشرا مثلهم، وأنه محكوم بهذه البشرية التي تحكمهم، وأنه بحكم هذه البشرية ليس مما يحسب عليه، أو ينقص من قدره ألّا يأتى بشىء من هذه المقترحات التي اقترحوها عليه.. لأنها خارجة عن حدود البشر. وثانيا: أنه رسول، ومن شأن الرسول ألّا يخرج عن الحدود التي رسمها له من أرسله، وإلا كان خائنا للرسالة، وحينئذ يكون ما يعمله أو يقوله هو لحسابه الشخصي، وفى حدود مقدرته.. والرسول حريص على أداء الرسالة التي أمر بتبليغها، ملتزم الحدود المرسومة له.. فإذا حدثته نفسه بالخروج عن حدود رسالته، فمعنى هذا أنه انسلخ عن صفته تلك، ولم يعد رسولا، وأصبح مجرد «بشر» لاصلة له بالسماء.. وإذا كان كذلك، فإنه ليس له سبيل إلى الإتيان بشىء من هذه المقترحات التي يقترحها المشركون عليه، والتي هى فوق طاقة البشر! ففى هذا الرد المعجز: «هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا» إفحام لهؤلاء المشركين، الذين يجهلون تلك البديهيات، وهى أن الرسول الذي يقترحون عليه هذه المقترحات، هو بشر منهم، قبل أن يكون رسولا، وأن كونه رسولا لا يخرجه عن بشريته، وأنه إنما يعطى ما تقدمه له السماء، كما يقول الله سبحانه وتعالى له: «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ» (110: الكهف) وكما يقول سبحانه: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ» (44- 47: الحاقة) . قوله تعالى: «وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا» .. الناس، هنا، هم مطلق الناس، فى كل زمان ومكان.. والمراد بهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 550 أولئك الذين يلقون رسل الله بالبهت والتكذيب، ويقفون منهم موقف العناد والتحدّى، وقد جاء النظم القرآنى بكلمة «الناس» على إطلاقها، لأن الكثرة الغالبة فى الناس، هى التي لا تؤمن بالرسل، وقليل منهم أولئك الذين يؤمنون.. كما يقول سبحانه: «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» (103: يوسف) .. والشبهة التي تفسد على هؤلاء الضالين رأيهم فى رسل الله، وتصوّرهم للطبيعة التي يكونون عليها- هى أن الرسل الذين يكونون سفراء بين الله والناس، ينبغى أن يكونوا- حسب تقديرهم- على مستوى فوق مستوى البشر، إذ لو كان من الممكن أن يتصل إنسان بالله، لكانوا هم- أي هؤلاء الضالون المنكرون- أهلا لهذا الأمر، وأولى به من هذا الرسول، الذي يدّعى تلك الدعوى على الله..!! فهذا الإنكار الذي يواجه به المشركون رسل الله، إنما يقوم أساسا عند هؤلاء المنكرين، على أمرين: أولهما: أن البشر عموما فى مستوى دون هذا المستوي الذي يستطيع فيه إنسان أن يتصل بالله. وثانيهما: أنه لو كان فى الإمكان أن يتصل إنسان بالله، فلن يكونه هذا الإنسان الذي يدّعى أنه رسول من عند الله! فهناك عندهم من هم أولى منه.. حتى لكأن ذلك مما يتزاحمون عليه من مظاهر الحياة المادية.. والله سبحانه وتعالى يقول: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» (124: الأنعام) . وقوله تعالى: «قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا» - هو ردّ على هؤلاء الذين ينكرون أن يبعث الله بشرا رسولا، ويرفضون التعامل مع أي إنسان يقول إنه رسول من ربّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 551 العالمين.. ويطالبون أن يكون المبعوث إليهم ملكا من ملائكة الله، أو الله ذاته، كما يقول سبحانه على لسانهم: «وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً» (21: الفرقان) . - وفى قوله تعالى: «لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ» استبعاد لصلاحية الملك أن يؤدى رسالة الرسول بين الناس.. إنه ملك، وهم بشر.. فلو جاء إلى الناس على صورة غير صورة البشر لفتنوا به إذا خاطبهم- وهو غير إنسان- بلسانهم وتحدّث إليهم بلغتهم. ولو جاءهم فى صورة إنسان، لظلت الشبهة قائمة عندهم فى أن هذا الرسول بشر.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ» (9: الأنعام) أي أنه إذا كان من تدبير الله سبحانه وتعالى أن يبعث إلى الناس ملكا رسولا لاقتضت حكمته أن يكون هذا الملك فى صورة بشرية كاملة، حتى يمكن أن يلتقى بالناس ويبلغهم رسالة ربّه! وهذا لا يغيّر من واقع الحال شيئا.. فملك فى صورة بشر.. هو فى حساب الناس بشر. قوله تعالى: «قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً» هو تهديد لهؤلاء المشركين، بأن يتركهم النبىّ وشأنهم، وما هم فيه من ضلال وعمى، بعد أن أبلغهم رسالة ربّه، ورفع لأبصارهم أضواء الحق، وأنوار الهدى.. والله شهيد على ما كان من النبىّ وما كان منهم، والله سبحانه لا تخفى عليه خافية، إنه كان بعباده خبيرا بصيرا، مطلعا على ما يسرّون وما يعلنون. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 552 الآيات: (97- 100) [سورة الإسراء (17) : الآيات 97 الى 100] وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100) التفسير: قوله تعالى: «وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً» . مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة قد كشفت عن وجوه منكرة للمشركين، الذين أعماهم الضلال، وأصمهم الكبر، فلم يروا ما يشع من آيات الله من أضواء، ولم يستمعوا إلى ما تحمل إليهم من هدى، بل جعلوا يهزءون ويسخرون برسول الله، وبكلمات الله، ويجيئون إلى الرسول الكريم يتحدّونه بتلك المقترحات التي يقترحونها عليه، وبتلك الأسئلة المتعنتة التي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 553 يسألونه إياها- فناسب أن يجىء قوله تعالى: «وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ» ليكشف عن طبيعة هؤلاء المشركين، وأنهم ممن لم يرد الله أن يطهّر قلوبهم، وأنهم لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم.. فهؤلاء المشركون هم ممن حقّت عليهم كلمة العذاب، وأنهم أصحاب النار، وأنهم إن يدعوا إلى الهدى فلن يسمعوا، ولن يهتدوا أبدا.. هكذا كانت مشيئة لله فى هؤلاء الضالين المشركين، ولن يردّ عنهم مشيئة الله، ولىّ ولا نصير. وإذن فإنهم سيموتون على ما هم عليه من كفر وضلال، فإذا حشروا يوم القيامة، سحبوا على وجوههم إلى جهنم، وجرّوا إليها جرّا، كما يقول سبحانه وتعالى: «يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ» (48: القمر) وفى سحبهم على وجوههم إذلال لهم وامتهان لإنسانيتهم، وقد كانت هذه الوجوه تلبس ألوانا من الكبر، والصّعر، والتعالي على العباد. - وفى قوله تعالى: «عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا» إشارة إلى ما يحيط بهم من هول، وما ينزل بهم من كرب، حتى لتذهب حواسّهم، وتتعطل جوارحهم.. فلا يبصرون، ولا يتكلمون، ولا يسمعون. - وقوله تعالى: «مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ» أي مصيرهم، ومستقرّهم. - وقوله تعالى: «كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً» أي كلّما أخذت هذه النار فى الخمود، وخفّ عليهم سعيرها، زادت اشتعالا وسعيرا، وذلك مما يضاعف فى آلامهم، ويزيد من عذابهم، حيث تتغاير بهم أحوال العذاب، فيتقلبون بين اليأس والرجاء، وبين الموت والحياة.. وذلك هو العذاب فى أقسى صوره، وآلمها.. على خلاف ما لو كان العذاب الواقع بهم على حال واحدة، ولو كان بالغا غاية الشدة، فإنه بعد فترة من الزمن يصبح شيئا رتيبا، يجرى على وتيرة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 554 واحدة، أشبه بالمألوف المعتاد من مرّ الأمور وحلوها. قوله تعالى: «ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً» . هو بيان للسبب الذي من أجله أخذ هؤلاء الضالّون بما أخذوا به، من عذاب ونكال.. إنهم كفروا بآيات الله، وبرسول الله، وبما دعاهم إليه من الإيمان بالله، وباليوم الآخر.. ولم يقع فى تصورهم أنهم يبعثون بعد الموت، وشكّوا فى قدرة الله أن يعيد إليهم الحياة بعد أن يموتوا ويصبحوا عظاما نخرة، ورفاتا ضائعا فى التراب. والاستفهام هنا إنكارى، حيث ينكر المشركون البعث، ويقولون «إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» (29: الأنعام) .. بل إنهم ليقسمون على هذا قسما مؤكدا حتى يقطعوا على أنفسهم طريق النظر فى هذا الأمر أو التفكير فيه.. «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ» (38: النحل) . قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً» . هو ردّ على هؤلاء المشركين الذين يكذبون بالبعث، ويقولون منكرين: «أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً» .. فلو أنهم كانوا على شىء من الإدراك السليم، لرأوا فى قدرة الله سبحانه وتعالى ما ينزهها عن العجز.. فهى قدرة قادرة على كلّ شىء.. ولو لحقها العجز عن شىء ما لما كانت من صفات الكمال الواجبة لله. فهذا الوجود كله فى سمائه وأرضه، هو بعض صنعة هذه القدرة.. وتلك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 555 القدرة التي أوجدت السموات والأرض ومن فيهن، قادرة على أن تخلق مثل ما خلقت.. فالخلق الثاني أهون من الخلق الأول، الذي جاء على غير مثال.. «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (27: الروم) .. وبالتالى فإن خلق الناس من جديد، وهم بعض هذا الوجود، هو بالقياس إلى الطبيعة البشرية- أهون- من خلق السموات والأرض.. كما يقول سبحانه وتعالى: «لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ.. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» (57: غافر) . - وفى قوله تعالى: «قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ» مبالغة فى الرد على المشركين المنكرين للبعث.. فالناس لا يخلقون خلقا عند بعثهم من الموت، وإنما البعث إعادة لما كانوا عليه.. ولكن جاء التعبير القرآنى بلفظ الخلق ردّا على قول المشركين: «أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً» ؟ - وقوله تعالى: «وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ» . الفعل معطوف على قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا» الذي يراد به الماضي، بمعنى لقد رأوا، وإن كانت هذه الرؤية لم ترفع عن أبصارهم هذا الضلال الذي هم فيه.. والمراد بالأجل، هو الأجل الموقوت للبعث والقيامة، وهو آت لا ريب فيه.. كما يقول سبحانه: «وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ» (104: هود) . - وفى قوله تعالى: «فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً» وفى ذكر الظالمين باللفظ الظاهر بدلا من الضمير، الذي يقتضيه السياق- فى هذا ما يكشف عن حقيقتهم، وأنهم موصوفون بالظلم، لبعدهم عن الحق، ومكابرتهم فى الحقائق المسلّمة، وافترائهم على الله الكذب.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 556 افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» (7: الصف) . قوله تعالى: «قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً» .. القتور. البخيل، البالغ الغاية فى البخل، والإقتار: ضد الإسراف، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً» (67: الفرقان) . وضمير الخطاب: موجه إلى هؤلاء المشركين، الذين أشار إليهم قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ» .. وفى العدول عن الغيبة إلى الخطاب، ليواجه المشركون بهذا الاتهام، وليكونوا هم وحدهم الممثلين للإنسانية فى هذه الصفة الذميمة، صفة البخل، الذي ينضح عن طبع جاف، غليظ، مستبدّ. ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة ذكرت فيما ذكرت عن المشركين، أنهم أعنتوا النبىّ وأبوا أن يستجيبوا له، ولم يكن ذلك منهم عن جهل بهذه المعجزة الكبرى التي جاءهم بها النبىّ، فهم أعلم الناس بالقرآن، وأنه فوق أن يأتى البشر بسورة من مثله، ولكن آفتهم التي ذهبت بهم مذاهب الضلال بين يدى هذا الصبح المشرق المبين، هى أن الذي جاءهم بهذه المعجزة، بشر مثلهم.. فكيف يكون لإنسان مثلهم أن يستأثر بهذا الفضل، ويستولى على هذا السلطان؟ - فناسب ذلك أن يجىء قوله تعالى: «قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً» وفى هذا ما يكشف عن الطبيعة الكامنة فيهم، بل الطبيعة الغالبة على الناس جميعا، وهى حسد الناس بعضهم لبعض، لما ركّب فيهم من أثرة وحبّ للذات! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 557 فلو أن إنسانا ملك الدنيا كلها بين يديه لاستحوز عليها لنفسه، ولأبى أن يشاركه أحد فيما ملك.. وأكثر من هذا.. فإنه لو أن إنسانا من الناس ملك خزائن رحمة الله التي لا تنفد أبدا على الإنفاق منها، لما أعطى أحدا منها شيئا.. لا لشىء، إلا لأنه يريد بهذا أن يكون السّيد المفرد بين الناس! فالإنسان يرى أخاه الإنسان منافسا خطيرا له، وفى مجال هذا التنافس يقوم، بين الناس والناس التحاسد، حتى ليتمنّى بعضهم لبعض الفقر والحاجة! على حين أن الإنسان لا ينفس على المخلوقات الأخرى ما حباها الله به من قوة أو سلطان أو جمال! وقد قيل: «لا كرامة لنبىّ فى وطنه» .. ولله درّ المعرّى إذ يقول: أولو الفضل فى أوطانهم غرباء ... تشذّ وتنأى عنهم القرباء ومن هنا كانت العداوة أشدّ بين الناس كلّما تشاكلت أحوالهم، وتقاربت ديارهم! - ففى قوله تعالى: «لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ» كلام محذوف، تقديره: لأمسكتم خشية أن تنفقوا فتتسع أرزاق الناس، ويكثر الخير فى يدهم، وفى هذا ما يفوت عليكم مقام التفرّد، والاستعلاء على الناس! - وقوله تعالى: «وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً» هو حكم عام على الناس فى جملتهم، وأنهم يمسكون أيديهم عن الإنفاق، ولو كان لأحدهم ملء الأرض ذهبا، ليحقّق ذاته، ويفردها بين الناس بما جمع من كنوز الدنيا.. والرسول الكريم يقول: «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لمنّى ثالثا!!» .. وإنه ليس به من حاجة إلى هذا الثالث، بل إنه ليكيه القليل مما ضمّ عليه أحد الواديين.. ولكنه كما قلنا- الأثرة وحبّ الذات! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 558 الآيات: (101- 104) [سورة الإسراء (17) : الآيات 101 الى 104] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104) التفسير: قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً» . مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة عرضت المشركين، وموقفهم من النبىّ إذ جاءهم بالمعجزة القاهرة، البادية لهم فى كلمات الله، فأبوا أن يستمعوا لها، ووقفوا من النبىّ الكريم موقف التحدّى، يطالبونه بآيات مادّية محسوسة.. فناسب ذلك أن يذكّروا بهذا المشهد من الحياة الماضية، الذي أعاد التاريخ سيرته فيهم، فكانوا صورة مكررة له.. فهذه آيات مادية محسوسة.. ليست واحدة، ولكنها تسع آيات بيّنات، قد جاء بها موسى إلى فرعون، وعرضها عليه، واحدة واحدة، وكل واحدة منها تحدّث بلسان مبين أنها من عند الله، إذ كانت معجزة محسوسة لا ينكرها إنسان له عين يبصر بها. فماذا كان من فرعون إزاءها؟ لقد أنكرها، وكفر بها، وازداد معها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 559 بغيا وعدوانا. وقال فى موسى تلك القولة التي يقولها المشركون فى «محمد» صلوات الله وسلامه عليه.. «إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً» .. فبين هؤلاء المشركين من قريش، وبين فرعون نسب قريب، يجمعهما فيه، الجبروت والطغيان، واستغلاق القلوب، وظلام النفس، وضلال الرأى.. وهذه المقترحات التي يقترحها مشركو قريش على النبىّ، قد جاء بمثلها نبىّ من أنبياء الله إلى «فرعون» فلم يجد فيها مقنعا، ولم ير إلا أنها كيد من كيد موسى، وسحر من سحره.. ولو جاء النبىّ إلى هؤلاء المشركين بتلك الآيات، أو ما يماثلها، أو يزيد عليها، لما تغير موقفهم من النبي، بل لزادهم ذلك ضلالا إلى ضلال، وفتنة إلى فتنة.. والآيات التسع التي قدّمها موسى بين يدى فرعون.. هى: العصا التي يلقيها فإذا هى ثعبان مبين، ويده التي يدخلها فى جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء.. فهاتان آيتان.. ثم ما أخذ الله به فرعون وقومه على يد موسى من السّنين، وهى سنوات من القحط والجدب، حيث كان النيل يجفّ.. ثم مارماهم الله به من الآفات المهلكة التي أتت على الزروع والثمار، بعد أن أينعت وأثمرت! .. فهاتان آيتان.. كما يقول سبحانه: «وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» (130: الأعراف) .. ثم ما سلّط الله سبحانه وتعالى على فرعون وقومه من الطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدّم.. كما يقول سبحانه: «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ، وَالْقُمَّلَ، وَالضَّفادِعَ، وَالدَّمَ.. آياتٍ مُفَصَّلاتٍ» (133: الأعراف) وهذه خمس آيات.. وقد شرحنا هذا فى سورة الأعراف.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 560 وفى قوله تعالى: «فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً» دعوة إلى بنى إسرائيل، ليشهدوا على هذا الذي يقوله القرآن الكريم، فيما يقصّ من خبر موسى وفرعون.. وفى دعوة بنى إسرائيل إلى الشهادة هنا، فضح لهم، ولماهم عليه من ضلال.. إذ أنهم يعلمون منذ اليوم الأول للرسالة الإسلامية، أن رسولها مبعوث من عند الله، وأن ما بين يديه من قرآن، هو كلمات الله.. وقد كان الواجب يقتضيهم- ديانه وخلقا- أن يؤازروا النبىّ، وأن يؤيدوه فى دعوته، وأن يؤدّوا الشهادة فى النبىّ على وجهها، إذا هم سئلوا من قريش.. لا أن يكونوا قوة مستترة وراء المشركين، يمدونهم بكلمات الزور والضلال، ويلقون بها بين يدى الدعوة الإسلامية.. حيث كان اليهود عند المشركين موضع ثقة فيما يتصل بالرسل والرسالات، لأنهم أهل كتاب. وقد ذكر القرآن الكريم كثيرا من تلك المواقف اللئيمة التي كان يقفها اليهود من النبىّ ومن رسالته.. كما يقول سبحانه وتعالى فيهم: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا» (51: النساء) .. قوله تعالى: «قالَ.. لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً» . البصائر: جمع بصيرة، وهى القوة العاقلة فى الإنسان، التي تكشف له الأمور، وتربه عواقبها. والمثبور: الهالك.. وهو من الثبور، أي الهلاك.. - وفى قول موسى لفرعون: «لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ» - إشارة إلى أن هذه الآيات التي رآها فرعون، من شأنها أن تقيم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 561 فى كيان من يراها، علما محققا، ويقينا راسخا بأنها من عند الله.. فهى آيات ناطقة، لا تحتاج إلى أكثر من إنسان، له ما فى الإنسان من سمع وبصر وعقل، إذا هو التقى بها، ونظر فيها، أرته من وجهها ما يشهد بأنها من عند الله، وأن الرسول الذي جاء بها، إنما هو رسول الله! وإذن، فمن شأن فرعون- إن لم يكن قد علم- أن يعلم أن هذه الآيات إنما نزلت من عند الله، وأن موسى ليس إلا حاملا لها، ومبلغا إياها..! وهو ما يشير إليه قول موسى لفرعون: «لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» .. أي إنك لتعلم هذا، ولكن العناد والكبر، يأخذان عليك الطريق إلى الإقرار بالحق، والإذعان له.. وفى الإشارة إلى الآيات بإشارة العقلاء «هؤلاء» ما يدل على أنهن آيات تنطق بلسان مبين، وتحدّث عن نفسها، وتبين عن حقيقتها، حتى لكأنها ذات عقل يدرك، ولسان ينطق. - وفى قول موسى لفرعون: «وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً» ردّ على قول فرعون له: «إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً» .. والظن هنا بمعنى اليقين، سواء ظن فرعون، أو ظن موسى.. ففرعون يقول عن يقين قائم على جهل وعناد، وموسى يقول عن يقين، يشهد به واقع الحال، ويدلّ عليه ما ركب فرعون من كبر وعناد! قوله تعالى: «فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً» . الاستفزاز: الإفزاع، والإزعاج.. وإرادة فرعون، هى همّه، وتأهبه.. أي أنه عند ما رأى فرعون ما رأى من معجزات، وأبى أن يؤمن بها، وأعجزته الحيلة عن أن يتحدّى تلك المعجزات- أراد أن ينتقم من بنى إسرائيل، الذين جاء موسى ليخّلصهم من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 562 يده، ويخرج بهم من مصر، وذلك بأن يبطش بهم، ويقضى عليهم قضاء مبرما، حتى لا يكون لموسى موقف معه بعد أن يصبح أو يمسى فلا يجد لبنى إسرائيل أثرا، ولكن مكر الله به كان أسرع، فساقه هو وجنوده إلى البحر، حيث هلك وهلك كل من ركب البحر وراء بنى إسرائيل معه.. قوله تعالى: «وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً» . اختلف المفسرون فى المراد من «الأرض» التي دعى بنو إسرائيل إلى سكناها.. وأكثر الآراء على أنها الأرض المقدسة التي أشار إليها قوله تعالى على لسان موسى: «يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ» (21: المائدة) . كذلك اختلف المفسرون فى المراد بوعد الآخرة: فى قوله تعالى: «فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ» ويكاد يكون إجماعهم على أنه يوم القيامة.. والرأى الذي نميل إليه، أن المراد بالأرض، هو مطلق الأرض.. وهذا يعنى أن يتبعثر بنو إسرائيل فى وجوه الأرض كلها، وأن يتناثروا فى أقطارها، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً» (168: الأعراف) .. وقد قطّعوا أمما، وتناثروا فى آفاق الأرض كلها.. وعلى هذا يكون المراد بوعد الآخرة هنا، هو ما أشار إليه سبحانه وتعالى فى قوله: «فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ» (7: الإسراء) .. ويكون معنى الآية: أن الله سبحانه وتعالى قد حكم على بنى إسرائيل بأن يتقلبوا فى هذه الأرض، فيجتمعوا ويتفرقوا، فإذا اجتمعوا وقامت لهم دولة وسلطان، فسدوا وأفسدوا، فيسلط الله سبحانه وتعالى عليهم من يضربهم بيد البلاء، فيشتت شملهم، ويمزّق جمعهم.. وأن هذا الجمع والتفرق سيقع منهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 563 مرتين.. أما المرة الأولى، فهى تجربة لهم، فإذا كانت الثانية، وعادوا إلى ما كانوا عليه فى المرة الأولى، ضربهم الله سبحانه وتعالى الضربة القاضية، التي لا قيام لهم بعدها.. وهذا يعنى أنه إذا جاء وعد المرة الآخرة، جاء بهم الله سبحانه وتعالى «لَفِيفاً» أي من شتّى بقاع الأرض، وعندئذ تقوم لهم دولة، ولكنها دولة تحمل فى كيانها عوامل هدمها، كما تقوم عليه هذه الدولة الآن، من بغى، وعدوان وعندئذ تحقّ عليها كلمة الله.. «فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً» . وأصل «اللفيف» من اللّفّ، وهو لفّ الشيء فى الشيء، وإخفاؤه فيه.. ومنه الشجر الملتفّ، وهو الذي تشابكت أغصانه، فأطبقت على ما تعلوه من أرض، حتى لا يكاد ينفذ إليها شىء من خارج.. وهذا يعنى أن مجىء بنى إسرائيل إلى وعد الآخرة، إنما يكون من حيث تاهوا وضلوا فى وجوه الأرض، ولم يكن له وضع ظاهر فيها.. وقد أشرنا إلى هذا فى أول السورة، فى مبحث خاص.. الآيات: (105- 111) [سورة الإسراء (17) : الآيات 105 الى 111] وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 564 التفسير: قوله تعالى: «وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً» . الضمير فى أنزلناه، يعود إلى القرآن الكريم، وليس هناك مذكور يعود إليه هذا الضمير، وفى هذا ما يشير إلى علوّ مقام القرآن، وأنه أظهر وأشهر من أن يذكر للدلالة عليه.. فإذا ذكر الحقّ الذي نزل من السماء، واستقرّ حقّا قائما فى هذه الأرض، مصاحبا للناس- كان ذلك معنيّا به القرآن الكريم وحده، دون سواه. وهنا سؤال: كيف يكون ذلك الوصف خاصّا بالقرآن الكريم وحده، مع أن الكتب السماوية كلّها إنما نزلت بالحقّ، لأنها من عند الله؟ والجواب على هذا، هو أن هذه الكتب، وإن تكن قد أنزلها الله سبحانه وتعالى، بالحقّ، كما أنزل القرآن.. إلا أنها حين اتصلت بالنّاس، عبثوا بها، وغيّروا معالمها، وأخفوا الحق الذي نزلت به.. أما القرآن الكريم، فقد أنزله الله سبحانه وتعالى بالحق، وأنه سبحانه تولّى حفظ هذا الحقّ الذي نزل به، فلم تبدّل آياته، ولم تحرّف كلماته.. وهذا هو بعض السرّ فى قوله تعالى: «وَبِالْحَقِّ نَزَلَ» .. أي ملازما للحقّ، قائما عليه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» .. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 565 (9: الحجر) فالقرآن محفوظ بقدرة الله من أن تمتد إليه يد التحريف والتبديل.. فهو نعمة تامّة، أنعم الله بها سبحانه وتعالى على هذه الأمة، لتكون منار هدى ورحمة للناس إلى يوم الدّين. أما الكتب السماوية السابقة، فهى نعم من عند الله، ابتلى بها من أنعم الله عليهم بها، وشأنها فى هذا شأن كل نعم الله، يخلى الله سبحانه وتعالى بينها وبين أهلها، إن شاءوا حفظوها، وإن شاءوا ضيعوها.. ولهذا، فقد جعل الله سبحانه وتعالى هذه الكتب، أمانة فى يد القائمين عليها من أحبار ورهبان.. وهذا ما يشير اليه قوله تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ» (44: المائدة) فهم الموكّلون بحفظ كتبهم التي هى أمانة فى أيديهم.. فإن شاءوا حفظوها، وإن شاءوا ضيعوها، شأنهم فى هذا شأنهم فى كل أمانة يؤتمن الناس عليها.. وقد ضيع أهل الكتاب هذه الأمانة، فلم يرعوها حقّ رعايتها، بل مكروا بآيات الله، فغيّروا وبدّلوا، وألقوا بأهوائهم فيها.. على هذه الصورة الشائهة التي فى أيديهم.. - وفى قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً» إشارة إلى أن مهمّة النبىّ هى إبلاغ هذا الكتاب، والتبشير بما يحمل إلى الذين يؤمنون به من رضوان الله، وثوابه العظيم لهم، فى الدنيا والآخرة، والإنذار بما يحمل إلى المكذبين، من وعيد بالبلاء والنقمة وسوء المنقلب.! تلك هى وظيفة النبي مع هذا الكتاب الذي أنزله الله عليه.. أما حفظه، فقد تولّاه الله سبحانه وتعالى. فليفرغ النبىّ جهده كلّه، إلى إبلاغه للناس! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 566 قوله تعالى: «وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا» . والواو فى قوله تعالى: «وَقُرْآناً» هى واو العطف، وما بعدها معطوف على الآية قبلها.. لتثبت وصفا آخر للقرآن.. فكما أنه نزل بالحق، وبالحق استقرّ وثبت، ولم يلحقه تبديل أو تحريف- هو كذلك نزل قرآنا منجّما، ولم ينزل مرة واحدة. وفى تنكير «قُرْآناً» تنويه به، ورفع لقدمه، وأنه لتفرده بهذا الوصف، مستغن عن كل تعريف.. إذ كان هو وحده المستأهل لأن يقرأ، وأن يؤثر بالقراءة من كل قارئ. و «فرقناه» أي نزلناه مفرّقا، ولم ينزل كلّا واحدا، كما نزلت الكتب قبله.. وأصله من الفرق، وهو الفصل بين الشيئين، كما يقول سبحانه وتعالى: «فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ» (63: الشعراء) أي أن موسى حين ضرب البحر بعصاه انفلق، وانشق، فكان كل فرق، أي جانب، كالجبل العظيم وقد قرىء «فرّقناه» بتشديد الراء.. وهذا يؤيد المعنى الذي أشرنا إليه كما يؤيده قوله تعالى بعد ذلك: «لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ» .. فهذا تعليل للسبب الذي من أجله أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن على مكث، أي على زمن متطاول، فنزل منجّما، أي مفرّقا فى نحو ثلاث وعشرين سنة.. وذلك ليعيش النبىّ والمؤمنون معه، على هذا الزاد الكريم، المختلف الألوان، والطعوم، طوال تلك المدّة التي كان القرآن يتنزل فيها، وهم يرصدون مطلع كلّ آية، ويشهدون بزوغ كل كلمة.. وبهذا ظل النبي والمؤمنون معه خلال هذه السنين الثلاث والعشرين فى مقام الانتظار لهذا الضيف العظيم، تطلع عليهم مواكبه موكبا، موكبا، وتلقاهم أضواؤه، شعاعة شعاعة، حتى إذا كان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 567 آخر كوكبة فى مواكبه، وآخر ضوءة بين السماء والأرض- أذّن مؤذّن الحق: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» وعندها صافح النبىّ هذا الوافد الكريم، فى موكبه الحافل، وسناه المشرق، ثم ودّعه، لينتقل هو- صلوات الله وسلامه عليه- إلى الرفيق الأعلى، وليقيم القرآن فى الناس مقامه، حيث يجتمع عليه المسلمون، ويستقبلون من آياته وكلماته إشارات الهدى، إلى حيث الفلاح والنجاة، فى الدنيا والآخرة جميعا.. - وفى قوله تعالى: «لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ» وفى تعدية الفعل «قرأ» بحرف الجرّ «على» «على الناس» بدلا من اللام: «للناس» . إشارة إلى علوّ هذا القرآن، وأنه بحيث يشرف عليهم من عليائه، فيملأ وجودهم نورا، وألقا، وبحيث يكشف لهم كلّ خفيّة، إذا هم جعلوا أبصارهم إليه، ووجهوا عقولهم وقلوبهم له.. فلا تعمّى عليهم المسالك، ولا تتفرق بهم السبل، وفى هذا يقول الرسول الكريم «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا بعدي أبدا: كتاب الله وسنّتى» . - وفى قوله تعالى: «وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا» بيان للأسلوب الذي نزل به القرآن خلال هذا الزمن الذي نزل فيه، وأنه نزّل تنزيلا.. أي نزل شيئا شيئا، وهذا يعنى أن القرآن الكريم وإن تلقّاه النبىّ آية آية، وآيات آيات، وسورة سورة- فإنه فى جميع أحواله تلك، هو القرآن الكريم كلّه.. ففى الآية الواحدة، أو الآيات، يعرف القرآن الكريم، ويعرف أنه كلام ربّ العالمين، وأنه المعجزة القاهرة المتحدية، التي تقصر دونها أيدى البلغاء، وتخضع لجلالها رقاب الفحول من الشعراء والخطباء! فالآيات القليلة التي تلقّاها النبىّ فى صدر دعوته، كانت صورة مصغرة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 568 للقرآن الكريم كله.. بها تحدّى قريشا، وبها أفحمهم وأعجزهم!. وإذا كان لنا أن نمثّل الصورة التي تنزل بها القرآن، فإنه يمكن أن نرى فى القمر وفى مطالعه ومنازله، أقرب صورة له.. حيث القمر هو القمر فى جميع مطالعه، وإن لم ينكشف من وجهه، هلالا، ما انكشف منه، بدرا.. إنه فى جميع أحواله آية من آيات الله، وإن أية لمعة بارقة منه هى إشارة مبينة عنه، ونبأ عظيم يحدّث عن بهائه وجلاله وروعته! .. ومع هذا، فإن العيون الكليلة لا تنبهر به، والقلوب المريضة لا يروعها ما يروع القلوب من هذا الجلال والجمال المطلّ به على الوجود.. تماما كالقرآن الكريم الذي لم تتفتح له قلوب، المستكبرين الضالين، حتى بعد أن تم وكمل، على حين انجذب إليه المهتدون المؤمنون مع أول آية من آياته، ولأول إشارة من إشاراته.. قوله تعالى: «قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا» . فى هذه الآية إشارة إلى أن شأن أولئك المكابرين المعاندين، الذين يقفون من كتاب الله هذا الموقف المنحرف، وينظرون إليه هذا المنظر المريض- إشارة إلى أنهم لا يعلون من قدر القرآن شيئا، إذا هم آمنوا به، ولا ينزلون من قدره شيئا، إذا هم أمسكوا أنفسهم على الكفر، وأبوا أن يعترفوا بأنه كلام الله، وأن الرسول الذي جاء به هو رسول الله.. إنه مائدة الله الممدودة بهذا الخير الذي لا ينفد على كثرة الطاعمين منه، ولا يفسد على مر الزمن لقلة الأيدى التي تمتد إليه، وتنال منه.. فالشمس هى الشمس، وإن اكتحلت بضوئها الأبصار، أو عشيت عن ضوئها العيون!! - وفى قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 569 لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا» .. فى هذا إشارتان: أولاهما: أن هذا القرآن لا يقدره قدره، ولا يعرف فضله، إلا من انتفع بعقله، وأحسن الاستماع إليه، والتلقّى عنه.. وأنّ أصحاب العقل والحجا وأهل العلم والمعرفة، هم أقرب الناس نسبا إلى هذا القرآن- وأكثرهم معرفة به، وأصدقهم نظرا إليه، وعرفانا بقدره وفضله. وثانيتهما: أن هذا القرآن، قد جعل للعرب عامة، ولأهل مكة خاصة فضل السبق إليه. والوقوف على موارده.. فجاء إليهم بلسان عربى مبين، هو لسانهم الذي به يتعاملون.. ثم هو من جهة أخرى قد سعى إليهم، وحلّ بينهم، دون أن يبذلوا جهدا أو مالا.. فإن هم أحسنوا استقباله، وأخذوا بحظّهم منه، فذلك هو خيرهم المدعوّون إليه، وإن هم أساءوا مقامه فيهم، وغلّوا أيديهم عن تناول قطوفه، والأخذ من ثمره، ارتحل عنهم إلى غيرهم، ونزل عند من يعرف قدره، ويحسن الأخذ عنه.. والقوم الذين يتلفت إليهم القرآن فى هذا الموقف، ويؤذن أهل مكة بالتحول عنهم إليهم، هم أهل العلم، من أهل الكتاب، من اليهود والنصارى. فأهل العلم هؤلاء يعرفون قدر هذا القرآن ويعلمون- بما عندهم من علم- أنه كلام الله، وأن الرسول الذي يتلوه- هو رسول الله.. وأن هذا القرآن إذا يتلى عليهم خشعوا له، وخرّوا على أذقانهم سجّدا بين يدى آياته وكلماته.. كما يقول سبحانه وتعالى فى القسيسين والرهبان من النصارى: «وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ، يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» (83: المائدة) .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى الآية: «إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 570 يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً، وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا» .. والذي ينبغى الالتفات إليه هنا، هو أن أهل العلم من أهل الكتاب، هؤلاء الذين إذا يتلى عليهم القرآن «يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا» - لم يكونوا قد وجهوا بالقرآن بعد، ولم يكونوا قد دعوا إلى الإيمان به.. إذ كانت الدعوة لا تزال تمهدّ الأرض التي تركّز رايتها فيها، وتجعل منها منطلقا لرسالتها فى الناس جميعا.. حيث تخيرت الأمة العربية التي نزلت بلسانها، لحمل هذا الشرف العظيم.. ومع هذا، فإن أهل الكتاب- وخاصة أهل العلم منهم- كانوا يرصدون مطلع النبوة، ويشهدون هذا الصراع المحتدم فى مكة بين قريش وبين النبىّ الذي ظهر فيهم، وما يتلو عليهم من آيات الله.. وكانت تلك الآيات، تطرق أسماع العلماء من أهل الكتاب، فيعرفون وجه الحق فيها، فتخشع لذلك قلوبهم، وتفيض بالدمع عيونهم ويخرّون للأذقان يبكون! وفى هذا الذي يتحدث به القرآن إلى أهل مكّة عن علماء أهل الكتاب، وعن موقع كلمات الله وآياته هذا الموقع منهم- فى هذا تسفيه لأهل مكة، ولتفّلتهم عن هذا الخير الوارد عليهم، ثم هو من جهة أخرى تحريض لهم على أن يبادروا هذا الخير فيأخذوا حظهم منه، قبل أن يقلت من أيديهم، ويسبقهم إليه أهل الكتاب، وهم الذين كانوا ينفسون على أهل الكتاب هذا العلم الذي جاءتهم به رسل الله فى هذه الكتب التي فى أيديهم، والذين كانوا يقولون ما حكاه القرآن عنهم: «لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ (157: الأنعام) .. فها هم أولاء قد أنزل عليهم الكتاب الذي كانوا يتمنّونه، وها هم أولاء يزورّون عن هذا الكتاب، ويزهدون فيه، بل ويرجمونه بأيديهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 571 وألسنتهم.. فهل بعد هذا السّفه سفه؟ وهل مع هذا الغباء غباء! - وفى قوله تعالى: «يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً» إشارة إلى عظم وقع القرآن على قلوبهم، وأنهم إذا تليت عليهم آياته استولت عليهم حال من الخشية والرهبة، فسقطوا مغشيا عليهم، بكيانهم كلّه. وألقوا بثقل أجسامهم على الأرض، ولصقت وجوههم بها.! قوله تعالى: «وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً» . هو بيان لحال أخرى من أحوال أهل العلم من أهل الكتاب، إذا يتلى عليهم القرآن.. فهم لأول الصدمة يخرّون على أذقانهم سجّدا.. ثم هم إذا صحوا من سكرتهم قليلا، وفاء إليهم ما عزب من عقولهم، وجدوا أنفسهم مع آيات الله، تطالعهم بالحكمة والموعظة الحسنة، فيخرّون للأذقان باكين، لما عرفوا من الحق.. فيزدادون خشوعا إلى خشوع، وإيمانا إلى إيمان! فهما إذن حالان للمستمعين إلى آيات الله، من أهل العلم هؤلاء.. الحال الأولى، حين تلقاهم آيات الله، وتطلع عليهم كلماته لأول وهلة.. فإذاهم بين يديها فى حال من الجلال والرهبة، تنعقد معه الألسنة، وتسكن معه الجوارح، وتخمد الأنفاس.. شأنهم فى هذا شأن من تبغته آية من آيات الله، يرى فيها من الحسن والجمال ما لم تشهده عين، ولم يتصوره خاطر، فيخرّ مغشيا عليه، جلالا ورهبة.. والحال الثانية.. أنه حين يعيشون مع هذه الآيات وقتا ما، ويأنسون إليها، ويزايلهم بعض ما وقع عليهم أول الأمر من سطوة جلالها وجمالها، عندئذ يجدون شيئا من العقل يلقونه بها، وإذا هى لعقولهم أبهى جلالا، وأروع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 572 جمالا، مما استقبلته منها أول الأمر مشاعرهم.. وهكذا يلتقى عندهم على كلمات الله، منطق العقل، مع بداهة الشعور، فيتأكد لذلك حكم البداهة.. «وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً» . قوله تعالى: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا» . فى هذه الآية يعود الخطاب إلى المشركين، بعد أن وقفت بهم الآيتان السابقتان إزاء أهل الكتاب، وأرتهم منهم أنهم يتعاملون مع هذا القرآن الذي لم يدعوا إليه بعد، ويلقونه بهذا الاحتفاء العظيم، على حين أنهم- أي المشركين- يلقون هذا القرآن الذي دعوا إليه، بوجوه منكرة، وقلوب مغلقة، وعقول شاردة. وفى تجديد الخطاب إليهم، دعوة مجدّدة لهم إلى أن يتدبروا أمرهم هذا الذي هم فيه، وأن يبادروا فيصلحوا موقفهم من القرآن، ويصطلحوا معه، ويلقوه لقاء كريما غير هذا اللقاء الذي كان منهم.. هذا إن كان لهم حاجة فى أنفسهم، وفى استنقاذها من الضلال والضياع! وإلا فهم وما اختاروا! - وفى قوله تعالى: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ» تصحيح لمعتقد المشركين فى الله.. ذلك أنهم كانوا لا يعرفون عن الله إلا أنه «الله» أي الإله الأكبر، الذي يرأس الآلهة الآخرين، الذين يعبدونهم من دونه.. من ملائكة وكواكب، مثّلوها فى تلك الأصنام التي نحتوها من أحجار، وسوّوها من خشب، أو ذهب.. كاللات، والعزّى، ومناة، وغيرها.. فاسم «الله» هو عند هؤلاء المشركين، هو العلم الذي يطلقونه على الإله الأكبر.. ليس له عندهم اسم أو صفة أخرى.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 573 ولهذا عجب هؤلاء المشركون حين كانوا يسمعون من النبىّ تلك الأسماء والصفات التي كان يذكرها فيما يذكر القرآن الكريم، من أسماء الله وصفاته.. كالرحمن، والرحيم، والسميع، والبصير، والعليم، والحكيم.. وكانوا يقولون: أإله هو أم آلهة هذا الذي يدعونا محمد إلى الإيمان به؟ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ.. قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ؟ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا؟ وَزادَهُمْ نُفُوراً» (60: الفرقان) . فكان قوله تعالى: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» - تصحيحا لمعتقدهم الفاسد فى الله، وأنه سبحانه وتعالى ليس- كما تصوّروا- ذاتا كدواتهم، أو ذوات معبوداتهم، يطلق عليهم اسم واحد، يستدلّ به عليه، ويتعامل معه به! فالله سبحانه وتعالى متصف بصفات الكمال كلها، فأىّ وصف من أوصاف الكمال، هو لله سبحانه، وهو اسم وصفة معا لذاته.. فالله، هو الرحمن، وهو الرحيم، وهو العليم، وهو السميع، وهو البصير، وهو الخالق، وهو الرازق.. إلى ما يمكن أن تحمل للغة من صفات الكمال والجلال، التي لا يشاركه أحد فيها.. فكل اسم حسن يدعى الله به، ويعبد عليه، هو إيمان بالله، وإقرار بالعبودية له. وذلك بأية لغة، وبأى لسان! - وفى قوله تعالى: «وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا» - هو بيان للأسلوب القاصد، المستقيم، الذي يدعى الله سبحانه وتعالى به، ويعبد عليه، وهو ألا يكون جهرا صارحا بالدعاء، وبالصلاة- وهى دعاء أيضا- ولا هما خافتا به.. وإنما هو وسط بين هذا وذاك.. فالجهر الصارخ، يدخل على الإنسان بشعور حفىّ، بأن الله بعيد عنه، لا يسمع إلا إذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 574 نودى نداء عاليا، ولهذا نهى النبىّ أصحابه فى بعض أسفاره، وكانوا كلّما علوا شرفا من الأرض رفعوا أصواتهم بالتكبير- نهاهم أن يبالغوا فى هذا، وقال: «إنكم لا تدعون ربّا أصمّ» . أما الهمس بالدعاء والمخافتة به، فإنه يعزل صاحبه عن أن يسمع ما يناجى به الله، ومن ثمّ فلا يتشكل له من دعائه من المعاني ما يصل شعوره بالله، ويشدّ عقله وقلبه إليه!. قوله تعالى: «وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً» . بهذه الآية تختم هذه السورة الكريمة.. فيلتقى ختامها مع بدئها، حيث بدأت بتسبيح الله وتنزيهه ثم ختمت بحمده وتقديسه. وكأنّ هذا الحمد هو مما أوجبه استقبال تلك المنّة الكبرى التي منّ الله بها على عبده محمد، إذ أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. ثم لكأن هذا الحمد أيضا هو بيان لصورة من صور الكمال التي يدعى بها الله أو الرحمن، كما جاء الأمر فى قوله تعالى: «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» . ونرتّل قوله تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ» ، فنجد أننا بين يدى صلاة هى الصورة المثلى للدعاء لذى أمر الله سبحانه وتعالى النبىّ الكريم والمؤمنين معه، أن يقيموا دعاءهم عليه فى قوله تعالى: «وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 575 - ففى هذا الدعاء: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ» فى هذا الدعاء أكثر من ظاهرة. فأولا: مضمون الدعاء.. فهو فى كلمات قليلة، قد جمع فيها ما تفرق من صور الدّعاء، فى مقام الولاء لله، وإخلاص العبادة والعبودية لله.. فهو حمد لله، وقصر هذا الحمد عليه وحده، إذ هو إقرار بأن الله سبحانه المتفرد بالكمال، والمنزّه عن النقص، فلا حاجة له إلى ولد يؤنس وحشته، ويتخذ منه سندا وعضدا، ولا منازع له، ولا شريك معه فى هذا الوجود، ولا معين له فى القيام على هذا الوجود، والإمساك بنظامه الحافظ له.. فحيث نظر ناظر، فرأى قوة لقوىّ، أو عظمة لعظيم، أو سلطانا لذى سلطان، أو غنى لذى غنى.. أو ما شاكل ذلك مما يكبر فى صدور الناس- فالله سبحانه وتعالى له القوة كلها، وله العظمة جميعها، وله السلطان المطلق، وله الغنى الشامل، وله الكمال فى كل شىء، وإليه أمر كل شىء.. وهذا هو بعض السرّ فى أن ختم هذا الدعاء بقوله تعالى: «وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً» .. أي قل: الله أكبر، الله أكبر.. تكبيرا مطلقا، من غير مقايسة أو مفاضلة.. الكبير فى كل مقام.. فهو- سبحانه- الكبير المتعال، ليس كمثله شىء وهو السميع البصير. وثانيا: الكلمات التي ختم بها هذا الدعاء، قد انتظمت صورتها من حروف، من شأنها أن تمسك من ينطق بها على حال بين الجهر والتخافت، حتى دون أن يكون ذلك عن قصد منه. بل إن الأمر لأكثر من هذا، فلو ذهب من يتلو هذه الكلمات أن يجهر بها إلى حيث يبلغ صوته من العلوّ، لأسكت به عند طبقة معينة من الأداء الصوتى، لا يستطيع أن يرتفع فوقه، وذلك لخلوّها من أي حرف من حروف المدّ.. وهى الواو، والألف، والياء.. الأمر الذي يحجز الصوت عن أن يذهب مذهبا فوق حدود الاعتدال.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 576 ومن جهة أخرى، فإن الذي يتلو هذه الكلمات، لو أراد أن يخافت بها، لتفلّتت منه، وحملته حملا على أن ينطق بها، وأن يجريها خارج شفتيه. وانظر، فإنك تجد أكثر حروف هذه الكلمات من اللامات والميمات والدالات والذالات: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ» . فهناك خمسة عشر لاما وستة ميمات، ودالان، وثلاثة ذالات. ومخرج حرف اللام من طرف اللسان حيث يضرب فى مقدمة الحلق، على حين أن الميم مخرجه من الشفتين، ومخرج الدال والذال من أقصى طرف اللسان، حيث يضرب فى الأسنان.. فالحركة الغالبة عند النطق بهذه الكلمات، هى حركة طرف اللسان مع الشفتين، حيث لو أراد الإنسان أن يحرك لسانه بهذه الكلمات من داخل شفتيه، لاضطر اضطرارا إلى أن يفتح شفتيه عند النطق بالميم، ولو أراد أن يزمّ شفتيه عند النطق بالميمات، لوجد هناك ما يقسره قسرا على أن يفتح شفتيه عند الالتقاء بثلاث واوات رصدت له، وأخذت مكانها فى مقاطع هذه الكلمات.. والواو حرف لا يتحقق نطقه نطقا صحيحا إلا بحركة الشفتين، حركة تجمعهما، ثم تفرقهما فى فتحة أشبه بنصف دائرة! فسبحان من هذا كلامه! سبحانه! سبحانه!! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 577 18- سورة الكهف نزولها: مكية بالإجماع، إلا بعض آيات اختلف فيها. عدد آياتها: مائة وعشر آيات. عدد كلماتها: ألف وخمسمائة وتسع وسبعون كلمة. عدد حروفها: سبعة آلاف، وثلاثمائة وستة أحرف. بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 8) [سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8) التفسير: بدأت هذه السورة بحمد الله، فكان هذا البدء جوابا على ختام السورة التي قبلها، واستجابة لأمر الله سبحانه وتعالى فى الآية الأخيرة منها، وهى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 578 قوله تعالى: «وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً» .. فقال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ..» فقوله تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً» هو وجه آخر من وجوه الحمد لله سبحانه وتعالى.. فإذا استوجب الله سبحانه وتعالى الحمد لجلاله وعظمته، وتنزهه عن أن يتخذ ولدا، أو يكون له شريك فى الملك أو ولىّ من الذل- فإنه سبحانه، مستوجب الحمد كذلك على تلك النعمة الجليلة التي أنعم الله بها على عبده محمد، فأنزل عليه هذا الكتاب الذي تستنير بآياته البصائر، وتعمر بتلاوته القلوب، وتهتدى به العقول.. فتلك النعمة الجليلة هى التي تمت بها نعم الله على الإنسان، إذ خلقه، ورزقه، وسخر له ما فى السموات وما فى الأرض.. «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ» (1: الأنعام) فالذى يجعل لهذه النعم ثمرات مباركة طيبة، والذي يجعل إلى يد الإنسان ميزانا يضبط به هذه النعم على وجه الخير والإحسان- هو تلك الهداية التي يستمدّها من هذا الكتاب الكريم.. وبغير هذا لا يستطيع أن يحسن الانتفاع بهذه النعم، بل ربما تحولت هذه النعم فى يده إلى أسلحة قاتلة، له وللناس معه.. فكان نزول هذا الكتاب من تمام نعم الله على عباده.. فاستوجب سبحانه الحمد والشكران. وفى ذكر محمد صلوات الله وسلامه عليه بالعبودية تكريم له من ربّه، ورفع لمقامه، إذ جعله عبدا استحق أن يضاف إليه سبحانه! - وفى قوله تعالى: «وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً» إشارة إلى سماحة الشريعة الإسلامية، التي جاء بها محمد صلوات الله وسلامه عليه، والتي حملها هذا الكتاب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 579 الذي لا عوج فيه، ولا خروج فى أحكامه وتشريعاته عن سنن الفطرة التي فطر الله الناس عليها، كما يقول الله سبحانه وتعالى: «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» (153: الأنعام) . فالقرآن الكريم لم يجىء بأيّ تكليف فيه حرج، ومشقة، كما جاءت الشرائع السابقة، التي حملت إلى المدعوّين إليها، ضروبا من الإعنات والإرهاق. تأديبا، وإصلاحا، لما فيهم من اعوجاج حادّ، كما فى شريعة موسى، ووصايا عيسى، فقد حرّم الله فى شريعة موسى على بنى إسرائيل طيبات كانت أحلّت لهم كما يقول سبحانه: «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ» (160: النساء) وكما يقول سبحانه: «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ» (146: الأنعام) .. ومن البلاء الذي أخذ الله به بنى إسرائيل، أن جعل من شريعتهم حرمة العمل فى يوم السبت، ولم يكن ذلك رحمة بهم، بل نكالا وبلاء، كما يقول سبحانه: «إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ» (124: النحل) .. أما وصايا السيد المسيح لهم، فيكفى أن يكون دستورها قائما على هذا المبدأ: «من لطمك على خدّك الأيمن فحوّل له الآخر أيضا» . ولا شك أن هذا عوج مقصود فى الشريعة التي شرعت لهم، ليقابل هذا العوج ما فيهم من عوج! أما هذه الأمة- أمة الإسلام- فقد عافاها الله من هذا البلاء، وجعل شريعتها قائمة على السماحة واليسر، متجاوبة مع الفطرة التي فطر الله الناس الجزء: 8 ¦ الصفحة: 580 عليها، كما يقول سبحانه: «هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (78: الحج) .. فالله سبحانه، قد اجتبى هذه الأمة واصطفاها، ليخرج منها خير أمة أخرجت للناس..! هذا، هو المعنى الذي أطمئن إلى فهم الآية الكريمة عليه، وإن كنت فى هذا لا أعرف أن أحدا من المفسرين قد نظر إليه، أو عدّه مقولة من تلك المقولات الكثيرة التي قيلت فى تفسير هذه الآية، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدى لولا أن هدانا الله.. وفى تعدية الفعل «يجعل» باللام «له» بدلا من «فى» - إشارة إلى أن هذا العوج الذي جاء فى الكتب السابقة- تأديبا وتقويما- لم يكن فى أصل هذه الكتب، وإنما هو «لها» أي أداة من الأدوات التي تملكها، لتؤدب بها الطغاة المتمردين.. فهذا العوج هو شىء تملكه، وهو خارج عن ذاتها، وطبيعتها.. وقوله تعالى: «قَيِّماً» .. هو حال أخرى، من أحوال هذا الكتاب الذي أنزله الله مستقيما لا عوج فيه.. والقيّم: هو الذي يهيمن على غيره، ويضبط موارده ومصادره.. وذلك هو شأن القرآن الكريم، مع الكتب السماوية التي سبقته، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ» (48: المائدة) . قوله تعالى: «لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 581 البأس الشديد: هو العذاب الأليم، الذي توعّد الله سبحانه وتعالى به الذين لا يؤمنون بالله، ولا يعملون الصّالحات، على خلاف الذين يؤمنون بالله ويعملون الصالحات، فقد بشرهم الله سبحانه، بالأجر الحسن، والجزاء العظيم، الذي يفيضه سبحانه وتعالى عليهم، من رضوانه، ويلبسهم إياه، فلا ينزعه عنهم أبدا. والآية لم تشر إلى صفة هؤلاء المنذرين بالبأس الشديد، اكتفاء بالوصف الذي استحقّه أصحاب الأجر الحسن الذي يمكثون فيه أبدا، وهم المؤمنون الذين يعملون الصالحات.. قوله تعالى: «وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً» . أعادت الآية الإنذار هنا، لتواجه طائفة من الذين لا يؤمنون بالله، ولا يقدرونه حقّ قدره، وهم الذين نسبوا إليه سبحانه وتعالى ولدا، وهم اليهود، الذين قالوا «عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ» ، والنصارى، الذين يقولون: «الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ» . وفى اختصاصهم بالذكر هنا لإزالة شبهة قد تبدو من اعترافهم بوجود الله، وإيمانهم به إلها.. فهذا الإيمان قد يجعل لهم مدخلا إلى المؤمنين بالله، مع تلك المقولات الشنيعة التي يقولونها بنسبة الولد إليه.. ومن هنا يشتبه أمرهم على المؤمنين، ومن ثمّ فلا يكون لقوله تعالى: «لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ» متوجّه إليهم.. - فقوله تعالى: «وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً» عزل لهؤلاء القائلين بتلك المقولة الشنعاء فى الله، عن أن يكونوا فى المؤمنين.! فإنه لا يجتمع الإيمان بالله، ونسبة الولد إليه.. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 582 - وفى قوله تعالى: «ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ» .. إشارة إلى أن هؤلاء المعتقدين فى الله هذا المعتقد لا علم لهم بما لله سبحانه من قدر، يتنزه به عن الصاحبة والولد، وعن الشريك فى الملك.. فالضمير فى «به» يعود إلى الله سبحانه وتعالى.. وهذا يعنى أن علمهم بالله هو علم ناقص، مشوب بالأوهام والضلالات.. وليس الخلف خيرا من السّلف فى هذا العلم بالله، فهم جميعا على جهل، وسفه، وضلال.. «ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ..» - وفى قوله تعالى: «كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ» تشنيع عليهم، وتهويل لهذه الكلمة الحمقاء التي يقولونها فى الله، وأنها قولة لا تستند إلى عقل، ولا تقوم على منطق، وإنما هى مما يجرى على الأفواه من لغو الكلام وساقطه! - وقوله تعالى: «إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً» هو وصف كاشف لهذا القول الذي يقولونه فى الله، سبحانه وتعالى، وأنه قول كذب صراح وبهتان مفضوح! وهذا ما أشار إليه قوله سبحانه وتعالى: «وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ.. ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» (30: التوبة) . و «إن» حرف نفى، بمعنى «ما» .. أي ما يقولون إلا كذبا. قوله تعالى: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» . الخطاب هنا، للنبى صلوات الله وسلامه عليه.. والضمير فى قوله تعالى: «عَلى آثارِهِمْ» يعود إلى مشركى العرب، وخاصة مشركى مكة. والباخع: من مات غمّا، والبخع، هو الموت غمّا، وبخع بما عليه من حقّ: أقرّ به مكرها على مضض. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 583 والأسف: الحزن الشديد، الذي يجىء من رقة الشعور ورفاهة الحسّ. وفى الآية دعوة إلى النبي الكريم، أن يتخفف من دواعى الحسرة والأسف على قومه، الذين يأبون الاستجابة له، والإيمان بهذا الكتاب الذي يتلوه عليهم، ويدعوهم إلى اتباعه. - وفى قوله تعالى: «عَلى آثارِهِمْ» تلويح بالتهديد لهؤلاء المشركين، وبالهلاك المطلّ عليهم، إذا هم أصروا على هذا الموقف المنحرف، الذي يقفونه من النبي والكتاب الذي معه، وأنهم فى معرض أن يصبحوا أو يمسوا، فإذا هم فى الهالكين، وإذا هم أثر بعد عين. «إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً» . الأرض الجرز: التي لا نبات فيها، سواء كان ذلك لأنها لا تنبت أصلا، أو كان فيها نبات ثم اقتلع من أصوله.. ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هو أنه لما كان الذي صرف المشركين عن الإيمان بالله، وبالكتاب الذي أنزل على رسوله- هو اشتغالهم بالحياة الدنيا، وبالتكاثر والتفاخر بينهم، فقد جاءت هذه الآية لتكشف لهم عن دنياهم هذه التي صرفتهم عن النظر فى آخرتهم، وأن هذا المتاع الذي فى هذه الدنيا، إنما جعله الله سبحانه وتعالى زينة لها، حتى يكون للناس نظر إليها، واشتغال بها، وعمل جاد نافع فيها.. وفى هذا ابتلاء لهم، وامتحان لما يحصّلون منها.. فالذين يأخذون حظّهم من الدنيا ولا ينسون نصيبهم من الآخرة، هم الفائزون، والذين يجعلون الدنيا همّهم، دون التفات إلى الآخرة، هم الذين خسروا أنفسهم، وباعوها بالثمن البخس.. فهذه الدنيا وما عليها، ومن عليها.. كل هذا إلى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 584 زوال، ولا يبقى من ذلك إلا ما ادخره المؤمنون المحسنون من زاد طيب فى دنياهم، ليوم الحساب والجزاء. أصحاب الكهف الآيات: (9- 26) [سورة الكهف (18) : الآيات 9 الى 26] أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 585 التفسير: حرصنا على أن نأتى بقصة أصحاب الكهف، فى هذه الآيات الثماني عشرة، حتى تكون تلاوة هذه الآيات فى نظمها هذا الذي جاءت عليه، صورة كاملة لتلك القصة.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 586 والآيات- كما ترى- واضحة المعنى، بحيث تقع القصة والأحداث التي ضمّت عليها، لأدنى نظر، بمجرد تلاوتها.. ومع هذا، فقد رأينا أن نقف وقفة، مع هذه القصة، نمعن فيها النظر. إلى ما وراء «النظرة الأولى» وسنرى، أن هناك أعماقا بعيدة لا نهاية لها.. وأننا كلما زدنا الآيات نظرا، أطلعتنا منها على مذخورات من الأسرار، التي تخلب اللبّ، وتذهل العقل.. ونبدأ أولا بشرح بعض المفردات، التي ربّما كانت الحال داعية إلى إلقاء نظرة أولى عليها: فى الآية: (9) .. «الكهف» : هو الغار الواسع فى الجبل، «وَالرَّقِيمِ» : المرقوم، المعلم، ويمكن أن يكون ذلك هو بعض الآثار المنحوتة فى هذا الكهف، كأعمدة عليها نقوش، أو كتماثيل قائمة على مدخل الكهف، على ما كان مألوفا فى الزمن القديم.. فهناك إذن كهف، ومرقّمات وآثار متصلة بهذا الكهف. وفى الآية: (11) .. «فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ» : الضرب: إبقاع الشيء على الشيء.. والضرب على الآذان: إحاطتها بما يحجبها عن السمع، كضرب الخيمة على من بداخلها.. ومنه قوله تعالى: «وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ» . وفى الآية: (14) «رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ» : أي شددنا على قلوبهم، وأمسكنا بها من أن تطير شعاعا من الجزع أو الخوف. «والشّطط» : البعد، والمراد به فى الآية: البعد عن الحق. وفى الآية: (16) «يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ» : أي يبسط لكم من رحمته.. و «المرفق» : ما يرتفق به، ممّا يقوم عليه شأن الإنسان فى أمور معاشه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 587 ومعاده.. وكأنه الرفيق الذي يعينه ويؤنس وحشته. وفى الآية: (17) «تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ» : أي تميل، والمزورّ عن الشيء: المائل عنه.. «تَقْرِضُهُمْ» أي تقطعهم، وتنحاز عنهم، كما يقطع المقراض «المقصّ» الشيء، ويفرق بين أجزائه. وفى الآية: (18) .. «بِالْوَصِيدِ» : باب الكهف، الذي من شأنه أن يوصد على من بداخله.. والمراد به فى الآية مدخل الكهف.. وفى الآية: (19) .. «فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ» : الورق: الفضّة، مضروبة أو غير مضروبة.. «أَزْكى طَعاماً» : أي أطيبه وأطهره، بحيث لا يعلق به دنس أو رجس. «لْيَتَلَطَّفْ» : يترفّق، ويأتى الأمر بلطف ولباقة. وفى الآية: (20) . «يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ» يطّلعوا عليكم، ويعرفوا مكانكم. وفى الآية: (21) .. «أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ» : أي أطلعنا الناس على أمرهم، وكشفناهم لهم عن غير قصد منهم لذلك، وإنما هو صدفة على غير توقع. وفى الآية: (22) «رَجْماً بِالْغَيْبِ» : أي ظنّا ووهما.. كأنهم يرجمون شيئا محجبا فى الظلام لا يرونه، وقد يصيبون وقد يخطئون.. «فَلا تُمارِ فِيهِمْ» أي لا تجادل.. «إِلَّا مِراءً ظاهِراً» .. أي غير متعمق فيه، أو متجاوز حدود ما نطق به القرآن من أمرهم.. «عرض القصة» وقبل أن نعرض القصة، كما تحدثت عنها الآيات، نرى أن نعرض كلمة موجزة عن «القصة» كفن من فنون القول، وعن مكانتها فى فنون القول، من شعر، ونثر، ومثل، وحكمة.. وما إلى ذلك مما ينسج من كلمات اللغة وعباراتها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 588 كلمة عن القصة: القصّة فى هذا العصر- كما هى فى كل عصر- أفضل وسيلة للتربية والتهذيب.. فعن طريق العرض القصصى لحوادث القصة وأشخاصها، تتفتح أشواق النفس إلى متابعة هذا العرض، وإلى المشاركة الوجدانية، فى مواقف القصة، وأحداثها، وأزمانها، حتى لكأن القارئ أو المستمع، أو المشاهد- جزء منها، وواحد من أشخاصها، يأخذ الموقف الذي يرتضيه لنفسه من بين مواقفها، ويعيش مع كل حدث من أحداثها، متأثرا به، ناظرا إليه، كلما وقف مثل هذا الموقف من الحياة.. إذ لا تنتهى القصة، حتى يكون المستمع لها، أو القارئ أو المشاهد قد عاش فى تجربة نفسية، وقطع مرحلة، تطول أو تقصر، حسب طول القصة أو قصرها- مرحلة تترك فى كيان الإنسان آثارا عقلية، ووجدانية، وروحية، أشبه بتلك الآثار التي يتركها الصوت على صفحة لوح التسجيل.. بعضها عميق، وبعضها ضحل الغور، حسب قوة الإحساس وضعفه، وتبعا لتلقى القارئ أو السامع، أو المشاهد، وتجاوبه أو تباعده، من القصة. ولا تبلغ القصة مبلغا من النفس، ولا تصل أحداثها ومؤثراتها إلى وجدان الإنسان ومشاعره، إلّا إذا أحكم تصويرها، وجرت على اتجاه العقل والمنطق، وتجاوبت مع واقع الناس والحياة.. وإلا كانت خرافة، إن جنح بها الخيال، وحلقت فى عوالم لا يعيش فيها الناس ولا يتصورونها.. أو كانت غثّة باردة، إن هى أمسكت بالأمور التافهة، التي لا يلتفت إليها أحد، ولا يعلق بها نظر! والقصة الناجحة، هى التي ينتزع موضوعها من أحداث الحياة وواقع الناس، أو ما يمكن أن يكون من أحداث الحياة وواقع الناس.. ثم يجرى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 589 أشخاصها فى هذا المنطلق، وتوضع كل شخصية فى المكان المناسب لها.. ولا نريد أن نجعل القصة موضوع هذا البحث، فإن الحديث عن القصّة، وما يجب أن يتوفر لها من عناصر النجاح يتطلب بحثا خاصا مستقلا «1» ، ليس هنا موضعه، ولا موضعه.. وإنما تلك إشارة مجملة تشير إلى ما للقصة من أثر فى التربية والتهذيب، وأنها من هذه الناحية أداة قوية من أنجح أدوات التربية فى يد المصلحين والمربين. والقرآن الكريم- وهو مدرسة المسلمين، وجامعة المجتمع الإسلامى- لم يغفل شأن القصة، فهو يعتمد عليها فى كثير من المواقف، لتكون وسيلة من وسائله الفعّالة، فى تقرير الحقائق، وتثبيتها فى النفوس، وفى تجليتها للعقول، وفى الكشف عن مواطن العبرة والعظة فيها. وقصص القرآن الكريم، قصص جادّ، مساق للعبرة والعظة، وليس فيه مجال للتسلية واللهو، وليس من غايته ترضّى الغرائز المريضة، أو تملّق الرغبات الفاسدة، التي كثيرا ما تكون مقصدا أصيلا من مقاصد القصة عند كثير من كتاب القصص، الذين يجذبون القراء إليهم بهذا الملق الرخيص للغرائز الدنيا، التي تعيش فى كيان الإنسان، وتترقب الفرصة السانحة التي تستدعيها، وتقدم «الطّعم» المناسب لها. وعناصر القوة فى القصص القرآنى مستمدة من واقعية الموضوع وصدقه، ودقة عرضه، والعناية بإبراز الأحداث ذات الشأن فى موضوع القصة، دون التفات إلى الجزئيات التي يشير إليها واقع الحال، وتدلّ عليها دلالات ما بعدها   (1) ذلك ما عرضنا له فى كتابنا-: «القصص القرآنى» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 590 وما قبلها من صور.. وذلك مما يشوق القارئ ويوقظه، ويفرض عليه مشاركة فعّالة فى تكملة أجزاء القصة، واستحضار ما غاب من أحداثها، وهذا ما يجعله يندمج فى القصة، ويعيش فى أحداثها، ومن ثمّ يتأثر بها، وينتفع بما فيها من عظات وعبر. قصة أصحاب الكهف وقصة أصحاب الكهف من القصص القرآنى، الذي خلا من عنصر المرأة، على خلاف كثير غيرها من قصص القرآن الذي كان للمرأة دور فيه.. كما أن موقف أبطالها جميعا، موقف تغلب عليه السلبيّة.. ليس فيه صراع ظاهر، ولا صدام محسوس بين طرفين، يقف كل منهما من صاحبه موقف الخصومة والتحدّى، ثم الكيد والصراع، ثم الانتهاء إلى نهاية بغلبة أحد الطرفين، وانهزام الطرف الآخر. ليس فى قصة أصحاب الكهف شىء من هذا الصراع، مع أية قوة من قوى الحياة، طبيعية كانت أو بشرية، بل إن الأمر لأكثر من هذا، حيث نرى الأشياء كلها متعاطفة حانية على هؤلاء الفتية، لا تلقاهم إلا بما هو خير لهم، وأصلح لشأنهم. ولا شك أن خلوّ القصة من عنصر المرأة، يفقدها كثيرا من مقومات الحياة والقوة، بما يثير ظهور المرأة من عواطف، وما يوقظ من مشاعر.. فالمرأة فى القصة، داعية من دواعى الإثارة والتشويق، لا يكاد يعرف للقصة طعم بغيرها.. كما أن خلوها من الأزمات، والمصادمات، يلقى عليها ظلالا من الخمود، والركود، ويعقد حولها جوّا من السآمة والملل. فإذا خلت القصة من المرأة، ثم جاءت أحداثها- مع ذلك- سلبية، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 591 كان ذلك أدعى إلى فتورها، وضعفها، وزيادة البرودة فيها.. فإن السلبية معناها انسحاب الأشخاص، والأحداث، إلى الوراء، والاتجاه إلى حيث العزلة والانزواء، فلا تتبعهم عين، ولا يشخص إليهم شعور!. وننظر فى قصة أصحاب الكهف، كما عرضها القرآن الكريم، وقد خلت شخصياتها من المرأة، كما تجردت أحداثها من الإيجابية- ننظر فى هذه القصة فنرى القرآن الكريم، قد ألبسها الحياة، وخلع عليها روحا من روحه، حتى لقد تحركت أمكنتها، ونطق صامتها، وجرت الحياة قوية دافقة فى كل ما شمله موضوعها من كائنات، حية وجامدة، وناطقة، وصامتة.. وكان هذا الحسن فى العرض، وهذه الدّقة المعجزة فى تحريك الأحداث، عوضا عن حسن المرأة ودلّها، وبديلا من واقف الإيجاب، وتفاعل الأحداث. ولولا هذا العرض المعجز، لما كانت هذه القضة قصة، ولما خرجت عن أن تكون خبرا يروى، أو حديثا ينقل. وسورة «الكهف» التي سمّيت هذه التسمية به، لم يكن فيها قصة أصحاب الكهف وحدهم، وإنما ورد فى هذه السورة ثلاث قصص أخرى.. هى قصة الرجلين: المؤمن والكافر، وما انتهى إليه أمر كل منهما.. ثم قصة موسى والعبد الصالح، ثم قصة ذى القرنين، وما جرى على يديه من أحداث.. كما سنرى. ويلاحظ أن هذه القصص- شأنها شأن قصة أصحاب الكهف- قد خبت جميعها من عنصر المرأة.. ثم يلاحظ أيضا أن حوادثها جميعها من الخوارق المعجزة، التي يعجز الإنسان عن تصوّرها فى عالم الواقع، إلّا أن يكون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 592 له دين يصله بأسباب السماء، فيضيف هذه الأحداث إلى قدرة القادر.. رب العالمين. فنومة أصحاب الكهف، على تلك الصورة العجيبة، طوال هذا الزمن المتطاول، ثم يقظتهم بعد مئات السنين.. وإحاطة التدمير والتخريب بهذه الروضة الأريضة على هذه الفجاءة، التي لا تتصل بها أسباب ولا مقدمات.. وهذه الأحداث التي يجريها الرجل الصالح على غير ما يبدو من طبائع الأشياء، والتي ينظر إليها «موسى» نظر عجب واستنكار، ثم يظهر له فيما بعد أن هذا هو الوجه السليم لها.. وذو القرنين، وما مكّن الله له فى مشارق الأرض ومغاربها، والحاجز العجيب الذي أقامه فى وجه يأجوج ومأجوج- كل هذه الأحداث، معجزات قاهرة، تدعو الإنسان إلى أن يقف طويلا حيالها، ثم لا يجد لها سندا يضيفها إليه، إلا أن يكون الإله القادر، الذي ينبغى أن ينفرد بالألوهية.. فلا يكون للإنسان معبود سواه، يولّى وجهه إليه، ويخلص العبودية له. فقصّة أصحاب الكهف، تجىء مع هذه القصص، وكأنها جميعها قصة واحدة، تخدم جميعها دعوة التوحيد، والتعرف على الخلاق العظيم، وما أودع فى الموجودات من آيات قدرته، وعلمه، وحكمته. ونعود لقصة أصحاب الكهف، من حيث هى قصص فنّى، يعالج فكرة، ويهدف إلى غاية!. وأول ما يطالعنا من هذه القصة أنها تعرض فى صورتين: الصورة الأولى، صورة مصغرة، تضغط فيها الحوادث، وتطوى فيها الأزمان والأمكنة، فلا تتجاوز الآيات التي ترسم هذه الصورة- ثلاثا، هى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 593 قوله تعالى: «إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) » هذه هى القصة مجملة، وهى فى هذا الإجمال تمسك بالقصة كلها، وتبرز أهمّ العناصر المراد عرضها فيما بعد، على صورة ينفسح فيها المجال لتحرّك الأحداث، وانطلاق الأشخاص.. وهذا الملخص الموجز للقصّة، يثير الشوق، ويحرّك الرغبة للتعرف على ما وراء هذه الإشارات واللمحات.. وهنا يستجيب القرآن لداعى الحال، فيعرض القصة، مفصّلة بعض التفصيل، مسلّطا الأضواء على الجوانب المثيرة من موضوعها!. ونودّ أن نشير هنا إلى أنه قبل بدء هذا العرض الموجز للقصة، قد سبقها تمهيد بارع، يؤذن بأن حدثا من الأحداث المثيرة يوشك أن يطلع وراء هذا التمهيد، وبهذا يتهيأ الحضور للقاء هذا الحدث، ويستحضرون له ما تفرق من مشاعرهم، وما شرد من خواطرهم.. وأشبه بهذا الصنيع تلك الطّرقات الخفيفة التي تسبق عرض القصة على مسارح التمثيل.. حيث تنبه الجمهور، وتستحضر وجودهم لما جاءوا لمشاهدته.. وهذا التمهيد الذي سبق القصة، هو قوله تعالى: «أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً» فهناك كهف، وهناك رقيم، وأصحاب هذا الكهف وذاك الرقيم.. وأنهم.. - أي أصحاب هذا الكهف والرقيم- آية من آيات الله المعجبة، المبثوثة فى هذا الوجود.. وأنهم على ما اشتملت عليه قصّتهم من آية معجبة معجزة، ليسوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 594 بأعجب ولا أعجز من أية آية من آيات الله.. فإن أصغر ذرّة فى هذا الوجود، لو صادفها عقل رشيد، ونظرت إليها عين مبصرة، لرأت فيها من آيات الله ما يملأ القلب عجبا ودهشا.. ولكن النّاس- إلا قليلا منهم- لا يلفتهم إلى آيات الله إلا ما تلقاه حواسّهم لقاء مباشرا. حيث يتحرك أمام أعينهم، ويتحدث إليهم بما فى كيانه من آيات ومعجزات.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ» (105: يوسف) . فهذا التمهيد، هو نخسة قويّة تنبه الغافلين، وتوقظ النائمين، وتنحى باللائمة على أولئك الذين لا يفتحون عيونهم، ولا يوجهون عقولهم على هذا الوجود، الذي كلّ ذرة من ذراته، وكل موجود- وإن صغر فى العين، وخفّ ميزانه فى التقدير- هو آية باهرة معجزة، من آيات الله. وإذن فليست قصة أصحاب الكهف، التي يكثر الطالبون للتعرف عليها، ويلحّ المجادلون وأدعياء العلم فى معرفة ما عند النبي منها- ليست هذه القصة بأعجب فى ظاهرها وباطنها، من قصّة نواة أو حبّة، تدفن فى التراب، ثم لا تلبث أن تكون نبتة مخضرة، تجرى فيها الحياة، كما تجرى فى الوليد ينفتق عنه رحم أمه.. ثم إذا هى بعد زمن ما قد علت، واستوت على سوقها، وأخرجت زهرا ذا ألوان زاهية معجبة، يفوح منها ريح عطر.. ثم، وثم.. إلى آخر قصتها! ثم بعد هذا التمهيد، وبعد هذا العرض الموجز للقصة.. يبدأ العرض.. عرض القصة كلها.. فى كلمات متناعمة، تتردد منها أصداء موسيقى خافتة عميقة، كأنها تجىء من بعد بعيد، فى أغوار الزمن السحيق.. فتنقل المشاعر والعواطف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 595 فى براعة، ولطف، إلى حيث الماضي البعيد، الذي عاشت فيه أحداث القصة وأشخاصها.. فيقول الله تبارك وتعالى: «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ.. إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) . «وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) . «وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) . «وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) «وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 596 «سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) . «وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.. أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ.. ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً» (26) . والقصة بهذا التصوير الرائع المثير المعجز، تنقل القارئ إلى جوّها الممتدّ فى الزمن السحيق، من أول أن يبدأ العرض.. فلا يجد فرصة بعد هذا للانفصال عن هذا الجوّ، بل يظل فى رحلته تلك البعيدة فى أعماق الزمن، مبهور الأنفاس، مشدود الأحاسيس، متوتّر المشاعر.. حتى تنتهى القصّة ويسدل الستار!! فهؤلاء فتية.. فيهم شباب، وقوة ونضارة.. قد هدتهم فطرتهم السليمة منذ مطلع شبابهم، قبل أن يمتد بهم العمر، وينضح عليهم ما تفيض به بيئتهم من ضلالات وجهالات، وإذا هم يخرجون على مألوف قومهم، وينكرون ما عليه آباؤهم من كفر وإلحاد. إن الشباب دائما، هو مطلع الثورات، ومهبّ ريحها، حيث التفتّح للحياة، والقدرة على التفاعل معها.. فإذا ولّى الشباب فهيهات أن تتحرك فى الإنسان رغبة إلى اتجاه غير الاتجاه الذي قطع فيه هذه المرحلة الممتدة من عمره.. وفى وصف القرآن الكريم لهم: «إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 597 هُدىً» ، إشارة إلى أنهم اتجهوا إلى الله، ووضعوا أقدامهم على الطريق إليه، فاستقبلهم الله سبحانه وتعالى بألطافه على الطريق، ودفع بهم إلى مرفأ الأمن والسلامة.. وهذا يعنى أنه مطلوب من الإنسان أن يتحرك نحو الغاية التي يقصدها، فإن كانت حركته على طريق الخير، وجد من الله سبحانه العون والسداد، وإن كان على طريق الضلال والفساد، تركه الله لهواه، وأسلمه لشيطانه..! - وفى قوله تعالى: «وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً» - فى هذا توكيد للعون الذي أمدّهم الله به، منذ أن اتجهت قلوبهم إليه، وانعقدت نيّاتهم على الإيمان به. - وفى قوله تعالى: «إِذْ قامُوا» إشارة إلى أن ما تتجه إليه القلوب، وتنعقد عليه النيّات- وإن كان مقدّمة طيبة من مقدمات الفوز والنجاح- سيظلّ جسدا هامدا، حتى تنفخ فيه الإرادة، وينضحه العمل، فإذا هو كائن سوىّ الخلق، دانى القطوف. وهؤلاء الفتية، لم يقفوا عند حدّ النيّة، بل «قاموا» أي تحركوا، وعملوا، فربط الله على قلوبهم تلك التي اتجهت إليه، وشدّ على هذه النيّات التي انعقدت على الإيمان به.. وإذ يتجه الفتية إلى الله هذا الاتجاه القوىّ الخالص من شوائب الشرك، وإذ تفيض قلوبهم إيمانا يباعد بينهم وبين قومهم، فلا يشاركونهم فيما هم فيه من ضلال الوثنية وسخافاتها- عندئذ يجدون أنهم غرباء فى قومهم، معرضون للسخط، والإزدراء، ثم القطيعة، ثم الطرد، وربما القتل! إنهم قلة صالحة فى مجتمع فاسد.. فليطلبوا لهم وجها فى الأرض.. والا ساءت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 598 العاقبة، ووقع البلاء، وتعرضوا للفتنة فى دينهم، الذي ارتضوه وآمنوا به. وتناجى الفتية فيما بينهم، وارتادوا مواقع النجاة والسلامة لهم، ولدينهم.. إنه الفرار إلى أرض غير هذه الأرض، والهجرة إلى بلد غير هذا البلد! ولكن كيف يكون هذا، والقوم لهم بكل طريق؟ إن على مقربة من المدينة، وعلى الطريق الذي انتووا أن يأخذوه إلى موطنهم الجديد- كهفا يعرفونه. فليتخذوه سترا لهم، يختفون به عن أعين القوم أياما، حتى يفتقدهم القوم.. ثم يطلبونهم، ثم لا يجدون لهم أثرا! فإذا سارت الأمور على هذا التقدير.. خرجوا من الكهف- وقد نامت عنهم أعين الرقباء- ثم تابعوا السير إلى حيث ينتهى بهم المطاف إلى الجهة التي يريدونها.. «وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً» . أرأيت إلى هجرة الرسول، وما كان لغار «جراء» فيها؟ إنه كهف مثل كهف أصحاب الكهف هذا، ولكأن القرآن الكريم يجىء بهذه القصة، وتتنزل آياتها على جماعة المسلمين، وهم فى مكة يلقون ما يلقون من عنت وكيد وبلاء فى سبيل عقيدتهم- لكأن القرآن إنما يجىء بهذه القصة فى هذا الوقت، ليربط على قلوب تلك الجماعة القليلة المستضعفة من المؤمنين، وليريهم مثلا طيبا للمؤمنين الذين يسكن الإيمان قلوبهم، ويملأ مشاعرهم، استجابة لدعوة الفطرة من غير نبىّ ولا كتاب.. ثم لكأن فيما اتجه إليه أصحاب الكهف من الهجرة بدينهم، إشارة واضحة إلى منافذ الفرج والخلاص، من مواطن الكيد والبلاء، بالتحول من دار إلى دار، والانتقال من بلد إلى بلد!! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 599 وغير بعيد أن تكون هجرة المسلمين إلى الحبشة، من وحي هذه القصة.. وغير بعيد أيضا أن تكون الخطة التي رسمها الرسول وصاحبه أبو بكر، فى هجرتهما إلى المدينة، منظورا فيها إلى تلك القصة أيضا.. فقد جعل الرسول وصاحبه من غار «حراء» كهفا يؤويهما أياما، إلى أن تنقطع عنهما عين المتربصين من أشرار قريش.. ثم يكون بعدها الاتجاه إلى المدينة التي كانت مقصد الرسول وهجرته..! ونعود إلى القصّة.. فنرى عجبا عجابا.. دنيا صامتة، يخّيم عليها السكون والوحشة، وغار يأخذ مكانه فى هذه الدنيا الصامتة، وهذا السكون المطبق، وتلك الوحشة الخانقة..! ولقد ألقى الفتية بأنفسهم فى جوف الكهف، كما تلقى بضع حصيات فى جوف المحيط.. ولكن سرعان ما يتبدل الحال، ويأتى القرآن بآياته المعجزة، فيكشف عما وراء هذا الصمت من حياة متدفقة، وإذا بنا بين يدى هذا الغار الموحش المخيف، إزاء مسرح يموج بالأحداث العجاب. ولا نرى فى هذا المقام أروع، ولا أصدق من كلمات الله فى عرض الموقف، وكشف هذه الأحداث. «وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ.. ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ.. مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 600 فالشمس هنا كأنها جزء من هذا الكهف، قد شغلت به عن الدنيا كلّها، وجعلت مدار فلكها حوله وحده، حتى لكأنها مسخرة لمن هم فى هذا الكهف دون الكائنات كلها، وحتى لكأنها أمّ حانية عليهم، ترعاهم بعينها، وتظلّهم بظلها: «إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ.. وَإِذا غَرَبَتْ.. تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ!» . وهنا تأخذ الحياة تظهر شيئا فشيئا، فى هذا السكون المطبق.. فهؤلاء النيام يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال.. وكلبهم قائم بالحراسة فى مداخل الكهف «باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ!» إنه لمنظر عجيب! حياة تدب فى هذا الموات العريض.. حيث لا يقع فى الوهم أن كائنا حيّا يسكن إلى هذا الكهف، الذي يفغر فاه ليلتهم كلّ من يدخل إليه، اللهم إلا أن تكون جماعة من الجن، أو نفرا من الشياطين: «لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً» . ثم ما هى إلا كرّة من كرات الزّمن، حتى تكتمل الحياة، ويصحو القوم، ولا تزال على أعينهم أطياف الكرى.. يتثاءبون، ويتمطّون، وبين التثاؤب والتمطّى، يدور بينهم حديث متخافت، متخاذل، متكسّر.. يصحب معه بقية من أثر هذا النعاس الثقيل.. وإنك لا تجد أبرع ولا أروع ولا أدقّ ولا أصدق من كلمات الله، فى تصوير هذا المشهد، الذي تتحرك فيه الكلمات متثاقلة متباطئة تتقلّع من أفواههم كما تتقلّع خطا المقيد يمشى على كثيب من الرمال! «قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ؟ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.. قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ.. فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ.. فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ.. وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً.. إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 601 وانظر كيف بدأ هذا الحديث.. بتلك القافات المتكررة، وما فيها من ثقل وتقلّع، ثم تلك الواوات والياءات، وما فيها من رخاوة وتميّع.. إنك لو ذهبت تسرع بقراءة الآية الكريمة: «قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» لما استجاب لك لسانك، ولعقلته تلك الكلمات والحروف، عن أن يجاوز الحركة البطيئة المقدورة له فى هذا الموقف.. وإلّا تعثّر واضطرب. ثم يأخذ النعاس ينجلى شيئا فشيئا، حتى يصحو القوم صحوة واعية، فإذاهم يتدبرون أمرهم، ويأخذون فى العمل.. وإذا الكلمات تحيا على شفاههم، وتأخذ طريقا جادّا حازما.. - «فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً» ! وينتقل المنظر من الكهف إلى المدينة.. وإذا رسول الجماعة يسعى هناك، مقتصدا فى مشيته، مكثرا من التلفّت التائه فى هذا العالم الغريب، الذي يراه كما يرى النائم حلما يطوّف به فى عالم غير عالمه الذي عاش فيه! وفجأة ينكشف أمر الرجل لأهل المدينة، وإذا هو ظاهرة غريبة، أشبه بالظواهر الكونية التي تبغت الناس.. وإذا رجّة طاغية تستولى على المدينة كلها، وإذا الناس جميعا إلى حيث الرجل، كأنما يساقون إلى الحشر.. والذي انكشف للقوم من غرابة الرجل، هو غرابة هيئته فى زيّه، ثم إن الذي نمّ عليه كذلك، هو هذا النقد الذي قدّمه ليشترى به طعاما.. فالزّى الذي يتزيّا به الرجل قديم، من زمن مضى لا يلتقى مع زىّ القوم فى هذا الوقت الذي طلع عليهم فيه، إذ أن الناس يستحدثون فى كل زمن زيّا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 602 غير زىّ الآباء والأجداد، وكذلك النقد الذي يتعاملون به، إنه يأخذ صورا وأشكالا فى كل عصر.. وبهذا الزىّ، وهذا النقد.. افتضح أمر الرجل للقوم، وبدا واضحا أنه من عالم غريب عنهم.. أما ما يقال من أن فتية الكهف قد تغيّرت حالهم الجسدية، فطالت شعورهم حتى جاوزت قاماتهم، وطالت أظافرهم.. إلى غير ذلك من العوارض التي تعرض لمظهر الإنسان بفعل الزمن- ما يقال من هذا فهو غير صحيح، والدليل على بطلانه، أنه لو كان شىء من هذا قد عرض للفتية أثناء نومهم لرأوا هذا ظاهرا فيهم، حيث يرى بعضهم بعضا، ولأنكروا أنفسهم قبل أن ينكرهم الناس.. ولما قالوا: «لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» والأقرب إلى ما تشير إليه أحداث القصّة، أن الفتية لم يتغير منهم شىء، منذ ناموا إلى أن بعثوا من رقدتهم، بل جمدوا على الحال التي دخلوا فيها الكهف، وأسلموا أنفسهم للنوم.. وهذا أبلغ فى الدلالة على ما للقدرة الإلهية، من سلطان على الوجود، وعلى الأسباب والمسببات جميعا. «وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها.. إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً» . فقد اختلف رأى القوم فى شأن الفتية، وما يصنع بهم بعد أن ماتوا، ثم انتهى الرأى إلى أن أقاموا مسجدا عليهم، تكريما لهم، واعترافا بأنهم من أهل الإيمان.. ويخيل للمرء أن القصة قد انتهت، وأن هذه هى خاتمتها.. ولكن سرعان ما تنتقل به القصة عبر القرون، وتطوّف به فى الأمم والشعوب، فيسمع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 603 أصداء القصة تتردد فى كل أفق، وتجرى على ألسنة الأمم، يتناولها الناس بتعليقاتهم، على ما اعتاد الناس أن يصنعوه مع كل حدث عجيب من أحداث الحياة.. وإذا الأحاديث مختلفة، والأخبار متضاربة، كلّ يحدّث بما وقع له فى تصوره، مما اجتمع لديه من مختلف المقولات.. «سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ.. وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ، وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ.. قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ» . ويخيّل للمرء مرة أخرى أن القصة قد انتهت، ولكن ما إن يستريح لهذا الخاطر، حتى تظهر له تلك المفاجاة الكبرى التي تملأ النفس عجبا ودهشا. فالقصة إلى الآن تكاد تدور فى محيط الواقع الممكن.. جماعة أنكروا باطل قومهم، حين أشرقت قلوبهم بنور الحق، ثم فرّوا بدينهم خوف الفتنة فيه، فلجأوا إلى الكهف ليختفوا فيه أياما.. ثم أخذتهم فى الكهف نومة، استيقظوا بعدها جياعا، فبعثوا أحدهم إلى المدينة يجلب لهم طعاما حلالا.. ثم كان أن وقع المحذور، وعرف القوم أمرهم وكشفوا سرّهم.. قصة تحدث كثيرا فى الحياة، يستمع إليها المرء، وينتهى منها، ولا يكاد يدهش لشىء فيها، إلا ما تحمله الآيات من روعة التصوير، وبراعة العرض، وإعجاز البيان. ولكن ما يكاد المرء يطمئن إلى هذا، حتى يفجأه هذا الخبر المذهل: «وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً» . يا لله! .. نومة تستغرق هذه المئات من السنين، ثم يكون بعدها يقظة وحياة؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 604 «ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ» ولا جواب غير هذا! وقفة أخيرة مع القصة ولا نريد أن نترك القصة دون أن نقف وقفة قصيرة مع بعض تلك التلبيسات التي يدخل بها بعض الدارسين الذين يتأثّرون خطا المستشرقين، الذين ينظرون إلى القرآن نظرتهم إلى أي عمل بشرىّ.. فالقرآن عندهم هو من عمل «محمد» ضمّنه ما وقع فى خاطره وتأملاته من آراء. يقول أحد هؤلاء الدارسين للقصص القرآنى، وهو يستدعى من شواهد القرآن ما يؤيد به زعمه الذي يزعمه فى القصص القرآنى، وهو أنه يستملى مادته من أساطير الأولين.. يقول فى قصة أصحاب الكهف: «أما قصة أصحاب الكهف، فنقف منها فى هذا الموطن- أي موطن الاستدلال على أسطورية القصص القرآنى- كما يتخرص- عند مسألتين: الأولى: مسألة عدد الفتية، والثانية: مدة لبثهم فى الكهف.. ثم يتحدث عن المسألة الأولى.. فيقول: «أما من حيث العدد، فليس يخفى أن القرآن لم يذكر عددهم فى دقة (كذا) وإنّما ردّد الأمر بين ثلاثة، ورابعهم كلبهم، وخمسة وسادسهم كلبهم، وسبعة وثامنهم كلبهم.. «وليس يخفى أن القرآن الكريم، قد ختم هذه الآية بتلك النصيحة (كذا!) التي بتوجه بها إلى النبىّ، وهى قوله تعالى: «قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 605 بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ.. فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً» . ثم يسأل هذا العالم ببواطن الأمور، فيقول: «ما معنى هذا التردد فى العدد؟ وما معنى هذه النصائح؟ ثم هو يجيب: «لا نستطيع أن نقول: إن المولى سبحانه وتعالى كان يجهل عدد الفتية من أصحاب الكهف، وأنه من أجل هذا لم يقطع فى عددهم برأى! فالمولى سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء، وإنه يعلم السرّ وأخفى! «وإنما نستطيع أن نقول: إن هذا لم يكن إلا لحكمة.. والحكمة فيما نعتقد هى أن المطلوب من النبىّ عليه السلام أن يثبت أن الوحى ينزل من السماء (!!) وأن يثبت ذلك لا بالعدد الحقيقي للفتية من أصحاب الكهف- فذلك لم يكن موطن الإجابة- وإنما بالعدد الذي ذكره اليهود من أهل المدينة للمشركين من أهل مكة، حيث ذهب وفدهم ليسأل عن أمر محمد، أنبيّ هو أم متنبىء.. وإذ كان أحبار اليهود قد اختلفوا فى العدد، وذكر كل منهم عددا معيّنا، كان على القرآن أن ينزل بهذه الأقوال، حتى يكون التصديق من المشركين بأن محمدا عليه السلام نبىّ! ولو ذكر القرآن العدد الحقيقىّ وأعرض عن أقوال اليهود لكان التكذيب القائم على أن محمدا لم يعرف الحقيقة.. وليس وراء هذا إلا أن الوحى لا ينزل من السماء!!» . ولا نذهب مع هذا الباحث إلى أكثر من هذا، فلا نعرض رأيه فى عدد السنين التي ذكرها القرآن عن نومة أهل الكهف، ويكفى أن نردّ هذا الاتهام الصريح للقرآن الكريم.. فإن هذا القول يصيب القرآن فى صميمه. فأولا: إذا سلمنا بأن القرآن قد جاء فى قصصه بما يطابق ما عند اليهود الجزء: 8 ¦ الصفحة: 606 من معارف، وذلك ليثبت لهم، ولمن تلقّى عنهم من مشركى مكة- صدق محمد، وأنه نبىّ يوحى إليه من ربّه، وأنه لو جاء بالواقع الذي يخالف ما عندهم لما سلّموا به- نقول: لو سلمنا بهذا القول فى القرآن لكان معنى هذا، أنه كان عليه أن يجرى مع اليهود إلى آخر الشوط، فلا يجىء بشىء مما يخالف ما هم عليه من مذاهب وآراء، ولكان عليه ألا يقول فى المسيح غير ما قالت النصارى من أنه ابن الله، بل ولما كان له إلا أن يقول بما يقول به المشركون أنفسهم فى آلهتهم، وذلك حتى يسلّموا له، وينتهى الأمر عند هذا الحدّ، وكفى الله المؤمنين القتال. ألهذا إذن جاءت رسالة محمد؟ وأ لهذا أيضا جاءت رسالات الرسل، تجرى على ما عند الأقوام من آراء ومعتقدات؟ وأين مكان الرسالة إذا فى الناس؟ وما محتواها؟ إذا كانت لا تخرج على ما عند المرسل إليهم؟ ونقول فى عدد أصحاب الكهف: إن القرآن الكريم لم يذكر فى عدد أصحاب الكهف قولا له، وإنما ذكر ما يجرى على ألسنة الناس من حديث عنهم، وعن عددهم، على مدى الأزمان، حاضرها ومستقبلها.. ولهذا جاء التعبير القرآنى: «سَيَقُولُونَ» ولم يقل قالوا.. ولو كان من تدبير القرآن أن يردد أقوال اليهود، لينال بذلك موافقتهم، ويأخذ منهم شهادة بأن القرآن وحي من عند الله، لكان من الحكمة أن يأخذ بقول واحد من هذه الأقوال، وينتصر له، وبهذا يوقع الخلاف بين أصحاب هذه الأقوال المختلفة!. ثم نسأل: كيف يكون فى موافقة القرآن لمقولات اليهود المتضاربة المختلفة فى عدد الفتية ما يجعل عند اليهود وعند المشركين دليلا على أن القرآن وحي؟ ألا تكون التهمة قائمة بأن محمدا قد تلقّى هذه المقولات من اليهود الجزء: 8 ¦ الصفحة: 607 أنفسهم، كما يقال إن مشركى مكة قد تلقوها منهم؟ فما هو الجديد الذي جاء به محمد ليشهد له بأن القرآن وحي من عند الله؟ وهل كانت هذه المقولات من الأسرار التي احتفظ بها اليهود فيما بينهم؟ وكيف تكون سرّا وهى على هذا الخلاف الشديد بينهم؟ كلام لا معقول له أبدا. أما التعليل الذي يمكن أن يفهم عليه إغفال القرآن لذكر العدد الحقيقي لأصحاب الكهف، والقطع به، فهو ما جرى عليه أسلوب القرآن فى كل موقف يلتقى فيه بأصحاب المراء والجدل، الذين يريدون أن يسوقوه إلى المماحكات والمهاترات، التي لا تنتج إلا اضطرابا وبلبلة.. والقرآن يعرف طريقه إلى غاياته التي يريدها، فهو لا يقف عند هذه المواقف، ولا يلقاها بما يقدره أصحابها من صرفه عن وجهته، وشغله بهذا اللغو من الكلام عن رسالته! ففى كل مرّة كان يسأل فيها النبىّ سؤالا متعنّتا، لا يراد به كشف حقيقة، أو جلاء غامضة- كان يدع السائلين لما هم فيه، ويصرف وجهه عنهم، ليلقى الحياة كلها، بالجواب الذي فيه نفع للناس، وهدى للعالمين! سأل المشركون النبىّ عن الهلال: ما باله يبدو صغيرا، ثم يكبر، ثم يعود صغيرا؟. وكان الجواب: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ.. قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ، وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها» !. (189: البقرة) وكذلك الشأن فى فتية أصحاب الكهف.. إن العبرة الماثلة فى قصتهم، ليست فى عددهم قلّ أو كثر.. فليكونوا ثلاثة، أو مائة، أو ألفا.. أو ما شئت من عدد.. وإنما العبرة، هى فى موقف هؤلاء الفتية من الضلال الذي كان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 608 مطبقا على البيئة التي يعيشون فيها. وفى تخليص أنفسهم من هذا الضلال، وفى التضحية بالأهل، والمال، والوطن، فى سبيل العقيدة، والفرار من وجه الفتنة فيها!. وماذا يعود على من يقف على هذه القصة، إذا هو علم على وجه التحديد، عدّة هؤلاء الفتية وعدد السنين التي لبثوها فى كهفهم؟. إن كثرة العدد أو قلته- سواء فى الأشخاص أو فى السنين- لا يقدّم ولا يؤخّر كثيرا أو قليلا، فى مضمون القصة ومحتواها، وفى الأثر النفسي الذي تحدثه، وفى المعطيات التي تجىء منها وتقع موقع العبرة والعظة! وفى قوله تعالى: «فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً، وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً» إلفات إلى النبىّ الكريم، بألا يقف من مقولات القائلين فى أصحاب الكهف، وفى تحديد الزمن الذي عاشوا فيه، والبلد الذي كانوا من أهله، وفى أسمائهم، وأسماء ملوكهم، ورؤسائهم.. إلى غير ذلك- ألا يقف النبىّ من هذه المقولات موقف الباحث الطالب للحقيقة.. فكل هذه قشور، لا لباب فيها، وإنما اللباب، هو الأحداث والمواقف، واتجاهات تلك الأحداث وهذه المواقف.. والمراد بالمراء الظاهر هنا، هو، ألا يدفع النبىّ ما يقول القائلون فى عدّة أصحاب الكهف، وأسمائهم، وأزمانهم، وغير هذا، وألا يستقصى الحقيقة فى هذا. فالحقيقة، وما وراء الحقيقة، سواء فى هذا المقام! فأى جديد يدخل على محتوى القصة إذا كان عدد أصحاب الكهف كذا أو كذا، أو كان أسماء أبطالها فلانا، وفلانا وفلانا، أو غير فلان وفلان وفلان؟ وقل مثل هذا، فى الزمن الذي الذي لبثوه فى الكهف، وفى البلد الذي جرت فيه أحداث القصة! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 609 الآيات: (27- 31) [سورة الكهف (18) : الآيات 27 الى 31] وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) التفسير: الملتحد: الملجأ، الذي يميل إليه الإنسان فرارا من شىء يتهدده.. ومنه الإلحاد، وهو الميل عن طريق الحق.. فرارا من أضوائه المسلطة على الباطل الذي يحرص عليه أهله. الفرط: الإسراف فى الشيء، وتبديده، وتضييعه.. وهو ضدّ التفريط. والسرادق: الفسطاط، المحيط بما فيه. والمهل: حثارة الزيت، ونفايته، وقيل، هو النحاس المذاب.. والمرتفق: ما يرتفق به الإنسان، ويعتمد عليه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 610 فى معاشه، فيجعله رفيقا له.. والسندس: الرقيق من الديباج.. والإستبرق: الخشن الغليظ من الديباج. قوله تعالى: «وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً» . هذه الآية معطوفة على قوله تعالى: «فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً ... الآية» وما بين الآيتين، وهو قوله تعالى: «وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً» .. هذا الفصل بين الآيتين، لا يقطع الصلة بينهما، إذ كان ما فصل به بينهما هو أشبه بالتعقيب على الآية السابقة على هذا الفاصل، إذ قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يمارى فى أخبار القوم إلا مراء عابرا، لا يقف طويلا عنده، ولا يستفتى فى شأن أصحاب الكهف أحدا ممن يظنّ عندهم علم منه.. وكذلك مما يدخل فى النهى عن المراء هذا الخبر الذي جاء به القرآن عن مدة لبثهم فى الكهف، وهو ثلاث مائة سنين وتسع سنوات، فهذا الخبر الذي أخبر به الله سبحانه وتعالى عن مدة لبثهم فى الكهف- سوف يمارى فيه الممارون ويطعنون فى صدقه وإذن فقد كان على النبىّ ألا يقف لهذه المماراة، بل يلقاها فى غير اكتراث، وليقل لنفسه، وللمؤمنين، وغير المؤمنين: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» فعلمه سبحانه هو العلم الحق، وما سواه فظنون وأوهام.. وقد قال الله سبحانه قولة الحقّ «فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ، وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» . - ثم كان قوله تعالى: «وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ.. الآية» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 611 طيّا لهذا الحديث عن لبث أصحاب الكهف فى الكهف، وإلفاتا للنبىّ إلى كتاب الله الذي معه، وإلى ما نزل إليه من ربّه، فى شأن أصحاب الكهف، الذين يكثر الحديث عنهم، ويدور الجدل حولهم.. وإنه بحسب النبىّ فى هذا أن يتلو ما أوحى إليه من كلمات ربّه، وألا يلقى أذنه إلى ما يدور فى مجالس القوم وأنديتهم، من حديث عن أصحاب الكهف.. فما جاء به القرآن الكريم، هو الحق الذي لا ينقص أبدا، ولا يتبدّل على الزمن، بما يستجدّ من أخبار، وما ينكشف من آثار: «لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ» . - وفى قوله تعالى: «وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً» توكيد لقوله تعالى: «وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً» .. والملتحد هو الملجأ، وهو الذي يفرّ إليه الإنسان فى الأزمات، وليس للنبى ملجأ إلا الله، فى كل أمر يطرقه، وفى هذا الامتحان الذي يمتحن به فى أصحاب الكهف من المشركين، وأعوان المشركين. قوله تعالى: «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً» . قيل إن هذه الآية نزلت فى شأن بلال وصهيب، وغيرهما من المستضعفين من المسلمين الأولين، فى مكة، وأنها دعوة للنبىّ الكريم أن يجعل عاطفته كلها مع هؤلاء المستضعفين، وألا يصرفه عنهم صارف الاهتمام بأصحاب السيادة والرياسة فى قريش، طمعا فى هدايتهم إلى الله، ليكون له منهم سند للدعوة الإسلامية، وقوة تدفع عن المسلمين الأذى والضرّ، مما لا تفتر قريش عن سوقه إليهم. وإذا صح سبب نزول هذه الآية على هذا الوجه، فإن المراد بها قبل كل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 612 شىء، هو مواساة كريمة وعزاء جميل من رب كريم، لهؤلاء المستضعفين، الذين نظر إليهم ربّهم، فجعلهم فى هذا المقام الكريم الذي يوجّه إليه وجه النبىّ كلّه، دون أن يعطى المشركين لفتة منه! فإنه شتان ما بين هؤلاء وأولئك.. فهؤلاء المسلمون المستضعفون، قد آمنوا بربّهم، يدعونه بالغداة والعشىّ، وأولئك المشركون، قد ألهتهم دنياهم، وأعماهم ضلالهم، فشغلوا عن النظر فى أنفسهم، وضلّوا الطريق إلى ربّهم. - وفى قوله تعالى: «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ» إشارة إلى أن هذا الجانب الذي يقفه النبي مع أصحابه المستضعفين، هو جانب فيه شدة وبلاء، ومعاناة، لا يصمد له إلا أولوا العزم والصبر! إنه انحياز إلى الجانب الضعيف، وإيثار له على الجانب القوىّ، ذى الجاه والسلطان. - وفى قوله تعالى: «وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً» تسفيه لهؤلاء المشركين، وما هم فيه من عناد يسوقهم إلى الهلاك، ويخرجهم من الدنيا، وقد خسروا الدنيا والآخرة جميعا. قوله تعالى: «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ.. فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ.. إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً» فى هذه الآية وعيد شديد لهؤلاء المشركين الذين لجّوا فى طغيانهم، وعدوانهم.. فقد أعدّ الله لهم «ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها» أي ضربت عليهم النار، فكانت سرادقا يشتمل عليهم، لا يخرجون منه أبدا.. إنها دارهم، لا دار لهم غيرها.. وإن استصرخوا فيها طالبين الغوث، كان الصّراخ لهم، والإسراع لنجدتهم، هو أن يسقوا ماء آسنا، يغلى، فيشوى الحرّ المتصاعد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 613 منه وجوههم قبل أن يصل إلى أفواههم.. ذلك هو نزلهم، وتلك هى عيشتهم.. فبئس الشراب شرابهم، وبئس العيش عيشهم! قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ.. نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً» هذا هو الوجه الآخر من وجوه الناس يوم القيامة، وهم المؤمنون، الذين آمنوا، ثم أتبعوا إيمانهم بالأعمال الصالحة، فهؤلاء لا يضيع أجرهم عند الله.. فقد أعدّ لهم سبحانه جنات عدن، أي جنات الخلود، لا يخرجون منها أبدا.. يقال: عدن فى المكان، أي أقام واستقرّ. هذه الأنهار التي تجرى من تحت الجنات، وتلك الأساور من ذهب التي يحلّون بها، وهذه الثياب الرقيقة من السندس، وما فوقها من إستبرق، وتلك الأرائك التي يتكئون عليها.. هذا كلّه، هو بعض ما يجد أصحاب الجنة فى الجنة، مما كانت تشتهيه أنفسهم فى الدنيا، ولا يجدون سبيلا إليه، إما لقصر أيديهم عنه، وإما لنزولهم طوعا عما فى أيديهم، إيثارا لدينهم، واستعلاء على متاع هذه الحياة الدنيا الذي لا بقاء له.. أما ما فى الجنة من نعيم، فهو مما لم تره عين، ولم تسمعه أذن، ولم يخطر على قلب بشر. الآيات: (32- 44) [سورة الكهف (18) : الآيات 32 الى 44] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 614 التفسير: الصعيد: التراب.. والزّلق: الذي لا نبات فيه.. والحسبان: المبالغة فى الحساب، والمراد به أنه من تقدير الله، وأنه واقع بحساب وبقدر. غورا: أي غائرا، قد انسرب فى باطن الأرض.. فى هذه الآيات مثل ضربه الله سبحانه وتعالى لرجلين، أحدهما مؤمن بالله، والآخر كافر به.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 615 فالرجلان بهذا الوضع يمثلان الإنسانية كلها، إذ كان الناس أبدا فريقين: مؤمنين، وكافرين.. مستجيبين لدعوة الرسل مؤمنين بها، أو منكرين لها، خارجين عليها.. وإذ كان ذلك من كسبهم واختيارهم، فقد استحق كل أن ينال جزاء ما عمل: «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» . والرجلان اللذان تعرضهما الآيات، يقف كل منهما فى الجانب الذي اختاره، وحرص عليه، واعتزّ به.. أما الكافر.. فقد وسّع الله له فى الرزق.. فجعل له الله سبحانه وتعالى: «جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ» وهاتان الجنّتان قد تكونان فى قطعتين من الأرض، تنعزل كل منهما عن الأخرى.. فهما فى مرأى العين جنّتان، وقد تكونان جنّة واحدة، ولكنها لا تساع رقعتها، تبدو وكأنها جنتان.. والرأى الأول هو المقول به هنا، حيث جاء حديث القرآن عنهما باعتبارهما جنتين، لكل جنة كيانها، واعتبارها.. وقد حفّت هاتان الجنتان بالنخيل، ليكون ذلك أشبه بسور لهما.. إلى جانب الثمر الذي يجىء من هذه النخيل.. وليس هذا، فحسب، فإن بين أشجار العنب زروعا أخرى، من حبّ، وفاكهة، وغيرها.. فهما إذن جنّتان فى أعدل بقعة.. تربتها خصبة، وماؤها كثير.. «وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً» .. ولهذا كان ثمرهما كثيرا مستوفيا: «كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً» أي لم ينقص شىء مما ينبغى أن تعطيه الأرض الطيبة من ثمرات ما يغرس فيها.. ثم إلى جانب هذا كان للرجل مال آخر يثمّره وينمّيه، كالأنعام، وغيرها: «وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ» . هذا هو الرجل الكافر.. صاحب خير كثير أفاضه الله عليه، ورزق واسع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 616 ابتلاه الله به.. وكان شأنه- لو عقل- أن يحمد الله، ويذكر ما ألبسه من نعمه.. ولكنه لم يفعل هذا، بل كفر بالله، ولم يوجه إليه وجها، أو يرفع إليه بصرا.. وليته وقف عند هذا، بل لقد استبدّ به الغرور، وركبه الطيش والنّزق، فأخذ يكيد للمؤمنين، ويغريهم بالضلال، ليفتنهم فى دينهم.. إذ كانوا مع إيمانهم بالله، فى فقر ومعسرة، وهو مع كفره بالله، فى هذا الغنى الواسع، وذلك الثراء العريض!! فلم الإيمان بهذا الإله إذن؟ وما جدوى التعلّق به إذا كان المتعاملون معه، على تلك الحال من الفاقة والبؤس؟ هذا هو المنطق الذي يبشرّ به هذا الكافر، فى الناس، ويحاجّ المؤمنين به. «فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً» . هذا موقف من مواقف الفتنة، يلقى بها هذا الكافر بين عينى المؤمن. إنه أكثر من صاحبه المؤمن مالا وأعزّ نفرا! ولا سبب لهذا إلا لأنه كافر.. وصاحبه مؤمن! ذلك هو منطق من أعمى الله أبصارهم وختم على قلوبهم.. يقول لصاحبه: «أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً» ولو كنت على ما أدين به لكنت مثلى، ولكان لك مالى، من مال، وبنين، وجاه، وقوة! ولم يقف الضلال بهذا الضّال عند هذا، بل لقد أخذ بيد صاحبه، يطوف به فى جنتيه، حتى يريه بعينيه هذا النعيم الذي ينعم به من كفر بالله!! .. ويمضى الرجل المؤمن معه فى رحاب هذه الجنات العريضة.. ولعلّ صاحبه قد هيأ له أكثر من مجلس فيها، وأعدّ له أكثر من لون من ألوان الطعام من ثمارها.! وينتظر الكافر أن تتحرك فى نفس صاحبه شهوة إلى هذه الجنات، أو يبدو فى عينيه إكبار وإعظام لها ولصاحبها- فلا يرى شيئا من هذا كلّه، يدخل على نفس صاحبه، أو يقارب ما بينه وبينه قيد أنملة.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 617 وهنا، يجىء الكافر إلى صاحبه من ناحية أخرى، فيسمعه بأذنه ما رآه بعينه، لعل الكلمة هنا تفعل مالا تفعله الصورة.. واستمع إلى تصوير القرآن لهذا المشهد، وهو يصف الرجل وقد دخل بصاحبه إحدى جنتيه: «وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً» . هكذا يكيد هذا الضالّ لصاحبه، ويجىء إليه بما يظن أنه يملأ قلبه حسرة وحسدا.. فيتحدث عن جنّته هذا الحديث الذي يتيه فيه فخرا وزهوا، بما يملك بين يديه، من ثراء طائل، وجاه عظيم.. إنه ينظر إلى جنّته كأنه يراها لأول مرة، فيقول: «ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً» .. ثم ينظر فى وجه صاحبه ليرى وقع هذه الكلمة على مشاعره، فيرى استنكارا وامتعاضا، وتعجبا، من هذا الغرور الذي يذهل صاحبه عن بدهيّات الأمور.. فهل رأى هذا الأحمق الجهول، فيما يدور فى دنياه هذه، شيئا لا يبيد أبدا؟ وهل هذه أول جنّة كانت فى هذه البقعة؟ ألا يجوز أنها قامت على أنقاض دور كانت عامرة، أو جنات كانت خيرا من جنته؟ ولكنّ هذا الغوىّ الضالّ لا يرعوى عن غيّه وضلاله، ولا يجد فيما رأى على وجه صاحبه من أمارات الاستنكار، والاستهجان، ما يمسك لسانه عن هذا الهذيان.. فيتبع قولته: «ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً» بقولة أشنع منها، وأمعن فى الضلال.. فيقول: «وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً» ! وهكذا يخلى شعوره من كلّ خاطرة تخطر له، عما وراء هذا العالم المادىّ الذي هو غارق فيه!! ويتفرّس مرّة أخرى فى وجه صاحبه، ليرى وقع هذه الكلمة عليه، إذ هى ركيزة إيمانه، وأساس معتقده، بعد الإيمان بالله..! وربّما كرّر هذه القولة مرة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 618 ومرة: «وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً» ! .. وذلك إنما يقوله ويكرره إمعانا منه فى الكيد لصاحبه، والسخرية به، وبالدين الذي يدين به.! ثم لا يقف هذا الآثم الجهول عند هذا الحدّ، بل يقطع على صاحبه تلك الخواطر التي تنبعث من إيمانه، والتي تمسك به على طريق الإيمان، وتبعث فى نفسه العزاء بما سيلقى فى الآخرة من جزاء حسن عند الله، ذلك الجزاء الذي يزرى بكل ما يملك الناس جميعا فى هذه الدنيا من مال ومتاع- فيقول لصاحبه: «وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً» .. فلست وحدك يا صاحبى الذي يذهب بحظّه الذي يؤمّله فى الحياة الآخرة.. فأنا كذلك سيكون لى فى الآخرة- إن كانت هناك آخرة- حظ خير من حظك، ومقام خير من مقامك.. فكما أنا وأنت فى هذه الدنيا على ما ترى، كذلك سنكون فى الآخرة على هذا الحال.. أنا صاحب جنات خير من هذه الجنات.. وأنت كما أنت! فالوضع هناك هو الوضع هنا.. تماما كما ننتقل أنا وأنت من بلد إلى بلد.. لن يغيّر هذا الانتقال من حال أىّ منا شيئا! وهكذا يذهب الضلال بأهله إلى تلك المذاهب الممعنة فى السّفه والجهالة، فيرون حقائق الأمور مقلوبة على وجوهها، وهم فى هذا الوضع المنكوس الذي أقاموا فيه رءوسهم مقام أرجلهم.. وفى هذا يقول الله تعالى: «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً» (8: فاطر) ويقول سبحانه: «لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى» (49- 50: فصلت) . وهنا يأخذ الموقف بين الرجلين وضعا آخر.. فيتكلم المؤمن، ويستمع الكافر.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 619 «قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا» ؟. فهذا هو محصّل ما وقع فى نفس المؤمن من هذا الحديث الطويل، الذي تحدث به الكافر، صاحب الجنتين، المدلّ بجاهه وترائه.. إنه لم يستطع بحديثه هذا، وبما استعرض على الطبيعة من خيرات جنتيه، وما يؤمله فى الآخرة من جنات خير منهما- لم يستطع أن يغيّر من موقف صاحبه، أو يؤثر فى إيمانه شيئا.. فيلقاه صاحبه بما اعتاد أن يلقاه به، من إنكار عليه لهذا الضلال الذي هو غارق فيه، «أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا؟» . وفى توجيه الخطاب إليه بصيغة الماضي.. هكذا: «أَكَفَرْتَ» بدلا من صيغة الحاضر: «أتكفر» إشارة إلى أن هذا المنكر الذي هو فيه، ليس أمرا مستحدثا عنده، بل هو داء قديم، سكن فى كيانه، واستقر بين مسرى الدم من عروقه، لا يغيره شىء. ولو كان ذلك مما يمكن أن يتغيّر لكان له فى هذا الموقف الذي وقف من جنتيه، ورأى فيهما ما رأى من آيات الله وآلائه- ما يخفق له قلبه، وترقّ به مشاعره. وفى هذه الصورة التي رسمها المؤمن لصاحبه، وأراه فيها وجوده كله، منذ كان ترابا، ثم كان نطفة، ثم كان علقة، فجنينا، فوليدا، فطفلا، فرجلا مكتمل الرجولة كما هو الآن، يختال تيها وعجبا- فى هذه الصورة ينظر المؤمن إلى صاحبه، فيكره أن يكون على سمت هذه الصورة التي شوهها الكفر، ومسخها الضلال.. وفى سرعة خاطفة ينتزع نفسه من جنب صاحبه، ويعزل شخصه عنه.. ثم- وبسرعة خاطفة أيضا- يرسم لنفسه صورة ارتضاها، واطمأن إليها.. فيقول: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 620 «لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي.. وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً» .. فها هو ذا أنا.. أنا هو الذي تراه أيها الصاحب والذي عرفت موقفه من قبل.. «اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً» أما أنت فكما رأيت وعلمت!. فالضمير: «هو» - كما أحبّ أن أفهمه- هو ضمير الغيبة، المقابل لضمير الحضور «أنا» المدغم فى حرف الاستدراك لكن. وبهذين الضميرين: ضمير الحضور، وضمير الغيبة، تتحقق للرجل المؤمن صورتان: صورة حاضرة له بعد أن دخل الجنتين، مجدّدة للصورة الماضية التي كانت له قبل أن يدخل مع صاحبه جنتيه.. فهو هو لم يتغير منه شىء، بعد تلك التجربة المثيرة التي أدخله فيها صاحبه، وأراد بها أن يجرّه وراءه، فى طريقه القائم على الكفر والضلال!. وإذ ينكشف كل من الرجلين لصاحبه على هذا الوجه.. يعود المؤمن إلى صاحبه، ناصحا هاديا، لا كما جاء إليه صاحبه مضلّا مغويا.. فيقول له: «وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ.. لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.. إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً.. فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً.. أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً» . وفى هذا العرض، يكشف المؤمن لصاحبه الموقف الذي كان جديرا به أن يقفه، حين دخل جنّتيه، ورأى فيهما ما رأى من بديع صنع الله، وروعة قدرته.. فيقول: «ما شاءَ اللَّهُ» أي هذا ما شاءه الله وقدّره لى.. ولو شاء غير هذا لكان.. فسبحانه له الحمد، والشكران.. وليس لى من هذا الذي بين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 621 يدى شىء.. فأنا العاجز الضعيف، الذي لا يملك من أمره شيئا.. «لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» .. فما لم يكن للإنسان عون من الله، فهو الضائع المخذول.. ثم إذ لم يكن من «الكافر» أن يقول هذا القول، ولم تحدثه نفسه بشىء منه.. لوّح له صاحبه بهذا النذير الشديد، وقرعه بتلك القارعة المزلزلة: فقال له: انظر إلىّ «إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ» .. فذلك ليس بالذي تعجز عنه قدرة الله.. فالله سبحانه يملك الناس ويملك ما بأيدى النّاس، وبسلطان قدرته، وبتقدير حكمته، يبدّل أحوال الناس كيف يشاء، فيفقر ويغنى، ويذلّ ويعزّ، ويضع ويرفع.. فإذا كنت كما ترانى الآن أقلّ منك مالا وولدا، فغير بعيد على الله أن أصبح أو أمسى، فإذا أنا أكثر منك مالا وأعزّ نفرا.. وليس الأمر واقفا عند هذا، بل إنه من الممكن أن يقع فى يدىّ من المال والبنين أكثر مما معك، ثم إن هذا الذي معك يفرّ من بين يديك، فتلتفت فلا تجد منه شيئا.. وانظر إلى قوله تعالى: «فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً» .. ثم أمعن النظر فى هذا العطف بين الفعلين: «يؤتين» و «يرسل» حيث تتجلّى من ذلك قدرة الله فى التبديل والتغيير، ففى الحال التي يرسل الله فيها رحمة من رحمته إلى هذا الفقير المعدم، فيلبسه ثوب الغنى، يرسل على هذا الغنىّ ما يذهب بغناه، وإذا هذه الجنة الزاهية الزاهرة ينقضّ عليها «حسبان» من السماء، أي جائحة، تجىء فجأة، وتهبّ من حيث لا يدرى أحد، فتعصف بها، وتجعلها رمادا! أو يغور هذا الماء المتدفق من هذا النهر الذي يقيم حياتها، فإذا هى وقد جفت شرايين الحياة منها، وأخذت تموت موتا بطيئا بين عينى صاحبها الذي لا يملك لدائها دواء.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 622 والذي تذهب نفسه حسرة مع كل يوم يطلع عليها وعليه.. وقد صدق حدس الرجل المؤمن، وصحّ ما توقعه لصاحبه هذا الذي أطغته النعمة، فنصب لله الحرب، يقاتل أولياءه، ويصدّهم عن دينه، ويضلّهم عن سبيله.. «وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ.. فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها.. وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً.. وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً» . وهكذا تجىء الخاتمة، وتحقّ كلمة الله على القوم الظالمين.. وإذا هذه الجنة وقد أحيط بها، وشملها البلاء من كل جانب، وإذا صاحبها يقف على أطلالها كما يقف الأب على أشلاء أبنائه، وقد نزلت بهم نازلة أخذتهم جميعا.. «فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ» حسرة وكمدا.. «عَلى ما أَنْفَقَ فِيها» من مال وجهد «وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها» .. لا ترقّ لنحيبه، ولا تستجيب لصراخه، بل تظل هكذا خاوية على عروشها، لا تريه منها إلا هذا الموات الذي يزيد فى حسرته، ويضاعف من آلامه.. - فقوله تعالى: «وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها» حال كاشفة عن حاله، وهو يندبها، ويقطّع نفسه حسرة عليها، وهى بين يديه جثة هامدة، لا يجدى معها هذا العويل الصارخ، وهذا النحيب المتصل.. - وقوله تعالى: «وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً» هو حكاية لقوله الذي سيقوله يوم القيامة، يوم يساق إلى موقف أشدّ هؤلاء، وأقسى قسوة من هذا الموقف الذي هو فيه إزاء جنته تلك الخاوية على عروشها.. ففى هذا اليوم تشتد حسرته، ويتضاعف ندمه، ويقول فيما يقول: «يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 623 بِرَبِّي أَحَداً» .. ولكن أنّى له أن يصلح ما أفسد؟ لقد فات وقت الندم.. وهل نفعه بكاؤه، وأغنت عنه حسرته فى الدنيا، حين أخذ الله جنّته، وأرسل عليها حسبانا من السماء، فأصبحت خاوية على عروشها؟ إن يكن ذلك قد ردّ عليه ما فات، فقوله يوم القيامة: «يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً» قد يكون له أثر فى إصلاح ما أفسد.. وأما وقد هلكت جنته إلى غير رجعة، فإنه هو أيضا هنا فى الهالكين المعذبين فى النار، من غير أمل فى الخروج مما هو فيه. ولو كان قوله: «يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً» .. لو كان هذا قولا قاله فى دنياه- كما يقول بذلك بعض المفسّرين- لكان له فى هذا القول رجعة إلى الله، ولا نتقل به من الكفر إلى الإيمان، فإنه لا زال فى دار عمل. وقوله تعالى: «وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً» .. هو تعقيب على موقف هذا الكافر الذي لجّ به كفره.. فأخذه الله نكال الآخرة والأولى.. أما فى الأولى فقد أهلك جنته أمام عينيه وبين أهله وقومه، وأما فى الآخرة: فهو إلى مصير أسوأ من هذا المصير الذي أحرق كبده، وأذلّ كبرياءه.. وليس له هنا أو هناك من فئة ينصرونه، ويحولون بينه وبين أمر الله فيه.. «وَما كانَ مُنْتَصِراً» هو بذاته وبما كان يجده فى كيانه من عزة وقوة.. وقوله تعالى: «هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً» . «هنالك» : الإشارة هنا إلى يوم القيامة، وإلى كل موقف يكون بين الحق والباطل. والولاية: النصرة، والتأييد، والعون.. والمعنى: أنه فى يوم القيامة، حيث يشتد البلاء، ويعظم الكرب، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 624 وتدور أعين الناس فى كل مدار، باحثين عمن يدفع عنهم هذا البلاء، ويأخذ بيدهم إلى طريق الخلاص والنجاة.. فيتلفت الصديق إلى صديقه، والابن إلى أبيه، والأخ إلى أخيه، والعابد إلى معبوده الذي كان يعطيه كل ولائه، ويفوض إليه كل أموره.. ولكن لا أحد يسأل عن أحد، ولا أحد يعنيه شأن أحد.. «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» . والمؤمنون بالله وحده، هم الذين يجدون ولاءهم لله سبحانه، هو الذي قد خفّ لنجدتهم، فى ساعة العسرة، وأخذ بيدهم إلى جانب النجاة.. فكل ولىّ كان للإنسان فى دنياه قد فرّ عنه فى هذا الموطن، أما من كان ولاؤه لله، فقد وجد هذا الولاء إلى جانبه، مؤيدا له، وناصرا! فالولاية الحقّ، هى ما كانت لله، حيث لا تخذل صاحبها أبدا.. أما ولاية غير الله، فإنها سراب خادع، إذا جاءه الإنسان لم يجده شيئا. والضمير «هو» يعود إلى معنى الولاية، وهى الإيمان بالله، واللجأ إليه، فذلك خير «ثوابا» أي جزاء وخير «عقبا» أي عاقبة، حيث الجنة والنعيم المقيم.. الآيات: (45- 49) [سورة الكهف (18) : الآيات 45 الى 49] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 625 التفسير: قوله تعالى: «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً» . فى الآيات السابقة على هذه الآية، ضرب الله مثلا لرجلين، أحدهما كافر، والآخر مؤمن، وهذان الرجلان- كما قلنا- يمثلان الإنسانية كلها، فالناس جميعا رجلان: كافر، ومؤمن.. والكافر إنما كانت آفته تلك، من واردات الحياة الدنيا، وزخارفها، والاغترار ببهجتها وزينتها.. وهذا ما كشفت عنه الآيات السابقة، فى المحاورة التي كانت بين الكافر وصاحبه، واغتراره بما بين يديه من مال وبنين. - وفى قوله تعالى: «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا» الآية، ما يكشف عن الصورة الحقيقة لهذه الدنيا، التي ينخدع لها الناس، ويفتنون بها، ويبيعون من أجلها آخرتهم، ويقطعون بسببها كل صلة تصلهم بالله رب العالمين.. فهذه الدنيا، وما يموج فيها من ألوان الزخارف والمتع، وصور الجاه والسلطان، لا تعدو أن تكون زرعا، زها واخضرّ، وأزهر، وأثمر.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 626 ثم جاء الوقت الذي يحصد فيه.. فإن لم يحصد، قطعت الأرض صلتها به.. فصار هشيما، وحطاما. تذروه الرياح كما تذرو التراب! - «وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً» فيخرج الحىّ من الميت، ويخرج الميت من الحىّ، ويقيم من الأرض الجديب جنات وزروعا، ويحيل الجنات والزروع إلى جدب وقفر.. وكذلك يخلق الناس من تراب، ثم يعيدهم ترابا، ثم يردّهم بشرا سويّا!. قوله تعالى: «الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا» . تشير الآية إلى أبرز لونين وأزهاهما فى هذه الحياة الدنيا، التي يفتن الناس بها، ويشغلون بها عن الله، وعن الحياة الآخرة، وهما المال والبنون.. وقدم المال على البنين، لأنه المطلب الأول للإنسان، فكل إنسان طالب للمال، وليس كل إنسان طالبا للولد.. فكثير من الناس لا يطلبون الأولاد، بل يعيشون بغير سكن إلى زوجة، ولكنهم جميعا لا يستغنون عن طلب المال.. ومع هذا فإنه إذا حصل الإنسان على الولد، تعلق قلبه به، وكان الولد عنده مقدّما على المال! فالمال والبنون، هما أشدّ مظاهر الحياة فتنة للناس، وأكثرها داعية لهم، وأقواها سلطانا عليهم.. والله سبحانه وتعالى يقول: ِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ، وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ..» (15: التغابن) . - وفى قوله تعالى: «وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا» إشارة أخرى إلى ما هو خير من الأموال والأولاد، مما يمكن أن يحصّله الإنسان فى هذه الحياة الدنيا.. وتلك هى «الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ» التي هى الإيمان بالله، الذي هو رأس الأعمال الصالحة التي أمر الله بها من عبادات، ومعاملات، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 627 وأخلاق.. فهذا هو الذي يبقى للإنسان، ويجده حاضرا يوم القيامة، أما ما سواه فهو سراب، وقبض الريح لا يجد الإنسان منه شيئا.. «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» .. ووصف الباقيات بالصالحات، هو عزل لها عن باقيات غير صالحات، وهى المنكرات التي عليها أهل الضلال والكفر، إذ هى باقية لهم يجدونها يوم القيامة، ويجدون منها الحسرة والندامة قوله تعالى: «وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً» الواو هنا للاستئناف، لعرض صورة للحياة الآخرة، التي أشارت إليها الآيات السابقة تلميحا فى قوله تعالى: «وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ» حيث أن هذه الباقيات الصالحات لا تتجلّى آثارها كاملة، إلا يوم القيامة.. وفى هذا اليوم تتبدل الأرض غير الأرض والسموات.. فتسيّر الجبال وتزول عن مواضعها، حيث تسوّى بالأرض. وإذا الأرض كلها «بارزة» أي عارية، لا يخفى منها شىء، وإذا الناس جميعا قد حشروا بعد أن خرجوا من قبورهم، ولم يترك منهم أحد. قوله تعالى: َ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.. بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً» . بيان لعرض الناس على الله بعد الحشر، وفى هذا العرض يكون الحساب، ثم الجزاء، حيث يلقى كل عامل جزاء ما عمل.. من خير أو شر: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» (7- 8: الزلزلة) . - وفى قوله تعالى: َ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا» إشارة إلى أن هذا العرض الذي يجمع الإنسانية كلها، والخلائق جميعها، هو عرض ينكشف فيه كل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 628 إنسان، ويظهر فيه كل مخلوق، فلا يختفى أحد فى زحمة هذه الجموع الحاشدة.. فهم جميعا فى عين القدرة صفّ واحد، يأخذ كلّ مكانه، ويلقى حسابه وجزاءه.. «يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ» (18: الحاقة) . - وفى قوله تعالى: َقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» إشارة إلى أن الناس يجيئون يوم القيامة ولا شىء معهم، مما كان لهم فى الحياة الدنيا، من مال وبنين، وما كان بين أيديهم من جاه وسلطان.. لقد جاءوا عراة حفاة، عزلا من كلّ شىء، ضعافا، مجردين من كل قوة، كما ولدوا عراة، حفاة، لا شىء معهم! - وفى قوله تعالى: َوَّلَ مَرَّةٍ» إشارة إلى الخلق الأول للإنسان، وهو خلق الميلاد.. وفيه إشارة أيضا إلى أن الأطوار التي ينتقل فيها الإنسان من الطفولة إلى الصبا والشباب، والكهولة والشيخوخة.. وإلى ما يجدّ للإنسان فى هذه الأطوار من أحوال التملك، والتسلط، وغيرها- إنما هى جميعها من تدبير الله سبحانه وتعالى للإنسان، ومن صنيعه به.. فكأنه فى تنقله من طور إلى طور، ومن حال إلى حال، هو خلق جديد له.. غير الخلق الأول الذي ولد به! ولكن البعث إنما يكون على صورة أشبه بصورة الميلاد، من حيث التعرّى من كل شىء ملكه الإنسان فى الدنيا. - وقوله تعالى: َلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً» هو خطاب خاص موجّه إلى أولئك الذين أنكروا البعث: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ» (38: النحل) .. قوله تعالى: «وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» .. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 629 الكتاب هنا، هو الكتاب الذي سجّلت فيه الأعمال- كل الأعمال، الصالحة، والسيئة.. كما يقول سبحانه: «وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ» (10: التكوير) .. حيث ينكشف لكل إنسان عمله، من خير أو شر.. «يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» (6- 8: الزلزلة) . ويعجب الّذين كانوا لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، مما يطلع عليهم به هذا الكتاب.. لقد أحصى عليهم كل شىء.. ويقولون: «مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها» .. إنهم ما كانوا يحسبون أن شيئا من هذا سيقع، وأنه إذا وقع فلن يكون على تلك الصورة التي فضحت كل شىء كان منهم فى دنياهم.. «هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (29: الجاثية) .. الآيات: (50- 53) [سورة الكهف (18) : الآيات 50 الى 53] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 630 التفسير: قوله تعالى: «وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا» .. مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة قد عرضت الناس بين يدى الله يوم القيامة، فإذا هم مؤمنون، وكافرون.. مؤمنون قد آمنوا بالله، واستجابوا لدعوته على يد رسله، وكافرون قد خرجوا عن أمر الله، وعصوا رسله.. وهنا صورة فى الملأ الأعلى، تشبه هذه الصورة التي وقعت فى الأرض.. حيث جاءت دعوة الله إلى الملائكة أن يسجدوا لآدم، فسجدوا امتثالا لأمر الله.. ولكن كائنا من كائنات الملأ الأعلى قد غلبت عليه شقوته، ففسق، أي خرج عن أمر ربّه، وأبى أن يسجد!! فطرده الله من الملأ الأعلى، وألقى به إلى العالم الأرضى، صورة للتمرد والعصيان، ودعوة من دعوات الإغواء والإفساد والفسوق عن أمر الله، إلى جانب الدعوة التي يحملها رسل الله إلى الناس بالهدى والإيمان.. وفى قوله تعالى: «أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ؟» تحذير للناس من هذا العدوّ، الذي لعنه الله وطرده من رحمته- تحذير لهم من أن ينقادوا له، فمن انقاد له فقد فسق، أي خرج عن أمر ربّه، كما فسق هذا الرجيم الملعون عن أمر ربّه، وكان وضعه فى المجتمع الإنسانى المؤمن، كوضع إبليس من الملائكة.. - وفى قوله تعالى: «بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا» إشارة إلى هذا الخسران المبين الذي لحق أهل الضلال الذين استغواهم الشيطان فغووا، وخيّروا بين الهدى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 631 والضلال، وبين الله والشيطان.. فانحازوا إلى جانب الشيطان وركبوا معه مركب الغواية والضلال.. قوله تعالى: «ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً» ضمير النصب فى قوله تعالى: «ما أَشْهَدْتُهُمْ» يراد به أولئك المعبودون، الذين يعبدهم المشركون من دون الله! فهؤلاء المعبودون أيّا كانوا، هم ممن زيّن الشيطان للنّاس عبادتهم، حيث أضلّهم، وأعمى أبصارهم، ثم دعاهم فاستجابوا له، وعبدوا من المعبودات من صوّره لهم، وأراهم فيه الإله الذي يعبدونه.. ومن هنا صح أن يكون كلّ من عبد غير الله، عابدا للشيطان، أصلا، وإن كان فى واقع الأمر عابدا صنما، أو إنسانا، أو ملكا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ.. أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ.. بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ» (40- 41: سبأ) . - وفى قوله تعالى: «ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» تشنيع على أولئك الذين يعبدون غير الله، ويستجيبون لدعوة إبليس، وذريته.. فإن إبليس لم يكن هو وذريته إلا خلقا من خلق الله، وأنهم ليس لهم سلطان مع الله، فما شهدوا خلق هذا الوجود، وما فيه من سموات وأرضين، بل إنهم لم يشهدوا خلق أنفسهم.. إذ كيف يشهد المخلوق خلق نفسه؟ وإذن فما سلطان هؤلاء المخلوقين على الناس، وهم خلق مثلهم؟ وكيف يقبل مخلوق أن يستدلّ لمخلوق مثله، بل ويعبده، من دون الله؟. - وفى قوله تعالى: «وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً» عرض لإبليس الجزء: 8 ¦ الصفحة: 632 وذريته فى هذه الصورة الساقطة من بين المخلوقات جميعا، وأنهم مضلّون، مفسدون.. وأنه إذا جاز أن يتخذ الله سبحانه وتعالى من خلقه عضدا، أي معينا- وتعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا- فإنه لن يتخذ أرذل خلقه، وأبعدهم من رحمته.. إنه لا يستقيم أبدا أن يقرّب الإنسان أبغض الناس إليه، ويتخذهم أعوانا له، وبين يديه من هم أحباؤه، وأصفياؤه، وأهل ودّه؟ فكيف بالله سبحانه وتعالى، وبحكمته وعلمه بخلقه؟ قوله تعالى: «وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً» . الموبق: المهلك، وهو هنا النار التي يلقى فيها المشركون. وهذه الآية عرض عام لما يكون بين المشركين، وبين من اتخذوهم شركاء من دون الله، حين يجدّ الجدّ، وتقع ساعة الحساب.. عند ذلك ينادى منادى الحق على هؤلاء المشركين: أن ادعوا شركاءكم الذين زعمتم، أي الذين اصطنعتموهم من مزاعم أوهامكم وظنونكم.. «فَدَعَوْهُمْ.. فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ» .. بل أنكروهم، وأنكروا أن لهم صلة بهم.. أو لم يستجيبوا لهم أصلا، إذ كان ما عبدوه وهما باطلا، لا وجود له.. «وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً» أي جعلنا بين المشركين وبين من أشركوا بهم «موبقا» أي حاجزا من النار يلقى فيها هؤلاء المشركون، دون أن تمتد إليهم يد من هؤلاء الشركاء الذين كانوا يعبدونهم، ويلقون إليهم بالمودة والولاء، فهذا الذي كان بين المشركين وبين معبوداتهم من ولاء ومودة، قد صار هلاكا، ووبالا، ونارا تلظّى! وفى قوله تعالى: «شُرَكائِيَ» بإضافتهم إليه سبحانه وتعالى، مع أنهم ليسوا شركاءه على الحقيقة- فى هذا عرض لتلك الجريمة الشنعاء على أعين هؤلاء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 633 المجرمين، ليروا فى هذا الموقف ماذا كان منهم من منكر غليظ، إذ جعلوا لله شركاء! إن ذلك أشبه بعرض جثة القتيل على قاتله، وهو مقود إلى القصاص منه، حتى يعاين من ذلك، الحال التي سيصير إليها، وهى أن يقتل كهذه القتلة! قوله تعالى: «وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً» . المجرمون هنا، هم هؤلاء المشركون، الذي عرضوا فى هذا العرض الذي جمع بينهم وبين من أشركوا بهم من دون الله.. فقد أمروا أن يدعوا شركاءهم، فلما دعوهم ولم يستجيبوا لهم، تلفتوا فإذا هى النّار بين أيديهم.. فلما رأوها ظنوا أنهم واقعون فيها.. وقد صدق ظنهم فى هذه المرة، وأصبح يقينا واقعا.. إذ لا مصرف لهم عنها، ولا نجاة لهم من الوقوع فيها.. الآيات: (54- 59) [سورة الكهف (18) : الآيات 54 الى 59] وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 634 التفسير: بعد هذا العرض الكاشف الذي جاءت به الآيات السابقة، لمواقف المؤمنين والمشركين، وأولياء الرحمن وأتباع الشيطان، وما يرى هؤلاء وأولئك من جزاء فى الآخرة- بعد هذا، تعود آيات القرآن الكريم، فتلتقى بالمشركين من أهل مكة مرة أخرى، وتذكرهم بما يتلى عليهم من آيات الله.. فيقول سبحانه: «وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا» وفى الإشارة إلى القرآن الكريم بقوله تعالى: «هذَا الْقُرْآنِ» - وهو معروف لهؤلاء المخاطبين- تنويه بشأن هذا القرآن، وبمقامه العالي الرفيع، الذي لا يراه إلا من رفع رأسه عن تراب هذه الأرض، واستشرف ببصره إلى مطالع الحق فى آفاقه العليا، عندئذ يأخذ الإنسان الوضع الذي يمكن أن يرى فيه من معالم الوجود، ما لم يكن يرى منها شيئا، وهو ينظر إلى موقع قدميه! والتصريف: هو الإرسال، والبعث، والسوق.. ومنه تصريف الرياح، وهو هبوطها من أكثر منه؟؟؟ .. وتصريف الأمثال: سوقها، وبعثها، مثلا بعد مثل.. وكلّ مثل فيه العبرة والعظة، وفيه ما يفتح للعاقل الطريق إلى الحقّ والهدى.. فكيف وهى أمثال كثيرة، تلتقى مع كل عقل، وتتجاوب مع كلّ فهم.. ولكن الجدل والمراء، آفة الإنسان، والحجاز الذي يحجز عقله عن أن يميز الخبيث من الطيب، ويفرق بين النور والظلام! «وَكانَ الْإِنْسانُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 635 أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا» .. فتلك هى بليّة الإنسان، ومضلّة الضالين، ومهلك الهالكين، من أبناء آدم. قوله تعالى: «وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا» . الناس هنا، ليسوا مطلق الناس، ولكنهم المكابرون المعاندون، الذين غلبت عليهم شقوتهم، فركبوا رءوسهم، وأبوا أن يصيخوا لصوت الدّاعى الذي يدعوهم إليه، وهم مشرفون على هاوية سحيقة تلقى بهم فى مهاوى الهلاك.. والهدى الذي جاءهم: هو القرآن الكريم. فهؤلاء الأشقياء الضالون، لم يمنعهم مانع من خارج أنفسهم أن يؤمنوا، ويستغفروا ربّهم على ما فرط منهم فى جنب الله، وفى جنب رسل الله- ما منعهم من ذلك إلا ما ركّب فيهم من عناد عنيد وجدل سقيم، وأنهم- وهذا شأنهم، وتلك حالهم- لن يؤمنوا «إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ» وهى وقوع البلاء بهم، وأخذهم بما أخذ الله به الضالين المكذبين قبلهم، من هلاك مبين، لا يبقى لهم أثرا.. «أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا» أي أو حين يطلع عليهم العذاب فيرونه عيانا، مقبلا عليهم، كما رأى فرعون الموت مقبلا عليه.. فقال: «آمنت» ! ففى النظم القرآنى الذي جاءت عليه الآية حذف، يدل عليه السياق.. وتقديره: «وما منع الناس شىء أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربّهم- ولكنهم لن يؤمنوا- إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا» . قوله تعالى: «وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 636 أي إنه ليس هناك قوة خارجة عن كيان الإنسان ترغمه على الإيمان بالله.. وإن رسل الله الذين أرسلوا لهداية الناس، ودعوتهم إلى الحق، لا يملكون هذه القوّة التي تحمل الناس حملا على الهدى، وتكرههم إكراها على الإيمان: «وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ» فتلك هى مهمّة الرسل، وهذه هى وظيفتهم فى أقوامهم.. يبلغونهم رسالة ربهم، وما تحمل إليهم من مبشّرات ومنذرات.. - وفى قوله تعالى «وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ» بيان لموقف المعاندين الضالين، من دعوة الرسل، وأنهم يلقون رسالة الله، ودعوة الرسل بالمراء والجدل، وليس بين أيديهم فى هذا الجدل، إلا الباطل يرمون به فى وجه الحق، يريدون به أن يدحضوه، أي يوقعوه ويهزموه.. - وفى قوله تعالى: «وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً» تهديد ووعيد لهؤلاء الذين يسخرون بآيات الله، ويهزءون برسله، وبما ينذرونهم به من عذاب الله، فيقولون فيما يقولون: «فَأْتِنا بِما تَعِدُنا.. إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» (32: هود) . قوله تعالى: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً» وإنه لا أظلم من إنسان جاءه من يذكّره بآيات ربّه- وكان من شأنه بما معه من عقل أن يذكر آيات ربّه المبثوثة فى هذا الوجود، ويتهدّى إليه، ويؤمن به- من غير أن يدعوه أحد «فَأَعْرَضَ عَنْها» وأصمّ أذنه عن الاستماع إليها، «وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ» من آثام وضلالات» . إنه لهو الظلم أعظم الظلم، وهو الضلال أظلم الضلال، أن يقع الإنسان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 637 فى الوحل، ثم يجىء من يمدّ يده إليه لاستنقاذه، بعد أن يكشف له الحال الذي هو فيه، فيأبى أن يسمع، ويمتنع أن يجيب!. وانظر إلى تلك المنّة العظيمة، بإضافة هذا الإنسان الجحود، إلى «ربّه» واستدعائه إليه باسمه تعالى: وبآلائه التي يضفيها عليه، وهو يأبى إلا نفورا، وإلا إمعانا فى الكفر والضلال!. - وفى قوله تعالى: «إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً» بيان للعلة الكامنة فى هؤلاء الضالين، الذين أعرضوا عن آيات الله، واتخذوا آياته وما أنذروا به هزوا، وتلك العلّة هى أن الله سبحانه وتعالى- لحكمة أرادها- قد جعل على قلوبهم «أكنّة» ، أي حجبا تحجبها عن الهدى، وأن تفقه آيات الله، وجعل فى آذانهم «وقرا» أي صمما، فلا تسمع ما يتلى عليها من آيات الله.. فهم لهذا لن يهتدوا أبدا: «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» (41: المائدة) . «أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ» (23: محمد) . قوله تعالى: «وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا» . الموئل: الملجأ، والمهرب.. والخطاب للنبىّ صلوات الله وسلامه عليه، وفحوى الخطاب مراد به قومه.. وإذ كشفت الآية السابقة عن جحود الإنسان، وكفره بآلاء ربّه، وإعراضه عن الاستماع لدعوته إليه- فقد جاءت هذه الآية لتكشف عن سعة رحمة الله ومغفرته لعباده، وهم على حرب معه ومع أوليائه.. فقد وسعتهم رحمته، ومغفرته، فلم يعجل سبحانه وتعالى لهم العذاب، ولم يأخذهم بما هم أهل له من نقمة وبلاء، كما أخذ الأمم السابقة من قبلهم، بل أمهلهم، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 638 وأفسح لهم المجال لإصلاح ما أفسدوا من أمرهم، والرجوع إلى ربهم من قريب.. وهذا- ولا شك- من خصوصيات هذه الأمة، التي اختصها الله بها، تكريما لرسوله الكريم، حيث يقول سبحانه: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» (33: الأنفال) .. وأكثر أنبياء الله ورسله، قد شهدوا بأعينهم مصارع أقوامهم.. ولكن هذه الأمة قد عافاها الله من هذا الابتلاء، وأكرم نبيّها فلم يفجعه فى أهله وقومه.. وكان من تمام هذه النعمة على النبي الكريم وعلى أمته، أنه صلى الله عليه وسلم لم يدع هذه الدنيا، ويلحق بالرفيق الأعلى، حتى رأى بعينيه قومه جميعا يدخلون فى دين الله أفواجا، ورأى العرب جميعا أمّة مؤمنة بالله، وحتى تلقى من ربّه- سبحانه وتعالى- هذا الثناء العظيم على أمته بقوله تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.. تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.. وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (110: آل عمران) وفى قوله تعالى: «بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا» - إشارة إلى أن مغفرة الله ورحمته، لا يدفعان بأسه عن القوم المجرمين.. فهناك حساب، وهناك جزاء، توفى فيه كل نفس ما كسبت.. وليس لأحد سبيل إلى الفرار من هذا الحساب، وذاك الجزاء!. قوله تعالى: «وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً» . الإشارة هنا، إلى تلك القرى التي أهلكها الله من قبل، كقرى عاد، وثمود، ولوط.. فهذه القرى وغيرها ممن كفروا بآيات الله وعصوا رسله، قد أهلكهم الله، وعجّل لهم العذاب فى الدنيا، ولم يمهلهم كما أمهل أهل هذه القرية «مكة» والقرى التي حولها، رحمة منه سبحانه وإكراما لنبيه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 639 الكريم.. وفى هذا تهديد لمشركى مكة، وإلفات لهم إلى أنهم واقعون تحت حكم القوم الهالكين، فتلك هى سنة الله التي قد خلت فى عباده، لمن كفروا بالله، وعصوا رسله.. وقد كفر أهل مكة بالله، وعصوا رسله.. وإن فيما أخذ الله به القرى الظالمة من قبلهم لعبرة لهم.. وعلى هذا فإنه وإن أمهل الله أهل هذه القرية، فلم يعجل لها الهلاك، فإنهم هالكون لا محالة: «فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» . فالضمير فى «لِمَهْلِكِهِمْ» يعود إلى أهل مكة، وهو أولى من عوده إلى أهل القرى المشار إليها فى أول الآية.. إذ كان قوله تعالى: «لَمَّا ظَلَمُوا» يحمل معه الموعد الذي أهلكوا فيه، وهو عند ظلمهم وكفرهم بالله، وعدوانهم على رسلهم.. فعود الضمير إلى أهل مكة الذين أشار إليهم قوله تعالى: «وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا» .. أولى من عوده على أهل القرى، إذ يحقق معنى جديدا، فيه تهديد لمشركى مكة، وقطع لآمالهم فى هذه الحياة، وتصحيح لظنونهم الكاذبة، وأمانيهم الباطلة، وأنهم ليسوا خالدين فى هذه الدنيا.. الآيات: (60- 64) [سورة الكهف (18) : الآيات 60 الى 64] وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 640 التفسير: فى هذه الآيات، وما بعدها، قصة عجيبة، وحدث عجب، بين موسى، والعبد الصالح.. حيث تجرى الأحداث فى متّجه على غير مألوف الحياة، وما اعتاد الناس أن يجروا أمورهم عليها.. وقبل أن نلتقى بآيات الله، وما تحدث به عن تلك القصة، نودّ أن نشير إلى أمور: أولها: أن هذه القصة لم تذكرها التوراة.. ومن ثمّ فقد أنكرها اليهود وأنكروا أن يكون «موسى» المذكور فيها هو موسى بن عمران رسول الله..!! وهذا ما جعل كثيرا من المفسّرين يقيمون لهذا الإنكار من اليهود وزنا، ويجعلون من مقولاتهم عن «موسى» هذا، أنه رجل آخر غير موسى ابن عمران، ثم يحاولون أن يجعلوا له نسبا لا يتفقون عليه.. فهو عند بعضهم موسى بن مشيا بن يوسف بن يعقوب، وعند آخرين، هو موسى بن أفرائيم بن يوسف.. إلى كثير من تلك المقولات التي لا حدود لها.. وهذا كله مردود على أهله، سواء اليهود، أو من جعل لمقولاتهم حسابا فى هذا المقام.. فليس فى القرآن الكريم أىّ ذكر فى غير هذا الموضع لموسى، غير موسى رسول الله، فإذا ذكر «موسى» فى أي موضع من القرآن، فهو «موسى» رسول الله، ما دام ذكره مجردا من كل وصف خاص، يفرّق بينه وبين موسى رسول الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 641 وليس إنكار اليهود حجة على القرآن، وليس عدم ذكر هذه القصة فى التوراة حجة على القرآن كذلك.. وذلك: 1- أن القرآن مصدّق للكتب السابقة- ومنها التوراة- ومهيمن عليها.. فهى جميعها تبع له، وليس هو تابعا لها.. 2- أن التوراة قد دخلها كثير من التحريف، والتبديل، والحذف، والإضافة.. وقد ذهب بهذا مالها من حجة على أنها هى كتاب الله، الذي يلتزم المؤمنون بكل ما جاء فيه.. 3- ليس كل ما جاء فى القرآن عن موسى وقومه قد ذكرته التوراة، وما ذكرته التوراة لا يتفق أكثره مع ما جاء فى القرآن.. ومن ثمّ فلا وجه لاختصاص هذه الحادثة بالإنكار.. من جهة اليهود.. فقد أنكروا كثيرا مما جاء فى القرآن من أحداث، بل لقد أنكروا ما هو موجود فعلا فى التوراة مما تحدّث به القرآن من رجم الزاني، وقد أشرنا إلى هذا عند تفسير قوله تعالى: «وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ» (43: المائدة) . وأكثر من هذا، فإنهم أنكروا ما فى التوراة من وصف لرسول الله، كما يقول تعالى: «الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ» (157: الأعراف) 4- هذه الحادثة أمر خاص بموسى، ودرس من دروس العلم العالي، الواقع على مستوى فوق مستوى الحياة الإنسانية.. وهو حدث يمكن أن يقع لموسى، أو لغيره من الناس، نبيا كان أو وليّا من أولياء الله، أو عبدا من عباده الصالحين.. ومع هذا، فإن ذكر «موسى» مجردا من كل صفة، لا يعنى إلا موسى الذي له ذكر فى القرآن.. وثانيها: هذه المقدّمة التي تمهد بها الآيات القرآنية لهذا اللقاء، الذي وقع بين موسى والعبد الصالح، يثير بعض التساؤلات، كأن يقال: ما داعية هذا الحوار الذي بين موسى وفتاه؟ وما شأن هذا الحوت؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 642 وما متعلّق القصة به؟ وما هذه الصخرة التي جاوزها موسى وفتاه ثم عادا إليها؟. وأخيرا: ماذا لو خلت القصة من كل هذا، ووقع اللقاء بين موسى والعبد الصالح من غير هذه المقدّمات؟ أفي ذلك ما يذهب بشىء من مواقع العبرة والعظة التي جاءت القصة من أجلهما؟ والجواب على هذا: أولا: أن القصة- كما قلنا، وكما سنرى- تجرى أحداثها فى اتجاه على غير الاتجاه المألوف للناس، حسب تقديرهم وتفكيرهم.. وإذ كان موسى سيدخل فى هذه التجربة، وسيجرى مع هذا الأحداث على صورة يرى فيها أنه يسير فى وضع مقلوب، حيث أنه يمشى القهقرى، على حين أنه يريد أن يتجه إلى الأمام لغاية يقصدها- إذ كان ذلك كذلك، فقد كان من الطبيعي أن يعانى شيئا من هذه التجربة بنفسه، ومع إنسان يفكر على مستوى تفكيره، ويجرى فى الحياة على ما اعتاد الناس منها، وهو فتاه الذي كان رفيق رحلته.. فموسى مع فتاه.. يسيران سيرا مجهدا إلى غاية يقصدانها، وهى الصخرة، التي سيلتقى عندها موسى مع العبد الصالح.. ومع هذا يمرّان بتلك الصخرة، ويأويان إليها، ثم يجاوزانها، حتى يجهدهما السفر.. ثم ينكشف لهما فيما بعد، أن هذه الصخرة، هى الصخرة المطلوبة، فيعودان إليها مرة أخرى.. ولو كان لموسى شىء من هذا العلم الذي سيكشفه له العبد الصالح لما دار هذه الدورة الطويلة ولما بذل كل هذا الجهد الضائع! إن موسى هنا يبحث عن حقيقة مادّية وهى «الصخرة» ومع أن الصخرة كانت تحت قدميه، فإنه لم يرها، ولم يتعرف عليها.. ولو رفع عنه حجاب الغيب للزم مكانه، ولما سعى هذا السّعى المجهد. وفى هذا درس بليغ للإيمان بالقدر المتحكّم فى مصائر الناس.. وأنه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 643 لو انكشف للناس ما قدّر لهم لما سعوا، ولما تحركوا، ولجمدت الحياة بالناس حيث هم.. لا يعملون، ولا يتحركون! وخذ مثلا «الغلام» الذي قتله العبد الصالح.. أترى لو انكشف لأبويه منه ما انكشف للعبد الصالح.. أكانا يبغيان الولد؟ بل أكانا يتزوجان؟ .. وقل مثل هذا فى كل شأن من شئون الحياة، خيرها وشرها.. أكان أحد يتحرك إلى غاية أبدا؟ وكيف والغايات- بحكم القدر- تطلب الناس، ولا يطلبونها؟ أما ونحن محجوبون عن أقدارنا، فإننا- بحكم الرغبة فينا- نسعى إلى أقدارنا، ونسلك إليها مسالك مستقيمة أو معوجة.. حتى نبلغها.. وتلك هى سنة الحياة فينا، والقوة الدافعة لنا إلى السعى والكفاح.. يتحرك الناس ويتحركون.. ثم ينتهى بهم المطاف إلى ما يحمدون أو مالا يحمدون.. ولو انكشفت لهم عواقب الأمور لوقفوا حيث هم، ولما ركبوا المخاطر والأهوال.. ولكنهم- مع هذا- مدفوعون إلى أقدارهم، يركبون إليها كل هول وخطر.. يقول ابن الرومي: أقدّم رجلا رغبة فى رغيبة ... وأمسك أخرى رهبة للمعاطب أخاف على نفسى وأرجو مفازها ... وأستار غيب الله دون العواقب ألا من يرينى غايتى قبل مذهبى! ومن أين؟ والغايات بعد المذاهب؟ وثانيا. أن موسى يريد أن يحصّل علما.. والعلم هو أعظم وأكرم ما يطلبه الإنسان فى الحياة.. وشأن العلم وتحصيله، شأن كل ثمرة طيبة، يريد الإنسان الحصول عليها.. لا بد من مجهود يبذل، وإنه على قدر الجهد المبذول، تكون الثمرة التي تقع ليد الطالب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 644 ومن هنا كان على موسى إذن أن يبذل من جهده هذا الذي بذله، حتّى يصل إلى النبع الذي يريد أن يروى منه ظمأه، ويشفى عنده غليله، وينال طلبته..! أما الحوت، فهو حدث عارض من أحداث هذا الموقف، ولون من ألوانه، حتى تكتمل الصورة، شأنه فى هذا شأن الفتى الذي صحب موسى، وشأن الصخرة، وشأن البحر.. ولو لم يكن الحوت لكان هناك شىء آخر يقوم مقامه. ونعود إلى الآيات، وسينكشف لنا عند النظر فيها، ما يزداد به هذا القول. بيانا ووضوحا. قوله تعالى. «وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً» .. مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآيات السابقة قد نعت على المشركين عنادهم وضلالهم، وتأبيهم عن الهدى، وقد جاءهم عفوا صفوا من غير أن يسعوا إليه، ويبذلوا الجهد فى طلبه، وقد كان جديرا بهم، أن يطلبوا الهدى لأنفسهم، وأن يبذلوا فى ذلك الجهد والمال.. ولكنهم لم يفعلوا.. سفها، وغفلة! فإذا جاءهم الهدى، وطلبهم قبل أن يطلبوه، ثم زهدوا فيه، وردوه ردا منكرا، كان ذلك سفها فوق سفه، وغفلة فوق غفلة.. وهذا بنى كريم من أنبياء الله، هو موسى عليه السلام، قد كلمه ربه، وأنزل عليه آياته وكلماته، ومع هذا، فهو لا يزال يطلب العلم، ويجدّ فى تحصيله ويبتغى المعرفة، ويسعى للاستزادة منها.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 645 وفى هذا ما يكشف عن مدى ما ركب سفهاء قريش وحمقاها، من جهل فاضح، وكبر صبيانى غشوم! إذ كانوا يرون أنهم لا يحتاجون إلى علم، حتى ولو كان هذا العلم يطرق أبوابهم، ويدخل عليهم بيوتهم!. - وقول موسى لفتاه: «لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ» .. يريد به أنه على نية صادقة، وعزم وثيق، من أمره هذا الذي هو متجه إليه، وأنه لا ينقطع عن السير إليه حتى يبلغه.. فمعنى لا أبرح أي لا أزال، وهو فعل من أفعال الاستمرار، وخبره محذوف، تقديره لا أبرح سائرا.. ومجمع البحرين ملتقاهما.. وقد اختلف فى البحرين.. ما هما؟ وأين ملتقاهما، أو مجمعهما؟ والذي أميل إليه، أنهما خليج السويس، وخليج العقبة، وأن ملتقاهما هو رأس شبه جزيرة سيناء عند طرفها الجنوبي، حيث يتفرع عندها البحر الأحمر إلى فرعين يذهبان شمالا ويحصران بينهما شبه جزيرة سيناء.. فحيث كان افتراقهما يكون اجتماعهما.. أي هو مجمعهما، وهو مجمع البحرين.. ويقوّى هذا الرأى عندنا، أنّ تحرّك موسى بعد خروجه ببني إسرائيل من مصر لم يجاوز شبه جزيرة سيناء، حيث ضرب فيها التيه على بنى إسرائيل أربعين سنة. ومن جهة أخرى، فإن رأس شبه الجزيرة الجنوبىّ صخرى، تكثر فيه الصخور، والآكام، وتتشابه فيه معالم تلك الصخور، الأمر الذي اختلط به على موسى وجه الصخرة التي كانت موعدا له مع هذا العبد الصالح، الذي جدّ فى طلبه.. أما ما يذهب إليه بعض المفسرين من أنه «طنجة» حيث يلتقى البحر الأبيض بالبحر المحيط، فهو بعيد إلى حد الاستحالة! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 646 وأيا ما كان الأمر، فإنه ليس للبحرين، أو لمجمعهما شأن فى كبير مضمون القصة ومحتواها.. - وقوله تعالى: «أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً» هو حكاية لقول موسى لفتاه، وتتمة لما قاله له.. من أنه لا يزال هكذا سائرا حتى يبلغ مجمع البحرين وأنه إذا لم يبلغ مجمع البحرين، ولم يهتد السبيل إليه، فسيظل ماضيا فى سيره، لا يتوقف أبدا.. وفى هذا ما يشير إلى أن موسى- عليه السلام- وهو يطلب مجمع البحرين، لم يكن يعلم على سبيل القطع واليقين أين يجتمع هذان البحران، وإنما هو يتظنّى ذلك ظنا.. وهذا ما يكشف عنه قوله «لا أَبْرَحُ» التي تفيد أنه لا يكفّ عن الطلب والبحث.. وأما قوله: «أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً» فهو يكشف عن حرصه الشديد على تحقيق هذه الرغبة، حتى أنه إذا لم يبلغها فى المدى الذي قدره، فإنه لن يكف عن السعى، بل يظل هكذا طول حياته، راصدا لهذه الغاية، ساعيا إليها.. شأن من تتسلط عليه رغبة، ويستولى عليه أمل، فيعيش حياته كلها ساعيا لهذه الرغبة، جاريا وراء هذا الأمل، إلى أن يتحقق أو يموت دونه. والحقب: الأزمان المتقطعة، تجىء زمنا بعد زمن، والحقبة: القطعة من الزمن، وجمعها القياسي: حقب لا حقب.. ولكن النظم القرآنى أصل يقاس عليه، ولا يقاس هو على ما ضبط من مقاييس اللغة. وقوله تعالى: «فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً» . هذه حادثة وقعت فى طريقهما إلى مجمع البحرين.. لقد بلغاه فعلا، ولكنهما لم يكونا يدريان أن هنا هو مجمع البحرين..! ويظهر أن موسى وفتاه لم يكونا قد سارا سيرا طويلا، حسبما كان ذلك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 647 فى تقديرهما، شأن من يطلب أمرا عظيما، ويسعى وراء أمل ضخم، فيرصد له من كيانه عزما وثيقا، ويهيىء نفسه- سلفا- لملاقاة الشدائد والأهوال فى سبيله.. فإذا عرض له المطلوب من قريب، أو لاحت له بعض أماراته، لم يلتفت إليه، ولم يقع فى ظنه أنه هو الذي يجدّ فى طلبه!! إنه أبعد من هذا، وإن الثمن المطلوب له لأغلى مما بذل له!! وهنا يستكثر المفسرون من الأقوال فى «الحوت» الذي كان معهما، والذي نسياه عند مجمع البحرين! والذي نؤثر أن نقول به، هو أن هذا الحوت ليس إلا سمكة من أسماك البحر، وحوتا من حيتانه، وأنهما قد اصطاداه، أو صيد لهما، وحملاه حيا معهما، ليمكث أطول مدة، دون أن يتعفن، حتى يعدّاه طعاما لهما.. والحوت أكثر أنواع السمك احتمالا للحياة خارج الماء.. ولعلّ هذا هو السرّ فى اختيارهما لهذا النوع من السمك، ليكون زادا لهما يتزودان به فى رحلتهما. ولقد غفل الفتى عن أمر هذا الحوت، فانسرب منه إلى البحر.. إذ كانا يمشيان على الشاطئ ويتخذانه دليلا لهما إلى الصخرة التي عند مجمع البحرين.. فهما يسيران على شاطىء أحد البحرين إلى أن يلتقى بشاطئ البحر الآخر.. حيث يكون مجمعهما، وحيث توجد الصخرة!. «فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ! وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً» . أي فلما جاوزا مكانهما الذي كانا فيه عند مجمع البحرين، وسارا حتى أجهدهما السير، وهما يطلبان هذا المجمع، قال موسى لفتاه: «آتِنا غَداءَنا لَقَدْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 648 لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً» أي تعبا شديدا، نحتاج معه إلى شىء من الراحة، وشىء من الطعام، حتى نقوى على مواصلة السير.. وقد أسرع الفتى ليعدّ الطعام، ويهيىء الحطب والنار، ليشوى عليها الحوت الذي معهما. وبحث الفتى عن الحوت فلم يجده.. وهنا تذكر أنه نسى الحوت عند ما أويا إلى الصخرة، واستراحا قليلا عندها.. فقال لموسى فى أسف، وعجب من أمره: «أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ؟. فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ!! وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ» وأحمله معى فيما أحمل من زاد ومتاع.. ثم إنه لم يمهل موسى، وينتظر رأيه فى هذا الأمر، بل اندفع إلى البحر، ليصطاد شيئا يجعلانه غذاء لهما.. «وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً» أي أنه اتجه إلى البحر فى قوة وعزم حتى يكفّر عن فعلته تلك، التي عدّها إهمالا منه، ولا يجبره إلا أن يسدّ هذا النقص، ويأتى بحوت كهذا الحوت الذي ضاع، أو بشىء يغنى غناءه..! ولهذا كان منه هذا الأسلوب العجب فى الاندفاع نحو البحر.! وقوله تعالى: «قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً» . القصص: تتبع الأثر.. وهنا يتذكر موسى أمارة من تلك الأمارات التي يتعرف بها إلى المكان الذي يلتقى عنده بالعبد الصالح.. فالعبد الصالح هناك عند صخرة، عند ملتقى البحرين.. ولكن عند ملتقى البحرين صخور لا حصر لها، تمتد إلى مسافات بعيدة، قد تبلغ مسيرة أيام.. فأى الصخور هى؟ إنها صخرة يفقد موسى عندها شيئا من متاعه، على غير قصد منه، وإلّا ما عدّ هذا فقدا.. هكذا كانت الأمارة الدالة على التقائه بالعبد الصالح.. وقد تكون هذه الأمارة وحيا تلقاه من ربّه، أو رؤيا رآها فى منامه.. وأما وقد فقد الحوت عند تلك الصخرة التي أويا إليها.. فتلك إذن هى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 649 الصخرة المقصودة.. ولهذا، لم يلتفت موسى إلى فتاه، ولا إلى ما كان من نسيان الحوت، بل اتجه إلى المكان الذي عنده الصخرة، قائلا: «ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ» أي ذلك هو المقصد الذي كنا نقصده، والموضع الذي نبحث عنه.. «فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً» أي فعادا إلى الوراء، يتبعان آثارهما التي تنتهى بهما إلى حيث أويا إلى الصخرة، التي نسى الحوت عندها.. ذلك- فى تقديرنا- هو أقرب مفهوم إلى تلك الآيات، وما ضمّت عليه من أسماء، ومسمّيات.. أما ما ذهب إليه المفسّرون من مقولات، لا يحتملها النظم القرآنى على أية صورة من صور الاحتمال، فذلك ما رأينا أن نصرف النظر عنه، فهو أقرب إلى الأساطير والخرافات منه إلى أي شىء آخر!! الآيات: (65- 78) [سورة الكهف (18) : الآيات 65 الى 78] فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 650 التفسير: فى هذه الآيات تبدأ أحداث هذا الحدث العظيم الذي كان موسى على موعد معه، والذي من أجله قطع هذه الرحلة المثيرة، واحتمل ما احتمل من جهد وعناء. وهنا يلتقى الرجلان: موسى والعبد الصالح، ويقول المفسّرون، والمحدّثون عن هذا العبد الصالح إنه «الخضر» الذي يصفونه بصفات عجيبة، هى من بعض واردات ما تشير إليه الآيات، والتي يبدو فيها أستاذا كبيرا يعلّم نبيّا من أنبياء الله.. والقرآن الكريم، لم يتحدث عن هذا العبد الصالح أكثر من وصفه بأنه عبد من عباد الله، آتاه رحمة منه، وعلمه من لدنه علما.. ولا شك أن هذا الوصف يضفى على صاحبه من الألطاف الربانية ما يرفع مقامه إلى أعلى عليّين، حيث يشهد من عالم الغيب ما لم يظهر الله سبحانه عليه أحدا إلا من ارتضى من عباده.. أما ما ذهب إليه أكثر المفسّرين من مقولات فى «الخضر» وفى أن يملأ هذه الدنيا حياة وأنه يطوف بآفاق الأرض، ويردّ السلام على كل من يسلّم عليه، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 651 وأنه يظهر لبعض الناس ويتحدث إليهم.. فذلك كلّه من وراء ما تحدث به آيات القرآن الكريم. وهذا اللقاء الذي وقع بين موسى والعبد الصالح لم يدم طويلا، ولم تجر فيه بينهما إلا أحداث ثلاثة، أوقعت بينهما خلافا حادّا، ثم انتهت بفراق.. ويبدأ اللقاء بين العبدين الصالحين، بأن يعرض موسى على صاحبه أن يقبله تابعا له، يتعلم من علمه، ويغترف من بحره.. وذلك فى تواضع كريم وأدب نبوىّ عظيم.. فيقول: «هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً؟» . وفى هذا العرض أمور: 1- استئذان مصحوب برجاء، وتلطّف.. 2- أن يكون موسى تابعا يقفو أثر متبوعه، ويمشى فى ظله. 3- أن تكون غاية هذه الصحبة، وتلك المتابعة، تحصيل العلم والمعرفة، فيفيد موسى علما، وينال العبد الصالح أجرا. 4- هذا العلم الذي عند العبد الصالح ليس من ذات نفسه، بل هو علم علّمه، وإذن فهو مطالب بأن يعلّم كما علّم.. 5- هذا العلم المطلوب تعلّمه، هو مما يكمل به الإنسان ويرشد.. فهو علم يهدى إلى الحق، وإلى الرشاد، لا إلى الضلال والفساد. ويستمع العبد الصالح إلى هذا العرض من موسى، فيرى أن العلم الذي عنده، والذي يطلب موسى تناول شىء منه، هو علم لا يستسيغه عقله، ولا يقبله منطقه، فيقول له فى وداعة ولطف: «إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً» ؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 652 أي إن العلم الذي معى، هو علم فوق إدراك العقول وتصوراتها،. وإذن فلن يكون مبعث اطمئنان لك، إذ يرفضه عقلك، ويتأبّى عليه منطقك.. والعلم الذي يفيد صاحبه، هو العلم الذي يحيط به عقله، وتتسع له مداركه، فينزل عنده منزل القبول والاطمئنان.. فإذا لم يكن كذلك أضرّ ولم ينفع، وأثار فى النفس قلقا، واضطرابا، وعقد فى سماء الفكر، سحبا من الشكوك والريب. وإذ يتلقّى موسى هذا الرد، يجد أن الفرصة تكاد تفلت منه، ويرى سعيه الذي سعاه قد جاء بغير طائل.. ولكنه لا بد أن يمضى فى التجربة إلى غايتها، خاصة وقد أثار هذا القول غريزة حبّ الاستطلاع عنده، وأغراه بأن يخوض عباب هذا البحر، ولو خاطر بنفسه.. فقال فى أدب نبوىّ رفيع: «سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً» .. هكذا ينبغى أن يكون أدب الطلب والتحصيل.. وإزاء هذه الرغبة الملحّة من هذا التلميذ الحريص على طلب العلم والمعرفة، يرضى الأستاذ أن يكشف لتلميذه عن بعض ما عنده، ولكنه يشترط لنفسه، كما اشترط التلميذ من قبل لنفسه، أن تكون صحبته غاية لطلب العلم.. فيقول: «فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً» .. أي إن اتبعتنى فعليك أن تلزم الصمت، ولا تنطق بكلمة، ولا تنبس ببنت شفة، حتى أكون أنا الذي يدعوك إلى الكلام فيما أريدك عليه.. وهنا تبدأ الرحلة، فى رحاب هذا العلم الربّاني.. «فَانْطَلَقا.. حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها» .. وهكذا تبدأ الجولة الأولى بهذا الحدث، الذي يدور له رأس موسى، ويأخذ عليه العجب كلّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 653 سلطان على نفسه.. فيصرخ فى وجه أستاذه قائلا: «أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها.؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً» !! فما هكذا يعمل العقلاء، وما هكذا تجرى أعمال أهل الصلاح والتقوى.. إنه عدوان صارخ على الأبرياء.. لا مبرّر له، ولا عذر لمرتكبه! والإمر: المنكر من الأمر.. ويتلقى العبد الصالح هذه الثورة المتوقعة من موسى، فى رفق ولطف.. فلا يزيد على أن يقول له: «أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً؟» . وهنا يتنبّه موسى إلى الشرط الذي كان قد اشترطه عليه صاحبه، وصحبه هو عليه.. فيقول معتذرا فى أدب كريم: «لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً» .. أي هذه هفوة فتجاوز لى عنها.. وخذنى برفق، ولا تشتدّ علىّ، وأنت تعلم من أول الأمر ثقل هذا الذي تلقيه علىّ من علمك.. «فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ» ! وهذه فعلة أشد من سابقتها وقعا، وأفدح خطبا، وأنكر نكرا.. إذ كانت الأولى فى متاع من متاع الدنيا.. أما هذه، فقد وقعت على نفس إنسانية بريئة براءة الطفولة.. لم تقترف إثما، ولم تأت منكرا.. ومن أجل هذا ينسى موسى وجوده كلّه، ولا يذكر الشرط الذي بينه وبين صاحبه، ولا يلتفت إلى زلّته التي زلّها منذ قليل مع أستاذه، واعتذاره له.. فيصرخ صرخة عالية مدوّية: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 654 «أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً» .. هكذا يلقى فى وجه أستاذه بهذا الاتهام الصريح.. «لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً!» وكان فى المرة الأولى قد لقيه بالاتهام فى مواربة وعلى استحياء: «لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً» .. فالموقف هنا إزاء جريمة صارخة لا يمكن أن يقوم لها- حسب تقديره- عذر أبدا.. وإن كان يمكن أن يقام لخرق السفينة- ولو على سبيل المراء والجدل- عذر.. وهنا، يأخذ الأستاذ تلميذه بشىء من الشدّة، والتأنيب.. فيقول: «أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً» ؟ ففى كلمة «لك» نخسة قوية، ويد تمتد إلى موسى من صاحبه فتعرك أذنه! ولا يجد موسى أمام هذا البعد البعيد الذي بين منطلقه ومنطلق صاحبه، إلا أن يحسم الموقف، ويقطع الشوط الذي إن طال بينهما إلى أبعد من هذا المدى، لم تحمد عاقبته، وربما تصارعا، وتقاتلا إذ لم يعد اللسان أداة قادرة على سدّ هذه الثغرات الهائلة بينهما.. فيقول: «إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي.. قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً» . لقد وجد موسى لصاحبه العذر فى ضيقه به، ولومه له.. إنه قد صحبه على شرط، وها هو ذا يخرق الشرط مرة، ومرة.. وهو بسبيل أن يخرقه مرات إذا طال الطريق بهما.. «فَانْطَلَقا.. حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ..» وهذا عمل لا يقبله عقل، ولا يستسيغه منطق.. قرية، ينزلان بها، ويطلبان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 655 إلى أهلها أن ينزلاهما فيها منزل الضيفان، فلا يجدان منهم إلا الصدّ، والدّفع.. قرية ماتت فيها كل مشاعر الإنسانية، وذهبت منها كل معانى المروءة.. ومع هذا يجدان فيها خربة، لا يأوى إليها إلا الهوامّ، فيغشيانها، ليجدا فيها من السّكن ما لم يجداه عند أهلها.. ثم يريان فيها جدارا «يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ» قد تصدّع بنيانه، وارتعشت أوصاله، وكاد يهوى إلى الأرض.. وهنا يدعو العبد الصالح عزمه وقوته، فيقيم هذا الجدار المتداعى، وإذا هو وقد دبت الحياة فى كيانه، فثبتت قواعده، واعتدل قوامه!! ويرى موسى هذا، فيعجب ويدهش، ويفيض به الكيل، ثم لا يملك أن يحتفظ بما يزمجر فى صدره من مشاعر الغيظ والألم.. فيقول لصاحبه: «لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً» ؟ وفى هذه القولة لم يلق موسى بكل ما عنده.. ولكنّه، وقد عرف أن تلك هى الحاسمة القاطعة لما بينه وبين صاحبه، وإنه ليعزّ عليه أن ينهى هذه الصحبة، التي حرص عليها، وتوقع العلم الكثير المفيد منها- يعزّ عليه أن ينهيها على هذا الوجه، ولم يحصّل علما، ولم يفد معرفة، وإنما كل محصوله منها هو تلك المتناقضات، التي يقع كثير منها فى كل لحظة من لحظات الحياة، وفى كل مجتمع من المجتمعات الإنسانية، على مختلف مستوياتها.. - نقول إن موسى لم يلق بهذه القولة المستكينة الضارعة، إلا ليجد لها عند صاحبه قبولا، فلا يحتسبها عليه، ولا يعدّها مما ينقض الشرط الذي بينهما، فيمضى به إلى غاية أخرى، لعلها تكشف له علما، أو تجىء إليه بجديد غير هذا الذي ما زال صاحبه يطلع به عليه! ولكن العبد الصالح لا يلتفت إلى المشاعر التي تلبّست بها هذه القولة، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 656 بل يأخذها كما هى.. إنها اعتراض ولا شك، وإنها خروج على الشرط الذي اشترطه على صاحبه: «فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً» ! وهنا يسمعها موسى منه.. حكما قاطعا: «هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ» !. فقد بلغ الأمر بينهما غايته، ولم يعد ثمة أمل فى أن يلتقيا على طريق واحد.. ولكن.. لم كان هذا العناء الذي عاناه موسى، حتى التقى بهذا الرجل الذي قيل له إنه سيجد عنده من العلم ما لم يجده عند غيره؟ فأين هو هذا العلم؟ إن يكن ما حصّله موسى من تلك التجربة، هو هذا الذي وقع فى نفسه من أحداثها.. فما أغناه عن هذا العلم، الذي بلبل خاطره، وشتت مجتمع رأيه، وألقى فيه ما ألقى من وساوس وظنون! وإنه ما يكاد موسى يستمع إلى شىء من هذه الخواطر، حتى يطلع عليه صاحبه بقوله: «سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» ! أهكذا الأمر إذن؟ أهناك نبأ وراء هذه الأحداث، غير ما يحدّث به ظاهرها؟ وماذا عسى أن يكون هذا النبأ؟ وإنه لنبأ عظيم! سنرى فيما ينكشف منه علاجا لقضية من أعقد القضايا التي واجهها العقل الإنسانى، وهى مشكلة «القضاء والقدر» .. التي نرجو أن نعرض لها- إن شاء الله- بعد أن نرى تأويل العبد الصالح لموسى «ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 657 الآيات: (79- 82) [سورة الكهف (18) : الآيات 79 الى 82] أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82) التفسير: كان لا بدّ للمعلّم أن يكشف لتلميذه عن خفايا هذه التجربة المثيرة، التي أراه منها ظاهرا لا يستقيم على أي منطق، ولا يتفق مع أي عاقل، ولا يلتقى مع تقدير أي إنسان سليم الإدراك.. إنها أمور تدور لها الرءوس، وتضطرب معها العقول.. وإن موسى لفى حيرة بالغة من أمر صاحبه هذا، الذي جاءه ليطلب العلم عنده، بتوجيه من ربّه.. وحيا، أو إلهاما! وقد فعل المعلم ما تقضى به الحكمة، ويعتدل به ميزان التربية السليمة- فلم يدع تلميذه نهبا للوساوس والشكوك، بل إنه ما كاد يؤذنه بالفراق، وبإنهاء هذه التجربة التي أدخله فيها، حتى أخذ يشرح له حقيقة الموقف، ويكشف له عن الوجه الخفيّ من كل حدث من تلك الأحداث الثلاثة.. فكانت قولته له: «هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ» مشفوعة بقوله: «سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 658 وهنا فى هذه الآيات، تأويل كلّ حدث منها.. وفى كلمة «تأويل» إشارة إلى أن هذه الأحداث- كما بدت فى ظاهرها- لا تعدو أن تكون أشبه بالأحلام، التي لها مفهوم يغاير منطوقها فى صورته، وأن هذا المفهوم لا يعلمه إلا الله والراسخون فى العلم، وذلك كتأويل «يوسف» لرؤيا الملك، التي عجز العلماء عن تأويلها، وقالوا: «أَضْغاثُ أَحْلامٍ، وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ» .. (44: يوسف) فالأحداث التي أجراها العبد الصالح بين يدى موسى أشبه بهذه الرّؤى، وإن كانت أبعد فى المفارقة، بين منطوقها ومفهومها. وتأويل الحدث الأول، هو كما يقول العبد الصالح: «أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً.» هكذا الأمر إذن؟ إنه كما يبدو الآن عمل من أعمال البرّ والرحمة لأصحاب السفينة.. وقد كان يرى من قبل عدوانا عليهم، وظلما صارخا لهم.. إن هذا الخرق الذي أحدثه العبد الصالح فى السفينة، قد جعلها سفينة معطوبة، معيبة، لا تصلح للغرض الذي من أجله كان الملك يستولى على السفن، وينتزعها من يد أصحابها، قهرا وقسرا.. وبهذا تخطّت عين الملك هذه السفينة، حين رآها على تلك الحال، وبهذا أيضا سلمت السفينة من هذا العدوان، وبقيت فى أيدى أصحابها المساكين، الذين يعملون عليها، ويرزقون منها. أما هذا العطب الذي لحق بالسفينة- أيّا كان- فإنه ممكن إصلاحه.. - وفى قوله: «وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ» لا تعنى كلمة «وَراءَهُمْ» أن الملك نفسه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 659 كان على أثرهم، وإنما تعنى أن سلطان الملك قائم عليهم، كما فى قوله تعالى: «مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ» (16: إبراهيم) أي أنها مسلطة على هذا الظالم، محيطة به، لا يفلت منها.. هذه واحدة! وقد تلقّاها موسى بأذن واعية، وقلب متفتّح.. فأشرق وجهه، ولمعت عيناه ببريق السّكينة والرضا.. ثم ها هو ذا يصبح كلّه كيانا مستمعا لما يقول صاحبه، فى أمر هذا الغلام الذي سفك دمه، من غير ذنب ظاهر! ويجيئه الجواب فى غير مهل: «وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً» . ويقع فى نفس موسى شىء من هذا التأويل.! إنه تأويل مستند إلى احتمالات المستقبل، وقائم على توقعات يمكن أن تقع أو لا تقع!! وكيف لموسى أن يتحقق من إرهاق هذا الغلام لوالديه- بعد أن يكبر- بما يكون منه من طغيان وفجور، وإفساد فى الأرض، وكفر بالله؟ وكيف يحكم على هذا الغلام البريء بما سيكون منه بعد سنين؟ إن ذلك مجرد فرض يفترض! وأكثر من هذا، فإن كلمة «فخشينا» تشعر بأن العبد الصالح نفسه لا يرى الأمر أكثر من مجرد احتمال غير متيقّن.. إنه مجرد خشية.. والخشية قد تقع، وقد لا تقع! ولكن يقوم بين يدى موسى شاهد يدفع هذه الوساوس، ويذهب بتلك الشكوك.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 660 فأولا: لقد رأى السفينة التي أعطيها صاحبه، قد سلمت من يد الملك، على حين أخذ كل السّفن التي كانت صالحة للعمل، مثلها، قبل أن يصيبها العطب! فهو إذ يجىء إلى أمر الغلام وما يقال فيه، إنما يجىء إليه ومعه هذا الشعور الذي ملأ قلبه طمأنينة وتسليما لصاحبه، الذي يرى ما لا يراه. وثانيا: كان موسى يعلم مقدّما أنّه بين يدى عبد من عباد الله الصالحين، قد آتاه الله من العلم ما استحقّ به أن يكون أستاذا لنبىّ من أنبياء الله.. اصطفاه الله لرسالته، وكلّمه تكليما مباشرا، بلا واسطة.. فإنّ من كان هذا شأنه، لا يتّهم فى أخباره، وأفعاله، وإن احتاج المرء إلى تأويلها، وتوضيحها، حتى يطمئن قلبه، وتسكن وساوسه. وثالثا: يعرف موسى عن يقين أن وراء تحركات الأحداث قوة قادرة قاهرة، هى التي تضبط حركاتها، وتجرى بها إلى قدر معلوم، سواء أكان ذلك مما يتفق مع تقدير الناس لمجريات أمورهم، ومنطلقات سعيهم، أولا يتفق.. وعلى هذا، فإنه ليس بالبعيد المستغرب- عند موسى- أن يكون هذا الذي كرهه من صاحبه وعدّه شرا، هو أمر محبوب فى عاقبته، خير فى مآله الذي يؤول إليه.. - فإذا كان قد وقع فى نفس موسى شىء من هذا التأويل لمقتل الغلام، فإن فى نفس موسى أيضا كثيرا من قوى الإيمان التي تدفع هذه الشكوك التي ساورته.. وأما قول صاحبه: «فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً» .. فإنه محمول على أمرين: أولهما: أن هذا الغلام الذي هو شرّ كلّه، وبلاء على الإنسانية، بما يحمل فى كيانه من طغيان، وفساد، وكفر- هذا الغلام- وذلك شأنه- إن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 661 تأذّى به المجتمع الذي يعيش فيه، فإن ما ينضح منه من الأذى النفسىّ على أبويه المؤمنين، هو أضعاف مضاعفة لما يجده غيرهما من شروره وآثامه، إذ كان هو غرسهما الذي غرساه، وكان الشرّ الواقع على المجتمع منه، هما- لسبب أو لآخر- شركاء فيه.. فالخشية التي يصورها العبد الصالح هنا، هى خشيته على هذين الأبوين الصالحين المؤمنين، وما يدخل على قلبيهما من حسرة وكمد على مصابهما فى ابنهما هذا، ثم فى مصاب الناس به.. وإذا كان ذلك لم يقع بعد، فهو مما يخشى أن يقع لو ترك الغلام يأخذ مسيرته فى الحياة.. والخشية لا تكون إلا مما لم يقع، لا مما وقع.. وثانيهما: أن هذا الغلام، هو بلاء على نفسه، وأنه نبتة سوء، لو تركت حتى تبلغ مداها، لأوردت صاحبها موارد الهالكين.. فكان موته فى هذه المرحلة من عمره رحمة به، إذ عاجله الموت قبل أن يبلغ مبلغ التكليف، وقبل أن يأتى ما كان يمكن أن يأتى به من آثام.. فالخشية هنا، خشية منه، كما أنها خشية عليه.. أما عزاء هذين الأبوين الصالحين المؤمنين عن فقد هذا الغلام، فهو ما كشف عنه العبد الصالح فى قوله: «فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً» .. والزكاة: الطهر، والنقاء، والصلاح والتقوى.. والرّحم: الرحمة التي تكون بين المتراحمين، من أبناء وآباء، وإخوة وأصدقاء.. فهذا الولد الذي سيرزقه هذان الأبوان خلفا لابنهما القتيل، سيكون لهما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 662 فيه قرة عين، وأنس نفس، ومسرة قلب.. مما يريان فيه من صلاح وتقوى، وما يجدان منه من برّ بهما، وإحسان إليهما.. ثم إن بين يدى موسى- مع هذا كله- مثلا ماثلا له، فيما كان بين نوح وابنه.. فقد جعله الله سبحانه وتعالى فى المغرقين، ولم يقدّر له أن يكون فى الناجين المؤمنين.. لقد أغرقه الله أمام عينى أبيه.. وكان العزاء الذي عزّى الله سبحانه وتعالى به نوحا، قوله سبحانه له،: «يا نُوحُ.. إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ.. إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ» !! (46: هود) فماذا يبدو من فرق بين هذا الغلام الذي قتله العبد الصالح، وبين ابن نوح الذي أغرقه الله؟ .. إنه القدر الذي أجرى حكمه على هذين الابنين، ولم ينكشف أمر القدر لنوح إلا بعد أن أنبأه الله فى قوله تعالى: «إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ» .. تماما كما لم ينكشف أمر القدر لموسى إلا بعد أن أنبأه العبد الصالح بقوله: «وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً» .. بقيت مسألة الجدار!. ويبدو وجه اللقاء بين ظاهرها، وباطنها بعيدا، أبعد من الحدثين السابقين.. ذلك أنه إذا أمكن أن يلتمس لأمر السفينة وجه يحمل عليه ما أحدث العبد الصالح فيها من خرق، وإذا أمكن أن يقال فى قتل الغلام قول- فإنه لا يمكن أن يلتمس لأمر هذا الجدار وجه، ولا أن يقال فيه قول- إذا أخذت الأمور بظاهرها- إلا أن يكون ذلك على سبيل المغالطة والسفسطة.. فإذا قيل إن خرق السفينة كان لشىء من المعابثة أو اللهو، أو لامتحان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 663 صبر أصحابها، واستخراج ما عندهم من حكمة وعقل، فى مواجهة هذا التصرف الشاذ.. وإذا قيل إن قتل الغلام كان عن خطأ غير مقصود، أو كان عن فراسة تفرسها فيه العبد الصالح، فرأى فيه- وهو غلام- الرجل الذي سيكونه. حين يبلغ مبلغ الرجال، ويملأ الدنيا بغيا وعدوانا ومحادّة لله، وكفرا به.. فأخذه بجزاء الذين يحاربون الله، ويسعون فى الأرض فسادا.. نقول إذا أمكن أن يقال هذا أو ذاك، أو غير هذا أو ذاك، فى خرق السفينة، وفى قتل الغلام- فأى قول يمكن أن يقال فى شأن هذا الجدار المتداعى، الذي ينقضه العبد الصالح ثم يعيد بناءه؟ إن الذي كان من الممكن أن يكون من العبد الصالح إزاء أي شىء يراه فاسدا فى أهل هذه القرية، التي استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما- هو أن يدع هذا الفساد على حاله، يعيش فى أهل هذه القرية الظالمة، أو يغريه بهم، ويهيجه عليهم، فيكون العقاب الذي يؤخذون به مسلطا عليهم من قريتهم.. فإذا جاوز الأمر هذا، وأخذ العبد الصالح أهل القرية بالصفح والمغفرة، ثم جاوز هذا أيضا إلى أن يدفع شرا يأتيهم من قبل هذا الجدار المتداعى- فليكن ذلك بهدمه، حتى لا يسقط على من يجلس إليه، أو يمر به! أما أن ينقض هذا الجدار، ثم يقيمه.. فذلك مالا يحتمله أي وارد من واردات الظن، أو الوهم! خاصة، وأن الفعلتين السابقتين كانتا من العبد الصالح، قد وقعتا- فيما يبدو- عدوانا منه بغير حق، وإساءة إلى من لم يقع منه سوء..، وكان الظن بالفعلة التي تأتى بعدهما أن تجرى فى هذا الاتجاه، وأن يرمى أهل القرية بصواعق مهلكة أو يتركوا وما هم فيه.. أما أن تقابل إساءتهم بهذا الإحسان، فذلك تيار مضادّ للتيار الذي كانت تجرى فيه سفينة موسى وصاحبه، ومن شأن هذا أن يحدث دوامة تضطرب فيها السفينة اضطرابا مجنونا، ثم لا تلبث أن تهوى إلى القاع!! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 664 ولا يترك العبد الصالح لتلميذه فسحة من الوقت، يسير فيها تفكيره فى هذه المدارات التي تزمجر فيها الأعاصير، والزوابع، بل إنه سرعان ما يكشف له وجه الحقيقة سافرا، وإذا موسى يجد هذه الكلمات تنفذ إلى أعماقه، فتنزل على قلبه بردا وسلاما، وتدفع سفينته فى ريح رخاء، إلى شاطىء الطمأنينة والسلامة. «وَأَمَّا الْجِدارُ. فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ.. وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما.. وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما..» . وماذا يقول موسى بعد هذا القول؟ إن يكن ثمّة قول يقال.. فهو تلك الخاطرة التي تخطر له، وهو يصل مجرى الأحداث بعضها ببعض، فيقول فيما بينه وبين نفسه: إذا كان صلاح الأب قد امتد إلى ولديه، فنفعهما وحفظ لهما كنزهما الذي تركه لهما من بعده- فكيف لا ينفع إيمان الأبوين وصلاحهما، هذا الغلام الذي قتل؟ وكيف لا ينفع صلاح الأبوين فى استنقاذ ولد واحد، على حين ينفع صلاح أب وحده، فى استنقاذ ولدين؟ وما يكاد موسى يلتفت إلى هذا، وإلى غير هذا ممّا ساوره من خطرات، حتى يلقاه أستاذه بقوله: «رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ..» ! إنها رحمة الله، ينزلها حيث يشاء، ويختصّ بها من يشاء.. حسب ما تقضى به حكمته، ويحكم به علمه فى خلقه.. كما يقول سبحانه: «نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ» (56: يوسف) وكما يقول جلّ وعلا: «وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ.. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» (105: البقرة) . والأمر كله فى حقيقته، قائم على الرحمة.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 665 فخرق السفينة، كان- كما آل إليه الأمر- رحمة بأصحابها..! وقتل الغلام، كان- كما آل إليه الأمر- رحمة به، وبأبويه، ورحمة بالناس..! وإقامة الجدار، كان- كما آل إليه أمره- رحمة بالغلامين اليتيمين! إن أمر الله، وقضاءه فى خلقه.. حيث كان، وعلى أية صورة وقع، هو رحمة.. من ربّ رحيم! وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه: «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» (156: الأعراف) . ورحمة الله إنما تجرى بأسباب، وتنزل حيث تنزل بقوى مسخرة، تدفع بها إلى المواطن المسوقة إليها، بقدر مقدور، وتقرير معلوم. وهذا حكم يقرره الأستاذ لتلميذه، فيرى من هذا الحكم أن أستاذه ليس إلا سحابة تحمل غيثا، تدفع بها قدرة الله، إلى حيث يراد لها أن تنزل.. فيقول له: «وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي..!» . إنه لا أمر له مع أمر الله.. وما هو إلا رسول يفعل ما أمر الله به، فيمن أرسله إليه.. شأنه فى هذا شأن تلميذه «موسى» الذي أمر بأن يبلّغ رسالة ربّه إلى من أرسله الله إليهم من عباده! وهنا يصافح الأستاذ تلميذه، مودّعا.. بقوله: «ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» ! ويفترق الصاحبان- ويأخذ كل منهما طريقه فى الحياة، على ما كانا يعهدان من قبل..! أما العبد الصالح.. فطريقه قائم على مستوى القدر، المختفى وراء ستر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 666 الغيب، المحجب بنور الله، لا يراه إلا بنور من هذا النور.. «وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» (40: النور) . وأما موسى.. فيأخذ طريقه القائم على مستوى الحياة، وما ينكشف له منها، حسب تقديره، وتفكيره، كإنسان ذى بصيرة مشرقة- إن انكشف له شىء لم ينكشف لغيره، فقد غابت عنه أشياء، وأشياء! وهنا إشارة لا بد منها، إلى هذا الاختلاف الذي جاء عليه النظم فى قول العبد الصالح لموسى، حين وصل الأمر بينهما مداه، فقال له: «سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» ثم فى قوله له، بعد أن أنبأه بما لم يستطع عليه صبرا، إذ قال: «ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» . فهناك قولتان تبدوان وكأنهما على سواء: «تَسْتَطِعْ» و «تسطع» وهما كذلك فى غير القرآن الكريم.. ولكنهما فى كلام الله ليستا على سواء، فى الميزان، الذي جاء عليه النظم القرآنى، وإعجازه القاهر المتحدّى! فكلمة «تستطع» فيها شدة، وقسوة، ومصارحة مكشوفة، بالعجز عن الاستطاعة.. وقد قالها العبد الصالح هكذا صريحة مكشوفة، ليقطع بها الرحلة مع تلميذه.. ولكن حين جلس إلى تلميذه مجلس المعلّم، الذي يكشف لتلميذه، معالم الطريق المظلم أو المشرق، الذي كان يطوّف به فيه- جاءه بهذه الكلمة «تسطع» وقد اقتطع منها هذا المقطع الحادّ، فإذا هى كلمة وديعة رقيقة فيها هروب من المواجهة الصريحة المتحدّية، وعليها مسحة من الحياء والخفر! ومما ينبغى الالتفات إليه أيضا، هذا الاختلاف فى موقف العبد الصالح من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 667 الأحداث الثلاثة، ومكانه منها، ودوره فيها.. فهو فى حدث السفينة يقول: «فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها» مضيفا الفعل إليه، وجعله عن إرادة منه وحده.. وفى قتل الغلام، يقول: «فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً» .. مضيفا الفعل هنا إلى ضمير المتكلمين «نا» . أما فى إقامة الجدار، فيقول: «فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» مضيفا الفعل إلى الله وحده.. ولا شك أن وراء هذا الاختلاف فى الموقف الذي يأخذه العبد الصالح من هذه القضايا، والدور الذي يبدو فيه على مسرح أحداثها- لا شك أن وراء هذا الاختلاف أسرارا لطيفة، إذا كشف الحجاب عن بعضها، أشرقت منه وجوه وضيئة، من الإعجاز المبين، لآيات الله وكلماته.. فمن تلك الأسرار، لهذا الاختلاف فى موقف العبد الصالح من هذه الأحداث، أنه فى حادث السفينة نسب الفعل إليه بقوله: «فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها» وذلك لأن أثر الحدث جاء فى أعقاب الفعل مباشرة، بحيث لم يكن هناك وقت بين خرق السفينة، وصرف نظر الملك أو أعوانه عنها، للعيب الذي كان فيها.. ولو كان هناك وقت بين خرق السفينة، وبين مرور الملك أو أعوانه بها، بحيث يسمح لأصحابها بإصلاح ما أفسد العبد الصالح منها لما سلمت من أخذها من أيدى أصحابها.. ولما كان للخرق الذي أحدثه فيها حكمة.. وذلك أمر إن لم يلحظه موسى فى حينه، ولم يدرك السرّ الذي من أجله سلمت السفينة المعطوبة لأصحابها- فإنه قد وقع منه موقع اليقين حين كشف له صاحبه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 668 عنه، وأراه أن هذا العيب هو الذي فوّت على الملك فرصة الاستيلاء عليها.. فهذا، الفعل من العبد الصالح، هو مما يجرى مجرى العادة فى أفعال الناس على مستوى الظاهر.. ولو أمكنت الفرصة أصحاب السفينة أن يحدثوا فيها ما أحدث العبد الصالح لفعلوا، ولكن وسائلهم إلى هذا كانت محدودة، والأمر أسرع من أن ينتظر تلك الوسائل المحدودة القاصرة.. فلما أن فعل العبد الصالح ما فعل لم ينكر عليه أصحاب السفينة فعلته، وإلا لأمسكوا به وبصاحبه.. ولكنهم.. وقد رأوا فى هذا الفعل الحكيم الحاسم ما يحقق إرادة كانت تراودهم ولا يجدون سبيلا لتحقيقها- أمسكوا عن أن يقولوا شيئا، أو يحدثوا أية حركة تنبىء عن أن أمرا قد حدث، حتى لا يفتضح هذا الفعل، الذي ربّما عدّوا صاحبه الذي فعله واحدا من جماعة حركة مضادة للملك، قائمة فى وجه هذا الفعل الظالم الذي يجريه على أصحاب السفن!! إذن.. فالأمر هنا لا يخرج عن أن يكون إرادة بشرية، إزاء أمر عارض، يأخذه الإنسان بتقديره، ويجريه بإرادته..! وحقّ للعبد الصالح أن يقول: «فأردت» ناسبا الفعل إلى إرادته.. أما فى قتل الغلام، فإن الأمر مختلف، حيث كانت المسافة بعيدة بين دواعى قتله عند العبد الصالح، وبين ظاهر الحال من أمر هذا الغلام.. كما أن الحكمة التي سيكشف عنها العبد الصالح لموسى من قتل هذا الغلام، معلّق تحقيقها بمستقبل بعيد يستغرق من الزمن، مدّة الحمل بطفل، ثم ولادته، ثم بلوغه مبلغ الرجال، حيث يبدو صلاحه، وينكشف معدنه.. وهذا كله من شأنه أن يوقع فى نفس موسى كثيرا من الشكوك والريب حول تقبّل هذا التعليل الذي تعلل به صاحبه لقتل الغلام.. ولهذا جاء إليه صاحبه من عل، فتحدث إليه بلسان الذي يعرض نفسه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 669 فى مستوى غير المستوي الذي كان يخاطبه فيه، بعد خرق السفينة.. إنه هنا يملك من العلم ما ينبغى أن يذكره موسى إن كان قد نسيه حين جاءه يطلب التعلم من علمه.. ولهذا قال له بضمير المتكلم المعظم نفسه: «فَخَشِينا» ولم يقل «فخشيت» ثم قال: «فَأَرَدْنا» ولم يقل «فَأَرَدْتُ» .. إنه هنا- وإن كان عبدا من عبيد الله- يحدّث بنعمة الله عليه، وبما آتاه من رحمته، وما علمه من لدنه من علم، وأنه يستند إلى قوى خفية، ينطق عنها، ويحدّث بجلالها وعظمتها. وأمام الجدار، فقد رأى العبد الصالح أن يعود فى الحديث عنه إلى مكانه الطبيعي من قدرة الله، وأنه لا إرادة له مع إرادة الله، وأن حديثه عن نفسه بضمير المتكلم المعظم لذاته لم يكن إلا من قبيل التحدث بنعمة الله عليه.. ولهذا قال لصاحبه.. «فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما» .. فنسب الأمر كله إلى الله سبحانه، وأضافه إلى إرادته جلّ شأنه. هذا وجه من وجوه النظر فى هذا الاختلاف الذي جاء عليه النظم القرآنى لحديث العبد الصالح عن نفسه.. ووجه آخر.. وهو وجه يمكن أن يرى فيه العبد الصالح قد أضاف الفعلين الأولين- خرق السفينة وقتل الغلام- إلى نفسه، لما يبدو فى ظاهرهما من ظلم وعدوان، على حين أضاف إقامة الجدار إلى الله سبحانه وتعالى، إذ كان- كما يبدو- عملا من أعمال الخير والإحسان.. ووجه ثالث.. وهو أن الأحداث الثلاثة، فى مجموعها، تصور مشيئة الله سبحانه وتعالى ومشيئة الإنسان.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 670 ففى خرق السفينة.. إرادة مطلقة للإنسان، ومشيئة خالصة له، يتصرف بها كيف يشاء.. هكذا: «فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها» . وفى قتل الغلام، تبدو مشيئة الإنسان مختلطة مع مشيئة الله، داخلة فيها.. هكذا: «فَخَشِينا» .. «فَأَرَدْنا» .. فهذا الضمير يشير إلى أن العبد الصالح ليس وحده هنا، وإنما هو مع مشيئة مشىء، وإرادة مريد! وفى إقامة الجدار.. يتجرد العبد الصالح من كلّ مشيئة وإرادة.. إنه هنا ليس أكثر من أداة منفذة لمشيئة الله، عاملة بإرادته.. وهكذا الإنسان، فى هذه الحياة، وفى كل ما يأخذ أو يدع من أمورها.. إنه يمرّ فى ثلاث مراحل، مع كل أمر يعالجه.. المرحلة الأولى.. يبدأ فيها العمل، وكأنه مطلق من كل قيد يتسلط على إرادته.. والمرحلة الثانية.. يعالج فيها العمل، وهو مصطحب هذا الإحسان بالحرية الكاملة فى أخذ الاتجاه الذي يتجهه.. ولكنه يجد أثناء العمل ما قد يعترض طريقه، فيعثر، أو ينحرف، أو يأخذ طريقا غير هذا الطريق الذي بدأ منه.. والمرحلة الثالثة.. يأخذ فيها العمل صورته النهائية، ويصبح أمرا واقعا، مؤثرا فى حياة صاحبه بما يسرّ أو يسوء، وبما يحمد أو يكره.. وهذه المرحلة الأخيرة التي ينتهى عندها العمل، هى الإرادة العليا، وهى القدر المقدور، الذي لا بد أن يصير إليه الأمر.. مهما تكن إرادة الإنسان على وفق هذه الإرادة أو خلافها..! تلك هى بعض الأسرار التي لاحت لنا من خلال نظرنا الكليل.. وهناك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 671 أسرار لا تحصى، يراها ذوو الأبصار التي اكتحلت بنور الحق، فترى ما لا تراه العيون. ويحسن بنا هنا أن نقف وقفة قصيرة «مع القضاء والقدر» .. حيث كانت قصة موسى والعبد الصالح درسا عمليا لهذه القضية، التي يتحكك بها العقل، ويدور فى فلكها مسير الإنسان ومصيره.. [القضاء.. والقدر.. والإنسان..] موضوع القضاء والقدر لا يعتبر مشكلة يعالجها العقل، ويلتمس الحلول لها، إلا إذا نظر إليه من جانبين معا: جانب يتصل بالله، وجانب يتصل بالإنسان.. وهذا يعنى أن الذي ينظر فى هذه المشكلة، لا بد أن يكون من المؤمنين بالله، أو على الأقل من المؤمنين بما وراء المادة.. أما المادّيون الذين يقيمون وجودهم، ويسوّون حسابهم على مستوى العالم المادي، فليس القضاء والقدر من المشكلات التي تلقاهم على طريق الحياة، وتوجّه أبصارهم إليها، وتلفت عقولهم نحوها.. وتبدو المشكلة- عند المؤمنين بالله، أو المؤمنين بما وراء المادة- هكذا: إذا قلنا إنّ الإنسان مخيّر، كان معنى هذا أنه مطلق من كل سلطان، وأن ليس بينه وبين الله، أو بينه وبين أية قوة أخرى غير منظورة- علاقة، تحدّ من مجرى حياته، أو تؤثر فى تصرفاته.. وفى حدود هذا القول، لا مجال للنظر فى القضاء والقدر، حيث يبدو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 672 الإنسان خارجا عن دائرة المؤثرات التي تجعل للقضاء والقدر شأنا معه.. وإذا قلنا إن الإنسان مجبر، كان معنى هذا أن شيئا ما وراء الإنسان، يملى عليه، ويؤثّر فى إرادته، أو يعطل مشيئته.. وهنا تبدو الصلة واضحة بين الإنسان وبين القضاء والقدر.. وهى صلة تظهر آثارها فى تصرفاته، وفى موقفه حيال كل أمر يعرض له.. ولكن هاتين المقولتين، لم يسلّم العقل الإنسانى بأيّ منهما، تسليما مطلقا.. إذ كان الواقع العملىّ ينقض كل مقولة منهما، إذا أخذ بها على إطلاقها.. فالإنسان- كما يبدو له- حرّ من جهة، ومقيد من جهة أخرى.. إنه مطلق، تماما- كما يبدو- ولكن يرى أن قوة خفية تأخذ عليه طريقه إلى ما يريد.. قوة غير منظورة، تقيّد إرادته المطلقة تلك.. فهو مختار يفعل ما يشاء، وهو مجبر حيث يفعل أو يفعل به ما لا يشاء! وبين الاختيار والجبر، عاشت الإنسانية حائرة مضطربة، قلقة.. تقول بالاختيار، وتحلم به، وتتمنّاه.. ولكن الواقع يفجؤها بما يلغى هذا الاختيار، ويعطل وجوده.. وإذا هى أي الإنسانية، ريشة فى مهب الريح، يسوقها القدر إلى حيث يشاء.. وتقول بالجبر، فلا يصدّقها الواقع الذي تعيش فيه. والذي ترى صفحته فى آثار تفكيرها، وثمار إرادتها، وعزيمتها.. فلا هى.. أي الإنسانية، فى الاختيار المطلق، ولا هى فى الجبر المطلق.. إنها تعيش متأرجحة بينهما.. هى فى اختيار وجبر معا.. ذلك ما يشعر به كل إنسان فى ذاته، وتشعر به الإنسانية فى مجموعها.. وذلك من الجلاء والوضوح، بحيث لا ينكره إلا أهل الجدل والمراء!! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 673 ولكن ّ القدر الذي فى الإنسان، من جبر أو اختيار، هو الذي يضع الأمر موضع الخفاء والحيرة.. ويقع من الناس موقعا يثير الجدل والخلاف حقّا. كم فى الإنسان من جبر؟ وكم فيه من اختيار؟ لا أحد يدرى.. فتلك مسألة تختلف من إنسان إلى إنسان.. بل إنها تختلف فى الإنسان نفسه، حسب الحالة التي يواجهها، وحسب الظروف المحيطة به، والمشاعر المستولية عليه.. على ما سنرى. من خلال هذا البحث. ما القضاء؟ وما القدر؟ القضاء: لم يذكر «القضاء» فى القرآن الكريم بلفظه هذا، وإنما ذكرت مشتقاته، فى آيات كثيرة.. فذكر فى صورة فعل كقوله تعالى: «فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ» (12: فصلت) وقوله سبحانه: «وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ» (20: غافر) وفى قوله تعالى: «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» (23: الإسراء) كذلك ورد من مشتقات «القضاء» : اسم المفعول فى قوله تعالى: «وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا» (21: مريم) واسم الفاعل فى قوله سبحانه: «فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ» (72: طه) . والذي ينظر فى هذه الآيات، يجد تقابار واضحا بين المعاني التي تدور حولها مشتقات القضاء، وأنها تلتقى جميعا عند معنى واحد، هو: الفصل، والحسم فى الأمر، وأن قضاء الأمر معناه إنجازه، وحسمه، من جهة قادرة ممكنة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 674 مما تقضى به.. منه القضاء، وهو الفصل فى الخصومات، ومنه القاضي الذي يفصل بين المتخاصمين. وقد ذكر القرطبي فى تفسيره: «أن «القضاء» يكون بمعنى «الأمر» كقوله تعالى: «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» .. ويكون بمعنى «الخلق» .. كقوله تعالى: «فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ» . «ويكون بمعنى «الحكم» .. كقوله تعالى: «فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ» .. «ويكون بمعنى «الفراغ» .. كقوله تعالى: «قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ» (41: يوسف) .. «ويكون بمعنى الإرادة، كقوله سبحانه: «إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (47: آل عمران) . «ويكون بمعنى «العهد» .. كقوله تعالى: «وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ» .. (44: القصص) والذي ينظر فى هذه المعاني التي ذكرها القرطبي «للقضاء» يرى أنها جميعا تنزع منزعا واحدا، وتلتقى عند معنى واحد، هو الفصل، والحسم. فالأمر.. والخلق.. والحكم.. والفراغ.. والإرادة.. والعهد.. كلها تنبىء عن حسم الأمر وإنجازه.. قولا، أو فعلا. القدر: ورد فى القرآن الكريم، لفظ «ق.. د.. ر» مصدرا، وفعلا، واسم فاعل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 675 قال تعالى: «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ» (49: القمر) وقال سبحانه: «وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ» (10: فصلت) ومعنى هذا فى المصدر، ومشتقاته: التقدير، ووضع الشيء فى موضعه المناسب له.. عن عكرمة عن الضحاك، قال فى قوله تعالى: «وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها» أي أرزاق أهلها، وما يصلح لمعاشهم، من التجارات، والأشجار، والمنافع، فى كل بلدة، ما لم يجعله فى الأخرى.. من ذلك نرى أن دائرة القدر أشمل وأعمّ.. من دائرة القضاء.. فالقدر تدبير.. والقضاء حكم.. القدر تصميم.. والقضاء تنفيذ.. يقول الإمام الغزالي.. القدر: اسم لما صدر مقدّرا عن فعل القادر.. والقضاء: هو الخلق.. «والفرق بين القضاء والقدر، أن القدر، أعمّ، والقضاء، أخصّ.. «فتدبير الأوليات قدر.. «وسوق تلك الأقدار بمقاديرها وهيئاتها إلى مقتضياتها، هو القضاء. «فالقدر.. إذن.. تقدير الأمر بدءا. «والقضاء.. فصل ذلك الأمر وقطعه، كما يقال: «قضى القاضي» «1» أما الفيلسوف «ابن سينا» فيرى عكس هذا..   (1) من كتاب فرائد اللآلى من رسائل الغزالي ص 156. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 676 يرى أن القضاء أعمّ من القدر، وسابق عليه.. يقول: «القضاء.. هو علم الله المتعلّق بالكلّ، على النظام الأكمل الذي يكون فى الوجود. «والقدر.. هو إفاضة الكائنات على حسب ما فى علمه. فالكلّ صادر عن الله، ومعلوم له، وكلّ ذلك بقضاء وقدر» «1» . أما ابن عربى.. الفيلسوف المتصوّف، أو الصوفي المتفلسف، فإنه فى التفرقة بين القضاء والقدر، على رأى يتفق ورأى ابن سينا.. فهو يقول: «القضاء.. حكم الله.. «والقدر.. تقدير ذلك الحكم.. «والتقدير.. تابع للحكم.. والحكم تابع للعلم» «2» ونحن على رأينا، الذي يوافق رأى الإمام الغزالي فى أن «القدر» أعم، و «القضاء» أخصّ.. لأن آيات الكتاب الكريم توحى بهذا الفهم لكل من القضاء والقدر. ونستطيع أن نتصوّر- مجرد تصوّر- إن صح فهمنا هذا- أن القدر، هو الأسباب التي أودعها الله سبحانه فى المخلوقات، بحيث لو جرت إلى غايتها لنتج عنها مسبباتها التي تلازمها، والتي لا تتخلّف أبدا.. فالنار- مثلا- سبب الضوء، والدفء، والإحراق.. فإذا أوقدت   (1) الملل والنحل للشهرستانى.. جزء 3 ص 153. (2) النصوص.. لابن عربى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 677 النار.. أخرجت ضوءا، وأعطت دفئا، وأحرقت ما يتصل بها من الأشياء التي أودع فيها الخالق من الأسباب ما يجعلها قابلة للاحتراق.. ففى كل شىء قدر، أي أسباب، وكيفيّات تنتج مسببات، فإذا تلاقت تلك الأسباب المودعة فى الأشياء، كانت قضاء. فالمسببات التي تحدث من تلاقى الأسباب بعضها ببعض، هى القضاء، فإذا تلاقت الأسباب، فتوافقت أو تدافعت فهى فى دائرة القدر.. أما ما يقع من هذا اللقاء بين الأسباب- فى توافقها أو تدافعها- من مسببات فهو القضاء.. فالقدر كون، والقضاء ظهور! الأسباب والمسببات: اختلفت آراء المفكرين من الفلاسفة، والفقهاء فى الصلة بين الأسباب ومسبباتها.. واتسعت شقّة الخلاف بينهم حتى بلغت درجة التضادّ. فبينما ينكر بعضهم التلازم بين السبب والمسبب، إذ يقرر بعضهم حتمية هذا التلازم، وعدم تخلفه فى حال أبدا.. بل إن بعضهم تمادى فى هذا، فجعل الأسباب قوّى عاملة، تعمل فى وعى وبصيرة، وذلك حين رأوها تعطى نتائجها دون أن تنحرف، أو تضلّ.. وكان من هذا أن آمن كثير من هؤلاء، بالطبيعة، وعدّوها كائنا عاقلا.. يحمل فى كيانه مقوّمات وجوده، مستغنيا عن مدبّر يدبّر أمره، ويقوم عليه.. ولا شك أن هذه النظرة إلى الطبيعة وأسرارها، هى نظرة محدودة، قصرت عن أن ترى القدرة القادرة التي تربط عوالم الموجودات كلها برباط وثيق محكم، بحيث تجعل منها كيانا واحدا، يجرى لغاية واحدة، فى حكمة، ونظام.. «ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ» (3: الملك) . هذا، والفلسفة الحديثة تؤيد الرأى القائل بفاعلية الأسباب، وبالترابط بين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 678 الأسباب والمسببات.. وما كان للفلسفة الحديثة أن تقرر غير هذا، بعد هذا التقدم العلمىّ، الذي أحرزه الإنسان فى كل مجال.. وليست القوانين التي استخدمها العلم فى كشف أسرار الطبيعة إلّا من نسيج الأسباب وتفاعلها.. فهذا الاطراد فى ظواهر الطبيعة، هو الذي أتاح للعلماء وضع قوانين ثابتة لطبائع الأشياء ولما تحدثه الأسباب من احتكاك بها.. وبهذا أمكن تسخير قوى الأشياء بمقتضى هذه القوانين، كما أمكن التنبؤ بما سيحدث قبل حدوثه، اعتمادا على معرفتنا السابقة بخواصّ الأشياء، وبالآثار التي تحدث عند تحريك أسبابها المودعة فيها. وقد رأى الأشاعرة- وهم الذين يمثلون الرأى السّنيّ- أن لا تلازم بين الأسباب والمسببات، ورفضوا أن يسلّموا بوجود أي قانون للطبيعة، واستبعدوا البديهة القائلة: بأن الأسباب المتماثلة تولد نتائج متماثلة.. وقد بنوا رأيهم هذا، على أساس أن التلازم بين الأسباب والمسبباب، فيه تحديد لقدرة الله على كل شىء، إذ أن هذا التلازم يحدّ من قدرة الله، ويجعل للأسباب قوة ملزمة لله.. وهذا رأى لا نسلّم به، ولا نرتضييه رأيا يراه المسلم حيث لا نرى فى التلازم بين الأسباب والمسببات ما يراه الأشاعرة، من أن فى ذلك تحديدا لقدرة الله.. فالله سبحانه وتعالى، قد أقام الوجود على نظام، وأجراه على سنن أودعها فيه.. كما يقول سبحانه: «لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» (40: يس) .. فإذا كان من نظام الكون الذي أوجده الخالق جل وعلا، أن الشمس تطلع من الشرق، وأن الأرض تدور الجزء: 8 ¦ الصفحة: 679 حولها.. فهل فى هذا تحديد لقدرة الله؟ وهل فى خضوع هذه الأكوان لهذا النظام المودع فيها إلا استجابة لقدرة الله، وخضوع لمشيئته؟ وللفيلسوف المسلم «محمد إقبال» رأى يجرى مع رأى الأشاعرة، فى نتائجه ولكنه يختلف معهم فى مقدماته. فإقبال يرى أسبابا قائمة فى الأشياء.. ولكنه يرى- مع هذا- أن الأسباب تعمل فى ظل قدرة، حكيمة، عليمة.. ومن ثمّ فإن الحوادث التي تنتجها الأسباب ليست مواليد آلية، جاءت متكررة، وإنما كل حادثة لها ذاتية مستقلة.. إنها خلق جديد، تقوم القدرة الإلهية على إبداعه وتكوينه.. «الأشاعرة» لا يعترفون بوجود أسباب مطلقا.. وإنما يقولون بالخلق المتجدد من غير أسباب! و «إقبال» يقول بالأسباب، ولكنها- فى رأيه- أسباب يقظى واعية، تتخلق منها الحوادث، تخلقا يحفظ لكل حادثة ذاتيتها المستقلة.. فلا تنتظم فى ركب حوادث صماء متتابعة، متماثلة.. لا نهاية لها..! يقول «إقبال» : «فتقدير شىء ما، ليس قضاء غاشما يؤثّر فى الأشياء من خارج.. ولكنه القوة الكامنة، التي تحقق وجود الشيء وممكناته التي تقبل التحقّق، والتي تكمن فى أعماق طبيعته، وتحقق بالتالى وجودها فى الخارج، دون إحساس بإكراه من وسيط خارجى.. «ومن ثمّ فإن تكامل وحدة الديمومة، لا تعنى أن هناك حوادث تامة التكوين، أشبه بأن تكون فى أحشاء الحقيقة، لتسقط منها واحدة واحدة، كما تسقط حبات الرمل فى الساعة الرملية!! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 680 «والواقع أن كل نشاط خالق، هو نشاط حرّ.. فالخلق يضاد التكرار، الذي هو من خصائص الفعل الآلى..» «1» والذي نود أن نقرره، هو أن فى كل شىء أسبابا مودعة فيه، وأن الأسباب تنتج مسبباتها، عند تحريكها بأسباب أخرى مناسبة لها.. أما التلازم بين الأسباب والمسببات، فليس يعنينا أن يكون هذا التلازم محكما مصمتا لا يتخلف، أم أن تكون فيه خلخلة تسمح بتخلف المسببات عن الأسباب، ما دمنا نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى، هو خالق الأسباب، وهو خالق المسببات! والتلازم أو غير التلازم هو مما قضت به حكمته، وشاءته مشيئته وعلمه.. ولكن الذي يجب أن نعرفه، وأن نقيم وجودنا عليه، هو أن ملاك أمرنا فى هذه الحياة قائم على أن نحرك الأسباب المودعة فى الأشياء، على الوجه الذي اهتدت إليه عقولنا، وأن ننتظر النتائج المقدرة لهذه الأسباب، على حسب ما نتوقعه ونرجوه منها. فنحن نبنى حياتنا على المستقبل أكثر من الحاضر الذي نعيش فيه.. وهذا المستقبل إنما نبنيه على أسباب نحركها ونرقب ثمرتها.. إننا نزرع وننتظر الحصاد، وهيهات أن يزرع زارع ولا يجنى ثمرة ما زرع، وهيهات أن نجنى ثمرا دون أن نزرع ما يعطى هذا الثمر!! يقول الفيلسوف «إقبال» : «فالنفس وهى مطالبة بالعيش فى بيئة مركبة.. لا تستطيع أن تحتفظ   (1) تحديد التفكير الديني الإسلامى.. لإقبال ص 61. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 681 بوجودها فى تلك البيئة دون أن تردها إلى نظام يعطيها- أي النفس- نوعا من الضمان فيما يتعلق بسلوك الأشياء الموجودة حولها.. «وعلى هذا، فإن نظر النفس إلى بيئتها باعتبارها نظاما (مكونا) من علة ومعلول، هو وسيلة لا يمكن الاستغناء عنها.. «والواقع أن النفس- بتأويلها للطبيعة على هذا النحو- تفهم بيئتها، وتسيطر عليها، فتحصل بهذا على حريتها، وتزيدها قوة ونماء» «1» . () ونود هنا أن بعد هذه المقدمة، أن ندير النظر إلى قصة موسى والعبد الصالح.. ففى هذه القصة درس عملىّ ينكشف منه وجه القضاء والقدر، ومدى ما يمكن أن تطوله يد الإنسان، وتبلغه قدرته، تحت سلطان القضاء والقدر، وما يعمل فيه الإنسان من أسباب، وما يقع له من مسببات.. لقد كان موسى فى هذه القصة، ممثلا للإنسانية فى حدودها التي أقامها الله عليها، وفى تصرفاتها مع الأشياء على مقتضى ما تعلم منها بإمكانياتها المحدودة، على حين كان العبد الصالح، ممثلا للعالم العلوي، عالما ما وراء المحسوس، يستملى معارفه من عالم النور.. فيرى بعين الغيب، عواقب الأمور، ويصل إلى نتائجها الحاسمة، قبل أن تتحرك الأسباب، وتتولد المسببات!. موسى يمثّل الإنسان، من حيث هو كائن محدود القدرة، لا يرى من الأشياء إلا ما على السطح، أو ما وراء السطح بقليل.. أما أعماق الأشياء   (1) تجديد التفكير الديني الإسلامى ص 124. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 682 وأما صميمها، فليس له إليها سبيل مهما يبلغ علمه، ومهما تكن معارفه.. إن له حدودا لا يتجاوزها، وله مجالات لا يخرج عليها، وهو فى هذه الحدود يعمل، وفى هذه المجالات يتحرك- حسب تفكيره وتقديره.. ثم مع هذا، فإن الأشياء تتحرك حركتها المقدورة لها.. وهى حركات قد تتفق مع حركات الإنسان، وقد لا تتفق.. والشيء الذي ينبغى أن نؤكده، هو أن العلم والمعرفة، يكشفان للإنسان من حقائق الأشياء، بقدر ما يحصّل الإنسان منهما.. فكلما ازداد علما ومعرفة اتسعت أمامه الآفاق التي ينظر فيها إلى هذا الوجود، وتكشف له حقائق كثيرة كانت محجوبة عنه وراء هذه الآفاق التي أخفاها عنه الجهل، وضآلة المعرفة.. والذي نودّ أن نؤكده أيضا، هو انه مهما بلغ الإنسان من العلم والمعرفة فلن يبلغ من العلم بحقائق هذا الوجود، إلا قدرا ضئيلا، لا يعدل حبّة رمل من هذا الكون العظيم.. والله سبحانه وتعالى يقول. «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» (85: الإسراء) . وهنا نستطيع أن نحدد مكان الإنسان من القدر، ونتعرف إلى المجال الذي يعمل فيه كل منهما: الإنسان والقدر.. فالقدر هو «دولاب» ينتظم الوجود كله، وتتحرك كل أجزائه، حسب القوى التي أودعها الخالق جل وعلا فى كل موجود.. وكل موجود يتحرك حركته فى الاتجاه، وفى المدى المقدور له.. وأقرب شبه لهذا ما نرى فى «دولاب» بخارى أو كهربىّ، يدور يجميع أجهزته وأجزائه، ثم إن جميع هذه الأجهزة، وتلك الأجزاء، مع اختلاف حركاتها تحقق آخر الأمر غاية واحدة، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 683 وتعمل جميعها لهدف واحد.. فلا يرى الرائي منها إلا حركة واحدة، وإلا اتجاها واحدا.. هكذا يرى المهندس الميكانيكى أو الكهربى حركات الجهاز، الذي يقوم عليه، ويديره.. إنه يعرف وضع كل قطعة منه، كما يعرف وظيفتها ودورها الذي تؤديه.. أما من ينظر إلى هذا الجهاز نظرا سطحيا بغير علم، فإنه لا يرى فيه إلا أشياء صاخبة مضطربة، يضرب بعضها وجه بعض! كذلك هذا الوجود الذي نحن فيه، وهذا العالم الذي تقلّنا أرضه، وتظلنا سماؤه- حيث ننظر، فلا نرى- لعلمنا القاصر.. إلّا فوضى، وإلا اضطرابا، وإلا تخالفا وعنادا بين كل موجود وموجود، الأمر الذي يوقع بين الموجودات هذا الصراع الحادّ المتصل.. سواء فى ذلك عالم الجماد، وعالم الأحياء.. فالبحر تهيجه العواصف وتثيره الرياح، وهو بالتالى يصخب ويموج، ويضرب بأمواجه العاتية فى أصول الجبال، فتتصدع وتنهار.. والجبال بدورها، تتصدى للرياح العاتية فتلطم وجهها، وللسحب السائرة، فتمزّق أوصالها، وتلقى بها تحت أقدامها.. وكذلك الشأن فى عالم النبات والحيوان، والإنسان.. هى فى صراع دائم، فيما بينها وبين الموجودات القريبة أو البعيدة منها.. والإنسان بخاصة يواجه الموجودات كلها، ويدخل معها جميعها فى صراع، لا يلقى معها سلاحه إلا إذا استسلمت له، وأعطته ولاءها.. هكذا يبدو الوجود غارقا فى الفوضى، لمن ينظر إليه نظرا شاردا، لا يستصحب معه فيه عقله، ولا يفتح له قلبه.. أما حقيقة هذا الوجود، فهو نظام محكم دقيق، وتناغم منسجم رائع، وتجاوب بين كل ذرة من ذراته، وكل موجود من موجوداته.. «ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ، فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 684 كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ» (3- 4: الملك) .. أرأيت إلى جماعة كبيرة من العازفين على مجموعات متعددة من آلات الموسيقى، يقومون على أداء لحن رائع منسجم متناغم؟ إن الذي لا يحسن لغة الموسيقى، ولا يعطى أذنه وقلبه لهذا اللحن الذي يجتمع من هذه الأنغام التي ترسلها أيدى العازفين، وأفواههم وأرجلهم، من تلك الآلات التي يقومون بالأداء عليها- لا يرى إلّا فوضى مجنونة متخبطة، ولا يسمع إلا ضجيجا وصخبا وتلاطما.. أما حقيقة الأمر، فهو- عند الموسيقى- على خلاف ذلك تماما.. إنه يرى تآلفا وتلاقيا، ويسمع تجاوبا وتناغما، فيجد لذلك روح روحه ونشوة فؤاده، ويقظة وجدانه.. ذلك أشبه شىء بالوجود فى نظر من يعلم ومن لا يعلم! وننظر مرة أخرى إلى ما كان بين موسى والعبد الصالح.. لقد كان موسى يسير فى اتجاهه الإنسانى.. ويأخذ طريقه على قدر ما ينكشف له من عوالم الوجود.. على حين كان العبد الصالح يسير فى اتجاه الدولاب القدرىّ.. ويأخذ الأمور على الوجه الذي تستقيم فيه مع حركة هذا الدولاب القدرىّ.. وقد وقع الصّدام، بل والصراع بين الاتجاهين.. والواقع أنه لم يكن ثمة خلاف بين هذين الاتجاهين.. إذ كل منهما منته إلى نهاية واحدة، يلتقيان عندها.. وكل ما فى الأمر، أن الحركة القدرية فى هذه المرحلة القصيرة التي صحب فيها موسى صاحبه، قد وجدت فى العبد الصالح مفسّرا لها، وكاشفا عن وجهها، ولولا هذا لظلّت فى عينى موسى وفى تفكيره قدرا لا يدرى له مفهوما، ولا يعرف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 685 له متأوّلا.. تماما كما يقع لعينى الإنسان منا كلّ يوم من مئات الأحداث، فى نفسه، وفى غيره، دون أن يعرف وجه الحكمة فيها.. ولو أننا وجدنا مثل العبد الصالح من يكشف لنا عما وراء هذه الأحداث، لما أصابنا همّ، ولما بتنا على قلق، لما وقع أو يتوقع من سوء، وما نزل أو ينزل من مكاره، ولظهرت لنا هذه الأحداث آخذة أتمّ وضع وأصلحه لنا، ولنظام الوجود العام كله.. وهذا ما تشير إليه المأثورة الإسلامية: «لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع» ! وإذن.. فالماديون الذين ينكرون القدر، هم محقّون ومبطلون فى آن.. هم محقون، لأن كل ما ينسب إلى القدر، ويضاف إليه، ليس شيئا خارجا على سنن الكون، ولا مطلقا من العلل والأسباب التي تحكم الوجود وتمسك بكل موجود.. وغاية ما فى الأمر، أن هذه العلل، وتلك الأسباب مطوية عنّا، بعيدة عن واقع علمنا، وأنها لو انكشفت لنا لما كان فيها إلا ما نراه فى كل أمر نعلم حقيقته، ونعلم العلل والأسباب المتحكّمة فيه.. وهم مبطلون.. لأن العلم الذي فى أيديهم، والذي يستطيعون به النظر فى الوجود- هو علم قاصر محدود، لا يحمل من الطاقات الضوئية، إلا شعاعات باهتة متكسّرة، لا تنفذ إلى أعماق الوجود، ولا تكشف إلا بعض ما يظهر على حافانه وحواشيه.. وعلى هذا، فإنه ستظل موجودات الوجود كلها- فيما عدا هذه القشور منها- بعيدة عن متناول العلم، مجهولة الأسباب والعلل.. وهى التي تطلع علينا حين تطلع، قدرا مقدورا.. لا نعرف لها تأويلا، ولا ندرى لها تفسيرا! والعبرة الماثلة لنا من قصة موسى والعبد الصالح، هى أن نلزم أنفسنا الأخذ بالأسباب الظاهرة لنا، وأن نصرّف أمورنا بمقتضى هذه الأسباب التي تقع فى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 686 تفكيرنا وتقديرنا، وألا نتطلّع إلى ما وراء ذلك.. ففى هذا- وفى هذا وحده- ضمان لاستقامة تصرفاتنا، مع ما يصلح عليه أمرنا، وأمر المجتمع الإنسانى الذي نعيش فيه.. إن القوى المحدودة التي أودعها الله فينا، هى التي تتفق اتفاقا تامّا مع الوجود الذي أقامنا الله عليه، ومع الموجودات التي أوجدنا الله معها.. فجوارحنا، ومدركاتنا، مضبوطة على أعدل وضع يمكن أن يعطينا من الحياة أكبر قدر يمكن أن نأخذه منها، وأن ننتفع به على الوجه الملائم لنا.. ولو خرجت مدركاتنا وحواسنا عن هذا المعدّل- بالزيادة أو النقص- لاضطرب وجودنا، وفسد نظام حياتنا.. فالماء الذي نشربه، والذي نراه نظيفا، سائغا- إذا نظرنا إليه بما وراء أبصارنا- كالمجهر مثلا- رأيناه مسبحا لجيوش كثيرة من الحيوانات.. وهو بهذه النظرة يتحول- فى تصورنا- من طيّب سائغ، إلى ماء تعافه النفس، وتقزّز منه، وتموت عطشا دون أن تقدم على شربة منه.. وكذلك قل فى كل ما نأكل وما نشرب. إننا لا نرى فى مأكولنا ومشروبنا ما نكره، ولكنا إذا نظرنا إليه بعيون مجهريّة، تبين لنا أن هناك عوالم سابحة فيه، من غرائب المخلوقات، تأخذ طريقها إلى جوفنا، دون أن نراها، فلا يهنئونا مع ذلك طعام، ولا يسوغ لنا شراب! وقل مثل هذا فى المسموعات، والمشمومات والمذوقات، إذا نحن جئناها بحواس أقوى أو أضعف من حواسّنا.. إنّها تقع منا موقعا بغيضا كريها.. من الخير إذن، ومن الرحمة بنا أن نعيش فيما خلقنا الله بما خلقنا به، وألّا نذهب إلى أبعد مما قدّر لنا.. بل نجعل الأسباب المعروفة لنا، هى الأساس الذي نتصرف بمقتضاه، فى تعاملنا مع الحياة، وملابستنا للموجودات.. ثم ليكن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 687 قبل هذا كلّه، إيماننا بقدرة الخالق، وبتقديره لكل شىء، وأننا إنما نعمل لنحقق إرادته مما أودع فى الكائنات من أسباب، وبما جعل لها من مسببات.. فهذا الإيمان هو الذي يسند الإنسان فى صراعه مع الحياة، وهو الذي يشدّ عزمه، ويدفع به إلى غايات لا يتطلع إليها أولئك الذين فقدوا هذا الإيمان.. وشتّان بين من يعمل، وهو على يقين بأنه فى رعاية ربّ الأرباب، وأقوى الأقوياء، وبين إنسان يعمل معزولا عن الشعور بهذا الإيمان.. يعمل فى حدود جهده البشرى المحدود، دون سند أو ظهير! إن النعمة فى كل صورة يتلقاها المرء عليها، لا يدخل منها على قلب المؤمن بالقدر، زهو ولا خيلاء.. لأنها من عند الله! وإن البلاء، والشدّة، والضرّ.. لا يقع منها على قلب المؤمن بالقدر، يأس ولا قنوط من روح الله.. «إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ» .. الكافرون بالله، وبما قدّر الله! والقدر بهذا المفهوم لا يخلى الإنسان من مسئولياته، إزاء الحياة، وإزاء التكاليف المنوطة به فيها.. فهو مطالب بأن يجهد جهده، ويبلى بلاءه فى كل أمر يعرض له، وأن يلقاه بكل حوله وحيلته، وأن يجىء إليه بعلله وأسبابه، التي يراها ويقدّرها.. فإن هو فرّط أو قصّر، كان ملوما، وكان أهلا للجزاء الذي يناسب تفريطه، وتقصيره. فليس إيمان المؤمن بالقدر، وبأنه صائر آخر الأمر إلى المصير المقدور له- ليس هذا الإيمان بالذي يخلى المؤمن من المسئوليات المنوطة به.. فهو مطالب بأن يقدّر ويفكر، ويدبّر، ويعمل بالقدر الذي يسعفه به تفكيره، ويحتمله جهده.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 688 وهذا- على الأقل- هو الذي يعفيه من المسئولية أمام عقله وضميره! وفى نظرة الإسلام إلى القدر، تلك النظرة التي يبدو منها القدر غائبا كحاضر- فى هذه النظرة يقوم القدر على الناس، سلطانا رحيما، يفيئون إلى ظلّه الظليل، إذا هم أضناهم السير ولفحهم الهجير وأقعدهم الإعياء! فالقدر فى التفكير الإسلامى، لا يلتقى به المسلم إلا عند آخر المطاف من سعيه الذي سعى، وعمله الذي عمل، لا أن يقدّمه بين يدى كل عمل، فإن هذا من شأنه أن يقعد بالإنسان عن أن يعمل أو أن يسعى، تاركا زمامه للقدر، يتصرّف كيف يشاء.. وفى هذا اللقاء الذي يلتقى فيه الإنسان مع القدر- بعد كل عمل لا قبله- فى هذا اللقاء يلقى الإنسان بوجوده كلّه، وبما أصاب، أو أصيب به- يلقى بهذا كله فى ساحة القدر! فإن يكن قد أصاب خيرا لم يقل قولة قارون من قبل: «إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي» (78: القصص) بل يقول قولة المؤمنين الشاكرين: «هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ» (40: النمل) . وإن أصابته مصيبة، أو مسه ضر، لم يقل: «أَنَّى هذا؟» (165: آل عمران) . بل يقول: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» (156: البقرة) أو يقول: «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ» (18: يوسف) . أما غير المؤمن، فإنه لا يلتقى بهذا الوجه الكريم فى السراء أبدا، ولا يتلقّى هذا العزاء الجميل فى الضراء أبدا.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 689 إنه إن أصاب خيرا، أشر وبطر، وطغى وبغى، وإن أصابته مصيبة احترق بنارها، كمدا وحسرة، دون أن يجد لمصيبته عزاء من إيمان، أو مواساة من قدر! وانظر إلى هذا العزاء الجميل الذي عزّى الله سبحانه وتعالى به النبىّ والمؤمنين فيمن أصيبوا فيهم من الشهداء فى غزوة أحد: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (156: آل عمران) . و «لو» هذه، هى التي تدمى قلوب الذين لا يؤمنون بالله، ولا يستسلمون لقدر الله، فى أعقاب الشدائد والملمات، وهى التي تنكأ جراحهم كلما عملت يد الزمن على التئامها! وفى الحديث الشريف كما رواه مسلم: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شىء فلا تقل: لو أنى فعلت كان كذا وكذا؟! ولكن قل: قدّر الله، وما شاء الله فعل.. فإن لو تفتح عمل الشيطان» . وهنا أمر نحب أن نقف عنده، وهو أن الرضا، الذي يستقبل به المؤمن ما يقع من مقدرات القدر- ليس هذا الرضا عن قهر وإلزام، وإنما هو عن إرادة واعية مدبّرة مقدّرة.. ذلك أنه ليس من الدين، ولا فى الدين- أعنى الإسلام- ما يحول بين الإنسان وبين حقه الطبيعي، فى معالجة الواقع، وفى محاولة تغييره يكل ما يملك من وسائل كريمة سليمة، ناظرا إلى الله، طامعا فى رحمته، مستمدا العون والتوفيق من لدن رب رحيم كريم.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 690 إن الرضا بالواقع الكريه البغيض، ليس فى الإسلام، ولا من الإسلام.. لأن ذلك معناه إهدار لعقل الإنسان أن يفكر، وتعطيل لإرادته أن تعمل ووقوف بالحياة أن تتحرك، بل وتمكين للشر أن يستشرى، واعتراف للباطل أن يقيم حيث شاء.. آمنا مطمئنا، لا يلقاه أحد بإنكار، ولا يزعجه منكر بسوء! .. وكلّا.. فإن هذا غير سبيل الأحياء فى الحياة، كما هو غير سبيل الدّين والمتدينين.. وتاريخ الإسلام، يحكى فصولا طويلة، مثّل فيها هذا الدور الغبىّ الدخيل على الإسلام، فقتل فى الناس الهمم الصادقة، وأطفأ من صدورهم وقدة العزمات المتوثبة لملاقاة البغي وردع الباغين.. وذلك حين قام فى الناس من يدعونهم إلى الاستسلام للقدر، والرضا بالمقدور.. وتلك كلمة حق أريد بها باطل.. إذ كانت أشبه بمخدّر ثقيل، أمات فى الناس مشاعر الإحساس بكل ظلم، فاستساغوا طعمه، واستناموا فى ظلّه، يجترّون كل ما يلقى إليهم من عسف، وما يساق إليهم من بلاء.. وإنه لولا هذا ما استطال حكم أمراء السوء، ولا امتدّ سلطان الملوك والسلاطين الباغين المفسدين، دون أن يلقاهم أحد بنكير، أو يؤاخذهم مؤاخذ بما اقترفوا من مظالم، وما ارتكبوا من آثام.. إن مهمّة الرسل، والمصلحين فى الناس، إنما هى فى صميمها ثورة على أوضاع قائمة جائرة، وحرب على مظالم صارخة، هى فى نظر الحق والعدل منكرات يجب أن تزول، وهى عند البغاة والمتسلطين حق مشروع، ثم هى عند أدعياء الإيمان قدر مقدور! ولا نريد أن ندع هذا البحث فى «القضاء والقدر» قبل أن نذكر رأيا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 691 «لابن القيّم» فى هذه القضية، يعتبر- فى رأينا- مقطع الفصل فيها، عند المؤمنين بالله، وبما لله من أحكام فى عباده.. يقول ابن القيّم فى كتابه: «روضة المحبين» : «فأحكام العالم العلوىّ والسّفلىّ وما فيهما، موافقة للأمر.. إما الأمر الدينىّ، الذي يحبّه الله ويرضاه، وإما الأمر الكونىّ الذي قدّره وقضاه.. «وهو سبحانه لم يقدّره- أي الأمر الكونىّ- سدى، ولا قضاء عبثا، بل لما فيه من الحكمة والغايات الحميدة، وما يترتب عليه من أمور، يحبّ غاياتها وإن كره أسبابها ومبادئها.. «فإنه.. سبحانه وتعالى- يحبّ المغفرة، وإن كره معاصى عباده، ويحبّ الستر، وإن كره ما يستر عبده عليه، ويحبّ العتق وإن كره السبب الذي يعتق عليه من النار.. ويحب العفو، وإن كره ما يعفو عنه من الأوزار.. ويحبّ التوّابين وتوبتهم، وإن كره معاصيهم التي يتوبون إليه منها.. ويحب الجهاد وأهله، بل هم أحبّ خلقه إليه، وإن كره أفعال من يجاهدونهم.. ثم يقول: «وهذا باب واسع، قد فتح لك، فادخل منه، يطلعك على رياض من المعرفة مونقة، مات من فاتته بحسرتها، وبالله التوفيق. ثم يقول: «وسرّ هذا العباب، أنه- سبحانه- كامل فى أسمائه وصفاته، فله الكمال المطلق، من جميع الوجوه، الذي لا نقص فيه بوجه ما.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 692 وهو- سبحانه- يحبّ أسماءه وصفاته، ويحبّ ظهور آثارها فى خلقه، فإن ذلك من لوازم كماله.. فإنه- سبحانه- وتر يحبّ الوتر.. جميل، يحبّ الجمال.. عليم، يحبّ العلماء.. جواد، يحبّ الأجواد.. قوىّ، والمؤمن القوىّ أحبّ إليه من المؤمن الضعيف.. حيىّ، يحبّ أهل الحياء.. وفىّ، يحبّ أهل الوفاء.. شكور، يحبّ الشاكرين.. صادق، يحبّ الصادقين.. محسن، يحبّ المحسنين.. «فإذا كان- سبحانه- يحبّ العفو، والمغفرة، والحلم، والصفح، والستر- لم يكن بدّ من تقدير الأسباب التي تظهر آثار هذه الصفات فيها، ويستدلّ بها عباده على كمال أسمائه وصفاته، ويكون ذلك أدعى إلى محبته، وحمده، وتمجيده، والثناء عليه بما هو أهله.. فتحصل الغاية التي خلق لها الخلق.. وإن فاتت من بعضهم، فذلك الفوت سبب لكمالها وظهورها.. «فتضمّن ذلك الفوت المكروه له- سبحانه- أمرا هو أحبّ إليه من عدمه! «فتأمّل، هذا الموضع حق التأمل.. «وهذا ينكشف يوم القيامة للخليقة بأجمعهم، حين يجمعهم فى صعيد واحد، ويوصّل لكل نفس ما ينبغى إيصاله إليها من الخير والشرّ، واللذة والألم، حتى مثقال الذّرة، ويوصّل كلّ نفس إلى غاياتها التي تشهد هى أنّها أولى بها.. «فحينئذ ينطق الكون بأجمعه، بحمده، تبارك وتعالى، قالا (أي قولا) وحالا، كما قال سبحانه وتعالى: «وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» فحذف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 693 فاعل القول، لأنه غير معيّن، بل كل أحد يحمده على ذلك الحكم الذي حكم فيه.. فيحمده أهل السموات، وأهل الأرض، والأبرار والفجّار، والجنّ والإنس.. حتى أهل النار! قال (الحسن البصري) وغيره: «لقد دخلوا النار وإن حمده لفى قلوبهم» .. «وهذا- والله أعلم- هو السر، الذي حذف لأجله الفاعل، فى قوله: «قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها» وقوله: «وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ» كأنّ الخلق كله، نطق بذلك وقاله لهم.. والله تعالى أعلم بالصواب» ا. هـ الآيات: (83- 98) [سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 98] وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 694 التفسير: الذّكر: الخبر، والحديث عن الأمر بما يذكّر به. مكنّا له فى الأرض: جعلنا له مكانا ذا سلطان فيها.. السبب: ما يتوصل به إلى أمر من الأمور.. وهو فى الأصل: الحبل الذي يصل شيئا بشىء.. ويقال للباب الذي يدخل منه إلى المكان: سبب.. عين حمئة: الحمأة: الطين الأسود، والعين الحمئة: التي اسودّ ما فيها من طين.. وقرىء: «عين حامية» أي شديدة الحرارة.. كما فى قوله تعالى: «وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ» . (8- 11: القارعة) السّدّان: مثنىّ سدّ، والسدّ: الحاجز بين الشيئين، ويسمى الجبل سدّا، لأنه يحجز بين ما بين يديه وما خلفه. زبر الحديد: القطع العظيمة منه.. واحدتها زبرة: كغرفة. الصّدفان: مثنىّ صدف، والصّدف جانب الجبل، ولا يقال له صدف حتى يكون فى مقابله صدف آخر.. فكأن أحدهما صادف الآخر، وقابله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 695 القطر: النحاس المذاب، لأنه يقطر كما يقطر الماء. أن يظهروه: أي أن يتسلقوه، ويركبوا ظهره، لملامسته وارتفاعه.. النقب: الثقب والخرق فى الجدار، ينفذ من جانبه إلى الجانب الآخر.. [ذو القرنين.. من هو؟ وما شأنه؟] فى الخمس عشرة آية السابقة قصّة رجل ذى شأن عجيب، بين يديه قوّى، ومعه سلطان، قلّ أن يقع مثلهما ليد إنسان.. وسمى ذا القرنين لبلوغه المشرق والمغرب، فكأنه حاز قربى الدنيا. ومن أجل هذا كانت المناسبة قوية بين قصة هذا الرجل، وبين قصة العبد الصالح.. صاحب موسى، فجاءت هذه القصة وراء قصّة العبد الصالح، تالية لها. ثم إنه- مع هذا- يوجد بين القصّتين، أكثر من وجه من وجوه الشبه.. فأولا: العبد الصالح، وذو القرنين، كلاهما ممن اختصه الله سبحانه وتعالى بشىء من فضله ورحمته.. فالله سبحانه وتعالى يقول عن العبد الصالح: «عَبْداً مِنْ عِبادِنا.. آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً» . ويقول جل شأنه فى ذى القرنين: «إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً» . والفرق بين الرجلين فيما اختصهما الله تعالى به، أن ما أصاب العبد الصالح من فضل الله، كان علما لدنّيّا، ارتقى به فوق مستوى العلم البشرى، على حين أن ما أصاب ذا القرنين كان تمكينا فى الأرض، وهداية إلى الأسباب التي تدعم هذا التمكين، وتحرسه من الآفات التي تجعل من تلك القوة الممكنة، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 696 أن تكون أداة بغى وعدوان.. فكان بهذا على مستوى من الحكمة والتدبير وحسن السياسة للملك، بما يكاد يتفرد به بين أصحاب الملك والسلطان.. وعلى هذا يمكن أن يقال: إن العبد الصالح نسيج وحده فى العلم الذي معه، وإن ذا القرنين، نسيج وحده كذلك فى دنيا الملوك والسلاطين، أصحاب الجاه والسلطان.. وثانيا: الأحداث التي اشتملت عليها كلتا القصتين.. ففى كل منهما ثلاثة أحداث، هى التي كشف عنها القرآن من أمر صاحبى القصة.. فخرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار.. هى الأحداث الثلاثة التي جرت على يد العبد الصالح.. وبلوغ مغرب الشمس، وبلوغ مشرقها، وإقامة السدّ.. هى أحداث ثلاثة، من أحداث ذى القرنين.. ثالثا: تحركات الرجلين.. كانت لكل منهما ثلاثة منطلقات.. كل منطلق إلى غاية من الغايات الثلاث، التي تولد من كل غاية منها حدث.. فالعبد الصالح، ينطلق فى كل مرّة، ومعه صاحبه موسى.. وكأن موسى هو السبب الذي كان عنه منطلقه إلى كل غاية من غاياته الثلاث: «فانطلقا» .. «فانطلقا» .. «فانطلقا» . وذو القرنين، ينطلق فى كل مرة، ومعه سبب، يتبعه سبب، حتى يبلغ غايته.. «فَأَتْبَعَ سَبَباً» .. «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً» .. «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً» ! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 697 ورابعا: أسباب العبد الصالح، تجرى على مستوى قدرى، فوق مستوى البشر.. أما أسباب ذى القرنين فتجرى على مستوى العقل البشرى، حيث يأخذ الأمور بأسبابها الظاهرة التي تبدو لعين العاقل، البصير، العالم.. ومع هذا، فإن أسباب كلّ منهما تلتقى عند نهايتها بما هو مطلوب ومحمود.. وهذا يعنى أن مستوى البشرية، يستطيع أن يرتفع بما يكتسب من العلم والمعرفة إلى حيث يجرى فى طريق مستقيم، تتكشف فيه لبصيرته مواقع الحق والخير، فلا يخطىء الغاية، ولا يضل السبيل.. وهذا يعنى من جهة أخرى أن العلم المكتسب: إذا صادف قلبا سليما، وعقلا حكيما، ونفسا مطمئنة، كان أشبه بما يفاض على الإنسان فيضا، مما يفتح الله للناس من رحمته، فضلا، وكرما، من غير كسب! ذلك أن فى الإنسان- كل إنسان- قبسة من العالم العلوىّ إذا أمدّها الإنسان بالسعي والجدّ فى تحصيل المعرفة، ونفخ فيها من روحه وعزمه، ظلت مضيئة مشرقة، ثم ازدادت مع السعى والجدّ ضياء وإشراقا.. أما إذا أهمل الإنسان هذه القبسة العلوية التي فى كيانه، ولم يمدّها من ذات نفسه بالوقود المناسب لها، خبت، ثم انطفأت وخمدت! «تساؤلات.. وتصورات» وفى أحداث القصة أمور لفتت إليها الأنظار، وأثارت كثيرا من التساؤلات، التي أدت بدورها إلى كثير من المقولات المتضاربة، الناجمة فى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 698 أكثرها عن تصورات وأوهام: دون أن يكون لها مستند من واقع، ولا قبول من عقل، ولا إجازة من منطق.. ومن هذه التساؤلات، والمقولات، ما دار حول ذى القرنين والأسباب التي معه، ومغرب الشمس ومطلعها، ويأجوج ومأجوج، والسدّ الذي أقيم دونهم.. فكل أمر من هذه الأمور أصبح قضية، كثر المتخاصمون فيها، وكثرت مدّعيات كل طرف من أطراف الخصومة عليها، بحيث كان على من يريد النظر فى أية قضية منها، أو أن يتعرف على وجه الرأى فيها- أن يستمع إلى عشرات الأقوال المتناقضة، التي يدعمها أصحابها بأحاديث تروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبآراء تستند إلى الأجلاء الأعلام من صحابة رسول الله رضوان الله عليهم، كعلىّ بن أبى طالب، وعمر بن الخطاب، وابن عباس.. وغيرهم.. ولا نريد أن نشغل أنفسنا بهذه المقولات، ما صح منها وما لم يصح.. وذلك لأمرين: أولهما: أن أية مقولة تقال فى هذه الأمور، لا تزيد من قيمتها، ولا تنقص من قدرها فى ميزان العبرة والعظة الماثلة منها.. إذ لا تعدو هذه المقولات التي قيلت أو تقال فى هذه المسميات أن تكون ذيولا وإضافات، لا تغير شيئا من ذات المسمّى.. تماما كالاسم الذي يطلق على المسمى.. إنه ليس أكثر من إشارة يشار بها إليه، أو رمز يستدل به عليه!! أما ذاته وحقيقته، فلا يؤثر فيها الاسم الذي يطلق عليها، ولا يغير من صفتها شيئا.. وثانيهما: أن هذه المقولات مبثوثة فى كتب التفاسير، والحديث، والقصص.. بحيث لا يحتاج الأمر فى الوقوف عليها عند من يهمّه أمرها، إلى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 699 كبير مشقة.. فما هى إلا أن يمد يده إلى أي كتاب منها حتى يقع على ما يريد وأكثر مما يريد! وعلى هذا، فإننا سنقتصر على إشارة دالة على كل مشخص من هذه المشخصات، حسب مفهومنا له.. فأولا: (ذو القرنين) هو الإسكندر الأكبر، ملك مقدونيا، من بارد اليونان.. والذي استطاع أن يضم بلاد اليونان كلها إلى ملكه الذي ورثه عن أبيه، ثم استطاع كذلك أن يوسع دائرة مملكته شرقا وغربا، حتى ضمّ إليه بفتوحاته معظم العالم المعمور الذي كان معروفا فى وقته.. فبلغ الصين والهند شرقا، ودارت فى فلك دولته قرطاجنة، ومصر، والشام، والعراق، وإيران، وأفغانستان، والهند، وأطراف الصين.. أما سبب امتداد ملكه جهة الشرق لا الغرب، فلأن الشرق فى ذلك الحين، كان هو مركز النشاط الإنسانى، ومطلع العلوم والفنون، والآداب، وكان هو الذي يناظر بلاد اليونان التي كانت الشعلة المضيئة فى الظلام المنعقد على أوربا فى ذلك الحين.. ولهذا كان الاحتكاك دائما فى هذه العصور الغابرة، واقعا بين بلاد اليونان، وفارس، وما بينهما.. وقد تتلمذ الإسكندر على الفيلسوف اليوناني العظيم، أو المعلم الأول «أرسطو» .. وساعده نبوغه العبقري على أن يهضم فلسفة «أرسطو» فى فترة قصيرة، وأن يتمثلها تمثيلا صحيحا، وأن يصفّيها من كلّ شائبة.. فكانت تلك الفلسفة غذاء صالحا لهذا العقل السليم المتفتح لاستقبال كل ما يمدّه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 700 بطاقات من النور، تزداد بها بصيرته نفوذا إلى أعماق الأشياء، والوصول إلى لبابها.. فالإسكندر، بذكائه وعبقريته، وباستعداده الموروث للملك والسلطان- استطاع أن يحوّل فلسفة «أرسطو» إلى واقع عملىّ، وإلى قوة منطلقة معه لتحقيق آماله الكبيرة، وبناء هذه الدولة العظيمة التي تحركت لها همته، على أساس وطيد، من العدل والإحسان.. وذو القرنين- كما يذكره القرآن- رجل مؤمن بالله، التقى فيه هذا الإيمان بطبيعة قوية، تنفى الخبث، وتعاف المنكر من الأمور، وتأبى أن تنزل إلى ما يمسّ المروءة، ويجور على الشرف والكرامة.. فكانت خطواته كلّها قائمة على طريق الحق، والعدل، والخير.. والإسكندر، أشبه الناس بذي القرنين هذا فقد كان مؤمنا بالله، وقد فتح له الطريق إلى هذا الإيمان أستاذه «أرسطو» ، الذي كان موحّدا، يقول بالصانع الأول، وبالعقل الأول، وبالمحرّك الأول، وبالسبب الأول.. إلى غير ذلك من المقولات، التي تجعل على الوجود قوة عاقلة، يدور فى فلكها كل موجود! وإذا كانت تصورات «أرسطو» لله سبحانه وتعالى يحفّها الغموض، فإنها تصورات فى صميمها، تبلغ بمن يأخذ طريقه معها على هدى وبصيرة- إلى التصوّر الصحيح لله سبحانه وتعالى.. وليس بالبعيد أن يكون «الإسكندر» قد اهتدى فى طريقه إلى الله بما لم يهتد إليه أستاذه، فآمن بإله متفرد بكل كمال، منزّه عن كل نقص.. لا يشاركه أحد فى ملكه، مما كان يقول به أستاذه، وتقول به الفلسفة اليونانية، من العقول السبعة، النابعة من العقل الأول، والعاملة معه..! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 701 وعلى أىّ، فإن ذا القرنين، سواءا كان هو الإسكندر الأكبر، أو غيره من عباد الله، فإنه على صفتين: أولهما: أنه ذو سلطان متمكن، وأنه- بما آتاه الله من عقل وحكمة، ومن ملك وسلطان- قد اجتمع له من الأسباب ما يمكّن له من الحصول على مسببات لم تجتمع ليد أحد غيره، وفى هذا يقول الله تعالى: «إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً» وليس المراد بقوله تعالى: «مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» العموم والشمول، لجميع الأشياء.. وإنما المراد به كل شىء يصلح به أمره، ويقوم عليه سلطانه.. ومثل هذا قوله تعالى على لسان الهدهد عن ملكة سبأ: «وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ» (23: النمل) ومثله قوله تعالى على لسان سليمان: «يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» (16: النمل) .. فالمراد بكل شىء فى الموضعين: ما يصلح عليه الأمر، ويتم به نظام الحياة فى المستوي الطيب الكريم.. وثانية الصفتين اللتين يتصف بهما ذو القرنين: أنه مؤمن بالله وأنه أقام هذا الملك الواسع العريض على الحق، والعدل والإحسان، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً» فهو فى هذه الآيات يخاطب من الله وحيا أو إلهاما، كما أنه فى هذه الآية أيضا يقوم داعية لله يدعو إلى الإيمان بالله.. ثم هو مؤمن بالآخرة وبالجزاء الأخروي، يأخذ الكافرين بالله بالبأساء والضراء فى الدنيا، ثم يدعهم ليلقوا فى الآخرة العذاب الشديد النّكر الذي لا تعرفه الحياة، ولا يذوق مثله الأحياء فى الدنيا.. ومما يدل على إيمانه بالله، ما تكرر على لسانه من إضافته إلى ربّه.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 702 فيقول: «ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ» .. ويقول: «هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي» .. ويقول: «فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا» . [الأسباب التي بين يدى ذى القرنين] والأسباب هى الوسائل التي يتوسل بها إلى نتائج ومسببات.. وقد تكون هذه النتائج، وتلك المسببات أسبابا إلى نتائج ومسببات.. وهكذا.. أسباب يتوسل بها إلى مسببات، ثم مسبّبات تكون وسائل يتوسل بها إلى مسببات.. ثم تكون هذه المسببات، وسائل إلى مسببات.. فى سلسلة تتصل حلقاتها، ويتكون من كل حلقة منها سلسلة من الأسباب والمسببات.. بحيث ترتبط أحداث الحياة كلها بهذه السلاسل، وتلك الحلقات، كما ترتبط بالشجرة أغصانها، وفروعها، وأوراقها. وما آتاه الله سبحانه وتعالى ذا القرنين من أسباب لكل شىء.. هى تلك الوسائل السليمة الصحيحة، المؤدّية إلى مسبّبات طيبة كريمة، قائمة على الخير والإحسان.. وقد يكون للشىء أكثر من سبب، وأكثر من وسيلة يتوسل بها إليه.. وبعض هذه الأسباب سليم كريم، وبعضها ملتو خبيث.. فالحصول على المال مثلا، يمكن أن يتوسل إليه بالعمل الجادّ، وبالكسب الحلال، كما يمكن أن يتوسّل إليه بأسباب كثيرة فاسدة، كالسّرقة، والغصب، والاحتيال، والنصب، والغشّ، والرّبا.. ونحو هذا.. وفى قوله تعالى: «وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً» إشارة إلى أن الأسباب التي وضعها الله سبحانه وتعالى فى يد ذى القرنين، وأقام نظره وقوله عليها، هى الأسباب السليمة الصحيحة المعزولة عن الأسباب الفاسدة الظالمة.. وهذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 703 هو السرّ فى النظم الذي جاء عليه النظم القرآنى، من إفراد كلمة «سبب» ، ليكون ذلك إشارة دالة على أنه سبب واحد، متخيّر من بين كل الأسباب، وأنه السبب الصالح السليم فيها، أو هو أصلح وأسلم الأسباب.. ويكون معنى النظم: «وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً» .. أي آتيناه سببا من كل شىء يعالجه، ويعمل فيه، وهو السبب الموصّل إليه على أكمل صورة وأعدلها.. وفى تنكير السبب، ما يغنى عن وصفه، إذ أن هذا التنكير يحمل فى كيانه- مع هذا الأسلوب الذي عليه النظم القرآنى- تنويها به، ورفعا لقدره، واستعلاء بمكانته بين الأسباب المتداخلة معه فى الوصول إلى الغاية المتّجه إليها.. (مغرب الشمس.. ومطلعها) تحدثت الآيات عن بلوغ ذى القرنين مغرب الشمس، ومطلع الشمس.. وأنه تحرك غربا حتى بلغ مغرب الشمس، وتحرّك شرقا حتى بلغ مطلعها.. وقد حمل ذلك كثيرا من المفسّرين على الخوض فى تحديد المكان الذي تغرب فيه الشمس، والمكان الذي تطلع منه.. وكثير من الخائضين فى هذا الأمر كانوا على علم من هذا الذي نعلمه نحن اليوم من أمر الفلك، وأن الشمس لا تغرب أبدا.. وأنها إذا غربت من أفق من آفاق الأرض كانت فى شروق على أفق آخر من آفاقها..! وإذا كان القرآن الكريم قد تحدث عن غروب الشمس وشروقها، فهو حديث منظور فيه إلى الواقع المشاهد من حياتنا، فى تعاملنا مع الشمس.. فنحن نراها تغرب وتشرق كل يوم، على الأفق الذي نعيش فيه من الأرض.. فذو القرنين، يرى- كما نرى- الشمس تغرب وتشرق كلّ يوم.. وقد ذكر القرآن الكريم وصفا للمكان الذي بلغه ذو القرنين غربا، والذي كانت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 704 تغرب فيه الشمس، على مستوى نظره: «وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ» أي أنها كانت فى نظره تسقط وتختفى عند عين حمئة: أي عين ماء فيها طين قد اسودّ كثيرا، وكأنه الحمم.. أو هى «عين حامية» كما قرىء بها.. أي شديدة الحرارة.. وكما وصف القرآن الكريم هنا طبيعة الأرض التي تغرب فيها الشمس، وصف المجتمع البشرى الذي كان يعيش هناك، فقال تعالى: «وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً، قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً» .. فهم قوم غير مؤمنين بالله.. أما مطلع الشمس، فلم يصف القرآن طبيعة الأرض التي تطلع منها، وإنما وصف طبيعة الجماعة الإنسانية كانت التي تقيم هناك.. فقال تعالى: «وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً..» أي أنهم على حال من البدائية، بحيث لا يرتفعون كثيرا عن مستوى الحيوان. فهم عراة أو شبه عراة.. لا تكنّهم بيوت مصنوعة، ولا تسترهم ثياب منسوجة.. يأوون إلى الكهوف والمغارات. ولهذا اختلف موقف ذى القرنين من الجماعة البشرية، هنا وهناك.. فالجماعة التي وجدها عند مغرب الشمس، كانت على مستوى من الفهم والإدراك، ولديها ما يؤهلها لأن تتحمل التكاليف، وتدعى إلى الإيمان بالله.. ولهذا، وقف عندها ذو القرنين، وامتثل ما أمره الله فيها بقوله سبحانه: «يا ذَا الْقَرْنَيْنِ: إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً» فكان موقف ذى القرنين هنا جامعا الأمرين معا.. «أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً» .. أما الجماعة التي وجدها عند مطلع الشمس، وهى الجماعة التي كانت فى مرحلة الطفولة الإنسانية، فقد تجاوزها، ولم يقف طويلا عندها، ولم يعرض عليها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 705 الإيمان بالله، إذ كانت بحيث لا تعقل تلك الدعوة، ولا تجد لها مفهوما، فهى- والحال كذلك- لم تبلغ مبلغ التكليف بعد، وقد تركها تعالج أمورها على ما يقع فى تصورها الطفولىّ، حتى ينضجها الزمن، ويبلغ بها مبلغ الرجال! ولا نقع فيما وقع فيه الذين سبقونا من المفسّرين من الرجم بالغيب حول تحديد المكان الذي غربت عنده، أو طلعت منه، شمس ذى القرنين.. ويكفى أن نشير إلى أنّهما لم يكونا أقصى الأرض غربا، أو أقصاها شرقا.. فقد صرّح القرآن الكريم، بأن ذا القرنين، بعد أن بلغ مطلع الشمس، جاوز هذا المكان، حتى بلغ بين السّدّين.. أي الجبلين، أو الحاجزين، إذ كان كل منهما يحجز ما وراءه عما هو أمامه.. وفى هذا يقول الله تعالى: «ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا» .. وقرىء «يَفْقَهُونَ» بضمّ الياء، وكلا القراءتين على معنى سواء، فى أن القوم ما زالوا فى درجة متأخرة من الإنسانية، وأنهم وإن ارتفعوا قليلا عن هؤلاء القوم الذين صادفهم عند مطلع الشمس إلا أنهم ما زالوا فى مرحلة الصّبا، لا يحتملون تبعات التكاليف، ولهذا كان موقفه منهم موقفا وسطا، فلم يدعهم إلى الإيمان بالله، لأنهم دون مستوى هذه الدعوة، ولم يتركهم وشأنهم، بل أخذهم بشىء من الوقاية والرعاية، حتى يرشدوا ويبلغوا مبلغ الرجال، وهم على وشك أن يبلغوه فأقام لهم هذا السدّ الذي يحميهم من عواصف الشر التي تهبّ عليهم من جيرانهم: «يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ» . (يأجوج.. ومأجوج) لم يشر القرآن إلى يأجوج ومأجوج بأكثر من هذا الوصف الذي يصفهم به جيرانهم، وأنهم مفسدون فى الأرض، وهم لهذا يطلبون من ذى القرنين أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 706 يجعل بينهم وبين هؤلاء المفسدين سدّا، يدفع عنهم عدوانهم.. «قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا» . - «إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ» .. هذا هو كل ما كشف عنه القرآن من «يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ» . ولكن يظهر أن غرابة الاسم «يأجوج» ومزاوجته مع «مأجوج» الذي يشبهه فى غرابته، قد أغرى المفسّرين، وغيرهم من أصحاب السّير بأن يخلعوا على المسمّى من الصفات الغريبة، والأوصاف العجيبة، مالا يكاد يقع لخيال الذين ألفوا ليالى «ألف ليلة وليلة» : فهم- أي يأجوج ومأجوج- بين طويل يبلغ طوله عشرات الأمتار، أو قصير لا يجاوز ذراعا! وقل مثل هذا فى أفواههم، وأسنانهم، ورءوسهم، وشعورهم، مما لا يكاد يكون إلا فى عالم الشياطين والمردة، فى تصورات الذين يتحدثون عنهما.. إن «يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ» هذين الاسمين فى غرابتهما، وازدواجهما كانا مادة خصبة لتوليد الصور الغريبة، وتأليف الروايات المختلفة، حتى يستقيم المسمّى على دلالة الاسم، وحتى لقد سمح الخيال بأن يقال: إن هذين الاسمين عربيان، وإن يأجوج، مشتق من أجيج النار، وهو هذا الصوت الرهيب الذي تشهق به النار حين يتأجج وقودها ويندلع لهيبها.. كما أن مأجوج، مشتق من الموج والاضطراب.. يقال ماج البحر: أي اضطرب وهاج..! ولعلّ أغرب ما قيل فى هذا المقام من مقولات، أن آدم كان قد احتلم، فوقعت نطفته على الأرض، وكان أن تخلّق من هذه النطفة كائن هو الأب الأكبر لهؤلاء القوم!! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 707 وهذا وكثير كثير غيره مما قيل فى يأجوج ومأجوج، هو- كما قلنا- بعيد غاية البعد عن منطوق القرآن، كما أنه بعيد غاية البعد عن الحقيقة الممكن تصورها.. فما عرف فى التاريخ البعيد، أو القريب، جماعة بشرية لها شىء من هذه الأوصاف.. وما عرف فى أبناء آدم هذا التفاوت البعيد فى الصفات الجسدية، وإن وجد بينهم تغاير فى الألوان، وفى الأخلاق والعادات، وتفاوت فى العقول والملكات.. ولكن مع هذا التغاير وذلك التفاوت- لا يبدو منهم جميعا ما يقطع نسب بعضهم عن بعض، ولا يدفع نسبة بعضهم إلى بعض.. وعلى هذا، فإنا نقول بأن «يأجوج ومأجوج» هما جماعة أو جماعات من تلك القبائل المتخلفة، التي تسكن الآجام والغابات، وتأوى إلى الكهوف والمغارات، والتي لم تبعد كثيرا عن حياة الحيوانات المتوحشة المفترسة، وتسبب كثيرا من القلق والإزعاج للجماعات القريبة منها والتي أخذت حظا من المدنية والعمران.. وحسبنا أن نذكر هنا المغول وما أحدثوا من إفساد للحضارة الإسلامية، مما لم تحدثه أعظم الزلازل، وأعتى الأوبئة وأشدها هولا وفتكا..! (السد، وما أقيم منه) كان السدّ الذي أقامه ذو القرنين، استجابة للقوم الذين لقاهم بين السدين- كان أقل أحداث هذه القصة إثارة للبحث، وتوليدا للصور والخيالات.. وذلك أن القرآن الكريم قد تحدث عن هذا السدّ بشىء من التفصيل، لم يدع لأصحاب الخيال أن ينطلقوا بخيالاتهم فيه إلى مدى بعيد.. وفى هذا يقول الله تعالى: «قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ.. فَهَلْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 708 نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا؟» . «قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً» . «آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ.. حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا.. حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً» .. هذه هى قصة إقامة «الردم» كما سماه ذو القرنين، أو «السد» كما طلبه القوم.. إن مادته من قطع الحديد، التي جمعها القوم من كل مكان. وجعلوا منها جسرا كبيرا يسدّ الفراغ الذي كان بين الجبلين، والذي كان ينفذ منه يأجوج ومأجوج إلى القوم.. وقد أمر ذو القرنين القوم أن يوقدوا على هذا الحديد، النار، وأن يستعملوا المنافيخ كى يشتدّ اشتعال النار. وينصهر الحديد.. فلما تم له ذلك، دعا القوم إلى أن يأتوا (بالقطر) وهو النحاس المذاب، فيفرغوه فوق هذا الحديد المنصهر، فيمسك بعضه ببعض، كما يفعل الملاط بأحجار البناء.. ولا شك أن الحديد لم يكن هو كل مادة البناء التي بنى بها «الردم» .. وإنما كان هو العنصر القوى فيها، بل هو كذلك العنصر الغريب غير المألوف فى البناء.. ولهذا اختص بالذكر.. وهناك الأحجار، والرمال، وغيرها مما اتخذ فى مادة البناء مع الحديد، والتي بها أمكن تسوية السدّ، وإلا لو كان السدّ حديدا حالصا لا حتاج إلى مالا تحتمله الطاقة البشرية، وخاصة فى هذا الزمن البعيد، مع تلك الوسائل البدائية المحدودة للحصول عليه.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 709 ومن تمام هذا التدبير الحكيم فى إقامة «الردم» أن يختبر، وأن يرى منه القوم ثمرة هذا الجهد العظيم الشاق الذي بذلوه فيه.. وقد رأى القوم رأى العين الأثر العظيم الذي كان لهذا «الردم» .. فقد مضت الأيام، والشهور، دون أن يطرقهم طارق من هذا الشرّ الذي كان يبغتهم مصبحين وممسين، وكذلك رغم المحاولات التي بذلها يأجوج ومأجوج، لتسلقه، أو إحداث نقب أو ثقب فيه، ينفذون منه، كما يقول تعالى: «فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً» هذا هو الذي نطق به لسان الحال، وتحدث به القوم.. وحين رأى ذو القرنين هذا قال: «هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا» . أي أن هذا الرّدم، هو رحمة من رحمة الله ساقها الله سبحانه وتعالى، إلى هؤلاء القوم على يديه.. ووعد الله هنا، قد يكون مرادا به يوم القيامة، وقد يكون مرادا به الأجل المقدور فى علم الله لبقاء هذا الرّدم.. والرأى الأول هو الأولى، إذ كانت الآية التالية لهذه تومىء إليه، وهو قوله تعالى: «وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً» .. وهذا يعنى أن هذا الرّدم قد صار أشبه بجبل من تلك الجبال المتصلة به من طرفيه، وأنه باق ما بقيت فإذا جاءت أشراط الساعة، دك هذا الردم ودكت الجبال كلها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى سورة أخرى: «وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً» (14: الحاقة) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 710 وهكذا تنتهى مسيرة ذى القرنين، يصحبه فيها عقل حكيم، وقلب سليم، متخذا إلى غاياته الأسباب المستقيمة مع العدل والإحسان.. إنه يضع فى مسيرته تلك آثار أقدام الإنسان الرشيد، المهتدى بعقله، الموقظ لضميره.. فكاد الإنسان بتحريك ملكاته، وإطلاق قوى الخير فيه- كاد- يتعادل ميزانه مع ميزان الإنسان الذي يتلقى فيوض العلم العلوي ويقيم خطواته على هديها.. وهكذا يستطيع الإنسان أن يثبت أنه كائن له إلى العالم العلوي سبيل، وأن بينه وبين الملأ الأعلى طريقا يصل ما بين الأرض والسماء..!! ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى ما بين قصة ذى القرنين، وقصة العبد الصالح من تلاق وتوافق فى أكثر من وجه.. كما أشرنا إلى ذلك من قبل.. والذي نود أن نشير إليه هنا من وجوه هذا التلاقي والتوافق، هو ما جاء فى قصة العبد الصالح من قوله لموسى، حين أراد فراقه: «سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» فلما نبأه بتأويل هذا قال له: «ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» .. وهنا فى قصة ذى القرنين يجىء قوله تعالى: «فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً» . فيجىء فعل الاستطاعة فى القصتين، بتاء المطاوعة مرة، ويجىء بغير التاء مرة أخرى.. وقد قلنا إن هذه التاء تدل على زيادة فى الشدة والقسوة، حيث يفترق بها فعل عن فعل.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 711 وهنا- فى قصة ذى القرنين- نجد نفس الشيء.. حيث أن القوم أرادوا أن يصعدوا السدّ صعودا فما «اسْتَطاعُوا» .. وأما حين أرادوا أن يحدثوا فيه نقبا فما «اسْتَطاعُوا» .. ومعالجة النقب أشدّ صعوبة من محاولة التسلق..!! الآيات: (99- 110) [سورة الكهف (18) : الآيات 99 الى 110] وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 712 التفسير: قوله تعالى: «وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً» . هو معطوف على قوله تعالى: «فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا» .. أي أنه إذا جاء الأجل الموقوت عند الله لقيام- هذا السدّ وبقائه- دكّ هذا الرّدم الذي أقامه ذو القرنين، وانطلقت جماعات يأجوج ومأجوج إلى ما كانت تنطلق إليه من قبل، ونفذت إلى هؤلاء القوم الذين احتموا من عدوانهم بهذا الردم.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ..» (96- 97: الأنبياء) . - فقوله تعالى: «وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ» يبيّن ما سيقع فى هذا اليوم، أي اليوم الذي يأذن فيه الله سبحانه وتعالى بزوال هذا السدّ من مكانه، ونهاية دوره.. ففى هذا اليوم- وهو أيام وأعوام- تتبدل معالم الأرض، وينهال هذا الردم، ويفتح السدّ فيما بين يأجوج ومأجوج، وبين الجماعات المتحضرة التي كانت فى حماية بهذا السدّ من فسادها.. وعندئذ يختلط بعضهم ببعض، ويموج بعضهم فى بعض، وتعصف بهم عواصف الشرّ والفساد حتى يفنى بعضهم بعضا. ثم بعد قليل أو كثير من الزمن، ينفخ فى الصور، فيبعث الموتى من قبورهم، ويساقون إلى المحشر، وعندئذ يرى الكافرون جهنم بارزة، يتلظى لهيبها.. كما يقول سبحانه: «وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً» (53: الكهف) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 713 - وقوله تعالى: «الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً» هو وصف كاشف لهؤلاء الكافرين، الذين عرضت عليهم جهنم عرضا تنخلع منه قلوبهم فزعا، وتمتلىء به نفوسهم رعبا.. فهؤلاء الكافرون كانوا فى غفلة عن الله، وعن دعوة الحق التي كان يحملها إليهم رسل الله.. إذ كانت أعينهم فى غطاء عن ذكر الله، فلم ينظروا فيما خلق الله فى السموات والأرض.. ثم إنهم إذ عموا عن آيات الله، ولم تتجه إليها عقولهم، ولم تتفتح لها قلوبهم- أصمّوا آذانهم عن آيات الله التي يحدثهم بها رسل الله.. - وفى قوله تعالى: «وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً» إشارة إلى ما ختم الله به على سمعهم.. فهم- والحال كذلك- مصابون بهذا الصمم عن كل ما هو حق وعدل، وخير.. أما ما كان من واردات السوء، والشرّ، فهم أسمع الناس له، وأكثرهم استجابة لندائه.. قوله تعالى: «أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ.. إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا» . المراد بالذين كفروا هنا، هم اليهود والنصارى، ومن كان على شاكلتهم، ممن ألّهوا غير الله، من عباده، كما قالت اليهود عزير ابن الله، وكما قالت النصارى، المسيح ابن الله.. فهؤلاء، وإن كانوا أهل كتاب، قد خرجوا على تعاليم كتبهم، وأفسدوا المعتقد الصحيح، الذي جاءهم به رسل الله، فاتخذوا من عباد الله آلهة، وجعلوا ولاءهم لهم، من دون الله.. وفى النظم القرآنى حذف دلّ عليه السّياق، وتقديره: أحسب الذين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 714 كفروا أن يتخذوا عبادى من دونى أولياء، ثم لا يلقون جزاء هذا العمل الفاسد الأثيم؟ كلا.. «إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا» وإذ كانوا يعملهم هذا قد دخلوا مداخل الكفر، وأصبحوا فى زمرة الكافرين، فإن جزاءهم هو جزاء الكافرين، ولا جزاء للكافرين إلّا جهنم التي جعلها الله المنزل الذي ينزلونه يوم الدّين.. قوله تعالى: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً» . الاستفهام هنا خبرى، يراد به الكشف عن المجرمين، وعن الطريق الذي ركبوه، حتى وصلوا إلى هذا الذي هم فيه من كفر وضلال. وفى سوق الخبر فى مساق الاستفهام، إثارة الانتباه إلى ما وراء هذا الاستفهام من جواب عليه.. ولو جاء الخبر مباشرا لما كان له هذا الوقع على النفس، حين تتلقاه بعد هذا الاستفهام المثير لحبّ الاستطلاع! والآيتان تقرران حكما هو: أن أخسر الناس أعمالا، وأبخسهم حظا بما عملوا، هم هؤلاء الذين يركبون الطريق المعوج، طريق الضلال، وهى فى حسابهم وتقديرهم أنها طريق خير وفلاح.. فمثل هؤلاء لا يرجى لفسادهم صلاح أبدا، إذ لا تكون منهم لفتة إلى أنفسهم، ولا نظر إلى ما هم فيه من سوء، حيث يرون أنهم على أحسن حال وأقوم سبيل! إن الذي يركب الشرّ، وهو عالم أنه على طريق الشر، لا يعيش مع نفسه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 715 فى حال من السّلم والرضا، بل يظل هكذا قلقا، مضطربا، من تلك الحال التي هو عليها.. وقد يبلغ به الأمر إلى حد يستطيع معه أن يكسر القيد الذي قيّده به ضعفه، فى مواجهة شهوات نفسه الأمارة بالسوء، وعندها يجد أنّه قادر على التحرك فى الاتجاه الصحيح الذي كان يهمّ به، ولا يستطيعه.. فما أكثر ما يعرف الناس أنهم على غير طريق الهدى، وأن ما هم فيه من ضلال، هو من واردات الضعف المستولى عليهم، وأنهم- والحال كذلك- يودّون لو كانت بهم قوة تمكن لهم من تخطى هذه الحدود التي أقامهم فيها ضعف العزيمة، وغلبة الهوى.. كما يقول الشاعر: أهمّ بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان أما من يركب الضلال، ويأتى المنكر، وهو على هذا الفهم السقيم، الذي يزين له الباطل، ويبيح له المنكر- فإنه لن ينتهى أبدا عن غيه، ولن يفيق أبدا من سكرة ضلاله.. وفى هذا يقول الحق تبارك وتعالى: «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً» (8: فاطر) ويقول سبحانه: «كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (12: يونس) . فهؤلاء الذين زين لهم سوء عملهم، فلم يروا ما هم فيه من كفر وضلال، فمضوا فى كفرهم وضلالهم، ولم يستمعوا لنصح ناصح، ولم يستجيبوا لدعوة داع يدعوهم إلى الهدى، وينذرهم بلقاء يومهم هذا- هؤلاء الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه، لن يقام لأعمالهم وزن يوم القيامة: «إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (139: الأعراف) . وفى الآيتين إشارة إلى هذا المعتقد الفاسد الذي يعتقده المعتقدون بألوهية عزير، والمسيح.. فهم- مع هذا المعتقد- على يقين بأنهم على الحق، وأنهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 716 إنما يرجعون فى معتقدهم هذا إلى نصوص من كتبهم المقدسة، التي أوّلوها هذا التأويل الفاسد، الذي أقام لهم من عباد الله آلهة يعبدونها من دون الله. - وفى قوله تعالى: «ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ» الإشارة إلى الجزاء الذي يجازى به هؤلاء الكافرون.. فاسم الإشارة مبتدأ، وجزاؤهم خبر، وجهنّم بيان لهذا الجزاء، وكأنه جواب عن سؤال هو: ما جزاؤهم هذا؟ فكان الجواب: جهنم.. وهذا الجزاء سببه كفرهم بالله، واتخاذهم آياته ورسله هزوا.. فقد استهزءوا بآيات الله التي بين أيديهم، فحرفوا وبدلوا فيها، وتأوّلوا ما أبقوا عليه منها تأويلا فاسدا.. وكما استهزءوا بآيات الله بهذا المسخ الذي غيّروا به وجوهها، استهزءوا برسل الله، إذ غيّروا وجوههم، وألبسوها أقنعة تثير الضحك والسخرية، حيث يبدو الإنسان مسخا هزيلا، وشبحا باهتا، ودخانا متصاعدا يمثل إنسانا قدماه على الأرض، ورأسه فى السماء! قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا» . فى هاتين الآيتين، عرض للصورة الكريمة، التي يكون عليها المؤمنون يوم القيامة، وللجزاء الكريم الذي يلقونه يوم الجزاء.. فعلى حين يصلى الكافرون العذاب الأليم، ينعم المؤمنون بنعيم الجنّة ورضوان الله، وفى هذا ما يزيد من حسرة الكافرين، ويضاعف من عذابهم، بالقدر الذي يزيد من نعيم المؤمنين، ويضاعف من سرورهم ورضوانهم. قوله تعالى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 717 «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» .. هو بيان لقدرة الله، ونفوذ سلطانه، وتفرده بالألوهية.. وأن كلماته، وهى التي تنفذ بها مشيئته فى خلقه، لا تنفد أبدا، يقول الحق جلّ وعلا للأمر «كُنْ فَيَكُونُ» .. وهذا يعنى دوام الأمر والخلق أبدا.. كما يقول سبحانه: «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ.. تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» (54: الأعراف) . - وقوله تعالى: «لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي» هو مثل قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ» (27: لقمان) وهذا كله تصوير لقدرة الله، وبسطة سلطانه، وقيوميته على كل شىء. قوله تعالى: «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» . بهذه الآية تختم سورة الكهف، بتقرير بشريّة الرسول، وأنه وجميع رسل الله، ليسوا إلا خلقا من خلق الله، وعبيدا من عبيده، اختصهم الله برحمته، واصطفاهم لرسالته.. وكما تقرر الآية بشريّة الرسول، تقرّر الطريق السّوىّ الذي ينبغى أن يستقيم عليه الإنسان كى يكون فى عباده الله الصالحين المؤمنين.. وهذا الطريق إنما يقوم على الإيمان بالله، وباليوم الآخر، والعمل الصالح، الذي لا يجد الإنسان غيره فى هذا اليوم، مركبا يدفع به إلى شاطىء الأمن والسلام، ويفتح له أبواب الجنة والرضوان.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 718 ويلتقى ختام السورة مع بدئها.. فى تقرير وحدانية الله، وتنزيهه عن الشريك والولد.. فقد جاء بدؤها: «لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً» وهكذا يجىء ختامها: «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» . فإذا ادعى المدّعون من أهل الكتاب، أو غيرهم، أن لله ولدا، من هؤلاء الذين اصطفاهم الله لرسالته، وآتاهم من فضله، ما زاغت به عيون الضالين، حتى حسبوا أن هذا الاصطفاء وهذا الفضل، هو لقرابة أو نسب لله- إذا ادعى المدّعون الضالون نسبة أحد إلى الله، فإن محمدا براء من هذا، وبرىء ممن يضعه بهذا الموضع.. فما هو إلّا بشر من البشر، وإنسان من الناس، وعبد من عباد الله، وأنه إذا كان يدعو الناس إلى الله بكلمات الله التي معه، فذلك من فضل الله عليه، وهذه الكلمات التي يدعو بها إنما هى وحي أوحاه الله إليه، لهداية الناس، وخيرهم وسلامتهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 719 19- سورة مريم نزولها: مكية.. وقيل إلا بعض الآيات منها فمدنية عدد آياتها: ثمان وتسعون آية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الآيات: (1- 6) [سورة مريم (19) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) التفسير: مناسبة هذه السورة لسورة الكهف قبلها، أنها اشتملت على آيات وخوارق، على نحو ما اشتملت عليه سورة الكهف، التي ضمّت على هذه الآيات العجيبة.. فى أصحاب الكهف، وفى صاحب الجنّتين، وفى موسى، والعبد الصالح.. ثم فى ذى القرنين، وما جرى على يديه!. وفى سورة مريم هذه، تعرض السورة آيات من قدرة الله، نجدها فى استجابته سبحانه لدعوة عبد من عباده هو زكريّا عليه السلام، إذ رزقه الولد على الكبر، وعلى ما كان من امرأته من عقم.. كما نجد تلك الآية العجيبة فى ميلاد المسيح- عليه السلام- من غير أب! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 720 كما نجد المناسبة أيضا: بين قوله تعالى: فى آخر سورة الكهف: «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» وبين قوله تعالى فى مطلع سورة مريم: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ ... » إلى قوله تعالى: «ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ» .. فعيسى عليه السلام، ليس إلا كلمة من كلمات الله التي لا تنفد.. كما يقول سبحانه: «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ» (171: النساء) . قوله تعالى: «كهيعص» ... بهذه الأحرف الخمسة تبدأ السورة، وهى تكاد تكون فريدة فى هذا البدء، بذلك العدد الكثير من الحروف، لا يشاركها فى هذا إلا سورة الشورى، فقد بدأت مثلها بخمسة أحرف مرتبة على هذا النحو: «حم عسق» .. وقد انفردت كل منهما بأربعة أحرف، واشتركتا معا فى حرف واحد هو العين. ولا نستطيع أن نعل لهذه الكثرة من الحروف، فذلك وجه من وجوه إعجاز القرآن الذي لا يزال سرا محجبا لم ينكشف لنا. وإن يكن قد انكشف للراسخين فى العلم، فجعلوه سرا، لم يؤذن لهم البوح به! قوله تعالى: «ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا» . - «ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ» «ذكر» خبر لمبتدأ محذوف تقديره، هذا، و «عبده» مفعول به للمصدر «ذكر» و «زكريا» بدل من «عبده» . - ومعنى «ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ» أي: هذا خبر رحمة ربك، وألطافه بعبده زكريا.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 721 - وقوله تعالى: «إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا» بيان للظرف الذي كانت فيه مهابّ أنسام هذه الرحمة ... وإذ كانت رحمة الله لا تنقطع عن عباده المؤمنين وخاصة من اصطفاهم لرسالته، فإن ذكر الرحمة، والحديث عنها فى هذا الظرف، هو لبيان مزيد هذه الرحمة ومجيئها فى صورة، تكاد- لما حملت من ألطاف- تكون رحمة خاصة تستحق الذكر والتنويه. والنداء هنا معناه: الدعاء، كما ذكر ذلك فى قوله تعالى: «هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ» (38: آل عمران) . والنداء الخفي: هو الدعاء فى سرّ، دون جهر ومعالنة.. إذ كان ذلك فيما بينه وبين ربه.. بعيدا عن أعين الناس، وأسماع الناس. وقد يكون هذا الدعاء من خواطر النفس، وأمانىّ الفؤاد. ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى، قد سمعه، وعلمه، وجعله قولا مصوّرا فى كلمات، منطوقا باللسان.. وهذا هو ما يشير إليه قوله تعالى: «قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا» . هذا هو الدعاء الذي دعا به زكريا ربه.. وقد بدأه أولا بهذا التذلل والتشكّى إلى الله.. وفى هذا الموقف، يقف العبد من ربه الموقف الذي ينبغى أن يكونه.. فهو عبد ضعيف، فقير، ذليل، بين يدى السيد القوى العزيز.. من بيده ملكوت السموات والأرض. وهكذا ينبغى أن يكون الأدب من العبد بين يدى ربه.. وبهذا يكون فى معرض من أن يؤذن له بالقرب من ربه، وأن يلقى الرضا والقبول. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 722 - «إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً» . ووهن العظم، ضعفه ودقته.. وإذا ضعف عظم الإنسان ووهى، أو شك أن ينهار بنيانه، وأن تنقض أركانه.. فهيكل الإنسان هو هذا العظم، الذي يقوم به شكله، وتتحدد به هيئته.. وقوله: «وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي» أبلغ فى الإبانة عن الضعف، وذهاب القوة، من قوله: «وهن عظمى» .. إذ أن القول الأول يشير إلى أنه لا عظم معه، بل لقد ذهب هذا العظم، وما بقي منه فإنه لا غناء فيه.. أما القول الآخر فإنه يحدّث عن أن معه عظما، وأنه لا زال يملكه ويحرص عليه.. - وقوله: «وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً» أبلغ كذلك فى الإبانة عن استيلاء الشيب على الرأس كلّه، من قوله: «واشتعل رأسى شيبا» .. فإن فى النظم الذي جاء عليه القرآن دلالة على أن هذا الرأس كائن غريب يكاد ينكره صاحبه، لأنه أصبح بهذا الشيب على صورة غير تلك الصورة التي عهده صاحبه عليه منذ عرف أن له رأسا.. فهذا الرأس كان أسود الشعر، أو أصفره.. ثم ها هو ذا يراه وقد استحال إلى بياض معتم، كرماد تخلّف من النّار! - وقوله: «وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا» استحضار لما لله سبحانه وتعالى من سوابق الإحسان، وسوابغ الفضل على هذا العبد.. فما خذله ربّه أبدا، فى أي موقف لجأ إليه فيه، وما ردّ ربه يده فارغة فى أىّ حال مدّ إليه يده فيها.. وهو فى هذه المرّة على رجاء من أن يستجاب له فى يومه، كما استجيب له فى أمسه! - وقوله: «وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا» . هنا- وبعد أن أدّى زكريّا ما يجب من الولاء لربّه، واللّجأ إلى فضله وإحسانه، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 723 وهو ما ينبغى أن يؤديه العبد لسيده ومالك أمره- هنا يبدأ زكريا يعرض حاجته، ويكشف عن الحال الداعية إلى هذا الطلب، الذي مدّ به يده إلى ربّه.. إنّه لا ولد له، والولد رغيبة تهفو إليها نفوس الآباء والأمهات، لا فرق فى هذا بين إنسان وإنسان، حيث يجد المرء فى الولد امتدادا لحياته، وروحا لروحه، وأنسا لقلبه..! وقد كان زكريا- شأنه شأن كل رجل- يرجو أن يكون له ولد من صلبه، يتلقّى عنه رسالته فى الحياة من بعده، وهاهوذا قد بلغ من الكبر عتيّا، ولم يرزق الولد، وهو يرى من أهله وقرابته، من ينتظر موته ليرث مخلّفاته، وكانوا شرار بنى إسرائيل.. فحزن لهذا، واشتدت رغبته فى الولد، ليقطع به على هؤلاء الطامعين فيه، والمتعجلين موته- آمالهم.. ولكن أنّي يكون له ولد، وقد بلغ من الكبر ما بلغ، إلى ما عليه امرأته من عقم؟ ولم يكن بين يدى زكريا إلّا هذه الخواطر، يردّدها فى صدره، ويتعزّى بها بينه وبين نفسه، ويدعو ربّه أن يجعل من هذه الخواطر، واقعا فى يده. - وفى قوله: «يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ» .. ما يسأل عنه.. وهو: كيف يطلب أن يكون له ولد يرثه، والأنبياء لا تورث.. كما فى الحديث: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث.. ما تركناه صدقة» ؟ والجواب على هذا، هو أن الميراث، هنا ليس ميراث مال، ولا متاع، وإنما هو ميراث خلافة، يقوم فيها الخلف مقام السّلف.. حيث يكون الولد وارثا لاسم أبيه، وأصلا سلسلة النسب الممتدة من الأجداد، إلى الآباء، إلى الأبناء.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 724 الآيات: (7- 15) [سورة مريم (19) : الآيات 7 الى 15] يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) التفسير: فى هذه الآيات نجد ما يأتى: أولا: قد استجاب الله لزكريا ما طلب، وهو فى مقام الدعاء لم يبرحه بعد.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى آية أخرى: «فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى» (39: آل عمران) كما يشير إلى هذا أيضا، ما جاء عليه النظم القرآنى فى هذه الآية، حيث لم تصدّر بقول، بل جاءت بمقول القول هكذا: «يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى» .. وهذا يعنى أن زكريّا كان فى مقام التخاطب مع الله سبحانه وتعالى.. فهو يدعو، والله سبحانه وتعالى يسمع ويجيب. وثانيا: أن الله سبحانه وتعالى، هو الذي اختار للولد اسمه، فسمّاه «يحيى» .. وهو اسم لم يسمّ به أحد قبله.. وفى تسميته بيحيى، إشارة إلى أنه سيبقى له ذكر مخلّد فى هذه الحياة، وأن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 725 حياته ستمتدّ بعد موته، بما يجرى على ألسنة الناس من ذكره، فى مقام الحمد والثناء..! وثالثا: أن عجب زكريّا ودهشه من أن يولد له ولد، وهو يعلم أن الله سبحانه لا يعجزه شىء، وأنه إذ يعلم هذا فقد طلب الولد، وهو فى حال لا يولد منه ومن امرأته العقيم ولد- نقول: إن عجبه ودهشه لم يكن متوجها إلى الله سبحانه وإلى قدرته، وإنّما كان عجبا ودهشا من نفسه ومن زوجه أن يكون لهما ولد، وأن يراهما الناس وقد ولد لهما بعد هذا الزمن الطويل الذي عاشاه بغير ولد.. وقد جاء قوله تعالى: «قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً» - جاء هذا القول من الله تعالى، ليسكن به قلب زكريّا الذي طارت به الفرحة، واستبدّت به المفاجأة بهذا الأمر العجيب! ورابعا: استعجل «زكريا» الإمساك بهذا الولد الذي كان حلم حياته، فأراد ألّا يخرج من هذا المقام الذي هو فيه، دون أن يكون بين يديه أثر من هذا الولد، يمسك به، ويتعلل بالحياة معه، حتى يحين مولده، ولهذا قال: «رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً» ! فهو يريد الآية التي يرى من خلالها وجه هذا الغلام، الذي طال انتظاره له.. فجاء قوله تعالى: «آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا» .. فكانت آيته أن يحبس الله لسانه عن الكلام لغير علة ثلاثة أيام، وثلاث ليال كاملة، لا يتعامل مع الناس فيها إلا بالرمز والإشارة.. وقد جعل بعض المفسّرين هذه الآية ضربا من الأدب، أو نوعا من العقوبة لزكريا، على اعتبار أن طلب الآية إنما هو لطلب اليقين من قدرة الله! وهذا فهم لا يستقيم، مع تلك النعم، وهذه الألطاف التي يفيضها الله على عبده زكريا.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 726 والفهم الذي نستربح له هنا، هو أن هذا الصوم عن الكلام إنما كان عبادة يتقرب بها زكريّا إلى الله، إزاء تلك النعمة التي أنعم الله بها عليه.. ثم هو إشارة إلى الناس الذين سيطلع عليهم زكريا بأن حدثا عجيبا سيحدث، وأنهم فى وجه معجزة، وشيكة الوقوع.. وهذا ما كان من موقف مريم حين ولدت عيسى، فقد أمرها الله سبحانه وتعالى، أن تلقى قومها صائمة عن الكلام يوما.. كما سيأتى فى هذه السورة وقد عرضنا لهذا الأمر فى سورة آل عمران.. وخامسا: فى قوله تعالى: «يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا» نداء من الله ليحيى الذي سيولد.. فهو مخاطب من الحق سبحانه وتعالى، وهو فى عالم الغيب، كما يخاطب أبوه زكريّا، وهو فى عالم الشهادة.. إن هذا الغائب الذي لم يوجد بعد، هو وهذا الحاضر الموجود، على سواء عند الله، ومع قدرة الله، وفى علم الله.. وكما يعقل الكائن الحىّ الرشيد العاقل، ما يخاطبه الله سبحانه وتعالى به، كذلك تعقل النطفة، أو ما ستتخلق منه النطفة..!! وهكذا سيكون «يحيى» على هذه الصفة التي وصفه الحق سبحانه وتعالى بها، وندبه إليها، وهو أن يأخذ الكتاب- أي التوراة بقوة أي بجدّ، واجتهاد فى تحرّى أحكامها، والاستقامة على تلك الأحكام.. وأنه سيبلغ مبلغ الرشد والكمال، وهو فى سن الصبا.. «يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا» .. والحكم هنا، هو الحكمة التي يحكم بها فى الأمور التي تعرض له.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 727 الآيات: (16- 36) [سورة مريم (19) : الآيات 16 الى 36] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 728 التفسير: هذه الآيات تحدث عن قصة مريم، وعن ميلاد المسيح عيسى ابن مريم، على تلك الصورة العجيبة، التي جاءت على غير مألوف المواليد من الأحياء فى عالم البشر خاصة. وقد ذكرت هذه القصة فى سورة آل عمران، تالية لقصة ميلاد يحيى، كما جاءت على هذا الترتيب هنا.. غير أننا إذ نكتفى بما قلنا فى تفسير الآيات الواردة عن هذه القصة فى آل عمران.. نودّ أن نفسر هنا بعض المفردات، ثم نشير إلى ما لا بد من الإشارة إليه من مضامين القصة الواردة هنا.. انتبذت: انتحت ناحية، وأخذت مكانا خاصا.. وفى التعبير عن هذا بالانتباذ، ما يشير إلى أنها كانت فى حال خاصة، تتكرّه فيها أن تختلط بالناس.. والرّوح: الملك، ويغلب أن يكون وصفا خاصا بجبريل عليه السلام.. والبغيّ: الفاجرة الزانية.. وهو من البغي والعدوان.. أجاءها المخاض: ألجأها واضطرها.. والمخاض ما يعترى المرأة وقت الولادة. والنّسى المنسيّ: الشيء التافه الذي لا يحرص أصحابه على الإمساك به، ولا يذكرونه إذا ضاع منهم.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 729 والسّرىّ: النهر الصغير، الذي يسرى فى رقة وسكون.. والسّرىّ: العظيم من الناس، المحمود فيهم.. والشيء الفرىّ: هو الغريب العجيب، الذي يجىء على غير مألوف الناس، فيفرى: أي يخرق عاداتهم.. والذي نريد أن نشير إليه من هذه القصة: أولا: قوله تعالى: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ» هو تنويه بشأنها، وذلك بإفساح مكان لها فى القرآن الكريم، تذكر فيه، مع من يذكر من عباد الله المخلصين.. وثانيا: فى سورة آل عمران، جاء قوله تعالى: «إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ» (45: آل عمران) .. فالخطاب موجه إلى مريم من جماعة من الملائكة.. وهنا فى سورة مريم يكون الخطاب بينها وبين ملك واحد: «فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا» . «قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا» .. فما وجه هذا الخلاف فى الموضعين، والقصة واحدة؟. ونقول: إن المراد بالملائكة هناك هو عالم الملائكة، الممثل فى واحد أو أكثر كما فى قوله تعالى: «الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ» (173: آل عمران) حيث يصح أن يكون القائل واحدا من الناس لا جماعة منهم.. والذي يشهد لهذا أنه حين استمعت مريم إلى ما حدثها به عالم الملائكة وأظهرت عجبا واعتراضا على ما حدّثت به- كان الذي تولى دفع هذا العجب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 730 وردّ هذا الاعتراض، ملك واحد.. كما جاء فى قوله تعالى: «قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ» (47: آل عمران) .. وثالثا: لم تشر الآيات فى آل عمران إلى أن أحدا من الملائكة قد تمثل لها فى صورة بشر، وهنا قد أشارت الآيات إلى أن «الروح» قد تمثل لها بشرا سويا.. فما جاء هنا مكمل للصورة التي جاءت هناك، شارح لها، على حين يمكن أن تستقل كل صورة بالكشف عن الحدث، دون أن يختلف وجه الحقيقة بينهما.. ورابعا: فى قوله تعالى: «فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ» إشارة إلى أن عيسى عليه السلام قد ولد ميلادا طبيعيا من رحم أمه، كما يولد غيره من الناس، وكما تلد الأمهات أبناءهن.. وأن مريم قد حملت به حملا طبيعيا، حتى إذا استوفت مدة حمله، وأحست بالمخاض لجأت إلى جذع نخلة، واستندت إليها، حتى تجد القوة على دفع الحمل من رحمها.. وخامسا: قوله تعالى: «فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا» .. اختلف فى المنادى لها: أهو ملك؟ أم وليدها الذي بدأ يتحرك إلى العالم الخارجي؟ .. والذي نأخذ به، هو أن المنادى لها، لا يكون ملكا، إذ لو كان ملكا لناداها من علوّ، وهو الجهة المتنزل منها.. وأنه إذا كان المنادى ملكا فلم يجىء إليها من تحت لا من فوق؟ وإذن فالمنادى لها هو من كان تحتها بالفعل، وهو وليدها! .. وفى حديث وليدها إليها فى هذا الوقت، ما يكشف لها عن التجربة التي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 731 ستواجه بها قومها منه، حين تدعوه إلى الكلام، فيتكلم.. ولو أن عيسى لم يكن قد تكلم إليها، وأسمعها صوته من قبل، لما وجدت الجرأة على أن تلقى قومها بالطفل، ثم تلقاهم بهذا التحدّى، وهو أن تدعوهم إلى الاستماع إليه! ومما يؤيد هذا الرأى قراءة من قرأ: «فَناداها مِنْ تَحْتِها» باعتبار «من اسم موصول» يقع فاعلا، للفعل، «نادى» .. وسادسا: فى قوله تعالى: «يا أُخْتَ هارُونَ» .. اختلف فى هرون هذا.. من يكون؟ أهو هرون النبىّ أخو موسى؟ أم هو أخ لها من أبيها؟ أم هو رجل صالح معروف بين قومها بالتقوى؟ أم هو رجل فاجر يضرب به المثل عندهم لكل من يأتى منكرا؟ والذي نأخذ به أن «هرون» هذا هو هرون النبىّ، وقد أضيفت إليه، ولم تضف إلى موسى، لأنها كانت من نسل هرون، ولأن موسى لم يعقب نسلا.. وأضيفت إليه إضافة أخوة، لا إضافة بنوّة، لأن أبناء هرون، وذريته المتعاقبة منهم لم يكونوا على حال واحدة من الاستقامة والتقوى، ففيهم الصالح، وفيهم الفاسد،.. فهى وإن كانت بنت هرون نسبا، هى أخته وصنوه استقامة وصلاحا! .. وسادسعا: قوله تعالى: «ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ما كانَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» .. هو تعقيب على القصة، وعلى ميلاد هذا المولود على تلك الصورة التي أوقعت كثيرا من الناس فى الضلال، فاتخذوا منه إلها، وجعلوه وجها من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 732 وجوه ثلاثة جعلوها لله، هى الأب، والابن، وروح القدس.. وهذا التعقيب، قد يكون على لسان عيسى عليه السّلام.. كاشفا به عن حقيقته، وأنه إن يكن قد ولد لغير أب، أو تكلّم يوم مولده، فإن ذلك لم يكن ليخرجه عن حدود البشرية، ولم يكن ليجعل له إلى الألوهية سبيلا من أي وجه، وعلى أية صفة.. وقد يكون ذلك قولا ينبغى أن يقوله كل من يستمع إلى آيات الله التي تحدّث بها القرآن، عن مولد عيسى، فيصدّق بها، وينظر من خلالها إلى جلال الله وعظمته، وتفرّده بالخلق والأمر.. فالذين يمترون فى عيسى، ويجادلون فى أمره، بين من يرميه بأنه ابن سفاح، وبين من يقول إنه إله أو ابن إله- هؤلاء الذين يمترون فيه، قد كشف لهم عيسى عن وجهه، وتحدث إليهم بلسانه.. إنه عيسى بن مريم، وذلك هو القول الحق الذي ينبغى أن يقال فيه.. فهو ابن امرأة، لم تجىء به من رجل، وإنما من نفخة تلقتها من روح الله.. وانتماؤه أولا وأخيرا إلى أمّه، التي حملت به، ووضعته وأرضعته.. أما القول بأنه ابن الله، فهو قول آثم، سفيه «ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ.. سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» ولو شاء- سبحانه- أن يخرج عيسى إلى هذه الدنيا من غير أب أو أم لما كان ذلك بالمعجز لقدرة الله.. «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (59: آل عمران) . ويكفى أن يكون آخر ما نطق به عيسى أن قال: «إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ» ويكفى أن يكون آخر ما نطق به فى مهده: «وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» - يكفى هذا ليكون شهادة تبطل كل قول يقال فيه، غير الذي نطق هو به. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 733 الآيات: (37- 40) [سورة مريم (19) : الآيات 37 الى 40] فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40) التفسير: قوله تعالى: «فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ» . الأحزاب، هم الطوائف والجماعات، التي اختلفت فى شأن المسيح، وهم اليهود والنصارى، على مختلف مذاهبهم فيه.. فاليهود، يقولون عنه إنه ابن زنى، أو إنه ابن رجل كان يخدم مع أمّه فى الهيكل، اسمه يوسف النجار.. والنصارى، يقولون: إنه ابن الله، أو إنه هو الله ذاته، يمثّل أحد أوجه الثالوث المقدس لله- كما يزعمون- وهو وجه الابن.. والفاء فى قوله تعالى: «فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ» هى فاء التفريع، التي تفيد العليّة والسببيّة، حتى لكأن دعوتهم إلى عبادة الله، واعتبار المسيح عبدا من عباده الله- لكأن هذا كان داعيا لهم، إلى أخذ هذه السبل الضالة المنحرفة.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 734 وهكذا الطباع غير السليمة، تتلقى النّصح بقلوب مريضة، تتأبّى عليه، وتأبى إلا أن تأخذ بالوجه المخالف له.. - وقوله تعالى: «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ» هو وعيد، وتهديد لهؤلاء المختلفين فى شأن المسيح، وفى النظر إليه على مستوى دون، أو فوق مستوى رسول من رسل الله.. فكل من قال فيه قولا يخرج به- صعودا، أو نزولا- عن هذا المستوي، فهو كافر، له الويل والهوان من عذاب يوم القيامة. قوله تعالى: «أَسْمِعْ بِهِمْ، وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» . - «أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا» ، هو تعجب من رفاهة سمعهم، وحدّة بصرهم، يوم القيامة. والمراد بهؤلاء المتعجّب من سمعهم وبصرهم، هم أولئك الكافرون، الذين اختلفوا فى أمر المسيح هذا الخلاف الأثيم الضالّ، فلم يسمعوا ما قيل لهم على لسان المسيح، ولم يعقلوه، ولم يكن لهم من أبصارهم وبصائرهم ما يعدل بهم عن طريق الضلال التي ركبوها، فمضوا على هذا الضلال، ودخلوا به مداخل الكفر، حتى ماتوا على ما هم عليه.. من ضلال وكفر. فهؤلاء الذين أصمّوا آذانهم، وأغمضوا أعينهم فى الدنيا، سيكونون يوم القيامة على حال من قوة السمع، وحدّة البصر، بحيث لا تفوتهم همسة، ولا تغيب عن أعينهم كبيرة أو صغيرة.. هنالك تتردد فى آذانهم أصداء ما سمعوا من آيات الله، وينكشف لأعينهم ما عموا عنه فى دنياهم من أمارات الهدى.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 735 فلا يملكون إلا الحسرة تقطّع أكبادهم، وإلا الألم ينهش صدورهم لما فاتهم من أمور كانت ترد على سمعهم، وتحتشد أمام أنظارهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» (22: ق) . - وقوله تعالى: «لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .. لكن هنا للاستدراك والتعقيب على هذا الوصف الذي يكون عليه هؤلاء الظالمون يوم القيامة.. إنهم يوم القيامة سامعون مبصرون.. لكنهم اليوم، أي اليوم الذي هم فيه فى الدنيا، فى ضلال مبين، لا يسمعون ولا يبصرون. قوله تعالى: «وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» . هو خطاب للنبى صلى الله عليه وسلم، وهو أمر له صلوات الله وسلامه عليه بأن ينذر المشركين، وأن يحذّرهم من يوم الحسرة، وهو يوم القيامة، حيث تشتد فيه حسرة الذين غفلوا عن هذا اليوم، ولم يعملوا له، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ» (27: الفرقان) . وقوله سبحانه: َوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً» (40: النبأ) . وفى توجيه الأمر بالإنذار إلى المشركين، بذكر ضميرهم، العائد على غير مذكور.. هكذا: «وَأَنْذِرْهُمْ» فى هذا إشارة إلى أنهم بعض هؤلاء الضالين الكافرين الذين ذكروا قبلهم فى قوله تعالى: «أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا» .. فأهل الضلال- أيّا كانوا- هم كيان واحد، لا خلاف بين من تقدّم منهم، أو تأخر، ولا فرق بين من يكون من هؤلاء القوم، أو أولئك..! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 736 وفى قوله تعالى: «إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» تخويف لهؤلاء المشركين. وإلفات لهم من أن تفوتهم الفرصة، ويفلت منهم العمر، قبل أن ينزعوا لباس الكفر والضلال، ويلبسوا لباس الهدى والإيمان.. قوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ» .. هو تذكير لهؤلاء المشركين، بأن ما هم فيه من شغل بمال وبنين، ومن انصراف عن الآخرة، والعمل لها- إن هذا لن يكون لهم منه شىء، إذا هم فارقوا هذه الدنيا، وأنه إذا ورثهم أبناء، وورث الأبناء أبناء.. إلى ما شاء الله، فذلك كله إلى نهاية ينتهى عندها، حيث لا وارث إلا الله سبحانه.. وحيث يحشر الناس إليه مجرّدين من كل ما كان لهم فى الدنيا من مال، وولد، وأهل، وصديق، وجاه وسلطان! الآيات: (41- 50) [سورة مريم (19) : الآيات 41 الى 50] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 737 التفسير: مناسبة قصة إبراهيم مع أبيه هنا، هى أنها تمثل للنبى صلى الله عليه وسلم صورة من الصراع الحادّ بين الإيمان والكفر، والمؤمنين والكافرين، وأن هذا الصراع قد يبلغ الحدّ الذي يفرق بين الابن وأبيه.. وإذن، فإنه ليس للنبىّ أن يأسى كثيرا على ما وقع أو سيقع بينه وبين أهله وقومه، من فرقة واختلاف، وقد جاءهم لينذرهم يوم الحسرة، ويلفتهم إلى تلك الفرصة السانحة لهم للخلاص مما هم فيه من ضلال، وإلا فالويل لهم من يوم عظيم! ومن قصة إبراهيم مع أبيه تنكشف أمور.. منها: أولا: هذا الأدب فى الخطاب، من الابن إلى أبيه.. حيث تصدّر كل دعوة من إبراهيم إلى أبيه بقوله: «يا أَبَتِ» .. وقد تكرر هذا النداء الرقيق الحبيب، أربع مرات.. وهذا، فوق أنه أدب يوجبه حقّ الأبوّة، هو أدب تقتضيه النبوة، ويقضى به الأسلوب الذي تقوم عليه دعوتها فى الناس كما يقول سبحانه وتعالى لنبيه الكريم: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 738 وانظر فى قوله: «يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا» .. كيف يدعوه باسم «الرَّحْمنِ» ويحذره مما هو فيه من منكر غليظ، لا تناله فيه رحمة الرحمن، تلك الرحمة التي وسعت كل شىء..! فإذا كان «الرحمن» لا يرحمه فى تلك الحال التي هو فيها، فكيف بالله، المنتقم، الجبار؟؟ إنه مدعوّ الآن إلى الرحمن من رب رحيم، فإذا لم ينته عن غيّه وضلاله، فإن مع هذه اليد الرحيمة، يد النقمة والبلاء حيث يصبح وإذا هو من أولياء الشيطان وأتباعه.. وليس للشيطان وأولياء الشيطان إلا الخزي والبلاء العظيم.. وثانيا: وكما هو الشأن دائما فى أهل الضلال، وأصحاب الشناعات.. إنه لا يجىء منهم إلا ما هو منكر وشنيع، من قول أو فعل.. وهذا داء مستحكم فيهم، لا يجدى معه لين، ولا تخفف من حدته عاطفة رحم وقرابة..! فها هو ذا الأب الضال العنيد، يلجّ فى ضلاله، ويستبد به كفره، فلا تندّ منه قطرة من عاطفة نحو ابنه، ولا يلقى هذا النداء الذي ينادى به بأحب اسم يسمعه الآباء من أبنائهم: «يا أَبَتِ» - لا يلقى هذا النداء عنده أذنا تصغى إليه، ولا قلبا ينفتح له.. وإذا هذا الأب الضال العنيد يرجم ابنه البار الرحيم، بهذا القول المنكر الغليظ: «يا إِبْراهِيمُ.. لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ.. وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا» ! هكذا يقولها «يا إِبْراهِيمُ» .. ولم يقل يا بنى، أو يا ولدي.. ثم يتبع ذلك بهذا التهديد: «لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ..» !! أهكذا تبلغ غلظة القلب، وعمى البصيرة، حتى تنزع من صاحبها كل عاطفة، وحتى يجد الأب اليد التي تطاوعه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 739 على رجم ابنه؟ أإلى هذا الحد ينحدر الإنسان إلى مالا يرضى به الحيوان لنفسه مع أولاده؟ ولقد أفاق الرجل من سكرة جهله، وضلاله، حين نطق بهذه الكلمة «لَأَرْجُمَنَّكَ» ورأى أن ابنه قتيل بيده، وأنه دمه يسيل فيغطى الأرض من حوله.. ومع هذا فلم تكن هذه الصحوة لتعيد إلى الرجل ما عزب من عقله، أو لتصحح ما انحرف من عاطفته، بل إن كلّ ما كان لهذه الصحوة، هى أن جعلته يذكر أنه أب قد كانت بينه وبين هذا الإنسان الذي يهمّ برجمه، شئون وشئون.. وهذا ما جعله يمسك يديه عن هذا الفعل الآثم، فيصرخ فى إبراهيم: أن أغرب عن وجهى، قبل أن يعود إلىّ جنونى، وأفتك بك!! وهذا هو سرّ العطف بين قوله تعالى: «لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ» وقوله تعالى: «وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا» الأمر الذي يشير إلى أن هنا كلاما محذوفا بين المتعاطفين، تقديره: فانج بنفسك «وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا» أي اهجرني زمنا طويلا، وليكن إلى الأبد! وانظر كيف استقبل إبراهيم هذه الثورة العاصفة المجنونة، وكيف ردّ هذا الحمق الجهول، بتلك القولة الكريمة الحانية: «سَلامٌ عَلَيْكَ.. سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي.. إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا» !! أي إن ربّى كان مكرما لى إكراما عظيما.. وكما أكرمنى ربّى، سأكرمك بالاستغفار لك وطلب المغفرة من ربّى! إنها الكلمة الجديرة بأن تكون من خليل الرحمن، الذي وصفه سبحانه وتعالى بقوله. «إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ» (75: هود) . فما يكون هذا الحلم، ولا تلك الوداعة، ولا ذلك الرفق، إلا من مثل هذا النبىّ الكريم، الذي أدّبه ربّه أدبا رفعه به إلى مقام الخليل! ويأخذ إبراهيم طريقه إلى ربّه، ويدع أباه وقومه، وما هم فيه من عمى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 740 وضلال، بعد أن دعاهم إلى الهدى فأبوا، ومدّ يده إليهم بالخير فردّوه، وتوعدوه، «وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا» .. ولن يشقى من يتجه إلى ربّه، ويبسط إليه يده، سائلا متضرعا.. وفى قوله تعالى: «فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا» . فى هذا ما يسأل عنه.. وهو: لماذا اختصّ إسحق ويعقوب بالذكر هنا، ولم يذكر إسماعيل، مع أنه الابن الأول لإبراهيم، ومع أن يعقوب ليس ابن إبراهيم، وإنما هو ابن ابنه إسحق؟ والجواب على هذا- والله أعلم- أن إسماعيل كان قد ولد لإبراهيم، وأن إبراهيم كان على يأس من الولد من امرأته «سارة» أمّ إسحق إذ كانت عقيما. فذكر إسحق، هنا، هو تذكير بتلك النعمة التي جاءت على غير انتظار، بل جاءت على يأس من أن تقع.. وهى- فى صورتها تلك- أشبه بالجزاء المعجّل على هذا البلاء العظيم، الذي كان من إبراهيم فى موقفه من أبيه ومن قومه، وهذا ما يشير إليه تقييد هذه الهبة بهذا الظرف، الذي اعتزل فيه إبراهيم قومه، وما يدعون من دون الله. كما يقول سبحانه وتعالى: «فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ» . ومن جهة أخرى، فإن ميلاد إسماعيل من أمّه هاجر، كان ميلادا من امرأة لم تحكم عليها ظواهر الأمور بالعقم.. فهو- والأمر كذلك- ميلاد طبيعىّ، يجرى على المألوف من حياة النّاس. أما ذكر يعقوب، وهو ابن الابن، وليس ابنا مباشرا، فهو إلفات إلى زيادة المنّة، ومضاعفة الإحسان، حيث يرى إبراهيم أن ولده إسحق لا يبتلى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 741 مما ابتلى به هو من تأخير الولد عنه إلى سنّ الشيخوخة، وإلى حمل نفسه على مرارة اليأس من الولد..! هذا، وسيأتى لإسماعيل ذكر خاص، فى الآيات التالية، كما سنرى.. الآيات: (51- 58) [سورة مريم (19) : الآيات 51 الى 58] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58) التفسير: فى هذه الآيات، ذكر لبعض من أنبياء الله ورسله.. هم موسى، وإسماعيل، وإدريس.. ثم هارون باعتباره نبيّا، غير رسول.. وقد وصف الله سبحانه وتعالى موسى بأنه كان مخلصا.. أي أخلصه الله سبحانه وتعالى له، واختصه بكلامه.. ثم وصفه سبحانه بأنه كان نبيا، أي يجمع بين الرسالة والنبوّة، ثم وصفه سبحانه وصفا ثالثا، بأنه نودى من الحق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 742 جلّ وعلا فقال تعالى: «وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا» أي قرب من حضرة الحق جلّ وعلا إلى حيث ناجاه، كما يناجى الخليل خليله.. كما يقول سبحانه فى آية أخرى: «وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً» (164: النساء) . وبهذه الأوصاف استحق موسى أن يقدّم على رسل وأنبياء، كانوا أسبق منه زمانا، كإسماعيل، وإدريس.. وهذا التقديم- وإن رفع من قدر موسى- لا ينقص من قدر هذين النبيين الكريمين، «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ.. مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ» (253: البقرة) . وفى قوله تعالى عن موسى: «وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا» تكريم، فوق تكريم لموسى، وأنه إذ لم يوهب له الولد، فقد وهب له نبىّ يعمل إلى جانبه، فى الرسالة التي ندب لها.. وفى قوله تعالى عن موسى أيضا: «وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا» .. تحديد للمكان الذي نودى منه موسى، وهو أنه كان بالجانب الأيمن من الطور، حين تلقى نداء الحقّ جلّ وعلا.. والجانب الأيمن من الطور، هو الجانب الغربىّ منه.. وهذا التحديد الجغرافى لمكان النداء، يشير إلى أن موسى كان قادما من مدين فى طريقه إلى مصر، وأنه فى متوجّهه هذا كان يخترق أرض الطور، التي يشرف عليها الجبل المسمى بهذا الاسم فى صحراء سيناء على ساحل البحر الأحمر.. فكان الجانب الغربي من الطور على يمين موسى، والجانب الشرقي على يساره.. وحين ناداه ربه، سمع النداء من جانبه الأيمن، وهو الجانب الغربىّ من الطور، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ» (44: القصص) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 743 قوله تعالى: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا، نَبِيًّا» .. الصفة البارزة الموصوف بها إسماعيل فى ديوان الأنبياء والمرسلين، هى، أنه «كانَ صادِقَ الْوَعْدِ» .. والوعد، هو قوله لأبيه: «يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» وذلك حين قال له أبوه: «يا بُنَيَّ.. إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى؟» (102: الصافات) .. وصدق الوعد فى أنه كان قولا صدقه العمل، فلم يكن قوله لأبيه: «يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ» مجرد قول يقال، ولكنه كان مصحوبا بنية صادقة على إمضاء هذا القول إلى غايته.. وقد تبين هذا حين جاءت ساعة التنفيذ.. فاستسلم إسماعيل لأمر ربه، وأعطى رقبته للسكين.. كما يقول سبحانه وتعالى: «فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» (103- 105: الصافات) : قوله تعالى: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا» .. إدريس عليه السلام، هو من ذرية آدم الأولين، وهو جدّ أعلى لنوح ولهذا اختصّ بالذكر لأنه ليس من الأنبياء الذين جاءوا من ذرية إبراهيم.. والذين لم يذكروا هنا كعيسى، ومحمد، عليهما الصلاة والسلام، ففى ذكر إبراهيم ذكر لهما، لأنهما من ذريته.. كإسحاق، ويعقوب، ويوسف.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 744 أما ذكر إسماعيل- وهو ابن إبراهيم- فهو تنويه خاص به، إذ كان من ذريته خاتم النبيين محمد، صلوات الله وسلامه عليه.. هذا، ولم يلحق بإدريس وصف الرسول، إلى جانب الوصف بالنبوة.. فهو- بهذا- نبى، وليس برسول.. قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا» .. الإشارة هنا «أولئك» مشار بها إلى المذكورين فى الآيات السابقة، من النبيين.. وهم موسى، وإسماعيل، وإدريس.. وهؤلاء الأنبياء الثلاثة، يمثلون الصور كلها التي جاء عليها أنبياء الله ورسله.. فموسى يمثل الأنبياء المرسلين، أصحاب الكتب السماوية، والرسالات، الخارجة عن نطاق الأهل والأسرة، إلى القوم، والأمة.. وإسماعيل.. يمثل الأنبياء المرسلين، الذين لم تكن لهم شريعة خاصة، ولم يكن بين أيديهم كتاب سماوى منزل عليهم، وكانت دعوتهم إلى الله مقصورة على آل بيتهم.. وإدريس.. يمثل الأنبياء غير المرسلين.. وهذا يكشف عن بعض السر فى أن ذكرهم فى هذه الآيات لم يجىء على حسب ترتيبهم الزمنى، بل جاء على حسب درجاتهم فى مقام النبوة.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 745 فهؤلاء الأنبياء الثلاثة، موسى، وإسماعيل، وإدريس، يمثلون وجوه النبوة، فى درجاتها الثلاث: والإشارة إليهم بأولئك، هى إشارة إلى جميع الأنبياء والمرسلين، الذين أنعم الله عليهم من النبيين! وحرف الجر «من» فى قوله تعالى: «مِنَ النَّبِيِّينَ» هو للبيان، وليس للتبعيض.. إذ أن كل النبيين، هم من الذين أنعم الله عليهم، بهذه النعمة الجليلة، التي لا تعدلها نعمة فيما أنعم الله به على عباده من نعم! وهم جميعا ممن هداهم الله، واجتباهم.. هداهم إلى الحق، والإيمان، واختصهم بنعمة النبوة والرسالة، أو النبوة وحدها. وأما حرف الجر «من» فى قوله تعالى: «من» ذرية آدم و «ممن» حملنا مع نوح.. و «من» ذرية إبراهيم وإسرائيل» - هذا الحرف فى مواضعه الثلاثة للتبعيض.. أي إن هؤلاء النبيين الذين أنعم الله عليهم هم من بعض ذرية آدم، وهم بعض من آمن مع نوح وحمل معه فى السفينة، وهم بعض ذرية إبراهيم وإسرائيل، وهو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم.. إذ ليس كل أبناء هؤلاء وذرياتهم من النبيين، ولا ممن هداهم الله واجتباهم، بل منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى فى الآية التالية لهذه الآيات وهى قوله تعالى: «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا» .. الآيات: (59- 63) [سورة مريم (19) : الآيات 59 الى 63] فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 746 التفسير: الخلف بسكون اللام، الفاسد، الضالّ من الذرية، على خلاف الخلف، بفتح اللام.. فكأن الخلف خلف يجمع بين الخلف والخلف.. وهذا من الصيغ القرآنية العجيبة، التي تزداد بها اللغة ثراء، وتزدان حسنا.. وقوله تعالى: «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا» .. هو تهديد لهؤلاء الضالين، الذين خرجوا على سنن الفطرة السليمة، كما خرجوا على واجب الولاء والطاعة لآبائهم المكرمين من عباد الله، واتبعوا الغاوين والمفسدين من الآباء.. - وفى قوله تعالى: «أَضاعُوا الصَّلاةَ» تنويه بشأن الصلاة، ورفع لقدرها إذ كانت الصلاة عماد الدين، فى كل شريعة، وكل ملة.. وقد نوه الله سبحانه وتعالى بإسماعيل عليه السلام، فجعل دعوته بالصلاة فى أهله، رسالة رسول.. «وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ» .. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 747 وقوله تعالى: «فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا» وعيد بالعاقبة السيئة التي سيؤول إليها أمر هؤلاء الضالين، الذين أضاعوا الصّلاة واتبعوا الشهوات.. والغىّ: هو الضلال.. وقد جعل فى مقام الهلاك والعذاب فى جهنم، لأن القوم كانوا غواة، وأنهم سيلقون هذا الغىّ، وسيجدونه حاضرا يوم القيامة، وبه سيردون مورد الهلاك، وبه يصلون العذاب! قوله تعالى: «إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً» .. هو استثناء منقطع، و «إلّا» بمعنى «لكن» .. وبهذا الاستثناء يفتح باب النجاة من هذا المهوى الذي هوى فيه الضالون إلى جهنم.. فمن دخل هذا الباب، وتاب عما هو فيه من منكرات وضلالات، وصحّح إيمانه بالله، فهو من عباد الله، الذين سيلقاهم فى الآخرة برضوانه، وبجنات لهم فيها نعيم مقيم.. «فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً..» وقوله تعالى: «جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا» . هو بيان للجنّة، التي ذكرها الله سبحانه وتعالى فى قوله: «فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ» فهى فى سعتها جنات، وإن كانت جنّة واحدة.. وهى جنات عدن، أي خلود وإقامة، لا يتحول عنها أهلها أبدا، وهى التي كانت وعدا تلقّاه المؤمنون بالله من ربّهم فى الدنيا، فآمنوا بهذا الوعد على الغيب، دون أن يروه، وقبل أن يتحققوا منه عيانا.. إنه إيمان بالله، وبكل كلمات الله.. فهو إن يكن وعدا، فإنه حاضر فى يقين المؤمنين، وهم بهذا الوعد أوثق مما فى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 748 أيديهم.. «إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا» أي آتيا، أو يؤتى إليه الموعودون به.. لا يتخلّف أبدا.. إن لم يجئهم جاءوا هم إليه. وقوله تعالى: «لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا» . هو وصف لهذه الجنة، أو تلك الجنات، وأن أهلها فى أمن وسلام، لا يسمعون فيها كلمة لاغية عابثة، فإن اللغو والعبث هو شغل الفارغين التافهين أما أصحاب الجنة فهم كما وصفهم سبحانه وتعالى: «فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ» (55: يس) وشغلهم هو هذا النعيم الذي يملأ كل لحظة من لحظات وجودهم.. و «إلا» فى قوله تعالى: «إِلَّا سَلاماً» بمعنى لكن، أي لا يسمعون لغوا، ولكن يسمعون سلاما.. - وفى قوله تعالى: «وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا» إشارة إلى أن أهل الجنّة قد تركوا وما هم فيه من نعيم الجنّة، يطعمون منه، وإنما هم مع هذا محفوفون برعاية الله، آخذون من عطائه، الذي يلقاهم به بكرة وعشيّا.. فكل ما يناله أهل الجنة من صنوف النعيم، هو رزق من رزق الله، المجدّد عليهم، حالا بعد حال.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً» (25: البقرة) .. قوله تعالى: «تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا» . الإشارة هنا تنويه بالجنة، التي ذكرت بأوصافها، وأوصاف أهلها فى الآية السابقة.. فهذه الجنّة المشار إليها هنا، هى الجنة السابقة، والتقدير تلك هى الجنّة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 749 التي جعلها الله سبحانه وتعالى ميراثا لمن كان تقيّا من عباده، أي مؤمنا به، مستقيما على أوامر شريعته ونواهيها. فيأتى ما أمر الله به، ويجتنب ما نهى الله عنه.. وفى التعبير عن دخول الجنة بالميراث، إشارة إلى أن أهلها ممكّنون من كل نعيم فيها، يتصرفون فيه كيف يشاءون، كتصرف الوارث فيما ورث.. لا يبخل على نفسه بشىء منه، إذ كان ذلك الميراث من غير كسبه، بل جاءه صفوا عفوا.. والجنة، هى ميراث للمتقين، لم يكن نزولهم منازلها إلا برضوان الله، ورحمته.. وإلا فإن ما عملوه فى دنياهم من طاعات وما قدموه من صالح الأعمال، لا يؤهّلهم لدخولها.. كما يشير إلى ذلك الحديث الشريف: «لا يدخل أحدكم الجنة بعمله، قيل ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلّا أن يتغمّدنى الله برحمته» .. الآيات: (64- 70) [سورة مريم (19) : الآيات 64 الى 70] وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 750 التفسير: قوله تعالى: «وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا» .. ضمير المتكلم فى قوله تعالى: «وَما نَتَنَزَّلُ» يعود إلى الملائكة، المأمورين من قبل الحقّ سبحانه وتعالى بما يتكلفون به من تصاريف فى العالم الأرضى.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» (4: القدر) . والمتحدث عن الملائكة هنا هو جبريل عليه السلام، إذ كان هو الملك الموكّل بالاتّصال بين الله سبحانه وتعالى وبين رسله الكرام، والمأذون له بالحديث إليهم. أما غيره من الملائكة فلهم شئون أخرى.. وقيل فى سبب نزول هذه الآية، أن الوحى قد احتبس عن النبىّ صلى الله عليه وسلم مدة، حتى وجد الوحشة فى نفسه، وحتى لقد قالت قريش إن ربّ محمد ودّعه وقلاه.. وإلى هذا يشير قوله تعالى: «وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى» . ومناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآيات السابقة ذكرت الأنبياء والرسل، وهم الذين أنعم الله عليهم من عباده بالرسالة، واختصهم بالنبوّة.. وإذ كان الملائكة هم السفراء بين الله سبحانه وتعالى وبين رسله، فإنه فى هذا المقام قد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 751 يقع فى تصوّر بعض المشركين أن يتنزّل عليهم الوحى وأنّهم إذا عبدوا الملائكة أو تقربوا إليهم، قد يكون لهم ما كان لهؤلاء الأنبياء، ومنهم محمد صلوات الله وسلامه عليه، الذي يحدّث قريشا بأنه يوحى إليه من ربه! - فكان قوله تعالى: «وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ» قطعا لهذه الأمانىّ الباطلة، التي يمنّى بها بعض المشركين أنفسهم، حتى لقد قالوا ما حكاه القرآن عنهم: «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» (31: الزخرف) وما حكاه عنهم فى قوله سبحانه: «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ» (21: الفرقان) . وقوله تعالى: «لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ» إقرار من الملائكة بما لله سبحانه وتعالى من سلطان مطلق، لا يملك أحد معه شيئا، حتى أقرب المقربين إليه، وهم الملائكة.. إن الله سبحانه وتعالى يملكهم، ويملك كل ما يعملون فيه.. فى ماضى أمرهم، ومستقبله، وما بين ماضيه ومستقبله.. - وقوله تعالى: «وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا» هو مما أعلته الملائكة عن علمه سبحانه وتعالى وقدرته.. وأنه جلّ شأنه لم يكن عن نسيان منه، هذا التأخير فيما يوحى به إليك أيها النبىّ.. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.. وإن هذا التأخير لحكمة يعلمها الله، وعن تقدير قدّره.. قوله تعالى: «رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ.. هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا» .. هو عرض لبعض قدرة الله، وبسطة سلطانه.. وأنه سبحانه ربّ السموات والأرض وما بينهما، وما فيهما من عوالم ومخلوقات.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 752 ولهذا فهو وحده- سبحانه- المستحقّ للعبادة.. «فَاعْبُدْهُ» أيها النّبىّ «وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ» أي وطّن نفسك على العبادة وحمل أعبائها.. فهى تكاليف، لا يقوم بها على الوجه الأكمل إلا من راض نفسه على الصبر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ» (45: البقرة) .. وما يشير إليه قوله تعالى: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها» (132: طه) . وقوله تعالى: «هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا» استفهام يراد به نفى الشبيه والمثيل لله سبحانه وتعالى.. والسّمىّ، هو الذات المسماة باسم من أسماء الألوهية، مثل الرّبّ، والإله.. ونحو هذا، فهذا المسمّى وإن أخذ الاسم فإن هذا الاسم، لا يعطيه شيئا مما لله سبحانه وتعالى، من قدرة، وعلم، وحكمة، وإحياء، وإماتة وغير هذا مما تفرّد به المولى، جلّ وعلا.. قوله تعالى: «وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا» .. هو إنكار لهذا القول المنكر الذي يقوله الذين لا يؤمنون بالبعث، وهو استبعادهم أن يبعث الموتى، بعد أن تبلى أجسادهم، وتحلل وتصير ترابا.. والإنسان هنا ليس إنسانا بعينه، وإنما هو جنس للإنسان، يدخل فيه كل من يقول هذا القول، ويعتقده.. وقوله تعالى: «أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً» .. هو ردّ على هذا الإنسان الذي يمثل الإنسانية الضالة المنكرة للبعث، التي يقال على لسانها هذا القول: «أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا؟» أفلا يذكر هذا الإنسان كيف كان خلقه؟ ثم ألا يذكر أين كان هو قبل أن يولد؟ لقد كان عدما، لا وجود له، ثم صار هذا الكائن الذي يقف من ربّه موقف المحادّ المحارب؟ ثم لينظر هذا الإنسان: أخلق مخلوق من عدم.. أهون، أم خلق مخلوق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 753 من بقايا مخلوق؟ لينظر فى هذه القضية على مستواه البشرىّ، وسيرى أن إيجاد شىء من عدم مستحيل استحالة مطلقة، أما إيجاد شىء من حطام شىء، فهو واقع فى حدود الإمكان، المتاح للإنسان..!! فإذا كان ذلك كذلك فى حدود الإنسان، المخلوق، الضعيف.. أفيعجز الله القادر القوىّ، الذي خلق الإنسان من عدم- أن يعيد هذا الإنسان مرة أخرى، بعد أن يرجعه إلى العدم، أو ما يشبه العدم؟ .. «وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا.. وَنَسِيَ خَلْقَهُ.. قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ.. وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» (78- 79: يس) .. قوله تعالى: «فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا..» الخطاب هنا للنبىّ، صلوات الله وسلامه عليه، وفى القسم له بربّه وإضافته إلى ربّه، تكريم عظيم له، واستدناء له من ربّه، وإفضاء إليه بهذا الخبر، الذي يردع الظالمين ويفزعهم.. فهؤلاء المشركون، الضالون، المكذبون بيوم الدّين، سيحشرون مع الشياطين، حشرا واحدا، يجمع بينهم.. إذ كانوا على شاكلة واحدة.. ثم هم بعد هذا الحشر مدعرون إلى جهنم، يساقون إليها سوقا، ويجتمعون حولها، جاثين على ركبهم، فى هوان وذلة، حيث يشهدون بأعينهم المنزل الذي سينزلونه منها! قوله تعالى: «ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا» .. ننزعن: نخرجنّ، والنزع إخراج الشيء بشدة وقوة، وقهر. والشيعة: الجماعة على رأى واحد، يلتقون عنده، ويتناصرون عليه.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 754 والعتىّ: العتو، والمشاقّة، والخلاف القائم على الظلم.. والصّلىّ: الاصطلاء بالنار والقرب منها، والمراد به هنا: الاحتراق بها.. والآيتان تصوران بعض مشاهد القيامة، وما يقع للظالمين، والضالين، من أهوال فى هذا اليوم العظيم.. ففى هذا اليوم يحضر المجرمون جميعا، حول جهنّم، جاثين على ركبهم، حيث لا يستطيعون القيام على أرجلهم، مما أصابهم من هول، انحلّت به عزائمهم، وانهدّت منه قواهم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ» (45: الذاريات) .. ثم إذا اجتمع جمع هؤلاء المجرمين حول جهنم، انتزع من بينهم أئمة الضلال فيهم، وقادة الكفر منهم، ثم يلقى بهم فى جهنم، حيث يشهد أتباعهم بأعينهم ما يلقون من بلاء، سيلقونه هم عما قليل، وحيث يرى هؤلاء الأئمة أن زعامتهم وإمامتهم فى الدنيا، لم تكن إلّا وبالا عليهم، وأن أتباعهم أحسن حالا منهم، وأن مواقع الضّلال والفتن، وإن كانت كلها سوءا ووبالا، فإن المتأخر فيها خير من المتقدم، والتابع أدنى إلى السلامة من المتبوع.. وفى المثل: «كن فى الفتنة ذنبا» ! - وفى قوله تعالى: «أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا» - فى هذا ما يسأل عنه.. وهو: لم عدّى المصدر «عتىّ» بحرف الجرّ «على» الذي يفيد الاستعلاء.. بمعنى «أيهم أشد عتيّا على الرحمن» .. وكان يمكن أن يكون النظم هكذا: «أيهم أشد للرحمن عتيّا» بتعدية المصدر بحرف الجرّ «اللام» الذي يفيد الملك، ثم التفلّت من هذا الملك!! فما سرّ هذا؟ نقول: - والله أعلم- إنّ ذكر الصفة الكريمة «الرحمن» هنا، دون صفات المولى جلّ وعلا، كالقوىّ والعزيز، والقادر- إن هذا يشير إلى شناعة هذا الجرم الذي يتلبس به المجرمون، ويتخذون به موقفا معاديا، ومحاربا، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 755 لأرحم الراحمين، الذي لو شاء لمسخهم قردة وخنازير، ولو شاء لرماهم بكل داء، ولأخذ سمعهم، وأبصارهم، وسلط عليهم من الأوبئة ما يجعل أنفاسهم تتقطع أنينا وصراخا.. إلى غير ذلك مما فى قدرة الله، ومما رأوا منه مارأوا فى بعض الناس منهم.. فهؤلاء المجرمون- وتلك رحمة الله بهم- يخرجون عن طاعة الرحمن، بل ويحاربونه، بل ويستعلون على الولاء له، والانقياد لأمره.. والصّورة تمثل معركة بين هؤلاء العتاة المجرمين، وبين رحمة الله.. حيث تدعوهم الرحمة إلى رحابها، وتفسح لهم الطريق إليها، وهم يتأبّون عليها، ويتفلّتون منها.. فهم فى هذا أشبه بالمغالبين لرحمة الله، وهذا أسوأ ما يمكن أن تكون عليه حال إنسان.. من شقاء غليظ، لا تنفذ إليه فيه بارقة من رجاء فى عافية، أو خروج من بلاء..! الآيات: (71- 72) [سورة مريم (19) : الآيات 71 الى 72] وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) التفسير: قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» . [جهنم.. هل يردها الناس جميعا؟] الضمير فى واردها يعود إلى جهنم، المذكورة فى قوله تعالى: «ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا» .. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 756 أمّا الضمير فى «منكم» فقد اختلف فيه ويكاد إجماع المفسّرين ينعقد على أن المراد به الناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم.. بمعنى أن كلّ إنسان، حتى الأنبياء، والرسل، سيردون النار ويمرّون بها، ويشهدون أهوالها، دون أن يصيبهم منها أذى، بل ستكون بردا، وسلاما عليهم.. ويأتون على هذا الرأى بأحاديث، وأقوال تشهد له!! ثم يقوى من هذا الرأى عندهم قوله تعالى: «ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» ! ثم هم- من جهة أخرى- يدفعون ما قد يثور فى النفس من تخوّف على المؤمنين من هذه التجربة التي يمرّون بها، والتي إن سلمت منها أجسامهم، فلن تسلم منها مشاعرهم- هم يدفعون هذا، بأن المؤمنين حين يمرّون بجهنم، ثم يخلصون منها إلى الجنة، يشهدون عظمة النعمة وجلالها، التي أنعم الله بها عليهم، إذ عافاهم من هذا البلاء العظيم، الذي رأوه رأى العين!! ونحن نردّ هذا القول، ونأخذ بما هو أولى وأكرم بكرم الله، وفضله، وقدرته على إبلاغ نعمته إلى عباده المخلصين، خالصة من كل شائبة أو كدر! فنقول: إن الضمير فى «منكم» يعود إلى هؤلاء المجرمين الذين سيقوا إلى جهنم، واجتمعوا حولها جاثين على ركبهم، لم يدخلوها بعد.. ثم ينتزع من بينهم أئمتهم، وقادة الضلال والكفر فيهم، فيلقى بهم فى جهنم.. كما جاء فى قوله تعالى: «ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا» . وإلى هنا لم يكن قد انكشف أمر الأتباع، المتعلقين بهؤلاء الأئمة.. فجاء قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها» ليكشف لهؤلاء الأتباع عن مصيرهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 757 وأنهم مأخوذون بما أخذ به هؤلاء القادة الذين سبقوهم إلى جهنم! «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها.. كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا» أي أمرا قضى به الله سبحانه وتعالى على الظالمين، من الكافرين، والمشركين، وأصحاب الضلالات أن يردوا جهنم، وأن يقفوا على هذا المورد الوبيل، كما يقول سبحانه وتعالى: «إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً» (140: النساء) وكما يقول جل شأنه: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» (119: هود) وكما يقول سبحانه: «إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ» (98: الأنبياء) .. فجهنم هى الحكم الذي قضى به الحق جل وعلا على أهل الشّقوة من الناس.. ثم إنه ليس يصحّ أن يكون من تكريم المؤمنين فى هذا اليوم، وعلى رأسهم الأنبياء، والرسل والصديقون، والأولياء، والأبرار، والشهداء- ليس يصح أن يكون من مظاهر تكريمهم أن يدخلوا فى هذه التجربة القاسية، وأن يردوا هذا المورد الجهنمى، وهم إنما سعوا إلى الله، وأحبّوا لقاءه، ليخلصوا من أكدار الدنيا.. فهل مما يقع فى التصور أن يكون أول ما يلقونه فى الآخرة، هو هذا الوجه الكريه المشئوم منها، وهو جهنم؟ وكيف يرد المؤمنون وعلى رأسهم الأنبياء والرسل، هذا المورد الذي لا يرده إلّا الخاطئون، والذي يصفه الحق تبارك وتعالى بقوله عن فرعون: «يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ» (98: هود) ؟ ثم كيف، والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 758 لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» (101- 103: الأنبياء) فهذا صريح قول الله تعالى، فيما يلقى المؤمنون الذين سبقت لهم من الله الحسنى، من كرامة، وتكريم، فى هذا اليوم، إنهم مبعدون عن جهنم، لا يسمعون حسيسها.. فكيف يردونها؟ ثم كيف يدخلونها؟ إنه على أي حال دخول فى محيط هذا البلاء العظيم، وإن خرجوا منه من غير أن يصيبهم من لظاها أذى! والمثل يقول: «حسبك من شرّ سماعه» فكيف بلقائه، والانغماس فيه؟ - أما قوله تعالى: «ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» .. فهو معطوف على قوله تعالى: «فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا» .. فهذه الآيات تصور موقف الضالين والكافرين يوم القيامة، وما يلقون من بلاء وهوان، وأنهم جميعا واردون جهنم على دفعات.. الرؤساء أولا.. ثم المرءوسون ثانيا.. - وفى قوله تعالى: «ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» بيان لما يكون للمتقين، ولعباد الله المكرمين فى هذا اليوم من تكريم، حيث يفوزون بالنجاة من هول هذا اليوم، ومن عذابه الأليم.. كما يقول سبحانه «فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ، وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً» (11: الإنسان) .. أما أهل الشّقوة فيتركون على ما هم فيه من بلاء وضنك، ونكال، حيث يشهدون بأعينهم هذا الركب الميمون، تزفه ملائكة الرحمن، إلى جنات النعيم، وإلى ما يرزقون فيها من كل طيب وكريم.. وتقديم الفصل هنا فى أمر أصحاب النار، على الفصل فى أصحاب الجنة، هو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 759 الذي تجىء عليه أحداث القيامة يومئذ، حيث يؤتى بالمجرمين أولا. ثم يقضى فيهم بدخول النار.. ثم يجاء بالمؤمنين فيقضى فيهم بدخول الجنة.. وحكمة هذا، هى أن يعجل لأهل النار بالنار، حتى تنقطع آمالهم من أول الأمر، بأن لا مكان لهم فى الجنة، وأن لا مطمع لهم فى أن يكونوا من الناجين، وذلك مما لا يتحقق، لو بدىء بالفصل فى أصحاب الجنة، حيث يعيش المجرمون لحظات تداعبهم فيها الآمال، وتتحرك فى نفوسهم الأطماع أنهم قد يكونون فى هؤلاء الآخذين طريقهم إلى الجنة، وأن دورهم لم يأت بعد، كما يقول سبحانه: «وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ.. وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ.. لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ» (46: الأعراف) . وفى تقديم الفصل فى أصحاب النار على الفصل فى أصحاب الجنة، جاء قوله تعالى: «وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً..» (69- 73: الزمر) . وجاء قوله تعالى أيضا: «يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 760 مَجْذُوذٍ» (105- 108: هود) . هذا ويمكن أن تؤوّل الآية الكريمة على وجه آخر، وهو أن قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها» يراد به أهل النار جميعا، على اختلاف حظوظهم السيئة منها.. سواء فى هذا من يخلدون فى النار من الكافرين والمشركين والمنافقين، أو من كان من المؤمنين، أصحاب الكبائر والصغائر.. ثم يجىء قوله تعالى بعد ذلك: «ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا» محتملا أن يراد به بعض أهل النار، وهم أولئك المؤمنون من أصحاب المنكرات.. فهؤلاء- لا شك- غير مخلدين فى النار، وإنما هم فيها أشبه بالمسجونين سجنا مؤقتا، سيخرجون منه حتما بعد استيفاء المدة المحكوم على كل واحد منهم بها.. ثم بعد هذا قوله تعالى: «وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» مبينا المصير الذي يعيش فيه الظالمون من الكافرين، والمشركين، والمنافقين، بعد أن انكشف المصير الذي صار إليه من كانوا معهم فى النار من عصاة المؤمنين.. الآيات: (73- 76) [سورة مريم (19) : الآيات 73 الى 76] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 761 التفسير: بعد أن عرضت الآيات السابقة جهنم وأهوالها، وعرض أهل الضلال عليها، ثم إلقاءهم فيها.. جاءت هذه الآيات بعد ذلك لترد هؤلاء الضالين إلى الحياة التي كانوا فيها، بعد هذه الرحلة المرهقة التي رأوا فيها جهنم عيانا، وطلع عليهم من أنفاسها الملتهبة ما يكظم منهم الأنفاس، ويشوى الوجوه.. جاءت هذه الآيات، لتعرض هؤلاء الضالين المشركين، بعد تلك التجربة، لترى أثرها فيهم، وفى موقفهم من الدعوة إلى الإيمان بالله، والاستجابة لرسول الله- وإذا هم على غيّهم وضلالهم: «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ» أي واضحات مشرقات: «قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ» نحن أم هؤلاء الذين مع محمد..؟ أي الفريقين منا ومنهم «خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا» أي خير حياة، وخير تمكنا من هذه الحياة، وأحسن مظهرا، حيث يضمنا نادينا، وحيث يجتمعون هم إلى محمد؟ إننا فى نعمة ظاهرة، وفى حياة رافهة، وفى مجالس عامرة بسادة القوم، ووجوه الناس.. وهم بين عبيد أرقاء، وبين فقراء لا وزن لهم فى الناس، ولا مكانة لهم فى المجتمع.. واللام فى قوله تعالى: «قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا» : إما أن تكون لام التعدية، وعلى هذا يكون القول من الذين كفروا موجها إلى الذين آمنوا.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 762 وإما أن تكون متعلقا بمحذوف، تقديره «محقّررين» أو «كائدين» للذين آمنوا.. أي قال الذين كفروا محقرين للذين آمنوا: أي الفريقين خير مقاما..؟ - وفى قوله تعالى: «وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً..» تهديد لهؤلاء المشركين، وتسفيه لجهلهم وضلالهم، إذ تمسكوا بهذه الدنيا وجعلوا كل وجودهم لها- فهؤلاء الضالون لن يخلدوا فى هذه الدنيا، ولن ينفعهم ما جمعوا من مال، وما استكثروا من بنين.. إنهم هالكون لا محالة، طال الزمن بهم أم قصر.. فإن شكّوا فى هذا، فلينظروا فى الأمم التي خلت من قبلهم، وما كان بين هذه الأمم من أصحاب أموال، ورياسات.. كانوا أكثر منهم مالا ومتاعا، وأبهى منظرا، وأعظم جاها وسلطانا.. فأين هؤلاء؟ لقد هلكوا فيمن هلك.. وسيهلك هؤلاء المشركون- سادة ومسودين- ولن تبقى منهم باقية!. قوله تعالى: «قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا» . أي من كان على تلك الحال من الاستغراق فى الضلالة، واستهلاك وجوده فيها، فإنه لن يرجع عن ضلالته، ولن يستمع لنصح ناصح، أو عظة واعظ.. وإذن «فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا» وليترك له الطريق مفتوحا إلى غايات الضلال، فلا يضيّق الله عليه فى الرزق، ولا يبتليه بشىء فى نفسه أو ولده، حتى لا ينصرف عن هذا الضلال، الذي هو غارق فيه.. كما يقول سبحانه: «أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ» هو تكريم لهم، وإحسان منا إليهم؟ كلا.. ولكن «نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ» (55- 56: المؤمنون) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 763 - وفى قوله تعالى: «مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ» إشارة إلى أنه مستغرق فيها، وأن الضلالة ظرف قد احتواه، واشتمل عليه، فلا مخرج له منه.. وفى فعل الأمر: «فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا» إشعار بأن هذا قضاء قضاه الله سبحانه وتعالى فى أهل الضلال، وأوجبه جل شأنه على نفسه، كما أوجب رحمته لمن سبقت لهم من الله الحسنى.. فكأن ذلك أمر تقتضيه حكمة الله من الله..! وفى إسناد فعل الأمر إلى «الرحمن» إشارة أخرى إلى أن هذا المدّ من الله سبحانه وتعالى للمشركين إنما هو- مع ما فيه من خذلان لهم- محفوف بالرحمة، إذ لو شاء الله سبحانه، لأخذهم بذنوبهم، ولعجّل الله العذاب فى الدنيا، ولما أمهلهم تلك الفسحة من العمر، ليكون لهم فيها نظر إلى أنفسهم، وعودة إلى الله.. «حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً» .. حتى حرف غاية إلى هذا المد الذي يمده الله للمشركين، وأنه منته بهم إلى أمرين: إما العذاب فى الدنيا، بمهلكة يصبّها الله سبحانه عليهم، ويأخذهم بها، أو بالهزيمة والخزي على أيدى المؤمنين، فيما سيكون بينهم وبين المسلمين من قتال، كما يقول سبحانه: «قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا» (52: التوبة) . وإما عذاب الآخرة.. فإنهم إن أفلتوا فى الدنيا من هذا العذاب أو ذاك، فإنهم لن يفلتوا من عذاب الآخرة الذي ينتظرهم، كما يقول سبحانه: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 764 «أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ» (44- 48: القمر) . وعندئذ، سيعلم هؤلاء الضالون: «مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً» وسيرون أىّ الفريقين «خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا؟» قوله تعالى: «وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا» . هو بيان لما يلقى المؤمنون المهتدون من إحسان الله سبحانه إليهم، وألطافه بهم.. إنه سيمدهم فى الدنيا بالهدى، ويزيدهم فلاحا إلى فلاح، وإيمانا مع إيمان، على حين يخذل الله سبحانه المشركين، ويمدّ لهم فى الغى والضلال.. - وفى قوله تعالى: «وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا» تعقيب على ما للأعمال الصالحة من آثار طيبة، تثمر لأهلها ثمرا طيبا.. إنهم غرسوا فى مغارس الخير، وقد بارك الله عليهم فيما غرسوا، وحرسه لهم من الآفات والمهلكات، وها هم أولاء وقد نضج الزرع، وطاب الثمر.! والمردّ: المرجع، والمآل، والعاقبة.. الآيات: (77- 87) [سورة مريم (19) : الآيات 77 الى 87] أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 765 التفسير: قوله تعالى: «أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً» .. الاستفهام هنا للتعجب، والمخاطب هو النبي، صلى الله عليه وسلم، ثم هو خطاب لكل من هو أهل للخطاب.. والتعجب، والعجب، هو من أمر هذا الذي كفر بآيات الله، ولم يؤمن بأن لهذا الوجود إلها خالقا، وربّا قائما على ما خلق- ومع هذا الإنكار لله من هذا الكافر الجهول، يقسم بأنه سيؤتى فى الآخرة- إن كانت هناك آخرة- سيؤتى مالا وولدا، كما أوتى فى هذه الدنيا، الكثير من المال والولد! هكذا يذهب الشيطان بأوليائه، تلك المذاهب البعيدة فى الضلال، ويقيم لهم حججا من الوهم والخيال، فهم كافرون بالله، إذا لم تكن هناك آخرة.. وإذن لا خسران عليهم من هذا الكفر.. وهم مؤمنون بالله إن كانت هناك آخرة، وإذن فلن يفوتهم حظهم الكبير إن كان للناس هناك حظوظ من مال وبنين!! «كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (12: يونس) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 766 قيل إن هذه الآية نزلت فى بعض مشركى قريش، ولم يتفق المفسّرون على واحد بعينه، قيل فيه هذا القول.. وهذه الروايات المتعارضة المتضاربة فى أسباب النزول، تدعونا إلى أن نسقط هذه الآراء جميعها، ولا نأخذ بواحد منها، إذ أن ذلك يعد ترجيحا بلا مرجّح! والذي نطمئن إليه، هو أن الآية تشير إلى الرجل صاحب الجنتين، الذي جاء ذكره فى سورة الكهف، فى قوله تعالى: «وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً» .. (36: الكهف) . فالآية إلفات إلى قصة هذا الرجل، وقد سمعها المشركون من قبل، فيما كان يتلوه النبىّ عليهم من آيات ربّه.. وهذا يعنى أن سورة مريم، قد نزلت متأخرة عن سورة الكهف. قوله تعالى: «أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً» . هو استفهام إنكارى، ينكر فيه على هذا المتألّى على الله.. الكافر به، هذا الادعاء الذي يدعيه، وأنه سيؤتى يوم القيامة مالا وولدا.. مثل ما أوتى فى الدنيا المال والولد.. فهل اطّلع الغيب، وقرأ ما سطر له فى علم الله؟ أم أنه اتخذ عند الله عهدا بذلك؟ .. إنه لا هذا ولا ذاك، فكيف صحّت عنده هذه الدعوى، وعلى أي أساس أقامها؟ إنه لا شىء إلّا الوهم الذي يمليه الضلال، ويزين وجهه الهوى «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً» (8: فاطر) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 767 قوله تعالى: «كَلَّا.. سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً» .. كلا، كلمة ردع، وزجر، وتكذيب لهذا الادعاء الفاسد.. ونفى مؤكّد لهذا الافتراء.. فلن يؤتى هذا الشقي مالا ولا ولدا، وإنما سيكتب عليه قوله هذا مع ما يكتب من أقواله وأفعاله المنكرة، ثم يكون حصاد هذا كلّه لا مالا ولا ولدا، وإنما هو المزيد من العذاب، والمضاعفة من البلاء.. أما ما فى يديه من مال وولد، فى هذه الدنيا، فسيخرج من يديه، ويصبح ميراثا لغيره لا يمسك بيده شيئا منه يوم القيامة، بل يأتى فردا، عاريا، حافيا، كما ولد من بطن أمه.. عاريا حافيا! قوله تعالى: «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا» : الضمير فى «وَاتَّخَذُوا» يعود إلى المشركين الذين ذكروا من قبل فى قوله تعالى: «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا» .. فهؤلاء المشركون، قد اتخذوا من مستولدات أوهامهم وضلالاتهم، آلهة يعبدونهم من دون الله، ويرجون عندهم الخير، ويلتمسون منهم العون، والقوة، والتمكين فى الأرض.. قوله تعالى: «كَلَّا.. سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا» .. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 768 أي ولكن هؤلاء الآلهة التي هى صنعة أولئك المشركين، سينكرونهم يوم القيامة، وينكرون صلتهم بهم، بل ويكونون شهادة قائمة عليهم بما يفضحهم، ويملأ قلوبهم حسرة وندما..! قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا» .. الاستفهام هنا للأمر.. وتقديره انظر كيف أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين.. تؤزهم أزّا.. أي تغريهم إغراء، وتدفعهم إلى الضلال دفعا.. فالمشركون- والحال كذلك- مدفوعون دفعا إلى هاوية مهلكة، لافكاك لهم منها.. إن هناك قوى خفية تدفع بهم إلى الشر، وتغريهم به، وتوردهم موارده.. وإذن، فلا تعجل عليهم، واصبر حتى يحكم الله بينك وبينهم، وسترى قضاء الله فيهم.. فإنهم مأخوذون بذنوبهم، التي تزداد كل يوم يمضى من حياتهم فى هذه الدنيا.. وهذه الذنوب محصاة عليهم، معدودة فيما يعدّ لهم من سيئات وآثام.. فكلما طالت أيامهم فى هذه الدنيا، كثرت أحمالهم من الذنوب، وضوعف لهم العذاب. قوله تعالى: «يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً» . «يوم» ظرف، متعلق بمحذوف دلّ عليه قوله تعالى: «إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا» فهذا العدّ الذي يحصى على المشركين أفعالهم المنكرة، يلزم منه الجزاء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 769 والعذاب.. والتقدير إنما نعدّ لهم عدّا، فنأخذهم بما كسبوا، يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا، ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا.. وحشر المتقين إلى الرحمن، جمعهم إلى ساحة فضله وإحسانه، فى هيئة وفد كريم، يفد إلى جناب كريم، حيث ينزل منازل الإكرام والإعزاز.. وسوق المجرمين إلى جهنم وردا، هو دفعهم إليها، وسوقهم نحوها، كما تساق الأنعام.. فهم أشبه بقطيع من الماشية يساق إلى المذبح، ولا يدرى ماذا يراد به هناك! وفى التعبير عن المشركين بالمجرمين، وصف لهم بالصفة البارزة فيهم، والتي هى لازمة من لوازم الشرك.. فالمشرك مجرم آثم.. ومعنى «وردا» واردين، جمع وارد، والوارد، من يرد الماء ليشرب ويرتوى من ظمأ.. وهؤلاء إنما يردون عطاشا ليرتووا.. ولكن لا يجدون هناك إلا حميما وغسّاقا، كما يقول سبحانه: «ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ» (51- 56 الواقعة) قوله تعالى: «لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً» . أي إن هؤلاء المجرمين المساقين إلى جهنّم، الواردين حياضها على ظمأ يحرق أكبادهم- لا يملكون ما يشفع لهم عند الله، ويعدل بهم عن هذا المورد الوبيل الواردين عليه.. لكن من اتخذ عند الرحمن عهدا، وأمضى هذا العهد ووفى به، فإن له شفاعة عند الله.. فى نفسه، وفى غيره أيضا.. ومن هذا العهد ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 770 وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ.. وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ» (111: التوبة) فهذا عهد عاهد الله عليه المجاهدين فى سبيله، وقد اتخذ المجاهدون هذا العهد من الله، ووفوا به، فكان شفاعة لهم عند الله من عذاب جهنم.. والإيمان بالله، وبشريعة الله، هو عهد بين المؤمن وربّه، فإذا وفى بما عاهد الله عليه، أنجز الله له ما وعده من رضوانه، وفى هذا يقول الله تعالى: «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» (60- 61: يس) .. الآيات: (88- 98) [سورة مريم (19) : الآيات 88 الى 98] وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98) التفسير: الإدّ: الأمر المنكر، الذي يثقل كاهل صاحبه، ويقصم ظهره.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 771 يتفطّرن: يتشققن، خوفا وإشفاقا من هذا البهتان العظيم.. قوما لدّا: أي ذوى لدد وشدّة فى الخصومة، ولجاجة فى الجدل.. الركز: الصوت الخفيض.. وقوله تعالى: «وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا» . هو عرض لمقولة من مقولات الضالين، وهم تلك الطوائف من اليهود والنصارى، الذين نسبوا إلى الله الولد، فقالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله.. وفى الإخبار بقولهم هذا، تهديد لهم، ووعيد شديد، بما سيلقون من وراء هذا الافتراء، الذي فزعت له السموات والأرض، حتى لقد اضطرب كيانهما، فكادت السموات تتشقق، وكادت الأرض تتصدع وتنخسف، وكادت الجبال تنهدّ وتتهاوى.. فمن يمسك على هذه الموجودات وجودها، ومن يحفظ عليها نظامها، إذا كان لله ولد؟ إن إلها يتخذ ولدا لأعجز من أن يقوم على أمر نفسه، فضلا عن أن يدبّر وجود غيره ويحفظه.. - وقوله تعالى: «لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا» هو ردّ على تلك المقولة المنكرة.. قد نطق به الوجود كلّه، الذي يرى آثار الله فيه، وتدبيره له- نطق به منكرا هذا القول المنكر.. الذي جاء به الضالون، من واردات الإفك والزور. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 772 قوله تعالى: «أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» . هو بيان، وتفسير للضمير فى قوله تعالى: «منه» أي تكاد السموات يتفطرن، والأرض تنشق، والجبال تنهدّ، من أن ينسب هؤلاء الضالّون ولدا إلى الله.. إذ ما يصحّ، ولا يجوز أن يتخذ الرحمن ولدا.. فما يتّخذ الولد، إلّا ليسدّ حاجة فى نفس والديه.. والله سبحانه وتعالى فى غنى مطلق عن أن يحتاج إلى شىء، فكل ما فى السموات والأرض ملك لله، خاضع لمشيئته، كلهم عبد، وعابد له.. وقوله تعالى: «لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً» . هو بيان لقدرة الله تعالى، وسلطانه على هذا الوجود، وأن كلّ موجود فيه- صغر أم كبر- هو بيد القدرة الممسكة به، العالمة بكل ما فى ظاهره وباطنه.. وكل إنسان سيأتى يوم القيامة فردا، لا يصحبه أهل، ولا ولد، ولا مال، ولا متاع.. فهؤلاء الضالّون محصون فى علم الله، معروفون بذواتهم وأعمالهم، ومعدود عليهم كل نفس يتنفسونه، فلا يقع فى ظنهم أنهم غائبون عن الله، تائهون فى خضمّ هذا الوجود..! قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا» . وأهل الفوز من الناس جميعا، هم أولئك الذين آمنوا وعملوا الصالحات.. فهؤلاء، حين يأتى الناس يوم القيامة، ولا شىء معهم- سيأتون هم ومعهم صالح أعمالهم، التي تقربهم إلى الله، وتدنيهم من رحمته، وتنزلهم منازل مودّته وألطافه.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 773 قوله تعالى: «فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا» . الضمير فى يسّرناه، يعود إلى القرآن الكريم، الذي لم يجر لهم ذكر فى هذا العرض الذي جاءت به الآيات السابقة.. وفى هذا تنويه بفضل القرآن، وأنه هو المذكور فى هذا الموقف، والملجأ الذي يلجأ إليه الناس، ويجدون فيه الهدى، والنجاة من أهوال يوم القيامة. فهذا القرآن ليس مما يخفى أمره على من يريد الهدى، ويلتمس النجاة.. إنه لا هدى إلا منه، ولا نجاة إلا بالتعلق به.. وإنه ممهد السبل، واضح المناهج، قريب التناول.. إنه يخاطب القوم بلسانهم الذي يتخاطبون به، فلا غموض فيه ولا إبهام.. إنه ليس سجعا كسجع الكهان، ولا تمتعة كتمتمة السحرة.. ولكنه بلسان عربى مبين.. وهذا الأسلوب الذي جاء عليه القرآن بلسان النبىّ، ولسان قومه، إنما ليكون حجة قائمة على الناس.. يدعوهم إلى الله، وإلى الإيمان به، وامتثال أو امره، واجتناب نواهيه.. فمن آمن، وعمل صالحا، فيا بشراه بما يلقى من نعيم الجنات ورضوان الرحمن.. ومن أبى، وأعرض.. فيا لخسرانه، ويا لحسرته.. يوم لا ينفع مال ولا بنون..! - وفى قوله تعالى: «وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا» إشارة كاشفة إلى تلك الآفة التي حجزت المشركين عن الاهتداء بهذا الهدى، والاستضاءة بذلك النور.. وإن آفتهم لهى هذا اللجج فى الخصومة والجدل، كما يقول سبحانه فيهم: «بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ» (58: الزخرف) . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 774 قوله تعالى: «وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ.. هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً» .. هو تهديد لهؤلاء المشركين، وأنهم إذا أمسكوا على ما هم عليه من عناد وضلال، فإنهم سيخرجون من هذه الدنيا بأخسر صفقة.. فما هى إلا أيام يعيشونها فى هذه الدنيا، ثم يطويهم التراب، كما طوى أمما وقرونا كثيرة من قبلهم، فأصبحوا ترابا هامدين، لا يذكر لهم أثر، ولا يسمع لهم نبأ! .. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 775 20- سورة طه نزولها: مكيّة.. نزلت بعد سورة «مريم» . عدد آياتها: مائة وخمس وثلاثون آية. عدد كلماتها: ألف وثلاثمائة وإحدى وأربعون كلمة. عدد حروفها: خمسة آلاف ومئتان واثنان وأربعون حرفا. مناسبتها للسورة التي قبلها ختمت سورة مريم بقوله تعالى: «فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً» . وبدئت سورة طه بقوله: «ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى» . والختام، والبدء، على سواء فى تذكير النبىّ صلوات الله وسلامه عليه، بأنه ليس مسئولا عن هداية الناس، وحملهم حملا على الإيمان بالله.. وإنما دعوته هى تبليغ رسالة ربّه.. والرسالة- كما يحملها القرآن الكريم- واضحة بيّنة، لا تحتاج إلى جهد يبذل وراءها، ليكشف عن مضامينها.. إنها لا تحتاج- لكى يجنى الناس ثمراتها- إلا إلى آذان تسمع، وعقول تعقل، وقلوب تعى «فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها» (41: الزمر) «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ.. وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» (29: الكهف) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 776 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الآيات: (1- 8) [سورة طه (20) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8) التفسير: قوله تعالى: «طه» .. قيل: إن طه، منادى، ومعناه: يا رجل.. وقيل: إن «طه» بمعنى رجل هو فى اللغة النّبطية، وقيل فى السّريانية.. وقيل فى لغة بعض القبائل العربية، واستدلّ القائلون بهذا، بأشعار أوردوها.. والرأى عندنا، أن «طه» حرفان، هى: الطاء والهاء، وقد بدئت السورة بهما، على ما بدئت به بعض السّور.. مثل: حم، ويس.. ولعل أقرب مفهوم لهذين الحرفين هنا، هو أنهما من السهولة، والوضوح، بحيث لا يخفى أمرهما على ناطق باللسان العربي.. وهكذا شأن القرآن الكريم، فى آياته وسوره، وفيما حمل إلى الناس من أحكام، وشرائع، ومواعظ.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى آخر سورة مريم: «فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ» .. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 777 فهو ميسّر للذكر والفهم، كتيسير طاء وهاء، فى وضوحهما ويسرهما، نطقا، ومدلولا.. قوله تعالى: «ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى» . فى هذه الآية الكريمة نفحة من نفحات السّماء، وروح من رحمة الرّحمن، يتلقاهما النبىّ الكريم، من ربّه، وهو فى هذا المعترك الصاخب بينه وبين قومه، الذين لج بهم العناد، وأعماهم الضلال، فركبوا رءوسهم، وأبوا إلا خلافا عليه، وسخرية به، وإيذاء له.. وهو البارّ بهم، الحدب عليهم، الحريص على هدايتهم، واستنقاذهم من الضلال والهلاك.. وليس يدرك ما كان يجد النبىّ من خلاف قومه عليه، من أسى وحسرة، إلا من يستمع إلى قوله تعالى فى وصف الله سبحانه للرسول بقوله: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ» (128: التوبة) . وليس يتصور مدى ما كان يحمل النبىّ من آلام، وما يكابد من مشقات، وهو يدور حول هؤلاء السفهاء من قومه، ليجد منفذا ينفذ منه إلى مواقع الهدى منهم ومواطن الاستجابة فيهم- ليس يتصور هذا، إلا من يستمع إلى قوله تعالى، ناصحا لنبيه داعيا إياه إلى الرفق بنفسه، والمصالحة مع كيانه، الذي كاد يتمزق ألما وضيقا وحسرة عليهم.. إذ يقول سبحانه وتعالى له: «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» (8: فاطر) ويقول جل شأنه: «وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ» (137: النحل) ويقول جل من قائل: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» (6: الكهف) ويقول سبحانه: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 778 «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (99: يونس) .. هكذا كان يعيش النبىّ مع قومه، فى عطفه ورحمته، وهم فى غلظتهم وسفاهتهم.. وهكذا كانت تنزل عليه آيات ربه، تدعوه إلى الترفق بنفسه، والتخفف من حرصه.. وهو- صلوات الله وسلامه عليه- بما ملأ الله به قلبه من رحمة، لا يكاد يمسك من نفسه هذا التيار المتدفق من الرحمة والحنان، حتى تغلبه رحمته، وإذا هو على هذا الطريق المسدود.. يهتف ولا مجيب، وينادى ولا مستمع! - وفى قوله تعالى: «ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى» أكثر من نصح للنبىّ، إلى الرفق بنفسه.. بل إنه شىء أقرب إلى العتاب واللوم.. ولكنه عتاب فى مقام الفضل والإحسان، ولوم فى موطن المبالغة فى الفضل والإحسان، شبيه بقوله: تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ» (1: التحريم) .. فالقرآن الكريم هو رحمة الله المنزلة على عباده.. فكيف يشقى به النبىّ، ويحمل منه هذا العبء الثقيل الذي تنوء به الجبال؟ كيف هذا، وهو الذي من حقّه أن يأخذ من هذه الرحمة النصيب الأوفى، والحظ الأعظم؟ إن الله سبحانه وتعالى، ما أنزل عليه القرآن الكريم، ولا اختصه به، إلا ليسكن به فى قلبه السكينة والمسرة، وإلا ليملأ به كيانه روحا، وأنسا..! فكيف يشقى به، ويحمل منه هذا العناء الشديد؟ - «ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى» فرفقا بنفسك، ودع هؤلاء الغواة الضالين وشأنهم، بعد أن بلغتهم رسالة ربك.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 779 قوله تعالى: «إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى» .. تذكرة مفعول لأجله، للفعل فى قوله تعالى: «ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ» أي ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكرة لمن يخشى، لا لتشقى به وتحمل نفسك هذا العناء الشديد المتصل، الذي أنت فيه. فمن كان عنده استعداد لقبول الهدى، فإنه لأول لقاء له مع القرآن الكريم، جدير به أن يؤمن، ويستجيب لله وللرسول.. وأما من كان ممن ختم الله على قلبه، وجعل على سمعه وبصره غشاوة، فإنه لن يهتدى أبدا، ولو قضيت العمر كله، تأتيه من كل جانب. وتلقاه بكل سبيل.. واختصاص أهل الخشية بالتذكرة والانتفاع بالقرآن، لأنهم هم الذين ينظرون إلى عواقب الأمور، ولا يعيشون ليومهم كما يعيش أهل السفاهة والضلال.. فإن من خشى العواقب استعمل عقله، وقلّب وجوه الأمور التي تعرض له..، فاستبان له وجه الحق منها. قوله تعالى: «تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى» . تنزيلا مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره تنزل، أي تنزل هذا القرآن الذي أنزله الله عليك تنزيلا ممن خلق الأرض والسموات العلى.. والمراد بالتنزيل أنه نزل منجما، مفرقا، لا دفعة واحدة.. وهذا من أمارات الرفق بالنبيّ الكريم، كما يقول سبحانه: «كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ» . قوله تعالى: «الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى» .. هو بيان لقدرة الله تعالى، وبسطة سلطانه على هذا الوجود الذي أوجده.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 780 فهو سبحانه قد استوى على عرش هذا الوجود، وانفرد بمقام الملك والحكم فيه، لا ينازعه أحد، ولا يشاركه شريك من صاحبة أو ولد! .. وقد كثر القول بين أصحاب المقولات، من فرق المعتزلة، والقدرية، والمجسّدة، وغيرهم- كثر القول والخلاف فى تأويل العرش، والاستواء على العرش.. وخير ما قيل فى هذا المقام قول الإمام مالك وقد سئل عن تأويل الآية، فقال للسائل: «الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة.. وما أراك إلا مبتدعا» .. فمن ذا الذي يعلم العرش؟ ثم من ذا الذي يعرف ذات ربّ العرش؟ وإن كان ذلك فوق العقل، فكيف يعرف شأن ذات لا سبيل إلى أن تعرف؟. قوله تعالى: «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى» هو بيان، لقدرة الله، وسعة سلطانه، ونفوذ أمره إلى كل موجود فى هذا الوجود، علوه وسفله.. وهذا لا يكون إلا لمن ملك هذا الوجود ملك قدرة وحكمة وعلم، بحيث يقوم الوجود كله على ميزان مستقيم، لا يهتزّ أية هزّة، وإلا لما كان لهذا المالك أن يستوى على العرش، وأن يستقرّ عليه، وأن يدوم له استقرار!. قوله تعالى: «وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» . ومن دلائل ما لله سبحانه وتعالى من علم، أنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تنطوى عليه الصدور، وما تتلبس به المشاعر. والمعنى: إن تجهر بالقول، سمعك السميع العليم، وإن تسرّ به، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 781 أو تطوه فى صدرك، فإنه يسمعه ويعلمه.. «فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى» أي وما هو أخفى من السرّ، وهو حديث القلب وهجسات الخاطر.. وذلك هو الله الذي لا إله إلّا هو.. «لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» أي له من الأسماء كل ما هو كمال كله، وحسن جميعه.. «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» .. فأى اسم يفرد الله بالكمال والجلال، ويخصّه بالربوبية والألوهية، فهو من أسمائه، التي يدعى بها، ويتعبّد له بذكرها. الآيات: (9- 16) [سورة طه (20) : الآيات 9 الى 16] وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16) التفسير: فى هذه الآيات، والآيات التي ستأتى بعدها، ذكر لقصة موسى عليه السلام.. والذي ذكر من قصة موسى هنا، يمثّل مقطعا كبيرا من حيلته.. وذلك من بدء اختياره للرسالة، ولقائه فرعون، وما كان بينه وبين السحرة، ثم خروجه مع بنى إسرائيل، وغرق فرعون.. ثم ما وقع لبنى إسرائيل من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 782 فتنتهم وعبادتهم العجل، وما جرى بين موسى وأخيه هرون، ثم ما جرى بين موسى والسامرىّ الذي صنع العجل، ودعا القوم إلى عبادته. أما ذكر ميلاد موسى، وإلقائه فى الميم، وعودته إلى أمه.. فقد جاء فى أثناء القصة، تذكيرا لموسى بنعمة الله عليه، ورعايته له، تلك الرعاية التي نجا بها من فرعون حين أوحى الله إلى أم موسى أن تلقيه فى اليم، فساقه اليمّ إلى يد فرعون، الذي كان يطلب قتله!! فحفظه وربّاه، واتخذه ولدا!. ومناسبة قصة موسى وفرعون لهذا البدء الذي بدئت به هذه السورة، هو تذكير للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- بما تنطوى عليه قلوب الظالمين من ظلم، وما تتلبّس بهم عقولهم من ظلام وضلال، وأنهم فى وجه الآيات المشرقة عمى لا يبصرون، وفى مواجهة الحق السافر يشهرون أسلحة الجدل والعناد، ويصطنعون مع الحق معركة، يلقون فيها بكل مالديهم من سفاهة، وسخرية واستهزاء.. فموقف موسى من فرعون، هو نفس الموقف الذي يقفه النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- من هؤلاء الفراعين، من سادة قريش، وقادة الكفر والضلال فيهم. وفى هذا جذب للنبىّ من دائرة الضيق والأسى، التي هو فيها، حزنا على قومه، وحسرة على أنه لم يستطع أن يطبّ لدائهم ويشفى العلل المتمكنة منهم.. إنهم ليسوا أحسن حالا من فرعون، الذي لم يستطع موسى بآياته المحسوسة، أن يشفى داءه، ويذهب بعلته.. فليمت هؤلاء الفراعين بدائهم، كما مات فرعون بدائه.. ولن يندبهم أحد، ولن يأسى على مصابهم قريب أو حبيب. راحوا فما بكت الدنيا لمصرعهم ... ولا تعطّلت الأعياد والجمع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 783 وتبدأ القصّة بهذا الاستفهام، الذي يثير أشواق النفس إلى الاستماع للجواب عن هذا السؤال المثير: «وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً» أي لمحتها، وفى التعبير عن رؤية النار بالفعل «آنست» الذي يدلّ على الأنس بها، والبشاشة بوجودها، ما يشير إلى أن موسى كان فى وحشة ليل بهيم، فى هذه الصحراء التي لا أحد فيها.. فهو فى وحشة الليل، ووحشة الوحدة.. فلما رأى النار، وجد شيئا من الأنس والطمأنينة، لأن النار لا بد أن يكون عندها من أوقدها.. وكان موسى قادما من مدين إلى مصر ومعه زوجه بنت شعيب عليه السلام. «لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً» .. فهو إذ يتجه إلى حيث تشتعل النار، إنما يرجو أن يأتى منها «بقبس» أي شىء من الحطب المتّقد، أو يجد عند النار من يدلّه على الوجهة التي تتجه به إلى مصر.. وفى قوله: «عَلَى النَّارِ» بدلا من «عند النار» إشارة إلى أن الوقت كان بردا، وأن من يوقد النار إنما كان يوقدها ليستدفئ بها ويعلوها.. «فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى» . وما كاد موسى يبلغ النار، حتى نودى من قبل الحقّ جلّ وعلا: «يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ.. فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ» تأدبا، لأنك فى مقام تخاطب فيه ربّك ويخاطبك.. «إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً» أي بالوادي المبارك، المطهّر، الذي باركه الله وطهّره بمناجاتك فيه.. وطوى: هو اسم البقعة من هذا الوادي، أو هو نفس الوادي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 784 - «وَأَنَا اخْتَرْتُكَ» واصطفيتك لرسالتى.. فأنت منذ الآن رسول من رسلى.. «فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى» إليك منى.. «إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ، لا إِلهَ إِلَّا أَنَا، فَاعْبُدْنِي، وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي» . فهذا أول ما يستقبل الرسول من أمر ربّه.. أن يعرف ربّه، ويعرف صفاته، ثم يعبده كما أمره.. «إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ» فاعرف من يخاطبك.. «إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ.. لا إِلهَ إِلَّا أَنَا» ليس هناك إله غيرى.. وإذ تقرر ذلك، وعرفته وآمنت به «فاعبدنى» أي كن عبدا لى، وعابدا.. «وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي» .. أي اجعل الصلاة هى العبادة التي تذكرنى بها.. وخصّت الصلاة بالذكر من بين العبادات، لأنها هى المناجاة التي يناجى بها العبد ربّه، ويكشف فيها عن ولائه، وما ينطوى عليه قلبه من تعظيم لله، وولاء له، وانقياد وخضوع لجلاله وعظمته.. «إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى» . وممّا ينبغى أن يؤمن به الرسول قبل أن يبدأ رسالته، أن يؤمن بالآخرة، كما آمن بالله، وأن يستيقن أنها آتية لا ريب فيها.. - وفى قوله تعالى: «أَكادُ أُخْفِيها» إشارة إلى أن الساعة غيب من غيوب الله، وأنها محجبة وراء ستر الغيب، وأن الذي يؤمن بها إنما يؤمن إيمان غيب، لا إيمان شهادة ومعاينة.. ومع هذا، فإنّ هناك من الأمارات، والدلائل، ما يجدها العقل بين يديه، ليستدلّ منها على أن الحياة الدنيا ليست هى مبدأ الإنسان، ونهايته، وأنه لا بد أن يكون وراء هذه الحياة حياة أرحب وأوسع، لتجزى فيها كلّ نفس بما عملت فى هذه الدنيا.. وهذا هو السرّ فى قوله تعالى: «أَكادُ أُخْفِيها» ولم يجىء النظم القرآنى «أخفيتها» فهذا التعبير القرآنى يحمل فى طياته إشارة مضيئة إلى أن الإنسان مطالب- بما أودع الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 785 سبحانه وتعالى فى كيانه من قوّى عاقلة مدركة- بأن يتجنب الشر، ويتجه إلى الخير، وأن يتنكب طرق الضلال، ويأخذ طريق الهدى، وبذلك يكون مهيئا تلقائيّا للقاء الآخرة، وللفوز برضوان الله فيها.. أما من زهد فى عقله، وتنكر لفطرته، فركب طريق الغواية والضلال، فإن ما يلقاه فى الآخرة من عذاب وبلاء، هو الجزاء العادل الذي يستحقه. وهذا يعنى أنه إذا لم تكن هناك آخرة، أو حساب وجزاء- فإنه كان جديرا بالإنسان أن يحاسب نفسه، ويقيمها على ما هو أكرم لإنسانيته، وأحفظ لقدرها وكرامتها.. - وقوله تعالى «أَكادُ أُخْفِيها» أي أكاد ألّا أنبئ أحدا عنها، وألا يقع فى حساب الناس أنها آتية، حتى يعمل كل بما فى طبيعته، وحتى يجزى كل بما هو أهل له، إذا جاء يوم الحساب، على غير حساب أو انتظار من الناس. ولكن رحمة الله بعباده، قد شملتهم، فأنذروا بهذا اليوم قبل أن يقع، وحذّروا بما فيه من نكال وبلاء للضالين والمنحرفين، ووعدوا بما فيه من خير ونعيم ورضوان، للمؤمنين المتقين.. «فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى» وفى هذا إشارة إلى بنى إسرائيل، وتعريض بإيمانهم بالآخرة، إذ كان إيمانهم بها إيمانا غير مستيقن.. وإنما هو متلبس بالشكّ، والظنون.. ذلك أنهم لا يؤمنون إلّا بما هو مادىّ، يجبه حواسّهم، وفى هذا يقول الله عنهم: «وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» (55: البقرة) يقولون هذا عن الله وآيات الله تنزل عليهم من السّماء، يرونها رأى العين، ويعيشون فيها، فكيف بيوم القيامة وليس فى أيديهم شىء منه؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 786 الآيات: (17- 24) [سورة طه (20) : الآيات 17 الى 24] وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) التفسير: فى هذه المرحلة من رسالة موسى، يبدأ الاستعداد للمرحلة الثانية، التي هى رسالته إلى قومه بنى إسرائيل، وذلك بعد أن يخلصهم من يد فرعون. ولكن قبل أن تبدأ هذه المرحلة، وقبل أن يدعى موسى إلى لقاء فرعون، تكون له وقفة بين يدى ربّه، يهيئه فيها لهذا اللقاء المثير المخيف. وها هو ذا موسى يستمع إلى نداء ربه.. «وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى؟» إن موسى يعرف ما بيمينه، ولهذا قال على الفور: - «هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها.. وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي.. وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى» .. وهذا الوصف المستغرق لصفات العصا، إنما هو لما وجد موسى من غرابة، السؤال، ووقعه على نفسه.. فليس بين يديه إلا عصا كسائر العصىّ.. يتوكأ عليها، ويهشّ بها على غنمه، ويردّ بها كل عاد عليه، أو يعلق عليها أدواته.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 787 أو نحو هذا مما تستخدم له العصىّ فى يد من يحملونها.. وكأنّ موسى قد استشعر من هذا السؤال أنه يحمل شيئا منكرا، لا يليق بمن يخاطبه الله، ويصطفيه لرسالته، أن يحمله.. ولهذا أعطى عصاه كل الأوصاف التي يحملها من أجلها.. وفى هذا الوصف يتحقق موسى أن عصاه هذه ليست إلا عصا من العصىّ التي يحملها الرعاة، والتي يقتطعونها من أغصان الأشجار.. وإذن فليعلم موسى من أمر هذه العصا ما لم يكن يقع له فى حسبان!. «قالَ أَلْقِها يا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى» .. ولا شك أن موسى قد فزع واضطرب.. وقد فزع واضطرب فعلا، وولّى مدبرا ولم يعقب.. كما يقول سبحانه فى موضع آخر.. «فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ» (31: القصص) .. ولهذا جاء قوله تعالى له: «قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى» .. وهكذا أخذ موسى العصا، فإذا هى على ما كان يعهدها عليه.. «وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ.. آيَةً أُخْرى» .. هو معطوف على قوله تعالى: «خُذْها» أي خذ العصا، «وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ» .. ولهذا جاء الأمر هنا غير مسبوق بالقول! - وقوله تعالى: «آيَةً أُخْرى» منصوب باسم فعل محذوف، تقديره: إليك آية أخرى، إلى تلك الآية الأولى، آية العصا، التي عرفتها.. ويمكن أن يكون منصوبا على الحال من قوله تعالى: «تَخْرُجْ بَيْضاءَ» حالة كونها آية أخرى، إلى الآية السابقة، وهى العصا.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 788 «لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى» أي فعلنا ذلك لتشهد ما لنا من قدرة، وما بين أيدينا من آيات.. فهذه بعض آياتنا، وإن آياتنا كثيرة لا تنتهى، عظيمة لا تحدّ..! وإذا عرفت من بعض مظاهر قدرتنا ما قد عرفت، فلا يهولنّك أمر وإن عظم، ما دمت مندوبا من قبلنا، داعيا باسمنا.. «اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى» .. ولا يخيقنك طغيانه، ولا يروعنّك سلطانه.. إنك- بتأييدنا لك- أشد منه قوة، وأعز سلطانا.. الآيات: (25- 41) [سورة طه (20) : الآيات 25 الى 41] قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 789 التفسير: ويتلقى موسى أمر ربه بلقاء فرعون.. ويقع اسم فرعون من نفسه موقعا يثير الرعب والفزع.. إنه فرعون بجبروته، وعتوه!! فيضرع إلى الله أن يعينه على مواجهة هذا البلاء، وأن يذهب ما به من اضطراب وفزع! «قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي» حتى يتّسع لامتثال أمرك، ويتقبله قبولا حسنا، فلا يضيق به، ولا يجد حرجا منه.. «وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي» .. فإن الموقف خطير، والأمر عظيم.. فإذا لم يكن منك العون والتيسير، فلا طاقة لى به، ولا حيلة لى فيه.. «وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي» أي امنحني بيانا وقدرة على محاجّة فرعون، وغلبته، حتى يفقه هو والملأ من حوله، قولى، ويعقلوه، وحتى لا تأخذهم العزّة بالإثم، فلا يقبلوا قولا، ولا يتمهلوا حتى أبلغهم ما أرسلت به إليهم، وأسمعهم إياه، بل يعاجلوننى بالردّ، وربما بالعقاب قبل أن أبلّغ رسالة ربى. «وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي» .. أي واجعل لى معينا يعيننى على أداء رسالتى إلى فرعون، وليكن هذا المعين هو هرون، أخى، فهو بحكم عاطفة الأخوة حريص على سلامتى، يقف إلى جانبى فى ساعة العسرة، ولا يتخلّى عنىّ.. والوزير، هو المعين المساعد، وهو من المؤازرة، والمعاونة.. «اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي» أي اجعله ردءا لى، يقوّى ظهرى.. واجعله شريكا لى فى هذا الأمر الذي ندبتنى له، وأكرمتنى به.. فلا تخصنى وحدي بالكرامة دون أخى.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 790 «كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً» أي بهذا الإحسان الذي تحسن به إلى هرون أخى كما أحسنت إلىّ، تتضاعف نعمك علينا، ويعظم إحسانك إلينا، وبدلا من أن يشكرك لسان واحد، سيشكرك لسانان، لسانى، ولسان أخى.. فأنت أعلم بنا، وبما تريده لنا من فضل وإحسان «إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً» . «قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى» .. السّؤل: ما يسأل من خير.. وأوتى سؤله: أي أجيب إلى ما طلبه من ربّه. «وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً. فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي» . فى هذه الآيات عرض، للفترة الأولى من حياة موسى وهى الفترة التي تخطتها الآيات السابقة، فعرضت موسى وهو فى دور الرجولة التي أصبح أهلا فيها لتلقّى الرسالة من ربّه.. وقد جاءت هذه الآيات حديثا لموسى من ربّه، يذكّره فيها بنعمه عليه، وإحسانه إليه من قبل الرسالة.. فهو سبحانه قد نظر إليه بعين اللطف والرعاية، منذ ولادته، بل ومن قبل أن يولد.. فقد ولد موسى فى حال كان فرعون فيها مضيّقا الخناق على بنى إسرائيل، مسلّطا أعوانه على قتل كل مولود ذكر يولد لهم.. وكانت أم موسى حاملا به، حاملة معه الهمّ الثقيل الذي يؤرّق ليلها، ويشقى نهارها.. إنّها تحمل فى كيانها وليدا تستقبله يد الذابحين إذا أطلّ بوجهه على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 791 هذه الدنيا، بل ربّما أخذته يدهم قبل أن يولد، فشقّوا بطنها عنه، وأخذوه حيّا أو ميتا..! - وفى قوله تعالى: «إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى» إشارة إلى أن ما أوحى به إليها إنما كان مما يناسب هذه الحال التي هى فيها، ولهذا صدّر الوحى بكلمة «ما» الدالة على التعميم، والتي فسّرت بقوله تعالى: «أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ» وهو ما أوحى إليها به.. وفى العدول عن أن يكون النظم القرآنى هكذا: ضعيه فى التابوت ثم ضعيه فى اليم- إلى ما جاء عليه النظم القرآنى: «أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ، فِي الْيَمِّ» - إشارة إلى أن الخطر المطلّ عليها من أعوان فرعون، كان داهما دانيا، وأنها إذا لم تعجّل بهذا العمل أخذ وليدها منها.. ولهذا عطف قذفه فى اليم على قذفه فى التابوت بحرف الفاء، الذي يفيد التعقيب المباشر، دون فاصل زمنى بين الأمرين.. والتابوت، أشبه بالصندوق، يسوّى من خشب أو نحوه.. وفى قوله تعالى: - «فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ» أمر من الله سبحانه وتعالى إلى اليمّ، وهو النهر، أن يلقى موسى إلى الساحل، وألا يبتلعه فى كيانه.. وهذا إشعار لأم موسى بالطمأنينة على وليدها، وأن اليمّ لن يبتلعه، وقد تلقّى هذا الأمر من صاحب الأمر فيه. - وكذلك ما جاء فى قوله تعالى: «يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ» .. إنه أمر لفرعون أن يأخذ هذا الوليد.. وفرعون هذا عدوّ لموسى.. ومع هذا، فإنه لا يملك من أمر نفسه، إلّا أن يأخذ عدوّه هذا، ويربيه، ويجعله ابنا له!! فما أعظم قدرة الله، وما أمكن سلطانه!. - وفى قوله تعالى: «وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي» إشارة إلى ما صنع الله لموسى، إذ جعل عدوّه الذي يطلب قتله، محبّا له، حبّ الآباء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 792 للأبناء! وهكذا يربّى موسى فى ظل من رعاية الله سبحانه وتعالى، تلك الرعاية التي تجعل له من الشرّ خيرا، ومن العدوّ صديقا..! «إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ، إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» (100: يوسف) ثم كان من تدبير الله لموسى، أن أعاده إلى أمه، فجمع بينه وبينها فى بيت فرعون لتكون له مرضعا.. مرضعا لابن فرعون هذا المتبنّى!! ومن لطف الله بموسى أن نجّاه من يد فرعون، وكان فرعون قد طلبه ليقتصّ منه بقتيل قتله.. فنجا موسى، وهرب إلى مدين.. ثم ها هو ذا يعود إلى مصر، ليلقى فرعون مرة أخرى! فهل مع هذا، وبعد هذا، يخشى موسى بأس فرعون وبطشه؟ إنه قد فوّت على فرعون فرصتين كانتا قد سنحتا لقتله من قبل.. فهل كان مع موسى حول أو حيلة يدفع بهما عن نفسه ما كان سينزل به فى كلتا الحالين.. حين كان فرعون يطلبه وليدا، وحين كان يطلبه قاتلا؟ فكيف يخشى فرعون الآن، بعد أن قهره مرتين، وهو لا شىء.. أما الآن فهو يحمل بين يديه آيتين، معجزتين، متحدّيتين.. يحار فرعون فيهما، ويخزى أمامهما، ويفتضح كبره وجبروته بهما، على الملأ من قومه.. ثم كيف يخاف بأس فرعون وجبروته، والله معه.. يخاطبه، ويؤيده؟ ولهذا جاء بعد هذا الإعداد الكامل لموسى، وبعد أن ملأ يديه من السلاح السّماوى القاهر الذي لا يغالب- جاء الأمر إلى موسى بأن يلقى فرعون، وهو أمر قد تلقاه من قبل فى صيغة موجزة، أشبه بالإشارة إلى هذا الأمر المجدّد.. كما سنرى فى الآيات التالية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 793 الآيات: (42- 56) [سورة طه (20) : الآيات 42 الى 56] اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56) التفسير: ولا يتوجه الأمر هنا إلى موسى وحده، بل إليه وإلى أخيه هرون.. «اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ» فأنت الآن لست وحدك.. «بآياتى» أي ومعكما آياتي التي وضعتها بين يديكما «وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي» لا تضعفا ولا تفترا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 794 فى ذكرى بل اجعلا ذكرى حاضرا فى قلبيكما، جاريا على لسانيكما.. فهو الزاد الذي يمنحكما القوة على اقتحام هذا الهول الذي أنتما مقدمان عليه. «اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ» فهذه هى وجهتكما.. إنها إلى فرعون.. «إِنَّهُ طَغى» وتكبر، وعلا فى الأرض، وقال لقومه أنا ربكم الأعلى.. «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى» .. فهذا شأن الحكماء مع الجهلاء، وموقف الأطباء من المرضى.. اللين واللطف، والموادعة.. فإن لقاء السفاهة بالسفاهة، والجهل بالجهل، هو نفخ فى النار الموقدة، وإمداد لها بالوقود، الذي يزيدها اشتعالا وتأججا.. «قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى» . كم كان فرعون باغيا متسلطا، وجبارا عنيدا؟ وكم أوقع فى قلوب الناس من فزع ورعب، حتى كاد يكون ذلك طبيعة متمكنة فيهم، لا يمكن مغالبتها إلا باستئصالها بعملية أشبه بتلك العمليات الجراحية، التي تغيّر من خلق ذوى العاهات!؟ وإلّا فما بال موسى، وقد رأى من آيات ربّه ما رأى، فى كل مرحلة من مراحل حياته، ثم أمدّ من السماء بهذه الأسلحة من المعجزات القاهرة المتحدية، ثم كان إلى جانبه أخ له، رفده الله سبحانه وتعالى به، وجعله عونا وظهيرا له- ما باله لا يزال مع هذا كلّه يخشى فرعون، ويرهبه؟ إن ذلك ليس إلا لما كان عليه فرعون من جبروت أوقع به فى قلوب الناس هذا الخوف الرهيب، الذي يندسّ فى كيان الناس، ولا يخرج أبدا!. ومعنى «يفرط» أي يعجل علينا بالعقوبة، قبل أن يسمع منا ما أرسلنا به إليه، «أَوْ أَنْ يَطْغى» أي يتجاوز هذا إلى العدوان على ذاتك والتطاول على مقامك العلىّ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 795 - «قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى» .. وفى ظلّ هذا الوعد الكريم من الله سبحانه، يجد موسى وهرون ما يسكن به خوفهما، وتثبت به أقدامهما. «فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى» . وهكذا يلقى الله سبحانه وتعالى إليهما بمحتوى الرسالة، ويلقّنهما الكلمات التي يقولانها لفرعون، فى هذا الإيجاز الخاطف، وفى تلك العبارات القصيرة المتتابعة، التي تشبه طلقات المدفع! «إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ.. «فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ.. «وَلا تُعَذِّبْهُمْ.. «قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ.. «وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى.. إن فرعون لا يصبر على الاستماع، وإنّ أحدا لا يجرؤ على أن يجرى معه حديثا ممتدا.. فما اعتادت أذنه أن تسمع كلاما، وإنما هو الذي يتكلم. وسرعان ما تتحول الكلمات إلى أفعال.. ولهذا كان هذا التدبير الحكيم، بتلخيص الرسالة التي جاءه بها موسى وهرون من ربهما، وإيجازها هذا الإيجاز المعجز! لقد أدى الرسولان رسالة ربهما.. وها هما ذان الآن يستعدان لمواجهة العاصفة.. ولكن لا تزال للرسالة بقية، وإن ظهر أنها أنهيت بهذا السلام الذي ختمت به. وإنه لا بأس من أن يستمع فرعون أو لا يستمع إلى بقية الرسالة، فقد استمع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 796 إلى الصميم منها، وما بقي هو أشبه بالتذييل لها، والتعقيب عليها.. ولهذا يقول الرسولان، فى صوت خفيض، وهما يتراجعان إلى الوراء: «إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى» ! إنه أشبه بالحديث إلى النفس، أكثر منه بالحديث إلى فرعون..! إنهما لا يواجهان فرعون بهذا القول باعتباره مقولا من مقولاتهما، وإنما هو وحي أوحى إليهما به.. وإنهما ناقلان لهذا الوحى.. لا أكثر ولا أقل.. ويدهش فرعون لهذه المفاجأة، التي طلع بها عليه هذان الرسولان، وتضل من وعيه الكلمات التي سمعها، ولا يمسك منها إلا بالكلمة الأولى منها.. «إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ» . ويقلّب هذه الكلمة «ربّك» ويوردها على ذاته الإلهية، فيرى أن الرسولين ينسبانه إلى ربّ.. وهذا هو النكر أعظم النكر؟ أربّ يضاف إلى ربّ؟ إنه إن تكن ثمة إضافة فهو الربّ الأعلى الذي تضاف إليه الأرباب.. وإنه إذا جاز أن يكون للناس رب. فلن يكون له هو رب.. ولهذا اتجه إلى موسى مخاطبا فى تهكم واستنكار.. «قالَ: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى!» إنه لا ينتسب إلى رب، فإذا كان لموسى وهرون رب غير فرعون فليقولا له من هو؟ ولهذا لم يقل فرعون: من ربى هذا؟ بل قال من ربكما أنتما؟ وكان جواب موسى: «قالَ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» .. وفى هذا الجواب، تحدّ لفرعون، وأنه ليس هو ربّا بهذا الادعاء الكاذب الذي يدعيه، ويقبله منه قومه! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 797 ربنا خالق كل شىء، ومدبر كل شىء.. فهل لك يا فرعون فى هذه المخلوقات من خلقته ودبرت أمره؟ إن الرب الخليق بهذا الاسم، الجدير بهذا الوصف، هو من يخلق، ويرزق، ويحيى، ويميت.. فمن خلقت يا فرعون؟ ومن أحييت؟ - وقوله: «أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ» أي خلق كل مخلوق على الصورة التي بها يستقيم وجوده.. فكل شىء مخلوق بتقدير، وحساب.. - وقوله: «ثُمَّ هَدى» هو من تمام الخلق، حيث أودع الخالق العظيم، فى كل مخلوق، ما يتهدّى به إلى حفظ ذاته، وبقاء نوعه.. وهذا دليل على أن كل مخلوق- صغر أو كبر- هو عالم بذاته، فى تقدير الله سبحانه وتعالى، وتصويره له، وقيامه على أمره.. وقد وجم فرعون لهذا الجواب المفحم.. فأدار الحديث إلى وجه آخر.. «قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى» ؟ .. ولم القرون الأولى؟ وهل فرعت يا فرعون من النظر فى نفسك، وفيمن حولك، وما حولك؟ إنها مماحكة، يراد بها التضليل، والتمويه على من حوله.. ليروا منه أنه قد أخذ بقول موسى، وبوصفه لربه.. وحتى لكأن هذا الوصف ينطبق عليه هو.. وإذن فلا خلاف!! ويجيب موسى على هذا السؤال المماحك: «قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي.. فِي كِتابٍ.. لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى» .. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 798 لم يشأ موسى- فى هذا الجواب- أن يجرى مع فرعون فى هذا التيه، وأن يبتعد عن غايته التي جاء من أجلها.. ولهذا جاء إلى فرعون بالجواب على تلك الصورة: «عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي» أي لا أعلم من أمرها شيئا.. وإنما علم ذلك عند ربى.. ثم أتبع ذلك بقوله: «فِي كِتابٍ» أي أن أخبار هذه القرون السابقة وأحوال الشعوب والأمم الغابرة، مسطورة فى كتاب.. ثم لكى يقطع على فرعون الطريق إلى أن يسأله «وهل ربك ينسى حتى يسجل ما يقع من أحداث؟» - لكى يقطع الطريق إلى هذا، قال: «لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى» أي أن هذا الكتاب الذي تسجل فيه أحداث الوجود، إنما هو بعض علم الله، كما أن هذا الوجود هو بعض قدرته.. أما ربى فإنه لا يضل ولا ينسى.. هذا هو ردّ موسى على فرعون، وجوابه على هذا السؤال المماحك الغبي.. أما قوله تعالى: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى» .. أما هذه الآيات الأربع، فإنها معترضة بين أحداث القصة، لتذكر بنعم الله، وتزيد فى العرض لدلائل قدرته، ثم إنها من جهة أخرى فاصل بين مجرى الأحداث، يخرج فيه الناس من هذا الجو المتأزم، إلى رحاب هذا الوجود، حيث يستمعون فيه إلى هذا النشيد العلوي، المسبح بحمد الله، المحمل بجلائل نعمه وأفضاله على عباده.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 799 - «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً» أي مهادا، وبساطا ممتعا، «وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا» أي طرقا تسلكونها فى البر والبحر.. «وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى» أي أخرجنا بهذا الماء عالم النبات كله من حشائس، وزروع، وأشجار.. وهو عالم متزاوج كعالم الحيوان والإنسان، فيقوم التوالد فيه كما يقوم فى عالم الإنسان والحيوان.. باللقاح بين الذكر والأنثى.. - «كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ» إنه أمر يراد به التذكير بهذه النعمة العظيمة، التي تقوم عليها الحياة للناس ولأنعامهم.. - «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ» أي فى هذه المعارض من قدرة الله، المبثوثة فى هذا الوجود آيات مبصرة «لِأُولِي النُّهى» أي العقول الواعية، والبصائر المدركة.. - «مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى» .. أي هذه الأرض التي أنتم عليها، والتي جعلها الله بساطا ومعاشا لكم، هى أمّكم التي خلقكم الله منها، وهى القبر الذي يضمكم، ويعيدكم إلى التراب كما كنتم، وهى التي تنشق عنكم، فتخرجون منها مرة أخرى، إلى الحياة الآخرة.. - «وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى» .. وإذا كان فى آيات الله تبصرة لأولى الأبصار، فإن هناك من لا يهتدى بها، ولا يجد فيها هاديا يهديه إلى الله.. ومن هؤلاء أو على رأس هؤلاء- فرعون الذي أراه الله آياته كلها.. فأراه من المحسوس آيات، وأراه من المعقول آيات.. فكذب وأبى أن يستجيب لما دعى إليه من هدى وإيمان.. والآيات المحسوسة هى ما كان بين يدى موسى من معجزات، والآيات الجزء: 8 ¦ الصفحة: 800 المعقولة هى ما حدّثه به موسى عن ربّه، الذي أعطى كل شىء خلقه ثم هدى. فهذه الآيات بمحسوسها ومعقولها، تمثل الآيات كلّها التي لا تنتهى عدّا. الآيات: (57- 70) [سورة طه (20) : الآيات 57 الى 70] قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) التفسير: لقد أسقط فى يد فرعون، وبكلمات قليلة موجزة قطع موسى عليه حبل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 801 المماحكة والجدل.. فجاء إلى موسى من الجانب الذي يستند فيه إلى جبروته وسلطانه، بعد أن خذله المنطق وأفحمه.. جاء إلى موسى يتّهمه بأنّه ساحر!. ولم تذكر القصة هنا ما كان من موسى من إلقاء العصا، بين يدى فرعون، فانقلبت حيّة تسعى، وما كان من إدخال يده فى جيبه، ثم إخراجها بيضاء مشرقة من غير سوء! - لم تذكر القصة هذا الحدث، فقد جاء ذكره فى أكثر من موضع من القرآن الكريم.. وهذا يعنى أن تكرار القصة الواحدة، فى القرآن، يعنى ترابط أجزائها، بحيث يكمّل بعضها بعضا، كما سنعرض لذلك، فى بحثنا: «التكرار فى القصص القرآنى» ، إن شاء الله عند تفسير سورة القصص. قلنا: إن فرعون جاء إلى موسى بسلطانه الغشوم، يتهمه بالسّحر، وأن ما بين يديه لا يعدو أن يكون مما يتعامل به كهنة فرعون من سحر! فقال له: «أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى» .؟ وإذن، فالمعركة لن تكون بين فرعون وموسى.. ولكنها ستكون بين موسى وسحرة فرعون! فهذا هو مكان موسى فى نظر فرعون! ولهذا بادر فرعون بإعلان البدء بالمعركة.. «فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ» .. وأدخل فرعون نفسه فى المعركة باعتباره شاهدا متفرجا، يرفّه عن نفسه، بما يرى من ألاعيب السحر وفنونه! «مَكاناً سُوىً» أي واختر مكانا مبسوطا مستويا، يسع الجموع الحاشدة التي ستشهد هذا السّحر، وفنونه، وحيله!!. «قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ» - هذا الموعد، هو يوم العيد، حيث يخلو الناس، ويفرغون لهذا اليوم.. «وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى» وأن تكون ضحوة العيد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 802 هى وقت اللقاء، حيث شباب النهار، وضحوة الشمس، فلا يخفى على المشاهدين شىء! وهكذا تحدّد المكان والزمان لهذا اللقاء المثير. «فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى» فى هذه الكلمات القليلة المعجزة، قصة طويلة، تضم أحداثا كثيرة، مما كان من فرعون فى جمع السحرة، وحشدهم، وتخيّرهم، واختبار وسائلهم، وتخيّر المناسب القوىّ منها.. كل هذا جمعته كلمة واحدة هى «كيده» فالكيد هنا، هو السحرة، والسّحر، وأدوات السحر.. «قالَ لَهُمْ مُوسى.. وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً.. فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى» . إن كل ما معهم هى مفتريات، وأباطيل، قد لفّقوها، وأخرجوا منها تلك الألاعيب التي تخدع، ولكنها لا تقنع!. - وقوله: «فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ» أي يأخذكم بعذاب يستأصلكم.. وأصل السّحت: ما يستأصل من قشر الرأس، ومنه السّحت: وهو الحرام، الذي يهلك صاحبه ويورده النار، كما فى الحديث: «كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به» . «فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى» . لقد كثر صخب السّحرة، وضجيجهم، وتضاربت آراؤهم فيما يلقون به موسى.. ثم اختلوا بأنفسهم، حتى لا يفتضح أمرهم.. وكان مما تناجوا به أنهم فى مواجهة ساحرين يريدان أن يفسدا على فرعون وقومه أمرهم، وأن يخرجاهم من أرضهم، وأن يبدّلا دينهم.. وليس لدفع هذا الخطر إلا أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 803 يجمعوا أمرهم، ويوحّدوا كلمتهم، ويلقوا هذين الساحرين صفّا واحدا، وجبهة واحدة.. إنّ الأمر جدّ ليس بالهزل، فإمّا حياة وإما موت!. «قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى» . وحين اجتمع للسحرة رأيهم، خرجوا على موسى يدعونه إلى النزال.. وجاءوا إليه مستعلين، متمكنين مما فى أيديهم.. فخيّروه بين أن يبدأ هو المعركة، أو يبدءوها هم!. «قالَ أَلْقُوا» . وهكذا لقيهم موسى.. لقد أعطاهم الجولة الأولى.. وأتاح لهم الفرصة فيه، وأمكنهم منه، إن كانت بين أيديهم القوّة للقضاء عليه.. وهذا التدبير من موسى، وإن يكن مما تقتضيه آداب الحرب، ومقابلة الخصم بمثل ما قابله به من فضل- فإنه هو الموقف الذي كان لا بدّ له أن يتخذه، حيث يفرغ القوم كل ما فى أيديهم، ثم إذا ضربهم الضربة القاضية، لم يكن لقائل أن يقول إنّه لم يتح لهم فرصة كى يعملوا فيه أسلحتهم، ولو أتيح لهم هذا.. فلربما قضوا عليه، قبل أن يقضى عليهم!. «فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى» . لقد ألقى القوم بكل كيدهم، وإذا حبالهم وعصيّهم، بما عمل فيها من حيل، يخيّل للناظر إليها أنها حيات تسعى. «فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى» . لقد وقع فى نفس موسى، من هذا الصّخب واللّجب الذي آثاره فرعون وقومه حين ألقى السحرة بعصيّهم- لقد وقع فى نفس موسى شىء من الرهبة والخوف.. حتى ليكاد الأمر يفلت من يده.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 804 «قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى» . لقد جاءت نجدة السماء إلى موسى، فربطت على قلبه، وثبتت قدمه، فألقى عصاه، فإذا هى تلقف ما يأفكون.. «فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى» . وهكذا انتهت المعركة فى لحظة خاطفة.. فلا طعن ولا ضرب، ولا كرّ، ولا فرّ.. لقد أعطى السّحرة يدهم لموسى، وآمنوا بالله ربّ العالمين.. إنها ضربة واحدة، انتهى بها كلّ شىء.. وإذا الحبال والعصىّ قد اختفت من الميدان.. إنها جميعا فى جوف الحية.. لم يبق منها فى مرأى العين رأس ولا ذنب!. وهكذا يشهد فرعون بعينه تلك الهزيمة المنكرة، التي حشد لها كل كيده، والتي جمع لها فى يوم الزينة الجموع الحاشدة لتشهد الضربة القاضية التي يضرب بها فرعون هذا الساحر الذي جرؤ على لقائه وتحديه.. وهكذا يجىء تدبير الله فوق كل تدبير، وتعلو كلمته كل كلمة.. وإذا هذه الجموع الحاشدة كأنما دعاها موسى، واستجلبها من كلّ مكان، لتعلن فى الناس هذه الضربة القاصمة التي تلقاها فرعون على ملأ من الناس!. ولا يجد فرعون ما يفثأ به غضبه، ويمسح فيه خزيه، إلّا السّحرة.. وها هو ذا يضرب فى وجوههم ضربات مجنونة، ويرميهم بكل ما بين يديه.. ثم يتوعدهم بالموت على أبشع صورة وأشنعها.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 805 الآيات: (71- 76) [سورة طه (20) : الآيات 71 الى 76] قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) التفسير: والتهمة التي يلقى بها فرعون فى وجه السحرة، ويتهددهم بها، هى أنهم قد تواطئوا مع موسى على هذا الأمر، وأن موسى ليس إلا واحدا منهم، بل إنه كبيرهم الذي علمّهم السحر! وإذن، فإن فرعون لم يغلب فى هذه المعركة، إلا لأنها كلها كانت جبهة واحدة، ولم يكن فرعون فى الجبهة المقابلة التي تلقى هذه الجبهة وتقاتلها، وتقضى عليها..! إنها جميعا جبهة سحرة تآمروا عليه واتّحدوا ضده! وليس موسى إلا كبيرهم ومعلمهم! .. «قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؟» . هذه أول تهمة تدين السحرة عند فرعون.. إنهم آمنوا بموسى قبل أن يأخذوا إذن فرعون وإجازته!! حتى لكأنّ الإيمان بالله، عمل من أعمال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 806 السيادة التي فى يد الحاكم، لا يمارسه الإنسان إلا بإذن من السلطان، فهو أشبه بأملاك الدولة، التي تحتاج إلى إذن خاص لتملكها والانتفاع بها..!! وإذا كان للسلطان أن يملك من الناس ما يملكون من مال ومتاع، ويتسلط على الكلمة ينطقون بها، أو يأخذ عليهم السبيل إلى أي وجه يتجهون إليه- فهل يملك السلطان من الناس، ما تكنّه السرائر وما تنطوى عليه القلوب؟. هكذا خيل لفرعون أنه يملك من الناس كل شىء، حتى خفقات قلوبهم، وخلجات صدورهم، فأنكر على السحرة أن يؤمنوا قبل أن يأذن لقلوبهم أن تستقبل أنوار الهدى ونفحات الإيمان!!. «إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ» .. ولهذا تواطأتم معه، وكدتم هذا الكيد، الذي أخرجتم به الناس ليشهدوا تلك المعركة الخاسرة! «فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى» . لقد اختلق فرعون التهمة، ولفق الجريمة، ثم حكم، دون أن يسمع دفاعا، أو يسمح لأحد أن ينطق بكلمة! وعلى تلك النية الشنعاء يعرض فرعون السحرة، ويعدّ العدّة لتنفيذها فيهم.. - وفى قول فرعون: «أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى» إشارة إلى ما تهدد به موسى السحرة، قبل أن تبدأ المعركة، وذلك فى قوله: «وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً.. فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى» . فالعذاب الذي تهددهم به موسى، هو عذاب مؤجل ليوم القيامة.. وهذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 807 العذاب لا يدرك مداه إلا من يؤمنون بالله وباليوم الآخر.. وإذن فالذى وقع فى السحرة من هذا التهديد، هو مجرد توقعات لهذا العذاب، كما تصوره فرعون.. أما العذاب الذي سيأخذهم به فرعون، فهو عذاب حاضر واقع فى الحال، وهو عذاب- على تلك الصورة- فظيع مهول! ولهذا وازن فرعون بين عذابه، والعذاب الذي توعد موسى السحرة به، وأراهم أن عذابه أشد: «وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً» أعذابي الحاضر، أم العذاب الذي يهددكم به موسى؟ وأنا، أم موسى «أبقى» لكم، وأملك لأمركم، وأقدر على التسلط عليكم؟ «قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا.. فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا.. إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ.. وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى» .. وهكذا الإيمان إذا جاء إلى الإنسان، أو جاء إليه الإنسان عن طريق النظر، والبحث، والتحليل، والتعليل.. إنه حينئذ إيمان يخالط المشاعر، ويملك القلوب، ويأسر العقول، ويجعل من الإنسان الفقير الضعيف، قوة هائلة، تتحدى الجبابرة، وتستخف بأعظم الأهوال، وأشد الخطوب.. وهل كان يقع فى الحسبان أن جماعة من رعايا فرعون، وعابديه، الذين ولدوا- كما ولد آباؤهم- فى ظل ربوبيته، وسلطان ألوهيته- هل كان يقع فى الحسبان أن يجىء يوم يقف فيه هؤلاء «العباد» فى وجه هذا «الإله» موقف التحدّى، بل والاستخفاف والسخرية؟ ولكنه الإيمان، يفعل المعجزات، ويقلب الأوضاع والمواضعات! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 808 وقولهم: «وَالَّذِي فَطَرَنا» .. يمكن أن يكون معطوفا على قولهم: «لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ» أي لن نقدمك ونختارك على تلك البينات والدلائل التي كشفت لنا عن وجه الحق، وأرتنا الله ربّ العالمين، الذي فطرنا وأوجدنا، والذي حجبتنا عن رؤيته الضلالات والأباطيل التي كنا نعيش فيها.. ويمكن أن يكون هذا قسما منهم بالله الذي عرفوه منذ الآن، وآمنوا به.. - وقولهم: «وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى» هو رد على قول فرعون لهم: «وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى» .. قوله تعالى: «إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى» .. هذه الآيات، هى تعقيب، على هذا المشهد من مشاهد القصّه.. وفى هذا التعقيب، إلفات إلى مواقع الإيمان من قلوب المؤمنين، وإلى ما يحصّله المؤمنون من ثمرات لهذا الإيمان.. كما يجد فيه المشاهدون لموقف فرعون من السحرة، ما أعد الله للمحرمين من عذاب ونكال.. وإذن فالقضية هكذا: «مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ.. لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى» .. فهذا هو جزاء المجرمين، الذين يلقون الله بجرمهم، ولم يتطهروا منه بالإيمان والتوبة.. إن لهم جهنم، لا شىء لهم غيرها.. وهم فيها بين الموت والحياة.. «لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها..» (36: فاطر) . وأما «مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 809 وتلك الدرجات هى «جَنَّاتُ عَدْنٍ» أي جنات خلود، «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ.. خالِدِينَ فِيها» لا يبغون عنها حولا.. «وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى» وتطهر من ذنوبه وآثامه، بالإيمان، والعمل الصالح، فأصبح أهلا لأن ينزل منازل الطهر والنور، فى جنات النعيم. الآيات: (77- 82) [سورة طه (20) : الآيات 77 الى 82] وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82) التفسير: بعد هذا التعقيب، يجىء فصل جديد من فصول القصة، حيث تنتقل الأحداث إلى مسرح آخر.. تتغير فيه المشاهد، وتنطلق فى اتجاه غير الاتجاه الذي كانت تسير فيه.. فهذا موسى، عليه السلام، يتلقى وحيا من ربه بأن يسرى ليلا ببني إسرائيل، متخذا وجهته نحو الشرق إلى سيناء، ويعبر بهم البحر، صانعا لهم طريقا يبسا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 810 بعصاه التي يضرب بها البحر، فينشق، وينحسر ماؤه عن الأرض.. فإذا هى طريق يبس، كأن لم يمسسه الماء من قبل.. وقبل أن ينطلق موسى بقومه، يسمع كلمات ربّه: «لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى» فيمتلىء قلبه طمأنينة وأمنا إنه لا يخاف (دركا) أي لحاقا من فرعون وجنوده.. وإنه لا يخشى البحر، حين يلقاه معترضا طريقه إلى النجاة من يد فرعون الذي يجدّ فى طلبه.. فالخوف، هو مما يجيئه من ورائه.. والخشية، مما يلقاه من أمامه.. وإنه لا خوف ولا خشية، مع عون الله، وتأييده! وها هو ذا فرعون يحث السير بجنوده، طلبا للحاق بموسى.. ويمضى فى طريقه، حتى يركب الطريق اليبس الذي ركبه موسى وقومه منذ قليل.. وقد أعماه الغيظ، وحبّ الانتقام، من أن يقف على رأس هذا الطريق قليلا، ويسأل نفسه: كيف قام هذا الطريق وبأى يد أقيم إنه ليعلم عن يقين أن لا طريق بين عبرى هذا البحر؟ أفلا تلفته هذه الظاهرة إلى هذه المعجزة التي بين يدى موسى؟ ولكن أنّى للعمى أن يبصروا؟ «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» . لقد أورد فرعون نفسه وقومه موارد الحتوف: «فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ» .. أي غطاهم من البحر ما غطاهم من مائه الغمر.. «وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى» ! وهكذا يسدل الستار على هذه المأساة، التي طوت فرعون وقومه فى لمحة خاطفة..! ولا تذكر القصة ما صنع فرعون بالسحرة، وهل أمضى حكمه فيهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وصلّبهم فى جذوع النخل.. أم أنهم أفلتوا من يديه، ونجوا فى زحمة هذه الأحداث؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 811 يمكن أن يكون فرعون قد ألقى بالسحرة فى السجن، وانتظر تنفيذ حكمه فيهم حتى يفرغ من موسى وقومه.. كما يمكن أن يكون قد أمضى فيهم حكمه.. إن الأمرين يستويان.. فإن يكن السحرة قد هلكوا بيد فرعون، فليسوا هم بأول أو آخر مستشهدين فى سبيل العقيدة.. وإن يكونوا قد نجوا من هذا البلاء، فقد نجا كثير غيرهم من المؤمنين، وأفلتوا من يد البغاة والمتجبرين.. فليس المهم إذن هو أن يهلك المؤمنون أو يسلموا، وإنما المهم هو أن يثبتوا على إيمانهم، ويوطدوا النفس على احتمال كل بلاء، وملاقاة كل شدة.. ثم لا عليهم أن يسلموا أو يعطبوا، مادام قد سلم لهم إيمانهم، وظل بمكانه المكين من قلوبهم.. ثم هاهم أولاء بنو إسرائيل، قد وجدوا نعمة الله وخلصوا من يد فرعون، ونجوا من هذا العذاب المهين الذي جعله طعاما وشرابا لهم.. «يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ» .. فاذكروا هذه النعمة، وارعوها، ولا تفسدوها بالمكر بها، والتنكر لها.. «وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ» أي هذا هو موعد لقائى بكم، حيث تنزلون بالجانب الأيمن من الطور، وحيث يتلقى نبيكم موسى ما أوحى به إليه من كلماتى.. فاستمعوا له، وخذوا بما يوحى إليه، واستقيموا عليه.. «وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى» .. وفى هذا المكان الجديب القفر.. ستجدون طعامكم طيبا حاضرا.. «إنه الْمَنَّ وَالسَّلْوى» .. والمن: هو مادة كالعسل تنزل من السماء كالندى، فتنعقد على ما تعلق به من شجر أو حجر.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 812 والسلوى: طائر يشبه السّمانى.. «كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى» .. فمن هذا الطعام الطيب- المن والسلوى- كلوا، وانعموا، واشكروا لله الذي رزقكم.. ولا تطغوا فى هذا الرزق، الذي جاءكم من غير عمل.. - وفى قوله تعالى: «وَلا تَطْغَوْا فِيهِ» إشارة إلى هذا الرزق الذي أفاضه الله عليهم، بلا حساب، حتى لقد كان ظرفا يحتويهم، ويشتمل عليهم، ويحفّ بهم من كل جانب.. إنه خير كثير، ورزق غدق. وهذا الرزق الغدق، إذا صادف نفوسا خبيثة، بشمت به، وتداعت عليها العلل والأسقام، وتحول به الإنسان إلى حيوان ضار شرس.. كما يقول سبحانه: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى» (6- 7: العلق) .. - وفى قوله تعالى: «فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى» تحذير لبنى إسرائيل، وتهديد لهم من أن تبطرهم هذه النعمة، ويغرّهم بالله الغرور.. والويل لمن تعرض لغضب الله.. إنه يهوى إلى مكان سحيق، حيث الهلاك والبلاء. وقد بطر بنو إسرائيل، ومكروا بآيات الله، وكفروا بنعمه، فحلّ عليهم غضبه، ونزلت بهم لعنته.. كما أخبر الله تعالى عنهم فى آيات كثيرة.. فهم المغضوب عليهم فى كل موضع من القرآن الكريم، ذكر فيه غضب الله.. فمن ذلك قوله تعالى: «وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ (61: البقرة) وقوله تعالى: «ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 813 مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ» (112: آل عمران) . «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً.. ثُمَّ اهْتَدى» .. فالله سبحانه وتعالى يمدّ للظالمين، ويمهلهم، ليكون لهم فى ذلك فسحة من الحياة، يراجعون فيها أنفسهم، ويرجعون إلى الله، تائبين مستغفرين.. وعندئذ يجد هؤلاء الراجعون إلى الله أبواب القبول مفتحة لهم، ويد الرحمة ممدودة إليهم.. وفى قوله تعالى: «ثُمَّ اهْتَدى» .. إشارة إلى أن التوبة لا تقبل إلّا إذا صحّت نيّة التائب، وصدّق نيّته العمل.. فاستقام على طريق الهدى، ولم يلتفت إلى طريق الضلال الذي قطع مسيرته فيه، وجاء إلى الله تائبا.. الآيات: (83- 98) [سورة طه (20) : الآيات 83 الى 98] وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 814 التفسير: وبهذه الآية تختم القصة.. وفى ختامها ينكشف بنو إسرائيل، حيث يرون بأعينهم المنحدر الذي انحدروا إليه، فلقد كفروا بالله، وجعلوا من العجل إلها يعبدونه من دون الله! فما أجدت معهم هذه الآيات، ولا رفعت عن أعينهم ما عليها من الغشاوة، ولا أزاحت عن قلوبهم ما ران عليها من الضلال..! لقد كان موسى على موعد مع ربّه، ليتلقّى الألواح، وما كتب له فيها.. وفى قوله تعالى: «وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى» إشارة إلى أن حدثا قد حدث فيهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 815 من بعده، وأنه وقد جاء يستعجل لهم الخير، قد طعنوه من وراء ظهره، وأفسدوا كل ما أصلحه منهم! ولكنه لم يكن يدرى ماذا حدث.. ولهذا جاء جواب موسى: «هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي» أي أنهم على ما تركتهم عليه، يسيرون على المنهج الذي رسمته لهم، ويتأثرون خطاى فى طاعتك وابتغاء مرضاتك.. «وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى» - هذا هو الجواب عما سأل الله سبحانه وتعالى موسى عنه.. أما ما سبق ذلك، فهو جواب عما استشعره موسى من ذكر قومه فى سياق هذا السؤال.. وتلقى موسى ما أذهله، وأشعل نار غضبه: «قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ» . فهؤلاء هم قومه.. وما أحدثوا.. إنهم ليسوا على أثره كما كان يظن.. لقد ضلوا، ووقعوا فى فتنة عمياء!. - وفى قوله تعالى: «فَتَنَّا قَوْمَكَ» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى خلّى بينهم وبين أنفسهم، وما ينضح منها من مكر وضلال، فتركهم ليد السامرىّ يضلّهم ويذهب بهم فى مذاهب الضلال كيف يشاء! .. «فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ؟ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ؟ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي؟» والأسف، هو الحزين الذي يكاد يقتله الحزن.. والوعد الحسن الذي وعد الله بنى إسرائيل، هو أنه أنزلهم هذا المنزل من جانب الطور الأيمن، وأنزل عليهم المنّ والسلوى.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 816 وفى قول موسى: «أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ؟» استفهام إنكارى، يراد به أن العهد الذي بينهم وبين الله لم يطل، حتى ينسوه. وأنه ليس هذا عهدا تلقوه عن آبائهم وأجدادهم، بل هو عهد معقود مع هذا الجيل نفسه! فكيف ينسى هكذا سريعا؟ وفى قوله: «أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ» ؟. هو إنذار لهم بتلك العاقبة السيئة التي تنتظرهم من هذا الفعل الذي فعلوه، ولم ينظروا فى عواقبه.. وقوله: «فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي» .. معطوف على محذوف، تقديره، أم ظننتم بي الظنون فأخلفتم موعدى معكم الذي واعدتكم عليه، وهو أن أعود إليكم بعد مناجاة ربى؟ .. ويجىء جواب القوم فى هذا الأسلوب الخبيث: «قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا..» إنهم يلقون التهمة عنهم بهذا الاعتذار الصبيانى: «ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا!» أي بإرادتنا، واختيارنا، فقد كنا إزاء أمر لاخيار لنا فيه.. وإليك ما حدث فاحكم.. «وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ.. فَقَذَفْناها..» وزينة القوم هى الحلي التي كانوا قد سلبوها من المصريين، ليلة خروجهم من مصر.. والأوزار: الأحمال جمع وزر.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 817 وعبّروا عن الحلىّ، بالأوزار، لأنها كانت كثيرة من جهة، ولأنها كانت نهبا واختطافا من جهة أخرى.. فتحرّجوا من أن يحملوا هذا الحلىّ، وقد رزقهم الله كفايتهم من المنّ والسلوى.. هذا إلى أنه لم تكن بهم من حاجة إلى المال، فى هذا المكان الذي اعتزلوا فيه الناس.. وانتهزها السامري فرصة، فألقى بما فى يديه على هذا الحلي الذي قذف به القوم.. «فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ» أي عجلا مجسدا، فيه حياة وله خوار.. أي يخرج من فمه هذا الصوت المعروف للبقر.. «فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى.. فَنَسِيَ» .. إنه ما كاد ينظر القوم إلى هذا العجل، الذي خرج من هذا الحلي، حتى فتنوا به، وحتى أطلّ عليهم منه وجه العجل الذي كان يعبده فرعون وقومه.. فقالوا: «هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى» الذي ذهب إليه، ليلقاه هناك بعيدا عنا، فنسى نفسه هناك.. وفاته أن يدرك حظه من لقاء ربه معنا هنا!! وفى الانتقال بالحديث من الخطاب إلى الغيبة، إشارة إلى أن الذين واجهوا موسى أولا بقولهم: «ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها» - هؤلاء هم الذين سبقوا إلى أن يبرئوا ساحتهم.. وأن كل ما فعلوه هو أنهم تخلصوا من هذا الحلي المغتصب الذي كان معهم!! - أما قوله تعالى: «فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ» - فهو مما نطق به لسان الحال، وكشف عنه الواقع.. وهو ردّ على هؤلاء الذين جاءوا فى جلود الحملان الوادعة.. قائلين إنهم لم يفعلوا منكرا، بل فعلوا ما يحمدون عليه.. وهو التخلص من هذا المال الحرام!! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 818 قوله تعالى: «أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً» . هو تعقيب على هذا الحدث، وفيه تسخيف لعقول القوم، وتسفيه لأحلامهم وإنهم لو كانت بهم مسكة من عقل لما رأوا فى هذا الحيوان إلها، يعبدونه، ويرجون منه ما يرجو العابدون من ربهم! فهل إذا تحدثوا إلى هذا الحيوان.. يرجع إليهم قولا، ويرد إليهم جوابا؟ وهل لهذا الحيوان حول وطول يقدر به على النفع لعابديه، أو الضر لذابحيه؟ فما أحط الإنسان، وما أنزل قدره، حين يتخلى عن عقله.. قوله تعالى: «وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي» .. هو تعقيب أيضا على هذا الحدث، يذكر فيه لهرون موقفه من هذا الأمر المنكر، وأنه وقف للقوم، وأنكر عليهم ما هم فيه، وأنهم وقعوا فى فتنة عمياء، وأن هذا ليس ربهم، وإنما ربهم الرحمن، الذي لو لم يأخذهم برحمته لمسخهم على هذه الفعلة، قردة وخنازير!! ولكن القوم مضوا فى ضلالهم، وأبوا أن يستمعوا لهرون.. وكان ردهم عليه أن: «قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى» .. وإنهم ليقولون هذا، وقد قطعوا من قبل بأن موسى قد ضل طريقه، فهلك، ولن يهود! ومن عجب أن التوراة تذكر فى صراحة أن الذي صنع العجل ودعا القوم إلى عبادته، هو هرون عليه السلام.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 819 تقول التوراة فى الإصحاح الثاني والثلاثين من سفر الخروج: «ولما رأى الشعب أن موسى أبطأ فى النزول من الجبل، اجتمع الشعب على هارون، وقالوا له: قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا، لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ماذا أصابه.. فقال لهم هارون انزعوا أقراط الذهب التي فى آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتونى بها.. فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي فى آذانهم وأتوا بها إلى هارون، فأخذ ذلك من أيديهم وصوّره بالإزميل وصنعه عجلا مسبوكا..» أهذا فعل يكون من نبى من أنبياء الله، ورسول من رسله؟ «سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ» (16: النور) وليس هذا الذي تقوله «التوراة» عن «هرون» إلا واحدة من تلك الشناعات الكثيرة التي سوّد بها اليهود وجه التوراة، بما حملوا إليها من مفتريات وأباطيل، على الله، وعلى أنبياء الله، وعلى عباد الله!! ثم تعود أحداث القصة إلى التحريك من جديد.. فها هو ذا موسى- عليه السلام- يتجه إلى أخيه هرون، ويأخذ برأسه وبلحيته فى عنف وقوة.. قائلا: «يا هارُونُ.. ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ.. أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي؟» أي ما منعك أن تأخذ الجانب الذي أنا عليه من الإيمان بالله، وأن تنحاز إليه أنت ومن اتبعك؟ «أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي؟» .. والأمر الذي أمره به موسى، هو قوله له، حين ذهب لمناجاة ربّه: «اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ» (142: الأعراف) .. وجاء جواب هرون: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 820 الَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي.. إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي» .. إنه لم يلق أخاه بالشدّة التي لقيه هو بها، وإنما عرف لأخيه قدره ومقامه، وأنه كليم الله، وأن هرون وزيره.. فقال فى لطف ورقة: َا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي» بل أطلق سراحى، ودعنى أبين لك ما حدث.. إنى خشيت أن أعتزل القوم أنا ومن كان معى، ممن لم يرض ما فعله القوم- فتقول لى: إنك فرقت بين بنى إسرائيل، ولم تتبع ما قلت لك حين دعوتك إلى أن تخلفنى فيهم، وأن تصلح، ولا تتبع سبيل المفسدين.. وقد رأيت أن الفرقة بين القوم ستحدث تصدعا وشقاقا، وربما قتالا.. فرأيت أن أدع الأمر على ما هو عليه، بعد أن نصحت واجتهدت فى النصح، حتى تأتى أنت وتعالج هذا الدعاء بما ترى، أو بما يريك الله! ويدع موسى أخاه. ويتلفت إلى السامري: «قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ؟» أي ما شأنك؟ وماذا فعلت؟ «قالَ «بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ.. فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ.. فَنَبَذْتُها.. وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي» . - قوله: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ» .. أي رأيت ما لم ير القوم.. وهو أنى رأيت أثرا من آثار الملك الذي كان يتحدث إليك.. فقبضت قبضة من التراب حيث موضع قدمه.. وعلمت أن الملك روح خالص، وأن فى آثاره على الأرض أثرا من الروح.. هكذا قدرت.. وقد رأيت أن أجرّب الأمر فصنعت من الحلىّ تمثالا على هيئة عجل.. ثم ألقيت فيه بهذا الأثر، فدبت فيه الحياة، وانطلق منه الخوار.. ففتن القوم به.. وعبدوه! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 821 وكان ردّ موسى على السامري: «قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ» . هذا هو عقابك فى الدنيا، أن تتحاشى الناس، ويتحاشاك الناس.. وألا تمسّهم، ولا يمسّوك، فإن فعلت أو فعل بك، أصبت بالحمى، أو مسّك شواظ من نار.. وهذا هو عقاب الدنيا.. وهو من جنس عمله، فقد أراد بالعجل الذي صنعه، أن يجمع الناس حوله، وأن يكون ذا سلطان فيهم.. فكان أن حرمه الله هذا السلطان، بل وأخرجه من أن يعيش مع أحد، أو يتصل بأحد، بهذا الداء الذي الذي رماه به.. وقوله: «وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ» .. الموعد، هو الوعد، وهو يوم القيامة.. وهو موعد الناس جميعا للحساب والجزاء.. ومن بين الناس السامرىّ هذا، فإنه سيبعث، ويحاسب، ويجازى على ما كسب. وقوله: «وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً» .. هو خطاب من موسى إلى السامري، وإلى بنى إسرائيل جميعا.. وخصّ السامرىّ بالخطاب، لأنه رأس الفتنة، ومدبرها، ومخرج هذا الإله للناس، فى العجل الذي صوّره.. فهذا الإله والعجل الذي ظلّ عليه القوم عاكفين، يعبدونه، ويقدمون القرابين إليه- سيمثل به موسى أشنع تمثيل أمام أعينهم.. إنه سيحرقه، ثم يطحنه طحنا، وينسفه نسفا، حتى يصير رمادا.. ثم يلقى به فى اليم.. فهل بمثل هذا يفعل بالإله؟ وهل يكون إلها من لا يدفع عن نفسه ما يفعل به من مكروه؟ وقوله تعالى: «إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً» .. هو من قول موسى، تعقيبا على هذا الفعل الذي فعله بالعجل، وأرى القوم منه بأنه ليس إلا شيئا من هذه الأشياء القائمة بينهم، من جماد أو حيوان.. وبأنهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 822 كانوا على ضلال مبين، وجهل غليظ، حين عبدوا هذا الكائن، واتخذوه إلها.. ولكن هل ينتفع القوم بهذه التجربة الحيّة؟ وهل تخلص نفوسهم للإيمان بالله والاستقامة على سبيله؟ إن الأيام ستكشف منهم عن أخبث طباع، والأم نفوس ركبت فى الناس! الآيات: (99- 104) [سورة طه (20) : الآيات 99 الى 104] كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104) التفسير: بدأت قصة موسى بتوجيه الخطاب إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى.. «وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى..» ثم جاءت الآيات بعد هذا تحدّث بهذا الحديث.. فهو إذن حديث مساق إلى النبىّ، صلوات الله وسلامه عليه.. تسرية له، وتثبيتا لفؤاده، بما يشهد من مواقف النبيين مع أقوامهم، ومواقف أقوامهم منهم، وما يلقى النبيون من معاندين، وضالّين، وسفهاء.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 823 ثم إذا انتهت القصة، عاد الخطاب إلى النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- توكيدا للخطاب الأول، وتذكيرا به، وأن هذه القصة، وغيرها من القصص القرآنى، إنما كانت من أجل النبىّ.. ثم إنه من جهة أخرى إيناس له صلوات الله وسلامه عليه، بهذه الصلة الدائمة بينه وبين ربّه، بهذا الخطاب الذي يخاطب به من ربّه..، فى ثنايا الآيات التي تتنزل عليه. وقوله تعالى: «كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً» .. إشارة إلى أنه بمثل هذا القصص يقصّ الله على النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- أنباء ما قد سبق من أحوال الرسل والأمم.. وأن قصة موسى هذه ليست إلا واحدة من القصص الذي سيقصه الله سبحانه وتعالى على النبىّ، فيما سينزل من القرآن بعد هذا.. - وفى قوله تعالى: «وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً» - إشارة أخرى إلى أن القرآن الذي بين يدى النبىّ، وما فيه من آيات، دالّة على قدرة الله، وما فيه من شرائع وأحكام- هو ذكر لمن يتذكر، وعظة لمن يعتبر، وأن هذا القصص ليس إلا من بعض آيات الله التي تحمل العظة والعبرة.. قوله تعالى: «مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا» .. أي من أعرض عن هذا القرآن، ولم يقبل عليه، وينتفع به، ويأخذ بما فيه من عبر وعظات، وأحكام وشرائع- من أعرض عن هذا «الذكر» فإنه قد خاب وخسر، وجاء يوم القيامة حاملا «وزرا» أي إثما عظيما، ينوء به الجزء: 8 ¦ الصفحة: 824 كاهله، ويعيا به جهده.. لأنه يحيا بغير نور، ويسعى على غير هدى.. ثم يتجه الخطاب بعد هذا إلى المعرضين جميعا عن هذا الذكر.. إنهم سيحملون هذا الوزر أبدا، لا يتخلّى عنهم، ولا يرفع عن كواهلهم.. وهو حمل يسوء حامليه يوم القيامة، ويصبّ عليهم البلاء صبّا.. والسرّ فى إفراد الخطاب أولا، ثم فى جمعه ثانيا «مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ ... وَساءَ لَهُمْ» ، هو- والله أعلم- أن الإعراض عن الذكر حال من أحوال الإنسان فيما بينه وبين نفسه.. لا ينكشف لغيره من الناس، إلا ما شفّ عنه عن ظاهره، أما ما انطوى عليه باطنه- وهو الذي يمثل الحقيقة، فإنه سرّ بين الإنسان وخالقه.. أما يوم القيامة، فلا سرّ، حيث تفضح الأعمال، وينكشف المستور.. وهنا يجتمع المجرمون إلى المجرمين.. وإذا هم جميعا على حال سواء.. قوله تعالى: «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً» .. الظرف هنا «يوم» هو بدل من الظرف فى قوله تعالى: «وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا» فيوم القيامة، هو يوم النفخ فى الصور، حيث يحشر المجرمون يومئذ زرقا، أي زرق الوجوه، لما يركبهم يومئذ من همّ وكرب، وما يظهر على وجوههم من آثار هذا الهم، وذلك الكرب، إذ كانت الوجوه هى التي تكشف عما يقع على مشاعر الإنسان من سوء أو مسرة.. كما يقول سبحانه وتعالى: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها.. فاقِرَةٌ» (22- 25: القيامة) . وكما يقول سبحانه فى وجوه أهل النعيم «تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ» (24: المطففين) وفى وجوه أهل الشقوة والجحيم: «وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 825 عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ» (40- 42: عبس) . والزرقة التي تعلو الوجوه، هى أولى الدلالات على انحباس الدم وتجمده فى كيان الإنسان، مما يعانى من ضيق وبلاء! قوله تعالى: «يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ.. إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً» .. يتخافتون: أي يتحدثون بحديث خافت، يسترونه بينهم.. فيقول بعضهم لبعض «إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً» أي: ما لبثتم إلا عشرا، أي عشر ليال فى دنياكم هذه التي كنتم فيها.. - وقوله تعالى: «نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ» إشارة إلى علم الله سبحانه وتعالى بكل ما يسرّ به بعضهم إلى بعض، وبكل ما يجرى فى خواطرهم.. - وقوله تعالى: «إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً» أي ونحن أعلم بما يقوله «أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً» أي أعدلهم قولا، وأقربهم إلى الحال التي يجدونها فى أنفسهم: «إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً» أي ما لبثتم إلا يوما.. فهذه الدنيا، وما تقلّب فيه أهلها، من نعيمها، وسلطانها، لا تبدو لأهلها يوم القيامة إلا أشبه بيوم، طلعت شمسه، ثم غربت.. «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» (185: آل عمران) .. الآيات: (105- 114) [سورة طه (20) : الآيات 105 الى 114] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 826 التفسير: ذكرت الآيات السابقة على هذه الآيات، يوم القيامة، وما يقع للظالمين فيه، وما يجرى بينهم من أحاديث متخافتة.. وكان مما يسأل عنه من شأن هذا اليوم.. هذه الجبال.. وهل تبقى على ما هى عليه؟ فكان السؤال، وكان الجواب: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ» أي ما شأنها يوم القيامة؟ وهل تظلّ قائمة؟ وهلّا يجد الناس فيها يومئذ عاصما يعتصمون به فى مغاراتها وكهوفها، من هول هذا اليوم.. «فَقُلْ يَنْسِفُها. رَبِّي نَسْفاً» أي يدكها دكّا، ويهدّها هدّا، فإذا هى تراب على هذا التراب: «فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً» أي يتركها، ويصيرها، «قاعا» كهذه القيعان التي كانت تعلوها.. والقاع: الأرض المنخفضة.. والصفصف: المستوي من الأرض.. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 827 «لا تَرى فِيها عِوَجاً» حيث تسوى بوجه الأرض، فتكون هى والأرض بساطا واحدا، لا عوج فيه، لأن العوج إنما يبدو فى الأماكن البارزة.. «وَلا أَمْتاً» أي لا ارتفاعا ولا انخفاضا، بل كلها على سواء.. وقوله تعالى: «يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ.. وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً» .. أي فى هذا اليوم، يستجيب الناس- بعد أن يبعثوا من قبورهم- يستجيبون لصوت الداعي الذي يدعوهم إلى المحشر، دون أن ينحرفوا أو يتلبثوا.. «وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ» أي سكتت الأصوات، خشية وجلالا لله سبحانه وتعالى «فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً» فلا يكون هناك إلا الهمس والتخافت.. قوله تعالى: «يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا» . أي فى هذا اليوم لا تنفع الإنسان شفاعة فى نفسه إلا من أذن له الرحمن بالقول، والمحاجّة عن نفسه.. ثم كان قوله هذا مقبولا عند الله، مرضيا عنه.. والمراد بالقول، هو القول الذي يعرض فيه الإنسان أعماله فى الدنيا، من خير وشر، وحسن وقبيح.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا.. لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً» (38: النبأ) .. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 828 قوله تعالى: «يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً» .. أي أن الله سبحانه يعلم من أمر عباده كل شىء.. فما ينطقون به، وما لم ينطقوا به، هو فى علم الله، لا يعزب عنه شىء.. أما هم فإنهم لا يحيطون علما بالله سبحانه وتعالى، ولا يدركون كنهه وحقيقته.. قوله تعالى: «وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً» .. أي فى هذا اليوم تعنو الوجوه، وتخضع الرقاب لله الحي القيوم.. لا تملك نفس لنفس شيئا.. «وَقَدْ خابَ» وخسر فى هذا اليوم «مَنْ حَمَلَ ظُلْماً» أي من جاء وهو يحمل على كاهله «ظلما» أي منكرا من المنكرات وأفدح الظلم وأبهظه، هو الشرك بالله كما يقول سبحانه: «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» .. وذلك هو البلاء العظيم، والخسران المبين. قوله تعالى.. «وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً» أي أما من جاء بالصالحات من الأعمال، وكان مؤمنا بالله، فإنه فى أمان من أهوال هذا اليوم.. «فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً» .. بل سيجد الجزاء الحسن لما عمل، ويوفّى أجره كاملا، بل ويضاعف له أجره.. «وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» .. والهضم: هو الجور على الحقوق، وبخسها ونقصانها.. قوله تعالى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 829 «وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً» .. أي بمثل هذا التّصريف، والتنويع، فى عرض ما يعرض من صور الوعيد لهذا اليوم، والتخويف منه- صرّفنا، وعرضنا هذه المعارض من أهوال الآخرة، وما يلقى الظالمون فيها.. وذلك ليكون للناس من ذلك ما يحملهم على اتقاء أهوال هذا اليوم، بالإيمان بالله، والأعمال الصالحة التي تنال مرضاته.. فإن لم يتقوا هذا اليوم، ويعملوا له، فلا أقلّ من أن يحدث لهم هذا التصريف والعرض لعذاب هذا اليوم- ذكرا، أي تذكرا له، وإحساسا به.. فإذا صحبهم هذا الإحساس، كان من شأنه أن يحيد بهم عن طريق الضلال يوما إلى طريق الهدى والإيمان.. أما من لا يكون لهم من هذا التصريف ما يبعثهم على التقوى، أو استصحاب الخوف من عذاب الله- فهم الخاسرون الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.. - وفى قوله تعالى: «أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا» إشارة إلى هؤلاء المشركين من قريش، وأن هذا التصريف من الوعيد، قد جاءهم بلسان عربىّ مبين، بحيث لا نخفى عليهم دلالاته، وإذن فلا عذر لهم، إذا هم عموا عن النظر فى آياته البينات! قوله تعالى: «فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ.. وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» .. «فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ» أي تنزّه، وعلا، وعظم، سبحانه وتعالى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 830 جلّ شأنه.. فهو «الْمَلِكُ الْحَقُّ» له الملك وحده، لا يشاركه فيه غيره، ولا يملك معه أحد شيئا.. فهو- سبحانه- المالك ملكا حقيقيا لكل موجود.. وفى هذا المقطع من الآية تمجيد لله، وتنزيه له.. لأنه سبحانه وحده المستحق للتنزيه والتمجيد، والحمد، إذ خلق الوجود، وأقام كل مخلوق فيه، وهداه إلى ما هو أصلح له، ورسم للناس طريق الهدى، وأبان لهم معالمها، وبعث فيهم رسله، مبشرين ومنذرين.. «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» (165: النساء) «وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ» .. هو دعوة للنبى صلى الله عليه وسلم ألّا يعجل بقراءة ما ينزل عليه من القرآن، من قبل أن ينتهى جبريل- مبلّغ القرآن- من الإفضاء بكل ما أمر بتبليغه.. وقد كان النبىّ صلوات الله وسلامه عليه، كلّما سمع آية أو بعض آية من جبريل ردّدّها خوفا من نسيانها.. ثم يصل ما سمع بما يسمع.. وذلك حرصا منه صلى الله عليه وسلم، على ألا يفوته شىء من كلمات ربّه.. - فجاء قوله تعالى: «وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ» - إرشادا، وتعليما، للنبىّ، وتوجيها كريما لحسن الاستماع لآيات الله.. كما يقول سبحانه: «وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا» (203: الأعراف) .. وقد جاء فى موضع آخر، قوله تعالى: «لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ» (16- 19: القيامة) .. وجاء فى موضع ثالث قوله سبحانه: «سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى» (6: الأعلى) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 831 وهذا كلّه تطمين للنبىّ، وإزالة لمخاوفه من أن يفوته شىء من كلام ربّه.. فالله سبحانه وتعالى سيقرئه، والله سبحانه وتعالى، سيحفظ عليه ما قرأ، فلا ينسى.. - وفى قوله تعالى: «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» .. أي اطلب المزيد من العلم، فيما ينزل عليك من آيات ربك.. فهذا الذي أخذته من كتاب الله، هو قليل بالنسبة إلى الكثير الذي لم ينزل عليك بعد.. فلا تعجل!! وصبرا، فإن ما عند الله لك، كثير.. الآيات: (115- 127) [سورة طه (20) : الآيات 115 الى 127] وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 832 التفسير: قوله تعالى: «وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» . مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة عليها، قد جاءت إلى النبىّ الكريم منبهة له ألا يعجل بالقرآن، وألا يسبق الوحى، حتى ينتهى جبريل من أدائه.. وهذا الذي ينزل من القرآن الكريم، هو عهد بين النبىّ وربّه، وأن من واجبه أن يتثبت منه، وأن يقف طويلا عند آياته وكلماته، حتى يقوم بالوفاء بهذا العهد، على أكمل كماله، وأتم تمامه.. وهذا عهد كان بين الله سبحانه وتعالى، وبين آدم.. وقد نسى آدم هذا العهد، فكان أن وقع فى المعصية..! والله سبحانه وتعالى يريد أن يعصم النبي- صلوات الله وسلامه عليه- مما وقع فيه آدم.. ولهذا، فهو سبحانه، يدعوه إلى التثبت من الوحى.. ثم يعرض له صورة يمكن أن تحدث له، إذا لم يتثبت مما يتلقى من آيات ربّه.. والعهد الذي عهد به سبحانه وتعالى إلى آدم، هو قوله سبحانه وتعالى: «وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ» (35: البقرة) . - وقوله تعالى: «فَنَسِيَ» أي نسى آدم عهد ربّه، وأكل من الشجرة! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 833 وفى التعبير عن مخالفة أمر ربّه وأكله من الشجرة، بالنسيان، إشارة إلى ما شمل الله سبحانه وتعالى به آدم من لطفه ورحمته.. فتاب عليه، وغفر له، وجعل معصيته تلك من قبيل ما يقع من الإنسان من سهو ونسيان! - وقوله تعالى: «وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» إشارة إلى أن آدم قد ضعف أمام إغراء الشيطان له، ولم يجد العزم الذي يمضى به أمر ربّه، ويخزى به الشيطان الرجيم، ويكبته! قوله تعالى: «وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى» . هو استعراض لقصة آدم، وعهد الله إليه.. وفى القصة تقديم وتأخير. فقد قدمت خاتمتها على أحداثها، فقوله تعالى: - «وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ..» هو ختام القصة، أو التعقيب عليها، وقدّم للاهتمام به، ولإلفات النبىّ إليه، لأنه هو المقصود من القصة هنا.. قوله تعالى: «فَقُلْنا يا آدَمُ.. إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى» .. وتوجيه الخطاب إلى آدم فى قوله تعالى: «فَتَشْقى» إشارة إلى أن آدم هو الذي يحمل العبء الأكبر فى مواجهة الحياة، إذا هو خرج من الجنة.. قوله تعالى: «إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى» . تلك هى جنة آدم..! إنها غابة من تلك الغابات الكثيفة، التي تكثر فيها الفاكهة والظلّ والماء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 834 فمن فاكهة تلك الجنة يأكل هو وزوجه.. فلا يجوع.. ومن ماء الينابيع يشرب، فلا يظمأ.. وفى أكناف الغابة يستكن، ولا يخرج للعراء.. وفى ظلال الأشجار، يتّقى أشعة الشمس.. فلا يضحى.. أي لا يجد الحرّ الذي يتسلط عليه من الشمس، حين يكون بالضّحّ، أي العراء.. تلك- فى رأينا- هى جنة آدم، وهى جنة أرضية، وآدم فى هذه الجنة، أو الغابة لم يكن إلا الثمرة الأولى التي نضجت على هذه الأرض، من شجرة الحياة.. وقد عرضنا لهذه القضية فى مبحث خاص، فى الجزء الأول من كتابنا هذا: «التفسير القرآنى للقرآن» .. قوله تعالى: «فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ.. هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ.. وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى» .. ولقد استجاب آدم لإغراء الشيطان، ولدوافع نفسه للكشف عن هذا السر المضمر فى تلك الشجرة، التي نهى عن الأكل منها.. فأكل منها هو وزوجه. وهنا تكشفت لهما الحقيقة من أمرهما، ونظرا إلى وجودهما- لأول مرة- نظرة واعية مدركة، فرأيا أنهما على حال من العرى، لا تليق بهما.. فأخذا يخصفان عليهما من ورق الجنة، ليسترا به عورتيهما.. - وقوله تعالى: «وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى» إشارة إلى موقف آدم بعد أكله من الشجرة.. لقد عصى ربه، عصاه لأنه أصبح ذا إرادة، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 835 تجىء منها الطاعة، كما يجىء منها العصيان! وهو بهذا العصيان قد «غوى» أي ضلّ، إذ اتبع الجانب المنحرف من إرادته، ولم يتبع الجانب المستقيم منها. قوله تعالى: «ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى» .. إشارة إلى أن الله سبحانه، قد تجاوز لآدم هذا، عن فعلته تلك.. إذ كانت أول زلّة له، وهو يضع أول قدم له على طريق الإنسانية.. ثم هداه ربّه بعد هذا، وثبت قدمه على الأرض، بما فتح له عقله من آفاق واسعة فيها، لا تزال نتسع يوما بعد يوم.. إلى ما شاء الله. قوله تعالى: «قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى» والهبوط هنا، هو الخروج من الجنة أو الغابة، إلى حيث الحياة الواسعة الرحيبة.. والخطاب هنا للآدميين، الذين خرجوا من عالم الغابة، إلى عالم الإنسان فى شخص آدم وزوجه.. وهم فى هذا العالم، متنافسون، متنازعون، متعادون.. تنفرق بهم السبل، وتنحرف الاتجاهات.. وقد كان من رحمة الله بهم أن بعث فيهم رسله، يحملون فى أيديهم مصابيح الهدى.. فمن اتبع هدى الله، فلا يضلّ ولا يشقى.. ومن أبى، وأعرض عن ذكر الله والاستقامة على هداه، فإنه سيحيا فى هذه الدنيا حياة تعسة ضالة، يضرب فيها فى ظلام، لا يرى فيه بصيصا من الأمل والرجاء.. ثم يحشر يوم القيامة أعمى، حيث يشتد به الجزء: 8 ¦ الصفحة: 836 الكرب، وتغيم فى وجهه المرئيات، فلا يرى إلا ظلاما وضلالا. قوله تعالى: «قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى» . وفى ذلة وانكسار، يسأل الظالم ربه: «لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً؟» فى الدنيا.. ويأتيه الجواب من الحق سبحانه وتعالى: «كَذلِكَ» أي كهذا العمى الذي أنت عليه فى الآخرة، كنت فى الدنيا، إذ أتتك آياتنا فعميت عنها، وأهملت النظر فيها.. «وَكَذلِكَ الْيَوْمَ» أي فى هذا اليوم، يوم القيامة «تنسى» أي تترك فيما أنت عليه من عمى.. قوله تعالى: «وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى» . أي بمثل هذا الجزاء نجزى من أسرف على نفسه، ودفع بها فى متاهات الضلال، ولم يؤمن بآيات ربه التي عرضت عليه.. إنه يحشر يوم القيامة أعمى.. ثم إن وراء هذا عذابا هو أشدّ من هذا العمى، وأبقى أثرا. الآيات: (128- 135) [سورة طه (20) : الآيات 128 الى 135] أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132) وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135) الجزء: 8 ¦ الصفحة: 837 التفسير: قوله تعالى: «أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى» .. الاستفهام هنا للإيجاب والتقرير.. ويهدى: يبيّن.. والنّهى العقول، حيث تنهى أصحابها عن المنكرات من الأمور.. ويكون المعنى.. أن القرآن الكريم قد بين لهؤلاء المشركين ما حل بالأمم السابقة قبلهم، وما صار إليه أمرهم، بعد أن عمروا الأرض أكثر مما عمرها هؤلاء المشركون، وقد كان فى ذلك عبرة لمن يدير نظره، ويلفت عقله إلى هذه العبر والمثلات.. ولكن القوم فى غفلة معرضون.. - وقوله تعالى: «يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ» جملة حالية، وصاحب الحال ضمير الغائب العائد على المشركين فى قوله تعالى: «قَبْلَهُمْ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 838 قوله تعالى: «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى» . الكلمة التي سبقت من الله سبحانه وتعالى، هى قوله تعالى للنبى الكريم: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» فلولا هذه الكلمة التي أعطاها الله سبحانه وعدا لنبيه الكريم «لَكانَ لِزاماً» أي لكان أمرا لازما لا محيص عنه، وهو أن يحلّ بهؤلاء المشركين، الذين عصوا رسول الله ما حلّ بغيرهم من القرون السابقة، الذين عصوا رسل الله.. - وقوله تعالى: «وَأَجَلٌ مُسَمًّى» معطوف على قوله تعالى: «كَلِمَةٌ سَبَقَتْ» .. أي لولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمّى لكان لزاما.. وقدّم جواب لولا على بقية الشرط، للاهتمام به، والإلفات إليه.. وأن كلمة الله هى الرحمة التي رحمهم بها بفضل مقام النبىّ الكريم فيهم.. فلعلّ هؤلاء المشركين يعرفون نعمة الله فيهم، ومقام النبي بينهم.. والأجل المسمى، هو ما قدّر لهم من آجال فى هذه الدنيا.. قوله تعالى: «فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى» . الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم، وهو دعوة له بالصبر على ما يكره من أقوال المشركين المنكرة التي يرمونه.. بها وليجعل من تسبيح ربّه، وذكره وحمده وشكره، غذاءه الذي يتغذّى به، ودواءه الذي يتداوى به، فى أوقات الجزء: 8 ¦ الصفحة: 839 مختلفة من الليل والنهار.. قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها، وفى أجزاء من الليل، وأطراف من النهار.. وبذلك تسكن نفسه ويطمئنّ قلبه.. «أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (28: الرعد) . قوله تعالى: «وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا.. لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ.. وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى» . والخطاب هنا أيضا للنبى، ومن ورائه كل من اتّبعه، وسلك سبيله.. - وقوله تعالى: «وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ» نهى يراد به النصح والإرشاد، وذلك بألا يلتفت النبىّ والمؤمنون إلى ما بين أيدى هؤلاء المشركين من أموال وبنين وألا يقع فى نفسه، أو أنفس المؤمنين، أن ذلك الذي أمدّ الله بعض المشركين، به، من نعمة، هو تكريم لهم، وإحسان منه سبحانه وتعالى إليهم.. بل هو ابتلاء وامتحان لهم، ليرى منهم سبحانه أيشكرون أم يكفرون؟ .. وها هم أولاء قد كفروا به، وحادّوه، وحاربوا رسوله، وبهذا تحولت هذه النعم إلى سيئات وأوزار، تضاف إلى رصيدهم مما كسبوا من سيئات وأوزار.. - وفى قوله تعالى: «أَزْواجاً مِنْهُمْ» إشارة إلى أن ما يتمتع به المشرك من عطاء الله هو شركة بينه وبين زوجه، التي هى متعة من متعه وهو متعة لها.. فالمرأة كالرجل هنا، فى أنها مبتلاة بنعم الله، ومحاسبة عليها.. فإن شكرت، وآمنت، وعملت صالحا أخذت بحظها من رضوان الله، وإن جحدت وكفرت، وخالطت الآثام، فعليها وزر ما عملت، وستلقى جزاءها من عذاب الله. - وفى قوله تعالى: «زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا» إشارة إلى أن ذلك المتاع الذي فى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 840 أيدى الناس، هو زهرة من زهرات الحياة الدنيا، يبهج العين، ويسرّ القلب.. ولكنّه لا يعمّر طويلا، بل سرعان ما يذبل ويجفّ، ثم يصير حطاما.. تماما كالزهرة. تملأ العين بهجة ومسّرة، ثم تموت وشيكا!! و «زهرة» منصوب على أنه مفعول ثان للفعل: «متّعنا» لتضمنه معنى «أعطينا» . - وفى قوله تعالى: «وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى» - إشارة إلى ما بين يدى النبىّ الكريم من رزق عظيم.. هو القرآن الكريم، ثم تلك الرسالة الشريفة التي اصطفاه الله لها، وتخيّره لتبليغها عنه إلى عباده! فأى رزق خير من هذا الرزق؟ وأي عطاء أكرم وأوفر من هذا العطاء؟ إنه أشرف قدرا، وأعظم أثرا، وأخلد ذكرا من كلّ ما فى هذه الدنيا من مال ومتاع! قوله تعالى: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها.. لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً.. نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى» .. هو دعوة للنبى الكريم أن يدعو أهله من زوج وولد، وكلّ مؤمن ومؤمنة، إذ كانوا جميعا أهله، وهو القيّم عليهم، والمدبّر لأمرهم- أن يدعوهم جميعا للصلاة، إذ هى الصورة المثلى الكاملة لذكر الله، وحمده وشكره.. - وقوله تعالى: «وَاصْطَبِرْ عَلَيْها» أمر بالمداومة عليها، وإن كان فى تلك المداومة شىء من العناء.. فذلك تكليف، وللتكاليف أعباؤها وأثقالها، وإلا ما استحقّ القائمون بها حمدا، ولا استوجبوا أجرا.. - وفى قوله تعالى: «لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً» - إشارة إلى أن الصّلاة التي يؤديها النبىّ ومن معه من المؤمنين لله- ليست سدّا لحاجة الله سبحانه وتعالى إليها، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 841 فالله سبحانه فى غنى عن العالمين.. وكلّ ما يتقدم به المؤمنون والمتقون إلى الله من طاعات وقربات عائد إليهم، حيث تطهر به قلوبهم، وتزكو به نفوسهم، وفى هذا يقول الله تعالى: «ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» (57- 58: الذاريات) ويقول سبحانه فى هدى الأضاحى: «لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ» (37: الحج) . - وفى قوله تعالى: «نَحْنُ نَرْزُقُكَ» مقابلة لقوله تعالى: «لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً» أي بل نحن نرزقك، ونتفضّل عليك ابتداء وانتهاء.. - وقوله تعالى: «وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى» - إشارة إلى أن ما يؤديه النبىّ والمؤمنون لله سبحانه وتعالى من عبادات، وقربات، هو مما يدّخر لهم، ويبقى.. كما يقول سبحانه: «وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا» (46: الكهف) . وفى إسناد العاقبة إلى التقوى، لا إلى الأعمال الصالحة، إشارة إلى أن الأعمال الصالحة هى وسائل إلى غاية، والغاية هى التقوى.. التي هى ثمرة الأعمال الصالحة.. قوله تعالى: «وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ؟ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى؟» .. القائلون هذا القول هم المشركون.. وفى حكاية قولهم، إعلان لهم بتلك التهمة، وعرضهم فى ساحة الاتهام بها، والحساب عليها.. والآية التي يطلبونها، ويلحّون فى طلبها، هى آية مادية، يرونها رأى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 842 العين، ولو كانت عذابا يسقط عليهم من السماء، أو بلاء يطلع عليهم من الأرض.. وفى قولهم: «مِنْ رَبِّهِ» استهزاء بالنبيّ وسخرية به، وسفاهة عليه منهم.. وقد ردّ الله عليهم بقوله: «أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى؟» والبيّنة هى القرآن الكريم، والنبىّ الكريم معا.. كما يقول سبحانه: «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ» (1- 3: البينة) . والصحف الأولى، هى صحف إبراهيم وموسى، كما يقول الله تعالى: «إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى» (18- 19: الأعلى) . والقرآن والرسول هما بينة لما فى الصحف الأولى، أي هما بيان لها، ومعلم لما جاء فيها.. فهو المصدّق لها، والمهيمن عليها.. قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى» . هو تهديد للمشركين، وأنهم فى معرض العذاب بعد أن نزل عليهم القرآن، وبلّغهم الرسول آيات ربّه.. وأنهم لا حجة لهم إذا هم وقعوا تحت عذاب الله، وأخذوا بما أخذ به الظالمون قبلهم.. فهم- والأمر كذلك- لا يستطيعون أن يقولوا: ربّنا لولا أرسلت إلينا رسولا قبل أن تأخذنا بهذا العذاب؟ إنك لو أرسلت إلينا رسولا لآمنا به، ولما حلّ بنا الذل والخزي، ولما نزل بنا ما نزل من بلاء! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 843 لقد قطعت حجتهم.. فهذا رسول الله بينهم، وهذا كتاب الله يتلى عليهم..فماذا هم قائلون لو أخذهم الله ببأسه، وأوقع بهم عذابه؟ قوله تعالى: «قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ.. فَتَرَبَّصُوا.. فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى» .. وبهذه الآية تختم السورة الكريمة، لتنهى موقفا من مواقف الدعوة، بين النبىّ والمشركين.. إنهم قد أبلغوا رسالة ربّهم، وقد صرّفت لهم الآيات، وضربت لهم الأمثال، وأقيمت الحجج والبراهين.. وها هم أولاء على مفترق الطرق.. فإما أن يأخذوا يمينا أو شمالا.. إما أن يؤمنوا بالله، ويستجيبوا لرسول الله، فتسلم لهم دنياهم وآخرتهم جميعا.. وإما أن يصدّوا عن سبيل الله، ويأخذوا طريقهم مع أهوائهم وشياطينهم، فيخسروا الدنيا والآخرة معا.. وستكشف الأيام ما يكون منهم.. وسيعلم الظالمون لمن عقبى الدار! بعون الله تم الكتاب الثامن، ويليه الكتاب التاسع إن شاء الله. وفيه تفسير الجزءين السابع عشر والثامن عشر.. وعلى الله قصد السبيل، ومنه سبحانه السداد والتوفيق، وله الحمد فى الأولى والآخرة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 844 [الجزء التاسع] 21- سورة الأنبياء نزولها: مكية.. بلا خلاف. عدد آياتها: مائة واثنتا عشرة آية. عدد كلماتها: ألف ومائة وثمان وستون كلمة. عدد حروفها: أربعة آلاف وثمانمائة وسبعون حرفا. وسميت سورة الأنبياء لكثرة من ذكر فيها من الأنبياء. بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 9) [سورة الأنبياء (21) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 845 التفسير: مناسبة هذه السورة لما قبلها: ختمت سورة طه بالتنديد بالمشركين من أهل مكة، وبمشاقّتهم لرسول الله، وتأبّيهم على الهدى الذي يدعوهم إليه، ثم إنهم وقد بعث الله فيهم رسولا بلّغهم رسالة ربّه، فلا حجة لهم على الله، إذا أخذهم بعذابه، ولا سبيل لهم إلى أن يقولوا: «رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى» .. ثم تختم السورة بهذا النذير المطلّ عليهم، وقد تركوا بمنقطع الطريق، بعيدين عن أن يضعوا أقدامهم على طريق الهدى: «قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى» . وفى مفتتح هذه السورة- سورة الأنبياء- تطلّ على المشركين نذر هذا اليوم، وهم على موعد معه، وإن كانوا فى غفلة وذهول عنه.. «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ» .. قوله تعالى: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ» . الناس هنا، هم هؤلاء المشركون، من أهل مكة، ثم يدخل معهم كلّ الناس، الذين غفلوا عن ذكر الله، وعن العمل ليوم الجزاء.. وفى النظم القرآنى «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ» وفى الخروج به عن مألوف النظم، وهو: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ» - فى هذا توكيد لحسابهم، وشدّهم به شدّا وثيقا لا يفلتون منه.. وشتان بين النظمين: اقترب للناس حسابهم.. واقترب حساب الناس..! الجزء: 9 ¦ الصفحة: 846 - «وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ» أي وهم فى غفلة مطبقة عامة.. غفلة عن كل ما هو حق، وخير، كما يدل على ذلك تنكير الغفلة. وليس هذا فحسب، بل إنهم مع غفلتهم هذه العامة الشاملة، «مُعْرِضُونَ» عن كل داع يدعوهم إلى أن ينظروا إلى أنفسهم، وأن ينتبهوا من غفلتهم.. والغفلة قد تكون لأمر عارض، بحيث إذا نبّه الإنسان تنبه، وإذا دعى أجاب.. ولكن غفلة هؤلاء القوم، غفلة مستولية عليهم، آخذة بكل حواسّهم ومدركاتهم: «وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً» حيث أنهم مع هذه الغفلة المستولية عليهم- بعيدون عن دعوات التنبيه، لا يلقونها إلا من وراء ظهورهم.. فهم عنها معرضون.. «ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ» .. هكذا شأن هؤلاء الغافلين.. تطرق أسماعهم دعوات متتابعة، مجدّدة، تجيئهم من كل جانب، وتطلع عليهم من كل أفق.. ومع هذا فهم على ما هم عليه، من غفلة، ولهو، وعبث.. والذّكر المحدث، هو ما يتنزل من آيات الله، حالا بعد حال، ويتجدّد زمنا بعد زمن.. وهؤلاء المشركون الغافلون على حال واحدة، مع كل ما ينزل من آيات الله يسمعونها بآذان لا تصغى إلى حق، وبقلوب لا تتفتح لقبول خير.. «وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا: هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ.. أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ» .. النجوى: التناجي فيما بينهم.. وإسرار النجوى: مبالغتهم فى إخفاء ما تناجوا به من منكر القول، حتى يحكموا كيدهم، ويصلوا إلى رأى يجتمعون عليه، ثم يطلعون على الناس به.. إنهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 847 يأتمرون فيما بينهم، ليتفقوا على الكيد الذي يكيدون به لرسول الله، ولآيات الله. - وقوله تعالى: «الَّذِينَ ظَلَمُوا» هو بدل من الضمير فى «أَسَرُّوا» .. أي أن هؤلاء الذين أسرّوا النجوى، هم ظالمون، قد ظلموا أنفسهم بعزلها عن موارد الهدى، وقطعها عن مناهل الخير.. - وقوله تعالى: «هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ.. أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ» هو بيان لما تناجى به القوم، وأتمروا فيما بينهم على اصطياده، من واردات أوهامهم، وضلالاتهم.. «هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» ؟ وإذا كان بشرا مثلنا فكيف يكون له هذا المكان الذي يطلّ عليكم منه، من هذا العالم العلوىّ؟ «أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ» ؟ وإذا فكيف نقبل على أنفسنا أن نجىء إلى هذا الخداع ونحن نراه رأى العين؟ وهل يليق بعاقل أن يرى من يدعوه إلى ختله، ولا يحتيال عليه، ثم يأتيه طائعا؟ هكذا يريدون هذا اللّغو، ويسمرون به! قوله تعالى: «قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» . قرىء: «قل ربى يعلم القول فى السماء والأرض» . وعلى كلتا القراءتين، فإن الآية ردّ على ما تناجى به المشركون وأسرّوه.. حتى إذا أحكموا نسجه، أعلنوه فى هذا القول المنكر: «هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ.. أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ» .. وأن الله سبحانه يعلم ما أسروا وما أعلنوا، فهو سبحانه يعلم كل ما يقال فى السماء والأرض، وهو «السَّمِيعُ» الذي يسمع نجوى القلوب، «الْعَلِيمُ» الذي يعلم ما تكنّ الضمائر.. «وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» (13: الملك) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 848 قوله تعالى: «بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ.. بَلِ افْتَراهُ.. بَلْ هُوَ شاعِرٌ.. فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ» . هو فضح لما تناجى به القوم، وكان مما جرى به الحديث بينهم.. فقالوا فيما قالوه عن القرآن الكريم: هو «أَضْغاثُ أَحْلامٍ» أي أخلاط أحلام، وهلوسة نائم، معتلّ المزاج، مخبول العقل.. وإذ لم يرتض بعضهم هذا القول ردّوه، وقالوا: «بَلْ هُوَ شاعِرٌ» أي من واردات الشعر، ومن نسج أخيلته.. وإذ لم يرض بعضهم هذا القول أو ذاك قالوا: «فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ» أي يدع محاجّته فى هذا الكلام الذي يلقيه علينا، ويقول عنه إنه معجزته التي يقدّمها بين يدى رسالته، وليأتنا بمعجزة غير كلامية، فإن مجال الكلام متّسع لكل قائل.. فإن كان رسولا من عند الله، كما يدّعى، فلم لم يأت بمعجزة نراها، كناقة صالح، وعصا موسى، ويد عيسى؟ عندئذ يمكن أن يكون له وجه يلقانا به على طريق دعوته، ويكون لنا يظر فيما يدّعيه..! فانظر إلى كلمات الله، وقد أمسكت بالقوم وهم على مسرح الجريمة، ثم أخذت ما جرى على لسان كل ذى قول قاله فى هذا المجلس الآثم.. «قالُوا: أَضْغاثُ أَحْلامٍ.. بَلِ افْتَراهُ.. بَلْ هُوَ شاعِرٌ.. فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ» . لقد ذهب كل فريق منهم بقول من هذه الأقوال..! وقد نسبت كل مقولة إليهم جميعا.. إذ كانوا كلهم شركاء فيما قيل.. فالمتكلم والسامع جميعا، شركاء فيه. قوله تعالى: «ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها.. أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 849 هو ردّ على ما اقترحه المشركون من أن يأتيهم النبىّ بآية كآيات المرسلين قبله.. فهل آمن أهل القرى الذين جاءتهم تلك المعجزات؟ لقد كفروا بتلك الآيات، فأهلكهم الله.. وهل شأن هؤلاء المشركين غير شأن من سبقهم؟ إنهم لو جاءتهم آية كتلك الآيات لن يؤمنوا، ولن ينجوا من هذا المصير الذي صار إليه المكذبون قبلهم.. أفليس من الضلال إذن أن يستعجلوا ما فيه هلاكهم؟. قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ.. فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» . إنهم ينكرون أن يكون رسول الله بشرا مثلهم.. فعلى أيّة صورة يكون الرسول المبعوث من الله إليهم؟ ولم يكون رسولهم غير بشر، ورسل الله كلهم كانوا من البشر، ومن بين أقوامهم؟ إن لم يعلموا هذا فليسألوا أهل العلم، الذين لا تخفى عليهم هذه الحقيقة السافرة. وقيل إن «أَهْلَ الذِّكْرِ» هنا، هم أهل الكتاب، من اليهود والنصارى. والأولى أن يكون «أَهْلَ الذِّكْرِ» هم كلّ من عنده علم بهذا، سواء أكان من أهل الكتاب أم من غيرهم.. قوله تعالى: «وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 850 أي أن هؤلاء الرسل، مع أنهم بشر، فإن اختيارهم للرسالة، لم يغيّر شيئا من بشريّتهم.. فهم مثل سائر البشر، تحكمهم ضرورات البشرية.. يأكلون، ويشربون وينامون، ويفرحون، ويحزنون. ثم يموتون.. والجسد: هو المادة المتجسّدة. والرسل مادة متجسدة، وليسوا من عالم الملائكة النورانى الشفاف.. قوله تعالى: «ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ» . ذلك ما لرسل الله عند الله.. إنهم على وعد الله لهم بالنصر، هم ومن اتبعهم من المؤمنين وقد صدقهم الله وعده، فأنجاهم وأنجى من آمن بالله من أقوامهم، ممن شاء الله لهم الهدى.. فمن شاء الله لهم الهدى اهتدوا، فلم يصبهم شىء مما يحلّ بالمكذبين الضالين من أقوامهم، من هلاك وعذاب.. الآيات: (10- 18) [سورة الأنبياء (21) : الآيات 10 الى 18] لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 851 التفسير: قوله تعالى: «لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ» . فى هذه الآية تنويه بالأمة العربية، ورفع لقدرها، باختيارها من بين الأمم لتكون الوجه الذي تلتقى به رسالة الإسلام، والراية التي يجتمع عليها الداخلون فى دين الله، وليكون لسانها هو اللسان الذي يحمل كلمات الله، ويكتب له الخلود بخلودها. وفى قوله تعالى: «لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً» إشارة إلى أن هذا الكتاب الذي أنزله الله على رسوله الكريم هو منزل كذلك على قومه العرب.. فالرسول منهم، والكتاب المنزل عليه هو كتابهم، ومنزل إليهم.. وإذ كان هذا هو الحال، فإن من الخسران لهم أن يتخلّوا عن هذا الخير الذي ساقه الله إليهم، واختصّهم به، وإنهم إذا لم يبادروا ويأخذوا حظهم من هذا الخير، أو شك أن يفلت من أيديهم، ويعدل عنهم إلى غيرهم، كما يقول سبحانه: «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ.. ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ» (38: محمد) وفى تنكير الكتاب، تعظيم له، ورفع لقدره، وأنه أعرف من أن يعرّف بأداة تعريف.. فهو بهذا التنكير علم لا يشاركه غيره فى هذا الاسم. وفى قوله تعالى: «فِيهِ ذِكْرُكُمْ» تحريض العرب على أن ينشدوا الهدى من هذا الكتاب، ويستظلوا بظله، ففى هذا عزّهم، ومجدهم، وخلود ذكرهم فى العالمين.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 852 وفى هذا أيضا إشارة إلى ما يكشف عنه المستقبل من موقف قريش، والعرب، من الدعوى الإسلامية، وأنهم جميعا سيدخلون فى دين الله، وسيبقى ذكر العرب خالدا ما ذكر الإسلام الخالد. فالعرب- كما فى المأثور- هم: «مادّة الإسلام» .. وبجهادهم فى سبيل الله امتدّ ظلّ الإسلام، واتسعت رقعته، ورفرفت أعلامه فى كل أفق من آفاق الدنيا.. وفى قوله تعالى: «أَفَلا تَعْقِلُونَ» نخسة رقيقة، تدعو هؤلاء القوم، وتدفع بهم دفعا إلى أخذ حظهم من الكتاب المنزل إليهم.. إنها غمزة حبّ، وإغراء، ودفعة من يد كريمة رحيمة ودود!! قوله تعالى: «وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ» . هو تعريض بأهل القرية «مكة» ، وتهديد لهم بأن يسلكوا فى عداد القرى الظالمة التي قصمها الله، أي أهلكها، وقطع دابرها.. ثم أقام مكانهم «قَوْماً آخَرِينَ» . والقصم: القطع الحاسم، وهو أشد من القضم. قوله تعالى: «فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ» . البأس: العذاب، والبلاء. أي فلما أراد الله أن يأخذ الظالمين بظلمهم، ساق إليهم بأسه وعذابه.. فلما استشعروا وقوع العذاب بهم، بما طلع عليهم من مقدماته ونذره، ذعروا، وأخذوا يركضون، أي يجرون مسرعين فى فزع واضطراب، فرارا من تلك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 853 القرية، وخوفا من أن ينهار عليهم بنيانها، أو تخسف بهم أرضها. قوله تعالى: «لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ» . هذا هو صوت الحال ينادبهم: إلى أين؟ قفوا حيث أنتم، ولا تركضوا كركض الحمر المستنفرة.. إنكم لن تفلتوا من هذا البلاء النازل بكم.. ولمن تتركون دياركم وما حشدتم فيها من متاع، وما جلبتم إليها من متع؟. وكيف تتركون هذا الذي أنتم فيه من ترف ونعيم؟ ارجعوا.. أفتذهبون وتتركون هذا الذي أذهبتم حياتكم، واستهلكتم أعماركم فى إعداده وجمعه؟ ارجعوا، ولو كان فى ذلك هلاككم.. إن السفينة لتغرق ويغرق معها كل شىء لكم.. فما حياتكم بعد هذا؟ وفى قوله تعالى: «وَمَساكِنِكُمْ» إشارة إلى ما للوطن، والسّكن، من مكان مكين فى قلب الإنسان.. وأنه شىء أحبّ وآثر من كل ما يحرص الإنسان عليه، وأن نعيم الإنسان لا يجتمع إلا فيه، ولا يتمّ إلا به.. وإن الغريب الذي لا وطن له ولا سكن، هو إنسان ضائع شقىّ، وإن طعم أطيب المطاعم، ولبس أفخر الملابس، ونزل أحسن المنازل.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ» (66: النساء) . فجاء هنا الخروج من الديار، معادلا لقتل النفس! وفى قوله تعالى: «لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ» استهزاء بهم، وسخرية من مشاعرهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 854 التي يداعبها الأمل بالنجاة فى هذا الركض الذي يركضونه.. فهم مسئولون لا محالة عما كانوا فيه من ضلال، واستغراق فى الترف الذي أذهلهم عن النظر فى أنفسهم، وطلب النجاة قبل وقوع البلاء بهم.. وقد جاء الإخبار بسؤالهم فى صورة الرجاء، الذي يمكن أن يقع أو لا يقع، وذلك لتتحرك فى صدورهم مشاعر الأمل فى النجاة، ثم إذا هم تحت ضربات البلاء، وقد أحاط بهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم.. فيالخيبة الأمل! لقد برقت بوارقه، ثم انطفأت، فإذا هم فى ظلمات يعمهون. قوله تعالى: «قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ» . وهكذا أصبحوا وجها لوجه مع عذاب الله النازل بهم، لا يملكون معه إلا التّنادى بالويل، وإلا أن يندبوا حظهم المنكود، ويرجعوا على أنفسهم باللائمة والندم، ولات ساعة مندم! وهكذا تظل تتعالى صيحاتهم، ويتعاوى صراخهم، إلى أن تخمد أنفاسهم، ويصبحوا جثثا هامدة، كحصاد هشيم، تذروه الرياح. قوله تعالى: «وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ» . أي أن الله سبحانه وتعالى ما خلق شيئا عبثا ولهوا.. فالسماء والأرض وما بينهما من كائنات وعوالم، إنما خلقت لحكمة مرادة لله سبحانه وتعالى، ولقصد حكيم قصده من خلقها.. وكذلك الناس، لم يخلقوا عبثا، وإنما خلقوا ليعمروا الأرض، ويعبدوا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 855 الله فيها، ثم يردّوا إلى الله، ليحاسبوا على ما عملوا، وليلقى المحسن منهم جزاء إحسانه، والمسيء جزاء إساءته.. «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ» (115: المؤمنون) . قوله تعالى: «لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ» . هو توكيد، لما تضمنته الآية السّابقة، من أن خلق المخلوقات، علوها وسفلها، ناطقها، وصامتها، لم يكن للهو والعبث، وإنما كان خلقا قائما على ميزان الحكمة والتقدير.. وأنه سبحانه لو أراد أن يتخذ لهوا لا تخذه من لدنه أي من ذاته، أو لأقام له فى الملأ الأعلى مسرحا للهو، ولم يقمه على هذه الأرض.. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. ويجوز أن تكون «أَنْ» هنا نافية بمعنى «ما» أي ما كنا فاعلين ذلك.. تعالت عن ذلك حكمتنا. قوله تعالى: «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ.. وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ» . القذف: إلقاء الشيء، ورميه بقوة وشدة.. والدمغ: وسم الشيء بسمة تغيّر معالمه.. والزاهق: الهالك، والضائع. والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى يضرب الباطل بالحق، ويدمغه به، فإذا هو زاهق، أي ذاهب ومنهزم.. وهكذا آيات الله وما تحمل من حق، إنها تلتقى بما يختلقه المبطلون من ضلالات وأباطيل، فتدمغها، وتزهقها، وتخنق أنفاسها، وإذا تلك المفتريات والأباطيل، دخان وهباء، لا يمسك أصحابها منها بشىء.. والمثل المحسوس فى هذا، عصا موسى، وعصىّ السحرة.. إن العصا، حق من الحق، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 856 وعصىّ السحرة باطل من الأباطيل.. فلما التقت العصا بالعصىّ ألقت بها فى غياهب الظلمات.. فلم يجد أصحابها لها ظلا.. «وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (117 118- الأعراف) - وفى قوله تعالى: «وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ» تهديد للمشركين، ووعيد لهم بالويل والهلاك، الذي يأتيهم من هذه الأباطيل التي يعيشون معها، بما يصفون به الله سبحانه وتعالى من صفات لا تليق بجلاله وعظمته كنسبتهم الملائكة إلى الله، وقولهم إنهم بنات الله!. الآيات: (19- 29) [سورة الأنبياء (21) : الآيات 19 الى 29] وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 857 التفسير: قوله تعالى: «وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ» . لا يستحسرون: أي لا يملّون، ولا يكلّون.. لا يفترون: أي لا يتراخون، ولا ينقطعون عن العبادة، لحطة، أو فترة. والآية والآيات التي بعدها، تكشف عن بعض سلطان الله، وتحدث عن بعض ما له من قدرة قادرة على كل شىء، ممسكة بكل شىء.. فهو- سبحانه- المالك لمن فى السموات والأرض، من عوالم.. من الذرة، وما دون الذرة، إلى الكواكب فى مساراتها، والنجوم فى أفلاكها.. إلى الملائكة الذين هم عنده، حافّين بالعرش.. وهو سبحانه المتصرف فى هذه الموجودات، الموجه لها، المقدّر لوضعها الذي تأخذه فى هذا الوجود. وإذا كان هذا سلطان الله، وتلك قدرته الآخذة بناصية كل شىء، فإنه من غير المعقول أن يكون شىء من خلقه ذا سلطان معه، أو خارجا عن سلطانه.. والملائكة، الذين هم عند الله بهذا المكان الرفيع، لم تخرج بهم منزلتهم هذه عن أن يكونوا عبادا من عباد الله يدينون له بالولاء ويتقربون إليه بالعبادة: «يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ» .. إنهم فى عبادة دائمة متطلة، وذكر لله لا يفترون عنه! والسؤال هنا، هو: إذا كان الملائكة على هذا الصفاء النورانى الذي خلقوا منه، وعلى تلك العبادة الدائبة والطاعة الدائمة، فلم هذا الخوف؟ ولم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 858 تلك الخشيه؟ كما يقول سبحانه: «وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ» (13: الرعد) والجواب على هذا، هو أن الملائكة لقربهم من الله سبحانه وتعالى، ولكمال معرفتهم بماله سبحانه وتعالى من جلال وكمال- هم أكثر عباد الله ولاء لله، وانقيادا له، وفناء فيه.. فمن كان بالله أعرف كان منه أخوف، ومن كان إلى الله أقرب كان لجلاله وسلطانه أرهب.! يقول الله سبحانه وتعالى: «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» .. فالعلماء بالله، العارفون به، هم أكثر الناس خشية له، وولاء لذاته.. والملائكة يعلمون أكثر مما يعلم العالمون من جلال الله وسلطانه، وعظمته.. وقوله تعالى: «أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ» هو تسفيه لعقول هؤلاء المشركين، الذين يعبدون مما على الأرض، من ناطق أو صامت، مثل أولئك الذين اتخذوا من البشر آلهة، أو من الأحجار أصناما ينحتونها ويعبدونها.. فهؤلاء أحمق عقولا، وأغلظ جهلا من أولئك الذين عبدوا الملائكة، وإن كان هؤلاء وأولئك جميعا فى ضلال مبين.. فلا الملائكة المقربون، ولا الجن، ولا البشر، ولا الأحجار، ولا أي شىء مما خلق الله، مما يصح فى عقل عاقل أن يجعل له إلى الله نسبا، فضلا عن أن يجعله إلها مع الله، يشاركه التصريف والتدبير. وفى قوله تعالى: «مِنَ الْأَرْضِ» إشارة إلى مدى الانحطاط العقلي، الذي وصل إليه أولئك الذين يعبدون ما على هذه الأرض من مخلوقات.. فهى من معدن هذا التراب الذي تدوسه الأقدام، فكيف يكون هذا التراب المشكّل فى أي صورة من الصور، إلها يعبد من دون الله، ويرجى منه ما يرجو المؤمنون بالله، من الله رب العالمين؟. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 859 وقوله تعالى: «هُمْ يُنْشِرُونَ» .. يمكن أن يكون استفهاما.. تقديره أهم ينشرون؟ أي أهؤلاء الآلهة الذين اتخذوهم من الأرض ينشرون الأموات ويبعثونهم من قبورهم، كما يفعل الله؟ والاستفهام هنا إنكارى.. ويمكن أن يكون جملة خبرية، هى صفة للآلهة، وتكون الآية كلها مبنية على الاستفهام الإنكارى، ويدخل فيها إنكار الجملة الخبرية، كذلك.. قوله تعالى: «لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ» . هذه قضية، هى تعقيب على ما وجه به المشركون الذين يتخذون من عباد الله، فى السماء أو فى الأرض: آلهة، فإن ذلك سفه وجهل، وسوء تقدير لما ينبغى أن يكون للإله المعبود، من صفات الكمال والجلال المطلقين.. وإذا كان الإله الذي يستحق العبادة موصوفا بصفات الكمال المطلق، فإن هذه الصفات- فى إطلاقها- لا تكون إلا لإله واحد، لا يشاركه أحد فيها، إذ لو شاركه غيره فيها، أو كان له مثلها، لما كان له الكمال المطلق، ولما كان له التفرد بالألوهية.. إذ الكمال المطلق صفة واحدة، ولا يتصف بها إلا موصوف واحد، هو الله سبحانه.. ومن جهة أخرى.. فإن هذا الوجود، فى علوه وسفله، وفى سمائه وأرضه- لو قام عليه أكثر من ذى سلطان واحد مطلق، لما استقام أمره، ولما استقرّ نظامه، ولكان لكل ذى سلطان أن يتصرف فيما له سلطان عليه، ولذهب كل منهم مذهبا، فمضى ذا مشرّقا، ومضى ذاك مغرّبا.. وأخذ هذا يمينا، وأخذ ذاك يسارا.. فيتصادم هذا الوجود، وتتضارب الوجودات، وينفرط عقدها، وتتناثر أشلاؤها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 860 فالإنسان مثلا، وهو العالم الأصغر، الذي يناظر العالم الأكبر.. يقوم على ملكة التفكير فيه، عقل واحد.. ويقوم على تغذيته بالدم- الذي هو ملاك حياته- قلب واحد.. وتصوّر أن يكون لإنسان عقلان.. ماذا يكون حاله؟ وكيف يكون مقامه فى عالم البشر؟ إن لكل عقل مدركات، وتصورات وتقديرات.. فبأى عقل يسير؟ وبأى عقل يحكم على الأشياء ويتعامل معها؟ إنه بهذين العقلين إنسانان لا إنسان واحد.. إنه ذو شخصية مزدوجة، تتصارع فيها العواطف والنوازع، وتقتتل فيها الآمال والرغبات، ثم لا يسكن هذا الصراع، ولا ينتهى هذا القتال، حتى يتحطم هذا الكائن العجيب، الإنسان.. له رأسان، أو عقلان..! وقل مثل هذا فى القلبين، اللذين يفسد أحدهما عمل الآخر، وينقض أحدهما ما بناه صاحبه.. والله سبحانه وتعالى يقول: «ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ» (4: الأحزاب) . وقل مثل هذا فى الجماعات البشرية.. إن كل جماعة يجب أن يكون على رأسها رأس واحد.. وإلّا فالتنازع والتصادم، والفساد..! وقوله تعالى: «فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ» .. هو تنزيه لله سبحانه عما يصفه به الواصفون، من صفات لا تخصّه بالكمال المطلق، بل تجعل له شريكا فيها، ويكون له بمقتضى ذلك سلطان مع سلطان الله، وعرش كعرش الله.. فالله سبحانه منزه عن أن يكون على تلك الصفة.. إنه سبحانه الإله المتفرد بالخلق والأمر.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 861 قوله تعالى: «لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ» .. هو أيضا تنزيه لله سبحانه وتعالى عن أن يكون كهذه الآلهة التي يعبدها هؤلاء الضالون.. فهذه الآلهة، هى من مخلوقات الله، وهى خاضعة لمشيئته فيها، يصرّفها كيف يشاء، ويحاسب العاقل منها على ما كان منه.. أما هو سبحانه، فلا يسأل عما يفعل.. إذ لا يسأله إلا من هو فوقه، وهو- سبحانه- فوق كل ذى فوق.. «يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ.. ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ» (68: القصص) . قوله تعالى: «أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً.. قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ.. هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي.. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ» .. «أَمِ» هنا للإضراب، بمعنى بل.. والمعنى: أنه مع هذه البديهيّات التي تقع فى متناول كلّ عقل، والتي تقضى بما لا يدع مجالا للشك، بأنه لا يمكن أن يكون لهذا الوجود إلا إله واحد، يقوم عليه، ويدبّر أمره- مع هذا، فإن هؤلاء الضالين المشركين قد عموا عن هذه البديهيات، وقصرت أفهامهم عن إدراكها، وساغ لهم أن يعبدوا أكثر من إله، وأن يوزّعوا عقولهم وقلوبهم بين أرباب وأشباه أرباب، ولم يحاولوا أبدا أن يجيبوا على هذا السؤال: «أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» (39: يوسف) .. كما لم يحاولوا أن يقيموا دليلا يقبله العقل، ويرتضيه المنطق لعبادة هذه الآلهة المتعددة! وفى قوله تعالى: «قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ» دعوة لهؤلاء المشركين أن يرجعوا إلى عقولهم، وأن يأتوا منها بالدليل والحجة على ما يعبدون من دون الله.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 862 «وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» (117: المؤمنون) .. وقوله تعالى: «هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي» .. هو إشارة إلى القرآن الكريم، الذي بين يدى الرسول، وهو برهانه على الإله الذي يعبده، ويدعو الناس إلى عبادته.. وهذا القرآن كما هو حجة وبرهان للرسول الكريم، هو حجة وبرهان لهؤلاء المشركين الذين يدعوهم الرسول إلى الإيمان بالله، كما أنه حجة وبرهان على أهل الكتاب.. «هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي» .. فمن مع الرسول هم هؤلاء المشركون.. والذين من قبله هم أهل الكتاب.. والقرآن الكريم حجة على هؤلاء وأولئك جميعا.. وقوله تعالى: «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ.. فَهُمْ مُعْرِضُونَ» .. هو اعتذار لكثير من هؤلاء المشركين، الذين عموا عن طريق الحق، فركبوا رءوسهم، وأبوا أن يستمعوا لداعى الحقّ، وأن يستجيبوا له.. ومن ثمّ، فإن الرسول قائم فيهم، لا يتخلى عن مكانه بينهم، ولا يمسك عن دعوتهم، وكشف معالم الطريق لهم، حتى يبصروا من عمى، ويهتدوا من ضلال.. وقد كان.. فما زال الرسول يغادى هؤلاء المشركين، ويراوحهم، بالحكمة والموعظة الحسنة، على مدى ثلاث وعشرين سنة، حتى استنارت بصائرهم، وتفتحت قلوبهم، وما كادت تختم الرسالة، وتنزل آخر آية من آياتها، حتى آمن هؤلاء المشركون، ودخلوا فى دين الله أفواجا.. وكان مختتم الرسالة قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» (3: المائدة) . قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 863 تلك هى ملاك دعوة الرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده، وهم بشر مثل هؤلاء البشر.. ودعوتهم جميعا هى أنه لا إله إلا الله، وأنه وحده المستحق لأن يفرد بالألوهية والعبادة.. فكانت دعوة كل رسول إلى قومه مفتتحة بهذا النداء: «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» .. قوله تعالى: «وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً.. سُبْحانَهُ.. بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ» . هو إشارة إلى أهل الكتاب، الذين أشار إليهم سبحانه وتعالى فى قوله: «ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ» فأهل الكتاب هؤلاء، من اليهود والنصارى، قد جاءهم رسولان، كريمان، بشران، من عباد الله هما: موسى، وعيسى، عليهما السلام، فدعواهم إلى الإيمان بالله وحده، ولكنهم قلبوا وجه هذه الدعوة، فجعل النصارى المسيح ابنا الله، وجعل اليهود عزيرا ابن الله. كما اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وفى هذا يقول الله تعالى: «وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ: «بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ» أي أن المسيح وعزيرا والأحبار والرهبان، هم من عباد الله، أكرم بعضهم واصطفاه لرسالته، كما أكرم واصطفى كثيرا من عباده ورسله بالنبوّة والرسالة، وكما أكرم كثيرا منهم بالإيمان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 864 وقوله تعالى: «لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ» هو صفة لهؤلاء العباد المكرمين، الذين اتخذهم الضالون آلهة من دون الله، فهؤلاء الرسل، هم على طاعة مطلقة لله.. لا يسبقونه بالقول، فلا يقولون إلا ما يقال لهم من قبل الحق، ولا يعملون عملا إلا ما يأذن الله لهم به.. فكيف يكون من هذا شأنه إلها مع الله؟ وهل يكون إلها من لا يملك من نفسه الكلمة، ولا العمل؟ قوله تعالى: «يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ» . أي أن هؤلاء العباد المكرمين من رسل الله، لا يعلمون إلّا ما علمهم الله، ولا يملكون إلا ما يأذن الله لهم به.. وهو سبحانه يعلم من أمرهم ما لا يعلمون، فيعلم «ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» أي ما لم ينكشف لهم من مسيرة حياتهم بعد، ويعلم «ما خَلْفَهُمْ» أي ما انكشف لهم من ماضى حياتهم قبل أن يتلبسوا به.. «وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى» أي ولا يملكون الشفاعة لأحد، إلا لمن ارتضى الله سبحانه وتعالى لهم أن يشفعوا فيه، تكريما لهم، ومضاعفة لإحسانه إليهم. «وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ» أي وهم- مع هذا الإيمان، وهذا الولاء- على خشية وإشفاق من الله، ومن بأس الله وعذابه.. - وقوله تعالى: «وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ.. كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ» - هو استبعاد لأن يكون من رسل الله قول كهذا القول الذي يقوله فيهم الضالون، الذين اتخذوهم آلهة.. ولو فرض- وهو فرض محال- أن يقول أحد منهم إنى إله من دون الله، فلا يعصمه قربه من الله، وإكرامه إياه، من أن يؤخذ بما يؤخذ به أي عبد من عباد الله، يقول هذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 865 القول.. فهو ظالم من الظالمين، ولا مصير له غير مصيرهم.. فإذا كان هذا هو شأن المقربين إلى الله، فكيف يكون شأن غيرهم؟ إن ميزان العدل واحد للناس جميعا.. لا ترجح فيه كفة أحد على أحد إلا بالعمل الصالح.. «فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ» (6: 11: القارعة) . الآيات: (30- 35) [سورة الأنبياء (21) : الآيات 30 الى 35] أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) التفسير: قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ» .. مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآيات السابقة عليها قد كشفت عن وجوه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 866 الضالين، من الكافرين والمشركين، وعرضت تصوراتهم المريضة، لجلال الألوهية وكمالها، حتى لقد بلغ بهم الإسفاف فى ضلال العقل، وسخف النظر، ما أوردهم هذا المورد الذي ينزلون فيه إلى هذا المنحدر من الضلال، فيعبدون أحجارا، وحيوانات، وأناسىّ، ويجعلونها آلهة، تخلق، وترزق، وتحيى، وتميت..! فجاءت هذه الآية تلفت هؤلاء الضالين إلى ما هم فيه من ضلال وشرود عن عن الله، الواحد، المتفرد بالألوهية والملك والسلطان.. وفى اختصاص الذين كفروا بالذكر هنا، لأنهم هم الذين عمّوا عن هذه الآيات فضلّوا وكفروا، أما المؤمنون فقد كان لهم نظر دائم إلى هذا الوجود، وتفكير متصل فى أسراره وعجائبه، فهم كما وصفهم الله سبحانه فى قوله: «يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ» (191: آل عمران) .. وفى قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما» إلفات إلى قدرة الله سبحانه وتعالى، وإلى ما أبدع وصور فى هذا الوجود.. فالسموات والأرض، كانتا شيئا واحدا، وكتلة متضخمة من المادة.. «كانَتا رَتْقاً» أي منضما بعضهما إلى بعض، فلا سماء، ولا أرض.. بل كون لا معلم فيه.. ثم كان من قدرة الله ومن علمه، وحكمته، أن أقام من هذا الكون المتضخم، هذا الوجود، فى سمائه وأرضه، وما فى سمائه من كواكب ونجوم، وما على أرضه من إنسان، وحيوان، ونبات، وجماد.. «كانَتا رَتْقاً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 867 فَفَتَقْناهُما» أي فصلنا بعضهما عن بعض.. فكانت السماء، وكانت الأرض. ثم كانت من السموات ما فيهن من عوالم، وكان من الأرض ما فيها من مخلوقات.. كانت السموات والأرض كتلة، أشبه بالنطفة التي يتخلّق منها الجنين.. فمن هذه النطفة كان هذا الإنسان، بل هذا الكون الصغير، وكان هذا الخلق السوىّ الذي هو عليه.. وقوله تعالى: «وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» - إشارة إلى هذا العنصر العظيم من عناصر الحياة، وهو الماء.. فهو أصل كل حىّ، وبذرة كل حياة فى عالمنا هذا الذي نعيش فيه.. فالإنسان، والحيوان، والنبات، قوامها جميعا الماء، الذي به لبست ثوب الحياة، ومنه تستمد بقاءها، ووجودها.. فإذا افتقدت الماء عادت إلى عالم الموات.. وهذه الحقيقة قد أصبحت من مقررات العلم الحديث، الذي أثبت أن نشأة الحياة على هذه الأرض قد ظهرت أول ما ظهرت على شواطئ الأنهار.. فكانت أول أمرها ظلالا باهتة للحياة، وإشارة خافته إليها، ثم أخذت تنمو شيئا فى بوتقة الزمن على مدى ملايين السنين، حتى ملأت هذه الدنيا، فى صور متعددة، وأشكال مختلفة، لا تكاد تقع تحت حصر. - وفى قوله تعالى: «أَفَلا يُؤْمِنُونَ» نخسة لهؤلاء الضالين، أن يتنبهوا، وأن يوقظوا عقولهم، ويفتحوا أبصارهم على هذا الوجود، وما أبدع فيه الخالق وصوّر.. فلو أنهم أداروا عقولهم على هذا الوجود، بقلوب سليمة، ومشاعر متفتحة لا نكشف لهم من أسراره ما يحدّثهم أبلغ الحديث عن قدرة الله، وعلمه، وحكمته، المبثوثة فى كل ذرة من ذرات هذا العالم.. وإذن لآمنوا بالله، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 868 وأخبتوا له، ولا متلأت قلوبهم خشية ورهبة لسلطانه العظيم، الآخذ بناصية كل شىء، ولأفادوا من ذلك علما كثيرا يمكّن لهم فى الأرض، ويسخر لهم من قواها مازال متأبيا عليهم، بعيدا عن متناول أيديهم.. فالإيمان لا يقع من القلب موقع الاستقرار والاطمئنان، إلا إذا جاء عن علم بالله، وبما لله من صفات الجلال والكمال.. قوله تعالى: «وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» . هو إلفات إلى ما صنع الله سبحانه وتعالى بالأرض، بعد أن فصلها عن مادة الوجود، وصورها على تلك الصورة.. فقد جعل الله سبحانه وتعالى فيها جبالا راسية ثابتة، تشدّها، وتمسك بها أن تميد وتضطرب، وجعل فى هذه الجبال فجاجا، أي فجوات، وهى سبل يسلكها الناس فى انتقالهم من جهة إلى أخرى. ويجعلون منها معالم يتعرفون منها إلى الأماكن والجهات، حتى لا يضلّوا فى أسفارهم.. قوله تعالى: «وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ» . وكما أوجد الله سبحانه الأرض على هذه الصورة، وجعل فيها رواسى، وفجاجا سبلا، كذلك أقام السماء كما نرى، سقفا محفوظا بيد القدرة، فلا يقع علينا.. وفى قوله تعالى: «وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ» إشارة إلى ما فى السماء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 869 من آيات ناطقة بقدرة الله، شاهدة على علمه وحكمته.. ببنائها القائم، وبما تتزين به من كواكب ونجوم.. ولكن هؤلاء الضالين، المشركين، فى غفلة عن تلك الآيات الباهرة، لا يلقون إليها نظرا، ولا يديرون نحوها عقلا.. وفى إضافة الآيات إلى السماء، إشارة إلى عظمة هذا العالم العلوي، وأن السماء كون عظيم، وأن كل ما لاح فى هذا الكون، هو آية من آيات هذا الكون العظيم.. وفيما كشف العلم عنه من هذا العالم العلوىّ، ما يبهر العقول، ويعجز الخيال.. وهو إلى جانب ما لم ينكشف أشبه بذرة من عالم الرمال، أو قطرة من عالم الماء فأين العقول التي تنظر؟ وأين البصائر التي تستبصر؟ قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» . هو عرض لبعض مظاهر قدرة الله، التي أشارت الآيات السابقة إلى بعض منها.. ومن مظاهر القدرة الإلهية خلق الليل والنهار، والشمس والقمر، وإجراء كل منها فى فلك خاص به، ومدار لا يتعداه.. وفى التعبير عن حركة الليل والنهار، بالخلق، إشارة إلى ما لهما من وجود ذاتىّ غير عارض، وأن وجودهما مقصود لذاته، حيث يأخذان من الوجود ويعطيان، شأنهما فى هذا شأن الإنسان المكلّف، المطلوب منه رسالة يؤديها فى الحياة.. وشأنهما كذلك شأن الشمس والقمر، فهما أي الليل والنهار، وإن كانا مظهرا من مظاهر حركة الأرض حول نفسها، إلا أنهما صاحبا سلطان على كل ما يقع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 870 فى فلكهما، كما للشمس سلطان على كل ما يقع فى فلكها،. ولهذا جاء قوله تعالى: «كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» مسندا فيه الفعل إلى هذه المخلوقات بضمير العاقل، ليشير بذلك إلى أنها كائنات تسير على هدى، فلا تزلّ، ولا تنحرف، حتى لكأنها موجهة بإرادة عقل رشيد حكيم.. فهى وإن بدت لنا أنها غير عاقلة، فإن نظامها الذي تجرى عليه ليدلّ على أنها تتحرك بتوجيه قوة عاقلة حكيمة، إن لم تكن فى ذاتها فهى قائمة عليها.. أما حين لا تراد هذه المخلوقات لذاتها، وإنما تراد آثارها، أو بعض آثارها، فإن التعبير القرآنى عن ذلك يجىء بلفظ «الجعل» لا «الخلق» .. مثل قوله تعالى: «وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً» (96: الأنعام) وقوله سبحانه: «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً» (12: الإسراء) .. وفى ضمير الجمع العاقل فى «يَسْبَحُونَ» إشارة إلى أنه وإن كان لكل مخلوق من هذه المخلوقات فلك يسبح فيه، فإنها جميعا ينتظمها فلك عام، هو فلك الوجود كله، الذي يحوى كل فلك! قوله تعالى: «وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ» . كان المشركون يستثقلون مقام النبىّ الكريم فيهم، وقد ساقوا إليه من ضروب السّفه، وألوان الأذى، النفسي والمادي، فى نفسه، وفى أصحابه، ما لا يحتمله إلا أولو العزم من الرسل.. فلما ضاقوا به ذرعا، وأعيتهم الوسائل فى صده عن دعوته إلى الله- كان ممّا يعزّون به أنفسهم، ويمنّونها الأمانىّ فيه، أن ينتظروا به تلك الأيام أو السنين الباقية من عمره، وقد ذهب أكثره، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 871 ولم يبق إلا قليله، فقد التقى بهم الرسول الكريم وقد جاوز الأربعين، وها هو ذا صلوات الله وسلامه عليه، لا يزال بينهم وقد نيّف على الخمسين، وإذن فهى سنوات قليلة ينتظرونها على مضض، حتى يأتيه النون! وهذا ما حكاه القرآن عنهم فى قوله تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» (30: الطور) . فجاء قوله تعالى: «وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ» مسفّها هذا المنطق السقيم، الذي جعلوه أداة من أدوات الغلب فى أيديهم.. فالموت حكم قائم على كل نفس.. فإذا مات النبىّ، فليس وحده هو الذي يصير إلى هذا المصير، وإنما الناس جميعا، صائرون إلى هذا المصير.. فكيف يكون الموت أداة من أدوات المعركة بينهم وبين النبي؟ وكيف يكون سلاحا عاملا فى أيديهم على حين يكون سلاحا مفلولا فى يده، إذا صحّ أن يكون من أسلحة المعركة؟ ولهذا ردّ الله عليهم بقوله: «أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ؟» .. فما جوابهم على هذا؟ إنهم لن يخلّدوا فى هذه الدنيا، فما هذه الدنيا دار خلود لحىّ.. «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ» (30: الزّمر) .. إن المعركة بين حق وباطل، فما سلاحهم الذي يحاربون به فى هذا الميدان؟ إنه الباطل، وإنه لمهزوم مخذول: «إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً» قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ» هو جواب على هذا السؤال الذي جاء فى الآية السابقة: «أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ» ؟ وهو جواب ينطق به لسان الحال ويشهد له الواقع. وفى قوله تعالى: «ذائِقَةُ الْمَوْتِ» إشارة إلى أن للموت طعما، تجده النفوس حين تفارق الأجساد.. وهذا الطعم يختلف بين نفس ونفس.. فالنفس المؤمنة تستعذب ورده، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 872 وتستسيغ طعمه، لما ترى فيه من خلاص لها من هذا القيد، الذي أمسك بها عن الانطلاق إلى عالمها العلوي، حيث تروى ظمأها، وتبرّد نار أشواقها، وتنعم فى جنات النعيم التي وعد الله المتقين.. أما النفس الضالة الآثمة، فإنما يحضرها عند الموت، حصاد ما عملت من آثام، وما ارتكبت من منكرات، وتشهد ما يلقاها من غضب الله وعذابه، فتكره الموت، وتجد فيه ريح جهنم التي تنتظرها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ» (93: الأنعام) وقوله سبحانه: «فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ» (55: التوبة) . وفى قوله تعالى: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ» إشارة إلى ما يقع للناس فى دنياهم مما يرونه شرا أو خيرا.. فذلك كله ابتلاء لهم، واختبار لما يكون منهم مع الشرّ من صبر أو جزع، ومع الخير من شكر أو كفر.. فما تستقبله النفوس مما يكره، هو ابتلاء لها على الرضا بقضاء الله، والتسليم له.. وما تستقبله مما يحبّ، هو امتحان لها كذلك، على الشكر والحمد لما آتاها الله من فضله وإحسانه.. فالنفوس المؤمنة، لا تجزع من المكروه، ولا تكفر أو تبطر بالمحبوب، لأن كلّا من عند الله، وما كان من عند الله فهو خير كله، محبوب جميعه.. هكذا تجده النفوس المؤمنة بالله، العارفة لجلاله، وعظمته، وحكمته.. أما النفوس الضالة عن الله، فإنها إن أصابها شىء من الضرّ، جزعت، وزادت كفرا وضلالا، وإن مسّها الخير، نفرت نفار الحيوان الشرس، واتخذت من نعمة الله سلاحا تحارب به الله، وتضرب فى وجوه عباد الله.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 873 وفى هذا يقول الله تعالى: «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ» (19- 27: المعارج) . ونحبّ أن نقف هنا وقفة، مع قضية «الخير والشرّ» .. نعالج فيها ما يدور فى بعض الرءوس من تساؤلات عن «الشرّ» وعن الحكمة فى أن يقع فى هذه الحياة، وعن ابتلاء الناس به، وعن نسبته إلى الله.. إلى غير ذلك مما سنعرضه مفصلا فى المبحث التالي: [الخير.. والشر] التّلازم بين الخير والشر: ينزع العقل دائما إلى المزاوجة بين الأشياء التي تعرض له، وتدور فى محيط تفكيره.. فلا يكاد أمر من الأمور يقع فى مجال النظر العقلي، حتى يستثير له العقل من عالم الواقع، أو عالم الخيال، كائنا آخر، يقف منه موقف التضادّ والعناد، ليرى فيه كل الصفات السلبية للأمر الذي بين يديه.. فإذا ذاق المرء طمعا حلوا، ذكر الطعم المرّ، وإذا لمس اللّبن استشعر الخشن، وإذا فكر فى الحق، تذكّر الباطل.. وهكذا تعيش الأشياء، من المعاني والمحسوسات، فى عالم الحسّ والفكر، مثنى.. مثنى.. الأمر وضدّه. ومحال أن يعترف العقل فى عالم الواقع، بالوجود الفردىّ لشىء من الأشياء، أو معنى من المعاني.. حتى لكأن الأشياء والمعاني كائنات حيّة، لا يضمن بقاءها ووجودها، إلا هذه المزاوجة! التي تجمع بين الشيء ومقابله، كما تجمع فى عالم الأحياء بين الذكر والأنثى..!! الجزء: 9 ¦ الصفحة: 874 إن الحقيقة الفردية لا وجود لها فى منطق العقل، فهو لا يعرف الشيء، ولا يعترف به، إلا إذا عرف المقابل له، ولو كان هذا المقابل عدما وسلبا.. فهو إن عجز عن أن يجد فى عالم الواقع ما يقابل أو يضاد الشيء الذي بين يديه، انتزع من صفات العدم والسلوب لهذا الشيء، مشخّصات يقيم منها شخصية تقابله مقابلة التضاد والعناد.. فالوجود يقابله العدم، والحياة يقابلها الموت.. وهكذا.. يقول الفيلسوف الأمريكى «وليم چيمس» : «إننا لا ندرك تمام الإدراك القضية الصادقة، حتى نعلم مضمون ما يناقضها من قضايا كاذبة.. فالغلط ضرورى ليظهر الحقيقة على أحسن منوال، كما أن ظلام الجانب الخلفى- فى آلة التصوير- ضرورى ليظهر صفاء الصورة ونضارتها» . ولعمر بن الخطاب- رضى الله عنه- كلمته المأثورة: «من لم يعرف الشرّ جدير بأن يقع فيه» . وعن طريق هذه الثنائية للأشياء، استطاع العقل أن يبعث الحياة فى الكائنات الجامدة، وأن يقيم من المعاني المجرّدة مشخصات، حين يجمع بين المتضادات، ويقابل بين المتناقضات، فتتعاند، وتتصادم، ويتولد من تعاندها وتصادمها واحتكاكها، شرارات المعرفة، التي تكشف للعقل عن حقيقتين فى وقت معا، عند معالجته لحقيقة واحدة.. هما: الشيء وضده، أو الشيء ومقابله. وعن هذه الثنائية، نشأ هذا التلازم بين الخير والشر.. فإذا ذكر الخير، ذكر معه الشرّ، وظهرا معا فى مجال الفكر متقابلين، تقابل الصورة وسالبها فى عمل للصورة «الفتوغرافية» . والسؤال هنا هو: هل هذا التلازم بين الخير والشر أمر واقع فى الحياة؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 875 أم أنه مجرد عملية من عمليات العقل، وطريقة من طرائقه فى فهم الأشياء، وكشف الحقائق؟ وسؤال آخر.. هل هناك خير؟ وإذا كان.. فما هو؟ وهل الشر قائم إلى جانب الخير أبدا؟ وإن كان.. فما هو؟ وما الصلة بينه وبين الخير؟ الخير والشر.. وواقع الحياة: ولعلّ أكثر الكلمات دورانا على ألسنة الناس، كلمتا الخير والشر.. فما عرض لإنسان أمر، أو وقع له شىء، إلّا نظر إليه من جانبى الخير والشر، وإلّا أخذه بأحد الوصفين: الخير والشر.. إن هاتين الكلمتين، هما ميزان الحياة الذي يقدّر به الإنسان كلّ شىء يأخذه أو يدعه.. الخير فى كفة، والشرّ فى الكفة الأخرى.. هكذا تجرى حياة الناس، وهكذا تجىء تصرفاتهم وبقع سلوكهم، على حسب ما يشير إليه مؤشر الميزان، من رجحان إحدى الكفتين على الأخرى.. فإذا تعادلتا، توقف الإنسان ووقع فى حيرة بين ما يأخذ وما يدع! إننا جميعا نقول بالخير والشر.. نعرفهما، ونعمل ونتعامل فى حدودهما، ونزن حظوظنا من كلّ شىء بهما.. ومع هذا، فإن من بعض الفلاسفة والمفكرين من ينكر وجودهما، ولا يعترف بأن فى الحياة خيرا أو شرا.. فهل يقبل واقع الحياة هذا الرأى؟ وهل انطوت صفحات الخير والشر من هذا الوجود، إذعانا لهذا الرأى، ونزولا على حكمه؟ ولكن.. مهلا.. ما هو الخير؟ وما هو الشرّ؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 876 إننا نتحدث منذ أخذنا فى هذا الحديث، عن الخير والشر، كأنهما حقيقتان واقعتان، متفق على ماهيتهما، متعارف على الحدود القائمة بينهما.. مع أن الواقع غير ذلك.. فمع اعتراف المعترفين بالخير والشرّ، فإن خلافا كبيرا قد وقع بينهم فى تحديد الصورة، التي يكون بها الخير خيرا والشرّ شرّا.. ما هى الضوابط التي تضبط معنى الخير؟ والتي إن تحققت فى أمر من الأمور عرف أنه خير؟ وإن تخلّف بعضها وتحقق بعضها عرفت نسبة الخير فيه؟ إنه بغير هذه الضوابط ستتفرق بالناس السّبل، حيث تعدد المفاهيم للخير والشرّ. على حسب تعدد الناس، وحسب ما يرون، وما يقدّرون. فلا يلتقون على طريق واحد فيما يأخذون أو يدعون، ولا فيما يحمدون أو يكرهون، ولا فيما يثيبون أو يعاقبون. ما الخير إذن؟ يكاد يكون الخير أمرا بدهيا، لكثرة إلف الناس له، وإحساسهم به.. فهو لهذا لا يكاد يضبط أو يحصر داخل حدّ محدود.. إنه مشاع فى الناس، واقع فى إحساسهم.. كل يراه من الأفق الذي يعيش فيه.. فيبدو لبعض الناس فى صورة المتاع الجسدى من طعام وشراب، ولباس، وغير هذا مما هو من حظ الجسد، على حين يراه آخرون فى ألوان من الأدبيّات، التي تعلو بالروح، وتسمو بالوجدان.. وبين هذه الآفاق الصاعدة والآفاق النازلة، درجات لا تكاد تحصى، وتكاد تكون على تعداد الناس.. فردا فردا.. ولكن إذ قد اختلفت معابير الناس فى الخير- وهذا أمر طبيعى- لاختلاف رغباتهم، وتنوع مطالبهم، فليس معنى هذا ألا يكون هناك خير، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 877 وإنما هذا الاختلاف فى ذاته، دليل على وجوده! ولعل أول إحساس بالخير، جاء عن طريق إحساس مادىّ، يقع على الجسد من أمور تتصل بحاجات الإنسان الجسدية، التي تمسك عليه الحياة، وتدفع عنه أسباب الفناء فالشىء الذي كان يسدّ حاجة الإنسان البدائى، ويشبع جوعته- أيا كان هذا الشيء- هو خير وخير كثير.. من أجل هذا كانت تلك الموجودات من حيوان أو نبات أو جماد، معبودات للإنسان الأول، حيث ظهرت له، فى صورة نافعة أو ضارة، وذلك ليرجو خيرها، ويدفع شرها.. ومن هنا كان تعدد الآلهة التي عبدها الإنسان فى خطواته الأولى فى الحياة.. فعبد كل شىء، إذ كان يرى مصيره مرتبطا به، فى مجال النفع والضر على السواء.. ثم حين خطا الإنسان خطوات إلى الحياة، وتعرف على وجوه الأشياء، وأخضعها لسلطانه- ترك عبادتها شيئا فشيئا، ثم ما زال بها يدفعها عن مقام التأليه والتقديس حتى انتهى به الأمر إلى جمعها جميعا تحت دائرتين: دائرة تسع كل ما هو خير، وأخرى تجمع كلّ ما هو شر.. فالخير جميعه يصدر عن قوة عليا، كما أن الشرّ كله يصدر عن جهة عليا كذلك، تناظر قوة الخير، وتقابلها.. وهكذا انتهى الإنسان فى مرحلة متأخرة من حياته إلى عبادة الخير، والشر، ولم يستسغ أن يجمع بين الخير والشر فى دائرة واحدة، فيجعلهما صادرين عن قوة واحدة عليا.. لأنه فهم أن الخير لا يلتقى أبدا مع الشر، وأن الذي يصنع الخير، لا يصنع الشر! الجزء: 9 ¦ الصفحة: 878 فلسفة المثنوية: وقد اطمأن الإنسان إلى هذا المعتقد، واجتمعت له فيه، نفسه المشتتة، وعاد إليه فكرة اللاهث، الذي كان يجرى وراء كل هذه الآلهة التي لا حصر لها.. ومنذ هذا الوقت استطاع الإنسان أن يتأمل، وأن يطيل التأمل فى هذين الإلهين، اللذين احتويا جميع الآلهة، وانتزعا كل سلطان على هذا الوجود.. ولقد نشأ عن هذا التأمل الطويل العميق فى هذين الإلهين، فلسفة لها أسلوبها الذهني والمنطقي، ولها أحكامها القائمة على البرهان والاستدلال.. ولعلّ أقدم نظر لبس ثوب الفلسفة فى العقيدة «المثنوية» هو نظر حكماء الفرس، الذين انتهى بهم الرأى إلى القول بإلهين يحكمان العالم، ويتحكمان فى مصيره، وهما: إله الخير، وإله الشر.. وقد رمزوا لإله الخير بالنور «يزدان» ولإله الشرّ بالظلام «أهرمن» . وقد تفرقت بفلاسفة الفرس وحكمائها السبل حول النظر فى هذين الإلهين، وسلطان كل منهما فى هذا العالم، وفى الصدام والصراع الذي لا بد أن يقع بينهما، إذ كانت طبيعة كل منهما على خلاف حادّ مع طبيعة الآخر. فذهب فريق منهم إلى أن «يزدان» - وهو النور- أزلىُّ قديم، وأما «أهرمن» - وهو الظلام- فحادث مخلوق.. وفى زمن متأخر جاء «زرادشت» بمذهب يخالف هذا المذهب، فقال: إن الله واحد قديم، لا شريك له ولا ضد ولا ندّ.. وهو الذي خلق النور والظلام، ولا يجوز أن ينسب إليه وجود الظلمة.. ولكن الخير والشرّ، والصلاح والفساد، والطهارة والخبث، إنما حدث بامتزاج النور والظلمة، ولو لم يمتزجا لما كان للعالم وجود!! الجزء: 9 ¦ الصفحة: 879 وهما- أي النور والظلام- يتقاومان، ويتغالبان، إلى أن يغلب النور الظلام، والخير الشرّ، ثم يتخلص الخير إلى عالمه.. والبارئ تعالى هو الذي مزجهما وخلطهما لحكمة رآها فى التركيب.. ويرى «زرادشت» أن النور هو الأصل، وأن وجوده وجود حقيقى، وأمّا الظلمة فتبع له.. كالظل بالنسبة إلى الشخص.. ولما كان الباري يرى أنه موجود، وليس بموجود، فقد أبدع النور، وحصل الظلام تبعا.. لأن من ضرورة الوجود التضادّ» «1» . ونلاحظ هنا أن هذا الرأى يقارب كثيرا ما تقول به التوراة فى سفر التكوين.. فما تحدّث به التوراة يكاد يكون نقلا حرفيًّا له! كما يلاحظ أيضا أن قول «زرادشت» بأن الخير والشرّ، والصلاح والفساد، والطهارة والخبث، إنما حدثت من امتزاج النور والظلمة- يلاحظ أن هذا القول يتفق مع أحدث النظريات الفلسفية والأخلاقية التي تقول، بأن الخير والشر لا يوجدان خالصين.. فالخير ممتزج بالشر، والشرّ معه الخير.. «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً» .. الخير والشر فى معابير الفلسفة الحديثة: ولا بد لنا من نظرة إلى عصرنا هذا، وإلى نظرته إلى الخير والشر، عند العلماء، والفلاسفة، ورجال الدّين والأخلاق.. فلقد عنيت الفلسفة الحديثة بالسلوك الإنسانى، وجعلت الإنسان موضوعا بارزا من موضوعات الدراسة والنظر فى منهجها. كان ما وراء الطبيعة فى الفلسفة القديمة، هو كل ما يشغل الفلاسفة، ويسيطر على تفكيرهم.. فجاءت نظرياتهم تخطيطا لصور من المثاليات القائمة على   (1) انظر الملل والنحل للشهرستانى.. ج 2 ص 69 وما بعدها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 880 التصورات والفروض.. وطبيعىّ ألا يكون للإنسان حظ بارز فى هذه الفلسفة. وكانت دعوة «أرسطو» إلى النظر فى عالم الواقع والحسّ، فى كلمته المشهورة: «اعرف نفسك» - كانت هذه الدعوة جديرة بأن تؤتى ثمارها، لو أنها تناولت الإنسان من حيث هو كائن حىّ من كائنات الطبيعة.. ولكن هذه الدعوة نقلت الفلسفة من النظر فى السماء، إلى النظر فيما وراء المحسوس من الإنسان.. من روح، ونفس، وعقل، ولم توجّه النظر إلى المادة، ومظاهر الطبيعة التي يعيش الإنسان فيها، بل ويعيش منها وعليها.. أما فى هذا العصر، ومنذ مطلع القرن التاسع عشر الميلادى، فقد فتن الناس بالواقع التجربي، الذي يقوم على الاختيار الحسىّ، وأصبحت المعامل التجريبية لعلوم الطبيعة وظواهرها، ميدان الصراع العقلي بين العلماء.. فتلون التفكير الفلسفي بالصبغة العملية، وتغير منهج الفلسفة.. فبعد أن كانت مراحل التفكير الفلسفي تبدأ من السماء، ثم تنتهى أو لا تكاد تنتهى إلى الأرض- أصبحت الفلسفة تبدأ من الأرض، ثم تنتهى أو لا تنتهى إلى السماء..! وطبيعى أن يظفر الإنسان بالنّصيب الأوفر من عناية الفلاسفة المعاصرين.. إذ كانت الطبيعة موضوع فلسفتهم، وكان الإنسان هو أعلى، وأعظم ظاهرة فيها.. ولما كان الخير والشرّ جانبين بارزين فى تكفير الإنسان، وفى سلوكه، فقد عنيت بهما الفلسفة، فيما عنيت به من شأن الإنسان، وحاولت الفلسفة جهدها أن تحدد «القيمة» لكل من الخير والشرّ، وأن تضع الموازين والضوابط لهما.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 881 وتصور.. كيف يكون الحال، لو عرف الناس ميزانا دقيقا يزنون به تصرفاتهم- قبل أن تقع- وتتبيّنوا جانب الخير، وجانب الشر منها؟ إن إنسانا لن يمدّ يده، أو يسعى برجله، إلى شر أبدا.. وكيف وقد استبان له وجه الخير والشرّ، على الصورة التي يقعان بها؟. وقد تقول: إن كثيرا من الأمور يعرف الناس وجه الخير والشرّ فيها، ومع هذا، فإنهم يواقعون الشرّ وعيونهم مفتوحة له! فهناك شرّ صراح لا خفاء فيه، ومع هذا فإنه واقع فى سلوك الناس.. قد تقول هذا! ونحن نوافقك على هذا الاعتراض، ولكن على شرط أن تتفق معنا على أن مثل هذا الشرّ غير مصحوب «بالحتمية» التي تجعل وقوعه أمرا لازما، لا مفرّ منه، عند الذين يتلبّسون به على الأقل.. فإن هناك صورا من الاحتمالية تثور دائما فى وجه ما يبدو أنه شرّ محض! وهذه «الاحتمالية» هى الضباب الذي يخفى كثيرا من وجوه الشرّ، فيما هو شر، وهى السراب الخادع الذي يضلل الإنسان، ويغربه بفعل ما هو شر، وإن كان يراه رأى العين!! ولا شك أن رغباتنا، وعواطفنا، تلعبان دورا هاما، فى مجال العمليات الاحتمالية، فتقوبها أو تضعفها، على حسب ما عندنا من رغبات وعواطف نحو الشر الذي نقف إزاءه، وما عندنا من إرادة، وعزم، وثورة، على ضبط هذه الرغبات، وكبح جماح تلك العواطف!! ومع هذا، فإننا نقول: إنه من الخير أن يظلّ الخير والشرّ فى هذه السّحب التي تحجب الكثير من معالمها، فيكون «للاحتمالية» ومكانها فى الخير أن يكون شرا، وفى الشرّ أن يكون خيرا- وبذلك تقوم دواعى العمل، ويكون للحياة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 882 دورانها، وللناس سعيهم فى كل وجه، فيعملون فيما يحسبون أنه خير، وإن جاء بالشر!! «وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» ولو استبان للناس وجه الخير صريحا، لكان ركب الحياة كلّه متجها إلى هذا الوجه وحده، ولكان الناس على طريق واحد!! ولكن أي ركب هذا الذي يأخذ طريقا واحدا؟ إنه ركب جامد صامت لا حركة فيه.. إنه أشبه بالتيار الموجب فى القوة الكهربائية.. لا يعمل، ولا يتحرك، ولا تصدر عنه فاعلية فى إحداث حرارة أو ضوء، إلا إذا اتصل بالتيار السالب، وتفاعل معه!. إن معالجتنا للأمور، لا تظهر نتائجها إلا بعد أن نفرغ منها، ونخرج من أيدينا، ولو استدارت لنا عواقب الأمور، فرأيناها قبل أن نعالجها، لكان شأننا فى الحياة غير هذه الشأن، فما أخطأ مخطئ، ولا خسر خاسر، ولا أصيب مصاب.. وهكذا، مما يقع للناس، مما يسوؤهم.. ولكان شاعرا كاين الرومىّ على غير ما كان عليه، من الخوف، والتردد، والعجز، عن لقاء الحياة.. ولما قال هذا القول، مصورا به نفسه: أقدّم رجلا رغبة فى رغيبة ... وأمسك أخرى رهبة للمعاطب ألا من يرينى غايتى قبل مذهبى ... ومن أين؟ والغايات بعد المذاهب! ونعود فنقول إن الفلسفة الحديثة، وإن بدأت بالنظر إلى الإنسان، ممثلا فى المجتمع الإنسانى، فإنها انتهت بالإنسانية ممثلة فى الإنسان.. بمعنى أن الإنسان من حيث هو كائن له ذاتيته، وله مدركاته، ومشاعره- هذا الإنسان هو الذي أصبح مركز الدائرة التي تدور حولها الفلسفة الحديثة.. وإذا كان لها نظر إلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 883 المجتمع الإنسانى، وإلى الروابط التي تربط الفرد بالجماعة، فهو نظر جانبى يحىء تبعا للنظرة المتجهة اتجاها مباشرا إلى الإنسان وحده. ومن هنا كان الحكم على الخير والشر- فى تقدير الفلسفة الحديثة- قائما على أساس فردى بحت، بمعنى أن الفرد- والفرد وحده- هو الذي له أن يحكم على هذا الأمر بأنه خير أو شر، ثم إنه ليس هذا بالذي يمنع من أن يجىء غيره فينقض عليه حكمه، فيرى ما رآه غيره خيرا، شرا، وما رآه شرا، هو عنده خير.. وعلى هذا، فهناك- عند الفلسفة الحديثة- خير وشر، ولكن لا ذاتية للخير أو الشرّ، بل هما أمران اعتباريّان، فالخير ما رآه الإنسان خيرا. والشر ما رآه شرا.. وإنه لا خير ولا شرّ فى حقيقة الأمر!! وفى هذا يقول الفيلسوف الأمريكى «وليم جيمس» : «إن الإنسان هو مصدر الخير والشرّ، والفضيلة والرذيلة.. إن الخير خير بالنسبة له، والشرّ شر بالقياس إليه.. إن الإنسان هو الخالق الوحيد للقيم فى ذلك العالم، وليس للأشياء من قيمة خلقية إلا باعتباره هو» !! ويمكن أن يكون هذا الرأى تلخيصا للفلسفة الحديثة، وإن دخلت عليه بعض الألوان والأصباغ، فإن اللون الغالب فيه هو هذا اللون الذي يجعل للإنسان وحده تقييم الأشياء، وتصنيفها، ووضع كل شىء منها فى موضعه من الخير والشر، والحسن والقبح..! الخير والشرّ فى نظر الإسلام: لا تحفل الشريعة الإسلامية بالنظر الفلسفي فى حقائق الأشياء، ولا تعنى بالجدل اللفظي حول ماهيتها، لأن غاية هذه الشريعة ليست تربية الملكات الجزء: 9 ¦ الصفحة: 884 العقلية، ولا تخريج الفلاسفة والحكماء، وإنما رسالتها تقوم أساسا على تقويم السلوك، وتهذيب النفوس، وإقامة مجتمعات إنسانية على مبادئ الخير والعدل والإحسان. ومن هنا، لا نجد فى الشريعة الإسلامية تلك التعريفات الجامعة المانعة- كما يقولون- للخير والشرّ، والحقّ والباطل، والحسن والقبيح، وغير ذلك من الصور التي عنى الفلاسفة والأخلاقيون، بتحليلها، والتعرف على عناصرها، وجمع الصفات المميزة لكل واحد منها.. فإذا قال الفلاسفة والأخلاقيون: «إن الحق هو كذا، والخير هو كذا، والحسن كذا- لم نجد فى كتاب الله ولا سنّة رسوله قولا عن الحق.. ما هو؟ والخير ما هو؟ والحسن ما هو؟ وإنما نجد دعوات إلى الحق، والخير، والإحسان، وإغراء بها، وتحريضا عليها، ورصدا للجزاء الحسن لمن استقام عليها.. كذلك نجد عكس هذا، إزاء كل ما هو باطل، وشر، وخبيث!. ولم يكن إغفال الشريعة الإسلامية لرسم حدود الفضائل، وتقويم الأخلاق عن تهوين لشأنها، أو استصغار لخطرها.. وكيف وغاية الشريعة ومقصدها أولا وأخيرا، إنما هو تقويم الأخلاق، وتربيتها، وإقامتها على منهج سليم مستقيم! وكيف والنبىّ الكريم يجعل عنوان رسالته، ويحصر مهمة نبوته فى هذا المجال وحده: فيقول صلوات الله وسلامه عليه: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» ؟ فليس عن تهوين إذن من شأن الأخلاق، ولا عن استصغار لخطرها، هذا الاتجاه الذي اتجهت إليه الشريعة فى إغفالها البحث عن «ماهية» الأخلاق.. إذ كان مقصد الشريعة وهدفها- كما قلنا- هو الجانب العملي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 885 للأخلاق.. الجانب السلوكى، الذي لا يغنى فى تعديله وتقويمه، الجدل الفلسفي، أو النظر المنطقي، وإنما الذي يرجى منه النفع فى هذا المقام، هو إثارة مشاعر السموّ النفسي فى الإنسان، ووصله بالمجتمع الإنسانى بصلات الأخوة، والحنان والرحمة.. فذلك هو الذي يقيم من الإنسان إنسانا صالحا فى بناء مجتمع صالح. فالقرآن الكريم يحضّ على الأعمال الصالحة ويزكيها، ويرفع منازل أهلها، وبعدهم بجنات الله ورضوانه عليها.. يذكر القرآن الكريم «التقوى» فى مواضع كثيرة، مثل قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ» .. (70- 71: الأحزاب) فما هو العمل الصالح؟ وما هى التقوى؟ وما القول السديد؟ .. كل ذلك لم يشأ القرآن الكريم أن يعرض له بالكشف عن «ماهيته» ورسم حدوده.. نعم، هناك أمور واضحة صريحة فى باب الخير، كما أن هناك أمورا واضحة صريحة فى باب الشر.. ولكنها على هذا الوضوح، ومع تلك الصراحة، لا تقع من النفوس موقعا واحدا.. فإذا اتفقت النفوس على أن العدل جميل.. فإنه فى نفس عمر بن الخطاب مثلا، غيره فى نفس كثير من الناس.. هو خير لا شك فيه.. تدعو إليه الشريعة وتأمر به، وتثيب عليه.. ولكنها لا تستطيع أن تضعه فى معادلة جبرية. أو تحلله تحليلا كيماويا.. إنه العدل، وكفى! وإنه الخير وكفى! «الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات» هكذا يقول الرسول الكريم.. وليست الشبهة فى الحلال فى ذاته، أو الحرام فى داته، وإنما تقع الشبهة فى الملابسات التي تلابس الحلال أو الحرام، وفى الوضع الذي يكون عليه الإنسان إزاء ما هو حلال وحرام..! أتترك الأمور إذن بلا ضابط هكذا؟ .. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 886 كلا.. ومن قال هذا؟ إن ربّان السفينة إذا أدار محركها أو فرد قلوعها، هو هالك لا محالة، إذا هو لم يعرف الوجهة التي يتجه إليها، وإذا لم يكن معه «بوصلة» أو ما يشبهها، ليستعين بها على معرفة الشرق والغرب، والشمال والجنوب، وإذا لم يكن معه «بوصلة» أخرى أو ما يشبهها، يقيس بها الأعماق، أو يستدلّ بها على مهابّ الرياح! والإنسان هو سفينة فى محيط هذه الحياة.. ربّانه العقل، وقلوعه النفس، ونزعاته وأهواؤه، هى التي تملأ قلوعها وتدفعها..! لا بد إذن من «بوصلة» تضبط سيره، وتحدد وجهته.. وما غفلت قدرة الحكيم العليم عن هذا.. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.. وكيف، وهو الذي أعطى كلّ شىء خلقه.. ثم هدى» ؟ لقد أودع الخالق العظيم فى الإنسان أدقّ «بوصلة» وأضبطها.. إنها «القلب» .. وحسبك بالقلب السليم «بوصلة» عاملة فى سفينة الحياة! لقد اعتمد الإسلام على القلب فى تقويم الأخلاق، وفى التعرف على الخير والشر، والحسن والقبيح.. ووكل إليه الفصل فى خير الأمور وشرها، وحسنها وقبيحها.. إن القلب فى نظر الإسلام، هو العين الباصرة، التي تكشف للإنسان مسالكه، وتحديد المستقيم والمعوجّ من طرقه.. وفى القرآن الكريم آيات كثيرة تتجه إلى القلب وتتحدث إليه.. فيقول سبحانه وتعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ» (37: ق) ويقول الجزء: 9 ¦ الصفحة: 887 سبحانه: «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ.. أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (28: الرعد) . والرسول الكريم، ينوّه بشأن القلب، ويكشف عن آثاره فى الإنسان، فيقول- صلوات الله وسلامه عليه- «ألا وإن فى الجسد مضغة، إذا صالحات صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه.. ألا وهى القلب» .. ويقول الرسول الكريم فى تعريف الخير والشر، وفى التعريف عليهما: «البرّ ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك فى النفس، وتردّد فى الصدر.. استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك» .. الإسلام إذن، يعترف بالخير والشرّ.. لأنهما أمران واقعان فى الحياة، يعيشان فى الناس، ويعيش فيهما الناس.. وقد جاءت الشريعة الإسلامية آمرة بالخير، ناهية عن الشر.. وأشارت إلى أمور بذاتها عدّتها خيرا، وأخرى اعتبرتها شرّا.. ثم جمعت الخير كله فى دائرة واحدة هى «المعروف» وطوت الشر كله تحت حكم واحد، هو «المنكر» : يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر» . فالخير هو «المعروف» أو وجه بارز من وجوه المعروف، والشر هو المنكر، أو وجه كالح من وجوه «المنكر» .. والسؤال هنا- ونحن فى معرض البحث عن الخير والشر- إذا كان الخير أمرا محمودا، ودعوة من دعوات السماء إلى لقائه، والعمل به- فلم كان هذا الشرّ؟ وما حكمة وجوده؟ الشرّ موجود.. هذه حقيقة مسلّم بها، لا سبيل إلى إنكارها، أو تجاهلها! أمّا، لماذا وجد؟ وما حكمة وجوده؟ وهلّا محضت الحياة للخير، وخلصت الشرّ؟ .. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 888 أما هذا، فهو الذي يدور حوله الخلاف، ويكثر فيه الجدل.. وقد تجنب الإسلام- منذ قام- إيقاظ هذه الفتنة، فلم يطرق بابها من أية جهة، ولم يشر إليها من قريب أو بعيد.. والحكمة فى هذا ظاهرة.. إذ لا جدوى من أن يقيم الإسلام لوجود الشرّ علة أو عللا.. إنه موجود.. وكفى.. «وحسبك من شرّ سماعه» ! .. والحزم كل الحزم فى توقّيه، ودفعه، والخلاص منه.. إنه لمن السفاهة الغليظة، والخسران المبين، أن يرى الإنسان حيوانا يريد أن ينقضّ عليه ويفترسه، ثم لا يطلب النجاة لنفسه، بل يستغرق فى تأملات سخيفة ليجيب على هذا السؤال: ما هذا الحيوان المؤذى؟ ولم كان؟ لم يرد الإسلام أن يسوق أتباعه إلى هذه المواقف الخاسرة.. بل صرفهم عنها صرفا، وخلّى بينهم وبين الحياة بخيرها وشرها بعد أن أراهم منازل الخير وثمراته، وأطمعهم فيه، ودعاهم إليه، ثم أراهم مزالق الشرّ، ومغباته، وخوّفهم منه، وتوعدهم على الاتصال به.. أليس ذلك هو النهج القاصد، والطريق المستقيم فى تقديم الأخلاق وتربية النفوس؟ لقد كان ذلك هو طريق الإسلام، وكان ذلك هو موقفه حيال هذه القضية.. لم يوقد نارها، ولم يلق لها وقودا.. ولكن حين اتصل المسلمون بالأمم المجاورة، وعرفوا شيئا من فلسفة اليونان والهند، وشيئا من معتقدات الفرس، تحركت فى نفوسهم هذه الفتنة «الخالدة» ..لماذا وجد الشر؟ وقد فتحت الإجابة على هذا السؤال باب فتنة، أخذ يتسع شيئا فشيئا، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 889 حتى دخله المسلمون جميعا، وانقسموا إلى فرق وطوائف، ولكل فرقة مقولاتها ولكل طائفة حججها.. حتى كان من ذلك الجدل محصول وفير من الكلام!! ولا نريد أن نعرض لهذا الجدل، فهو مبسوط فى كتب علم الكلام «1» . والذي نحبّ أن نقرره هنا.. هو أن الإسلام يوجّه اهتمامه أولا وقبل كل شىء، إلى مجاهدة الشر الذي يعيش فى مجال الناس فعلا، وإلى محاولة التغلب عليه، والانتصار للخير، والانحياز إلى جانبه.. فذلك هو الجدير بالإنسان، من حيث هو إنسان، يحترم عقله، ويستهدى بقلبه، ومن حيث هو كائن اجتماعي، يعيش فى المجتمع الإنسانى.. ومن خيره وخير الجماعة أن يكون عضوا فى هذا المجتمع الكبير، يسعد بسعادته، ويشقى بشقائه.. إن الإسلام، لا يضع الشرّ فى مجال العدم بالنسبة للخير، بل يراه كيانا قائما بذاته إزاء الخير.. فللشر- فى نظر الإسلام- ذاتية قائمة فى الحياة، وعلى الناس أن يأخذوا حذرهم منه، وأن يعملوا له حسابا فى موازنة الأمور التي تعرض لهم. لقد حاول كثير من مفكرى الإسلام، أن يهوّنوا من شأن الشرّ، وأن يجعلوا وجوده فى الحياة، شيئا عارضا، يجىء فى ثنايا الخير! وكأنهم أرادوا بهذا أن يبرّئوا صنع الله من هذا النقص، الذي يلحق بالوجود، إذا قيل إن الشرّ قد نجم فيه!! وهذا دفاع غير موفق.. إذ أنه ينكر أمرا واقعا يعيش فى الناس.. وهو الشرّ.. وكان خيرا من هذا الدفاع أن يعترفوا بالشر.. ولكنه شرّ لا يرتفع   (1) انظر فى هذا كتابنا «القضاء والقدر.. بين الفلسفة والدين» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 890 إلى أكثر من ضرورات الحياة.. الحياة الإنسانية، التي يعتبر الشرّ فيها عنصرا من العناصر العاملة فى دفع عجلة الحياة، ودوران دولاب العمل فيها.. يقول الجاحظ: «اعلم أن المصلحة فى ابتداء أمر الدنيا إلى انقضاء مدّتها، والكثرة بالقلّة.. ولو كان الشرّ صرفا، لهلك الخلق، أو كان الخير محضا لسقطت المحنة، وتعطلت أسباب الفكرة.. ومع عدم الفكرة يكون عدم الحكمة، ومتى ذهب التخيير، ذهب التمييز، ولم يكن للعالم تثبت وتوقف وتعلم، ولم يكن علم، ولا يعرف باب التدبير، ولا دفع المضرّة، ولا اختلاف المنفعة، ولا صبر على مكروه، ولا شكر على محبوب، ولا تفاضل فى جانب، ولا تنافس فى درجة، وبطلت فرحة الظفر، وعزّة الغلبة.. ولم يكن على ظهرها (أي الدنيا) محقّ يجد عزّ الحقّ، ومبطل يجد ذلّ الباطل، وموفّق يجد برد اليقين.. ولم يكن للنفوس آمال، ولم تتشعّبها الأطماع «1» » . فالجاحظ هنا يكشف عن الدور، الذي يؤديه التفاوت بين الأمور، فى امتداد مجال التنافس بين الناس.. إن الاختلاف بين الأشياء فى مجال الخير والشرّ، هو الذي يملأ كل فراغ فى الحياة، ويفسح لكل إنسان مكانا فى قافلة الحياة، حسب استعداده، ونزعانه.. وهكذا تتحرك الحياة كلها، فى آفاقها الصاعدة والنازلة، على السواء!. والذي ينظر إلى الحياة نظرة فردية جانبية، يرى هذا التفاوت بين الناس   (1) الحيوان: للجاحظ.. جزء: 1 ص: 96. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 891 وأوضاعهم فى هذه الحياة.. فيرى قمما عالية، بينما يرى سفوحا، ومنحدرات، بل وحفرا.. ولكنه إذا نظر إلى الحياة عامة شاملة، لم ير إلا وحدة منتظمة، وإلّا سطحا مستويا، لا نجود فيه، ولا منحدرات.. كالذى ينظر من طائرة محلّقة فى آفاق السماء، إلى مدينة واسعة الأرجاء.. إنه يرى دورها وقصورها، وأكواخها، ونواطح سحبها- فى مستوى واحد.. كسطح أملس، لا فرق بين الأكواخ والقصور.. يقول الفيلسوف الأمريكى «بوردن باركرباون» : «إن أفراد الناس يؤثّر بعضهم فى بعض، وقد يعارض بعضهم بعضا.. لكن هذا التضادّ بينهم، وهذا الانفصال والتجزؤ، يذوب كله فى عنصر واحد يحويهم جميعا.. وما قد يبدو فى عالم الجزئيات تضادّا، إن هو فى حقيقة الأمر إلا اتساق، لو نظر إليه من أعلى نظرة ترى تفصيلات الوجود كلها واحدة فى كلّ واحد» . فهذا الفهم للحياة، لا ينكر وجود الشرّ وذاتيته فى واقع الحياة الإنسانية، ولكنه حين يرتفع بالنظر عن الحياة الإنسانية الفردية، وعن مستوى هذه الأرض، لا يرى إلا عالما مشرقا، يفيض بالحسن والجمال. إن حواسّنا، ومشاعرنا، ومداركنا، مضبوطة على مستوى هذا الوجود الأرضى الذي نعيش فيه.. وهذا التناقض، والتضادّ، والتعاند، الذي نراه- هو مما يقتضيه وجودنا، وتولده حاجاتنا، وتحققه مدركاننا وحواسنا. ويقول الجاحظ: «وأظنك ممن يرى الطاووس، أكرم على الله من الغراب، وأن الغزال أحبّ إلى الله من الذئب.. فإنما هذه أمور فرّقها الله الله تعالى فى عيون الناس، وميّزها فى طبائع العباد، فجعل بعضها أقرب بهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 892 شبها، وجعل بعضها إنسيّا، وجعل بعضها وحشيّا، وبعضها عاديا، وبعضها قاتلا.. وكذلك الدرّة والخرزة، والنمرة، والجمرة.. فلا تذهب إلى ما تريك العين، واذهب إلى ما يراك العقل.. «وللأمور حكم ظاهر للحواس، وحكم باطن للعقول.. والعقل هو الحجة.. وقد علمنا أن خزنة النار من الملائكة، ليسوا بدون خزنة الجنة، وأن ملك الموت ليس دون ملك السحاب، وإن أتانا بالغيث، وجلب الحياة» «1» . والذي يعنينا من هذا الكلام، أن الموجودات إنما تأخذ كيفيتها على حسب مدركاتنا، أو بمعنى أصحّ، أننا نكيّف الموجودات حسب وقوعها على حواسنا ومدركاتنا.. وإذا كان الإسلام قد جعل معيار الأخلاق وتقويمها إلى بصيرة الإنسان، يحتكم فيها إلى قلبه، ويرجع فيها إلى ضميره- فإنه لم يغفل عن الجانب الضعيف فى الإنسان، ذلك الجانب الذي تهبّ من جهته الأهواء الذاتية، والشهوات الشخصية، فتثير الاضطراب فى كيان الإنسان، وتنذره بالهلاك الذي يتهدد سفينته الضاربة فى محيط الحياة.. ففى كيان الإنسان نفس أمّارة بالسوء، ورغبات نزّاعة إلى الهوى.. لهذا كانت تعاليم الإسلام، موجهة إلى تقوية هذا الجانب الضعيف فى الإنسان، ودعمه بكل ما يضمن للإنسان الأمن والسلام من هذا الجانب، لو أنه اتبع وصايا الشريعة، وعمل بها،   (1) الحيوان.. للجاحظ. جزء 1 ص 197. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 893 ومما جاء به الإسلام فى هذا: أولا: أنه جعل الخير خيرا فى ذاته، والشرّ شرّا فى ذاته، ولم يلتفت إلى تلك التصورات الذهنية الطبيعة الشر والخير، وإنما نظر إليهما على أنهما كائنان قائمان فى الحياة، يشعر بهما المرء، ويجد آثارهما فى نفسه.. فالنار إذ يستدفىء الإنسان بها خير، والنار إذ تحرقه، شر.. إنها خير وخير محض فى حال، وشر وشر محض فى حال.. هذا جانب الخير يراه الإنسان فى الأشياء حين يقيسها إلى نفسه، ويحكم عليها بما تقتضيه مصلحته.. ومثل هذا جانب الشر، الذي يراه الإنسان فى الأشياء، حين يأخذها بمعياره الشخصي الذاتىّ أيضا. ولا تحسبنّ الإسلام يجعل الخير والشر محصورين فى دائرة الإنسان الذاتية، وفى الجانب الحسّىّ من هذه الدائرة.. أي جانب اللذة والألم.. وكلّا.. فهذا جانب وإن لم ينكره الإسلام فى تقويم الخير والشر، لأنه قائم فى الحياة، لا يستطيع الناس الانفصال عنه، إلا أن الإسلام- فوق هذا- يعلو بهذا الإحساس، فيرتفع، عن الجانب المادّى إلى الجانب الروحي، ومن جانب الذاتية الفردية فى الإنسان، إلى جانب المجتمع الإنسانى من أضيق حدوده إلى آخرها، امتدادا واتساعا.. ومن أجل هذا كانت دعوة الإسلام إلى التخفيف من متاع الدنيا، كما كانت دعوته إلى البذل، والإيثار، والتضحية، ثم كان وعده بالثواب والعقاب، والجنة والنار فى الآخرة. وثانيا: كشف الإسلام للناس عن كثير من وجوه الخير والشرّ، إذ نصّ على كثير من الأمور اعتبرها خيرا، ودعا الناس إليها، وأمرهم بها، ووعدهم الجزاء الحسن عليها.. كالصدق، والصبر، وبرّ الوالدين، والإحسان إلى الناس، بالقول والعمل، والوفاء بالعهد وأداء الأمانات إلى أهلها، والحكم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 894 بالعدل.. وكثير غير هذا، مما ثبت عند الناس خيره، ووجدوا آثاره الطيبة فى حياتهم الخاصة والعامة على السّواء. وكما كشف الإسلام عن كثير من وجوه الخير، كشف كذلك عن كثير من وجوه الشرّ، كالقتل، والسرقة، والخمر، والميسر، والزنا، والربا، والكذب، وشهادة الزور، والغيبة، والنميمة، والنفاق، والغش، والظلم والبغي، والعدوان، وكثير غير هذا، مما جاء به القرآن، وبيّنته السنّة المطهرة.. ولا شك أن الإسلام إذ يكشف عن وجوه الخير والشر، فإنما ليؤكد ما استقرّ فى ضمير الناس، وما وقع لعقولهم وقلوبهم من هذه الوجوه كلها، وبهذا تلتقى فى قلب المسلم كلمة السماء، مع منطق العقل، وواقع الحياة.. فيقبل على الخير، ويعيش معه، وينأى عن الشرّ، ويحاذر الاتصال به! وإنه لا حجة لذى عقل على أن الله سبحانه هو الذي أوجد الشرّ، كما أوجد الإنسان الذي يتعامل معه، وإذن فلا يحاسب على لقاء شىء كتب عليه أن يلقاه- لا حجة لذى عقل على هذا، فإنه كما أوجد الله الشرّ، أوجد الخير، ثم دعا إلى الخير، وحذّر من الشرّ، وجعل للإنسان عقلا ينصرف به إلى الخير والشرّ. ثم جعل للخير أثرا طيبا فى عاجل الإنسان وآجله، وجعل للشر أثرا سيئا فى عاجله وآجله.. فإذا انصرف الإنسان عما ينفعه إلى ما يضرّه، وآثر ما يسوؤه على ما يسرّه، فهو الذي جلب على نفسه ما جلب من مكروه، لأنه هو الذي آثره، ورضى به! إن الحياة بخيرها وشرها، أشبه بمائدة ممدودة، عليها ألوان من الأطعمة، بعضها طيب، يفيد الجسم وينمّيه، وبعضها خبيث يعطب الجسم ويفسده. وعلى كل لون من ألوان الطعام لافتة تحدد صفته، وتكشف عن حقيقته، وأثره الجزء: 9 ¦ الصفحة: 895 فيمن يتناوله.. وليس هذا فحسب، بل إنه يقوم على هذه المائدة ناصح أمين، يدعو إلى الأكل من الطيب، ويحذر من مدّ الأيدى إلى الخبيث: «يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً.. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ.. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» (168: البقرة) على أنه ليس لهذا الناصح أن يمسك بأيدى الآكلين على هذا الطعام أو ذاك: «بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ» (14: القيامة) .. «قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها» (104: الأنعام) .. إن الإسلام ليحترم الإنسان، ويرفع قدره، ويعلى منزلته، ويخرج به عن دائرة الطفولة إلى مجال الرشد، وحمل المسئولية.. وقد أمدّه الإسلام بأمداد الرعاية والهداية، بما بعث من رسول كريم، يحمل بين يديه آيات الله وكلماته وضيئة مشرقة، تجلو غياهب الرّيب، وتكشف وجوه المنكر، فالحلال بيّن والحرام بيّن.. وما على الإنسان إلا أن يجمع رأيه، ويحزم أمره على اختيار الطريق السوىّ.. طريق الخير، والحق، والإحسان.. واجتناب الطرق المليئة بالمعاثر والمهالك.. طرق الشر، والبغي، والعدوان.. أما التحكك بالمماحكات والسفسطات، فجدل عقيم لا يلد إلّا البوار والهلاك.. والعاقل من دان نفسه قبل أن يدان، وتوقّى الشرّ قبل أن يقع فيه. الآيات: (36- 47) [سورة الأنبياء (21) : الآيات 36 الى 47] وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 896 التفسير: قوله تعالى: «وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً، أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ» .. مما كان يلقى به المشركون النبيّ- صلوات الله وسلامه عليه- الاستهزاء به، والسخرية منه، ورميه بقوارص الكلم، وفحش القول.. فذلك هو سلاح من أسلحة الجاهلين، الذين لا يحسنون غير السفاهة والفحش، حين تقهرهم الحجة، ويخرسهم البرهان.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 897 - وفى قوله تعالى: «وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً..» «إن» هنا بمعنى «ما» النافية، أي ما يتخذونك إلا هزوا.. وهذا تهديد لهؤلاء الكافرين، وفضح لما يدور فى رءوسهم، وتتلمظ به شفاههم، وتتغامز به عيونهم.. إنهم إذا رأوا النبىّ تحركت هذه الكلاب التي تنبح فى صدورهم، فأرسلوها نظرات حانقة، وأطلقوها كلمات محمومة مجنونة، ترمى النبىّ من بعيد ومن قريب.. فليست هناك كلمة طيبة تخرج من أفواههم، أو نظرة وادعة تطرف بها عيونهم.. - وقوله تعالى: «أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ» .. هو بعض ما يجرى على ألسنتهم من سفاهة.. والاستفهام هنا للاستهزاء والاستنكار، واستصغار قدر النبىّ الذي يتطاول إلى هذه الآلهة، فيذكرها بما يذكر من سوء عابديها! - وقوله تعالى: «وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ» جملة حالية.. أي أنهم يقولون هذا القول فى النبىّ وينكرون عليه أن يذكر آلهتهم وأن يجترىء على مقامهم، فى حال هم فيها قائمون على جرم غليظ، إذ كفروا بالرحمن، الذي وسعتهم رحمته، فلم يجعل لهم العذاب، وأفاض عليهم من فضله وإحسانه، فلم يقطع أمداده عنهم.. فما لهم يغارون على آلهتهم الصماء الخرساء، ولا يغارون على مقام الله «الرحمن» وقد أجلوه من قلوبهم، وأخلوا مشاعرهم من كل توقير له؟ قوله تعالى: «خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ» . الإنسان هنا، هو مطلق الإنسان.. فكل إنسان مفطور على حبّ العاجل يتعجّل كل شىء.. الخير والشرّ.. كما يقول الله تعالى: «وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا» (11: الإسراء) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 898 ولهذا كان مما دعت إليه الشرائع السماوية «الصبر» الذي هو الدواء الذي يخفّف من هذا الداء.. وفى هذا يقول سبحانه: «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ» (45: البقرة) ويقول: «وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» (سورة العصر) . فالصبر هو زاد المؤمنين، وهو عدّتهم فى مواجهة الحياة.. أما من تحففوا من هذا الزاد، فإنهم أبدا فى همّ وقلق، تمرّ الأيام بهم بطيئة ثقيلة.. يريدون أن يجتمع لهم فى يومهم كلّ ما يمكن أن تطوله أيديهم، وتمتد إليه آمالهم.. إنهم يريدون حياتهم يوما واحدا أو ليلة واحدة، كليلة جنود الحرب، يقضونها ليلة صاخبة لاهية، يفرغون فيها كلّ ما فى جيوبهم، ويلقون فى وقودها كل ما معهم من مال ومتاع.. أما الغد فلا نظر إليه، ولا حساب له.. والمشركون يستعجلون كل شىء.. حتى الهلاك، والبلاء الذي أنذروا به، ويقولون فى إلحاح ولجاج: متى هو؟ - وفى قوله تعالى: «سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ» هو الجواب على ما يستعجل به المشركون من عذاب الله، ومن الخزي الذي سيحل بهم يوم يجىء نصر الله والفتح.. وهو تهديد للمشركين، بما سيلقون على يد المؤمنين من هوان وذلة، يوم يرون آيات الله، ويوم تهزم الفئة القليلة الفئة الكثيرة! قوله تعالى: «لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ» .. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 899 جواب الشرط هنا محذوف، وتقديره: لو يعلم الذين كفروا ما ينتظرهم من بلاء وعذاب يوم يأتيهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم، لما استعجلوا ما أنذروا به من عذاب الله. - وفى قوله تعالى: «وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ» إشارة إلى أنهم لن ينصروا فى هذه الدنيا، بل ستحلّ الهزيمة بهم، وأنهم لن يجدوا فى الآخرة من ينصرهم من بأس الله إذا جاءهم. قوله تعالى: «بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ» . الضمير فى «تَأْتِيهِمْ» يراد به السّاعة التي يكذبون بها، ويستعجلونها.. فالساعة لا تأتيهم حسب تقديرهم، وحسب موعد معلوم لهم.. بل ستأتيهم بغتة، أي مباغتة، ومفاجأة «فَتَبْهَتُهُمْ» أي تخزيهم، وتفضح معتقدهم فيها.. «فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها» أي دفعها ومنعها.. إنها بلاء واقع بهم، ليس لها دافع.. «وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ» أي لا ينتظر بهم فى الدنيا، حتى يصححوا معتقدهم، ويهيئوا أنفسهم للقاء هذا اليوم.. قوله تعالى: «وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» .. هو عزاء للنبىّ، وتسرية لما يلقى من قومه من أذى، وما يواجه به من استهزاء وسخرية.. فهو ليس وحده من بين رسل الله، الذي وقف منه قومه هذا الموقف اللئيم، بل إن كثيرا من رسل الله قد أعنتهم أقوامهم، وأغروا بهم السفهاء منهم.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 900 - وقوله تعالى: «فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» هو تهديد لهؤلاء المشركين، وأنه سيحيق بهم ما حاق بالمستهزئين من قبلهم برسل الله، وسيلقون حساب هذه السخرية عذابا ونكالا.. قوله تعالى: «قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ» . الكلأ، والكلاءة: الحفظ والرعاية، والحراسة.. يقال: كلأه الله: أي حرسه وحفظه.. ومنه الكلأ، وهو العشب الذي ترعاه الماشية، والذي عليه قوام حياتها.. والمعنى: من يكلؤكم أيها المكذبون الضالون المشركون، ويحفظكم من الله إن أراد بكم سوءا، أو أخذكم بعذاب من عذابه بالليل أو بالنهار؟ أهناك من آلهتكم ومعبوداتكم من يدفع عنكم بأس الله إن جاءكم؟ انظروا إلى هذه الآلهة وماذا يمكن أن يكون لها من حول وطول أمام حول الله وطوله؟ إنه لا شىء إلا العجز والاستخزاء.. وفى الآية الكريمة إشارتان: الأولى فى قوله تعالى: «يَكْلَؤُكُمْ» وقد جاءت بمعنى يمنعكم، ويحرسكم.. وفى التعبير عن هذا بالكلاءة إشارة إلى أن الإنسان- مهما ملك من جاه وقوة وسلطان- هو كائن عاجز ضعيف، محتاج إلى قوة عليا، ترعاه، وتمدّه بأسباب الحياة والبقاء. والإشارة الثانية فى قوله تعالى: «مِنَ الرَّحْمنِ» وقد جاءت هذه الصفة الكريمة من صفات الله سبحانه وتعالى، لتشير إلى واسع رحمته، وعظيم فضله، وأنّ هؤلاء المشركين الضالين، قد بالغوا فى غيّهم، وضلالهم، ومحادّتهم لله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 901 ورسوله، حتى إن رحمة الله- مع سعتها- تكاد تطردهم من رحاب فضلها وجودها.. - وفى قوله تعالى: «بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ» - إشارة إلى أن هؤلاء المشركين، قد شغلوا بما هم فيه من لهو ومتاع، وأنهم لهذا لا يذكرون الله، وأنه إذا جاءهم من يذكّرهم بالله، ويعرض عليهم آياته وكلماته، أعرضوا، وسفهوا.. وذلك غاية فى الضلال والخسران.. إذ أنه قد يغفل الإنسان عن الخطر الذي يتهدده، وينسى أو يتناسى المكروه الذي يترصده، فإذا هلك فى هذا الوجه، كان له بعض العذر عند نفسه أو عند الناس، أما من ينبّه إلى الخطر فلا ينتبه، ويحذّر من البلاء فلا يرعوى، فإنه إذا لقى مصيره المشئوم، لم يجد من يعذره، أو يرثى له.. قوله تعالى: «أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا؟ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ» . هو مطالبة لهؤلاء المشركين الذين لجّوا فى ضلالهم وطغيانهم، أن يأتوا بمن يمنعهم من دون الله، ويدفع عنهم يأسه إن جاءهم.. فليسأل المشركون أنفسهم هذا السؤال: ألهم آلهة تمنعهم من دون الله؟ فإن هم عموا عن حقيقة آلهتهم، وقالو: نعم، إن لنا آلهة نعبدها، ونرجو نصرها وعونها- إن هم قالوا هذا الضلال، وجدوا فى قوله تعالى: «لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ» - ما يردّ عليهم هذا السّفه، ويبطل هذا الباطل.. فإن هذه الآلهة لا تستطيع الدفاع عن نفسها، ولا ردّ السوء إذا وقع بها، فكيف تنصر غيرها، وتدفع السوء عنه؟. - وفى قوله تعالى: «وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ» إشارة إلى أن هؤلاء المشركين، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 902 لا يجدون من آلهتهم نصرا، كما أنهم لا يجدون من الله عونا، ولا نصرا.. إذ لا عمل يشفع لهم عند الله، ويردّ عنهم بأسه، فلا يصحبون من الله بعون أو نصر.. قوله تعالى: «بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ» . أي أن هؤلاء المشركين قد مدّ الله لهم، فى ضلالهم، ولم يعجّل لهم العذاب بل متعهم، كما متّع آباءهم المشركين من قبلهم، حتى استوفوا آجالهم.. وقد حسبوا- لضلالهم- أن الله غافل عما يعمل الظالمون، وأنهم بمنجاة من بأس الله، لما فى أيديهم من مال ومتاع.. وذلك ظنهم بربّهم هو الذي أرداهم.. لقد جهلوا قدر الله، ولم يرجوا له وقارا، ولم يخشوا له بأسا.. ولو نظروا فيما بين أيديهم وما خلفهم لرأوا كيف تأتى غير الله، وكيف يقع بأسه بالظالمين فكم أهلك الله قبلهم من قرون؟ وكم أذلّ من جبابرة؟ وكم بدّل من أحوال وأوضاع؟ فهل بقي حال على حاله، أو ظل ذو سلطان فى سلطانه؟ أم أنهم هم القوة التي لا تغلب ولا تنزل بها الأحداث والغير؟ «أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها؟ أَفَهُمُ الْغالِبُونَ؟» والاستفهام الأول للأمر، والثاني للتهديد.. والمراد بالاستفهام الأمرى: إلفات المشركين إلى ما يقع من غير الله فى الناس، وأنه سبحانه القوى القهار، يذلّ الجبابرة، ويرغم أنوف المتكبرين، فإذا هم فى لباس الذلة بعد العزة، وفى دار الهوان بعد الكرامة، وفى ضنك العيش بعد النعمة والرفاهية. هذه سنة الله فى هذه الدنيا، فلا شىء فيها يبقى على حال، بل كل شىء إلى زوال: «أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 903 أَطْرافِها» ؟ فالنقص لأطراف الأرض هو النقص فى النعم، من مال، ومتاع، وبنين، ومن قوة وصحة، ومن جاه وسلطان، يقابل ذلك زيادة فى هذه النعم، وذلك بما يقع من تبدل فى أحوال الناس.. حيث تنتقل هذه النعم من يد إلى يد، ومن جماعة إلى جماعة، ومن أمة إلى أمة، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ» .. فيلبس الفقير ثوب الغنى، كما يلبس الغنىّ ثوب الفقر، وهكذا الحال فى كل نعمة.. فالدنيا: حياة وموت، وغنى وفقر، وصحة ومرض.. إلى غير ذلك مما يتقلب فيه الناس من شئون.. وهذا هو السرّ فى التعبير القرآنى: «مِنْ أَطْرافِها» حيث أشار ذلك إلى أطراف من الأرض، أي جوانب منها. وهى الجوانب التي تمثل سلب النّعم، أما الجوانب الأخرى التي تساق إليها النعم، فهى مسكوت عنها فى هذا المقام، الذي هو مقام تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين، الذين طال عليهم العهد وهم فى تلك النّعم التي أنستهم ذكر الله، والتي هى على وشك أن ترحل عنهم، وتفلت من أيديهم.. فإنهم لا يستطيعون دفع بلاء الله إذا نزل بهم: «أَفَهُمُ الْغالِبُونَ؟» . وقد ذهب أكثر المفسّرين إلى أن هذه الآية مدنية فى السورة المكية، وأقاموا معناها على أن نقصان الأرض من أطرافها، هو إشارة إلى ما يغلب عليه المسلمون من أرض المشركين والكافرين.. وأن المسلمين ينقصون الأرض التي فى أيدى الكافرين بالفتوحات الإسلامية، وبضمها إلى أيديهم.. وهذا المعنى بعيد فى نظرنا.. وذلك من وجوه: أولا: أن فتح المسلمين للأرض، وضمها إلى حوزة الإسلام ليس نقصا للأرض، بل هو زيادة فيها، ونماء لها.. إذ كان ذلك الفتح مما يبارك على الأرض خيرها، وبضاعف ثمرها، بما ينشر فيها من عدل، وأمن، وسلام.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 904 وثانيا: أن الله سبحانه وتعالى أضاف هذا النقص للأرض من أطرافها- أضافه إليه، سبحانه.. وثالثا: أن المقام مقام تهديد للمشركين، بهلاكهم، وتبديل أحوالهم.. إن لم يكن ذلك ببلاء عاجل يأخذهم الله به، كان ذلك بحكم الزّمن وبسنن الله الكونية التي أجراها على الناس.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ» (4: ق) . ورابعا: السورة كلها مكية، ولا معنى لأن يقال إن هذه الآية وحدها هى الآية المدنية فيها، حيث أن سياق النظم يجعلها قطعة من هذه السورة، مرتبطة ارتباطا وثيقا بما بعدها وما قبلها. قوله تعالى: «قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ» . هو تنبيه لهؤلاء المشركين الغافلين، الذين إذا ذكروا بآيات ربّهم أعرضوا عنها، ولم يلتفتوا إلى ما يدعون إليه من هدى وخير.. وقد أمر الله سبحانه وتعالى النبىّ الكريم أن ينخسهم بهذا الأسلوب الزاجر، وأن يقرعهم بتلك المقرعة الموجعة، حتى تتأثر لذلك قلوبهم القاسية، وتستشعر به مشاعرهم المتبلّده، وطباعهم الجافية الغليظة.. فهم يعرفون أن ما ينذرهم به النبىّ، هو وحي يوحى إليه من ربّه.. إذ هكذا يقول لهم، وهم لهذا يكذبونه، ويستكثرون عليه أن يكون على صلة بالسماء.. - وفى قوله تعالى: «أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ» - مع أن الأمر قائم بينهم وبين النبىّ على أن ما ينذرهم به هو الوحى- فى هذا التصريح بأن ما ينذرهم به هو الوحى تشنيع عليهم، وعلى الغفلة المطبقة عليهم، وعلى الظلام الكثيف المخيم على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 905 عقولهم وقلوبهم. فهذا الذي ينذرهم به النبىّ، هو من الإشراق والوضوح بحيث لا يخفى على ذى عقل ونظر أنه وحي من عند الله، ولكن أنّى للعمي أن يبصروا، وللصمّ أن يسمعوا، وللحمقى أن يعقلوا ويعوا؟ فكان لا بد أن ينخسوا هذه النخسة، وأن يقرعوا بتلك المقرعة، وأن يقال لهم عن هذا النور، إنه نور، وعن هذه الشمس، إنها الشمس!! قوله تعالى: «وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ» . فهؤلاء المشركون، الذين غرّهم بالله الغرور، فأمنوا مكره، واستخفوا ببأسه- هم على حال من الضعف والاستخزاء يكادون يكحونون بها مثلا فريدا فى الناس.. فهم إذا مسّتهم نفحة من عذاب الله جزعوا، وانحلّت قواهم، وأكثروا من الصياح والعويل، ونسوا ما كانوا عليه من تشامخ وتعال.. ولم يجدوا شيئا من العزاء والصبر، على نحو ما يجد المؤمنون حين يبتلون من الله بشىء من الضر. والمسّ: دون اللّمس.. والنفحة من العذاب: أهون شىء فيه وأقله، وهو بالنسبة للعذاب أشبه بالرحمة، ولهذا عبّر عنه بالنفحة، التي يغلب استعمالها فى الخير.. فهذا العذاب الذي يمسهم الله به، هو أقل العذاب، وهو يعتبر نعمة ورحمة بالنسبة إلى العذاب! فكيف إذا وقع بهم العذاب نفسه، لا نفحة منه؟ قوله تعالى: «وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 906 القسط، والقسطاس: العدل. ووضع الموازين: إقامتها، ونصبها لتوزن أعمال الناس فيها.. وحبة الخردل: حبة ضئيلة لا تكاد تمسك بها الأصابع.. والآية الكريمة. نذير لأولئك المشركين، الذين أشركوا بالله، وأعرضوا عن ذكر الرحمن، وظنوا أنهم فى حمى من بأس الله، بجاههم ومتاعهم.. وهب أنهم قطعوا العمر فى لهو ولعب، ونعموا بما فى أيديهم من مال وبنين، فإنهم لا بدّ ميتون، ثم إنهم لمبعوثون، ومحاسبون على ما عملوا من سوء.. فهناك حساب وجزاء، حيث تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا، وما عملت من سوء تودّ لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا.. وفى جمع الموازين، إشارة إلى أن لكل إنسان ميزانا توزن به أعماله، فلا ينتظر غيره حتى يفرغ من حسابه ووزن أعماله.. بل إن الإنسان الواحد، له موازين كثيرة، بعضها لسيئاته، وبعضها لحسناته.. ولكل عمل من أعماله السيئة أو الحسنة ميزان، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ» (6- 9 القارعة) .. - وفى قوله تعالى: «وَكَفى بِنا حاسِبِينَ» إشارة إلى عدل الله سبحانه وتعالى وإلى ضبطه لأعمال الناس، ومحاسبتهم عليها، دون أن يفلت أحد من هذا الحساب، أو يقع فى حسابه خطأ، ولو كان مثقال حبة من خردل.. فسبحان من وسع كل شىء علما. الآيات: (48- 73) [سورة الأنبياء (21) : الآيات 48 الى 73] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 907 التفسير: قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ» .. مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أن الآيات السابقة قد ذكّررت المشركين وما جاءهم به النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- من هدى ورحمة، فعموا وصموا، وأعرضوا.. وفى ذكر موسى وهرون، وما آتاهما الله من كتاب، يكشف عن أمرين: أولهما: أن النبىّ ليس بدعا فيما جاء به قومه من هدى السماء، بل إن أنبياء كثيرين، ومنهم موسى وهرون، قد جاءوا إلى أقوامهم بآيات الله وكلماته.. وثانيهما: أن اليهود، على رغم ما جاءهم من آيات الله الحسية إلى جانب آيات الكتاب، لم يستقيموا على دعوة الحق، بل كان لهم مكر بآيات الله، وكفر بها.. وفى هذا تعريض باليهود، وبأنهم على ضلال، وأنهم مدعوون إلى أن يصححوا عقيدتهم على ضوء هذا الكتاب الذي بين يدى الناس، والذي سيلقاهم به النبىّ بعد قليل.. - وفى قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ» ما يحتاج إلى بيان: فما الفرقان؟ وما الضياء؟ وما الذكر؟ أهى شيء واحد؟ وأن الفرقان هو الضياء، وهو الهدى، وهو الذكر؟ أم هى الفرقان، والضياء، والذكر؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 909 اختلف المفسرون فى هذا: وذهب أكثرهم إلى أن «الْفُرْقانَ» هو الآيات الحسّية كالعصا واليد.. اللتين كانتا من آيات موسى.. وأن «الضياء» هو «التوراة» وكذلك «الذكر» .. وذهب بعضهم إلى أن ثلاثتها شىء واحد، هى «التوراة» . فهى فرقان يفرق بين الحق والباطل، وهى ضياء يكشف معالم الطريق إلى الحق، والخير، والإحسان، وهى ذكر وموعظة، لمن يطلب الذكر والموعظة، ولمن كان فى قلبه إيمان وتقوى.. حيث يذكر فتنفعه الذكرى.. ونحن نميل إلى هذا الرأى، حيث أن الآيات المادية قد ذهبت آثارها، ولم يكن لها أثر إلا فيمن شهدوها، ورأوا آثارها بأعينهم.. ونسبة إتيان الفرقان لموسى وهرون، مع أن موسى هو الذي أوتى هذا الكتاب، لأن هرون كان مشاركا لموسى فى الدعوة إلى الله بهذا الكتاب كما قال الله تعالى: «قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى» . وفى قوله تعالى: «لِلْمُتَّقِينَ» تعريض باليهود، وبأنهم لا يتقون الله، ولهذا فهم لا ينتفعون بهذا الفرقان، والضياء والذكر، الذي فى أيديهم، ولا يوقرونه، بل لقد عبثوا به، وغيروا به وبدّلوا فيه.. - وفى قوله تعالى: «الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ» صفة للمتقين.. وفى هذا الوصف تعريض باليهود، وبأنهم ليسوا على هذه الصفة، وأنهم ماديّون، لا يتعاملون إلا بالحسيات، ولهذا فهم لا يؤمنون بالله إلا إيمانا طفيفا، قلقا، ولهذا أيضا فهم لا يعملون للآخرة، ولا يشفقون مما يلقاهم فيها من عذاب الله.. إذ كان عذابها غير حاضر بين أيديهم.. إنهم لا يؤمنون بالغيب، ولا يقيمون حياتهم على التعامل به.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 910 قوله تعالى: «وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ» . الإشارة هنا إلى القرآن الكريم.. والإشارة إليه بهذا، الذي يدل على قرب المشار إليه، إشارة إلى قربه من الأفهام، ويسر تناوله، ولانتفاع به، والاهتداء بهديه.. والضمير فى قوله تعالى: «أَفَأَنْتُمْ» قد يكون خطابا للمشركين، وفيه تهديد لهم، وتعريض باليهود.. أي أفأنتم منكرون لهذا الذكر، غير آخذين بهديه، كما هو الشأن عند اليهود مع كتابهم؟ وقد يكون الخطاب لليهود، والمعنى أفأنتم منكرون لهذا الكتاب، كما ينكره هؤلاء المشركون، وقد عرفتم وجهه بما عندكم من كتاب الله الذي فى أيديكم؟ .. قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ» .. ومناسبة ذكر إبراهيم هنا، لأنه صاحب دعوة ورسالة كموسى، وهرون، ومحمد، ولأنه أبو هؤلاء الأنبياء.. ومن جهة أخرى، فإن موقف إبراهيم من قومه، هو نفس الموقف الذي يقفه محمد من قومه، وما يعبدون من أصنام. وإتيان الله سبحانه وتعالى إبراهيم رشده، أي منحه الإدراك السليم، والقلب النقىّ، الذي يأبى بطبيعته قبول الرجس والخبث. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 911 - وقوله تعالى: «إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ» .. متعلق بقوله تعالى: «عالِمِينَ» أي وكنا به عالمين، حين قال لأبيه وقومه هذا القول: «ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ» ؟ فلقد أنكر عليهم ما هم فيه من عمى وضلال، إذ عكفوا على عبادة هذه التماثيل التي صوروها بأيديهم من خشب وأحجار. والعكوف على الشيء: مداومة الاتصال به حالا بعد حال. ويمضى الحوار بين إبراهيم وقومه ... وكلما جاءهم بحجة دامغة، التووا عليه، وردوا المنطق بالسفاهة.. يقول لهم: «ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ» ؟. وكان جديرا بهم- لو عقلوا- أن ينظروا إلى هذه التماثيل، وأن يتعرفوا على حقيقتها، وعن الآثار التي تجنى منها لمن يعبدها.. إنها لا تسمع، ولا تعقل، ولا تملك ضرا ولا نفعا،. فكيف يعطيها إنسان ولاءه، وينفق عمره فى سبيلها؟ ولكنهم لا ينظرون فى شىء من هذا، بل يريدون عليه، بداهة: - «قالُوا: وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ» !. هذا هو كل ما عندهم.. إنهم أطفال صغار، لا حلوم لهم.. أو قرود تقلد ما ترى، فى غير إدراك. أو وعى لما تقلده!. «قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .. إنه ليس حجة أن يضل إنسان لأن من قبله كان على ضلال.. وما جدوى أن يكون للإنسان عقل ينظر به فى الأمور، ويتعرف إلى ما هو حق أو باطل، وخير أو شر!؟ ولم إذن يستعمل الإنسان عينيه، ولا يستغنى عنهما فى التعرف الجزء: 9 ¦ الصفحة: 912 على الأشياء حوله؟ إن هذا المنطق يقضى بأن يغمض الإنسان عينيه، ثم يضع يده على كتف أي ذى عينين، ليقوده ويتبع خطاه! هكذا فى تهكم وسخرية، يلقون هذا المنطق المشرق.. وهكذا يستقبلون الجدّ بهذا الهزل الأحمق. «قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» . لقد أضرب إبراهيم عن سخفهم هذا، وقطع عليهم الطريق إلى هذا الهزل الذي أرادوا أن يسوقوه إليه، ومضى يقرر الحق الذي يدعوهم إليه: «رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ» هذا هو الربّ الذي يجب أن يعبد، وإن كان لا يرى، فإن آثاره تدل عليه، وتشهد على عظمته، وجلاله، وقدرته وعلمه، وقد آمن إبراهيم بهذا الإله، وشهد شهادة الحق له.. «وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ» .. لقد أسرّ إبراهيم ذلك فى نفسه، وأراد أن يريهم هذا القول فى صورة عملية، بعد أن لم يجد القول آذانا تسمع، أو قلوبا تعى.. فهذا هو الأسلوب الذي يمكن أن يعامل به الأطفال، وصغار العقول من الرجال.. وقد صدّر إبراهيم النية التي انتواها فى شأن الأصنام، بالقسم، حتى يؤكد هذه النية التي صح عليها رأيه فى هذا الموقف، وحتى لا يرجع عنها إذا هو زايل موقفه هذا، وبردت حرارة الموقف!. والكيد للأصنام، هو إعمال الحيلة، وإحكام التدبير فيما يريده بها. «فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ» . وهكذا كان إبراهيم وتدبيره.. لقد دخل على مرابض الأصنام فى غفلة من عابديها، ثم أعمل فيها يده تحطيما، وتكسيرا، حتى جعلها «جُذاذاً» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 913 أي قطعا صغيرة متناثرة.. إلا كبير هذه الأصنام، فإنه أبقى عليه. لأمر أراده، سيكشف عنه فيما بعد.. وفى هذا يقول الله تعالى فى سورة الصافات: «فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ؟. ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ؟. فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ.» (الآيات: 91- 93) «قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا.. إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ» .. وحين رأى القوم آلهتهم حطاما، وقد جاءوا إليها عابدين، أخذتهم الحيرة والدهشة، واستولت عليهم حال من الذهول والوجوم.. فلما زايلتهم تلك الحال، جعلوا يتساءلون: «مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا؟» يقولونها ولا يسألون أنفسهم: كيف يفعل بآلهتهم هذا، ولا تستطيع أن تدفع عن نفسها ما يكاد لها به؟ أآلهة تحتاج إلى من يحرسها ويحميها؟ لم يلتفتوا إلى شىء من هذا، بل مضوا يبحثون عن الجاني الذي فعل تلك الفعلة.. «إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ» ! «قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ» .. والتفت القوم إلى من يحقر هذه الآلهة، ويبغض مقامها فيهم، فلم يجدوا غير إبراهيم، الذي أنكر عليهم عبادتها، وسخر من قبل بهم وبها! «قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ» .. وجاءوا بإبراهيم، ووضعوه موضع المساءلة والاتهام، على أعين الناس، وبمشهد من الجموع الحاشدة، التي هزّها هذا الحدث العظيم! «قالُوا: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ» ؟. «قالَ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا.. فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ؟» . بهذا الأسلوب الساخر القاتل، يجيب إبراهيم على اتهام القوم له. أنا لم أفعل هذا بتلك الأصنام، بل الذي فعله، هو كبيرهم هذا، الذي ترونه قائما على هذه الأشلاء! لقد قامت بينه وبين أتباعه معركة، وليس هذا ببعيد، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 914 فما أكثر ما يقع الخلاف بين المتبوع والتابعين، وما أكثر ما يملك المتبوع من القوة والسلطان ما يضرب به أتباعه الضربة القاضية.. وليس من المستبعد إذن أن يكون قد وقع خلاف بين هذا الصنم الكبير، وبين أتباعه، فأخذهم ببأسه، ونكّل بهم هذا التنكيل الذي ترون! فإن كنتم لا تصدقون.. «فَسْئَلُوهُمْ.. إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ» أي إن كان فى قدرتهم أن ينطقوا، وأن يكشفوا عن الجاني الذي جنى عليهم، وحطم رءوسهم، ومزق أشلاءهم! ولم ير إبراهيم أن يسألوا هذا الصنم الكبير.. بل دعاهم إلى أن يسألوا المجنى عليهم، فهم أعرف بمن جنى عليهم، إن كان بهم قدرة على الكلام.. أما الجاني فقد ينكر جنايته، ولا يكشف عن فعلته.. وهذا هو السرّ فى أن طلب إبراهيم إليهم أن يسألوا المجنى عليهم لا الجاني.. هذا، وقد أكثر المفسرون فى الحديث عن اتهام إبراهيم للأصنام، ودفع التهمة عنه.. ودخلوا فى جدل طويل حول هذا الكذب، والمواطن التي يباح فيها للمرء أن يكذب، وعدّوا هذا الذي كان من إبراهيم من الكذب المباح المتجاوز عنه.. لأنه من قبيل التقيّة، التي يجوز المؤمن فيها أن ينطق بكلمة الكفر إذا تعرض للبلوى، ما دام قلبه مطمئنا بالإيمان.. والأمر لا يحتاج إلى شىء من هذا، فما قال إبراهيم هذا القول، وهو يقدّر أن القوم يصدقونه، أو يأخذون به.. وعندئذ يمكن أن يقال إن هذا كذب مباح ومعفوّ عنه.. وإنما قال إبراهيم ما قال، استهزاء بالقوم، وسخرية منهم، وكشفا لهم عن حقيقة هذه الأحجار.. ولهذا ردّوا عليه قوله: «لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ» ! أي إنك تقول هذا القول ساخرا مستهزئا، لأنك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 915 تعلم أنهم لا ينطقون.. وإذن فلا كذب من إبراهيم، وإنما هو الحق الصراح، فى أسلوب مجازى!! «فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ» . أي إنه حين جابههم إبراهيم بهذا الجواب بهتوا، ووقع فى أنفسهم هذا القول الذي قاله، أنه حق، وأنهم على ضلال، وما كان لهم أن يعبدوا هذه الدّمى، وتلك الخشب المسندة.. إنها لحظة خاطفة أشرقت فيها أنفسهم بنور الحق، واستبان لهم على ضوء هذه اللمعة أنهم على ضلال، وأنهم قد ظلموا أنفسهم بهذا الضلال الذي هم فيه، ولو وجدت هذه الشرارة المنطلقة من أعماق فطرتهم، شيئا من العقل المستبصر، والبصيرة النافذة- لاشتعلت هذه الشرارة فى كيانهم، ولأضاءت عقولهم وقلوبهم، ولطردت هذا الظلام الكثيف المخيم عليهم.. ولكن ما أن كادت هذه الشرارة المضيئة تنطلق، حتى نفخ فيها الهوى، والضلال، فماتت فى مهدها، وخبت فى مكانها! «ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ.. لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ» .. لقد صحّ وضع القوم فى الحياة، حين أوقفهم إبراهيم على أقدامهم، وأراهم من آلهتهم ما هى عليه من ذلّة وضعف واستسلام، فرأوا وجه الحق مشرقا مضيئا.. ولكن سرعان ما غلب عليهم ضلالهم، فعادوا إلى وضعهم الأول المنكوس، ونكسوا على رءوسهم، فرأوا الأشياء فى وضعها المقلوب، كما كانوا يرونها من قبل.. رأوا الحق باطلا، والباطل حقا.. وعادوا إلى إبراهيم يحاجّونه بهذا الضلال: «لَقَدْ عَلِمْتَ.. ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ؟» «قالَ: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. أَفَلا تَعْقِلُونَ» ؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 916 هكذا كان ردّ إبراهيم على القوم، إنه ينكر عليهم هذا الضلال الذي هم فيه، حتى إنهم ليعترفون بألسنتهم على هؤلاء الآلهة بأنهم فى عجز ظاهر، وأنهم لا ينطقون.. «لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ» .. هكذا يقولونها فى بلاهة وغباء.. فيجبههم إبراهيم بهذا الردّ المفحم: «أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ؟» .. أفيصحّ بعاقل لعلم هذا العلم من أمر تلك الأصنام، ويعرّيها من كل قوة، ثم يعود إليها خاضعا ذليلا، يتخاضع بين يديها، ويعفّر وجهه بالسجود تحت أقدامها؟ إن ذلك لا يكون من إنسان فيه مشكة من عقل.. ولهذا أتبع إبراهيم هذا القول بقوله: «أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.. أَفَلا تَعْقِلُونَ» ؟ وربما قال إبراهيم هذا فيما بينه وبين نفسه، فبعد أن واجههم بهذا الإنكار: «أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ؟» رجع إلى نفسه، فأدار فيها هذا الحديث بينه وبينها..! وكلمة «أُفٍّ» هنا، معناها: بعدا لكم ولما تعبدون من دون الله. فالتأفف من الشيء، يشير إلى التأذى منه، والضيق به.. وهو حكاية للصوت التي يحدثه الإنسان بأنفه وفمه، حين يشمّ ريحا خبيثة.. ثم أتبع ذلك بهذا الاستفهام الإنكارى: «أَفَلا تَعْقِلُونَ» ؟ أي أمالكم عقول كسائر الناس، حتى تستسيغوا هذا المنكر، وتسكنوا إليه؟. «قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ» . هذا هو موقف العاجز، أمام حجة العقل والمنطق.. إنه لا يملك إلا أن يتحول إلى حيوان، ينطح بقرونه، وينهش بمخالبه وأنيابه! لقد اتهموا إبراهيم، وأدانوه، وأصدروا حكمهم عليه: «حَرِّقُوهُ» ! هكذا بكلمة واحدة يقضون قضاءهم فيه.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 917 اهجموا عليه.. حرقوه.. وفى قولهم: «وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ» تحريض على إمضاء هذا الحكم وإنفاذه، فهو انتصار لا لأشخاصهم، وإنما هو انتصار لآلهتهم.. فمن لم يقف معهم فى هذه الجبهة المدافعة عن الآلهة، ومن لم يضرب بيده فى وجه هذا المعتدى عليها، فلينتظر غضب الآلهة، وما يحلّ به من بلاء!! وفى قولهم: «إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ» تحريض بعد تحريض، على إنفاذ الحكم الذي حكموا به على إبراهيم.. أي إن كنتم منتصرين لآلهتكم، غير خاذلين لها، فحرقوا إبراهيم، وانصروا آلهتكم. أما إذا خذلتموها.. فهذا أمر آخر!! «قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ» . وهكذا أمضى القوم حكمهم فى إبراهيم، فأوقدوا نارا عظيمة، وألقوه فيها.. ولكنّ رحمة الله تداركته، وعنايته أحاطت به، فلم يخلص إليه من النار أذى، بل كانت بردا وسلاما عليه.. وفى قوله تعالى: «عَلى إِبْراهِيمَ» .. بذكر إبراهيم، بدلا من الضمير- فى هذا تكريم لإبراهيم، ورفع لقدره، وتمجيد لاسمه! وانظر إلى قدرة الله.. النّار المتأججة الجاحمة، يلقى بإبراهيم فى لهيبها المتضرّم دون أن يجد لهذه النار أثرا من الحرارة.. بل لقد تحولت إلى برد يحتاج المرء معه إلى نار تدفئه! فكان قوله تعالى: «وَسَلاماً» هو الأمر الذي صدعت له النار فأعطت بردا لطيفا لا تقشعر منه الأبدان.. بل هو أشبه بنسائم العشىّ بعد نهار قائظ.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 918 «وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ» . أي إنهم أرادوا أن يكيدوا لإبراهيم، وأن يقضوا عليه بهذه الميتة الشنعاء.. فنجاه الله منهم، وألبسهم ثوب الخسران فى الدنيا، إذ لم ينالوا من إبراهيم منالا، وأعدّ الله لهم فى الآخرة عذابا عظيما.. «وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ» . أي أن الله سبحانه وتعالى بعد أن خلص إبراهيم من النار، خلّصه كذلك من يد هؤلاء الضالين، فاعتزلهم، «وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ» . وقد نجّى الله معه لوطا، لأن لوطا عليه السلام، هو وحده الذي استجاب له، وآمن به، كما يقول سبحانه: «فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (26: العنكبوت) . «وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ» . أي أن الله سبحانه وتعالى بعد أن نجّى إبراهيم من قومه، أكرمه الله تعالى، وأقام له من نسله قوما، فوهب له إسحق، ثم وهب له لإسحق يعقوب، وبارك نسله وكثّره، فكان أمة.. وفى قوله تعالى: «نافِلَةً» - إشارة إلى أن يعقوب لم يولد لإبراهيم، وإنما ولد لابنه إسحق.. فهو ابن ابن له وليس ابنا.. فهو بهذا نافلة، أي زيادة على الولد الموهوب. وفى قوله تعالى: «وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ» إشارة إلى أن إسحق ويعقوب لم يكونا مجرد ولدين، بل كانا ولدين صالحين، من عباد الله الصالحين، كما كان أبوهما إبراهيم، صالحا من الصالحين.. «وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 919 أي ولم يكونوا صالحين فى أنفسهم وحسب، بل كانوا دعاة صلاح، وأئمة هدى، يدعون الناس إلى الخير، ويهدونهم إلى طريق الفلاح. وفى قوله تعالى: «يَهْدُونَ بِأَمْرِنا» إشارة إلى أنهم كانوا رسلا، يوحى إليهم من عند الله. وبهذا الوحى يبشرون الناس وينذرونهم، ويدعونهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وعمل الصالحات. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ» أي أن ما أوحاه الله إليهم هو فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.. وفى قوله تعالى: «وَكانُوا لَنا عابِدِينَ» إشارة إلى أن هؤلاء الرسل لم تلههم دعوة الناس إلى الهدى، عن ذكر، الله ولم يصرفهم ذلك عن أن يأخذوا حظهم كاملا من عبادة الله، وذكره فى كل لمحة وخاطرة. الآيات: (74- 82) [سورة الأنبياء (21) : الآيات 74 الى 82] وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 920 التفسير: قوله تعالى: «وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» .. لما كان لوط- عليه السلام- هو الذي استجاب لإبراهيم من قومه، واتّبعه وآمن به، فقد كان من فضل الله سبحانه وتعالى عليه، أن اصطفاه للنبوة، وآتاه حكما وعلما، إذ كان هو النبتة الصالحة من بين هذا النبت الخبيث كله.. ثم نجاه الله سبحانه وتعالى من العذاب الذي أخذ به قومه وأهلك به قريته، التي كانت تعمل الخبائث، وتأتى المنكر جهارا.. وهكذا ينصر الله المتقين من عباده، ويفيض عليهم من كرمه وإحسانه، ويأخذ الظالمين المفسدين بالعذاب البئيس، جزاء بما كانوا يعملون.. قوله تعالى: «وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ» .. «وَنُوحاً» معطوف على «لُوطاً» وهو عطف حدث على حدث، وقصة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 921 على قصة.. والتقدير ونذكر نوحا إذ نادى ربه من قبل هذا الزمن الذي كان فيه هؤلاء الأنبياء.. إبراهيم، ولوط، وموسى، وهرون.. «فَاسْتَجَبْنا لَهُ» أي أننا استجبنا دعاءه الذي دعانا به، على قومه.. ودعاء نوح على قومه، هو ما ذكره الله سبحانه وتعالى فى قوله: «فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ» (10: القمر) وفى قوله سبحانه: «وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» (26: نوح) . وقد استجاب الله سبحانه وتعالى لنوح، فأهلك قومه جميعا بالغرق، ونجاه هو ومن آمن معه، وما آمن معه إلا قليل.. و «الْكَرْبِ الْعَظِيمِ» : هو الطوفان.. وفى قوله تعالى: «وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» - جاء حرف الجرّ «من» بدلا من «على» الذي يقتضيه الفعل، فإن «نصر» يتعدّى بعلى لا بمن تقول نصرت فلانا على فلان.. وذلك لأن الفعل هنا تضمّن، معنى الانتقام والانتصاف لنوح من قومه، إذ كانوا هم الذين اعتدوا عليه، وبادءوه بالسفاهة، وتوعدوه بالسوء، وتهددوه بالرجم- فكان نصر الله له انتصافا لنوح منهم، وانتقاما له من عدوانهم عليه.. وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: «وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» أي أخذنا له بحقه من القوم الذين كذبوا بآياتنا، واعتدوا على رسولنا، وانتصفنا له منهم. ولو جاء النظم القرآنى على ما يقضى به مطلوب الفعل «نصر» فكان النظم هكذا «نَصَرْناهُ» على القوم الذين كذبوا بآياتنا، لما أعطى الفعل هذا المعنى الذي أفاد النصر، والانتقام معا، والذي دلّ على أن القوم كانوا معتدين، ظالمين.. ولوقف بمعنى النصر عند حدود هذا المعنى المجرد، الأمر الذي يمكن أن يفهم منه النصر على أنه نصر بين متخاصمين، لا يعرف منهما المحقّ من المبطل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 922 منهما.. وكثيرا ما ينتصر المبطل، ويهزم المحق، فى مرحلة من مراحل الصراع الدائر بين الحقّ والباطل! فسبحان من هذا كلامه، الذي لو اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.. قوله تعالى: «وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً» . نفشت فيه غنم القوم: أي عاثت فيه فسادا، وانطلقت ترعى بغير ممسك يمسك بها على مكان معين من الحرث.. وأصل النفش: الانتشار، ومنه قوله تعالى: «كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ» .. والحرث: هو الزرع، الذي هيئت له الأرض وحرثت، وبذر فيها الحب.. وليس هو الزرع الذي ينبت من غير جهد إنسانى. وداود وسليمان، هما النبيان الكريمان، من ذرية إبراهيم، ومن أبناء يعقوب.. وداود هو الأب، وسليمان هو الابن. وهذه الآية الكريمة تمسك بحدث من الأحداث التي وقعت لداود وسليمان.. وكان داود فى مجلس الحكم والفصل بين الناس، فيما يقع بينهم من خصومات. وقد ذكر القرآن الكريم لداود قصة أخرى من قصص الفصل فى الخصومات وهى قصة الأخوين اللذين كان لأحدهما نعجة وللآخر تسع وتسعون نعجة.. وقد جاء فى أعقاب هذه القصة قوله تعالى: «يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» (26: ص) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 923 وفى هذه القصة، يشير القرآن إشارة لامحة إلى أن داود لم يعرف كيف يفصل فى هذه القضية، أو أنه فصل فيها فصلا لم يصب مقطع الحق منها.. وهذا لا يعيب داود عليه السلام، ولا ينقص من قدره، لأنه فصل بما أدى إليه اجتهاده.. فإذا أخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران.. هذا هو حكم المجتهد، الذي تجرد من هواه.. ولا شك أن داود كان أبعد ما يكون عن الهوى. ففى قوله تعالى: «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ» إشارة إلى أن سليمان هو الذي عرف وجه الحق فى هذه القضية، ووقع على الرأى الصحيح فيها.. وذلك بفهم آتاه الله سبحانه وتعالى إياه.. كما يقول سبحانه: «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ» وقوله تعالى: «وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً» هو تعقيب على قوله تعالى «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ» الذي قد يفهم منه أن سليمان قد أوتى فهما من الله وأن داود قد حرم هذا الفهم، فكان ذلك دافعا لهذا الوهم.. إذ أن كلّا من داود وسليمان، قد لبس من فضل الله ومن إحسانه حللا، وأن كلّا منهما قد أوتى من الله حكما وعلما.. ولكن هذا لا يمنع من أن يكون أحدهما أكثر علما من الآخر، فالعلم درجات لا حدود لها والله سبحانه وتعالى يقول: «نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ» (76: يوسف) . والقرآن الكريم لم يكشف عن تفاصيل هذه القضية. ولم يتحدث عن الحكم الذي حكم به داود فيها، ولا عن وجهة نظر سليمان فيما حكم به أبوه.. ذلك أن كل هذا لا يقدّم شيئا فى تحقيق الغاية التي جاءت لها القصة، وهو أن الفصل فى الخصومات بين الناس أمر خطير، يحتاج إلى علم واسع، وبصيرة نافذة، ونفس تجردت من كل هوى، وإلا كان الخطأ والزلل، الذي من شأنه إن شاع أفسد حياة الناس، وأغرى بعضهم ببعض.. ومن جهة أخرى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 924 فإنه مهما بلغ الإنسان من علم، ومهما أوتى من نفاذ بصيرة، ومن قدرة على التجرد من الهوى، ومهما تحرّى العدل واجتهد فى تحقيقه، فإنه قد يقع له أحيانا من المشكلات ما يغيم عليه فيه وجه الحق، ويغيب عنه وجه الصواب.. ومن هنا كان على من يقوم للفصل فى الخصومات، أن يكون على حذر دائما، وألّا يعجل بالرأى الذي يظهر له لأول نظرة، بل يقلب وجوه النظر كلها، ويعرض بعضها على بعض.. فما كان منها أقرب إلى الحق والعدل أخذ به.. وفى هذا يقول النبي الكريم: «إنما أنا بشر وإنكم لتختصمون إلىّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه، فإنما، هى قطعة من النار، فليأخذها أو يدعها..» . هذا- والله أعلم- هو المقصد الذي جاءت له هذه القصة.. وهى فى هذا النظم الذي جاءت عليه، مؤدية- فى أكمل أداء وأتم صورة، وأعجز إعجاز وإيجاز- المقصد الذي قصدت إليه. أما القصة، فهى- كما جاءت فى روايات المفسرين وأصحاب السير- تتلخص فيما يلى، وهو مما يروى عن ابن عباس: كان لجماعة زرع، وقيل كرم تدلّت عنا قيده، وكان لآخرين غنم ترعى قريبا من هذا الزرع أو الكرم، فغفل عنها رعاتها، فانطلقت إلى الزرع، فانتشرت فيه، وعاثت فى أرجائه. وجاء أصحاب الزرع يشكون أصحاب الغنم إلى داود، فقضى داود بالغنم لأصحاب الحرث! .. فلما لقى سليمان أصحاب الغنم قال لهم: كيف قضى بينكم؟ فأخبروه، فقال: لو وليت أمركم لقضيت بغير هذا، فلما علم داود بذلك دعاه، فقال: كيف تقضى بينهم؟ قال: أدفع الغنم إلى أصحاب الحرث فيكون لهم أولادها وألبانها وصوفها ومنافعها، ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم، فإذا بلغ الحرث الحدّ الذي كان عليه، أخذه أصحاب الحرث، وردوا الغنم إلى أصحابها. فقصى داود بهذا!! الجزء: 9 ¦ الصفحة: 925 وهكذا رأى داود وجه الحقّ، فأخذ به، ولم يمسك حكمه الذي استبان له أولا.. قوله تعالى: «وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ» . «صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ» : اللبوس هنا ما يلبس للحرب، من دروع وغيرها. «لِتُحْصِنَكُمْ» أي تكون لكم حصنا ووقاية فى القتال. «مِنْ بَأْسِكُمْ» : أي من عدوان بعضكم على بعض.. والبأس: الشدّة، والقوّة. وهذه الآية هى تفصيل لمجمل قوله تعالى: «وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً» ، وهى- من جهة أخرى- دفع لهذا الوهم الذي قد يتسرب لبعض العقول من قوله تعالى: «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ» والذي قد يقع منه فى الفهم. انتقاص لقدر داود عليه السلام.. فداود عليه السلام. نبىّ كريم عند الله، محفوف بفضله وإحسانه.. ومن فضل الله عليه أنه سخّر معه الجبال والطير، تسبّح جميعها بحمد الله، وتشكر له.. فإذا سبّح بحمد الله، وجد الوجود كله من حوله، من جماد وحيوان، يسبّح معه، ويأتمّ به فى هذا التسبيح، فيكون من ذلك كلّه نشيد متناغم، يملأ أسماع الكون، فتفيض به مشاعر داود، ويرتوى منه قلبه، ويصبح كيانه كلّه نغما منطلقا بتمجيد الله، مترنّما بتقديسه وحمده. وفى قوله تعالى: «وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ» إشارة إلى أن هذه الكائنات، من جبال وطير، مسخرات من الله، لتسبيحه وتمجيده، كما سخّر داود من الله لتسبيحه وتمجيده، وأنها قد انضمت مع داود وتجاوبت معه، وائتلفت به.. وهذا ما جعل لداود هذا الإحساس بها، حين أزيل الحجاب بينه وبينها، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 926 الأمر الذي لا يشاركه فيه كثير من العابدين المسبّحين.. وإلّا فإن الوجود كله فى أرضه وسمائه، وفيما تحتوى أرضه سماؤه، يسبّح بحمد الله، ويصلّى له، ويمجّده، كما يقول سبحانه: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» (44: الإسراء) .. وهذا هو السرّ فى قوله تعالى: «مَعَ داوُدَ» بدلا من «لداود» .. فالجبال والطير هنا مسخرة معه للتسبيح والتمجيد، وليست مسخرة له.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ» (10: سبأ) . وفى قوله تعالى: «وَكُنَّا فاعِلِينَ» - إشارة إلى أن هذا الفضل من الله سبحانه على داود، كان بتقديره، وبما أوجبه جلّ شأنه على نفسه من الإحسان إلى المحسنين من عباده.. وقد كان داود أحسن خلق الله صوتا.. وقد جعل «الزّبور» ترانيم، ذات نغم شجى، يسبح فيه بحمد الله.. فتتجاوب مع صوته الكائنات من جماد وحيوان.. قوله تعالى: «وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ.. فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ» . أي أن من فضل الله تعالى على داود، أن علمه صنعة الدروع. بعد أن ألان له الحديد، كما يقول سبحانه: «وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ» (10، 11: سبأ) . وفى قوله تعالى: «لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ» إشارة إلى أن هذه الدروع، هى مما يدفع به الله بأس الناس، ويردّ به عدوان بعضهم على بعض.. وهى نعمة تستوجب من الناس الحمد والشكر لله رب العالمين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 927 وهنا سؤال: كيف تكون هذه الدروع نعمة من نعم الله، تستوجب الحمد والشكر، وهى أداة من أدوات الحرب، وعدّة من عدده؟ ثم هى من جهة أخرى، قد تكون قوة من قوى البغي والعدوان، يفيد منها أهل البغي والعدوان أكثر مما يفيد منها أهل الاستقامة، والسلامة؟ والجواب على هذا، من وجوه: أولا: أن هذه الدروع فيها حصانة، وصيانة لكثير من الدماء التي كان يمكن أن تراق، وللأرواح التي كان يمكن أن تزهق فى القتال الذي يلتحم بين الناس.. فهى- كما ترى- عامل مخفف من ويلات الحرب، ودافع لكثير من شرورها.. فلو قدّر أن يلتقى فى ميدان القتال أعداد من المتقاتلين بدروع وآخرون مثلهم بغير دروع، لكان حصيد الحرب، وحصيلتها من الدماء والأرواح فى الميدان الأول، أقلّ بكثير جدا مما يقع فى الميدان الآخر.. إذ كان الأولون يقاتلون وهم فى هذه الحصون من الدّروع، على حين يقاتل الآخرون وهم فى معرض الهلاك مع كل طعنة أو ضربة!:: فهذه الدروع نعمة تستوجب الشكر من الناس جميعا، أقويائهم وضعفائهم على السواء.. ولا يدفع هذا، بالقول بأن هذه الدروع فد تغرى الناس بعضهم ببعض، وتدفع بهم إلى القتال، إذ يجدون فى أيديهم ما يدفع عنهم خطر الحرب، ويبعد من احتمال الموت فيها.. فهذا القول، وإن بدا فى ظاهره شيئا مقبولا، إلا أنه فى حقيقته قائم على غير هذا الوجه.. ذلك أن كل قوّة مستجلبة غير القوى الجسدية الإنسان، هى متاحة للقوىّ والضعيف منهم، وأن الضعيف، يستطيع بهذه القوى المستجلبة أن يبطل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 928 فضل صاحب القوة الجسدية عليه، وبهذا يتعادل الأقوياء والضعفاء، ويكون من ذلك أن يكبح جماح أصحاب القوى الجسدية، التي كانت أظهر قوة عاملة، فى مجال البغي والعدوان وفى تسلط الأقوياء على الضعفاء.. وننظر فى المجتمع الإنسانى اليوم، فنجد أن اختراع القنبلة الذرية، التي هى أشنع ما عرف من أدوات التدمير والإهلاك.. قد كانت فى أول أمرها يوم وقعت ليد أمة من الأمم، كانت مصدر خطر عظيم فى يد هذه الأمة، تكاد تهدد به العالم، ولكن سرعان ما سعت غيرها من الأمم إلى امتلاك هذه القوة الرهبية، وسرعان ما بطل مفعولها أو يكاد يبطل، حيث أنها نذير بالشرّ العظيم للأطراف المتحاربة بها جميعا.. وهنا نلمح إشارة مضيئة من قوله تعالى: «وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» - تشير إلى قوله تعالى: «وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ.. فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ» فالقصاص إزهاق نفس، ولكن فيه حياة لنفوس، إذ أن القصاص يقتل فى نفوس، كثير من الناس ممن تحدثهم أنفسهم بالقتل- يقتل فيهم تلك النزعة الداعية إلى القتل، خوفا من أن يقتل القاتل بمن قتله.. وكذلك الدروع التي يلبسها المتحاربون، هى وقاية لكل منهما من عدوان الآخر عليه.. وليس هذا شأن الدروع وحدها، بل هو شأن كل وسائل القتال، والدفاع. فهى وإن كانت أداة تدمير وهلاك، هى فى الوقت نفسه عامل ردع وزجر.. بل إنها دعوة إلى السلام، وإخماد نار الحروب، إذا توازنت القوى بين الأمم. وقد كان من تدبير الله تعالى، أن وضع هذه الدروع أول ما وضعها فى يد نبىّ كريم، لا يكون منه بغى أو تسلط.. ثم أصبحت ملكا مشاعا فى الناس جميعا.. وثانيا: أن القرآن الكريم فى حديثه عن الدروع، وعن أنها نعمة تستوجب الشكر، إنما يتحدث إلى المجتمع الإنسانى، الذي من طبيعته البغي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 929 والعدوان، والذي من شأن القوىّ فيه أن يبغى على الضعيف، والذي إن كفّ فيه بعض الناس أيديهم عن الناس، لم تكفّ الناس أيديهم عنهم.. وعلى هذا فإن حديث القرآن عن الدروع، هو حديث عن واقع الحياة، وعما يدور فى حياة الناس.. فامتلاك الناس لأدوات الحرب لا يغريهم بالحرب، ولا يفتح لهم بابا لم يدخلوه، فهم فى حرب دائمة.. وهذه الدروع وغيرها من أدوات الدفاع حماية للناس من الطعنات والضربات. وثالثا: هذه الدروع أو لبوس الحرب، لها دور سلبىّ لا إيجابى، بمعنى أنها- فى ذاتها- تدفع الشر، وتردّه، ولا ينطلق منها شر إلى أحد.. كما هو الحال فى السيوف، والحراب، والمدافع، وغيرها.. إنها أداة دفاع، وليست أداة هجوم.. إنها تتلقى الضربات، ولا تضرب، ولا يضرب بها. قوله تعالى: «وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ» .. هو معطوف على قوله تعالى: «وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ» .. أي وكذلك سخّرنا لسليمان الريح عاصفة.. وقد بيّنا فى الآية السابقة السرّ فى تعدية الفعل «سَخَّرْنا» بأداة المعية «مع» وعدم تعديته بلام الملك «اللام» وقلنا إن الجبال والطير لم تكن مسخرة لداود، بل كانت مسخّرة لتسبّح بحمد الله معه.. فهى مصاحبة له، فى التسبيح.. وليست مسخّرة لخدمته.. أما هنا، فإن الريح مسخرة لسليمان، خاضعة لأمره، قد جعلها الله سبحانه وتعالى، مطية ذلولا له، تجرى بأمره رخاء حيث شاء.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 930 وفى قوله تعالى: «عاصِفَةً» إشارة إلى قوة انطلاق هذه الريح، وأنها فى قوة العاصفة فى اندفاعها، ولكنها فى رقّة النسيم ولينه فى سيرها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى آية أخرى: «تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ» (36: ص) فهى عاصفة ورخاء معا!! هذا كلام الله!! - وفى قوله تعالى: «إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها» إشارة إلى مسبح هذه الريح ومسراها، وأنها لا تتجاوز حدود الأرض المقدسة، ولا تعمل خارج سمائها.. وهذا ما ينبغى أن يفهم عليه قوله تعالى: «وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ» (12: سبأ) فقد تضاربت أقوال المفسّرين فى هذه الريح، وفى امتداد ملك سليمان بها، وأنها كانت تقطع به ملكه فى شهر ذاهبة، وشهر راجعة.. وهذا ما لا يتسع له ملك سليمان بحال أبدا.. والمعنى الذي تفهم عليه هذه الآية الكريمة، هو المعنى الذي يشعّ من قوله تعالى: «تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها» وهو أنها فى «غُدُوُّها» أي مسراها فى غدوة النهار، تقطع من المسافة ما يقطعه السائر على قدميه، أو على دابته فى شهر.. كذلك «رَواحُها» وهو رجوعها آخر النهار.. يقدّر بمسيرة شهر للراجل أو الراكب.. والغدوة قد تكون ساعة أو ساعتين، أو ثلاثا، أو أكثر، وكذلك الرّوحة. قوله تعالى: «وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ» . أي وسخرنا لسليمان «مِنَ الشَّياطِينِ» أي من بعض الشياطين لا كلّهم، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 931 من يغوصون له فى البحار ويستخرجون اللؤلؤ والمرجان وغيرها.. «وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ» أي أقل من هذا العمل، كأن يسخّروا فى البناء، وحمل الأحجار، وغير هذا.. كما يقول سبحانه وتعالى فى آية أخرى: «وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ» (37: ص) . وفى قوله تعالى: «وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ» إشارة إلى أنهم محكومون بقدرة الله، وأن تلك القدرة هى الحافظة لهم، والممسكة بهم، على خدمة سليمان، وطاعة أمره.. ولولا هذا لتفلّتوا منه، وخرجوا عن طاعته، فليس سليمان هو الذي سخر هذه الشياطين، وإنما الله سبحانه وتعالى هو الذي سخرها له.. الآيات: (83- 91) [سورة الأنبياء (21) : الآيات 83 الى 91] وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 932 التفسير: [أولياء الله وما يبتلون به] قوله تعالى: «وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» . هو معطوف على قوله تعالى: «وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ» وهو عطف قصة على قصة. أي واذكر أيوب إذ نادى ربّه» . وذكر أيوب فى هذا المقام، هو ذكر له دلالته العظيمة، وذلك من وجوه: أولا: أن أنبياء الله وأصفياءه يبتلون بالضرّ، كما يبتلى الناس، بل وكما يبتلى شرار الناس.. وأنه كما يبتلى الناس بالخير والشرّ، كذلك يبتلى الأنبياء بالخير والشر.. فأنبياء الله وأصفياؤه، يبتلون من الله فيزدادون إيمانا وقربا منه، وطمعا فى رحمته.. وأعداء الله يبتلون فيزدادون بعدا من الله، وكفرا به، ومحادّة له. وثانيا: أن أنبياء الله وأصفياءه، إذا ابتلوا فى شىء من أنفسهم أو أموالهم ضروا إلى الله، وبسطوا إليه أكفهم وولّوا إليه وجوههم، وطرقوا أبواب رحمته بالدعاء والرجاء.. فباتوا على أمن من كل خوف، وعلى طمع ورجاء من كل خير.. وثالثا: أن الله سبحانه وتعالى، يتقبل من عباده المخلصين ما يدعونه به، فلا يقطع أمداد رحمته عنهم، ولا يخيّب رجاءهم فيه. وانظر إلى هذا الأدب النبوي العظمى، فى مناجاة الخالق جلّ وعلا.. فأيوب- عليه السلام- مع هذا البلاء العظيم، الذي شمله فى نفسه وأهله وماله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 933 جميعا، لم يستبدّ به الجزع، ولم تستول عليه الحيرة، ولم تحرقه أنفاس الضيق والألم.. بل ظلّ مجتمع النفس، ساكن الفؤاد، رطب اللسان بذكر الله.. فلما اشتد به الكرب، ورهقه البلاء، وأراد أن يذكر نفسه، ويشكو لربّه ما يجد، لم يزد على أن يقول بلسان رطب بالصبر، وبأنفاس نديّة بالإيمان: «أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» وكان أن سمع الله دعاءه، واستجاب له.. «فَاسْتَجَبْنا لَهُ.. فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ.. رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ» . وهكذا يجزى الله المحسنين الصابرين.. كما يقول سبحانه: «إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ» .. لقد كشف الله عن أيوب الضر الذي أصابه فى جسده، ورزقه من البنين والأموال ضعف الذي ذهب منه.. وقوله تعالى: «رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا» أي أن ذلك العطاء كان رحمة منّا، أصبنا بها عبدا من عبادنا المخلصين. وقوله تعالى: «وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ» معطوف على «رحمة» أي وكان ذلك الذي فعلناه بعبدنا «أَيُّوبَ» تذكرة وموعظة «لِلْعابِدِينَ» أي الذين يعبدون الله، ويحسنون عبادته، ويصطبرون عليها.. فالعابدون بما لهم من صلة بالله، ربّما يقع فى نفوسهم أنهم بمنجاة من الابتلاء بالشر، إذ لا يكاد يقع فى تصوّر الناس أن من وثّق طلته بالله، وتقرب بالعبادات والطاعات إليه، هو فى مأمن مما يقع للناس من ضرّ وأذى، فى نفسه أو ولده أو ماله.. وإلّا فما ثمرة هذه الصلة، وما فضل الطائعين على العاصين، والأولياء على الأعداء؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 934 هذا ما جاء قوله تعالى: «وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ» لينبه إليه، وليصحّح مشاعر العابدين خاصة، بهذا الذي كان منه سبحانه لعبده أيّوب- عليه السلام- وما ابتلاه به، فى نفسه، وأهله، وماله، بما لم يكد يبتلى به أحد من عباد الله..! وقد كان أيوب- عليه السلام- من خير العابدين المقربين إلى الله، حين مسّه الضرّ، كما كان من خير الصابرين على البلاء، الطامعين فى رحمة الله، المطمئنين إلى قضائه فى عباده، الواثقين بحكمته وبعدله.. بعد أن لبسه الضرّ وعاش فيه. وإذن فليس المؤمنون، العابدون، الساجدون، بمعزل عن الابتلاء بالضرّ والأذى، بل إنهم أكثر الناس تعرضا للبلوى، وذلك ليبتلى الله ما فى صدورهم، وليمحص ما فى قلوبهم.. والله سبحانه وتعالى يقول للمؤمنين: «لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً» (186: آل عمران) ويقول سبحانه: «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ» (2: العنكبوت) . فأولياء الله وأحباؤه هم أكثر عباد الله تعرضا للابتلاء، إذ كان ذلك هو الدواء المرّ، الذي تذهب الجرعة، منه بكثير من أمراض النفوس وعللها، وهو النار المحرقة، التي تنصهر فى حرارتها معادن الرجال، فتصفّى من الخبث وتنقّى من الغثاء والزّبد! وبهذا تظهر عظمة الإنسان، وتصفو موارده، ويصبح- على ما يبدو عليه من ضعف، وفقر- أقوى الأقوياء، وأغنى الأغنياء، ينظر إلى الدنيا، وحطامها، وما يتفاخر به الناس فيها من مال، وجاه، وسلطان- نظرته إلى أطفال يتلهون بلعبهم، ويزهون بالجديد من ثيابهم! ثم لعلك تسأل: أما كان غير هذا البلاء، أولى بهم، وهم أحباب الله وخلصاؤه؟ أو ما كان الإحسان إليهم بالخير أليق من التوجه إليهم بالمساءة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 935 والضرّ؟ وإذا لم يكن الإحسان.. فهلا كانت العافية من البلاء؟ وإذا كان هذا الابتلاء مرادا لغاية هى تطهير النفوس، وتزكيتها، وتخليصها من الآفات والعلل.. فهلا كان ذلك بالإحسان والإنعام.. وقدرة الله لا يعجزها شىء، ولا يحدّها حدّ، ولا يقيدها قيد؟ والجواب عن هذا كله: أولا: أن الله سبحانه وتعالى كما ابتلى بالخير، ابتلى بالشر، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً» (35: الأنبياء) .. وقد ابتلى الله- سبحانه- سليمان عليه السلام بالكثير الغدق من النعم، فسخّر له الريح والجنّ، وعلّمه لغة الحيوان والطير، وجعلها جنودا من جنده، ووضع بين يديه من القوى الظاهرة والخفية، ما جعل له ملكا وسلطانا لم يكن لأحد من بعده كما يقول الله سبحانه وتعالى: «قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ» (35: ص) وقد أجاب الله سبحانه وتعالى ما طلب، فقال سبحانه: «فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ» (36- 39: ص) حتى إن سليمان نفسه ليستكثر هذا الإحسان الذي لا يكاد يتسع له وجوده، فيقول: «يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ» (16: النمل) وحتى إنه ليجد نفسه عاجزا عن الوفاء بشكر القليل من هذا الفضل العظيم، فيقول: «رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ» (19: النمل) . فالابتلاء بالإحسان والخير، عند من يعرف قدر الإحسان، وفضل المحسن وجلاله وعظمته- لا يقلّ مئونة وعبئا، عن الابتلاء بالمساءة والضر.. إنه ابتلاء! الجزء: 9 ¦ الصفحة: 936 وقد ابتلى الله سبحانه بعض أوليائه بالضر والمساءة، فكان ذلك- فى حقيقته- إحسانا إليهم، إذ سلك بهم مسالك الخير والإحسان، وزادهم من الله قربا ومن رضاه رضى وزلفى.. وانظركم لقى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم- وهو صفوة خلق الله وخاتم رسله- كم لقى على مسيرة دعوته، وفى سبيل رسالته، من أذى؟ وكم احتمل من مساءة وضرّ؟ أفرأيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين خرج إلى ثقيف، يرجو عندهم من استجابة لله ورسوله، ما أبته عليه قريش، حتى إذا التقى بسادة ثقيف، وعرض عليهم الإيمان بالله، ردّوه أشنع رد، ثم أغروا به سفهاءهم، فرجموه حتى أدموه.. ثم أرأيت إلى رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- وقد أخذ طريقه إلى خارج ثقيف، وهو يحمل هذا الهمّ الثقيل، حتى إذا بلغ إلى حيث انقطع عنه صوت الكلاب البشرية التي كانت تنبحه، أسند ظهره إلى ظل شجرة هناك، ومولاه زيد يضمد جراحه.. ثم ما كادت نفسه تهدأ، وأنفاسه تنتظم، حتى رفع رأسه إلى السماء، وناجى ربه، بتلك الكلمات الضارعة المشرقة، التي تنبض حياة بمشاعر الإيمان، وأنفاس التسليم والرضا.. استمع إليها.. «إلهى.. أشكو إليك ضعف قوتى، وقلة حيلتى، وهوانى على الناس! «يا أرحم الراحمين.. أنت رب المستضعفين وأنت ربى. «إلى من تكلنى؟ .. إلى بعيد يتجهمنى؟ أو قريب ملّكته أمرى؟ «إن لم يكن بك غضب علىّ فلا أبالى. «غير أن عافيتك هى أوسع لى! الجزء: 9 ¦ الصفحة: 937 «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة- أن يحلّ علىّ غضبك، أو ينزل بي سخطك. «لك العتبى حتى ترضى.. «ولا حول ولا قوة إلا بك..» إنها مناجاة، يتنفس فيها النبي أنفاس العافية، ويطعم منها طعم الرضا، ولهذا طالت تلك المناجاة، ومشت كلماتها الهوينا على شفتى رسول الله، كأنها تحمل أثقالا من الهموم التي ألمت به، وتنطلق بها فى قافلة طويلة ممتدة بين الأرض والسماء!! ثم انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وقد أحاط به المشركون، وتعاورته سهامهم ورماحهم، وكادت تصل إليه سيوفهم، وقد شجّ صلوات الله وسلامه عليه، وكسرت ثنيتاه، واستشهد كثير من أصحابه، وأحبابه، ومن بينهم عمه، أسد الله، حمزة بن عبد المطلب. ومع هذا، فما قال النبي فى هذا المقام، إلا القولة التي لا يقولها إنسان غيره فى هذه الدنيا.. قال- صلوات الله وسلامه عليه: «اللهم اهد قومى، فإنهم لا يعلمون» !! وكما ابتلى الله سبحانه، أولياءه بالبأساء والضراء، ابتلى أعداءه بالنعماء والسراء، فكان ذلك بلاء عليهم، ونقمة من نقم الله بهم.. لقد زادتهم تلك النعم بعدا عن الله، وعمى عن الحق، وضلالا عن الهدى. والقرآن الكريم يذكر لنا قارون، كمثل من أمثلة الابتلاء بالنعم، عند من لا يقدر على الوفاء بها، ولا يقدرها قدرها، فكان أن عجل الله له الهلاك فى الدنيا، ثم أعدّ له عذاب السعير فى الآخرة.. وكذلك فرعون، الذي بسط له فى السلطان، وأمدّه بموفور النعم، فما زاده ذلك إلا كفرا بالله، ومحادة له.. فمات تلك الميتة الشنعاء، وكان مثلا وعبرة لأولى الأبصار.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 938 أما فى الآخرة، فهو إمام من أئمة الضلال، وقائد من القواد إلى عذاب الجحيم.. «يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ، وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ» (98: هود) . وثانيا: لا شك أنه سبحانه وتعالى قادر على أن يعفى أولياءه من البلاء وأن يجعل ابتلاءهم بالسراء لا بالضراء، وأن يجعلهم طبيعة قائمة على الحمد والشكر، وفطرة مفطورة على الاحتمال والصبر. ولكن هذا وإن كان مما يفعله الله ببعض عباده وأحبابه، كما كان ذلك لسليمان- فإن هناك درجة فوق تلك الدرجة، وهى درجة الابتلاء بالضراء، حيث يجد الإنسان نفسه وكأنه فى صراع ضار مع الحياة وخطوبها، وحيث يرى نفسه وكأنه جبل راسخ شامخ تتحطم على صخوره الصلدة، الأمواج الصاخبة، وتتكسر تحت أقدامه القويّة، العواصف العاتية.. وحيث يرى آخر الأمر وقد انتهى هذا الصراع، وانجلى غبار المعركة، وإذا به وبين يديه راية النصر، وعلى جبينه تاج الفوز والظفر! لقد كسب المعركة بهذا الجهد الذاتي، وبهذا الثمن الغالي الذي قدمه من ذات نفسه، عرقا متصببا وأرقا متصلا، وعملا دائبا.. وهذا ما يجعل للنصر هذا الطعم الحلو، الذي لا يعرف مذاقه إلا من ابتلى وصبر، وجاهد وبذل، وحرم نفسه النوم فى ظل الراحة والرفاهة، وبات ليله ساهرا، ونهاره عاملا.. وإنه لفرق كبير بين من يجد بين يديه طعاما طيبا حاضرا عتيدا، لم يبذل فيه جهدا، ولم يتكلّف له عملا، وبين من فرغت يده من كل شىء، فيجدّ ويعمل فى غير وناء أو فتور، وهو على ما به من حرمان ومسغبة، حتى إذا اجتمع له من سعيه ما يهيء به لنفسه طعاما، كانت عنده كل لقمة من هذا الطعام، أشهى وأطيب من تلك المائدة الحافلة بطيب الطعام الجزء: 9 ¦ الصفحة: 939 والمثل لهذا، ما نجد فى حياة الوارث الذي يعيش على ما ورث، وبين العامل الذي يعيش من عرقه وكدحه وجهده..! فحياة الوارث حياة رتيبة مملة ثقيلة، ذات لون واحد، لا يتبدل، بينما حياة العامل خصبة مليئة بالحياة والحركة، وتغاير الطعوم والألوان. ونجد هذا فى الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- فأصحاب الرسالات الكبرى منهم، هم الذين ابتلوا بالبأساء والضراء.. وعلى قدر ابتلائهم كانت منزلتهم عند ربهم. إبراهيم عليه السلام، ابتلى بإلقائه فى النار.. وبالأمر يذبح ولده إسماعيل بيده، فكان خليل الرحمن وأبا الأنبياء.. وموسى عليه السلام، ابتلى من أول حياته، بإلقائه فى اليم رضيعا، ثم بقتله المصرىّ، وطلب فرعون له، وفراره إلى مدين.. ثم بلقاء فرعون، ومواجهته بالدعوة إلى الإيمان بالله.. ثم كان ابتلاؤه الأكبر فى حياته بين بنى إسرائيل، وفى خلافهم عليه، وشرودهم منه.. فكان كليم الله. وعيسى- عليه السلام- نشأ فى حجر الابتلاء ... تنعقد حوله، وحول أمه التهم والظنون، حتى إذا ظهر فى اليهود، كان بينه وبينهم هذا الصراع الطويل المرير، حتى لفّقوا له التهم، وقدموه للحاكم الرومانى، وطلبوا إليه أن يحكم عليه بالصلب، حسب شريعتهم، ولم يسترح لهم بال حتى حكم لهم بصلبه، وحتى شبّه لهم أنهم صلبوه.. وكان كلمة الله. ومحمد- صلوات الله وسلامه عليه- قد لقى من قومه ألوان المساءة فى كل لحظة من لحظات تلك السنوات الثلاث عشرة التي قضاها فى مكة قبل الهجرة.. فلما هاجر كانت حياته قسما مشاعا بين الدعوة إلى الله، والجهاد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 940 فى سبيل الله.. يقوم ليله، ويصوم نهاره.. وما شبع من طعام قط، ولا نام إلا على حشية من ليف.. وهو الذي كان يستطيع- لو أراد- أن يأكل فى صحاف من ذهب، وأن ينام على فراش من حرير.. فكان خاتم الأنبياء وصفوة الخلق.. وهكذا نجد الابتلاء بالضراء أرجح كفة من الابتلاء بالسراء، فى ميزان الصياغة لمعادن الرجال، وصبّهم فى قوالب الكمال والإحسان.. ولهذا كان أولو العزم من الرسل، هم الذين ابتلوا وامتحنوا أشق امتحان، وأثقل ابتلاء.. وثالثا: الابتلاء بالشرّ ليس ضربة لازب لأولياء الله وأحبابه وأصفيائه، ولكنه الشأن الغالب عليهم، لأن ذلك أشكل بطبيعتهم، وأقرب إلى نفوسهم، لأنهم كلما ازدادوا من الله قربا انكشف لهم أمر الدنيا، ومتاعها الغرور، فنظروا إليها نظرة استخفاف واستصغار، لكل ما فيها ومن فيها، ثم إذا هم رأوا تكالب الناس وتزاحمهم على مواردها، زادهم ذلك إحقارا لها، وبعدا عنها. فهذا الذي نرى فيه أولياء الله وأصفياءه، من فاقة، وضرّ، وحرمان، ونعدّه بلاء أو ابتلاء، هو- فى الواقع- مطلب لتلك النفوس العظيمة، ورغبة محببة لهذه القمم العالية من عباد الله.. إنهم يزهدون فيما تطلبه النفوس، راضين.. وإنهم ليجدون فى الحرمان، من الغبطة والرضا، ما لا يجده الواجدون من متع الحياة ومسراتها.. وهكذا تطلب كل نفس غذاءها الذي يهنئوها، ويطيب لها.. وشتان بين الكلاب والأسود.. حيث تتقاتل الكلاب على الجيف، على حين تموت الأسود جوعا ولا تدنو منها.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 941 رابعا- يبتلى المحسنون والصالحون من عباد الله بما يبتلون به، وهم على وعد من الله سبحانه وتعالى، بأن وراء الضيق فرجا، وبأن مع العسر يسرا.. وأنهم إن صبروا اليوم على الضرّ والأذى، فإنهم لعلى موعد بلقاء غد ينجلى فيه الكرب، وتنقشع غمامات الضر.. «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» (155- 157: البقرة) .. وكما قيل، من أن الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى، فكذلك كل نعمة من نعم الله، لا يذوق حلاوة طعمها، ولا يعرف جلال قدرها إلا من حرمها، وطال حرمانه وافتقاده لها، فإذا لقيها بعد هذا، عرف كيف فضل الله عليه، وكيف إحسانه إليه، ومن ثم يعرف كيف يؤدّى لله بعض ما يجب له، من حمد وشكران.. قوله تعالى: «وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ» .. جاء ذكر إسماعيل، بعد ذكر أيوب، لأن كلا منهما قد ابتلى ابتلاء عظيما من الله، وكلّا منهما كان من الصابرين على ما ابتلى به. فأيوب، قد كان فى عافية، وفى نعمة ظاهرة، ثم ابتلاء الله فى نفسه وماله وولده جميعا.. فصبر راضيا بحكم الله فيه، مطمئنا إلى مواقع الرحمة منه.. وإسماعيل.. قد رأى أبوه فى المنام أنه يذبحه بأمر من ربه، فلما أخبره بأمر الله، وطلب إليه رأيه، لم يتردد فى الجواب، وقال: «يا أَبَتِ افْعَلْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 942 ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» .. وقدّم أيوب على إسماعيل، مع أنه فرع من إبراهيم، وإسماعيل أصل.. لأن أيوب طالت محنته، وطال انتظاره فى موقف البلاء سنين، وهو صابر ومصابر، ولم يضجر، ولم يتكثر من الأنين والشكوى. أما إسماعيل فقد كان ابتلاؤه لساعة من الزمن، ثم انجلى الكرب وزالت المحنة.. ومن جهة أخرى، فإن إسماعيل كان- فى مواجهة هذا الابتلاء ما يزال غلاما، لم يقع فى نفسه، وقوعا واضحا كاملا أثر هذا الفعل الذي هو مساق إليه.. ولهذا كانت البلوى، أو كان الجانب الأكبر منها واقعا على أبيه إبراهيم، ومن أجل هذا كان حسابها مضافا إلى إبراهيم، وإن كان لإسماعيل حسابه، وهو حساب وإن قلّ- بالإضافة إلى أبيه- هو شىء عظيم رائع، ترجح به موازينه فى الصابرين من عباد الله.. وذلك على حين كان أيوب فى دور الرجولة، وفى حال لبس فيها الشباب، والصحة، وذاق حلاوة الغنى، وعرف طعمها، فكان انتزاع هذا كله منه، أشدّ وقعا وأمرّ طعما مما لو وقع عليه ابتداء. هذا وقد ذكر مع إسماعيل «إدريس» و «ذو الكفل» . أما إدريس فهو ممن ذكرهم الله من أنبيائه، كما يقول سبحانه: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا:» (56: مريم) .. ولم يذكر القرآن عن إدريس أكثر من أنه كان نبيا وكان من الصابرين.. فلم يكن له فى القرآن قصة كقصة، صالح، وهود، وإبراهيم، ولوط، وموسى، وغيرهم من رسل الله.. وأما «ذو الكفل» فلم يذكر إلا فى هذا الموضع، وقد اجتمع مع النبيين الكريمين: إسماعيل وإدريس، وشاركهما فى صفة الصبر.. كما يقول سبحانه «كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ» .. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 943 وقد ذهب معظم المفسرين مذاهب شتى فى «ذى الكفل» وكان أضعف الآراء عندهم فيه، أنه نبى، من أنبياء الله.. والرأى عندنا والله أعلم- أنه نبىّ، وأن أبرز صفة فى حياته كانت صفة الصبر.. أما رسالته، وأما قومه، فشأنه فى هذا شأن إدريس، الذي لم يذكر له القرآن رسالة ولا قوما.. كما أننا نرجح أنه زكريا- عليه السلام- لأنه هو الذي كفل مريم، كما يقول الله تعالى: «وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا» وتسأل: ما حكمة ذكر إدريس وذى الكفل، هذا الذكر الذي لا يحوى إلا اسميهما دون أن تلحق بما قصة تستملى منها العبرة والعظة؟ والجواب على هذا- والله أعلم- أن ذكرهما فى القرآن الكريم لم يكن مساقا للعبرة والعظة، ففيما حدث به القرآن من قصص الأنبياء أكثر من عبرة وعظة.. وإنما كان ذكرهما تكريما لهما، وحفظا لاسميهما الكريمين على الزمن، ونظمهما فى عباد الله المصطفين من أنبيائه ورسله.. وفى هذا تحقيق لأمرين: أولهما: ما يجده الأحياء الذين يشهدون هذا الحديث، من إحسان الله سبحانه وتعالى إلى المحسنين من عباده، بعد أن يتركوا هذه الدنيا، وذلك برفع ذكرهم، وتخليد آثارهم، وفى هذا ما يغرى بالإحسان، وبتمجيد المحسنين.. وثانيهما: ألا يحرم هذان النبيان نصيبهما من دعاء المؤمنين على امتداد الأزمان، حيث يصلّى المصلون على أنبياء الله، وحيث يذكرهم الذاكرون واحدا واحدا. قوله تعالى: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 944 «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ» . ذا النون: هو يونس- عليه السلام- والنون: هو الحوت، وجمعه نينان.. وقد نسب إليه يونس، لأنه عاش فى بطنه زمنا- كما سترى.. وقوله تعالى: «إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً» إشارة إلى أنه اختلف مع قومه، فتركهم وذهب بعيدا عنهم، مغاضبا لهم. وفى قوله تعالى: «مُغاضِباً» إشارة إلى أنه استجلب المغاضبة، واستعجلها، وأنه وإن ظهر له من قومه ما يثير الغضب، ويدعو إلى القطيعة، إلا أنه كان جديرا به أن يصبر، ويصابر، وألّا يأخذ القوم بأول بادرة، فيتخلى عن مقامه فيهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى، مخاطبا النبىّ الكريم، صلوات الله وسلامه عليه: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ» (48: ن) . ففى هذا تعريض بيونس- عليه السلام- وأنه لم يصبر الصبر المطلوب من الأنبياء.. وقوله تعالى: «فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ» أي ظن أن لن نقدر على محاسبته على هذا الموقف، وعقابه عليه.. ولم يكن من يونس عليه السلام هذا الظن بربه، وبقدرته، وإنما حاله التي كان عليها هى التي تعطى هذا الوصف له.. فهو قد فعل فعل من يظن أنه يفعل ما يفعل، ثم لا يجد محاسبا على ما فعل.. قوله تعالى: «فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 945 هنا كلام مضمر، يشير إليه العطف بالفاء «فَنادى» .. وهذا المضمر، قد ذكر فى آيات أخرى من القرآن الكريم، وفى هذا يقول سبحانه: «وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ» (139- 142: الصافات) . فحرف العطف «الفاء» يشير إلى هذه الآيات.. والمعنى أن يونس لما ذهب مغاضبا قومه، ظانّا أن لن نقدر عليه، أبق (أي هرب) «إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ» أي الذي شحن وامتلئ بالناس والأمتعة، حتى فاض، وكاد يغوص فى الماء.. وإنقاذا للسفينة من الغرق رؤى أن يتخفف من أمتعتها، ثم من بعض الراكبين فيها، وقد ارتضى الركاب أن يقترعوا فيما بينهم على من يخلى السفينة، ويلقى بنفسه فى الماء، ولو كان فى ذلك هلاكه، إذ أن فى هلاكه نجاة كثيرين. وقد وقعت القرعة على يونس فيمن وقعت عليهم، ليلقوا بأنفسهم فى البحر.. «فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ» أي الساقطين، المخذولين.. وأرض دحض أي زلق، لا تمسك قدمى من يمشى عليها، وحجة داحجة: أي ساقطة، غير مقبولة.. فلما ألقى يونس بنفسه فى الماء، التقمه الحوت. «فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» والمراد بالنداء، الدعاء، والتسبيح لله.. كما يقول سبحانه: «فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» و «الظُّلُماتِ» هى هذا الظلام الكثيف المشتمل عليه فى بطن الحوت، حيث لا ينفذ إليه شعاعة من ضوء. وقد ذكر المفسّرون أن هذه الظلمات، هى ظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 946 وأنه لا حاجة إلى هذا التكلّف، لإيجاد وجه لجمع الظلمات.. والبحر نفسه هو ظلمات، وبطن الحوت ظلمات وظلمات.. فما الحاجة إلى الليل، حتى تصبح الظلمة ظلمات؟ وهل فى أعماق البحر، أو فى جوف الحوت، حساب للّيل أو النهار، والظلام والنور؟ .. والله سبحانه وتعالى يقول: «أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ، ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ» (40: النور) إن ما فى أعماق البحر، ليست ظلمات وحسب، وإنما هى ظلمات، فوق ظلمات، فوق ظلمات! وقوله تعالى: «فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ» أي أن الله سبحانه قد استجاب دعاء يونس، ونجّاه مما هو فيه من غمّ، وكذلك ينجى الله المؤمنين، مما ينزل بهم من سوء، وما يصيبهم من بلاء.. ويونس لم يدع إلا بقوله: «لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» .. فهو دعاء لم يطلب فيه نجاة أو خلاصا من هذا البلاء الذي هو فيه.. ففيم استجاب الله له؟ والجواب- والله أعلم- أنه دعا بأفضل دعاء يقتضيه حاله، ويطلبه موقفه. إنه قد أتى من قبل نفسه، وإنّ نفسه هى التي أوقعته فى هذا البلاء، ودفعت به إلى هذا الموقف الذي هو فيه، فهو فى دعائه هذا يطلب البراءة من نفسه، والنجاة من شباكها، وذلك بإخلاص العبودية لله، والبراءة من كل شىء، حتى من نفسه هذه، والاستسلام لله الذي لا إله إلا هو.. وإنه إذا خلص من نفسه، وبرىء من أهوائها ونوازعها، فقد خلص من كل سوء، وأمن كل مكروه.. ومن هنا كان خلاصه من بطن الحوت، وكانت نجاته من هذا البلاء.. وهكذا كل من يضيف وجوده إلى الله، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 947 ويبرأ من نفسه وما توسوس له به.. إنه يكون أبدا على شاطىء النجاة!. قوله تعالى: «وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ» . وزكريا- عليه السلام- كان مبتلى بالحرمان من الولد، وقد طال انتظاره له، وتطلعه إليه، حتى بلغ من الكبر عتيّا.. فلما بلغ الحدّ الذي يقع عنده اليأس، لم يكن من اليائسين من روح الله، فدعا ربّه، وناجاه فيما بينه وبين نفسه، فقال: «رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ» . - وفى قوله: «وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ» تعقيب على قوله: «لا تَذَرْنِي فَرْداً» أي إن لم تستجب لى، وتهب لى من يؤنسنى، ويرثنى من الولد، فتلك هى مشيئتك، وهى منّى بموضع الاستسلام والرضا، فإذا لم يكن لى الولد الذي يرثنى، فأنت خير الوارثين.. ترث الأرض ومن عليها.. - وفى قوله تعالى: «وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ» إشارة إلى ما كان فى امرأته من عقم، وأنها بهذا العقم لم تكن صالحة للحمل والولادة، فأصلحها الله سبحانه وتعالى، وجعل من المرأة العقيم امرأة ولودا.. - وقوله تعالى: «إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ» .. الضمير فى «إِنَّهُمْ» يعود إلى زكريا، وزوجه، وولدهما يحيى.. فهم جميعا كانوا على حال متقاربة من الإيمان بالله، والطمع فى رحمته، والخوف من عذابه والخشوع لعظمته وجلاله.. والرّغب: الرغبة، والطمع.. والرّهب: الخوف، والخشية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 948 قوله تعالى: «وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ» . التي أحصنت فرجها، هى مريم ابنة عمران.. ولم تذكر باسمها لأنها لم تكن من الأنبياء، والمذكورون هنا جميعا أنبياء، ومنهم ذو الكفل- كما أشرنا إلى ذلك من قبل-. وقد ابتليت مريم بهذا الابتلاء، الذي تكشّف عن نعمة سابغة، وفضل عظيم، لم يكن لأنثى غيرها.. لقد حملت بنفخة من روح الله، وجاءت بالمسيح عليه السلام.. وذلك بعد أن مرّت بهذا الامتحان القاسي، وواجهت من أهلها وقومها هذا الاتهام، الذي لم يكن ليدفعه عنها ما عرفت به فى قومها من طهر لا يحوم حوله شك، ومن عفة لا يطوف بها دنس.. ومع هذا فقد واجهت المحنة، واحتملتها فى صبر، مستسلمة لأمر الله، راضية بحكمه، وكان عاقبة أمرها أن كانت هى وابنها آية للعالمين، تتجلّى فيها قدرة الله، وما له فى عباده المخلصين من فضل وإحسان.. لقد كانت هى آية من آيات الله، إذ ولدت من غير أن تتصل برجل، وكان ابنها آية من آيات، الله إذ ولد بنفخة من روح الله، من غير أب. الآيات: (92- 104) [سورة الأنبياء (21) : الآيات 92 الى 104] إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 949 التفسير: قوله تعالى: «إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ» . بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى أولئك المصطفين من رسله وأنبيائه وعباده الصالحين.. من نوح الذي يعدّ الأب الثاني للإنسانية بعد آدم، إلى إدريس، الذي يقال إنه كان من ذرية نوح الأقربين، إلى إبراهيم أبى الأنبياء.. إلى مريم أمّ آخر نبىّ فى بنى إسرائيل- بعد ذكر الله سبحانه وتعالى هؤلاء المكرمين من عباده، من ذكور وإناث، ومن بعيد عهده وقريبه- عقّب على ذلك بقوله تعالى: «إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ» . إشارة إلى أن هذا هو المجتمع الإنسانى، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 950 وتلك هى الأمة الإنسانية، التي يبعث الله فيها رسله، ويصطفى منها من يشاء من عباده.. فهذه هى الأمّ التي ينتسب إليها كل إنسان، وفيها هذه الوجوه المشرقة التي عرضتها الآيات السابقة، والتي ينبغى أن يقيم الناس وجوههم عليهم، وأن يقتدوا بهم، فهم جميعا من طينة واحدة، وإنما يكون التفاوت بينهم بالجهد الذي يبذله الإنسان منهم، لإعلاء إنسانيته، ورفعها عن هذا الطين!! وفى قوله تعالى: «أُمَّةً واحِدَةً» إشارة إلى تلك الوحدة التي تجمع الناس جميعا. وتجعل منهم مجتمعا واحدا، وإن اختلفوا ألسنة، وتباينوا ألوانا، وتناءوا ديارا وأوطانا.. وقوله تعالى: «وَأَنَا رَبُّكُمْ.. فَاعْبُدُونِ» أي أنه سبحانه ربّ جميع الناس، وراعيهم وكالئهم، فكلهم خلقه وصنعة يده، وكلهم غذىّ نعمته وإحسانه.. تقلّهم أرضه، وتظلهم سماؤه، وتغاديهم وتراوحهم نعمه.. وإذا كان هذا صنبعه بهم، وشأنه فيهم، فهو المستحق للعبادة والطاعة والولاء.. فمن شرد عن الله، وبعد عن مكانه الذي ينبغى ان يأخذه بين عباده، وأبى أن يستمع لناصح، أو يستجيب لداع، أو يحفل بنذير، فقد سعى بنفسه إلى حتفه، وأزهق روحه بيده.. وانظر مرة أخرى فى قوله تعالى: «إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً.. وَأَنَا رَبُّكُمْ.. فَاعْبُدُونِ» تجد هذه المعادلة: هذه أمتكم.. أمة واحدة. وهذا أنا ربكم.. إله واحد.. لا ربّ لكم غيره. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 951 والنتيجة اللازمة لهذه المعادلة هى: «فَاعْبُدُونِ» إذ أنتم مربوبون، وأنا الرّبّ.. أنتم العباد، وأنا ربّ العباد.. أنتم العابدون.. وأنا المعبود.. قوله تعالى: «وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ» . واو العطف هنا تشير إلى معطوف عليه محذوف.. وهذا المحذوف هو من تفريعات الأمر الذي أمر به الناس فى قوله تعالى: «فَاعْبُدُونِ» .. وهو جواب عن سؤال مقدّر يقتضيه الحال وهو: ماذا كان من الناس إزاء هذا الأمر الذي أمروا به؟ فكان الجواب، لم يكونوا على طريق واحد، بل اختلفوا، وتقطعوا شيعا وأحزابا.. فكان منهم المطيع، وكان منهم العاصي. منهم المؤمن، ومنهم الكافر.. منهم عابد الرحمن، ومنهم عابد الشيطان.. «تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ» .. وفى إضافة الأمر إليهم، إشارة إلى أنه الأمر الذي هو ملاك صلاحهم وفلاحهم، وهو الإيمان الله. - وقوله تعالى: «كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ» أي أن كل فريق منهم راجع إلى الله، ومحاسب على ما كسب من خير أو شر.. قوله تعالى: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ.. وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ» . هو بيان لما يكون عليه الناس عند رجوعهم إلى الله يوم القيامة.. فمن عمل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 952 صالحا وهو مؤمن، تقبّل الله عمله، وكتبه له.. وسيجزيه عليه الجزاء الأوفى.. - وقوله تعالى: «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» هو قيد لقبول الأعمال الصالحة، فلا يقبل من غير المؤمنين عمل وإن كان صالحا، إذ لم يزكّه الإيمان بالله، وكل عمل لا يزكّيه الإيمان بالله، هو باطل، لا وزن له. قوله تعالى: «وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ» . هو بيان للوجه المقابل للمؤمنين، وهو وجه الكافرين.. وقد جاء النظم القرآنى على هذا الأسلوب، ليكشف عن حال هؤلاء المجرمين فى الدنيا، والآخرة معا.. فهم فى الدنيا معرّضون للهلاك، الذي يعجّل للظالمين.. وهم فى الآخرة واقعون تحت عذاب الله، مسوقون إليه، يتمنّون أن يعودوا إلى الدنيا، ليصلحوا ما أفسدوا.. ولكن هيهات.. هيهات.. - وقوله تعالى: «وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ» أي ومحكوم على أية قرية هلكت ألا يرجع أهلها مرة أخرى إلى الدنيا، أو أن يفرّوا من هذا العذاب المعدّ لهم. وفى التعبير عن الحكم بلفظ الحرام، تأكيد لهذا الحكم، وجعل عودتهم إلى الدنيا من المحرمات، التي إن ارتكبها المجرمون، فإنها لا تجىء من عند الله! تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا، فكما كتب سبحانه على نفسه الرحمة، حرّم سبحانه على نفسه أن يرجع الموتى إلى الدنيا مرة أخرى، وإنما يبعثهم للحساب والجزاء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 953 قوله تعالى: «حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ» .. يأجوج ومأجوج، وهم من الجماعات المفسدة فى الأرض، وقد ذكرهم الله تعالى فى قصة ذى القرنين، وقد أقام ذو القرنين فى وجههم سدّا، حتى لا ينفذوا منه إلى مواطن العمران، ويعيثوا فى الأرض مفسدين.. وفى هذا يقول ذو القرنين عن السدّ: «هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي.. فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا» وفى قوله تعالى: «حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ» إشارة إلى انهيار هذا السدّ، وفتح الطريق ليأجوج ومأجوج إلى الأمم المجاورة لهم.. والحدب: المكان المرتفع، ومنه الأحدب، الذي برز ظهره، وعلا. ثم انحنى.. ومنه الحدب، وهو الميل والعطف، وينسلون: أي يجيئون فى خفة وانطلاق.. كأنهم جراد منتشر.. هذا، وقد ربط القرآن خروج يأجوج ومأجوج بقرب الساعة.. والساعة قربت من يوم نزول القرآن، كما يقول تعالى: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ» وكما يقول سبحانه: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ» . وعلى هذا، فليس بالمستبعد أن يكون يأجوج ومأجوج قد خرجوا من هذا السدّ، بعد أن تداعى وانهار.. ومن يدرى؟ فلعلهم التتار الذين طلعوا على الدولة الإسلامية، وأتوا على معالم الحضارة، فى عاصمتها بغداد، وفى كل ما وقع لأيديهم من كل عامر، حتى لقد قيل إنهم ألقوا بما حوت الخزائن من كتب فى نهر دجلة، وكان هذا شيئا كثيرا سدّ به النهر! وربما كانت أمة الصين، التي كانت تعيش فى شبه عزلة عن العالم، وها هى ذى اليوم تتجمع وراء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 954 حدودها، وقد ملكت فى يدها القنبلة الذرية.. وإنه ليس ببعيد هذا اليوم الذي تغزو فيه العالم كلّه.. بهذا السلاح الرهيب..! وقد تحدثنا عن يأجوج ومأجوج، وما قيل فيهم من مقولات، فى تفسير سورة الكهف. قوله تعالى: «وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا.. يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ» . والوعد الحق.. هو يوم القيامة.. شاخصة أبصار الذين كفروا: أي جامدة، لا تطرف، من شدّة ما ترى من هول. والآية معطوفة على محذوف، هو غاية «حتى» فى قوله تعالى: «حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ» . والتقدير: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كلّ حدب ينسلون، وقع الفساد والاضطراب، واقترب الوعد الحق. حيث هذا النذير الذي يقوم بين يدى هذا اليوم، وهو ذلك الهول الذي تشخص له أبصار الذين كفروا يوم القيامة.. - وفى قوله تعالى: «فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا» إشارة إلى أن اقتراب الساعة، وظهور أماراتها، ومنها خروج يأجوج ومأجوج- يطلع منه على الكافرين ما تشخص به أبصارهم، فتظل الحدق معلقة فى الأعين، ثابتة لا تتحرك، للهول الذي يرونه.. إنهم فى طريقهم إلى الفزع الأكبر.. إلى جهنم، أعاذنا الله منها.. وقوله تعالى: «يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ» .. هو حكاية لما يتنادى به الكافرون يومئذ، وهم فى فزع القيامة، وبين يدى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 955 يومها الموعود.. إنهم يدعون بالويل والثبور، ويندبون أنفسهم وهم على طريق الهلاك. قوله تعالى: «إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ» . هو صوت الإغاثة الذي يغاث به الكافرون، وهم يولولون، ويندبون.. وإنه لصوت مفزع، يدخل عليهم بما يزيدهم كربا وجزعا: «إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ» أي إنكم الحصى الذي تحصب به جهنم، أي إنهم يلقون فيها هم وآلهتهم كما يلقى بالحصى فى حفرة، بلا وزن ولا حساب. قوله تعالى: «لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ» . أي لو كان هؤلاء الذين يعبدهم المشركون، آلهة ما وردوا جهنم، ولا دخلوها معهم.. إذ كيف يكون إلها من يلقى به فى جهنم؟ «وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ» أي كل من هذه الآلهة وعابديها، واردون جهنم وخالدون فيها.. وهؤلاء وأولئك جميعا يعانون من ألوان العذاب أهوالا، فأنفاسهم فى جهنم زفير متصل، مما يلفظونه من أجوافهم التي تغلى، وليس لهم فرصة يأخذون منها شهيقا وإن كان من لهب جهنم، وقد أصابهم الصمم من هذا الزفير المتلاحق، الذي لا يأذن لشىء يدخل إلى كيانهم.. والمعبودون هنا هم أولئك الضالّون المغرورون الذي دعوا الناس إلى عبادتهم وأقاموا أنفسهم آلهة عليهم. قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 956 وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» . تعرض هذه الآيات الثلاث ما يلقى المؤمنون يوم القيامة من ربهم، من كرامة وتكريم.. وقد وصفوا بأنهم الذين سبقت لهم من الله الحسنى، لأن إيمانهم بالله، وتوفيقهم للأعمال الصالحة، لم يكن إلا بما سبق من علم الله بهم، وإرادته فيهم، وأنهم كانوا فى علم الله، وبمقتضى إرادته من أصحاب اليمين.. هكذا خلقهم الله أزلا.. فلما جاءوا إلى هذه الدنيا، جروا على ما علم الله منهم، وعلى ما أراد لهم، فآمنوا، وعملوا الصالحات، وكانوا من عباد الله المكرمين.. فالإيمان والكفر، والهوى والضلال، وأصحاب الجنة وأصحاب النار.. كلّ ذلك فى علم الله القديم، وفى إرادته السابقة.. كما يقول سبحانه: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (2: التغابن) وكما يقول جلّ شأنه: «فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» (7: الشورى) . وقد شرحنا هذه القضية فى مبحث خاص تحت هذا العنوان: «مشيئة الله. ومشيئة العباد» . فهؤلاء الذين سبقت لهم من الله الحسنى، هم مبعدون عن تلك النّار التي يتقلب على جمرها، ولهيبها، الكافرون والضالون.. فلا يخلص إلى المؤمنين شىء من حرّها، ولا يصل إلى أسماعهم حسّ من زفيرها وشهيقها «لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها» حتى لا تتأذى مشاعرهم بهذه الأصوات الرهيبة، المفزعة، «وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ» أي أنهم يلقون فى الجنة ما تشتهى أنفسهم، من نعيم دائم لا ينقطع أبدا.. «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» أي أنهم لا يجزعون ليوم القيامة ولا يفزعون منه، إذ ملأ الله قلوبهم طمأنينة وأمنا، بما أراهم من فضله، وبما استقبلتهم به الملائكة من بشريات بهذا الفضل، إذ الملائكة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 957 يلقونهم على أول الطريق فى هذا اليوم، ويقولون لهم: «هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» أي هذا اليوم يوم جزاؤكم، ونعيمكم، ورضوانكم، الذي وعدكم الله به، ولن يخلف الله وعده.. فهيّا استقبلوا ما وعدكم الله من رضوان، وجنات لكم فيها نعيم مقيم. قوله تعالى: «يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ» . «يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ» ظرف متعلق بقوله تعالى: «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» لا يحزن الذين لهم من الله الحسنى، الفزع الأكبر فى هذا اليوم، الذي نطوى فيه السماء كطىّ السجل للكتب، وهو يوم القيامة، يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات.. ويصح أن يكون هذا الظرف «يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ» متعلقا بقوله تعالى: «نُعِيدُهُ» أي نعيد الخلق كما بدأناه، وذلك يوم نطوى السماء كطى السجل للكتب. وطىّ الشيء، ضمه، ولفّه كما يلفّ البساط ويطوى. وطى السماء، ضمها، ولفّها، فينكشف هذا السقف المعقود بها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً» .. فالسماء تطوى كما يطوى السّجلّ، بما كتب فيه، فهى تطوى بعوالمها كلها، من كواكب وشموس وأقمار.. والسجلّ: أصله الحجر، الذي يكتب عليه، ثم استعمل لكل ما يكتب عليه، من جلد وورق ونحوه.. وللكتب: أي على الكتب.. والكتب بمعنى المكتوبات. وهذا التحول فى العوالم العلوية والسفلية، إنما هو تصوير لما يقع فى مفهوم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 958 الإنسان، حين ينتقل إلى الدار الآخرة، حيث يشهد الوجود على غير ما يقع لحواسه ومدركاته وهو فى هذه الدنيا. وهذا يعنى أن الإنسان بعد أن يفارق هذا الجسد، يعود إلى عالم الرّوح، فينطلق من أسر هذا الجسد المحدود، ويسبح فى عالم ماوراء المادة، وهناك يرى الأرض، والسماء غير السماء.. كما يقول سبحانه: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» (48: إبراهيم) .. فهذا التبدل هو تبدّل فيما يقع على تصورات الإنسان ومدركاته، بانتقاله من العالم المادي إلى العالم الروحي.. وإلا فإن العوالم ثابتة على ما أقامها الله سبحانه وتعالى، فى هذا النظام المحكم. فالأمر إذن، ليس كما يتصور الذين أخذوا أوصاف يوم القيامة التي جاء بها القرآن، على هذا التصور الذي تذهب به معالم الوجود كلّه، وتنقلب أوضاع السموات والأرض.. وكلّا، فإن هذا الوجود العظيم، ليس للإنسان، ولا من أجل الإنسان، وإنما الإنسان ذرة من ذراته، وشىء من أشيائه.. وإن التغير والتبدل واقع عليه هو، فتتغير لذلك مدركاته، ويرى الوجود، والموجودات بعين غير التي يراها عليه، وهو فى هذا الكيان المادي.. وذلك يوم يكشف هذا العطاء المادىّ، الذي يحجب نظر الإنسان، ويحصره فى هذه الدائرة المحدودة الضيقة، وعندئذ يرى ما لم يكن ليراه فى عالمه المادىّ، كما يقول سبحانه: «فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» (22: ق) . وإذا صحّ الحديث الذي يروى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «من مات فقد قامت قيامته» فهذا يعنى أن كل من مات وانتقل إلى العالم الآخر، يرى الوجود قائما على هذه الصورة التي يصوّر فيها القرآن مشاهد القيامة، وما يتبدل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 959 من معالم الوجود.. فهو تبدل فى مدركات الإنسان وفى تصوراته، بعد خلاصه من الجسد وتحرره من أسر المادة.. - وفى قوله تعالى: «كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ» أي أننا نعيد الموتى وننشرهم كما خلقناهم ابتداء، فلا يصحّ للمشركين والكافرين، الذي يكذبون بيوم الدين، أن ينكروا هذا البعث، وأن يستبعدوه.. فهو أهون من الخلق ابتداء «أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ» .. «وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» (78، 79: يس) - وفى قوله تعالى: «أَوَّلَ خَلْقٍ» وفى تنكير «خَلْقٍ» ما يفيد الاستغراق والعموم، فهو بمعنى أول كل خلق.. كما يفيد أيضا أن كلّ مخلوق له خلق خاصّ به، وأن له من علم الله وقدرته وحكمته، نصيبه المقدور له.. وهذا خاصَّ به، وأن له من علم الله وقدرته وحكمته، نصيبه المقدور له.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ» (49: القمر) . - وقوله تعالى: «وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ» أي إن إعادة الموتى إلى الحياة مرة أخرى، للحساب والجزاء، هو أمر قضى الله به، ولا رادّ له.. وفى هذا يقول سبحانه: «ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ» (15- 16: المؤمنون) ويقول جل شأنه: «زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» (7: التغابن) . وهذا وعد من الله، ولن يخلف الله وعده وقد أكّده سبحانه بقوله: «إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ» .. وهو وعد لا يحتاج إلى توكيد، عند المؤمنين، وإنما التأكيد منظور فيه إلى الكافرين، الذين يكذبون بيوم الدين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 960 الآيات: (105- 112) [سورة الأنبياء (21) : الآيات 105 الى 112] وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112) التفسير: قوله تعالى: «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» .. المراد بالزّبور هنا- والله أعلم- الكتب السماوية، التي هى بعض الكتاب «الأم» ، كتاب الله، وهو مستودع علمه الذي لا ينفد.. وأصل الزبور: القطعة من الشيء وجمعه زبر، كما يقول تعالى: «آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ» والذكر: على هذا التقدير، هو أم الكتاب. والمعنى، أن الله سبحانه وتعالى كتب وقضى فى الكتب المنزلة على رسله بعد أن كان ذلك مسطورا فى الكتاب الأمّ- «أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» .. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 961 والمراد بميراثهم الأرض، أنهم هم الذين ينتفعون بحياتهم فيها، ويتزودون فيها الزاد الطيب، الذي يلقونه يوم القيامة، فيكون لهم مطية يجوزون بها النار إلى الجنة، حيث ينعمون ينعيمها الخالد.. فهذا كلّ ما يجنى من ثمر، وما يحصل من خير فى هذه الدنيا، وهو الذي يستحقّ أن يسمى ميراثا.. أما غير المؤمنين، فإنهم مهما ملكوا من هذه الدنيا، ومهما وقع لأيديهم منها من مال، وجاه، وسلطان- فلن يكون لهم من هذا شىء فى حياتهم الآخرة، بل سيكون عليهم وبالا وحسرة، على حين تمر بهم حياتهم الدنيا، وكأنها ضحوة يوم أو عشيته.. «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها» . (46: النازعات) . فالمراد بالميراث هنا، الميراث النافع، الذي يبقى لما بعد الموت، حيث يجده الإنسان، وكأنه فى حياته الثانية، قد ورث حياته الأولى.. أو كأنه هذا الحىّ فى الآخرة، الذي ورث هذا الميت الذي كان فى الدنيا.. وهذا هو بعض السرّ فى التعبير بكلمة «يَرِثُها» .. قوله تعالى: «إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ» .. أي إن فى هذا الذي تحدّث به القرآن الكريم من قصص، وما فيه من عبر- لبلاغا، أي لبيانا كاشفا شافيا.. أو أن فى هذا الحكم الذي ضمّت عليه الآية الكريمة: «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ..» - إن فى هذا لبيانا مبينا وحجة قاطعة، يتلقى منها العابدون العبرة والعظة. والمراد بالعابدين، المؤمنون، وقد ذكروا بالصفة الغالبة عليهم، وهى التعبد لله، والولاء له.. فلا يكون المؤمن مؤمنا إلا إذا عبد الله، وذكره، ذكرا متصلا.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 962 قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» . الخطاب للنبىّ صلوات الله وسلامه عليه، وأن الله سبحانه وتعالى إنما أرسله رحمة للناس جميعا.. كما يقول صلوات الله وسلامه عليه: «أنا رحمة مهداة» .. ويسأل سائل: كيف يكون النبىّ صلوات الله وسلامه عليه رحمة للعالمين جميعا. الناس كلّهم أسودهم وأحمرهم، وما بين أسودهم وأحمرهم، وقليل من كثيرهم أولئك الذين آمنوا به واهتدوا بهديه، وانتفعوا برسالته؟ كيف هذا، وقوله تعالى «لِلْعالَمِينَ» يفيد العموم والشمول؟ والجواب على هذا- والله أعلم- من وجوه: أولا: أن الهدى الذي جاء به- صلوات الله وسلامه عليه- هو خير ممدود للناس جميعا، وهو رحمة غير محجوزة عن أحد، بل إنها مبسوطة لكل إنسان، أيّا كان لونه وجنسه.. وفى هذا يقول الله تعالى لنبيه الكريم: «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ..» (158: الأعراف) فهو صلوات الله وسلامه عليه رحمة مهداة، يطرق بها باب كل إنسان، من غير أن يطلب لذلك أجرا، وليس على النبي- بعد هذا- أن يرغم المتأبّين عليه أن يقبلوا ما يقدمه هدية لهم.. إنه أشبه بالشمس، وهى رحمة عامة لكل حىّ.. ولكنّ كثيرا من الأحياء يعشون عن ضوئها، وكثير من الأحياء، إذا آذنهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 963 ضوؤها انجحروا وقضوا يومهم فى ظلام دامس.. فآية النهار قائمة، ولكنها بالنسبة لهم منسوخة غير عاملة. وثانيا: أن الذين آمنوا بهذا النبىّ، والذين يؤمنون به فى كل جيل من أجيال الناس، وفى كل أمة من الأمم، وفى كل جماعة من الجماعات، هم رحمة فى هذه الدنيا على أهلها جميعا، إذ كانوا- بما معهم من إيمان- عناصر خير، وخمائر رحمة، ومصابيح هدى.. وبهم تنكسر ضراوة الشر، وتخفّ وطأة الظلم، وترقّ كثافة الظلام. وثالثا: هذا الكتاب الذي تلقّاه النبي- صلوات الله وسلامه عليه- وحيا من ربّه، وهذه الآيات المضيئة التي نطق بها، والتي وعتها الآذان، وسلجتها الصحف.. كل هذا رحمة قائمة فى الناس جميعا، وميراث من النور والهدى، يستهدى به الناس، ويصيبون منه ما يسع جهدهم، وما تطول أيديهم من خير.. وعلى هذا، فالمراد بالعالمين، الناس جميعا، منذ مبعث النبىّ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَرْسَلْناكَ» الذي يفهم منه أن الرحمة كانت منذ إرساله ومبعثه، صلوات الله وسلامه عليه.. قوله تعالى: «قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ.. فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» . هذه هى الرحمة التي يؤذّن بها النبىّ فى الناس، ويقدمها هدية لهم.. «أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» .. هذا هو مفتاح الرحمة، وذلك هو مفتاح الهدى.. فمن أمسك بقلبه هذا المفتاح، ثم أداره، فقد وضع يده على كنوز الخير كلها.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 964 - وفى قوله تعالى: «فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» .. هو تحريض للناس جميعا على الاستجابة لهذه الدعوة الكريمة، التي خفّف محملها، وغلا ثمنها.. إنها كلمة واحدة: «لا إله إلا الله» فما أخفها على اللسان، وما أطيب بردها على القلب، وما أقوم سبيلها إلى العقل!! فهل يلتوى بها فم؟ وهل يضيق بها صدر؟ وهل يزورّ بها عقل؟ إن ذلك لا يكون إلا عن آفات تغتال فطرة الإنسان، وتفسد كيانه. - وانظر فى قوله تعالى: «فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» ؟ لقد طلب منهم الإسلام أولا، وهو الإقرار باللسان، بهذه الكلمة السمحة السهلة.. ثم إنها بعد هذا كفيلة بأن تفعل فعلها فى كيان الإنسان، وتؤتى ثمراتها الطيبة المباركة كلّ حين.. إنها هى الكلمة الطيبة التي أشار إليها الله سبحانه وتعالى فى قوله: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها» (24، 25 إبراهيم) . إنها كلمة «لا إله إلا الله محمد رسول الله» . وأنت ترى فى هذا سماحة الإسلام، وأسلوبه الرائع المعجز فى دعوة الناس إلى الهدى.. إنه يلقاهم بأيسر السبل، وأخفّ الأمور.. حتى إذا ذاقوا حلاوة الإيمان، واطمأنت قلوبهم بكلمة التوحيد، وجدوا فى أنفسهم القدرة على احتمال التكاليف الشرعية، والوفاء بها.. إنها المدخل الذي يدخل منه الإنسان إلى الإيمان.. ثم يغرس ما شاء أن يغرس من خير، ويجنى ما قدر الله له أن يجنى من ثمر!! ففى سنن أبى داود عن جابر بن عبد الله قال: «اشترطت ثقيف على النبىّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 965 صلى الله عليه وسلم، أن لا صدقة «1» عليها ولا جهاد، فقال صلوات الله وسلامه عليه: «سيتصدّقون ويجاهدون إذا أسلموا» ! ولا شكّ أن هذا أقوم أسلوب، وأعدل منهج فى التربية، حيث التدرج من السهل إلى الصعب.. خطوة خطوة، حتى يبلغ المرء مأمنه، وحتى يدخل الإيمان قلبه، ويخالط مشاعره. قوله تعالى: «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ.. وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ» وهذا هو موقف النبي ودعوته، ممن لم يستمعوا له، ويستجيبوا لما يدعوهم إليه.. «فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ» أي أعلمتم بما أرسلت به إليكم.. والأمر بينى وبينكم الآن، وبعد أن توليتم قد عاد إلى ما كنّا عليه من قبل.. أنا على دينى، وأنتم على دينكم.. وأنا لى عملى، وأنتم لكم عملكم.. أنتم بريئون مما أعمل وأنا برىء مما تعملون، وستعلمون عاقبة ما أنذرتكم به.. أما متى يكون هذا؟ فعلمه عند ربى، وما أدرى أقريب هذا أم بعيد؟ إن ربى الذي يعلم كلّ شىء، لا يخفى عليه من أمركم شىء.. سواء منكم من أسرّ القول ومن جهر به!. قوله تعالى: «وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ» . إن هنا هي المخففة من إنّ الثقيلة، وليست نافية، كما جاءت فى الآية   (1) المراد بالصدقة هنا، الزكاة، وهى ركن من أركان الدين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 966 السابقة: «وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ» .. على ما ذهب إليه المفسّرون.. والمعنى: إننى وإن كنت لا أدرى أقريب أم بعيد ما توعدون، فإننى أدرى هذا الذي أنتم فيه من شرود عن الله بما فى أيديكم من مال ومتاع.. لعله فتنة لكم، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً» وإنه «مَتاعٌ إِلى حِينٍ» أي متاع إلى أجل محدود لا تتجاوزونه.. فلستم خالدين فى هذه الدنيا، وليس فى أيديكم ضمان لهذا المتاع الذي معكم، فقد تصبحون وليس فى أيديكم شىء منه.. وقد جاء الخبر مصحوبا بلعلّ التي تفيد الرجاء، لأن ذلك الخبر ليس على سبيل القطع بالنسبة للمخاطبين جميعا.. فإن فيهم من يثوب إلى رشده، ويستجيب للدعوة، ويدخل فى دين الله.. قوله تعالى: «قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ» . هو حكاية لقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه، الذي يعقّب به على هذا الموقف الذي بينه وبين المشركين، الذين يقفون منه هذا الموقف المنادي فيدعو ربّه أن يحكم بينه وبين هؤلاء المشركين، والضالين «بِالْحَقِّ» فيعطى كلّا حقّه.. ماله، وما عليه. والله سبحانه وتعالى لا يحكم إلا «بِالْحَقِّ» وفى قول النبىّ «احْكُمْ بِالْحَقِّ» تطمين لهؤلاء المشركين الضالين، وهو أنه إذ يدعوهم إلى الاحتكام إلى الله، فإنما يدعوهم إلى من يحكم بالحقّ، وهو لا يطلب من الله سبحانه محاباة له، إذ كان مؤمنا بالله وهم أعداء لله.. إنه لا يريد غير الحق، من الحق جل وعلا وهذا شأن الواثق من الحق الذي فى يده.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 967 ويجوز أن يكون المراد «بِالْحَقِّ» هنا، الحقّ الذي يعلمه النبىّ، وينتظره من ربّه.. فأل فى «الحق» للعهد، أي الحق المعروف، المعهود عند الله، وليس طلب النبىّ الحكم بالحق إلا إحالة للأمر الذي بينه وبين قومه إلى صاحب الأمر يقضى فيه بحكمه. وقوله تعالى: «وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ» . هو خاتمة هذه السورة ... وفى هذه الخاتمة ينهى النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- موقفه مع قومه، مع الضالين والمعاندين، بأن يتركهم لحكم الله فيهم، وقضائه بينه وبينهم، وهو حكم عدل، وقضاء حق.. أما ما يجد النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- من خلافهم عليه، واتّهامهم له، ورميهم إياه بتلك الرّميات الطائشة، كقولهم عنه: إنه شاعر، وإنه مجنون، وإنه ساحر- فذلك مما يستعين الله على حمله منهم، من غير أن يحمل لهم ضغينة، أو يخرج به ذلك على غير ما يريده من الله لهم، من هداية، إلى أن يدعو عليهم، كما دعا كثير من الأنبياء على أقوامهم، فأخذوا بعذاب الله، ووقع بهم البلاء وهم ينظرون.. فما جاء صلوات الله وسلامه عليه إلا رحمة للعالمين، وهو بهذه الرحمة حريص على أن ينال قومه وأهله حظّهم منها.. فإن لم ينل المعاندين والمنكرين شىء من هذه الرحمة، فلا أقلّ من ألا يصيبهم عذاب فى هذه الدنيا، كما أصيبت الأمم الأخرى.. أمّا فى الآخرة فأمرهم إلى الله، يحكم فيهم بما شاء، وهو أحكم الحاكمين.. ولقد مضى النبىّ فى طريق دعوته، صابرا، مصابرا، يلقى المساءة بالإحسان الجزء: 9 ¦ الصفحة: 968 والأذى بالمغفرة، حتى إنهم ليخرجونه من البلد الحرام، ويزعجونه من بيته وأهله.. ثم يجمعون جموعهم فى جيش لجب، يريدون أن يدخلوا عليه المدينة موطنه الذي هاجر إليه، فيلقاهم النبىّ بهذا العدد القليل من أصحابه فى بدر، فتكون الدائرة عليهم، وينصر الله النبىّ وأصحابه نصرا عزيزا.. ثم لا يأخذ القوم من هذا آية، ولا يتلقون منها عبرة وعظة، بل يعاودون الكرة فى العام التالي، ويجيئون إلى المدينة طالبين الثأر لبدر، وقد حشدوا للمعركة، ما يملكون من قوة.. ويلتقى بهم النبي وأصحابه من المهاجرين والأنصار فى أحد.. وينتصر المسلمون أولا، ثم يهزمون، ويصاب النبىّ ويسيل دمه، وتنكسر رباعيته، ويقتل نفر كرام من أهله وأصحابه، ومنهم عمّه حمزة، ويرفع رسول الله بصره إلى السماء، وفى قلبه أسى وحسرة، وكأنه يهمّ أن يسأل ربّه أن يأخذ له من هؤلاء المعتدين الآثمين.. ولكن تغلبه عاطفة المودة والرحمة، وإذا هذه الكلمات الحانية الودود تدفع من طريقها تلك الكلمات الثائرة الغضبى، وإذا شفتاه المباركتان، الطيبتان، المحسنتان، تردّدان فى ضراعة ضارعة: «اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون» .. فيا رسول الله، ويا خير خلقه، ويا صفوة أنبيائه، ويا خاتم رسله.. عليك صلوات الله وسلامه عليه ورحمته وبركاته.. ويا رسول الله، ويا رحمته المهداة للعالمين. عليك صلوات الله وملائكته والمؤمنين «إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ.. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 969 22- سورة الحجّ نزولها: اختلف فيها، فقال بعضهم: إنها مكية إلّا آيات، وقال آخرون: إنها مدنية إلّا آيات.. ونحن نغلّب الرأى القائل بأنها مدنية إلا بعض آيات منها فمكية.. ويكفى أن تسمّى سورة الحجّ، والحجّ إنما فرض بعد الهجرة. عدد آياتها: ثمان وسبعون آية. عدد كلماته: ألفان ومائتان، وإحدى وتسعون كلمة. عدد حروفها: خمسة آلاف وخمسة وسبعون حرفا. مناسبتها للسورة التي قبلها كانت سورة الأنبياء- السابقة على هذه السورة- حديثا متصلا عن أنبياء الله ورسله، وما ابتلاهم الله سبحانه وتعالى به من ضرّاء وسرّاء، ثم كانت عاقبتهم جميعا إلى العافية فى الدنيا، وإلى رضا الله ورضوانه فى الآخرة.. وقد بدئت هذه السورة- سورة الأنبياء- بهذا الخبر المثير: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ» ثم ختمت السورة بهذا البلاغ المبين، الذي جاء به قوله تعالى: «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» ثم تلتها الآيات التي تحدث عن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- وأنه المبعوث رحمة للعالمين، وأنه لا يحمل الناس حملا على الهدى الذي بين يديه، فمن تولّى، فما على النبىّ من أمره شىء.. والموعد الآخرة، حيث يفصل الله بين العباد.. وقد جاءت سورة الحج فبدأت بهذا الإعلان، أو هذا النذير الصارخ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 970 «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها.. وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ» . وواضح ما بين بدء هذه السورة، وبدء سورة الأنبياء وخاتمتها، وما بين بدئها وختامها من تلاق وتلاحم.. بحيث يمكن أن تقرأ سورة الحج فى أعقاب سورة الأنبياء، من غير فاصل بالبسملة، وكأنها بعض منها، وتعقيب على مقرراتها. بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 2) [سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) التفسير: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ... » بهذا الإعلام الصارخ المدوى تبدأ السورة الكريمة، منذرة الناس بهذا اليوم العظيم، يوم القيامة، منبهة لهم من غفلتهم، ملفتة لهم إلى ما هنالك من أهوال تشيب منها الولدان.. والإعلان عام للناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم، المنتبه لهذا اليوم، والمعدّ نفسه له، ومن أنكره وكفر به، أو كان فى غفلة عنه.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 971 وذلك التعميم الذي يشمل الناس جميعا، إنما هو لأن أهوال هذا اليوم لا يكاد يتصورها أحد، لأنها تخرج عن دائرة التصور البشرى، وتجىء على صورة لم تقع للناس فى حياتهم الأولى، على رغم ما وقع لهم من أهوال، وما نزل بهم من بلاء.. ومن هنا كان الذين يؤمنون بالآخرة، ولا يعملون لها، مطالبون بأن ينتبهوا، وأن يعملوا أكثر مما عملوا.. فإنهم- على يقظتهم، وعلى خوفهم من لقاء ربّهم، وعلى إعدادهم ليوم اللقاء- إنهم مع هذا كله أشبه بالغافلين.. فإن الهول شديد، وأن الموقف لا يمكن تصوره.. ومن هنا أيضا كان المؤمن فى حاجة دائمة إلى تذكر هذا اليوم، وإلى الحياة معه، وإلى العمل له، وإنه مهما أكثر من عمل، فإنه قليل إلى المطلوب منه لهذا اليوم، لو علم هوله، وتصور صورته. وقوله تعالى: «إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ» هو عرض لهذا اليوم العظيم، وما يقع فيه من أهوال، وما يطلع به على الناس من مفزعات.. والزلزلة، الهزّة والرّعدة، وهى الإرهاصات التي تقوم بين يدى هذا اليوم. قوله تعالى: «يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ» . هو «لقطات» من مشاهد هذا اليوم.. فمجرد رؤية ما يطلع فى هذا اليوم، يأخذ على الناس عقولهم، وأسماعهم وأبصارهم.. فتذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت، وتضع كلّ ذات حمل حملها.. حيث لا يملك أحد- مع هذا البلاء- شيئا من نفسه، فتتعطل فيه الأجهزة «العاملة» الإرادية منها وغير الإرادية.. ويصبح مجرد شبح يتحرك كما تتحرك الأشباح! والصورة هنا مجازية، فليس هناك مرضع حتى تذهل عن رضيعها، ولا حامل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 972 حتى تلقى بما فى رحمها.. والمراد أنه لو طلعت الساعة على الناس فى دنياهم، وأرتهم زلزلة منها، لذهلت كل مرضعة عما أرضعت، ولألقت كل ذات حمل حملها.. ويجوز أن يكون المراد بوضع الحمل العموم والشمول، أي كل شىء يحمل، سواء أكان ما فى الأرحام من أجنة، أو ما مع الناس من أمور يشغلون بها، ويحرصون عليها.. وبهذا يكون المراد بذات الحمل: النفس. ويمكن أن تكون هذه الصورة حقيقية، وأن من يشهد من الناس إرهاصات الساعة، ونذرها، قبل أن تقع، يقع لهم هذا.. فكيف بالساعة نفسها، حين ينكشف أمرها كله؟. وقوله تعالى: «وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ» . هو عرض لصورة من صور الساعة بين يدى نذرها.. فهذه النذر تقلب أوضاع الحياة، وتطلع على الناس بما لم يروه فى حياتهم من مذهلات.. وهذا ما بشير إليه قوله تعالى: «وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا.. يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا.. بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ» (97: الأنبياء) الآيات: (3- 5) [سورة الحج (22) : الآيات 3 الى 5] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 973 التفسير: قوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ» . مناسبة هذه الآية لما قبلها. أنها تعرض وجها من وجوه المشركين، المكذبين بيوم القيامة، التي جاءت الآيتان السابقتان منذرتين بها، محذرتين من أهوالها.. ومع هذه الأهوال العظيمة، والأحداث المزلزلة التي تلقى الناس يوم القيامة، فإن كثيرا من الناس لاهون عنها، مستخفّون بها، يأخذون كل حديث عنها مأخذ السخرية والعبث، بهذا الجدل العقيم، الذي يسلم المرء فيه عقله لهواه، فيرمى بالكلام على أي وجه يقع.. - وفى قوله تعالى: «وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ» إشارة إلى أن هذا الصنف من الناس، لا يسعى إلى تحصيل علم فى الأمر الذي يجادل فيه، وهو البعث، وكأنه أمر لا يعنيه، ولا يريد أن يدخل على نفسه أىّ شعور به، يزحزح تلك المشاعر التي ارتبط بها بالدنيا.. فهو منقاد لهواه، متبع لشيطانه.. وهو شيطان قوى بالنسبة لهذا الإنسان الأحمق، الذي التقى هواه مع هوى الشيطان! قوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ» . هو وصف للشيطان، وهو أنه قد كتب عليه، أي حكم عليه من الله سبحانه وتعالى ألا يتولاه، ويستجيب له، إلا الضالّون الخاسرون من عباده: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 974 كما يقول سبحانه وتعالى: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ» (42 الحجر) . وكما يقول جل شأنه: «اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً» . (63: الإسراء) الحياة.. وخالق الحياة قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» . أكثر ما يكون الجدل فى قضية الإيمان يدور حول «البعث» حتى إن كثيرا من الذين يعترفون بوجود الإله الخالق، الذي بيده ملكوت السموات والأرض، يكذبون، أو يشكّون فى إمكان البعث ووقوعه. وهذا ناشىء عن فساد فى العقيدة، وعن قصور فى إدراك بعض ما لله سبحانه وتعالى من كمال مطلق، فى ذاته وصفاته.. وأن قدرته سبحانه مطلقة من كل حد وقيد.. وإذا كان للشك فى البعث ما يبرره عند الذين ينكرون الله، ولا يؤمنون بوجوده، فإنه ليس له وجه يقبل عليه من الذين يقولون إنهم يؤمنون بإله واحد!! وهذا شان اليهود، فإنهم مع إيمانهم بالله، فإن تصورهم المريض لجلال الألوهية وعظمتها، جعلهم ينظرون إلى الله، وكأنه كائن مادىّ محدود، لا يقدر على إعادة الأجسام بعد البلى والدثور.. ثم كان حبهم للحياة، وتعلقهم بها مباعدا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 975 بينهم وبين ذكر الموت، وتصوره، وتصوّر ما بعده.. فإنّ ذكر البعث لا يجىء إلا بعد الإيمان بالموت كحقيقة واقعة، ثم استحضاره والإعداد له ولما بعده.. فهم كما وصفهم الله سبحانه وتعالى فى قوله: «وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ» (96: البقرة) .. فهم ومشركو العرب على سواء، فى تصورهم للبعث، فقد كان مشركو الجاهلية يؤمنون بالله، ولكنه إيمان باهت مختلط بكثير من الضلالات، الأمر الذي جعلهم ينكرون البعث ويقولون: «ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ» (24: الجاثية) . وهذه الآية الكريمة تشرح قضية البعث، وتعرضها هذا العرض المحسوس الواضح، الذي تكاد تمسك به اليد، ومن هنا كان العرض عاما، يدعى إليه الناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم، عالمهم وجاهلهم: - «يا أَيُّهَا النَّاسُ» .. اسمعوا هذا النداء، واشهدوا هذا العرض.. ثم احكموا بما ترون.. - «إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ» .. فانظروا أولا فى هذه الصورة، وتابعوا سيرها، خطوة خطوة، لتروا كيف بدأت، وكيف انتهت، ثم كيف كان البدء.. وكيف كانت النهاية: - «فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ» .. هكذا.. - «مِنْ تُرابٍ..» حيث كنتم بعض هذا التراب الذي ترون. لا وجود لكم ولا أثر يدلّ عليكم.. «ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ..» أي ومن هذا التراب نبتت شجرة إنسانية، هى الإنسان الأول.. ثم كان تناسلكم وتوالدكم، كما تتوالد، وتتناسل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 976 الكائنات الحية.. حيث يبدأ التناسل والتوالد بالنطفة، وهى ماء التناسل فى الكائن الحىّ.. «ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ» .. وهى صورة أولى من صور النطفة، حيث تنعقد النطفة. «ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ» هى صورة أولى من صور العلقة، حيث تتحول إلى قطعة من اللّحم، أشبه بلقمة مضغت حتى أصبحت أشبه بقطعة من العجين.. وهذه المضغة قد تكون مهيأة لاستقبال الحياة، فتعلق بالرحم، وتستقر فيه، حتى تستوفى مراحل نموّها، وتصبح جنينا، ثم وليدا يخرج إلى الحياة، وقد تكون غير مهيأة للحياة، فيلفظها الرحم.. - «لِنُبَيِّنَ لَكُمْ..» أي هذه المراحل التي تحول بها التراب، إلى مادة تأكلونها، ثم تخلّق من هذا المادّة «النطفة» التي هى بذرة الحياة، ثم تحولت النطفة إلى علقة، والعلقة إلى مضغة.. وهذه المضغة تقف على عتبة الحياة، وتطرق بابها.. فإما أن يؤذن لها بالدخول، فتأخذ طريقها حتى تخرج من الباب الآخر كائنا حيّا، وإما أن تردّ، وتعود إلى عالم التراب، الذي جاءت منه- هذه المراحل الأولى هى إعداد للحياة، وتمهيد للأرض التي تنبت فيها.. تماما كالبذرة من الحبّ، تمهدّ لها الأرض، ثم تودع فى التراب، ثم يساق إليها الماء.. وإلى هنا تكون كل وسائل الإنبات مستكملة مستوفاة فى ظاهر الأمر.. وهذا هو المطلوب من الإنسان أن يعمله، وأن يستكمل أسبابه حتى يجىء المسبّب..! ولكن بين الأسباب والمسبب، نظر لناظر، وعبرة لمعتبر! الجزء: 9 ¦ الصفحة: 977 فإذا كان الإنسان يملك أن يهيئ الأرض، ويبذر البذر، ويسوق إليه الماء.. فهل له يد يمكن أن يمدّها إلى تلك الأسباب المهيأة، والتي هى كلها أدوات لم يكن من صنعه شىء منها، بل كل سبب منها مسبب عن أسباب.. وكل سبب من هذه الأسباب، مسبب عن أسباب أخرى.. وهكذا- نقول: هل له يد يمكن أن يمدّها إلى تلك الأسباب، فيخرج منها النبات الذي بذر بذرته، وانتظر ثمرته؟ وإذا كان الإنسان يملك أن يجد فى كيانه النطفة، ثم يهيئ المكان الذي يقذفها فيه، ثم يقذف بالنطفة فى هذا المكان المهيأ لها- فهل له مجال هنا فى أن يزحزح تلك النطفة التي نزلت بمكانها المهيأ لها، ثم جهدت جهدها، فكانت علقة، ثم كانت العلقة مضغة- نقول: هل له مجال هنا فى أن يزحزح تلك النطفة- وقد أصبحت مضغة- إلى أبعد من هذا، وأن ينفخ فيها نفخة الحياة، وأن يمسك بها فى الرّحم؟ جواب واحد، ينطق به الحال، ويشهد له الواقع، وهو: «لا» ! إنه لا حول للإنسان ولا طول له، فى هذا الأمر أو ذاك، وإنه ليس إلا العجز، والتسليم، ليد قادرة، خالقة، مبدعة.. لا حدود لقدرتها، ولا نهاية لإبداعها. واستمع إلى قوله تعالى: «أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ؟» (58- 59: الواقعة) . هذا، عن النطفة، وعن آيات القدرة القادرة، وآثارها فيها.. «أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ؟ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ» (63- 67: الواقعة) .. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 978 وهذا عن النبات، وعن قدرة القادر، وصنعة الصّانع، فى أمر هو أقرب إلى الإنسان. وأيسر- فيما يبدو له- من عملية الخلق المعقدة، فى عالم الحيوان.. فهل له فى هذا أو ذاك يدان؟ وإلى هنا ونحن ما زلنا بعد على شاطىء الحياة، بعيدا عن أعماقها وأغوارها.! فإذا غرق الإنسان وهو ما زال على اليبس، فكيف به إذا خاض الماء، أو غاص فى أعماقه؟ إنه لأسلم للإنسان إذن أن يقف حيث هو، وأن يظلّ على الشاطئ، يشهد ببصره، أو ببصيرته ما يرى من آيات الله، وآثار قدرته ورحمته فى تلك «المضغة» !. وأيّة مضغة؟ إنها المضغة، المخلّقة، التي نفخ فيها الخالق النفخة الأولى للحياة.. أمّا المضغة غير المخلقة، فقد وقفت عند الشاطئ.. ترابا مع هذا التراب. فلنبدأ إذن فى متابعة هذه النطفة «المخلقة» ، ولنرصد مسيرتها.. مرحلة مرحلة.. «وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ» .. فها هى ذى النطفة الآن فى سفينة الحياة.. وها هى ذى السفينة تتحرك رويدا على صدر هذا المحيط العظيم.. «ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا» .. وها هى ذى السّفينة تضرب فى ثبج المحيط، وتختفى رويدا رويدا عن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 979 الأنظار.. ثم ها هى ذى تعود بحملها، وقد ثقلت، وكادت تتقطع أنفاسها، وتسقط فى اليمّ بما حملت! ولكن يد القدرة القادرة تمسك بها، حتى تبلغ الشاطئ، وتلقى بما حملت! وما هذا الحمل الذي ألقت به على شاطىء الحياة؟ ومن أين جاءت به؟ إنه تلك النطفة، أو المضغة التي أقلعت بها من الشاطئ.. ثم دارت بها تلك الدورة الطويلة، فتخلّق من هذه المضغة هذا «الطفل» الذي هو صورة كاملة مصغرة من هذا الإنسان الذي دفع به إلى السفينة نطفة، ثم ها هو ذا يستقبله إنسانا! وما أبعد ما بين النطفة والإنسان، فيما ترى العين، ويشهد العقل.. وما أقرب ما بين النطفة والإنسان فى يد الخالق، المبدع، المصوّر!. ثم ما هذا الطفل، أو ذلك الإنسان المصغر؟ إنه كائن لا يملك من أمره شيئا.. ولكن مهلا، فإن يد القدرة ممسكة بيده.. فانظر كيف تجعل من هذا الطفل رجلا، كما جعلت من النطفة طفلا! «ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ» . فها هو ذا الطفل فى يد القدرة القادرة، تمدّه بأسباب النّماء والقوة، يوما بعد يوم وحالا بعد حال.. وإذا هذه الكومة من اللحم المتحركة فى كيانها المحدود، تحبو، ثم تقفز كما تقفز الضفدع، ثم تمشى على أربع كما تمشى الدواب، ثم تقوم منتصبة القامة، تمشى على رجلين.. ثم.. وثم، وثم.. حتى يبلغ أشده وبصير رجلا.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 980 وهذا هو الإنسان فى أتمّ صورة وأكملها.. لقد كمل جسمه، وعقله.. وبلغ أشدّه. واللام فى قوله تعالى: «لِتَبْلُغُوا» هى لام العاقبة والغاية.. أي غاية النضج الإنسانى.. وهنا تبدأ لهذا الكائن مسيرة أخرى.. «وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً» . وإذ يبلغ الإنسان- مرحلة الشيخوخة- من العمر، يقف وقفة على عتبة الموت، أشبه بتلك الوقفة، التي وقفتها المضغة، على باب الحياة! فكما كانت المضغة هناك مخلّقة أو غير مخلّقة، يكون «الشيخ» هنا مخلّقا من حصاد الموت، أو غير مخلّف.. وهذا يعنى.. أولا: أن حدود الحياة الإنسانية، تنتهى غالبا عند مرحلة الشيخوخة.. حيث يستوفى الإنسان غايته، ويعطى الحياة كلّ ما عنده، ويأخذ منها كلّ ما هو قادر على أخذه منها. وثانيا: أن هذا لا يمنع من أن يسقط على هذا الطريق كثير من الناس، قبل أن يبلغوا هذه المرحلة.. من أجنّة، وأطفال، وصبيان، وغلمان، وشباب.. تماما كما تتساقط بعض ثمار الفاكهة، زهرا، أو حصرما، أو رطبا. كما لا يمنع أيضا من أن يجاوز الإنسان مرحلة الشيخوخة، فيكون من مخلفات الحياة.. تماما كمخلفات الثمر، الذي يجفّ، وهو لا يزال ممسكا بغصن الشجرة.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 981 وثالثا: إمساك الحياة ببعض «الشيوخ» حتى يبلغوا أرذل العمر، هو وجه مقابل لحياة الطفولة فى الإنسان.. حيث ينحدر الإنسان شيئا فشيئا، ويتدلّى قليلا قليلا حتى يقع على الأرض، فيصبح كومة من اللحم، يضرب برأسه على الأرض لتفتح له رحمها، وتهيئ له مكانا فيه.. تماما كالجنين، حين تفتّح له رحم أمه.. فخرج منه.. إنها دورة فى نصف دائرة.. أشبه بالشمس فى شروقها وغروبها.. ثم لا بد أن تتم هذه الدورة لتكون دائرة كاملة، فهذا هو نظام الكون فى أفلاكه جميعا، إنها تدور فى دائرة كاملة.. والإنسان ما هو إلا كون من هذه الأكوان.. يشرق، ثمّ يغرب، وبذلك يتم نصف دورته.. أما النصف الآخر فيقطعه وراء هذا العالم- عالم الظاهر- ثم يعود ليطلع من جديد فى عالم الظهور!. وفى التعبير القرآنى عن امتداد العمر إلى ما بعد الشيخوخة بقوله تعالى: «أَرْذَلِ الْعُمُرِ» إشارة إلى أن هذه النهاية التي ينتهى إليها الإنسان فى مسيرة حياته، هى أرذل مرحلة، وأخسّها، وأسوؤها فى حياته.. إذ بها يتحول الإنسان إلى كائن هو مسخ لهذا الإنسان.. حيث تأخذ منه الحياة كل يوم شيئا، وتستردّ شيئا فشيئا ممّا كانت قد أعطته.. لقد استقبلته الحياة وليدا، فأرضعته من ثديها، النّماء، والقوة، والإدراك، والعلم، والمعرفة.. وما يزال هذا دأبها به حتى يبلغ غايته، ويستوفى كل ما يمكن أن تعطيه طبيعته.. وهنا تدعه الحياة ينفق مما أخذ منها، وفى كل يوم ينقص رصيده الذي ادخره، من النماء والقوة والإدراك والعلم والمعرفة.. وهكذا يتقلّص الجزء: 9 ¦ الصفحة: 982 ظل هذا الرصيد شيئا فشيئا حتى يصبح ظلالا باهتة.. ثم يختفى، ويذوب، كما يذوب الثلج تحت حرارة الشمس.. وشتّان بين بدء الحياة وختامها.. بين وهج الطفولة وتوقدها، وخمود الشيخوخة وبرودتها.. بين إقبال الحياة وإدبارها.. بين الشروق والغروب، بين رحلة الحياة ورحلة الموت!! - وفى قوله تعالى: «لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً» هو عرض لصورة الحياة والموت معا، فى هذا الإنسان الذي ردّ إلى أرذل العمر، ونكّس فى الخلق.. هو حىّ ميت، أو ميت حىّ.. إنه يعود من حيث بدأ، فقد جاء إلى الحياة لا يعلم شيئا، كما يقول سبحانه: «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً..» (78: النحل) وها هو ذا يعود طفلا «لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً» .. والتعليل بقوله تعالى: «لِكَيْلا يَعْلَمَ» لا يتوّجه به إلى إنسان بعينه، وإنما هو موجّه إلى الناس عامة، وإلى منكرى البعث خاصة، ليروا فى هذا الإنسان، الشاهد الحىّ، الذي ينطق بأن الحياة والموت وجهان متقابلان، وأنه كما يموت الحىّ، يحيا الميّت.. وفى نظرة مشرقة صافية يمكن أن تتجلّى فى قوله تعالى: «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ» (95: الأنعام) صورة من صور إخراج الحىّ من الميت، وإخراج الميت من الحىّ، فى مسيرة الإنسان على طريق الحياة، من مولده إلى مماته.. أي من طفولته إلى أرذل عمره وتنكيسه فى الخلق.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 983 فهو فى بدء طفولته.. ميت حىّ.. وهو فى أرذل عمره حىّ ميت! وما أدقّ وأبرع قول المعرّى: وكالنّار الحياة.. فمن رماد ... أواخرها وأولها دخان فالحياة- كما يصورها المعرى- جذوة من نار، تبدأ دخانا، وهو أول ما يكون من النار، ثم تنتهى إلى رماد، وهو آخر ما يكون منها.. وفى قوله تعالى: «وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» .. عرض لصورة من صور الإحياء، والبعث، يراها أولو الأبصار، حالا بعد حال، فيما يسفر عنه وجه الأرض، من حياة متجددة عليها، ومن أثواب تلبسها، وحلى تتحلى بها، بعد أن كانت أرضا مواتا، لا معلم من معالم الحياة فيها.. فهذه الأرض الجديب القفر، يأخذها الإنسان بنظره اليوم، فإذا هى- كما يرى- موات فى موات، وصمت موحش رهيب، كصمت القبور.. ثم إذا أصابها الماء، وغاثها الغيث، «اهْتَزَّتْ» هزّة الحياة، ونبضت عروقها، وسرت الروح فى أوصالها.. «وَرَبَتْ» ونمت كما ينمو الطفل.. «وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» فإذا كرّ الناظر إليها بصره كرّة أخرى، رأى هذا الموات قد أصبح حياة مزهرة مثمرة، تملأ العين بهجة ومسرّة. فماذا إذن ينكره المنكرون من بعث الموتى؟ وهل هذه القبور وما ضمّت عليه من جثث وأشلاء ورفات، تتراءى فيها صور الآدميين الذين عمروها- هل هذه القبور أبعد من بعث الحياة فيها، وإخراج خبئها- من الأرض الجديب الميتة، التي أحياها الله، فاهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج؟ ذلك ما لا يقبله عقل، ولا يرضاه منطق!. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 984 تلك هى «قضية البعث» .. وهذه هى حيثياتها، يجدها الإنسان فى نفسه هو، من مولده إلى مماته.. فإن أعياه النظر إلى نفسه، وجدها فى الأرض التي يمشى عليها.. فإن عمى عن هذا وذاك، فهيهات أن يرى وجه الحقّ أبدا. فإن ذلك العمى من عمى القلب، الذي ليس لمصاب به شفاء، والله سبحانه وتعالى يقول: «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» (46: الحج) .. وهنا نحبّ أن نقف وقفة مع عملية «الخلق» وبعث الحياة فى المخلوقات. فهذه العملية، عملية «الخلق» ، هى مما استأثر الله سبحانه وتعالى به، ليس لأحد من مخلوقاته أن يكون له معه شركة فيه.. وفى هذا يقول الله تعالى: «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» (54: الأعراف) .. هكذا على سبيل القصر.. فلله وجه- بلا مشاركة- «الْخَلْقُ» وهو الإيجاد، والتصوير، وبعث الحياة فى الموجودات والمصوّرات.. «وَالْأَمْرُ» وهو التقدير، لخلق ما يخلق وتصوير ما يصور.. «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» . هذا، وتتطلع الإنسانية دائما إلى كشف هذا السرّ- سرّ الحياة- ويحاول العلماء والباحثون أن يصلوا إلى تلك الحقيقة، وأن يضبطوا قوانينها، وأن يضعوا أيديهم عليها، حتى يكون لهم أن يخلقوا ما يشاءون من مخلوقات، وأن يتحكموا فيما يخلقون.. من إناث أو ذكور، على اختلاف الألوان والصور!. وقد أجرى كثير من العلماء تجارب عديدة فى هذا المجال، وزرعوا واستنبتوا فى مخابرهم خمائر للحياة.. ولكن ذلك كلّه لم يصل بهم إلى شىء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 985 مما أرادوا، وكلّ ما أمسكوا به فى أيديهم، هو صور باهتة، إن دلّت على شىء، فإنما تدلّ على تأكيد هذه الحقيقة، وهى أن «الخلق» لله وحده، وأن غاية العلم، لا تتجاوز أبدا أكثر من هذه الوقفة على شاطىء الحياة، بعيدا عن لمس بحرها العميق.. إن كلّ ما يجريه العلماء من بحوث، وما يضعونه من موادّ فى مخابيرهم وأنابيبهم، هو من عناصر الحياة نفسها، التي خلقها الخالق جلّ وعلا.. وأن هذه الأطياف من الحياة التي تطلّ على العلماء من مخابيرهم وأنابيبهم، إنما هى من بذور الحياة التي أوجدها الخالق، وقدّر لها سبلا تسلكها، لتثمر ثمر الحياة، فغيّر العلماء سبيلها، وعدلوا بها عن طريقها المرسوم، الذي خطّته لها القدرة الإلهية..! فإذا نجح العلم فى هذا التدبير، واستطاع أن يصل إلى شىء من صور الخلق- وهيهات- فإن ذلك لا يعدو أن يكون نبتة من نبات تلك البذرة التي أوجدها الخالق، وكل ما كان من العلم والعلماء، هو أشبه بنقل نبات من تربة غير تربته، واستنبات نوع من النبات فى غير موطنه. والذي نحبّ أن ننبه إليه هنا، هو أن الإسلام- شريعة وعقيدة- لا ينظر إلى تلك المحاولات التي يحاولها العلم فى حقل الحياة- نظرة متكرهة أو معادية، بل إنه يزكّى هذا البحث العلمي، ويطلق للإنسان العنان فى البحث والدرس، وإجراء ما يشاء من التجارب فى عملية الخلق، فهذا كله قراءة فى كتاب الكون، وتأمل وتدبّر فى آيات الله.. وما يصل إليه الإنسان من كشوف علمية، وحقائق كونية، هو منظور إليه من جانب الإسلام على أنّه رسالة العلم، فى الكشف عن قدرة الله، وعلمه، وحكمته.. الأمر الذي يفتح للناس الطريق إلى الإيمان بالله، ويجلّى عن عقولهم وقلوبهم غياهب الشك والشرك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 986 والإلحاد.. وهنا يمكن أن يقوم العلم فى الدعوة إلى الله، مقام الرسل والأنبياء! .. ومن جهة أخرى، فإن العلماء الذين يبلغ بهم علمهم هذا المدى الذي يطلعون منه على الناس بهذه الآيات المعجزة- هؤلاء العلماء هم فى الواقع آية من آيات الله.. فما هم إلا صنعة الخالق، الذي خلق فسوّى، فجعل من ابن الماء والطين، هذه القوة القادرة على أن تجىء بهذا الإعجاز العظيم.. فمر حى بالعلم، ومزيدا من آياته ومعجزاته.. فحصاد هذا كلّه، وثمر هذا كله، عائد إلى الإنسان، فى حياته المادية والعقلية والروحية.. وما كان لدين- أي دين- أن يعطل ملكات الإنسان، أو يقيد يديه عن العمل فى كل مجال يستطيع العمل فيه- سواء أخطأ أم أصاب، مادام يطلب الخير، ويلقى إليه، بشباكه فى الأرض أو فى السماء..! على أن هناك حقيقة، نودّ أن نضعها بين يدى العلماء، دون أن نقطع الطريق عليهم فيما هم سائرون إليه، نحو البحث عن الحياة، واستيلاد الأحياء، أو خلقهم، ودون أن ندخل اليأس عليهم، ونوصد فى وجههم هذا الباب.. فنحن وإن كنا على يقين بأن العلم- فى عالم البشر- لن يخلق الحياة أبدا، فإننا ندعو إلى مزيد من البحث والانطلاق فى هذا المجال إلى أبعد غاية، فإن هذا البحث- فى الواقع- لن يضيع هباء، بل إنه سينمّى معارف الإنسان، ويزيده علما إلى علم.. ومن يدرى؟ فلعل العلماء إذا أخطأهم الوصول إلى «الحياة» وفاتهم الحصول على سرّها، لعلهم يجدون فى طريقهم أسرارا أخرى، هى أجدى على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 987 الإنسانية وأنفع لها، فيما يدفع عن هذه «الحياة» ما يعانيه الناس من غوائل الأوبئة والأمراض.. أما الحقيقة التي أريد أن أصارح العلماء بها، فهى ما صرّح به القرآن الكريم فى الجزء الأخير من هذه السورة، وهو قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ.. إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ.. وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ.. ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ» . فهذه آية متحدّية، للناس، ولما يعبد الناس من مخلوقين يرونهم آلهة، بما فى أيديهم من سلطان مادى أو روحى.. فالناس، فردا فردا، وجماعة جماعة.. «لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً» .. وهو أضأل المخلوقات وأضعفها.. «وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ» .. واحتشدوا له من أقطار لأرض كلها، وجاءوا بكل ما معهم من علم.. والذباب لا يعدو أن يكون دودة متخلّقة من مخلقات المواد القذرة والمتعفنة، فهو- بهذه الصورة- أدنى مراتب الحياة، وأنزل منازلها.. ومع هذا فإن الناس كلهم لن يخرج من أيديهم بكل ما معهم من علم، أن يخلقوا ذبابة واحدة! وأكثر من هذا، فإن هذا الذباب الذي عجزوا عن خلقه، هو- فى حال من أحواله- أقوى منهم، وأقدر على الكيد لهم.. وأنه إذا سلبهم سيئا لا يستنقذونه منه، ولا يستطيعون له ردّا.. والذباب أنواع كثيرة.. منه الذباب المعروف، ومنه ذباب الفاكهة، ومنه الزنابير وغيرها.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 988 فهب أن طائفة من هذه الطوائف، خلت بطعام فالتهمته، أو وقعت على شجرة من أشجار الفاكهة فأتت عليها- أيكون فى مستطاع أحد أن يستردّ ما أكل الذباب؟ ذلك محال.. وفى التعبير عن أكل الذباب «بالسلب» إشارة إلى أن ما أكله لم يكن عن رضى من أصحاب هذا المأكول.. فهو أشبه بالسلب والغصب، وفى هذا إظهار لضعف الإنسان، ووقوعه تحت بأس هذا المخلوق الضعيف، الذي يعدّ أضعف ما خلق الله، فى عالم الأحياء! وفى قوله تعالى: «ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ» تعريض بالإنسان، وبغروره الذي يخيّل إليه أنه يخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولا.. إنه والذباب على سواء، كلاهما عاجر ضعيف.. وإن كان الذباب- فى بعض الأحوال- أقوى منه، وأقدر على الكيد له! وليس هذا التصوير لضعف الإنسان، استخفافا به، وإطفاء لجذوة الطموح المتّقدة فى كيانه، وإنما هو استشفاء للإنسان من داء الغرور، الذي كثيرا ما يستبدّ به، ويفسد عليه وجوده، فإذا هو- وقد استوى على ظهر الغرور- قوة غاشمة، وإعصار مجنون، وعاصفة هو جاء، تهلك الحرث والنسل، حتى إذا انطلقت إلى غايتها دارت حول نفسها دورة، ثم هوت كما تهوى الصاعقة فى الوحل والطين! إن الإسلام ليستقبل كل ما يفتح به العلم للناس من أسرار الوجود، فى حفاوة وإعزاز، إذ كان ذلك- كما قلنا- هو الطريق المستقيم إلى الله، وهو الذي يقيم العقول والقلوب على الإيمان بالله، إيمانا مصفّى من كل ريب، مبرأ من كل ضعف.. فهذا الكون هو كتاب مفتوح لكل ناظر، وآيات الله المبثوثة فى هذا الوجود، هى مراد لأنظار العلماء، ومسبح لخواطرهم ومداركهم.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 989 وليس على أحد حرج فى أن ينظر فى الكون كيف يشاء، ويسبح فى الوجود حيث يريد.. بل إن هذا الوجود لا يحسن التعامل معه، ولا يقطف من جنى ثمره الطيب، إلا أهل العلم والمعرفة، وأنه على قدر ما يبلغ الإنسان من العلم يكون حظه من التلقي والانتفاع بهذا الخير المخبوء فى صدر الكون.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ» (43: العنكبوت) . ومرة أخرى.. مرحّى بالعلم، ومزيدا من جهاد العلماء، ومن فتوحاتهم فى آفاق هذا الوجود، الذي على الرغم من هذا السعى الجادّ لكشف أسراره، وعلى الرغم مما يبذل العلماء فى كل عصر، وفى كل أمة من جهود مضنية وتضحيات سخية فى هذا المجال- فإن الإنسانية ما زالت على الشاطئ بعد، لم تكد تبتلّ أقدمها من بحر المعرفة.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» (85: الاسراء) . الآيات: (6- 14) [سورة الحج (22) : الآيات 6 الى 14] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 990 التفسير: قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ» . الإشارة هنا، إلى هذا العرض الرائع المعجز، الذي كشف عن آيات الله المبثوثة فى هذا الوجود، والتي تتجلى فيها عجائب قدرة الله، وحكمته، وعلمه، وذلك فيما تحدثت به الآية السابقة عن خلق الإنسان، وتطوره فى الخلق، من تراب ثم من نطفة، ثم من، علقة، ثم من مضغة مخلّقة وغير مخلقة، ثم الميلاد، والطفولة، والصّبا، والشباب، والكهولة والشيخوخة، وما بعد الشيخوخة.. فذلك البيان، إنما هو ليرى منه الناس دلائل الإيمان بأن الله هو الإله الحقّ، وما سواه باطل وضلال، وأنه- سبحانه- يحيى الموتى، وأنه على كل شىء قدير، لا يعجزه شىء، ولا تقف أمام قدرته حدود أو سدود.. فإذا أخبر- سبحانه- أن الساعة آتية، فذلك وعد حقّ، لا بدّ من أن يتحقق، وليس لمؤمن بالله هذا الإيمان الذي قام على النظر فى عجائب صنع الله- ليس لمؤمن عندئذ أن يسأل بعد هذا، عن إمكانية البعث، وعن الصورة التي يكون عليها.. وإنما عليه أن يؤمن إيمانا مطلقا بأن الساعة آتية، وأن الله يبعث من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 991 فى القبور.. أما متى تأتى فذلك علمه عند الله.. وأما كيف يكون المبعث فذلك إلى قدرة الله!! قوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ» . تحدّثت الآيات السابقة عن صنف من المجادلين بغير علم حيث يتصدّى الواحد منهم بجهله، لكل رأى، ويدخل فى كل قضية، آخذا الطّرف المنحرف منها، دون أن يكون له رأى نظر فيه بعقله، وهدى إليه بتفكيره. وإنما هو الخلاف عن هوى وعمى، ليثبت وجوده أمام نفسه، ويعلن عن ذاته بأنه من أصحاب الرأى، وأنه إذا كان للعلماء ما يقولون، فإن له هو ما يقول!! وفى هذه الآية أصناف من الناس، يجادلون بغير علم من أنفسهم، أو بهدى من غيرهم، أو عن كتاب صحيح فى أيديهم، ليجمع الواحد منهم هذه الضلالات كلها.. فيكون جاهلا فى نفسه، ثم يكون متأبّيا على من يدعوه إلى العلم، ثم يكون مع هذا غير ناظر فى كتاب صحيح.. ومع هذا فهو يجادل فى الحق، ويدفعه بيديه دفعا. وقد يجادل أحدهم وهو جاهل لا علم عنده، ولكنّه يردّد كلمات سمعها من غيره دون أن يعقلها، ويتعرف إلى ما فيها من هدى وضلال.. ثم يتخذ من هذه الكلمات مادة للجدل.. وقد يستند أحدهم فى جدله إلى كتاب قد دخل عليه الافتراء والكذب، فاختلط فيه الحق بالباطل.. وفى ذلك تعريض بأهل الكتاب- وخاصة اليهود- الذين زيّفوا التوراة، ثم استقبلوا بها النبىّ يجادلونه، ويجاجّونه بما فيها من أحكام وأخبار، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ» .. فالكتاب الذي كان منحرفا، غير ملتزم طريق الحق، كان قوة عاتية من قوى الضلال والفساد. إنه يقود إلى الضلال والظلام.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 992 قوله تعالى: «ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ» . أي أن هذا المجادل الجهول، يجادل، وهو ثان عطفه، أي مائل بجنبه، تيها وكبرا، واستنكافا عن أن يسمع دعوة الحقّ، وهو مقبل عليها بوجهه، بل يعطيها ظهره، أو يلقاها بجنبه، إمعانا فى الكبر، ومبالغة فى العناد. وفى قوله تعالى: «لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» - إشارة إلى أنه بفعله هذا قد أراد أمرا، هو إضلال نفسه، وإبعادها عن الخير.. إنه يحسب أنه يكيد بهذا لمن يدعوه إلى الله، وهو فى الواقع إنما يكيد لنفسه، ويوردها موارد الهلال، كما يورد الذين اتبعوه هذا المورد. «لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ» وذلك بما يرى من إعزاز الله للنبىّ والمؤمنين، ومن خذلانه سبحانه وإذلاله لجبهة الكافرين والمشركين، الذين كان هذا الضالّ مظاهرا لهم، ومحاربا فى جبهتهم.. «وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ» وكما أنه لم يكن يقع فى حسابه أن يجىء اليوم الذي تنهار جبهة الكفر، وتتعفّر فيه جباه الكافرين بالتراب، وقد جاء هذا اليوم الذي أخزاه وأذله- كذلك لم يكن يقع فى تقديره أن يبعث، وأن يجىء يوم القيامة، وأن يحاسب على ما قدم من آثام- ألا فليعلم أن هذا اليوم آيات لا ريب فيه، وسيلقى العذاب المهين فى الآخرة، كما لقى الخزي والهوان فى الدنيا.. قوله تعالى: «ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 993 أي أن ذلك العذاب الذي يساق إليه هذا الضال وأمثاله، إنما هو بسبب ما قدمت يداه من سوء، فوجد هذا السوء حاضرا، ينتظره على مشارف جهنم.. «وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» .. بل يجزيهم بما عملوا من حسن أو سوء: «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» (31: النجم) . وفى نفى المبالغة فى الظلم عن الله فى قوله تعالى: «وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» - إشارة إلى أن ما يلقى الضالون، والآثمون من عذاب فى الآخرة، جزاء ما عملوا- هو عذاب شديد، وبلاء عظيم، لم يعرفه الناس فى حياتهم الدنيا.. وحتى أن الناظر إلى سوء هذا العذاب- ليستكثره، ويرى أن لا ذنب- وإن عظم- يستحق به صاحبه بغض هذا العذاب، وحتى ليقع فى نفسه أن ظلما شديدا وقع على هذا الإنسان المنكود، الذي يشوى بنار جهنم، هكذا على مدى السنين والدهور.. لا يموت فيها ولا يحيا.. وكلا، فإنه لا ظلم، ولا مبالغة فى ظلم، وإنما هو الحق، والعدل، وإن كان عذاب السعير، والخلود فى هذا العذاب.. قوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ.. ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ» . وهذا صنف آخر من الناس.. وهذا الصنف، يقف على مفارق الطريق بين الإيمان والكفر.. يضع إحدى رجليه على طريق الإيمان، ويضع الأخرى على طريق الكفر.. إنه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 994 يعبد الله على حرف، أي على جانب واحد، دون أن يعطى الله وجوده كلّه. فإن أصابه فى دنياه خير ومسّته عافية، اطمأن، ووضع رجليه معا على طريق الإيمان.. وإن أصابه شىء ابتلى به فى ماله، أو ولده أو نفسه «انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ» أي أعطى الإيمان ظهره.. وأنكر الله، وتنكّر له، ونسى نعمته عليه، وإحسانه إليه. وهذا نفاق مع الله، أقبح وجها، وأشد نكرا من النفاق الذي يعيش به المنافقون فى الناس.. إنه مكر بالله، واستخفاف به- وفى قوله تعالى: «خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ» إشارة إلى أن هذا النفاق مع الله يقضى على صاحبه بخسران الدنيا والآخرة جميعا.. فهو قد خسر الدنيا، لأن ما ابتلاه الله، لا يدفعه عنه هذا الكفر بالله، الذي لقى به ابتلاء الله له.. وهو قد خسر الآخرة، لأنه سيلقى الله على كفره هذا، وللكافرين عذاب أليم. وقوله تعالى: «ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ» أي الخسران العظيم الواضح، الذي ليس فيه شبهة.. إذ كانت خسارة الدنيا فيه محققة، لأنها وقعت فعلا، ولو كان مؤمنا بالله، لوجد فى التسليم له والرضا بقضائه، عزاء يخفف من مصابه، ويهوّن من مصيبته.. وخسارة الآخرة ستتحقق أيضا، لأنها واقعة لا شك فيها، إذ هكذا سيعلم هذا الذي يعبد الله على حرف، وإن فتنه الابتلاء، وأضلّه عن سواء السبيل.. قوله تعالى: «يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 995 أي أن هذا الضالّ، الذي يعبد الله على حرف، إذا ولّى وجهه إلى غير الله، حين يبتلى من الله بضر- فإنما يزداد ضلالا إلى ضلال، وابتلاء إلى ابتلاء، لأنه يفرّ من وجه الله، ويفزع من بلائه إلى من لا يملك ضرّا ولا نفعا.. إنه جهد ضائع، وعمل فاسد.. وذلك هو الضلال البعيد.. وفى تقديم الضرّ على النّفع، إشارة إلى أن هذه المعبودات التي تعبد من دون الله، لا تملك الضرّ، الذي يملكه لله وحده، والذي يفرّ منه هذا الضال الذي إن شاء الله ضاعف عليه البلاء، ورماه بالضرّ بعد الضرّ.. ففى هذا تهديد لهذا الضال، أن يأخذه الله، بابتلاء آخر، يتبع هذا الابتلاء الذي ابتلى به، وكفر بالله من أجله.. قوله تعالى: «يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ» . أي أن هذا الضال الذي دعا غير الله لكشف ضرّه، إنما يدعو من يضرّ ولا ينفع، وفيه يصدق قول القائل: المستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنّار فالالتجاء إلى غير الله، مضلة، إذ لا يملك أحد معه من الأمر شيئا.. «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ» (107: يونس) . وهؤلاء الذين يلجأ إليهم المكروبون، من أصنام، أو حيوان، أو إنسان، إنما ضرّهم أقرب وأكثر من نفعهم.. ذلك أنهم إن وجد فيها عابدوهم بعض الراحة النفسية بما يداعب خيالهم من آمال كاذبة، وهم يفزعون إليهم، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 996 ويضرعون تحت أقدامهم، فإن الأمر سينجلى عن خيبة، وينكشف عن حسرة إذ كان قد فاتهم أن يعملوا جهدهم فى علاج البلاء الذي وقع بهم، أو أن يوطّنوا النفس على احتماله.. فإذا انكشف الأمر عن عجز هؤلاء المعبودين عن مدّ العون فى هذا الموقف، كان الخطب أفدح، والمصيبة أعظم.. وهكذا شأن كثير من الذين يفزعون إلى الأضرحة، ويتعلقون بأبوابها، وأستارها، ويتمسحون بأعتابها وترابها، كلما مسّهم ضر، أو كربهم كرب.. فتراهم هناك يقضون أيامهم ولياليهم فى ترديد عبارات الرجاء، وطلب الغوث، غير ناظرين إلى ما طرفهم من أحداث، وما جلّ بهم من ضرّ، فلا يعاجلونه بالجدّ والعمل، ولا يلقونه بالأسباب العاملة فى دفعه، أو تخفيف أثره، منتظرين هذه القوى الخفية التي يلمحونها من وراء تلك الأضرحة أن تقوم عنهم بما كان يجب أن يقوموا هم به، وأن تتولى عنهم ما كان ينبغى أن يتولوه هم بأنفسهم.. ومن غير دخول أو تعرّض إلى ما تضمّ هذه الأضرحة من صلاح وتقوى فيمن أودعوا فيها من عباد الله الصالحين.. ومن غير اعتراض أو تعرض لما ولأولياء الله من كرامات فى الدنيا. ومن غير بحث أو جدل فيما قد يكون أو لا يكون من اتصال كراماتهم فى حياتهم، وبعد موتهم- فإن الذي يقضى به العقل، وتوجيه سنن الحياة، هو أن تعالج الأمور بأسبابها، وأن يؤتى إليها من أبوابها، وأن يلقاها الأحياء بواقع الحياة، وألّا يسلموها إلى تلك الغيبيّات التي لا يرون مجرياتها، ولا يدرون ما تأتى وما تدع من أمور.. هذا ما يقضى به العقل، وما تفرضه سنن الحياة..! وهو عين ما يقضى به الإيمان بالله.. حيث أوجب الإيمان على المؤمنين أن يعملوا، وأن يواجهوا الحياة بعقولهم، وحواسّهم، وقواهم العقلية والجسدية معا، وأن يتقبلوا بعد هذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 997 ما يعطيهم جهدهم من ثمر قليل أو كثير، فإن أصابهم خير حمدوا الله وشكروا له، وإن أصابهم ضرّ استعانوا الله بالصبر عليه، والتمسوا العافية وكشف الضرّ منه..! هذا هو سبيل المؤمنين، الذين يمتثلون أمر الله سبحانه بالعمل، كما يقول سبحانه: «وَقُلِ اعْمَلُوا» ثم يسلمون أمورهم كلّها له سبحانه.. غير ناظرين إلى غيره، أو طامعين فى غير فضل من فضله أو رحمة من رحمته..! هذا وقد أشرنا إلى هذا فى مبحث خاص، تحت عنوان: «الوسيلة والتوسل» فليرجع إليه من شاء «1» . وفى قوله تعالى: «لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ» هو ذمّ لهؤلاء المعبودين لا من حيث ذواتهم وأشخاصهم، وإنما من حيث العون الذي ينتظره العابدون منهم.. فهم لا يملكون لهم من الله شيئا، كما يقول سبحانه وتعالى: «إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ» (14: فاطر) .. فالذمّ متجه إلى الثمرة المرجوّة من هؤلاء المعبودين.. إنها سراب ينخدع له أولئك الذين تتعلق أبصارهم به، وتنعقد آمالهم عليه.. والمولى: هو القريب، والسيد.. الذي يرجى عونه ونصرنه. والعشير: المعاشر من أهل وأقارب.. ويجوز أن يكون الذم متوجها إلى المعبودين، من أصنام أو ناس يدعون الناس إلى عبادتهم..   (1) انظر الكتاب الثالث من التفسير القرآنى للقرآن. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 998 قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ» . هو صورة مقابلة للمشركين والكافرين، وما حصلوه من التعبد لغير الله.. فقد كان جزاؤهم الخزي فى الدنيا، والعذاب الأليم فى الآخرة.. أما الذين تعبدوا لله، وأعطوه ولاءهم، ودانوا له بالطاعة، وتقربوا إليه بالأعمال الصالحة، فقد ربحوا ربحا عظيما، حيث أعزهم الله فى الدنيا، وأنزلهم فى الآخرة منازل الرضوان، فى جنات تجرى من تحتها الأنهار. وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ» إشارة إلى سلطان الله وقدرته ومشيئته المطلقة، وأنه يفعل ما يريد، دون معترض أو معوق، أو معقب.. وفى هذا تعريض بالآلهة التي يعبدها الضالون من دون الله، حيث هى فى قيد العجز، لا تملك ضرّا ولا نفعا.. الآيات: (15- 18) [سورة الحج (22) : الآيات 15 الى 18] مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 999 التفسير: قوله تعالى: «مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ» . هذه الآية تعرض تجربة عملية، تدعو إليها أولئك الذين يعبدون الله على حرف فيؤمنون به إن أصابهم خير، ويكفرون به إن مسهم ضر.. وهذه التجربة وإن لم يمكن إجراؤها إجراء واقعيا، فإنه يمكن أن تمثّل وتتصور تصورا.. وهو أن يمد الإنسان سببا، أي حبلا إلى السماء وأن يتخذ من هذا الحبل سلّما يصعد به إلى أعلى، ويرقى إلى منازل العزة والسيادة- فإن فعل هذا، وحدثته نفسه أن هذا لا يحقق له شيئا مما يريد، فليقطع هذا الحبل، ثم لينظر هل ينفعه كيده.. هذا فى قطع الحبل؟ إنه قطع السبب الذي كان من الممكن أن يصعد به، وإنه ليس من وسيلة إلى ذلك إلا بمثل هذا الحبل الممدود.. وأما وقد قطع الحبل، فإنه سيهوى إلى الأرض، ويسقط جثة هامدة لاصقا بالأرض، لا يبرحها أبدا.. والصورة- كما قلنا- قائمة على التمثيل، والتخيل.. فالذى يؤمن بالله، هو كمن مدّ حبلا بينه وبين ربه، وأمسك بالسبب الذي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1000 يستطيع به أن ينال من الله ما وعده، من عزة ونصر فى الدنيا، وخير ونعيم كبير فى الآخرة.. فإذا شك هذا المؤمن فى أن ينال من الله ما وعده، وهو ممسك بهذا السبب الذي بينه وبين ربه، فليقطع هذا السبب، وليخل يده منه.. ثم لينظر ماذا يكون من أمره؟ أنه سيجد نفسه قد سقط على هذا التراب، ولصق به، ثم لا يكون له بعد ذلك سبيل إلى أن يتحرك نحو هذا الخير القائم على طريق هذا السبب الممدود بينه وبين السماء! .. إن الإيمان بالله هو السبب- ولا سبب غيره- الذي يمكن أن ينال به الإنسان القرب من ربه، والتعرض لفضله وإحسانه.. فإذا قطع هذا السبب، فقد قطع كل سبب يدنيه من الله، ويفتح له مغالق السعادة والرضوان.. فإذا وقع لهذا المؤمن بالله، ما تضيق به نفسه من البلاء، وما يظنّ به الظنون بربّه، فليكفر بالله، ثم لينظر ماذا يجدى عليه كفره؟ هل يكشف عنه البلاء الذي نزل؟ وهل يدفع عنه الضرّ الذي وقع به؟ إن يكن قد نفعه ذلك- وهذا محال- فليمسك بكفره، وإلا فليعد إلى الإيمان، وليشدّ يده عليه، وإن أضرّه الضرّ، وكربه الكرب.. إنه ممسك بحبل النجاة فى متلاطم الموج، وإن من الضلال أن يقطع هذا الحبل مختارا، ففى ذلك ضلال محقق، على حين أنه يكون فى معرض النجاة ما دام ممسكا بحبل النجاة! قوله تعالى: «وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ» . الإشارة هنا إلى هذه الآية الكريمة، وما فيها من حجة قاطعة، ومثل واضح بيّن، على أن طريق النجاة هو الإيمان بالله، وأن هذا الإيمان هو حبل النجاة، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1001 فمن لم يمسك به فهو فى الهالكين، ومن أمسك به، ثم قطعه فهو فى الهالكين أيضا. والضمير فى «أَنْزَلْناهُ» يعود إلى القرآن الكريم، وأن آياته كلّها آيات بيّنات كهذه الآية البيّنة، التي صورت الإيمان بالله هذا التصوير الواضح البين. وفى قوله تعالى: «وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ» - إشارة إلى أن آيات الله مع وضوحها وبيانها، لا يهتدى بها، إلا من أراد الله له الهداية، وفتح بصره وقلبه إليها، وأراه الهدى والنّور منها.. «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً» (17: الكهف) . قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا.. إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ.. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» . هذا بيان للناس جميعا، على اختلاف معتقدهم فى الله.. وهم: الذين آمنوا إيمانا خالصا بالله. وهم المؤمنون. والذين هادوا.. وهم اليهود. والصابئون.. وهم من أنكروا وجود الخالق أصلا.. والنصارى.. وهم الذين عبدوا المسيح من دون الله. والمجوس.. وهم الذين عبدوا النّار، تقربا إلى الله، كما عبد المشركون الأصنام، تقربا إلى الله. - هؤلاء هم الناس جميعا، وهؤلاء جميعا يفصل الله بينهم يوم القيامة، ويميز المهتدين من الضالين منهم، ويجزى كلّا بما كسب.. «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» فهو- سبحانه- عالم بكل فريق منهم، وبكل فرد من كل طائفة فيهم، لا تخفى عليه خافية، من كبير أعمالهم وصغيرها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1002 هذا، ويلاحظ هنا: أولا: «أن الذين هادوا والصابئين، والنصارى، والمجوس، والذين أشركوا.. هؤلاء جميعا ليسوا فى عداد المؤمنين بالله.. وذلك لما شاب إيمانهم من قليل أو كثير، من الضلال والفساد.. ولهذا جاء ذكرهم كأصناف أخرى، خارجة عن صنف المؤمنين. وثانيا: جاء نظم هذه الآية فى سورة المائدة هكذا: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» (الآية: 69) . والناظر فى الآيتين يرى: أولا: أن الآية الأولى- آية الحج- لم تعتدّ بإيمان غير إيمان المؤمنين بالله. وأن الآية الثانية- آية المائدة- قد دعت المؤمنين وغير المؤمنين من هؤلاء الطوائف إلى الإيمان بالله والعمل الصالح، وأن من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.. وذلك لأن الإيمان- لكى يكون إيمانا صحيحا- لا بد أن يصحبه عمل، فالإيمان بلا عمل، كلا إيمان.. ومن هنا كان على المؤمنين لكى يدخلوا فى الحكم الذي قضت به الآية، وهو قوله تعالى: «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» - كان عليهم أن يكملوا إيمانهم بالعمل الصالح، فهم بغير العمل الصالح مؤمنون، وغير مؤمنين!. وثانيا: أن الآية الأولى- آية الحج- عطفت «الصَّابِئِينَ» عطف نسق على ما قبلها، كما عطفت ما بعدها عطف نسق عليها، حيث دخل الجميع تحت حكم النصب بأداة النصب «إن» .. على خلاف ما جاء فى آية المائدة، حيث انقطع «الصابئون» قبلهم ومن بعدهم.. فما السرّ فى هذا؟ والسرّ- والله أعلم- أن آية المائدة تدعو المؤمنين وغير المؤمنين إلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1003 منزلة لا ينالها إلا من يحقق الأمرين معا: الإيمان، والعمل الصالح. والمؤمنون.. مؤمنون ولا شبهة فى إيمانهم. واليهود.. مؤمنون، وفى إيمانهم شبهة، وهى أنهم يؤمنون بالله، ولا يؤمنون باليوم الآخر. والنصارى مؤمنون بالمسيح ابنا لله، فهو إيمان مشبوه. أما «الصَّابِئُونَ» فهم لا يعترفون بإله قائم على هذا الوجود، بل هم دهريّون، أو طبيعيون. ولهذا، عزلوا عن هذه الطوائف الثلاث، لأنهم أبعد الناس عن الإيمان، ومع هذا فإن شأنهم شأن هؤلاء المؤمنين على اختلاف وضعهم من الإيمان، وأنهم إذا آمنوا بالله وعملوا الصالحات- دخلوا فى هذا الحكم العام: «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» .. أما من ذكروا فى آية الحجّ فهم على منزلة واحدة فى الحكم الذي يؤخذون به يوم القيامة، وهو أن الله يفصل بينهم، على الحال التي يكون عليها كل منهم.. وثالثا: لم تذكر آية المائدة، المجوس، ولا المشركين، على حين ذكرتهم آية الحج.. والسرّ فى هذا- والله أعلم- أن المجوس والذين أشركوا، هم على صورة مشابهة لليهود والنصارى فى إيمانهم إيمانا مشوبا بالضلال.. فلم يذكروا عند الدعوة إلى تصحيح إيمانهم، لأن فساد إيمانهم أظهر من فساد إيمان اليهود والنصارى، إذ كان مع اليهود والنصارى شبهة إيمان بالكتب السماوية التي معهم، على حين لم يكن المجوس والمشركين شىء من هذا، فهم مطالبون- من باب أولى- بتصحيح إيمانهم، بصورة ألزم من مطالبة اليهود والنصارى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1004 بتصحيح معتقدهم فى الله، وإيمانهم به.. ففى ذكر اليهود والنصارى ذكر ضمنىّ- ومن باب أولى- للمجوس والذين أشركوا. أما فى موقف الفصل والحساب والجزاء، فكل طائفة على منزلتها.. فكان لا بدّ من ذكر المؤمنين، ومن ذكر من معهم شبهة من الإيمان، وهم اليهود، والنصارى، والمجوس، ومن لا شبهة من إيمان معهم، وهم الصابئة والمشركون.. وذلك حتى لا يقع فى وهم المجوس والذين أشركوا، أنهم غير مأخوذين بهذا الحكم، وأنهم ناجون من الحساب والجزاء.. ففى موقف الفصل والجزاء يأخذ كلّ مكانه، لا مع الطائفة التي ينتمى إليها وحسب، بل سيأخذ مكانه الخاصّ به فى الطائفة التي هو منها قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ» . فى هذه الآية تعريض بالكافرين والمشركين، وغيرهم، ممن لا يعطون ولاءهم خالصا لله.. فعلى حين أن الوجود كلّه قائم على هذا الولاء المطلق الخالص لله- فإن كثيرا من الناس- والناس وحدهم فى عالمنا- يخرجون على هذا الولاء العام المطلق لله، ويأبون أن يسجدوا له، فإن سجدوا كان سجودهم لغير الله.. وهذا فوق أنه كفر بالله، وجحود بآلائه ونعمه، هو شرود وضلال عن الاتجاه العام، الذي يتجه إليه الكون كلّه، وسباحة متحدية للتيار الهادر الذي لا يغالب، والذي لا يلبث أن يغرق فيه كلّ من سبح فى غير مجراه! الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1005 إن من فى السموات ومن فى الأرض، من عوالم ومخلوقات كبيرة أو صغيرة، عاقلة، أو غير عاقلة، حيّة أو جامدة.. كلها تسبح بحمد الله، وتنقاد لمشيئته، وتخضع لأمره.. إلّا هذا الصنف الشقىّ الضالّ من بنى الإنسان! وإن هؤلاء الأشقياء، لفى عزلة عن هذا الوجود، بل وفى حرب معه.. إنهم أشبه بجماعة من الخارجين على نظام المجتمع والعابثين بحرماته ومقدّساته.. فالمجتمع كله حرب عليهم، وإنهم لن يفلتوا من عقابه!. وتسبيح الكائنات بحمد الله، هو فى جريانها على سنن الله التي أقامها عليها.. فهى لا تخرج أبدا عن هذه السّنن، ولا تفلت من عقد الوجود الذي انتظمت فى سلكه، وكانت حبّة من حبّاته.. «لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ!» (40: يس) وفى هذا انقياد لله، وولاء له.. والإنسان وحده- فيما يظهر لنا- هو الذي منحه الله إرادة عاملة، ومشيئة تسمح له بأن يختار الطريق الذي يرضاه، دون قهر أو إلزام.. وليست كذلك الكائنات الأخرى، التي لا تملك هذه الإرادة، ولا تجد تلك المشيئة، إنها مسخّرة، على حين أن الإنسان مخيّر ومريد.. إنها لا تملك من أمرها شيئا، على حين أن الإنسان هو سيد نفسه، ومالك أمره.. وهذا تكريم من الله له، إذ جعله سبحانه وتعالى على صورة أقرب إلى صورته، فجعله مريدا، عالما، مختارا.. كما يشير إلى ذلك الحديث: «خلق الله آدم على صورته» . وهذا التكريم، هو ابتلاء لآدم، وهو الأمانة التي حملها، وأبت السموات والأرض أن يحملنها وأشفقن منها.. وكان عليه أن يثبت لهذا الامتحان، وأن يؤدى الأمانة التي حملها، حتى يكون أهلا لهذا التكريم، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1006 وإلّا كان عليه أن يتحمل تبعة نكوصه وتخاذله، وأن يتجرع مرارة هذا الإخفاق، وأن يخلع ثوب الإنسانية، ليعيش مسخا قزما، مشوّه الخلق بين أبناء جنسه، الذين اعتدل خلقهم، وسلمت لهم فطرتهم، وذلك هو الشقاء الأليم والعذاب المهين.. - قوله تعالى: «وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ» معطوف على قوله سبحانه: «يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ» .. أي ويسجد له كثير من الناس.. - وفى قوله تعالى: «وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ» هو استئناف، أي وكثير من الناس لا يسجدون لله، فحق عليهم العذاب.. أي وجب ولزم.. وفى قوله تعالى: «عَلَيْهِ» بدلا من «عليهم» إشارة إلى أن هذا الصنف من الناس الذي أبى السجود لله، هو فى عداد غير العقلاء.. «أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ» (179: الأعراف) فهم وإن كانوا أعدادا كثيرة، أشبه بكيان واحد يجمع كتلة متضخمة من الضلال والفساد.. قوله تعالى: «وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ» - هو موجّه إلى تلك الجماعات التي شردت عن الحق، وضلّت عن سواء السبيل، وهى كلّ الطوائف غير المؤمنة التي أشار إليها سبحانه وتعالى فى قوله: «وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ» .. فهؤلاء ممن أهانهم الله، إذ لم يدعهم إليه، ولم ينزلهم منازل رضوانه، فشردوا وضلّوا.. فالكفر بالله هو أمارة الإهانة من الله للكافر، إذ لم يكن أهلا لأن يدعى إلى جناب الله، مع من دعوا إليه من عباده الذين آمنوا، لما اشتمل عليه كيانه من داء خبيث، لا ينبغى له أن يخالطه الأصحّاء ومعه هذا المرض، الذي يفتال إنسانيته، ويفسد معالمها. - وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ» هو ردّ على سؤال أو تساؤل، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1007 قد يرد على لسان بعض الناس.. وهو: لماذا أهان الله هؤلاء الذين لم يؤمنوا به؟ ولماذا لم يدعهم إلى الإيمان، كما دعا المؤمنين وأراد لهم الإيمان؟ فكان الجواب: «إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ» ! فمن كان له حيلة فليحتل، ومن كان له مع الله شىء فليأت به! .. فلتخرس الألسنة إذن، وليحمد المؤمنون الله أن هداهم إلى الإيمان، وليدع الضالون ربّهم أن يهديهم.. «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً» (17: الكهف) الآيات: (19- 25) [سورة الحج (22) : الآيات 19 الى 25] هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) التفسير: قوله تعالى: «هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ.. فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1008 مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ..» . الخصمان: هما المؤمنون، والكافرون على اختلاف ضلالاتهم.. واختصامهم فى ربهم، هو اختلافهم فيه.. فالمؤمنون على طريق إلى الله، والمشركون والكافرون ومن على شاكلتهم، على طرق شتى تختلف عن هذا الطريق.. فهذا الاختلاف، هو أشبه بالخصام الذي يفرّق بين المتخاصمين.. ثم بينت الآيات بعد هذا، ما أعدّ الله لكل من هذين الخصمين المختصمين فى الله، من عذاب، أو نعيم. - «فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ» أي أنهم يلبسون النار، أو تلبسهم النار، فيكونون كيانا واحدا معها، بحيث تشتمل على الجسد كلّه، وتغطيه، كما يغطى بالثوب! ثم مازال هناك شىء من الجسد لا تغطيه الثياب، وهو الرأس، الذي يغطى بالعمائم، والتيجان، ونحو هذا.. وإذن فلتتوج رءوسهم، ولكن بتيجان من نار، وبعمائم من جهنم. - «يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ» ، وهو الماء الذي يغلى فيشوى وجوههم ثم يتخلل تلك الثياب، فيصهر ما فى بطونهم من أمعاء، وأكباد، وقلوب، وغيرها مما تحويه البطون.. كما يصهر الجلود، ويذيبها فتكون كتلة مذابة مع اللحم والعظم.. وليس هذا فحسب.. بل إن لهم طرائف يطرفون بها، كما كانوا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1009 يطرفون فى الدنيا بألوان النعيم الذي شغلهم عن الله.. فهناك «مَقامِعُ» أي مطارق من حديد.. لعلها تعمل تلقائيا من نفسها.. كلما أرادوا أن يخرجوا من ثيابهم النارية تلك، أخذوا بهذه المقامع، فردّوا فيها.. وقيل لهم اخسئوا، وذوقوا عذاب الحريق.. وهذه الصور من ألوان العذاب، هو مما يتصوره الناس فى الدنيا، بل ومما يأخذون به بعضهم بعضا.. فكم من صور هذا العذاب الجهنّمى استخدمه الجبابرة والظلمة فى تعذيب من يخرج على سلطانهم، ويتحدّى تسلطهم وجبروتهم.. فهذا العذاب الدنيوي يجده المجرمون يوم القيامة حاضرا عتيدا، فيما يجدون من صور شتى من عذاب الآخرة، وذلك ليذوقوا ما أذاقوه للناس فى دنياهم، وليسقوا بكأس كانوا يجدون اللذة فى أن يتجرع الناس مرارتها، سواء أكان عذاب الآخرة حسيا أو معنويا، جسديا أو نفسيا، وليست هذه الصور الحسيّة التي ذكرها القرآن لعذاب الآخرة، من ثياب من نار، ومن مقامع من حديد، ومن سلاسل وأغلال، ليست بالتي تتنافى مع العذاب النفسي، فما أكثر ما تتجسد صور العذاب فى النفس، ويجد الإنسان للآلام النفسية وقعا مثل ما يجده من الآلام الجسدية.. وأقرب مثل لهذا ما يقع للإنسان فى حال النوم من رؤى وأحلام مزعجة، أو مسعدة.. إنه يعيش فيها بكيانه كله، جسدا وروحا، وإن كان الواقع أن الروح هى التي تتلقى هذه الرؤى وتلك الأحلام، وتتعامل بها، وهى فى انطلاقها بعيدا أو قريبا من الجسد.. قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1010 الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ» . فى ذكر الله سبحانه وتعالى هنا، هذا الذكر المؤكد، تكريم للمؤمنين، واحتفاء بهم، وأن الله تبارك وتعالى هو الذي يتولى إدخالهم الجنة، ولا يدع هذا لملائكته.. مبالغة فى تكريمهم، فضلا منه، وكرما، ورحمة.. «إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» .. فإذا أدخلهم الله سبحانه وتعالى الجنة، حلّوا فيها بأساور من ذهب، ولؤلؤا، فى مواضع شتّى، من أجسامهم، كأن يكون لهم من اللؤلؤ قلائد، أو تيجان، ونحو هذا، هذا إلى ما يلبسون من ملابس رقيقة، من حرير.. وهذه الحلىّ، وتلك الملابس، هى مما كان يشتهيه المؤمنون فى الدنيا، وقد فاتهم أن ينالوه فيها. فكان مما ينعمون به فى الجنة أن ينالوا ما كانت نفوسهم متطلعة إليه.. فهو غائب ينتظرهم.. وليس هذا كل ما يلبسون، أو يتزينون.. بل هناك ما لا حصر له من ألوان الملابس والزينة، مما لم يخطر على قلب بشر.. فهذه الألوان من صنوف الطعام والشراب، والملابس، والأنهار، والظلال، والقصور وغيرها، مما جاء ذكره فى القرآن، مما يلقاه أهل الجنة- هو مما كانوا يطلبونه فى الدنيا، ولا يأخذون حظهم منه، أو ينالون منه شيئا.. وكان من تمام الإحسان إليهم، أن يعرض عليهم كل هذا فى صورته الكاملة، كمالا مطلقا.. قوله تعالى: «وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ» . أي أنهم كما طاب وحسن ظاهرهم، طاب وحسن كذلك باطنهم.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1011 فلا ينطقون لغوا، ولا يسمعون لغوا.. «تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» .. والصراط الحميد، هو صراط الله.. وقد هدوا إلى أن يحمدوه حمدا دائما متصلا، لأنه هو سبحانه المستأهل للحمد، ولأن نعمه التي أفاضها عليهم تستوجب منهم أن يلزموا هذا الصراط، ولا يحيدوا عنه لحظة.. قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» . خبر إن محذوف دل عليه قوله تعالى: «وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» .. أي أن هؤلاء الذين كفروا، ولم يقفوا عند كفرهم، بل وقفوا للناس بالمرصاد، يصدونهم عن سبيل الله، ويحولون بينهم وبين الاتصال بالمسجد الحرام، الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا، وجعل فيه للبادين- وهم أهل البادية- مثل ما للعاكفين- وهم المقيمون من أهل مكة- من حقّ فى الاتصال بهذا البيت، والطواف به، والصلاة فيه.. هؤلاء الذين كفروا، ويصدّون عن سبيل الله والمسجد الحرام.. هم أشنع الناس جرما، وأغلظهم إثما.. إنهم ليسوا كافرين وحسب، بل إنهم أضافوا إلى كفرهم الوقوف فى وجه المتجهين إلى الله، وإلى بيت الله- هؤلاء لهم عذاب مضاعف، فوق عذاب الكافرين.. أما هذا العذاب فقد عرفوا بعضا منه، وهو ما أعد للكافرين، كما بيّنه سبحانه وتعالى فى قوله: «فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ» يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1012 وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ..» .. فهم أولا مأخوذون بهذا العذاب الذي يؤخذ به الكافرون.. أما ما فوق هذا، فعلمه عند الله.. وهو شىء فوق المدارك والتصورات. وفى قوله تعالى: «وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ» جاء فيه الفعل: «يرد» متضمنا معنى «يسعى» ، ولهذا عدّى بحرف الجرّ فى، وهذا التضمين للدلالة على أن الإرادة هنا لا يقع عليها هذا الوعيد، حتى تكون عملا وسعيا. الآيات: (26- 33) [سورة الحج (22) : الآيات 26 الى 33] وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1013 التفسير: [مناسك الحج.. ومشاهد القيامة] قوله تعالى: «وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» . بوأنا: أي هيأنا، وأعددنا.. وأصل البوء الرجوع إلى المنزل، والسّكن إليه.. - وقوله تعالى: «وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ» أي هيّأناه له، وأعددناه.. وقد عدّى الفعل باللام، لأنه تضمن معنى الإعداد، والتمكن.. والأصل فى الفعل أنه يتعدّى بنفسه لمفعولين.. تقول: بوأنك المنزل، بمعنى أسكنتك إياه. - وفى قوله تعالى: «مَكانَ الْبَيْتِ» إشارة إلى أن الإعداد كان المكان لا للبناء الذي أقيم على المكان، وهو البيت.. وهذا يعنى أن الله سبحانه وتعالى قد أعدّ هذا المكان، وهيأه، وأضفى عليه، ما شاء سبحانه من البركة والرحمة.. أما البناء، فقد أقامه إبراهيم، ومعه إسماعيل على هذا المكان المبارك.. فالبركة أصلا فى المكان.. ثم شملت البناء الذي أقيم عليه وهو البيت فصار البيت مباركا فى المكان المبارك. - وقوله تعالى: «أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً» .. المصدر المؤول متعلق بمحذوف، تقديره: وأمرناه، أو قلنا له.. أن لا تشرك بي شيئا،.. فإن هذا المكان الطاهر المبارك، لا ينزله إلا طاهر مبارك، مبرأ من الشرك.. - وقوله تعالى: «وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» .. أي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1014 وطهره من الشرك، واجعله خالصا لله، ولعباده المؤمنين به، الذين يجيئون إلى بيته طائفين، قائمين، راكعين، ساجدين.. - وفى قوله تعالى: «وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» إشارة إلى أن هذا البيت سيكون لتلك الأمة الإسلامية، التي سيكون السجود معلما من معالم صلاتها، وحدها دون غيرها من أصحاب الديانات السماوية كاليهود والنصارى، ولهذا كانت سمة المسلمين التي يعرفون بها بين الأمم، هى هذا الأثر الذي يتركه السجود فى الجبهة، وقد وصفوا بهذا الوصف فى التوراة كما يقول سبحانه وتعالى: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ» . (29: الفتح) وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة، وإحسانه إليها، إذ أعدّ لها هذا البيت قبل أن يبعث فيها رسول الله، ويجىء إليها برسالة الإسلام.. وفضلا عن هذا، فإن إعداد إبراهيم لهذا البيت، وإقامته بيده، يقابله من جهة أخرى إعداده لرسالة الإسلام، إذ كان هو أبا الأنبياء، وكانت رسالة من أرسلوا من ذريته، كموسى وعيسى أشبه بتلك اللبنات التي رفع بها إبراهيم القواعد من البيت، فلما جاء الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- برسالة الإسلام، كمل البناء، وأصبح البيت مهيأ لاستقبال «الْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» .. قوله تعالى: «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» . الأذان: الإعلام، ورفع الصوت بالأمر المراد الإعلام به.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1015 والرّجال: المشاة، الذين ينتقلون على أرجلهم.. جمع راجل أو رجل، يطلق على الذكر والأنثى. والضامر: النحيف، الذي خفّ لحمه من الجهد والتعب.. والفج العميق: الطريق الطويل بين مرتفعين.. والمعنى أن الله سبحانه، أمر إبراهيم- بعد أن أقام البيت- أن يؤذن فى الناس، ويدعوهم إلى الحج إلى هذا البيت.. فإنه إن فعل، وجد الآذان التي تسمع هذا النداء وتستجيب له، وإذا الناس من كل مكان قريب وبعيد، قد جاءوا لحج هذا البيت- يجيئون إليه ماشين على أقدامهم، كما يجيئون إليه راكبين من جهات بعيدة، فتهزل مطاياهم من طول السفر، وقلة الزّاد، ويصيها الضمور، وخفة اللحم. - وفى قوله تعالى: «يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» بنون النّسوة، لغير العاقل من الإبل والدوابّ ونحوها التي يعود إليها هذا الضمير- فى هذا ما يشير إلى بعد الشقة التي جاءت منها هذه الدواب براكبيها، وأنها قطعت طرقا طويلة موحشة، لا أنيس فيها، فكانت هى وراكبوها كيانا واحدا طوال هذه الرحلة، حيث تقتسم معهم طعامهم وشرابهم، وتستمع إلى أحاديثهم وحدائهم.. فاكتسبت بهذا من مشاعر الألفة والأنس، ما جعلها أقرب شىء إلى الإنسان منها إلى الحيوان، حيث أنس الإنسان بها، كما يأنس برفيق سفره! فحقّ لها- والأمر كذلك- أن تخاطب خطاب العقلاء.. قوله تعالى: «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1016 اختلف فى عدد الأيام المعلومات تلك.. فهى معلومات الزمان، مجهولة العدد.. فقيل، هى الأيام العشرة الأولى من ذى الحجة، ويؤيد هذا ما روى عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أيّام أعظم عند الله ولا أحبّ إليه العمل فيهن من هذه الأيام، فأكثروا فيهن التهليل والتكبير والتحميد» .. وعلى هذا فسّر بعض الصحابة الليالى العشر فى قوله تعالى: «وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ» بأنها هى تلك الأيام العشر.. وقيل إن الأيام المعلومات، هى يوم النحر وثلاثة أيام بعده.. وقيل يوم النحر، ويومان من بعده.. وقيل يوم عرفة، ويوم النحر، ويوم آخر بعده. ولام التعليل فى قوله تعالى: «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ..» متعلق بقوله تعالى فى الآية السابقة: «يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ» .. أي يأتى الحجيج إلى هذا البيت ليشهدوا منافع لهم.. والمنافع التي يشهدها الوافدون إلى بيت الله الحرام، كثيرة، متنوعة، تختلف حظوظ الناس منها.. فهناك منافع روحية تفيض من جلال المكان وروعته وبركته، على كلّ من يطوف بحماه، وينزل ساحته، وذلك بما يغشى الروح من هذا الحشر العظيم الذي حشر فيه الناس، على هيئة واحدة، فى ملابس الإحرام، مجرّدين من متاع الدنيا، وما لبسوا فيها من جاه، وسلطان.. إنهم هنا فى هذا الموطن الكريم على صورة سواء، فيما يأنون من أعمال الحج من، سعى، وطواف، ووقوف بعرفة، ورمى للجمرات.. ومن تلبية، وتضرع، وتعبّد لله ربّ العالمين.. إنهم فى مشهد أشبه بمشهد الحشر يوم القيامة.. حيث تعنو الوجوه للحىّ القيوم، وحيث تخشع الأصوات لجلاله وقيومته.. ولعلّ هذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1017 بعض السرّ فى مجىء آيات الحج فى هذه السّورة التي بدئت بهذا العرض المثير لأهوال القيامة ومفازعها: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ» .. فما أقرب الشبه بين موكب الحجيج، وبين الحشر فى هذا اليوم العظيم.. إن الحجّ نفسه، هو صورة مصغرة للحياة الآخرة، التي تبدأ من الموت، ثم البعث، والحشر، والحساب، والجزاء. ولقد أحسن الإمام النسفي، رضى الله عنه، فى تصوير هذه الفريضة، وفى عقد الشّبه بينها وبين الحياة الآخرة. يقول- رضى الله عنه-: «فالحاج إذا دخل البادية، لا يتكل فيها إلا على عتاده، ولا يأكل إلا من زاده، فكذا المرء إذا خرج من شاطىء الحياة، وركب بحر الوفاة، لا ينفع وحدته إلا ما سعى فى معاشه لمعاده، ولا يؤنس وحشته إلا ما كان يأنس به من أوراده. «وغسل من يحرم، وتأهبه، ولبسه غير المخيط، وتطيّبه- مرآة لما سيأتى عليه، من وضعه على سريره، لغسله وتجهييزه، مطيبا بالحنوط، ملففا فى كفن غير مخيط!. «ثم المحرم، يكون أشعث حيران.. فكذا يوم الحشر يخرج من القبر لهفان. «ووقوف الحجيج بعرفات، آملين، رغبا ورهبا، سائلين خوفا وطمعا، وهم من بين مقبول ومخذول- كموقف العرصات، لا تكلّم نفس إلّا بإذنه، فمنهم شقىّ وسعيد.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1018 «والإفاضة إلى المزدلفة بالمساء، هو السّوق لفصل القضاء! «ومنى، هو موقف المنى للمذنبين إلى شفاعة الشافعين.. «وحلق الرأس والتنظيف، كالخروج من السيئات بالرحمة والتخفيف. والبيت الحرام، الذي من دخله كان آمنا من الإيذاء والقتال، أنموذج لدار السلام، التي هى من نزلها بقي سالما من الفناء والزوال ... » وهناك منافع عقلية، ومادية يحصلها الحجاج عن قصد، وغير قصد، حيث يلتقى بعضهم ببعض وينظر بعضهم فى أحوال بعض، وفى البلاد التي جاؤا منها، وما فى هذه البلاد من صور الحياة، وأعمال النّاس، وثمرات أفكارهم وأيديهم، وذلك فيما حملوه معهم من آثار الحياة عندهم، وما كان لهم من جديد ومستحدث.. وبهذا يتبادلون المعرفة، كما يتبادلون السّلع بينهم، بيعا وشراء، أو يتهادونها، مودة وإخاء. - قوله تعالى: «وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ» .. الأيام المعلومات هى أيام الحج، التي تتم فيها أعمال هذه الفريضة.. وهى فى أرجح الأقوال عشرة الأيام الأولى من ذى الحجة. والذكر المراد هنا هو هذا الذكر الخاص، الذي يكون فى أعمال الحج.. فكل عمل من أعمال الحج هو ذكر لله.. فالإحرام ذكر، والطواف بالبيت الحرام ذكر، واستلام الحجر الأسود ذكر.. والسعى بين الصفا والمروة ذكر.. والوقوف بعرفة ذكر، ورمى الجمرات ذكر.. وحركات الحاج وسكناته فى أيام الحجّ كلّها ذكر.. حيث يلهج الحجيج دائما بالتلبية، والتكبير.. - وقوله تعالى: «عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ» هو متعلق بمحذوف دلّ عليه قوله تعالى: «وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ» والتقدير ويذكروه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1019 هذا، ويكاد إجماع المفسّرين ينعقد على أن قوله تعالى: «عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ» متعلق بقوله تعالى: «وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ» .. وعلى أن ذكر اسم الله فى هذه الأيام المعلومات واقع على «ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ» وهى الهدى المساق إلى بيت الله، بمعنى أنهم يذكرون اسم الله عند نحر ما يقدّمون من هدى.. والذي نراه- والله أعلم- أن قيد ذكر اسم الله على بهيمة الأنعام فى تلك الأيام المعلومات غير مقبول، وذلك من أكثر وجه: فأولا: ذكر اسم الله على بهيمة الأنعام لا تختصّ به أنعام الهدى وحدها، بل هو أمر واجب فى كل ما يذبح من حيوان للأكل، سواء ما كان منه هديا أو غير هدى، وأنه لا يحلّ أكل حيوان ذبح من غير أن يذكر اسم الله عليه، وهذا صريح فى قوله تعالى: «وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ.. وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ» .. (121: الأنعام) وفى قوله سبحانه: «فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ» (118: الأنعام) .. فقد جاء النهى فى الآية الأولى صريحا قاطعا، كما جاء الأمر بالأكل فى الآية الثانية: «مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» متضمنا النهى- بمفهوم المخالفة- عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه. وعلى هذا، يكون تخصيص ذكر اسم الله فى الأيام المعلومات، وقصره على بهيمة الأنعام- لا محلّ له، إذ لا جديد فيه، الأمر الذي يجعل الآية معطلة عن إعطاء معنى يستفاد منها. وذلك مما تنزّهت عنه آيات الله وكلماته. وفى هذا يقول ابن حزم فى كتابه «المحلّى» ردّا على من يقول بأنه لا يجوز أن يضحّى ليلا، محتجا بقوله تعالى: «وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1020 بَهِيمَةِ» .. وبأن الله تعالى ذكر الأيام ولم يذكر الليالى.. يقول ابن حزم فى معرض الرد على هذا: «لأن الله تعالى لم يذكر فى هذه الآية ذبحا، ولا تضحية، ولا نحرا، لا فى نهار، ولا فى ليل، وإنما أمر الله تعالى بذكره فى تلك الأيام المعلومات.. أفترى يحرم ذكره فى لياليهن؟ إن هذا لعجب! «1» . وحقّ لابن حزم- رضى الله عنه- أن يعجب، ويعجب!. وثانيا: جاء فى آية أخرى بعد هذه الآية، أمر خاص بذكر اسم الله على بهيمة الأنعام هذه، التي تساق هديا للبيت الحرام، وذلك فى قوله تعالى: «وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ.. لَكُمْ فِيها خَيْرٌ.. فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ.. فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ» (الآية: 36) . وهذا الأمر الخاص بذكر اسم الله على أنعام الهدى عند ذبحها، هو تنويه بهذه الذبائح، وإشعار بأنها قربان لله، وأنها شعيرة من شعائر الله، وعمل من أعمال الحج، وأنها ليست لمجرد الأكل، وإنما هى للبّر والإحسان إلى الفقراء، حيث يطعمون من لحومها، ويشاركون أصحابها فى الأكل منها.. فليس الأمر بذكر اسم الله على هذه الأنعام عند نحرها، هو إنشاء لهذا الأمر، بل هو توكيد للأمر العام بذكر الله على ما يذبح، وأن ذكر الله هنا ينشىء شعورا خاصا بأن هذه الأضاحى ليست ملكا خاصا لأصحابها، وإنما هى قسمة بينهم وبين الفقراء!.   (1) المحلى: الجزء السابع ص 446. [ ..... ] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1021 وثالثا: قصر ذكر اسم الله فى الأيام المعلومات، على بهيمة الأنعام (الهدى) قد أوقع المفسرين والفقهاء فى خلاف شديد، فى تحديد الميقات الذي تذبح فيه الأضاحى.. وهل تذبح يوم النحر، أو فى الثلاثة الأيام المكملة ليوم النحر، أو لآخر يوم من ذى الحجة؟ فى كل هذا آراء.. ذلك.. أن ذكر اسم الله فى أيام معلومات، قد أفسح للمفسرين والفقهاء مجال النظر فى هذه الأيام، التي تذبح فيها الأضاحى.. إنها أيام، وليست يوما.. وإذن فقد لزم الاجتهاد فى تحرّى الوقت المناسب من هذه الأيام لذبحها.. وقد كان!! ففى رأى أبى يوسف ومحمد- صاحبى أبى حنيفة- أنها أيام النحر، وعدّتها ثلاثة أيام.. يوم العيد، ويومان بعده.. وعن الشافعي، والحسن وعطاء، أنها أربعة أيام، يوم العيد، وثلاثة أيام بعده.. وعند ابن سيرين، يوم واحد، هو يوم النحر. وعند أبى سلمة، وسليمان بن يسار، أنها إلى هلال المحرم..! فأى يوم من تلك الأيام ينحر فيه الهدى، هو مجز فى حدود هذه المقولات. وهذا كلّه- فيما نرى- مخالف لقوله تعالى: «إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ» حيث قرن الأمر النحر بالصلاة، التي هى صلاة العيد، لا مطلق الصّلاة.. حيث يتحلل الحجيج من إحرامهم، وحيث يختمون أعمال الحجّ بهذا القربان، وحيث ينالون شيئا من حظوظ الدنيا بهذا الطعام من اللّحم فى هذا اليوم، وحيث يشتركون جميعا فى هذه المائدة التي دعاهم الله إليها، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1022 وهم فى ضيافة بيته المحرّم.. وهذا مما لا يمكن تحصيله إذا وقع الذبح بعد هذا اليوم، حيث يتفرق الحجيج، ويأخذ كل طريقه إلى العودة من حيث أتى.. ثم من جهة أخرى نرى أعمال الحج كلها تجرى فى صورة جماعية.. وليس هناك من حكمة ظاهرة فى إفراد الهدى بهذا التحلل من قيد الجماعية فى الوقت الذي يذبح فيه! هذا، وربّما فهم بعضهم من قوله تعالى: «لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ» على أن «اسم الله» لا يذكر إلا عند الذبح، أما الذكر بمعناه المطلق، فهو ذكر الله مثل قوله تعالى: «فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً» (200: البقرة) وقوله تعالى: «وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (10: الجمعة) وقوله سبحانه: «وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ» (35: الأحزاب) .. فحيث أريد ذكر الله، أي تسبيحه وحمده لم تقرن به به كلمة «اسم» على حين أن كلمة «اسم» قد جاءت مع لفظ الجلالة عند إرادة تزكية الحيوان وذبحه، كما فى قوله تعالى: «فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ» (118- 119: الأنعام) وقوله تعالى: «وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ» (121: الأنعام) . نقول: لعل هذا هو الذي جعل أكثر المفسّرين والفقهاء يخصصون ذكر اسم الله فى آية الحج بالذكر على بهيمة الأنعام عند الذبح. ونقول: إن اقتران كلمة «اسم» بلفظ الجلالة هكذا: «اسم الله» لا ينهض دليلا على اختصاص ذكر اسم الله بذبح الحيوان.. فقد جاء فى آيات أخرى، الدعوة إلى ذكر الله، مقترنة بلفظ «اسم» كما فى قوله تعالى: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1023 «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» (1: الأعلى) وقوله سبحانه: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى» (14- 15: الأعلى) وقوله جل شأنه: «فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» (52: الحاقة) . وعلى هذا، فإن المراد- والله أعلم- من ذكر اسم الله فى الأيام المعلومات، هو ذكره ذكرا عاما مطلقا بكل اسم من أسمائه جلّ وعلا.. ثم ذكر اسمه ذكرا خاصّا على بهيمة الأنعام عند ذبحها. وشبهة أخرى ربما وردت على تفكير بعض المفسّرين الذين خصصوا ذكر اسم الله فى الأيام المعلومات، وقصروه على بهيمة الأنعام المسوقة هديا للبيت الحرام.. وتلك الشبهة هى تعدّى فعل الذكر بحرف الجرّ «على» فى قوله تعالى: «وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ» .. فإن تعدّى هذا الفعل بحرف الاستعلاء «على» قد يكون قرينة عندهم على أن ذكر اسم الله هنا إنما يقع على بهيمة الأنعام، ولو كان ذكرا عاما لما تعدّى الفعل بحرف الجرّ هذا، الذي يشير إشارة واضحة إلى الشيء المراد ذكر اسم الله عليه. وجوابنا على هذا، أن تعدية فعل الذكر بحرف الجرّ «على» لا يقضى بأن يكون الحرف للاستعلاء، وأن يكون الاستعلاء واقعا على بهيمة الأنعام، وإنما الذي يقتضيه المقام هنا، هو أن يكون حرف «الجرّ» السببية لا للاستعلاء، كما فى قوله تعالى: «وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ» (185: البقرة) أي بسبب هدايته لكم، وتوجيه قلوبكم وعقولكم إلى الإيمان به.. وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: «وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ» أي يذكروا اسم الله بسبب ما رزقهم من بهيمة الأنعام، وذللها لهم، وأحلّ لهم لحومها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1024 وعلى هذا، فإن الرأى- والله أعلم- أن يتعلق قوله تعالى: «عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ» بفعل يدلّ عليه الفعل السابق، ويكون النظم القرآنى هكذا: «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ (ويذكروه) عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ» .. هذا، والله أعلم. قوله تعالى: «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ» . هو تعقيب على ما جاء فى قوله تعالى فى الآية السابقة: «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ.. فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ» . والمعنى: أنه بعد هذه الأعمال التي تتم بها فريضة الحج، يعود الحجيج إلى أنفسهم، لينظروا فى شئونهم الخاصة التي أهملوها فى أيام الحج، ولم يلتفتوا إليها، حيث استغرقهم الاتجاه الخالص إلى الله وأول ما ينظرون فيه، هو قصّ شعورهم، وتقليم أظافرهم، وهذا أول مدخل يدخلون به إلى الدنيا، بعد أن خرجوا منها منذ أول لحظة دخلوا بها فى ملابس الإحرام.. وهذا ما عبّر عنه القرآن بقوله تعالى: «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ» . والتّفث: ما يعلق بالإنسان من قذر يتأذّى به، ويطلب الخلاص منه. وهو بهذا المعنى أشبه بالرفث.. وهذا يعنى أنه حاجة من حاج الإنسان، ومن مطالبه الجسديّة.. سواء أكان ذلك بدفعها، أو بجلبها.. وفى قوله تعالى: «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ» إشارة معجزة إلى أن هذه الأمور وأمثالها، وإن كانت من حاجات الإنسان، فإنها ليست من صميم مطالبه التي ينبغى أن تكون فى الاعتبار الأول عنده، مما يتصل بحاجات العقل والروح، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1025 ومما يكسو الإنسان من معانى الإنسانية ما هو خليق به، وبالكمال الذي ينبغى أن يقيم وجهه دائما عليه.. إنه لا بأس من أن يأخذ الإنسان حظه من مطالب الجسد، فيتجمل فى مظهره، ويسوّى من صورته، ولكن على ألا يشغله ذلك عمّا هو أولى، وأكرم وهو تجمّل الباطن وتسويته على أكمل صورة وأحسنها، علما، وخلقا.. فذلك هو الإنسان الذي يريده الإسلام. إنه يريده حسن الظاهر والباطن، جميل المظهر والمخبر، نظيف الإناء وما يحتويه الإناء..! وقوله تعالى: «وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ» .. أي ليؤدوا لله ما كانوا قد نذروه، تقربا إليه، من ذبائح، وصدقات وغيرها.. وإن خير وقت للوفاء بهذه النذور هو فى هذا الوقت، وفى هذا الموطن.. بل إن هذا يكاد يكون أمرا لازما هنا، حيث سبق آخر عمل من أعمال الحج، وهو الطواف بالبيت العتيق، طواف الوداع.. كما يقول سبحانه بعد ذلك: «وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ» .. فبالوفاء بالنذور، وبالطواف بالبيت، تختم أعمال الحج.. وكما كان أول أعمال الحج، هو لقاء البيت العتيق والطواف به طواف تسليم، يكون آخر عمل من أعمال الحج، هو الطواف بالبيت، طواف وداع واستئذان وشكر، لما لقى فى رحاب هذا البيت من ألطاف الله، وأفضاله، وما تلقى من آلائه ونعمائه.. ووصف البيت بالعتق، لأنه أول بيت لله وضع للناس على الأرض.. فالعتق هنا من العتاقة، وهى القدم، الذي هو صفة من صفات الله.. فإذا كان القدم فى مقام الفضل والإحسان، فهو تقدّم فى الدرجة، وسبق فى الإحسان.. وبهذا يكون أهلا لأن يأخذ مكان الإمامة على غيره.. وقد استحق المؤمنون السابقون من المهاجرين والأنصار أن يكونوا وجه الإسلام، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1026 وقدوة المسلمين، وأن يكونوا أقرب عباد الله إلى الله كما يقول سبحانه: «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ» (10- 16: الواقعة) . ووصفت الخيل الكريمة بالعتق والعتاقة، فيقال خيل عتاق، لأنها تسبق غيرها من الخيل، ووصف الرقيق الذي تحرر من الرق بأنه عتيق، لأن سبق الأرقاء الذين لم يتحرروا.. إلى التحرر.. وفى التعبير عن الطواف «بالتطوّف» إشارة إلى الإكثار منه، وأنه أكثر من طواف واحد.. فالفعل «تطوّف» أكثر حروفا من «طاف» ! قوله تعالى: «ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» . «ذلِكَ» إشارة إلى ما جاءت به الآيات السابقة من أحكام.. أي ذلك الذي جاءت به الآيات السابقة قد علمتموه.. وأمر آخر، يجب أن تعلموه وتعملوا به، وهو أن «مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ» . وتعظيم حرمات، الله هو الالتفات إليها، وتقديرها قدرها، فى غير استخفاف بها.. فهى أمر عظيم.. من استخفّ بها هلك، ومن لم يأخذ حذره منها هوى وسقط.. وكان من الضالين.. وقوله تعالى: «وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ» - هو تطبيق عملىّ لحرمات الله.. فهناك من بهيمة الأنعام، ما أحله الله، وهناك ما حرّمه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1027 منها.. وهذا المحرّم هو من حرمات الله الواجب تعظيمها، وتوقى الاستخفاف بها، والدنوّ منها.. وما يتلى، هو ما ذكر فى كتاب الله من البهائم المحرمة، وهى التي جاءت فى قوله تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ.. ذلِكُمْ فِسْقٌ» (3: المائدة) . وهذا يعنى أن هذه الآية نزلت بعد آية الحج.. وهذا هو الثابت من تاريخ النزول القرآنى.. إذ كانت المائدة من آخر سور القرآن الكريم نزولا. وقوله تعالى: «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ» الرّجس: الدّنس والقذر. والأوثان: الأصنام ونحوها، مما يشكّل ويصوّر، من جمادات، ليعبد من دون الله.. و «من» فى قوله تعالى: «مِنَ الْأَوْثانِ» بيانية.. أي فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان.. فهى كلها رجس وخبث، وقذر، ولا ينضح منها إلا ما هو رجس وخبث وقذر. وقوله تعالى: «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» . الزور: هو الباطل من القول، والخارج على الحقّ.. وسمّى زورا، لأن الصدور السليمة تزورّ به، وتضيق بحمله.. ولا تتسع له الصّدور المريضة، والنفوس السقيمة. وفى قرن «الزُّورِ» بالأوثان، إشارة إلى شناعته، وإلى أنه مأثم غليظ، يعادل الشرك بالله.. بل إن الشرك نفسه هو ثمرة فاسدة من ثمار الزور.. إذ الشرك فى صميمه، افتراء على الله، وتزيين للباطل، وتزويق للزور. وهذا ما وصف به المشركون فى موقفهم من رسول الله صلى الله عليه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1028 وسلم إذ يقول جلّ شأنه: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ. فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً» (4: الفرقان) وفى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» قالوا: بلى يا رسول الله.. قال «الشرك بالله وعقوق الوالدين» .. وكان متكئا فجلس فقال: «ألا وشهادة الزور وقول الزور.. ألا وشهادة الزور وقول الزور.. ألا وشهادة الزور وقول الزور» .. قالوا: فما زال- صلوات الله وسلامه عليه- يكرّرها حتى قلنا لا يسكت!» . قوله تعالى: «حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ» . الحنفاء: جمع حنيف، وهو المائل عن طرق الضلال إلى طريق الهدى.. وقوله تعالى: «حُنَفاءَ لِلَّهِ» حال من الفاعل فى قوله تعالى: «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» أي اجتنبوا هذه المنكرات، وأنتم حنفاء لله، أي مخلصين الدّين لله وحده، غير مشركين به.. - وقوله تعالى: «وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ» . هو تهديد ونذير لمن يشرك بالله، ويعدل عن طريق الإيمان الخالص به.. فإن من يفعل هذا، فقد عرّض نفسه لأبشع صورة من صور الهلاك.. إنه أشبه بمن سقط من علو شاهق، فوقع على الأرض أشلاء ممزقة، تكون طعاما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1029 لجوارح الطير.. أو تقذف به الريح فى مكان سحيق، كبطن محيط، أو غور بئر.. فلا يخفّ أحد لنجدته.. قوله تعالى: «ذلِكَ.. وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ» . الشعائر جمع شعيرة: وهى ما يستجيش مشاعر الإنسان، ويحرك وجدانه.. ويراد بالشعائر، العبادات، والطاعات، وكلّ ما يتقرب به العبد إلى الله. ويذهب أكثر المفسّرين إلى أن الشعائر هنا، هى الهدى المساق إلى الحرم، وأنها إنما سمّيت شعائر لأنها تشعر أي تعلم بشعيرة- أي حديدة- تشرط بها فى الجانب الأيمن من سنامها.. والرأى عندنا- والله أعلم- هو ما ذهبنا إليه، من أن المراد بالشعائر هنا العبادات كلها، ومنها مناسك الحج، وأعماله، ومنها الهدى أيضا. أما تعظيم شعائر الله، فهو فى أدائها على وجهها، فى اطمئنان، وإخبات لله، وولاء لجلاله وعظمته.. وأما تعظيم شعيرة «الهدى» فهو برعايتها، وإكرامها، وإنزالها من النفس منزلة الإعزاز. لأنها منذ الوقت الذي اختيرت فيه لتكون هديا، قد أصبحت خالصة لله، وأنها منذ ذلك الوقت إلى يوم النحر فى ضيافة مهديها إلى الله.. ولهذا وجب عليه أن يكرمها، ويحسن ضيافتها، فلا يركبها، ولا يحمل عليها، ولا يعرّيها من أصوافها وأوبارها، ما دام قد أعدّها للهدى.. ثم إن من أمارات الإكرام لها أن تعلم بعلامة مميزة لها، وأن تعلق فى رقبتها قلادة، تحلّيها وتزينها، وتجعل لها ميزة على غيرها.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1030 ومن جهة أخرى، فإنه مطلوب من كلّ مسلم- حاجّا أو غير حاجّ- أن يرعى للهدى هذه الحرمة، فلا يعتدى عليه، بالسرقة، أو انتزاع ما قلد به من قلائد.. فهذا الهدى هو هدى الله، وليس أصحابه المتقدمون به إلى الله إلا رعاة له.. إنه أشبه بناقة صالح.. له حرمته، كما كان للناقة حرمتها، وقد توعّد الله سبحانه وتعالى ثمود بالهلاك، إن هم نالوها بسوء: «هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (73: الأعراف) . وفى هذا يقول الله تعالى: «جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ» (97: المائدة) فقد جعل الله سبحانه وتعالى قلائد الهدى- فضلا عن الهدى نفسه- قرينة الشهر الحرام، فى حرمتها وما ينبغى للناس أن يعظموه منها.. ثم لعلك تسأل: لم هذا التعظيم للحيوان؟ ولم هذه المراسم التي تتخذ له؟ أليس ذلك ضربا من ضروب الوثنية التي جاء الإسلام لحربها، والقضاء عليها؟. والجواب على هذا: أن الحجّ رحلة روحية خالصة، يخرج فيها الحاج من عالم المادة، إلى عالم الروح، وأن أعمال الحج التي تلقاة على طريق رحلته الروحية تلك، مقدّرة بهذا التقدير.. فالتجرّد من الملابس ولبس غير المخيط، والمهاجرة من الوطن، وترك الأهل والولد والمال، والطواف حول البيت، والسعى بين الصفا والمروة، واستلام الحجر الأسود، أو تقبيله، ورمى الجمرات- كلها أعمال ومراسم، تبدو فى ظاهر الأمر متصلة اتصالا وثيقا بذوات الأشياء، لا ربّ الأشياء.. ولكنها فى حقيقة الأمر، راجعة أولا وأخيرا، إلى الله سبحانه وتعالى، إذ كانت تلك الأعمال الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1031 وهذه المراسم، إنما أدّاها الحاجّ امتثالا لأمر الله، وولاء وطاعة لما أمر به، وإنه ليس للعبد المؤمن بالله، أن يراجع الله فيما يأمره به، وأن يطلب الحكمة لهذا الأمر.. وإنما المطلوب منه، هو أن يمتثل، ويأتى ما أمر به من غير تردد.. فهذا ابتلاء من الله، يبتلى به عباده، ليظهر منهم ما هم عليه من طاعة أو عصيان. وقد كان أمر الملائكة بالسجود لآدم، ابتلاء وامتحانا لهم، فسجد الملائكة، وأبى إبليس أن يسجد، وقال: «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» (12: الأعراف) . فكان من الهالكين.. فهذه الأعمال التي يأتيها الحجيج، هى امتحان وابتلاء لهم، فى باب الطاعة والامتثال لأمر الله، فى غير تردد أو مراجعة.. وإلا فهو العصيان والكفر.. نعوذ بالله منهما. وتعالت حكمة الله.. فإنه سبحانه وتعالى، لم يبتل المؤمنين بهذه الأعمال ابتداء، ولم يلقهم بها على أول طريق الإيمان، بل جاءهم بها بعد أن يكون المؤمن منهم قد قطع شوطا طويلا على طريق الإيمان، حتى اطمأن قلبه به، وسكنت نفسه إليه، وثبتت قدمه عليه. فأولا: فى مسيرة الدعوة الإسلامية، لم يفرض الحجّ إلا فى زمن متأخر، حيث فرض بعد الصلاة، والصيام، والزكاة، وكان بهذا آخر ما فرض من أركان الإسلام. وهذا يعنى أن المسلمين الذين خرجوا من الجاهلية إلى الإسلام، قد التقوا بالحج، بعد تلك الفترة التي عاشوها فى الإسلام.. يؤمنون بوحدانية الله، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويصومون رمضان.. وتلك فترة كافية لتثبيت قواعد الإيمان فى قلوبهم، وإجلاء كل داعية من دواعى الوثنية والشرك منها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1032 وثانيا: أن المسلم- فى أىّ زمن- لا يؤدى فريضة الحجّ إلا بعد أن يكون قد تمرّس بالإيمان، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان.. وكثيرا ما يكون ذلك زمنا طويلا يمتدّ إلى عشرات السنين.. فإذا جاء إلى الحجّ، والتقى بأعماله، لم يكن فى خاطره أية طرفة يطرف بها إلى أماكن الحجّ وأشيائه، إلا على أنها من شعائر الله، وأنها معلم من معالم الله- سبحانه- على هذه الأرض، وأن تعظيمها هو تعظيم لله، ومبالغة فى الامتثال لأمره، حيث يقوم التعامل بين الحاج وبين ذوات أشياء هى من آيات الله.. وإنها فى هذا لأشبه برسله، «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ» (80: النساء) . وثالثا: فى قوله تعالى: «فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ» إشارة إلى أن تعظيم هذه الشعائر، هو تعظيم لله، يتجلّى فيها درجة إيمان المؤمنين، وينكشف بها ما عندهم من تقوى.. إذ كانت هذه الأعمال- كما تبدو فى ظاهرها- ما عندهم من تقوى.. إذ كانت هذه الأعمال- كما تبدو فى ظاهرها- خارجة عن منطق العقل..! والإيمان- فى حقيقته- هو حبّ خالص لله، والحبّ إذا كان صادقا، لا يسمع صوت العقل، ولا يستجيب له، وإنما يتلقى من القلب، ما يحدّثه به، ويدعوه إليه.. ولهذا جاء قوله تعالى: «فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ» ليكشف عن أن تعظيم هذه الشعائر، وإتيانها فى إيمان وإخلاص، وحب وشوق- إنما هو من وحي القلوب، ومن خفقات الإيمان الثابت فيها، ومن إشارات التقوى المتمكنة منها.. وفى الكلمة المأثورة عن عمر بن الخطاب، وهو يقبّل الحجر الأسود حين قال: «أعلم أنك حجر لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقبّلك ما قبلتك» - فى هذه الكلمة ما يكشف عن هذا الحبّ لله، ولرسول الله، ومتابعته فى كلّ قول، وعمل، وإن جاء هذا القول أو العمل، فوق مدارك العقول! .. ومن أجل هذا فقد وقف القرآن الكريم هذه الوقفات الطويلة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1033 المستأنية مع مناسك الحج، ودعا أكثر من مرّة إلى رعايتها، وتعظيمها، وذلك ليدافع هذا الشعور الذي قد يتسلّط على الإنسان من التراخي فى أداء هذه الأعمال، وتلك المراسم، أو أدائها فى استخفاف وتكرّه، الأمر الذي يذهب بالثمرة الطيبة، والمعاني الكريمة التي تدخل على نفس الحاج من هذه الأعمال، إذا هو أداها على وجهها الصحيح، ممتثلا أمر الله فيها، شارحا بها صدره، مسلما لها وجوده، مضيفا إليها مشاعره. وهكذا يقيم الإسلام المسلمين على منطق العقل، ومشاعر القلب معا.. فهو إذ يدعوهم إلى الإيمان بالله، والإقرار بوحدانيته، يجىء إليهم عن طريق العقل، فيقيم لهم الحجج، وينصب الأدلة والبراهين، حتى يقع الإيمان منهم موقع اليقين.. لأنه هو الأساس الذي تقوم عليه كل دعوة للإسلام، وكل أمر من أوامره، ونهى من نواهيه.. فإذا كان الإيمان بالله عن نظر واقتناع، كان التسليم واجبا بكل ما يأمر به الله، أو ينهى عنه.. ثم كانت الصلاة.. وكان الصوم.. وكانت الزكاة.. وكلها أعمال يلتقى فيها منطق العقل، مع مشاعر القلب، وإن كان منطق العقل فيها أكثر من منطق الشعور، أو مساويا له. ثم أخيرا، كان الحج.. فكان مشاعر خالصة، أو شبه خالصة، حيث يكاد العقل يخلى مكانه للقلب، ليأخذ حظه كاملا، كما أخذ العقل حظّه كاملا من الإيمان بالله! .. وبهذا يعتدل ميزان الإنسان، وتتوازن مداركه مع مشاعره، ويتآخى عقله مع قلبه.. وذلك هو الإنسان فى أعدل صورة، وأحسن تقويم، وأتم وضع!! قوله تعالى: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1034 «لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ» . الضمير فى «فِيها» يعود إلى قوله تعالى: «ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ» على اعتبار أن من هذه الشعائر بهيمة الأنعام، المساقة هديا إلى بيت الله.. والمعنى، أن ما يساق إلى البيت الحرام من هدى، هو أمانة فى أيدى أصحابه، وأن لهم أن ينتفعوا به الانتفاع الذي لا يسوءه ولا يتضرر منه.. كالانتفاع بلبنه مثلا.. وفى قوله تعالى: «ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ» تذكرة بالجهة التي سيهدى إليها هذا الهدى، وأن ذلك من شأنه أن يجعل لهذا الهدى حرمة ورعاية خاصة.. إذ كان آخذا طريقه إلى بيت الله، مع الآخذين طريقهم إليه، فله حرمة ينبغى أن تؤدّى، وله ذمام يجب أن يرعى.. فهو بعض وفد الله إلى، بيت الله!! وسمّى البيت الحرام بالبيت العتيق، لأنه أول بيت وضع للناس، كما يقول سبحانه وتعالى: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ» .. فهذه الأولية، هى فى مقام الإحسان والخير، سبق له خطره وقدره.. فكلمة عتيق هنا تضاهى كلمة «عريق» ، أي هو عريق وقديم فى مقام الخير والإحسان.. فكما سبق السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار إلى الإسلام، واستحقوا بهذا السبق ما خصّهم الله سبحانه وتعالى به من فضل وإحسانه.. فكذلك هذا البيت، إذ كان أول بيت لله على هذه الأرض، فقد استحق أن يكون أكرم بيوت الله على الله، وأولاها بالإجلال، والاحتفاء.. من عباد الله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1035 الآيات: (34- 37) [سورة الحج (22) : الآيات 34 الى 37] وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) التفسير: قوله تعالى: «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ» . المنسك: اسم مكان، يؤدّى فيه النسك.. والنّسك: هو ما افترض الله على عباده من قربات يتقربون بها إليه. والمخبتين: المطيعين، المطمئنين، الذين يؤدون أوامر الله فى رضا واطمئنان.. والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى جعل لكل أمة «مَنْسَكاً» أي معلما من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1036 معالم دينهم، يدعون فيه إلى التقرب إلى الله بالذبائح، وذكر اسمه عليها عند ذبحها، ليذكروا بذلك فضله عليهم، فيما رزقهم من بهيمة الأنعام، ينتفعون بها في وجوه كثيرة.. كما يقول سبحانه: «وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً» (5- 8: النحل) . - وفى قوله تعالى: «فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» إشارة إلى أن المناسك، والشعائر، والعبادات التي تعبّد الله بها عباده على لسان رسله- وإن اختلفت صورا وأشكالا- هى من دين الله، وهى طريق عباده إلى طاعته ورضاه.. وأن هذا الاختلاف فى صورها وأشكالها، لا يجعل منها سببا إلى الاختلاف بين المؤمنين بالله.. فكلهم يعبدون إلها واحدا، ومن شأنهم، أن يكونوا أمة واحدة. - وقوله تعالى: «فَلَهُ أَسْلِمُوا» هو دعوة للمؤمنين أن يسلموا وجوههم لله، وأن ينقادوا له، ثم هو دعوة لأهل الكتاب أن يدخلوا فى دين الله، وهو الإسلام، إن كانوا مؤمنين بالله حقا.. فما الإسلام إلا دين الله، الذي اجتمع فيه ما تفرق منه فى الأمم السابقة ... - وقوله تعالى: «وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ» هو استدعاء، وإغراء للذين لم يمتثلوا بعد هذا الأمر- أن يسلموا لله وجوههم، وأن يدخلوا فى دينه، ليكونوا ممن لهم البشرى فى الحياة الدنيا وفى الآخرة ... قوله تعالى: «الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1037 وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» . هو صفة للمخبتين، الذين وعدهم الله بالبشريات المسعدة، فى الدنيا والآخرة. فمن صفات هؤلاء المخبتين، أنهم إذا ذكر الله وجلت قلوبهم لذكره، وحضرتهم حال من الرهبة والخشية لجلال الله وعظمته. ثم إنهم لإيمانهم بالله، هذا الايمان الذي يملا قلوبهم جلالا وخشية- صابرون على ما أصابهم ويصيبهم من بلاء، فإن الجزع ليس من صفات المؤمنين، لأن الجزع لا يجىء إلا من شعور بأن ليس وراء الإنسان قوة تسنده وتعينه وتكشف ضرّه.. أما المؤمن، فإنه إذا ابتلى بأعظم ابتلاء، لا يجزع، ولا يكرب، ولا يخور، بل يحتمل صابرا، ويثبت للمحنة، وهو على طمع فى رحمة الله أن ينكشف ضره، ويدفع بلواه.. ثم إن هؤلاء المخبتين يقيمون الصلاة، ويؤدونها فى خشوع وخضوع، إذ هى التي تصل المؤمن بربه، وتعمر قلبه بالإيمان به.. ومن هنا كان الصبر هو الثمرة الطيبة التي تثمرها الصلاة، كما يقول سبحانه: «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ» . وقدّم الصبر على الصلاة، لأنه مطلوب لها، حيث لا تؤدّى كاملة إلا مع الصبر، فإذا أدّيت كانت هى نفسها رصيدا كبيرا تزيد به حصيلة الصبر فى كيان المؤمن.. ثم إن هؤلاء المخبتين لا يمسكون رزق الله الذي رزقهم، فى أيديهم، ولا يحبسونه على أنفسهم، بل ينفقون منه فى وجوه البرّ، ويرزقون عباد الله مما رزقهم الله.. إذ أنهم ينفقون ما فى أيديهم، وهم على رجاء من أن الله يرزقهم، ويكفل لهم ما يكفل للطير والدواب من رزق.. «فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ» . قوله تعالى: «وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1038 اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» . البدن: جمع بدنة، وهى الناقة، وسميت بدنة لعظمها وضخامتها.. والصّوافّ: جمع صافّة، وصافّ.. والمراد به السكون، ومنه قوله تعالى «وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ» أي صفّت أجنحتها، وسكنت، وذلك حين تفرد أجنحتها فى الجو، وتتوقف عليلا عن الطيران.. وجبت جنوبها: أي سقطت على الأرض. القانع: من لا يسأل.. والمعتر: من يتعرض للسؤال مستجديا. والمعنى: أن هذه البدن، أي الإبل، جعلها الله من شعائره، حيث تساق هديا إلى بيته الحرام، وجعل فيها خيرا للناس، بما ينتفعون به منها، فى حمل الأمتعة، وركوبها، والانتقال بها، والانتفاع بألبانها وأوبارها، ولحومها.. - وقوله تعالى: «فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ» أي إذا أردتم نحرها، فاذكروا اسم الله عليها، قبل أن نحرها، ثم ليكن ذبحها وهى صوافّ، أي فى حال وقوفها، وثباتها، وصفّ قوائمها.. وذلك أن الإبل تنحر وهى واقفة. على خلاف غيرها من الحيوان. - وقوله تعالى: «فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ» أي أنها إذا نزفت دماؤها، وسقطت على الأرض، جثّة هامدة- أصبحت صالحة للأكل.. فكلوا منها، وأطعموا القانع، الذي لا يسأل، والمعترّ الذي يسأل، فهى نعمة من نعم الله، جعلها الله فى أيديكم، وسخرها لكم، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1039 فاشكروا له، بهذا البذل، الذي تبذلونه من لحومها، لمن ترون أنه محتاج، ولو لم يسأل..، وكذلك غير المحتاج من أهل وأصدقاء.. قوله تعالى: «لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ» . أي أن هذه البدن التي تقدمونها قربانا، و، تطعمون منها وتطعمون، هى فى الواقع نفع خالص لكم.. فليس لله سبحانه وتعالى- وهى من عطاياه- شىء منها، وليس فى تقديمها قربانا لله، وإطعام من تطعمون منها- ما يصل إلى الله منه شىء.. فهذا كل شىء منها هو بين أيديكم: لحمها قد أكلتموه، ودمها قد أريق على الأرض.. ومع هذا فهى قربان لكم، تتقربون به إلى الله، وتثابون عليه. - وقوله تعالى: «وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ» إشارة إلى أنه ليس المقصود من هذه الهدايا ذبحها، وأكل لحمها.. وإنما المراد أولا وبالذات، هو امتثالكم لأمر الله، وإمضاء دعوته، فيما يدعوكم إليه، من التضحية بشىء عزيز عليكم، حبيب إلى نفوسكم، وبهذا تحسبون فى أهل التقوى من عباد الله.. وهذا هو الذي يناله الله منكم، ويتقبله من أعمالكم.. إنه التعبّد لله، والولاء له، والاستجابة لأمره.. وفى التعبير عن تقبّل الله سبحانه وتعالى للطاعات من عباده «بالنيل» - تفضّل من الله سبحانه وتعالى على عباده المتقين، وإحسان مضاعف منه إليهم، إذ جعل طاعتهم، وتعبدهم له- إحسانا منهم إليه، سبحانه وتعالى.. وهذا شبيه بقوله تعالى: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» (245: البقرة) . فهو سبحانه وتعالى- فضلا وكرما وإحسانا منه- يعطى، ويقترض ممن أعطاه! الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1040 ألا خسىء وخسر الذين يضنون بما فى أيديهم عن البذل والعطاء، من عطاء الله، فى سبيل الله..! الآيات: (38- 41) [سورة الحج (22) : الآيات 38 الى 41] إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) التفسير: قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ» . مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة دعت إلى تعظيم شعائر الله ومناسكه، وإلى ذكر اسم الله على بهيمة الأنعام، وإلى إطعام القانع والمعترّ منها.. وهذا لا يقوم على تعظيمه والوفاء به، إلّا أهل الإيمان والتقوى- فناسب هذا أن يذكر ما للمؤمنين المتقين عند الله من فضل وإحسان، وأنهم جند الله، يدافع الله عنهم، وينصرهم.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1041 - وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا» .. إشارة إلى أن المؤمنين معرضون للابتلاء من أعداء الله، الذين يكيدون لهم، ويريدونهم على أن يكونوا معهم، وألا يخرجوا عن طريقهم. ولكن الله سبحانه وتعالى «يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا» فيربط على قلوبهم، ويثبت أقدامهم على طريق الهدى، ويمدهم بالصبر على احتمال المكروه.. وهذا أشبه بالدروع الحصينة التي تتكسر عليها ضربات أهل الباطل والكفر.. إنها أمداد من الله، وأدوات من أدوات الدفاع.. ثم ينتهى الأمر بانحسار جبهة الضلال، واندحار أهله، وغلبة الإيمان وانتصار المؤمنين: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» (21: المجادلة) . وأنت ترى. أن دفاع الله عن المؤمنين، إنما يكون والمؤمنون فى مواطن الإيمان، وفى ميدان المعركة. وهذا يعنى أن المؤمن الذي يستسلم لعدوّ الله وعدوّ المؤمنين، لا يكون فى ميدان المعركة، ومن ثمّ فلا يكون من الله دفاع عنه، إذ لا معركة قائمة بينه وبين عدوّه.. ومن هنا، كان واجبا على المؤمن الذي يطمع فى دفاع الله عنه، ألا يلقى السلاح. من يده، وألا يفرّ من الميدان.. سواء أكان ذلك ميدان حرب، أو ميدان رأى، ودعوة إلى الله.. - وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ» - هو تهديد للكافرين، الذين خانوا عهد الله وميثاقه الذي واثقهم به وهم فى أصلاب آبائهم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا بَلى شَهِدْنا» (172: الأعراف) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1042 ثم إنهم بعد هذا قد كفروا بما جاءهم من آيات الله على يد رسله، وكذبوا بها.. فهم لهذا فى معرض السخط من الله.. «لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (174: البقرة) . قوله تعالى: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ» .. أذن لهم: أي أبيح لهم القتال، دفاعا عن النفس.. أي أن الله سبحانه وتعالى، قد أذن المسلمين الذين بدأهم أعداؤهم وأعداء الله بالقتال- قد أذن لهم أن يقاتلوا، وأن يدفعوا يد البغي والعدوان عنهم.. فهذا قتال مشروع، بل إنه واجب، إذ كان فيه تقليم لأظفر الطغيان وخضد لشوكة الطغاة.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ» (179: البقرة) ويقول: «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» (194: البقرة) .. أما الاستسلام للبغى، والسكوت على الظلم، فهو تمكين للشرّ، وتدعيم لبنائه، وإطلاق ليده، يضرب بها كيف يشاء فى مواقع الحق، ومواطن الخير.. إن البغي، والظلم، والعدوان.. كلها وجوه منكرة من وجوه المنكر، ومطلوب من كل مؤمن بالله أن يدفع المنكر بكل ما ملكت يده، ووسع جهده.. وقتال المؤمنين، والعدوان عليهم، بإراقة دمائهم وإزهاق أرواحهم، هو أنكر المنكر، وإنه لفرض على كل مؤمن أن يردّ هذا المنكر، ويخمد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1043 أنفاسه، ويقدم نفسه قربانا لله فى سبيل الدفاع عن دين الله، وعن ينابيع الرحمة والخير المتدفقة منه. - وفى قوله تعالى: «بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا» هو تعليل للإذن الذي أذن فيه للمؤمنين بالقتال.. والمعنى: أنه قد أذن الله للذين يقاتلون أن يقاتلوا من يقاتلهم، بسبب أنهم ظلموا بالتعدّى عليهم، وبمبادأتهم بالقتال.. فهو قتال دفاع منهم، لا قتال هجوم.. ولهذا، فإنهم مؤيّدون بنصر الله، «وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ» . إذ في يده سبحانه القوى كلها، وإنه لا غالب لله.. وفى هذا تحريض للمظلوم- وإن كان ضعيفا- أن ينتصف ممن ظلمه، فإنه على وعد بنصر الله له. قوله تعالى: «الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ.. إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» . هو بيان الحال هؤلاء الذين أذن الله لهم أن يقاتلوا.. فقوله تعالى: «الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ» - هو بدل من قوله تعالى: «لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ» فهؤلاء الذين يقاتلون، وأذن لهم فى قتال مقاتليهم- هم أولئك المهاجرون الذين أخرجوا من ديارهم ظلما وعدوانا «بِغَيْرِ حَقٍّ» .. فإنهم لم يجنوا على أحد، ولم يكرهوا أحدا على أمر، وإنما كل جنايتهم- إن كانت هناك جناية- هى إيمانهم بالله، وقولهم ربنا الله الواحد، الذي لا شريك له.. فهل فى هذا عدوان على أحد، أو ضرر يعود على أحد؟. ولكنّ أهل الضلال والبغي ينظرون بعيون مريضة، ويحكمون على الأمور بعقول فاسدة، فيرون النور ظلاما، والخير شرا، والإحسان إساءة.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1044 - وقوله تعالى: «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً» .. هو إشارة إلى هذا الصدام الذي يقوم بين أهل الشر والضلال، وأهل الخير والإيمان، وأنه لولا أهل الخير والإيمان، ووقوفهم فى وجه الضالين والباغين- لما قام لله دين على هذه الأرض، ولغلب الشر الضلال، ولأنى على كل صالحة فى هذه الدنيا، ولخربت بيوت العبادة التي أقامها المؤمنون لعبادة الله من «صَوامِعُ» وهى بيوت عبادة الرهبان من النصارى، «وَبِيَعٌ» وهى بيوت عبادة النصارى عامة، «وَصَلَواتٌ» وهى بيوت عبادة اليهود، «وَمَساجِدُ» وهى بيوت عبادة المسلمين.. ومن أجل هذا، فقد أقام الله سبحانه وتعالى، فى كل ملة، وفى كل أمّة، جماعة مؤمنة، تقيم شرع الله، وتحيى شعائره، وتعمر بيوته، وتحتمل فى سبيل هذا ما تحتمل من بلاء، فى دفع الظالمين، وردع الباغين.. فهذا الصّدام القائم بين الهدى والضلال، وبين المهتدين والضّالّين، هو سنّة من سنن الله، التي أقام حياة الناس عليها، والتي كان من ثمارها أن قامت بيوت الله، وعمرت بالمؤمنين الذاكرين الله كثيرا فيها.. وفى هذا دعوة المؤمنين- فى صدر الدعوة الإسلامية خاصة- أن يكونوا جند الله فى هذه الأرض، والحماة المدافعين عن دينه، والمقيمين مساجده، والمعمّرين ساحاتها بذكر الله فيها.. وفى هذا أيضا إشارة إلى أنه سيكون للمسلمين مساجد، وأن هذه المساجد ستعمر بالمصلين والذاكرين الله كثيرا فيها.. وهو وعد كريم من ربّ كريم، لجماعة المؤمنين يومئذ.. وقد تحقق هذا الوعد- وكان لا بد أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1045 يتحقق- فملأت المساجد آفاق الأرض، وامتلأت بالمصلين، واهتزت جنباتها بالذاكرين. قوله تعالى: «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ» هو وعد منه سبحانه وتعالى بالنصر للمؤمنين، الذين نصروا الله، وجاهدوا فى سبيله.. إنهم نصروا الله إذ نصروا دينه، فكان حقّا على الله أن ينصرهم، كما يقول سبحانه: َ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ» (47: الروم) . وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» هو توكيد، بعد توكيد لهذا الوعد الذي وعده الله المؤمنين بالنصر، إذا هم نصروا الله، ودافعوا عن دين الله.. وليس وعد الله فى حاجة إلى توكيد، عند المؤمنين بالله، ولكنه مبالغة فى تطمين القلوب، وتثبيت الأقدام، فى تلك الساعات التي تزيغ فيها الأبصار، وتضطرب النفوس، حين تلتقى جماعة المؤمنين، فى أعدادها القليلة، بحشود المشركين، فى جحافلها الجرارة! قوله تعالى: «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ» . يمكن أن يكون الاسم الموصول: «الَّذِينَ» بدلا من الاسم الموصول فى قوله تعالى: «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ» كما يمكن أن يكون بدلا من الاسم الموصول «الَّذِينَ» فى قوله تعالى: «الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ» .. وعلى أىّ فإن الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، هم الذين وعدوا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1046 بالنصر فى قوله تعالى: «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ» .. فالذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، وهم المهاجرون- هم الذين وعدوا بالنصر، لأنهم نصروا الله، فخرجوا من ديارهم وأموالهم، مهاجرين بدينهم الذي هو كل حظهم من هذه الدنيا، والذي باعوا من أجله أنفسهم وأموالهم وديارهم وأوطانهم.. وقوله تعالى: «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ» - هو عرض للصورة الكريمة التي سيكون عليها هؤلاء المؤمنون الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، وذلك حين ينصرهم الله، ويمكّن لهم فى الأرض، وتكون لهم القوة والغلب.. إنهم- مع ما ملكت أيديهم من قوة، وما مكّن الله سبحانه وتعالى لهم فى الأرض من سلطان- لن يكونوا على شاكلة هؤلاء الضالّين الذين كانت إلى أيديهم القوة والسلطان، فتسلطوا على عباد الله، ورهقوهم، وأخذوهم بالبأساء والضراء، وأخرجوهم من ديارهم بغير حق.. إن هؤلاء المؤمنين، حين يمكّن الله لهم فى الأرض، سيكونون مصابيح هدى، وينابيع رحمة، للإنسانية كلها، بما يقيمون فيها من موازين الحق، والعدل، وما يغرسون فى آفاقها من مغارس الخير والإحسان.. إنهم يقيمون الصلاة، ليستمدوا منها أمداد الهدى من الله.. ويؤتون الزكاة، فيكشفون بها الضرّ عن عباد الله.. ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.. فيصلحون بهذا من سلوك الناس، ويقيمون لهم طرقهم مستقيمة، فلا تتصادم منازعهم، ولا تفسد مشاربهم.. وقد صدق الله وعده، ومكن سبحانه وتعالى للمؤمنين فى الأرض، فكانوا أعلام هدى، وآيات رحمة، وموازين عدل وإحسان بين الناس.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1047 وكانوا كما وصفهم سبحانه بقوله: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» (110: آل عمران) . قوله تعالى: «وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ» .. إشارة إلى نفاد قدرة الله، وأنها بالغة الغاية التي قدّرها الله لها فى هذا المقام، وهى نصر المؤمنين، وإعزازهم، وخذلان المشركين والضالين، وخزيهم.. فعاقبة الأمور، هى ثمراتها الطيبة، إذ كانت الأمور كلها تجرى بأمر الله، وتتحرك بمشيئته.. فإذا بلغت غايتها كانت خيرا، وكانت كمالا، وحسنا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» (128: الأعراف) وقوله سبحانه: «وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى» (132: طه) . الآيات: (42- 48) [سورة الحج (22) : الآيات 42 الى 48] وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1048 التفسير: قوله تعالى: «وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» . فى هذه الآيات مواساة للنبىّ الكريم، وعزاء جميل من ربّ العالمين، لما يلقى من قومه من تكذيب، وسفه، وتطاول.. فتلك هى سبيل الأنبياء مع أقوامهم.. «كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ» (44: المؤمنون) .. وأنت أيها النبي لست بمعزل عن هذا، ولا قومك ببدع بين الأقوام.. إنه حق وباطل، وهدى وضلال، وإنه لا بد من صدام بين أصحاب الحق وأهل الباطل، وبين دعاة الهدى، وأئمة الضلال.. «فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ» (35: الأحقاف) .. وفى هذه الآيات: أوّلا: جاء ذكر قوم نوح، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، مضافين إلى أنبيائهم، على حين جاء قوم هود، وقوم صالح، وأصحاب مدين، وهم عاد وثمود، وقوم شعيب مجردين من هذه الإضافة.. فما وجه هذا؟ .. الجواب- والله أعلم- أنه تنويع فى النظم، وذلك بتوزيع الكلمات ذات النغم الواحد مثل «قوم» هذا التوزيع غير المتتابع، حتى لا يثقل على الأذن، ولا يثير الملل والسأم، فكان هذا التوزيع الذي ترى وتسمع تساوق لحنه وروعة نغمه.. ولو ذهبت تعيم النظم على أسلوب واحد، فتذكر الأقوام مضافين إلى أنبيائهم، أو تذكرهم بأعيانهم مجردين من تلك الإضافة، لوجدت نظما قلقا مضطربا يتعثر به اللسان، وتستثقله الآذان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1049 وثانيا: جاء الفعل «كذبت» مؤنثا مع أن فاعله مذكر وهو «قوم نوح» .. وكان ظاهر النظم يقضى بأن يجىء الفعل مذكرا هكذا: «كذب» فما سرّ هذا؟ .. والجواب- والله أعلم- أن القوم المكذبين كانوا على طبيعة واحدة من الضلال والعمى، فكأنهم- بهذا كتلة متضخمة من الظلام، لا يخرج منها إلا ما هو شر، وضرّ.. فكأنّ الفعل واقع على هذا الكيان الفاسد، أو هذه القطعة من الظلام، والضلال!. ومن جهة أخرى، فإن الفعل «كذب مسلط على هؤلاء الأقوام الذين ذكرتهم الآية، قوم نوح، وعاد، وثمود ... » وهم بهذا أمة واحدة، فى الضلال، وإن كانوا أمما فى الأمكنة والأزمنة.. وثالثا: جاء قوله تعالى: «وَكُذِّبَ مُوسى» مخالفا للنظم، الذي كان ظاهره يقضى بأن يجىء هكذا: «وكذب قوم موسى» معطوفا على قوله تعالى «وَأَصْحابُ مَدْيَنَ» .. فما وجه هذا؟. والجواب- والله أعلم- أن قوم موسى، وهم بنو إسرائيل لم يكذبوه، وإنما الذي كذبه هو فرعون وقوم فرعون، وهم ليسوا قوم موسى.. أما السرّ فى أنه لم يذكر فرعون وقومه فى الأمم والأقوام المكذبة بالرسل فذلك- والله أعلم- لأن موسى لم يكن من قوم فرعون، ورسل الله جميعا من أقوامهم.. فلم يكن موسى مبعوثا إلى فرعون وقومه ليقيم فيهم دينا ويؤسس شريعة، وإنما كانت رسالته إلى فرعون أن يدعوه إلى إطلاق بنى إسرائيل من يده كما يقول سبحانه لموسى وما يدعون فرعون إليه: «فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ» (47: طه) هذه هى رسالة موسى إلى فرعون.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1050 أما دعوته فرعون إلى الإيمان بالله، فهى من مستلزمات دعوته إلى إطلاق بنى إسرائيل، تلك الدعوة المأمور بها من الله.. فإذا لم يؤمن فرعون بالله، فلن يستجيب لهذه الدعوة.. - وفى قوله تعالى: «فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ.» هو تهديد للمشركين، الذين تصدوا للنبىّ وكذبوه، وآذوه.. فإن يكن الله قد أملى لهم، أي أمهلهم، ولم يعجل لهم العذاب فإنه سبحانه قد أملى للكافرين قبلهم.. ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر.. - وفى قوله تعالى: «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» استفهام يراد به التقرير، والإلفات إلى ما أخذ الله به الكافرين المكذبين برسل الله.. «فمنهم من أغرقه الله، ومنهم من خسف به الأرض، ومنهم من أرسل عليه حاصبا، ومنهم من أخذته الصيحة..» والنكير: الإنكار المنكر.. ونكير الله هو إنكاره على الكافرين كفرهم، وليس وراء هذا الإنكار، إلا البلاء المهين، والعذاب الأليم.. قوله تعالى: «فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ..» هو بيان لنكير الله سبحانه وتعالى، ووقعات بأسه بالظالمين والضالين.. فكثير من قرى الظالمين قد أهلكها الله، وأنزل بها عذابه، فوقع عليها وهى قائمة على ما كانت عليه من ظلم وطغيان.. وهذه القرى قد خوت على عروشها، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1051 أي خرّت، وسقطت على عروشها، أي سقفها.. كما يخرّ الإنسان على وجهه. فتعطلت آبارها وردمت، لأنها لا تجد الواردين إليها، وخربت القصور المشيدة، بعد عمرانها، لأنها لا تجد من يسكنها.. لقد ذهب الجميع، وخلّفوا وراءهم هذا الخراب الموحش المخيف!. قوله تعالى: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.» الاستفهام هنا، تقريع، ونخس لهؤلاء المشركين من قريش، الذين تصدّوا لرسول الله، وكذّبوه وآذوه، دون أن ينظروا فى عاقبة أمرهم، ودون أن يلتفتوا إلى ما وراء هذا المنكر الذي هم فيه.. ولو نظروا فيما حولهم لعرفوا أنهم فى معرض الهلاك، إذا هم لم يرجعوا عن هذا الضلال الذي يركبونه، فهم ليسوا أحسن موقفا من أولئك الأقوام الذين كذبوا الرسل من قبلهم، فأهلكهم الله.. - وفى قوله تعالى: «فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها» هو إشارة إلى أن السير فى الأرض، لا يفيد منه صاحبه شيئا إلا إذا كان معه قلب متفتّح، يتلقّى المؤثّرات الخارجية، ويتأثّر بها، ويتفاعل معها.. فإن لم يكن له هذا القلب اليقظ المتفتّح، فليفتح أذنه لدعوة الداعي، ونذير المنذر.. فإن الأعمى يتّخذ من أذنه أداة عاملة تقوم مقام عينيه، وتصل ما بينه وبين الوجود.. أما هؤلاء القوم الضالون، فلم تكن لهم قلوب يعقلون بها، ولم تكن لهم آذان يسمعون بها.. لقد عطلوا حواسهم.. فهم صمّ بكم عمى لا يعقلون.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1052 ولم يذكر القرآن هنا أبصارهم، ولم يستدعها كما استدعى قلوبهم وآذانهم.. ولكن أشار إليها ضمنا، فى قوله تعالى: «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» .. فكأنه قال: أما أبصارهم فلا وزن لها إذا لم تكن هناك القلوب التي تتلقى عنها، وتعى ما يجىء إليها منها.. فأبصارهم معهم، وهى سليمة لا عيب فيها، ولكنهم مع هذا هم عمى، لأن العمى ليس عمى الأبصار، ولكنه عمى القلوب التي فى الصدور. - وفى قوله تعالى: «الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» توكيد للقلوب، وأنها هى المرادة هنا، على سبيل الحقيقة لا المجاز، وذلك لئلا ينصرف مفهوم القلوب إلى العقول، كما يحدث ذلك كثيرا. وقد وصفت القلوب هنا بأنها تعقل وتدرك.. فكان تحديد مكانها أمرا لازما، حتى يتقرر أنها المقصودة بذاتها، وليست العقول.. واختصاص القلب بالذكر، والنظر إليه على أنه مركز الإدراك والإلهام، فى هذا المقام، لأن الدّين عقيدة، والعقيدة أساسها الحبّ والامتثال والولاء، والقلب هو منبع هذه المشاعر، ومصدر تلك العواطف.. وحقّا، إن للعقل مكانه البارز فى إدراك الحقائق الدينية، وتصوّرها، وإنه بغير هذا الإدراك وذلك التصور لا تقع هذه الحقائق من القلب موقع الحبّ، والتقدير، والتقديس.. ولكن القرآن الكريم ينظر إلى القلب، لا باعتباره مصدر العواطف والمشاعر وحسب، بل ينظر إليه كذلك نظرة وظيفية، كعضو عامل فى كيان الإنسان.. فهو- من هذه الجهة- مركز الحياة فى الإنسان، بل وفى كل عالم الحيوان- حيث يمدّ الجسم كلّه بالدّم المتدفق منه فى العروق والشرايين، ولو توقف لحظات لمات الكائن الحىّ، وأصبح جثة هامدة.. ومن هنا كان نبض القلب هو الإشارة الدالة على وجود الحياة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1053 فى الإنسان.. وحين يسكت النبض تتوقف الحياة، ويغيض مجراها، وتجفّ ينابيعها.. وإذ كان القلب بهذه المثابة، فإنه هو صاحب الشأن الأول فى الإنسان، بحكم آثاره الظاهرة فيه.. إنه يعمل دائما فى حال اليقظة والنوم. وأما العقل، وإن عرفت آثاره، فإنه لا يعرف سرّه، ولو عرف سرّه، فإنه لا يخرج عن أن يكون ربيب القلب، وغذىّ ماء الحياة الذي يمدّه به، أيّا كان موضعه فى كيان الإنسان، وأيّا كان مستقرّه. فإذا أضاف القرآن الكريم إلى القلب، علما، ومعرفة، وحكمة، وإيمانا، فإنّما ذلك لأنه سلطان الجسد كلّه، وإلى صلاحه أو فساده يعود صلاح أعضاء الإنسان وفسادها، وسلامة حواسه أو اعتلالها.. وليس العقل إلا حاسّة خفية- من حواس الإنسان، ترتبط سلامته بسلامة الجسد، كما ترتبط سلامة الجسد بسلامة القلب، وفى المثل: «العقل السليم فى الجسم السليم» .. وقد كشف عن هذا الرسول الكريم فى قوله: «ألا وإن فى الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهى القلب» . وعلى هذا يمكن أن نفهم قوله تعالى: «فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها» (46: الحج) لا على أن القلب هو مصدر الإدراك المباشر، وإنما هو مصدر للعقل الذي يعقل ويدرك.. فلو كان القلب سليما معافى من العلل لسلم العقل، ثم لكان إدراكه للأمور سليما، وتقديره لها صحيحا.. وهذا أبلغ فى الكشف عن داء الغفلة المستولى على القوم، وأنه داء ينبع من المنبع الأصلى، وهو القلب، وليس داء عارضا أصاب حاسة من الحواس.. إنه داء يسرى فى الجسد كله. وسواء إذا كان القلب هو موطن المشاعر والمدركات، أم كان عضوا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1054 من أعضاء الجسد أو جارحة من جوارحه، فإنه من حيث مكانه فى الجسد، ووظيفته العضوية فيه- يعدّ مركز الحياة فى الكائن الحىّ، تتأثر به كل خلية من خلايا الجسد، كما أنه يتأثر بكل خلية فى الجسد.. ومن هنا صحّ أن يضاف إليه كلّ ما للجوارح من آثار، وما لكل عضو من قوى حسّية أو معنوية. فالعين وما فيها من قوى الإبصار، هى من جنود القلب.. إذ هى غصن من أغصان الشجرة التي يقوم على تغذيتها، وإمدادها بالحياة.. وكذلك الشأن فى الأذن، واليد، واللسان.. وكذلك الحال فى «المخ» الذي قيل إنه هو موطن الشعور والإدراك!! إن الإنسان، هو فى الواقع هذا القلب، لا من حيث هو تلك النطفة الصنوبرية من اللحم والدّم.. ولكن من حيث هو مستودع هذه الحياة المتدفقة منه، وهى الدّم الذي يسرى فى العروق والشرايين، والذي يملأ الكيان الجسدى كلّه مع كل خفقة من خفقاته، قبضا وانبساطا.. قوله تعالى: «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» . هو ردّ على هؤلاء المشركين الضالين الذين عموا عن الحقّ، وضلوا عن سواء السبيل، ثم هم مع- هذا الموقف المكابر المتحدّى- يستعجلون العذاب الذي أنذروا به إنهم أعرضوا عن الإيمان بالله، وكذبوا بما جاءهم به رسول الله، كما فى قوله تعالى: «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ» (13: فصلت) .. وفى هذا الرد إنكار عليهم، وتسفيه لهم، إذ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1055 يطلبون الهلاك، ويستعجلون البلاء، على حين يصرفون وجوههم عن هذا الخير الذي بين أيديهم، ويلقون بأنفسهم إلى التهلكة.. وهذا لا يكون من إنسان له مسكة من العقل والإدراك. وفى قوله تعالى: «وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ» تهديد لهم، بالعذاب الذي أنذروا به، وأنه واقع بهم.. فهذا وعد من الله، ولن يخلف الله وعده.. لأن خلف الوعد إنما يكون عن عجز عن الوفاء به.. وتعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.. وقوله سبحانه: «وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» هو تأكيد لوقوع وعد الله، وإنجازه وأنهم إذا كانوا قد استبطئوا وقوعه، فإن لله سبحانه وتعالى تقديرا غير تقديرهم، وحسابا غير حسابهم، وأنه سبحانه لا يقيس الزمن بمقياس الناس، فالناس يتعاملون مع أشياء محدودة، فى زمن محدود، على حين أن الله سبحانه يدبر الوجود كله، فى زمن مطلق، وبقدرة مطلقة.. وعلى هذا فإنه إذا لم يقع بهم العذاب عاجلا فهو واقع آجلا، وأنهم إذا لم يؤخذوا به فى الدنيا، أخذوا به فى الآخرة.. فهم أبدا فى قبضة الزمن الذي هو فى قبضة الله.. ولن يفلتوا أبدا. قوله تعالى: «وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ» .. هو بيان شارح لقوله تعالى: «وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» .. والمعنى أن هؤلاء المشركين إن كانوا يستعجلون العذاب، ويشكون فى وقوعه حين أبطأ عليهم، ولم يقع بهم، فما ذلك إلّا لأن لهم حسابا، وأن لله سبحانه وتعالى حسابا، وأنهم إذا كانوا قد أملى لهم ولم يؤخذوا بظلمهم إلى يومهم هذا الذي هم فيه- فليس هذا لأنهم ممتنعون عن الله بقوة أو جاه أو سلطان، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1056 وإنما لأن ذلك هو حكم الله فى عباده، وسنته فى الظالمين منهم.. لا يعجل لهم العذاب، ولا يبادرهم به، بل يمهلهم ويملى لهم، حتى يراجعوا أنفسهم، ويتدبروا أمرهم، وهذا من رحمة الله بهم وفضله عليهم، كما يقول سبحانه: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» (61: النحل) وبين يدى هؤلاء المشركين الضالين شاهد ناطق بهذا فما أكثر القرى الظالمة التي أمهلها الله.. ثم أخذها.. بل إن هؤلاء المشركين هم شاهد حىّ لهذا.. فهم على ما هم فيه من ظلم ما زالوا فى عافية من أمرهم، لم يأخذهم الله بعذابه.. وتلك فرصتهم السانحة للخلاص من بأس الله، الذي لا يردّ.. إذا حان حينه بهم.. - وفى قوله تعالى: «وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ» إشارة إلى أنهم إذا لم يؤخذوا بظلمهم فى هذه الدنيا، فإنهم صائرون إلى الله، وسيلقون جزاء الظالمين يوم القيامة.. فإن هم أمهلوا اليوم، فليس معنى ذلك أنهم نجوا من العذاب، بل إن فى غد عذابا فوق العذاب، وبلاء فوق البلاء! «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» (26: الزمر) . الآيات: (49- 59) [سورة الحج (22) : الآيات 49 الى 59] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1057 التفسير: قوله تعالى: «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ» . هو توكيد لهذا الإنذار، الذي أنذر به المشركون من وقوع العذاب بهم، إذا هم لم يستجيبوا لله وللرسول.. فهو إنذار عام للناس جميعا، ولكنه فى حقيقته إنذار خاص لكل ضالّ غوىّ، ثم هو إنذار فى مواجهة هؤلاء المشركين، يصرخ فى وجوههم، ويصكّ أسماعهم.. وإنه لإنذار مبين واضح، بما معه من الأدلة القاطعة، والآيات الناطقة المعجزة.. «فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» . الفاء هنا، للتفريع المسبب عن هذا الإنذار الذي جاء به النذير المبين.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1058 إذ الناس مع هذا الإنذار، بين ملتفت إليه، مستفيد منه، آخذ طريق النجاة، وبين ذاهل عنه، أو مستخفّ به، أو مكذّب له.. فهو فى غفلة من أمره، قائم فى وجه العاصفة العاتية التي تجتاح كل شىء، وتدمر كل شىء.. فأما الذين استمعوا لهذا النذير، وآمنوا بالله، وعملوا الصالحات، فقد ركبوا طريق النجاة، ولهم من الله مغفرة، ورحمة، ورزق كريم.. «وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» .. أي: وأما هؤلاء الذين لم يستمعوا لهذا النذير المبين، ولم يستضيئوا بالنور الذي معه، بل تصدّوا لهذا النور، وأرادوا أن يطفئوه بأفواههم، وبما يخرج منها من أكاذيب وأضاليل- هؤلاء هم أصحاب الجحيم، فليس لهم من صاحب إلا جهنم وما تمدّهم به من عذاب أليم.. إنهم أشكل بها، وهى أقرب شىء إلى طبيعتهم. - وفى قوله تعالى: «سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ» إشارة إلى سعى هؤلاء المشركين، وأنه سعى للباطل والضلال، حيث يسعون لإعجاز آيات الله، وغلبتها وصرفها عن طريقها.. وفى تعدية الفعل بحرف الجر «فى» الذي يفيد الظرفية، إشارة إلى أنهم يدخلون فى آيات الله ويلبسون الحقّ بالباطل، إذ يحرفون الكلم عن مواضعه، ويلقون فيه بالهذر من القول، والسّخف من الكلام، كما حكى القرآن ذلك عنهم فى قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ» (26: فصلت) . وأريد أن تلتفت التفاتة خاصة إلى قوله تعالى: «مُعاجِزِينَ» وأن تقف لويلا عندها، فإن لها شأنا فى تلك القصّة العجيبة المثيرة، التي نسج خيوطها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1059 المفسّرون والقصّاص، من واردات الخيالات والأوهام، فكان منها تلك الخرافة المعروفة (بالغرانقة العلا) التي كثرت فيها الأقوال، وتضاربت حولها الآراء، حتى كادت تدخل مدخل الواقع، وتلبس ثوب الحقيقة، لدورانها على الألسنة، وتقليب وجوه الرأى فيها، وهى كائن ميت، كان من الواجب أن يوارى من أول يومه، ويدفن فى التراب، وألا ينبش بين الحين والحين، فإن تقليب جثث الموتى لا تجىء منه إلا الروائح الخبيثة، التي تزكم الأنوف، وتكظم الأنفاس! وقد كنّا نريد ألا ننبش هذا الجسد المتعفن، وألا نثير منه تلك الروائح الخبيثة التي تضيق بها صدور المؤمنين، لولا أننا نخشى أن يكون لبعض المؤمنين نظر فيها، ووقوف أو توقّف عندها، وهم يقرءونها فى كتب التفاسير، ويجدونها فى ثنايا كتب السيرة النبويّة العطرة!. فيثير ذلك فى نفوسهم قلقا، واضطرابا، ويحرّك فى صدورهم وساوس وظنونا! ولهذا لم نر بدّا من الوقوف عند هذه القصة، والكشف عن زيفها وباطلها..! ولكن قبل الدخول فى هذا البحث، أعود فأذكّرك بالنظر إلى قوله تعالى فى الآية السابقة: «وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ» .. وإلى أن هذه الآية موجهة إلى المشركين، وإلى عبثهم بآيات الله، وإلى مغالبتها ومعاجزتها باللّغو فيها.. فالمشركون متّهمون بهذه الجريمة، وهى الدخول إلى آيات الله، بما يغيّر وجهها، ويبدّل صورتها، ويعطيهم الحجة عليها، بعد أن كانت لها الحجة عليهم.. إذا عرفنا هذا، وسلمنا به- وهو واضح لا يحتاج إلى من يدلّ عليه، وهو أمر مسلّم به، لا يجوز الخلاف فيه- كان ذلك هو مقطع القول فى هذه القضية، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1060 وكلمة الفصل فيها.. وكانت كلّ الدعاوى التي تدّعى لها، وكلّ الروايات التي تساق لإثبات شخصيتها، ضلالا فى ضلال، لأنها تصادم صريح لفظ القرآن، وتنقض خبرا من أخباره.. وذلك كما سترى.. [الغرانقة العلى.. قصّتها ومن أين جاءت؟] قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» . هذه الآية الكريمة، هى التي ولّد منها المفسّرون وأصحاب السّير، قصة «الغرانقة» هذه.. ولكنا ندع هذه القصة الآن، وننظر فى الآية الكريمة نظرا غير مرتبط بما يقال من روايات عن أسباب النزول- ننظر إليها على أنها قرآن يتلى، ويتعبّد بتلاوته، دون أن يكون لسبب النزول- أيّا كان- أثر فى موقعه من قلوبنا، أو عقولنا! - فقوله تعالى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» هو خبر يتضمن حكما عاما، لا انفكاك منه.. يقع على رسل الله وأنبيائه جميعا.. وهذا الحكم، هو: أنه ما من رسول من رسل الله، ولا نبىّ من أنبيائه، إلا والشيطان راصد له، وأنه كلّما تمنّى ألقى الشيطان فى أمنيّته! هذا صريح ما تنطق به كلمات الله، فى وضوح وجلاء.. وإن كان هناك ما يسأل عنه، فهو كلمة التمنّى.. فما معنى التّمنّي، وماذا كان يتمنّى الرسول، أو النبىّ؟ ثم ماذا يلقى الشيطان فيما يتمناه الرسول أو النبىّ؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1061 والتمنّى فى اللغة معروف، وهو طلب النّفس لرغيبة من الرغائب المحبوبة، البعيدة عن أن تنال، بعدا يكاد يبلغ حدّ الاستحالة. وقد فرّق علماء النحو والبلاغة بين الترجّى، والتّمنّي، كما فرّقوا بين حرفى الطلب: ليت، ولعلّ.. فقالوا: إن «ليت» للتمنّى، وهو طلب محبوب لا يدرك، و «لعلّ» للترجّى، وهو طلب مرغوب يمكن إدراكه والحصول عليه، وإن كان بعيدا. وفى القرآن الكريم، جاء لفظ التمني بهذا المعنى، الذي هو طلب الشيء البعيد.. كما فى قوله تعالى: «فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» (94- 95: البقرة) . والخطاب هنا لبنى إسرائيل، وهم مطالبون فى هذا الخطاب أن يتمنّوا شيئا لا يمكن أن يقع منهم، وهو تمنّى الموت.. ولهذا جاء قوله تعالى: «وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً» كاشفا عن هذا.. ولهذا أيضا جاء قوله تعالى بعد ذلك: «وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ» - جاء مؤكدا لعدم وقوع هذا الأمر منهم، إذ أن الحريص على الشيء لا يتمنى إفلاته من يده، فكيف إذا كان أشدّ الناس حرصا عليه؟ وجاء فى القرآن الكريم أيضا قوله تعالى: «أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى؟» (24: النجم) وهو ينكر على الإنسان أن يقع له ما يتمناه، ويجرى على هواه وهواجسه.. وجاء فى القرآن الكريم كذلك فى قوله تعالى: «وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ» (78: البقرة) والأمانىّ جمع أمنيّة.. وعلم الأميين من أهل الكتاب، بالكتاب، هو علم بعيد عن الحقّ، بعد الأمنية عمن يتمنّاها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1062 ذلك هو التمني، على ما عرفته العرب، وجاء به القرآن الكريم، وهو أنه طلب أمر محبوب، بعيد الإدراك، أو مستحيله. فما هى أمنية كلّ رسول، وكلّ نبىّ؟ إن أمنية كلّ رسول، ورغيبة كلّ نبىّ، هى أن يرى قومه على الهدى الذي يدعوهم إليه، وأن يصبحوا جميعا فى المؤمنين بالله.. فتلك هى رسالته فى الناس، يعيش لها، ويعمل من أجل تحقيقها، وأن سعادته كلها هى أن يرى نجاح مسعاه، وثمرة جهاده، فى هذه الأعداد التي استجابت له واتبعته، وأنه كلما كثرت هذه الأعداد، تضاعفت سعادته، وعظمت غبطته. هذه هى أمنية كل رسول، وكل نبىّ.. لا أمنية لأحد منهم غير هذه الأمنية! ولكن الأمانىّ- كما قلنا- بعيدة التحقيق! وأمنية الرسول أو النبىّ فى أن يكون الناس جميعا مؤمنين- أمنية تقع فى دائرة المستحيلات، لأنها تطلب من الحياة مالم تجد به، وتريد الناس على غير ما أقامهم الله عليه.. فالحياة لم تعرف المجتمع الإنسانىّ على طريق سواء، يضمّ جميع أفراده.. والناس- كما خلقهم الله- مؤمن وكافر، وفى هذا يقول الله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (2: التغابن) . وإذن فأمنية أي رسول وأي نبىّ، غير ممكنة التحقيق.. ومع هذا فإن على كل رسول وكل نبىّ أن يسعى سعيه، ويبذل جهده، ويدعو الناس جميعا إلى الله، ويؤذّن فيهم بآيات الله! ولكن صوت الحق هذا، تلقاه على الطريق أصوات منكرة، بعضها ينبح نبح الكلاب، وبعضها يعوى عواء الذئاب، ومنها ما ينهق نهيق الحمير، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1063 ومنها ما يفحّ فحيح الأفاعى.. فيتألف منها ومن كثير غيرها من كل صوت منكر- إعصار مجنون، يكاد يخنق هذا الصوت الكريم، ويغطى سماءه الصافية، بما يثير من غبار ودخان! فهذه هى أمنية الرسول أو النبىّ، وتلك إلقاءات الشيطان فيها.. إذ ليست كلّ هذه الأصوات المنكرة إلا صنيعة الشيطان، وإلا غرسا من غرسه النكد، وثمرات من ثمر هذا الغرس الخبيث.. ويحسن هنا أن تقرأ هذا المقطع من الآية الكريمة: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ.. إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» .. وواضح مما رأيت، أن أمنيّة كل رسول وكل نبىّ، كانت أبدا هى هداية قومه جميعا إلى الله، وأن إلقاء الشيطان فى هذه الأمنية، هو ما يوسوس به للسفهاء، والحمقى، والجهلاء من القوم، ليقفوا فى وجه الدعوة التي يدعون إليها، وليرهقوا رسلهم وأنبياءهم.. فالشيطان لا يظهر عيانا، ولا يلقى الرسول أو النبىّ مواجهة، وإنما يلقاهما فى أتباعه وأوليائه، هؤلاء الذين استذلّهم الشيطان، وأمسك بهم من مقاودهم، فكانوا له جنودا يسلطهم على أنبياء الله، ورسل الله، وأولياء الله.. ولكن ماذا يكون بين هذه الأمنية التي يتمنّاها الرسول أو النبىّ، وما يلقى به الشيطان فيها؟ الشيطان كما أخبرنا الله- سبحانه وتعالى- عنه، ليس له سلطان على الذين آمنوا، كما يقول سبحانه: «إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» (99: النحل) فكيف بالرسل والأنبياء، الذين عصمهم الله، وأمدّهم بكثير من أمداد عونه، وتوفيقه، وحياطته؟ ثم كيف والشيطان أيّا كان هو ضعيف الكيد لمن عرف كيف يدافع عن إنسانيته، ويحمى وجوده من أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1064 يكون مطيعة ذلولا له.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً» (76: النساء) إن هؤلاء الضالين الآثمين، الذين يقفون فى وجه الحق، هم صنائع الشيطان، وهم كيده الذي يكيد به لأولياء الله، وأنبياء الله، ورسل الله.. وهذا «الكيد» الذي هو من أولياء الشيطان.. هو كيد ضعيف، وسراب خادع، لا يقف للحقّ، ولا يحتمل صدمته! .. وعلى هذا، فإن ما يلقى به الشيطان فى أمنية الرسول أو النبىّ، من ضلالات وأباطيل، وما يستنبت به فى منابت الحق من شوك وحسك- هو سحب صيف، لا تلبث أن تنقشع من وجه الشمس، وإذا شعاعها يملأ الآفاق، وإذا ضوؤها يبدد كل ظلام، وإذا حرارتها تتمشّى فى أوصال الكائنات.. «كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ.. فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ» (17: الرعد) وهكذا يذهب ما يلقى الشيطان فى أمنيّة الرسول أو النبي.. هباء، حيث يخلص النبي أو الرسول بأوليائه، وهم صفوة المجتمع، والثمرات الطيبة فيه، على حين يستولى الشيطان على أتباعه، ويسوقهم إلى حظيرته، حيث هم حصب جهنم وحطبها! واستمع بعد هذا إلى قوله تعالى: «فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» وانظر كيف كانت عاقبة هذا الصراع بين النبي أو الرسول، وبين الشيطان وأولياء الشيطان.. لقد أحكم الله سبحانه وتعالى آياته، فنسخ أي أبطل.. ما ألقى الشيطان، ثم أحكم سبحانه آياته، وثبّت قواعدها.. ولا يعترض على هذا القول، بأن الرسول أو النبىّ كانت أمنيّته هى هداية الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1065 قومه، أو معظم قومه، ولكن الذين خلص بهم من هذا المعترك، هم قليل من كثير.. فكيف يقال مع هذا إن أمنيته تحققت، وإن الله سبحانه وتعالى قد أحكم آياته- على هذا المفهوم الذي فهمت عليه الآية- ونسخ ما ألقى الشيطان؟. والجواب على هذا، قريب من قريب.. فلقد تحققت أمنية النبي أو الرسول تحقيقا كاملا، ولو لم يؤمن معه من قومه أحد..! كما ترى. إن أمنية الرسول أو النبىّ. كانت فى أول الأمر هى هداية قومه، فردا، فردا.. وهو فى سبيل تحقيق هذه الأمنية لا يدخر شيئا من جهده، ولا يضنّ بشىء من راحته.. ثم هو مع هذا يظل صابرا محتملا لكل ما يرميه به السفهاء، من فحش القول، وشنيع العمل.. حتى إذا انتهى الأمر إلى غاية يتضح منها أن لا خير يرجى من هؤلاء القوم، وأن لا ثمرة تحصّل منهم، مهما بذل من جهد، أو ضوعف من عمل- إلى هنا يكون الشيطان قد غطى أمنية الرسول أو النبىّ، وحجب ضوءها.. وعندئذ يتولى الله سبحانه وتعالى أخذ هؤلاء القوم بالبأساء والضرّاء، فيضربهم ضربة قاضية، فإذا هم فى الهالكين.. وهكذا ينسخ الله كل ما ألقى الشيطان ويبطله، على حين يكون قد أحكم آياته وثبتها بنجاة النبىّ أو الرسول من هذا البلاء.. إن الرسول أو النبىّ فى تلك الحال- وإن كان وحده- هو آية الله، أو آيات الله التي أحكمت، فثبتت، وبقيت.. أما ما ألقى الشيطان، فقد نسخ وبطل، وذهب هباء! واستمع إلى الآية كلها مرة أخرى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ.. فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ.. ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ.. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» . وأحسب- بعد هذا، بل وقبل هذا- أن الآية الكريمة، واضحة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1066 الدلالة بيّنة القصد، لمن نظر إليها نظرا بعيدا عن وساوس الأساطير، وهمسات الإسرائيليات، التي كان يلقى بها اليهود إلى آذان القصاص ورواة الأخبار، فيتلقاها عنهم المفسرون، ويحملونها إلى الكتاب الكريم!! فالآية الكريمة تكاد لوضوحها تنطق بمضمونها، وتحدّث بمفهومها، ولكن الخيال الأسطورى، أغرى المفسرين بأن يستولدوا من الآية عجائب وغرائب منكرة.. كما سنعرضها عليك بعد قليل.. وهنا نحبّ أن نشير إلى أن الآية الكريمة قد تحدّثت عن الرسول، وعن النبىّ، باعتبار أن لكل منهما صفة خاصة، وأنهما لو كانا على صفة واحدة لما جاءت بهما الآية على هذا النظم، الذي جاء العطف فيه بين الرسول والنبىّ بإعادة حرف النفي، الذي يؤكد لكلّ من الرسول والنبىّ ذاتيته.. فكأنّ نظم الآية يقول: «وما أرسلنا من قبلك من رسول، وما أرسلنا من قبلك من نبىّ» .. وهذا يعنى أن الرسول غير النبىّ.. والذي عليه الرأى عند المفسرين والفقهاء، أن كلّا من الرسول والنبىّ يوحى إليهما من الله ولكن الرسول ينفرد بأنه صاحب شريعة يتلقاها من الله، ويدعو إليها الناس.. بخلاف النبىّ الذي لا شريعة معه، وإنما هو على شريعة رسول سبقه، وأنه يدعو إلى شريعة هذا الرسول.. فكل رسول نبىّ.. وليس كل نبىّ رسولا.. وعلى أىّ، فإن الرسول صاحب كتاب سماوى أو صحف سماوية.. أما النبىّ فلا كتاب ولا صحف معه.. وهذا الوضع الذي يختلف فيه النبىّ عن الرسول، له دلالة كبيرة فى المفهوم الذي ينبغى أن نفهمه من الآية السابقة، وهو أن قوله تعالى: «فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1067 الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ.» لا يمكن أن ينصرف إلى الآيات المقروءة، المنزلة وحيا من السماء.. وذلك لأن النبىّ- مجرد النبىّ- لا يدخل فى هذا الحكم، إذ لا كتاب معه، ولا صحف، حتى يقع عليها النسخ فيما ألقى الشيطان فيها.!! وإذن، فالذى ينبغى أن نقطع به قطعا جازما، هو أن معنى النسخ فى هذه الآية، لا يمكن أن يكون واردا على نسخ آيات الله المتلوة، كما هو المعروف عن النسخ بمعناه العام المطلق، الذي فسره عليه المفسرون.. وهذه الحقيقة، هى فى الواقع من أقوى الأدلة على فساد المعنى الذي فهمت عليه الآية الكريمة، والذي جاءت منه قصة- أو خرافة- «الغرانقة العلا» التي ستعرف نبأها عما قليل.. وقبل أن نعرض لهذه الخرافة، ننظر فى الآيات الكريمة التي تلت هذه الآية التي نحن بين يديها، منذ أخذنا فى هذا الحديث.. فهذه الآيات مكملة لها، ومعقبة عليها.. يقول الله تعالى بعد هذه الآية: «لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ» .. وهذا يشير إلى أن ما ألقاه الشيطان فى أمنية الرسول أو النبىّ- هو فتنة للذين كفروا من أهل الكتاب، وللقاسية قلوبهم من هؤلاء المشركين من قريش. بمعنى أن من اتخذهم الشيطان أولياء، فجعل منهم جنودا مدججين بسلاح السفاهة والتطاول على الرسل والأنبياء- هؤلاء الجنود هم فتنة مطلة على الذين كفروا من أهل الكتاب، وهم الذين فى قلوبهم مرض، وعلى المشركين من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1068 العرب، وهم القاسية قلوبهم، إذ كانوا بعملهم هذا- من أهل كتاب ومشركين- دعوة إلى الضلال، تواجه دعوة الهدى التي يدعو بها الرسول والنبىّ.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً» (20: الفرقان) ويقول سبحانه على لسان المؤمنين: «رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا» (5: الممتحنة) . وفى قوله تعالى: «وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ» إشارة أخرى إلى أن هؤلاء الذين ألقى بهم الشيطان فى طريق الدعوة التي يدعو بها الرسول أو النبىّ- هم متلبسون بظلم عظيم، لما هم عليه من شقاق بعيد عن مواطن الحق، ومن خلاف قائم على الجرأة والتجرد من الحياء، فى إنكار البديهيات، وفى عدم التسليم بها والانقياد لها: ثم يجىء بعد هذا قوله تعالى: «وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ.. وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» . أي أنه من هذا الاحتكاك بين الحقّ الذي يدعو إليه الرسول أو النبىّ، وبين الباطل الذي يلقى به الشيطان وأولياء الشيطان فى وجه هذا الحق- فى هذا الاحتكاك تنقدح شرارات مضيئة، يرى أهل العلم والمعرفة على ضوئها فرق ما بين الحق والباطل، فتزداد معرفتهم بالحق، ويقوى تعلقهم به، واطمئنان قلوبهم وإخباتها له.. «وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ، بهذا الصراع الذي يقوم بين الحق والباطل، فلا يعشى أبصارهم عن الحق هذا الغبار الذي يثيره الباطل والمبطلون فى وجهه، بل إن ذلك ليزيد من نور الحق، ويضاعف من جلاله وروائه.. كالشمس، يحجبها السحاب، فإذا انقشع السحاب وسفرت عن وجهها، كانت أحسن حسنا وأبهى بهاء.. إن ذلك شأن كلّ ضدّ يلتقى بضده.. فالحسن يزداد مع القبيح حسنا، والحلو يكون بعد مذاق الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1069 المرّ أحلى مذاقا وألذّ طعما.. والعافية بعد السّقم، تكون أهنأ وأطيب منها فى جسد لم تصادفه علة، أو يلحّ عليه مرض.. وفى المثل: «بضدها تتميز الأشياء» . ثم يجىء بعد هذا قوله تعالى: «وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ» . الضمير فى «منه» يعود إلى القرآن الكريم، الذي وإن لم يجر له ذكر فيما سبق، فهو مذكور كأصل أصيل للحق الذي يجادل فيه الذين فى قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم.. أما القاسية قلوبهم- وهم مشركو العرب- فستلين قلوبهم آخر الأمر، وسيؤمنون بالله، وينقادون للحق.. وأما الذين فى قلوبهم مرض- وهم أهل الكتاب- وخاصة اليهود، فإنهم لن يتحولوا عن حالهم مع القرآن، بل سيظلون على امترائهم وجدلهم فيه.. وهذا شأنهم أبدا حتى تأتيهم الساعة، بل إن كثيرا منهم سيظل على امترائه حتى يرى عذاب الله فى هذا اليوم العظيم.. وفى وصف هذا اليوم بأنه عقيم، إشارة إلى أنه لا يوم بعده، حتى يمكن أن تتحول فيه أحوال الناس، ويصلح المفسد منهم ما أفسد.. إنه يوم عقيم لا يلد يوما بعده، كما تلد أيام الدنيا، أياما بعدها.. ثم يجىء قوله تعالى: «الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ.. فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» : الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1070 أي فى هذا اليوم، يكون الملك لله وحده، لا يملك أحد لنفسه أو لأحد شيئا.. وفى هذا الموقف يفصل الله بين عباده، ويقضى بالحقّ بينهم.. فالذين آمنوا وعملوا الصالحات فى جنات النعيم، ينعمون برضوان الله، ويخلدون فى رحمته.. وأما الذين كفروا وكذبوا بآيات الله، وجادلوا بالباطل فيها، فأولئك لهم عذاب مهين، يذلّهم ويخزيهم. وفى تخصيص الملك لله فى هذا اليوم، مع أن الملك لله أبدا، فى هذا اليوم وفى كل يوم، إشارة إلى أن هذا اليوم يتجرد فيه كل ذى سلطان من سلطانه، وكل ذى قوة من قوته، وكل ذى مال من ماله، فلا تصريف لأحد، فى الظاهر أو الباطن، كما للناس تصريف- فى الظاهر- فيما خوّلهم الله من سلطان، وأموال.. فى هذه الدنيا ثم يجىء قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ» .. هو إشارة إلى إحكام الله لآياته، بعد أن نسخ ما ألقى الشيطان فيها.. فهؤلاء الذين هاجروا فى سبيل الله، فرارا بدينهم، ثم قتلوا استشهادا فى سبيل الله، أو ماتوا ميتة طبيعية- هم من الذين أحكم الله آياته فيهم، فنجاهم من الافتتان فى دينهم، وجزاهم على صبرهم على هذا الابتلاء فى أموالهم وأنفسهم، أجرا عظيما، حيث رزقهم أطيب رزق وأكرمه، وهو الحق الذي معهم، والإيمان الذي عمر قلوبهم، ثم النّصر على عدوّهم، والتمكين لهم فى الأرض. ثم الرزق الأعظم بهذا الفوز بجنّات النعيم فى الآخرة.. «وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» ومن عطائه الجزيل الجليل، هذا النعيم الذي ينعم به المؤمنون فى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1071 جنات الخلد، لهم فيها ما تشتهى أنفسهم ولهم فيها ما يدّعون.. نزلا من غفور رحيم.. وهذا هو المدخل الذي يدخلهم الله فيه، ويملأ قلوبهم به غبطة ورضا.. «وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ» بمن هم أحق برضاه ومغفرته وإحسانه من عباده.. «حَلِيمٌ» لا يعجل مقوبته، بل يمهل الظالمين، حتّى يكون لهم نظر فى أمرهم، ورجعة إلى ربّهم.. فإن لم يفعلوا فالنار مثواهم: «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» (26: الزمر) . هذه الآية الكريمة: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ.. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» .، وما سبقها أو تلاها من آيات- هى التي نسحت جولها قصة «الغرانقة» التي آن أن نحدثك عنها وقد رأينا الآيات جميعها تعرض صورة من صور هذا الصّراع، الذي عرض القرآن الكريم كثيرا من صوره، بين النبىّ، وبين المشركين والكافرين والمنافقين ومن فى قلوبهم مرض.. وهى فى صورتها تلك ليس فيها شىء على غير مألوف ما جاء من صور هذا الصراع بين أنبياء الله ورسله، مع أقوامهم.. فمن أين إذن جاءت خرافة «الغرانيق العلى» ؟ ذلك ما تراه فيما سنعرضه عليك الآن.. كان موضوع الناسخ والمنسوخ فى القرآن، من القضايا البارزة، التي شغل بها علماء التفسير، والفقه.. وقد عرضنا لهذه القضية فى مبحث خاص فى الجزء الأول من هذا التفسير.. وكان من رأينا- ومازلنا عليه- أن لا نسخ فى القرآن.. وقد نظر المفسّرون فى قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ.. ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1072 آياتِهِ-» نظر المفسرون فى قوله تعالى: «فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ» فرأوا هذا الخبر بالنسخ، فكان هذا منطلقا ينطلقون منه إلى إثارة هذه القضية، وإلى البحث عن المنسوخ الذي نسخه الله، وكان من هذا أيضا امتداد النظر إلى ما وراء القرآن الكريم، والإصغاء إلى ما يلقى إليهم من أخبار وروايات يمكن أن يتّكأ إليها، للكشف عن أساس تقوم عليه الآية الكريمة، وبتحقق بها ما أخبر به الله سبحانه وتعالى من نسخ لما ألقى الشيطان.. ثم كان ذلك داعية للبحث عن هذا الذي ألقاه الشيطان، ثم نسخه الله..! هناك إذن أمران، كان على المفسّرين الكشف عنهما فى هذا الموقف: ما هى أمنية النبي؟ ثم ماذا ألقى الشيطان فى أمنية النبىّ؟ وأين ألقاه؟ ثم بماذا نسخه الله؟ وقد كان! فألقى المفسّرون بشباكهم فى هذا البحر المتلاطم، الذي يفيض من يدى القصاص، ورواة الأخبار.. فجاءت بأكثر من صيد. فمن ذلك ما روى أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قرأ مرة سورة «النجم» والمشركون يستمعون إليه، وحين بلغ إلى قوله تعالى: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى» أتبع ذلك بقوله: «تلك الغرانيق «1» العلا» وفى رواية: «إن شفاعتها لترتجى، وإنها لمع الغرانيق العلا» وفى رواية ثالثة: «والغرانقة العلا تلك الشفاعة ترتجى» .. وفى رواية رابعة «إن شفاعتهن لترتجى» من غير ذكر الغرانقة العلا.   (1) الغرانيق: جمع غرنيق، أو غرنوق (بضم الغين) أو غرانق (بضم الغين أيضا) وهو طائر مائى يشبه الكركي، ويشبه به الشاب الأبيض الجميل كما يشبه به الملائكة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1073 فهذه أربع روايات فى هذه الواقعة، وكلّها ذات أسانيد متصلة.. فالرواية الأولى تقول: إن النبي قرأ الآيات هكذا: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى.. تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتها لترتجى» ! والرواية الثانية تقول: إن قراءة النبي كانت هكذا: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى إن شفاعتها لترتجى، وإنها لمع الغرانيق العلا» ! وفى الرواية الثالثة جاءت القراءة هكذا: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى، والغرانقة العلا تلك الشفاعة ترتجى» . والرواية الرابعة كانت هكذا: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى، إن شفاعتهن لترتجى» . أما القرآن الكريم، فيقول: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى «1» إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ» . ومدلول هذه الروايات، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قد ذكر فى تلاوته لسورة النجم، آلهة قريش بخير، وجعل لها عند الله مكانا عليّا، حتى إنها لتشفع عنده، لمن يلتمس الشفاعة عندها، ويستحقها منها. وتقول الرواية: إن النبىّ حين بلغ آخر السورة، سجد، وسجد معه المسلمون، والمشركون، عند ما سمعوه، وقد أثنى على آلهتهم!!   (1) قسمة ضيزى: أي جائرة ظالمة، إذ جعلوا لله الإناث، ولهم الذكور.. والذكور فى عرفهم أكرم من الإناث. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1074 وقد تداخلت مع هذه الرواية روايات أخرى، وكأنها تريد أن تفسر هذه الواقعة، وتجد لها وجها تقبل عليه. فتقول بعض الروايات: إن الشيطان ألقى على لسان النبىّ هذا القول، الذي قاله فى حق الآلهة- اللات والعزى ومناة- وأنه صلى الله عليه وسلم، كان قد ألمّ به ضيق وحزن شديد، لما كان بينه وبين قومه من خلاف مستحكم، «فتمنى» فى تلك الحال أن لو نزل عليه شىء من القرآن يقارب بينه وبين قومه، ويباعد شقة الخلاف بينه وبينهم، ولهذا فإنه- عليه الصلاة والسلام- حين تلا سورة النجم، وبلغ الموضع الذي تذكر فيه آلهتهم، ألقى الشيطان إليه بهذه الكلمات، التي ترفع من شأنها، وتجعل لها مكان الشفاعة عند الله.. ثم تستطرد الرواية فتقول: «إن جبريل- عليه السلام- جاء إلى النبىّ، فلما عرض عليه النبىّ السورة بما أدخله الشيطان عليها، قال له جبريل: «ما جئتك بها هكذا!!» فحزن النبىّ لذلك، فنزل قوله تعالى- تسلية له-: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ، ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ..» ثم قوله تعالى: «وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً» (73- 75: الإسراء) . ونقول: إن هذه الروايات، وتلك النقول، كانت موضع إنكار، واستنكار عند بعض المفسّرين، وأصحاب السير.. إذ كانت- فى صورتها تلك- عدوانا صارخا على مقام النبوّة، ونسخا صريحا لعصمة النبىّ.! وقد كان القاضي عياض خير من تصدّى لهذه الأكذوبة، وفضح مستورها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1075 وعقد لذلك فصلا فى كتابه: «الشفا.. بتعريف حقوق المصطفى..» نرى من الخير أن نعرض جانبا منه.. يقول القاضي عياض: «إن لنا فى الكلام على شكل هذا الحديث- يقصد حديث الغرانقة- مأخذين. أحدهما: توهين أصله.. [أي فى سنده ومتنه] .. والثاني على تسليمه.. [أي على فرض التسليم بصحته] [المأخذ الأول] (ا) توهين أصل الحديث: يقول القاضي عياض: «أما المأخذ الأول، وهو توهين أصل الحديث، فيكفيك أنه حديث لم يخرّجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، وإنما أولع به وبمثله، المفسّرون، والمؤرخون، والمولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف، كلّ صحيح وسقيم.. وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي، حيث قال: «لقد بلى الناس ببعض أهل الأهواء والبدع، وتعلق بذلك الملحدون، مع ضعف نقلته- يقصد هذا الحديث- واضطراب رواياته وانقطاع إسناده، واختلاف كلماته.. فقائل يقول إنه فى الصلاة (يقصد بعض الروايات التي تقول إن النبي قرأ سورة النجم فى الصلاة) .. وآخر يقول: قالها فى نادى قومه حين أنزلت عليه السورة، وآخر يقول: قالها وقد أصابته سنة.. وآخر يقول: بل حدّث نفسه فسها.. وآخر يقول: إن الشيطان قالها على لسانه، وأن النبىّ لما عرضها على جبريل قال له: ما هكذا أقرأتك.. وآخر يقول: بل أعلمهم الشيطان أن النبي صلى الله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1076 عليه وسلم، قرأها، فلما بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك، قال: «والله ما هكذا نزلت» إلى غير ذلك من اختلاف الرواة، ومن حكيت هذه الحكاية عنه من المفسّرين والتابعين، لم يسندها أحد منهم، ولم يرفعها إلى صاحب (أي صحابىّ) . وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية.. (ب) توهين معنى الحديث: ثم يقول القاضي عياض: «هذا توهينه- أي الحديث- من جهة النقل.. «وأما من جهة المعنى، فقد قامت الحجة، وأجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم، ونزاهته من فعل هذه الرذيلة، إما من تمنّيه أن ينزل عليه مثل هذا، من مدح آلهة غير الله، وهو كفر، أو من أن يتسوّر- أي يعلو- عليه الشيطان، ويشبّه عليه القرآن، حتى يجعل فيه ما ليس منه، ويعتقد النبىّ أن من القرآن ما ليس منه، حتى ينبهه جبريل عليه السلام.. وذلك كله ممتنع فى حقه صلى الله عليه وسلم.. أو أن يقول ذلك فى نفسه من قبل نفسه.. عمدا، وذلك كفر، أو سهوا، وهو معصوم من هذا كله.. وقد قررنا بالبراهين والإجماع، عصمته صلى الله عليه وسلم، من جريان الكفر على قلبه أو لسانه، لا عمدا ولا سهوا.. أو أن يشتبه عليه ما يلقيه الملك بما يلقى الشيطان، أو أن يكون للشيطان عليه سبيل، أو أن يتقول على الله، لا عمدا ولا سهوا، ما لم ينزل عليه.. وقد قال تعالى: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ» (44- 46: الحاقة) . ثم يقول القاضي عياض، فى عرض وجوه الرأى فى توهين معنى الحديث: ووجه ثان: وهو استحالة هذه القصة، نظرا وعرفا، وذلك أن هذا الكلام لو كان الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1077 كما روى، لكان بعيد الالتئام، متناقض الأقسام، ممتزج المدح بالذم، متخاذل التأليف والنظم، ولما كان النبىّ صلى الله عليه وسلم، ولا من بحضرته من المسلمين، وصناديد المشركين، ممن يخفى عليه ذلك، وهذا لا يخفى على أدنى متأمّل، فكيف بمن رجح حلمه، واتسع فى بيان البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه؟ ووجه ثالث: أنه قد علم من عادة المنافقين، ومعاندى المشركين، وضعفة القلوب، والجهلة من المسلمين، نفورهم لأول وهلة، وتخليط العدو على النبي صلى الله عليه وسلم لأقل فتنة، وتعييرهم المسلمين والشماتة بهم الفينة بعد الفينة، وارتداد من فى قلبه مرض ممن أظهر الإسلام- لأدنى شبهة. ولم يحك أحد فى هذه القصة شيئا، سوى هذه الرواية الضعيفة الأصل، ولو كان ذلك، لوجدت من قريش على المسلمين الصولة، ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة، كما فعلوا، مكابرة- فى قصة الإسراء، حتى كان فى ذلك لبعض الضعفاء ردّة.. ولا كذلك ما روى فى هذه القصة- قصة الغرانقة- ولا فتنة أعظم من هذه البليّة لو وجدت، ولا تشغيب للمعادى حينئذ أشدّ من هذه الحادثة لو أمكنت!! .. فما روى عن معاند فيها كلمة، ولا عن مسلم بسببها بنت شفة، فدلّ- ذلك- على بطلانها واجتثاث أصلها.. ولا شك فى إدخال بعض شياطين الإنس والجنّ هذا الحديث على بعض مغفّلى المحدّثين، ليلبّس به على ضعفاء المسلمين. ووجه رابع: ذكره الرواة لهذه القضية، أن فيها نزلت الآية: «وَإِنْ كادُوا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1078 لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا» (73- 74: الإسراء) - وهاتان الآيتان تردّان الخبر الذي رووه، لأن الله تعالى ذكر أنّهم كادوا يفتنونه حتى يفترى، وأنه لولا أن ثبّته الله- لكاد يركن إليهم. «فمضمون هذا ومفهومه، أن الله تعالى عصمه من أن يفترى، وثبته حتى لم يركن إليهم قليلا، فكيف كثيرا؟ وهم- أي الرواة- يروون فى أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء، بمدح آلهتهم، وأنه قال صلى الله عليه وسلم: افتريت على الله وقلت ما لم يقل، وهذا ضدّ مفهوم الآية، وهى تضعف الحديث، لو صحّ، ولا صحة له.. وهذا مثل قوله تعالى: «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ» (113: النساء) . وقد روى عن ابن عباس: «كل ما فى القرآن «كاد» فهو لا يكون» قال الله تعالى: «يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ» ولم يذهب- به- بصر أحد.. «أَكادُ أُخْفِيها» ولم يفعل! قال القشيري القاضي: «ولقد طالبته قريش وثقيف إذ مرّ بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها، ووعدوه الإيمان به إن فعل، فما فعل، وما كاد ليفعل» . [المأخذ الثاني] التسليم بصحة الحديث: ثم يناقش القاضي عياض هذه القضية، من جانبها الآخر، وهو فرض التسليم بصحة الحديث، فيقول: «وأما المأخذ الثاني، فهو مبنى على تسليم الحديث، لو صحّ، وقد أعاذنا الله من صحته، ولكن على كل حال، فقد أجاب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1079 عن ذلك أئمة المسلمين بأجوبة، منها الغثّ والسمين.. فمنها: أولا: ما روى عن قتادة ومقاتل: «أن النبىّ- صلى الله عليه وسلم، أصابته سنة عند قراءته هذه السورة، فجرى على لسانه هذا الكلام بحكم النوم» .. وهذا لا يصح، إذ لا يجوز على النبىّ مثله، فى حالة من أحواله، ولا يخلقه الله على لسانه، ولا يستولى الشيطان عليه، فى نوم ولا يقظة، لعصمته فى هذا الباب، من جميع العمد والسهو. ثانيا: وفى قول: «أن النبىّ صلى الله عليه وسلم حدّث نفسه، فقال ذلك الشيطان على لسانه..» وفى رواية «ابن شهاب» عن أبى بكر بن عبد الرحمن قال: «وسها- أي النبي- فلما أخبر بذلك قال: إنما ذلك من الشيطان» . ويرد القاضي عياض على هذه الروايات بقوله: «كل هذا لا يصحّ أن يقوله النبىّ صلى الله عليه وسلم، لا سهوا ولا قصدا، ولا يتقوله الشيطان على لسانه.. ثالثا: وقيل: «لعلّ النبي صلى الله عليه وسلم قاله- أي هذا القول- أثناء تلاوته، على تقدير التقرير والتوبيخ للكفار، كقول إبراهيم- عليه السلام: «هذا رَبِّي» على أحد التأويلات «1» (وأن النبىّ إذ قال ذلك قاله) بعد السّكت، وبيان الفصل بين الكلامين، ثم رجع إلى تلاوته..» يقول القاضي عياض: «وهذا ممكن، مع بيان الفصل وقرينة تدل على المراد، وأنه ليس من المتلوّ، أي ليس من القرآن» .. اه.   (1) من التأويلات التي يذهب إليها المفسرون فى قول إبراهيم «هذا رَبِّي» عن الكوكب والقمر والشمس، أنه قال ذلك على طريق الاستفهام المراد به السخرية والاستهزاء، أي: «أهذا ربى» ؟ استصغارا لشأنه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1080 تلك هى القصة، أو الأكذوبه، كما جاءت فى كتب السير، وعلى ألسنة القصاص، ونقلها المفسّرون، وتداولها اللاحق منهم عن السابق، وذلك أسلوب من أساليب دفعها، وتكذيبها. والقصة أو الأكذوبة- كما ترى- مهلهلة النسج، واهية البناء، أراد مخرجوها أن يخفوا عوارها، ويداروا هزالها، فألقوا إليها كثيرا من الرقع، حتى لكاد يختفى الأصل، ولا يرى منها إلا تلك المرقعات التي أضيفت إليها! فالمادّة التي تخلّقت منها القصة، مادة فاسدة، لا يتخلّق منها شىء يصلح أن يعيش فى الحياة، وأن يكتب له بقاء فى عالم الأحياء. ونسأل: ما مضمون هذا الخبر فى قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» . أليس من معنى هذا أن التمني ليس حالا واحدة تعرض للنبىّ فى حياته، وإنما هى أمنيات تعيش مع النبي أو الرسول حياته كلها، وأنه كلّما تمنّى أمنية ألقى الشيطان فيها؟. فكيف لا يلقى الشيطان فى أمنية النبىّ إلا فى هذه المرة؟ وماذا يحول بينه وبين أن يلقى فى كل أمنيّة للنبىّ؟ أليس هذا مما يتمناه الشيطان، ويعمل له جهده لو استطاع إليه سبيلا؟. وأكثر من هذا، فإن الذين يقولون بقصّة الغرانقة العلا، يذهبون إلى أن التّمنى، ليس معناه من الأمانىّ، وإنما معناه القراءة، ويستشهدون لذلك بهذا البيت اليتيم من الشعر، وهو من قول حسان بن ثابت فى عثمان رضى الله عنه. تمنّى كتاب الله أول ليله وآخره لاقى حمام المقادر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1081 وهو- لو عقلوا- حجة عليهم.. لأنه يعنى أنه كلما قرأ النبىّ قرآنا، دخل عليه الشيطان، وألقى فيما يقرأ بما يريد، حتى يفسد مادة القرآن، ويغيّر وجهها، ويطفىء نورها.. والذين يروون هذه القصة، لم يجيئوا بحادثة أخرى، كان للشيطان فيها إلقاء فى قراءة النبىّ، على نحو ما رووه فى هذه القصة المفتراة! ثم إن الذين قالوا: إن النبىّ سها فوقع هذا الخاطر فى قلبه، أو جرى سرّا على لسانه، ثم التقطه الشيطان فأذاعه.. أو إن النبي أخذته سنة فجرى على لسانه هذا القول عند قراءته، بحكم النوم- هذا يعنى أن النبي، صلوات الله وسلامه عليه- كان فى حال يقظته يعيش مع هذه الخواطر، ويراود نفسه بها، وأن عقله اليقظ- كما يقول علماء النفس- كان يأبى عليه أن يصرّح به، فلما نام أو سها، انحلّت هذه الخواطر من عقال العقل اليقظ، وانطلقت لا شعوريا إلى الخارج، فكانت حديثا مسموعا.. وهذا يعنى أيضا أن النبي- صلى الله عليه وسلم- معترف فيما بينه وبين نفسه بهذه الأصنام، وبأنها غرانقة علا، وأن شفاعتها ترتجى، وأنه إذا لم يكن يصرح بذلك، وهو فى حال اليقظة، فقد صرّح به سهوا، أو حين أخذته سنة من النوم! .. وهذا يعنى ثالثا، الكفر، والنفاق معا..! وإنه لهو الكفر الذي يدمغ به كل مسلم، تقع فى نفسه أية شبهة من الشبه تحوم فى سماء النبوّة الصافية، المشرقة بنور ربّها. وبعد هذا كله، وقبل هذا كلّه، فإن فيصل الحكم فى هذا الموقف هو كلمة واحدة: نبى، أو غير نبيّ؟ رسول أو غير رسول؟ فإن كان «محمد» صلوات الله وسلامه عليه، غير نبىّ، وغير رسول، فهذا موقف له حسابه وتقديره، وللكلام الذي يقال فيه حساب وتقدير.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1082 فكل ما ينسب إليه من أخطاء، وما يرمى به من تهم، ممكن الوقوع، ويمكن التسليم به، إذ هو- والحال كذلك- إنسان، مجرد إنسان، يجوز عليه ما يجوز على الناس، من صدق وكذب، ومن إيمان وكفر! أما إن كان «محمد» - صلوات الله وسلامه عليه- نبيا ورسولا، فإن الذي يعتقد فى نبوته، ويؤمن برسالته، ثم يلحق به ما يقع فى حياة الناس من أخطاء، وعثرات، وتخبطات، فهذا لا يستقيم أبدا مع صفة النبوة، فإن الرسول مبلّغ عن ربه، وهو بهذه الصفة معصوم من الخطأ والنسيان، فيما يتصل برسالة ربّه، وما تحمل من شريعة وعقيدة، إذ أن أي انحراف أو تحريف فى هذا، معناه سوق الناس إلى طرق مفتوحة، مليئة بالعثرات والحفر، على حين أن دعوة السماء تدعوهم إلى صراط مستقيم، ولا يستقيم هذا الصراط مع تلك الأخلاط، وهذه المتناقضات، التي تلتقى بالناس، وهم سائرون فيه. ذلك ما يجب أن يتأكد، ويتقرر، أولا عند من يؤمنون بالأنبياء.. إنهم لن يكونوا على غير تلك الحال التي توجب لهم العصمة، وتحمى الرسالة التي يحملونها من أية شائبة تقلق بها. وإذن فمن الضلالة والجهل، أن يقول قائل: إن النبىّ- ويقولها هكذا النبىّ- حين قرأ سورة النجم، نسى، أو سها، أو أخذته سنة، أو غلبه خاطر قوىّ فى نفسه، أو ألقى الشيطان إليه، فذكر الأصنام التي كان يعبدها قومه، وأثنى عليها، ورفع منزلتها، وجعل لها عند الله شفاعة! أهذا قول يقال، ويلتقى أوله مع آخره؟ نبىّ يقر قرآنا منزلا من السماء.. ثم تعدو عليه عوادى الشرّ، فتغير من آيات الله، وتبدل من شريعته، وهو على لسانه، بل وبلسانه؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1083 وماذا ترك للضالين، والمنافقين، وأعداء الأنبياء؟ قد يكون سائغا أن تنفى عن «محمد» صفة النبوة والرسالة على سبيل المكابرة، أو من باب الكفر والإلحاد، ثم يقال: إنه قال فى معبودات قريش ما قال.. إنه لا يعدو أن يكون حينئذ واحدا من مشركى قريش، الذين يتعاملون مع هذه الآلهة، ويتعبدون لها. أما ومحمد نبىّ، فإنه فى عصمة، فوق الخطأ وفوق النسيان! عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، قال: «قلت يا رسول الله.. أأكتب عنك كل ما أسمع؟ قال: «نعم» قلت: فى الرضا والغضب؟ قال: «نعم» فإنى لا أقول فى ذلك كلّه إلّا حقّا» . والحديث أيّا كان سنده، فإن القرآن الكريم ينطق بهذا فى قوله تعالى: «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى» . فهذا حكم قاطع بأن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- لا ينطق عن هوى، ولا يبلغ عن الله إلا ما يوحى إليه.. فكيف يكون للقول بأن الرسول نطق بكذا وكذا مما ليس من عند الله، ثم يتعلّل لذلك بأنه كان سهوا، أو حديث خاطر، أو نحو هذا- كيف يكون لهذا القول مكان من القبول على أي وجه من الوجوه مع قول الله تعالى: «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى» ؟ إن تلك الفرية مما دسّ على المسلمين، فى غير انتباه منهم إليه، ولا تقدير للشر الذي ينجم عنه، وشغلهم الخبر بغرابته وإثارته عن أن ينظروا فيه نظرا متفحصا دارسا.. ولو أنهم فعلوا لما كان لهذا الحديث مكان فى كتب الحديث، أو الفقه، أو التفسير، سواء أكان ذلك لمجرد نقل الخبر، ثم تجريحه، وتكذيبه، أو كان الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1084 لنقله، ثم نصب العلل التي تخرج به عن مفهومه.. فهو حديث خرافة، لا ينبغى النظر إليه، أو الوقوف عنده. وبعد، فإن مفهوم الآية الكريمة: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ.. ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ..» - نقول إن مفهوم الآية الكريمة على هذا الوجه الذي قامت فى ظله قصة «الغرانقة العلا» - هو اتهام لرسل الله وأنبيائه جميعا، بأنهم تحت سلطان الشيطان، وأنه راصد لهم، آخذ على ألسنتهم، فلا تستقيم ألسنتهم بقراءة آية من آيات الله، حتى يخرجها الشيطان على الوجه الذي يراه، ويلوى لسان الرسول والنبي إلى ما يريد.. فسبحانك.. سبحانك. هذا بهتان عظيم، تكاد السموات يتفطرن منه وتنشقّ الأرض، وتخرّ الجبال هدّا! الآيات: (60- 66) [سورة الحج (22) : الآيات 60 الى 66] ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1085 التفسير: قوله تعالى: «ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ» . الإشارة هنا «ذلِكَ» هى إشارة إلى شأن مضى، ثم دخول إلى شأن آخر.. والتقدير: ذلك الذي حدّثت به الآيات السابقة، شأن، وها هو ذا شأن آخر فاستمع إليه أيها النبي.. والعطف، هو عطف شأن على شأن، وموضوع على موضوع. والآية الكريمة تندّد بالبغي والعدوان، وتجعل للمعتدى عليه سلطانا نصيرا من الله، لأنه فى تلك الحالة مظلوم، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً» (33 الإسراء) ثم إن الآية الكريمة، إذ تجيز للمعتمدى عليه أن يأخذ بحقه من المعتدى، فإنها تشير من طرف خفى إلى العفو، وذلك من وجوه: أولا: فى تسمية القصاص من المعتدى، عقابا، فهو إذا أخذ بحقه، لا فضل له على المعتدى، فقد تساويا بعد ردّ الاعتداء، وقد كان العفو أفضل وأكرم. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ» (126: النحل) . وثانيا: فى قوله تعالى: «ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ» إشارة إلى المعتدى عليه إذ يعفو، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1086 يكون فى صورة المبغىّ عليه، والمبغىّ عليه موعود بالنصر من الله: «ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ» . وثالثا: فى قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ» تذكير بالعفو والمغفرة فى موقف القصاص، واستحضار عفو الله ومغفرته فى تلك الحال، الأمر الذي تنحلّ به عزيمة الانتقام، وتبوخ معه حميّة النقمة والانتقام. هذا، والعفو هنا، إنما هو من قادر، يملك الانتقام. ومن هنا لا يكون للمعتدى سبيل إلى التمادي فى اعتدائه، وفى إذلال من اعتدى عليه. ثم إن الآية الكريمة تضع أمام المسلمين- وقد أذن لهم فى القتال فى قوله تعالى فى آية سابقة: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ» - تضع أمامهم دستورا يقيمهم على أحسن سبيل، بين العفو والانتقام.. إن شاءوا عفوا، وإن شاءوا انتقموا.. على حسب الأحوال والأشخاص.. فقد عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كثيرين ممن آذوه، وآذوا المسلمين، وحاربوهم، وقتلوا منهم من قتلوا.. ثم كان منه- صلوات الله وسلامه عليه- هذا العفو العام عن مشركى قريش يوم الفتح، حين قال لهم قولته الخالدة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» - على حين- أنه صلوات الله وسلامه عليه- قد أهدر دم بعض الأفراد من هؤلاء المشركين، وطلب قتل أحدهم ولو وجد متعلقا بأستار الكعبة.. كما قتل النضر بن الحارث صبرا. قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ» . الإشارة هنا «ذلِكَ» إشارة، إلى ما تضمنته الآية السابقة من حكم فى مواجهة العدوان من المعتدين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1087 والباء فى «بِأَنَّ» «للسببية» .. والمعنى: أن مقابلة العدوان بالعدوان، هو لدفع بأس الناس بعضهم عن بعض، الذي لولاه لفسد نظام المجتمع، ولتسلّط الأشرار على الأخيار، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً» (40: الحج) والآية ردّ على تلك الفلسفة المريضة، التي ترى فى مثل هذا الدّفع إكثارا من إراقة الدماء، وإغزاء للناس بالانتقام، الذي يولد كثيرا من مواليد الشر والنقمة ويرون أن المثالية تدعو إلى الأخذ بدعوة السيد المسيح- عليه السلام- فى قوله: «من ضربك على خدّك الأيمن فأدر له خدّك الأيسر» .. ففى قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ» ردّ على هذا التفكير السقيم، ودحض لتلك الفلسفة المريضة، وذلك بالإشارة إلى نظام الوجود، وأنه قائم على التدافع بين الخير والشر، والشرّ والخير، تماما كما يدفع الليل النهار، ويدفع النهار الليل.. فلو أنه سكن النهار إلى دفع اللّيل له، ولم يدفعه كما دفعه لما طلع نهار أبدا، ولا ختفى إلى يوم القيامة، ولساد الدنيا ظلام دامس إلى الأبد. فمن سنّة الله فى الحياة أن يغرى الأشرار بالأخيار، فتنة وابتلاء، ثم لا يدع الأخيار لأيديهم، بل يدعوهم إلى أن يأخذوا بحقّهم منهم، وأن يدفعوهم عنهم، حتى يسفر وجههم، ويبرز وجودهم.. قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1088 فى هذه الآية إشارتان: الأولى: أن أهل الإيمان هم أهل الحق، وأنهم جند الله، وأنصار الله.. وهذا من شأنه أن يحملهم على الجهاد فى سبيله، ودفع الباطل، وردع المبطلين، حتى يحقّ الله الحقّ ويبطل الباطل، ويكون الدين كله لله. والثانية: أن الله سبحانه- وهو العلىّ الكبير- لا يغلب، ولا يغلب أولياؤه، وأنه سبحانه، وهو الحق- سينصر المحقّين الذين يقفون فى جبهة الحق ويجاهدون فى سبيله. قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ» . هو تكملة للصورة التي كشفت عنها الآية السابقة.. بمعنى أن الله سبحانه وتعالى، وهو الحق، فإن ما يرسله إلى الناس- هو حق، وهو خير. وإن رسالاته التي يحملها أنبياؤه، ينبغى أن تأخذ مكانها من قلوب المؤمنين، وأن تنزل منها كما ينزل الماء من السماء، فتحيا به الأرض، وتعمر الدنيا.. وإنه كما يعمل العاملون فى الانتفاع بهذا الماء وتمهيد الأرض له، وبذر الحب فيها- كذلك ينبغى أن يعمل المؤمنون فى حقل الإيمان، على حراسة هذا الإيمان وتعهده، حتى يؤتى ثماره، ويملأ حياة الناس خيرا وأمنا.. - وفى قوله تعالى: «أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً» .. وفى التعبير عن إنزال الماء بالفعل الماضي، وعن اخضرار الأرض بالفعل الحاضر الذي يمتد إلى المستقبل- فى هذا إشارة إلى القرآن الكريم، الذي نزل، وإلى ثماره التي لا تنقطع أبدا، وأنه سيظل هكذا قائما فى الحياة، يروى القلوب، ويحيى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1089 موات النفوس، ويفيض الخير والبركة على الإنسانية إلى يوم الدين.. لقد نزل القرآن، وتلقى الذين شهدوا نزوله ما قدّر الله لهم من خيره ونوره، وهداه.. وسيظل هكذا نورا قائما فى الناس، وخيرا ممدودا لهم، يهتدون به، ويصيبون من خيره، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين. وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ» إشارة إلى لطف الله بعباده، ورحمته بهم، حيث ينزل إليهم من السماء ماء يحيى موات أرضهم، ويحفظ حياة أجسامهم، كما ينزل إليهم من السماء آيات بينات، تحيى موات قلوبهم، وتحفظ صفاء أرواحهم.. وأنه سبحانه «خَبِيرٌ» بما يصلح أمر الناس، ويحفظ وجودهم المادي والروحي جميعا. قوله تعالى: «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» . هو بيان لفضل الله على عباده، وأنه غنى عنهم، له ما فى السموات وما فى الأرض، فالناس- وهم بعض ما فى الأرض- ملك له، وما ينزله عليهم من السماء هو فضل من فضله، لا يريد به سبحانه من الناس إلا أن يحمدوه ويشكروا له: «ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ» (57: الذاريات) . قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» . الخطاب هنا لكلّ ذى نظر وعقل.. حيث يرى فضل الله فى هذه الكائنات التي سخرها الله للإنسان، وجعلها مستجيبة له، إذا هو تجاوب معها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1090 ووجه قواه إلى الإفادة منها، وذلك بالتعرف على الطريق الذي يوصله إليها، ويضع يده على موضع الخير منها. وقوله تعالى: «الْفُلْكَ» معطوف على «ما» أي وسخر لكم ما فى الأرض، وسخر لكم الفلك تجرى فى البحر بأمره. - وقوله تعالى: «وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ» إيقاظ لمشاعر الإنسان ومدركاته، ليمدّ بصره إلى ما فوق هذه الأرض، بعد أن يثبت قدمه عليها، فينظر فى ملكوت السماء.. وعندئذ يرى أن هذا السقف المرفوع فوقه، تمسكه قدرة الله، وأنه لولا هذه القدرة لسقط على الأرض، وأهلك كل حىّ فيها.. - وفى قوله تعالى: «إِلَّا بِإِذْنِهِ» - إشارة إلى أن هذه السماء المرفوعة المحفوظة بقدرة الله، هى خاضعة لإرادة الله، وأنه من الممكن أن يأذن الله لها بأن تسقط على الأرض! - وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» - تطمين للناس بأن السماء لن تقع عليهم، وذلك لرحمته سبحانه وتعالى ورأفته بعباده.. ومع هذا كله، فإن كثيرا من عباده يجحدون نعمة الله، ويكفرون به، ويعبدون غيره.. من أحجار، وحيوان، وإنسان! وقوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ.. إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ» . فى هذه الآية تذكير للناس بتلك النعمة الكبرى، نعمة الحياة.. فقد كان الناس عدما، أو ترابا فى هذا التراب.. ثم إذا هم هذا الخلق السوىّ العاقل، المدبّر، الصانع! ثم إذا هم تراب مرة أخرى.. ثم إذا هم يلبسون حياة لا موت بعدها، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1091 وبهذه الحياة تتم النعمة، نعمة الحياة.. ذلك أنه لو كانت الحياة الدنيا هى كل حياة الإنسان لكانت نعمة ناقصة، بل إنها تكون نقمة لما فيها من معاناة، وأعباء، وشدائد، يلتقى بها الإنسان فى مسيرة الحياة الدنيا، من المولد إلى الممات.. إن الحياة الدنيا هى إعداد للحياة الأخرى، إنها زرع، والأخرى حصاد لثمر هذا الزرع، ومن هنا كان لا بد من الحياة الآخرة، حتى تكون الحياة نعمة تستوجب الحمد والشكران لله.. ولهذا جاء قوله تعالى: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ» تعقيبا على تلك النعمة، وتنديدا بالإنسان وكفره وجحوده لها، إذ لم يؤد مطلوب الله منه فى هذه الحياة الدنيا، الموصولة بالحياة الآخرة.. الآيات: (67- 72) [سورة الحج (22) : الآيات 67 الى 72] لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1092 التفسير: قوله تعالى: «لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ» . المنسك: الشريعة، والجمع مناسك، وهى مراسم الشريعة، وأحكامها، وحدودها.. والمعنى أن الله سبحانه وتعالى، جعل لكل أمة من الأمم، شريعتها التي تلائم ظروفها وأحوالها، وذلك رحمة من الله سبحانه، بعباده، إذ لو أخذهم الله جميعا بشريعة واحدة منذ بدء الخليقة، لكان فى ذلك إعنات لهم، وتضييق عليهم، إذ يصبحون بهذه الشريعة فى حال من الجمود، لا يتحركون معه إلى يمين أو شمال، أو أمام أو وراء.. والحياة الإنسانية تتحرك دائما، متقلبة الأحوال.. وهى فى حركتها وتقلبها تتجه إلى الأمام دائما.. فكان من حكمة الحكيم، ورحمة الرحيم، أن جعل شرعة فيهم مناسبا لظروفهم وأحوالهم، يلقاهم أمّة أمّة، وجماعة جماعة، فيعطى كل أمة وكل جماعة، ما يصلح لها، ويسدّد خطوها على طريق الحياة.. - وفى قوله تعالى: «هُمْ ناسِكُوهُ» إشارة إلى أن كل أمة ترتبط بشريعتها التي شرعت لها، وتجرى محاسبتها عليها.. كما يقول سبحانه: «لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً» (48: المائدة) . - وقوله تعالى: «فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ» أي أن الشريعة التي بين يديك أيها النبىّ هى شريعتك التي اختارها الله بعلمه وحكمته، لأمتك، لتكون خاتمة رسالات السماء.. فلا ينازعنك فيها أصحاب الشرائع الأخرى من أهل الكتاب، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1093 ولا يدخلون على شريعتك بما معهم من شرائع.. - وفى قوله تعالى: «فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ» إشارة إلى أن هذه الشريعة التي بين يدى محمد- صلوات الله وسلامه عليه- هى «الْأَمْرِ» أي الشرع كلّه، وأنه لا أمر ولا شرع بعد هذا.. وهذا هو السرّ فى تعريف «الْأَمْرِ» .. وفى توكيد الفعل «يُنازِعُنَّكَ» الذي هو نهى لأهل الكتاب، فى حضور النبىّ ومخاطبته، أمران: أولهما: تيئيس أهل الكتاب من أن يكون لهم شأن فى هذا الأمر، وأنهم إذا أرادوا أن يكون لهم شأن فيه، فليسلموا له، وليأخذوا بما جاء به، وليجعلوا ما بين أيديهم من شرع تبعا لهذا الأمر أو الشرع. وثانيهما: عزل النبىّ الكريم عن جدل أهل الكتاب، وعن الاستماع إلى مقولاتهم، والنظر إلى ما عندهم.. إذ أن عنده الأمر كله.. ومن كان عنده الأصل، فلا ينظر إلى الفرع.. - قوله تعالى: «وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ» أي وإذا كان ذلك هو موقفك من أهل الكتاب، فلا تلتفت إليهم، ولا تنظر إلى ما يجادلونك به من شريعتهم، وادع إلى ربك بما معك من شريعة.. فإنك لعلى هدّى من ربك.. هدى مستقيم.. وفى وصف الهدى بالاستقامة، إشارة إلى ما فى أيدى أهل الكتاب من شريعة غير مستقيمة، بما أدخلوا عليها من زيف وضلال.. قوله تعالى: «وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ» .. هو تأكيد للأمر الذي أمر به النبىّ بالدعوة إلى ربه.. بالكتاب المستقيم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1094 الذي معه، دون التفات إلى ما فى أيدى أهل الكتاب، ودون استماع لما يلقون إليه من مسائل يريدون بها إثارة الجدل وبعث الشكوك عند المنافقين ومن فى قلوبهم مرض.. فهذه الآية الكريمة، تدعو النبىّ إلى أن يمضى فى طريقه، وأن يدع أهل الكتاب وما يجادلون فيه، وحسبه أن يلقاهم بقوله تعالى: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ» أي ليس لى أن أحاسبكم على افترائكم الكذب على الله، فإن الله سبحانه هو أعلم بما أنتم عليه- ظاهرا وباطنا- وهو- سبحانه- الذي يتولى حسابكم وجزاءكم.. قوله تعالى: «اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» .. إمّا أن يكون من كلام النبىّ الذي أمره الله سبحانه وتعالى أن يقوله للمجادلين من أهل الكتاب، أي قل لهم: (الله أعلم بما تعملون) وقل لهم (الله يحكم بينكم إلخ) وعلى هذا يكون الخطاب موجها إليهم، وأن الله سبحانه سيحكم بينهم فيما اختلفوا فيه من مقولات، فكانوا فرقا وشيعا، أو فيما اختلفوا فيه مع النبىّ، فكانوا حربا عليه، وعداوة له.. وإمّا أن يكون ذلك استئنافا، وليس من مقول القول.. وعلى هذا يكون الخطاب عاما موجها إلى الناس جميعا.. بمعنى أن الله سبحانه سيفصل بين الناس فيما وقع بينهم من خلاف، سوء أكان خلافا واقعا بين أهل الشريعة الواحدة، أو بينهم وبين غيرهم من أصحاب الشرائع الأخرى.. ويكون هذا تعقيبا على قولة تعالى: «لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ» .. قوله تعالى: «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» هو إلفات إلى سعة علم الله سبحانه وما يقع فى محيط هذا العلم من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1095 أعمال الناس- ظاهرة وباطنة- وهو بهذا العلم يكشف مستورهم، ويحاسبهم ويقضى بينهم. فهو سبحانه، يعلم ما فى السماء والأرض.. لأن كل ما فيهما صنعته، والصانع لا يخفى عليه شىء مما صنع «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (14: الملك) - وقوله تعالى: «إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ» أي أن هذا العلم الذي يحيط بأسرار الوجود كله، هو مودع فى كتاب عند الله.. فكل ما كان أو يكون فى هذا الوجود كله- فى أرضه وسمائه، وفيما بين أرضه وسمائه- مودع فى هذا الكتاب.. كما يقول سبحانه: «وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» (75: النمل) وهذا الكتاب هو اللوح المحفوظ الذي هو أول ما خلق الله بعد القلم.. - قوله تعالى: «إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» هو دفع لما يقع فى بعض العقول القاصرة التي لا تعرف قدر الله- من شعور باستعظام هذه المعلومات التي تحصى كل شىء، وتقدّر كل شىء، لكل مخلوق، صغر أو كبر، وأخذ هذا القول على سبيل المبالغة أو التجوز.. فكان قوله تعالى: «إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» تأكيدا لعلم الله، وسعة هذا العلم وشموله، وأن هذا الوجود كله لا يعدّ شيئا إلى علم الله، الذي أحاط بكل هذا الوجود ولا يحيط الوجود كله بشىء من علمه إلا بما يشاء.. قوله تعالى: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ» .. الضمير فى «يَعْبُدُونَ» يراد به المشركون، الذين يعبدون آلهة دون الله.. ولم يكن للمشركين ذكر هنا حتى يعود هذا الضمير إليهم.. فالحديث عنهم بضمير الغيبة، إبعاد لهم، وإنكار لوجودهم فى مجتمع العقلاء، الذين هم أهل للخطاب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1096 - وقوله تعالى: «ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً» - المراد بالسلطان هنا الكتاب السماوىّ، الذي يدعو إلى عبادة المستحق للعبادة، وهو الله سبحانه وتعالى.. وهؤلاء المشركون يعبدون آلهة تنكر الكتب السماوية عبادتها- فهم إذ يعبدونها فإنما يعبدون ما لا دليل فى أيديهم على استحقاقه العبادة: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ» . (8: الحج) - وقوله تعالى: «وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ» - هو اتهام للمشركين بأنهم إنما يعبدون ما يعبدون من دون الله، عن هوى وضلال، وعن جهل وغباء.. فلا دليل فى أيديهم من كتاب، ولا حجة معهم من علم أخذوه عن نظر ودرس فى صحف هذا الوجود.. فقد يهتدى الإنسان إلى الله بعقله ونظره.. فإن لم يكن له عقل ونظر، فهذا كتاب الله، فيه الهدى لكل من ضل، والعلم لكل من جهل.. وهؤلاء المشركون، لم يكن لهم عقول ينظرون بها، أو قلوب يعقلون بها، فلما جاءهم الكتاب، ليبصّرهم من عمى، وليعلمهم من جهل، ردّوه بأيديهم، وأصمّوا آذانهم دونه.. - وقوله تعالى: «وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ» هو تهديد لهؤلاء المشركين، الذين ظلموا الحق، فلم يطلبوه من كتاب الله، وظلموا أنفسهم، فلم يستعملوا حواسّهم وملكاتهم فى النظر لما فيه هدايتهم، فركبوا مراكب الضلال، والهلاك.. وليس لهم من يستنقذهم من هذا الضلال، ويدفع عنهم يد الهلاك، وقد وقعوا فى شباكها. قوله تعالى: «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا.. قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1097 تعرض هذه الآية صورة من عناد المشركين، وتأبّيهم على الحق، وشرودهم عن الهدى.. وذلك أنهم إذا تليت عليهم آيات الله، وقعت كلماتها فى قلوبهم موقع النكر، فاشمأزوا منها، وضاقوا بها، وظهر على وجوههم ما اعتمل فى صدورهم من حنق وغيظ، وكادت أيديهم تتحرك بالتطاول والأذى، ينالون به من يتلو عليهم آيات الله، ويسمعهم إياها.. هذا هو حال أهل الضلال، مع كل دعوة راشدة، وفى وجه كلّ كلمة طيبة.. إنهم يزورّون بالخير، ويضيقون ذرعا بالهدى- شأن المدمن على منكر من المنكرات.. يؤذيه الحديث الذي يكشف له عن وجه هذا المنكر، وعن سوء مغبته، وما يجرّ عليه من فساد لعقله، وجسده، وماله.. - وقوله تعالى: «قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ» .. الإشارة هنا «ذلِكُمُ» إلى المنكر الذي يبدو على وجوه الكافرين، لما يقع فى نفوسهم من ضيق وأذى مما يسمعون من كلمات الله.. فهذا الضيق الذي يجدونه فى صدورهم، هو شرّ وأذى يقع فى أنفسهم.. ولكنه شرّ قليل وأذى محتمل بالإضافة إلى ما يلقون يوم القيامة من عذاب أليم.. فلو أنّهم راضوا أنفسهم على الاستماع إلى كلمات الله، وصبروا قليلا على هذا الدواء المرّ الذي تجده نفوسهم المريضة منه- لوجدوا برد العافية من هذا الضلال الذي هم فيه، ولآمنوا بالله، ولنجوا من عذاب السعير، ولدفعوا بهذا الشرّ الذي يجدونه فى صدورهم شرّا مستطيرا، وبلاء عظيما.. وهو العذاب الأليم فى الآخرة.. وفى تسمية ما يجده المشركون من ضيق فى صدورهم عند الاستماع إلى كلمات الله- فى تسميته شرا، إنما هو بالإضافة إليهم، وحسب نظرتهم إليه.. إنهم يجدون ما تعرضه عليهم آيات الله من دواء لدائهم، وهو الشرّ الذي يصرفهم عن الحياة والعيش مع هذا الداء المتمكن منهم.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1098 - وقوله تعالى: «النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» - هو جواب على هذا السؤال الذي سئلوه من قبل فى قوله تعالى: «هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ؟» ثم جاءهم الجواب على هذا السؤال، سواء طلبوا ذلك أو لم يطلبوا: «النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» أي هذا الشر الذي أخبركم به، هو النار، التي وعدها الله الذين كفروا وأعدّها لهم.. وأنتم أيها الكافرون لا مصير لكم غير هذا المصير، وإنه لبئس المصير.. الآيات: (73- 76) [سورة الحج (22) : الآيات 73 الى 76] يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) التفسير: قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ.. إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ.. وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ.. ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ» . مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة تحدثت عن المشركين، وأنهم يعبدون من دون الله ما أملته عليهم أهواؤهم، دون أن يكون بين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1099 أيديهم كتاب سماوىّ يدعوهم إلى عبادتها، أو يكون معهم عقل دلّهم عليها، وأراهم منها ما تستحق به أن تؤلّه وتعبد.. ثم كشفت الآيات بعد ذلك عن موقف هؤلاء المشركين عند استماعهم لآيات الله إذا تلاها عليهم قال.. إنهم يضيقون بها، حتى لتكاد تختنق أنفاسهم منها.. وهنا فى هذه الآية، يضرب الله سبحانه وتعالى لهم مثلا مجسما، يمكن أن يوضع موضع التجربة والاختبار من الناس، وخاصة المشركين، وهو أن يدعوا هذه الآلهة جميعها إلى أن يخلقوا كائنا من أضأل مخلوقات الله، وهو الذباب.. فإن فعلوا- ولن يفعلوا- فليكن لهم أن يجعلوها آلهة، وأن يعبدوها كما يعبد الله.. وإن لم يخلقوا جناح ذبابة- وهو ما تكشف عنه التجربة- فإن عبادتهم لها بعد ذلك، ضلال فى ضلال: «أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ؟ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ» (191- 192: الأعراف) . هذا، وقد مرّ تفسير هذه الآية فى أول هذه السورة، فى مبحث [الخالق وما خلق] . قوله تعالى: «ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» . أي أن هؤلاء المشركين، قد جهلوا قدر الله، ونظروا إليه كما ينظرون إلى ما يكبر فى صدورهم، من مخلوقات ومصنوعات.. فلم يجاوزوا بقدر الله ما يرفعه فوق هذه المعبودات، ويجعلها جميعا عابدة له، خاضعة لتصريفه فيها، بل إن ظنّهم بالله، جعلهم يجعلونه إلها فى مجمع هذه الآلهة، ومن أحسن الظنّ منهم بالله، جعله إلها على رأس هذه الآلهة، تشاركه الملك والتدبير، وأن لهم بهذا أن يقربوهم إلى الله، وينزلوهم منازل الرضوان عنده، وقالوا: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» (3: الزمر) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1100 - وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» - إشارة إلى ما لله سبحانه وتعالى من قوة ومن عزة، وأن قوته متفردة بالقوة كلها، لا قوة لأحد مع قوته، وأن عزته تملك العزة كلّها، لا عزّة لعزيز مع عزّته.. فكيف يسوغ لعاقل أن يستمدّ القوة والعزّة من غير مالك القوة والعزة؟ إن أي متجه يتجه إليه طالب القوة والعزة غير الاتجاه إلى الله وحده، هو سعى إلى تباب، واتجاه إلى بوار. قوله تعالى: «اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ.. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ» . هو بيان يكشف عن ضلال هؤلاء المشركين الذين يعبدون الملائكة، أو يعبدون بعضا من أنبياء الله ورسله، كما عبد بعض اليهود العزيز، وكما عبد بعض النصارى المسيح.. فهؤلاء، وأولئك- من الملائكة والرسل- هم عباد من عباد الله، وخلق من خلقه، اصطفاهم الله، وأكرمهم، ومنحهم ما منحهم من قوى وآيات.. ولن يخرج بهم هذا عن أن يكونوا عبيد الله.. فكيف يعبد العبد من دون السيّد، وكيف يؤله المخلوق مع الإله الخالق؟ ذلك سفه سفيه، وضلال مبين.. - وفى قوله تعالى: «أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ» تهديد لهؤلاء المشركين الذين يعبدون عباد الله، من دون الله.. فالله سبحانه «سَمِيعٌ» لمقولاتهم المنكرة فى هؤلاء المخلوقين.. «بَصِيرٌ» بما يعملون من أعمال، وما يقدّمون من عبادات وقربات لهؤلاء المخلوقين.. وليس وراء هذا إلا الحساب، والجزاء، والعذاب الأليم.. قوله تعالى: «يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ.. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» .. هو تهديد ووعيد كذلك، لأولئك المشركين، وأن الله السميع البصير «يَعْلَمُ ما بَيْنَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1101 أَيْدِيهِمْ» أي يعلم ما يعملونه قبل أن يعملوه.. «وَما خَلْفَهُمْ» أي ويعلم ما عملوا، وأنهم وأعمالهم سيردّون الله، ويحاسبون: «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» الآيتان: (77- 78) [سورة الحج (22) : الآيات 77 الى 78] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) التفسير: بهاتين الآيتين الكريمتين تختم السورة الكريمة.. وبهذا الختام، يلتقى بدؤها مع ختامها، كما يلتقى ختامها مع بدء السورة التي بعدها، وهى سورة «المؤمنون» . فقد بدأت السورة هكذا: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ..» إنه نذير صارخ للناس جميعا، أن يأخذوا لأنفسهم من هذا اليوم العظيم، وأن يعملوا على ما ينجيهم من أهواله المهولة المفزعة.. وقد استجاب أناس لهذا النّداء، فآمنوا بالله، وسعوا إلى مرضاته، ليخلصوا بأنفسهم من شر هذا اليوم العظيم.. ثم كانت السورة كلها بعد ذلك، دعوة إلى الله، وإلى كشف الطريق إليه، وإرسال النذير بعد النذير، إلى الضالين، والمشركين، الذين أمسكوا على ما فى قلوبهم من كفر وضلال. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1102 ثم كانت حصيلة هذه النّذر، هؤلاء المؤمنين الذين دخلوا فى دين الله، واستجابوا لرسول الله.. فكان أن دعاهم الله سبحانه وتعالى إليه، وخصّهم بخطابه، ورفدهم بوصاياه، ليثبتوا على الإيمان، وليعملوا على طريق الإيمان، وليغرسوا فى مغارسه. فقال سبحانه، مخاطبا عباده المؤمنين: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.. ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» ، فليس الإيمان بالله مجرد كلمة ينطق بها اللسان، وإنما الإيمان: قول، وعمل، إقرار باللسان، واعتقاد فى القلب، وعمل بالجوارح.. فالدعوة إلى الركوع والسجود- وهما من أركان الصلاة- دعوة إلى الصلاة، وأمر بإقامتها كاملة، وأدائها على وجهها، وما تقضى به من ولاء وخشوع لله ربّ العالمين: «ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا» .. فالركوع والسجود ليسا مجرد حركتين من حركات الجسد، وإنما هما- قبل كل شىء- خضوع بالقلب، وخشوع بالنفس، وتسربل بحال من الرهبة والخشية لله، بحيث يجد الإنسان لهذه الرهبة والخشية ما يندكّ به بناؤه الجسدى، فيركع تحت وطأة هذا الحمل الثقيل. ثم لا يلبث أن يهوى ساجدا حتى يضع جبهته على الأرض.. وهنا يجد الرضا من ربّه، والكرامة والتكريم من سيده.. فيدعوه إلى أن يرفع وجهه عن هذا التراب الذي لصق به.. وهكذا، يظل المصلّى بين يدى الله، فى ركوع وسجود، وفى خفض ورفع، حتى يختم صلاته، وهو متمكن على هذه الأرض، مسئول عليها استيلاء ذى السلطان على سلطانه! وقوله تعالى: «وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ» هو أمر بالعبادة مطلقا، فيما فرض الله من عبادات غير الصلاة، كالصوم، والزكاة، والحج، وفيما أمر به من ذكره الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1103 تعالى، والجهاد فى سبيله، والسعى فى طلب الرزق.. فكلها عبادات وطاعات وقربات.. وقوله تعالى: «وَافْعَلُوا الْخَيْرَ» هو أمر بكل خير، وراء هذه العبادات، من الإحسان إلى الناس بالقول والعمل، ومن الحكم بين الناس بالعدل، ومن أداء الأمانات إلى أهلها.. إلى غير ذلك ما هو خير وحسن، ومعروف. وفى قوله تعالى: «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» إشارة إلى أن هذه الأعمال كلها، - وعلى رأسها الإيمان بالله- هى مما ترجى به النجاة، من عذاب الله، والفوز برضوانه.. إنها مجرّد وسائل يتوسل بها الإنسان إلى ربه.. أما إنجاح هذه الوسائل وتقبلها من صاحبها، فذلك أمره إلى الله، وإلى مشيئة الله فى عبده.. وهذا هو السرّ فى تصدير الخبر بحرف التمنّي «لعل» .. إذ ليس لأحد على الله حق يطالبه به.. وإنما الله سبحانه وتعالى هو الذي يطلب، وعلى عباده أن يمتثلوا، ويؤدوا ما طلب منهم، وأن يكونوا بعد ذلك على رجاء من القبول والرضا.. قوله تعالى: «وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» . هو عطف على ما جاء فى الآية السابقة من أمر بالركوع والسجود وعبادة الله وفعل الخير.. والجهاد وإن كان مما تضمنه هذا الأمر، إذ هو من عبادة الله، ومن فعل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1104 الخير معا فقد خصّ بالذكر هنا لما له من مقام كبير، بين العبادات وأفعال الخير، ولما فيه من مخاطرة بالنفس، والمال، وهما أعلى ما يملك الإنسان، وأولى ما يحرص عليه ويضنّ به. - وفى قوله تعالى: «حَقَّ جِهادِهِ» تأكيد لهذا الجهاد، وبيان للصفة التي يكون عليها، وهو أن يكون خالصا لله، وفى سبيل الله، لا يبتغى به شىء غير وجه الله.. وهنا يكون البذل للمال والنفس هيّنا، إذا نظر إليه فى مقابل ثواب الله، وابتغاء رضوانه. - وفى قوله تعالى: «وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ» بتعدية الجهاد بحرف الجر «فى» إلى لفظ الجلالة، «الله» وإلى سبيل الله، كما جرى ذلك فى الأسلوب القرآنى- فى هذا ما يشير إلى قدر الجهاد، وإلى أنه لله وحده، ومن أجل ذاته سبحانه- ولوجهه خاصة- فحرف الجر هنا للسببية.. ومن جهة أخرى، فإن الجهاد فى الله هو جهاد عام، يشمل الجهاد فى سبيله وغيره، كالأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، ومجاهدة النفس، ونحو هذا، مما يعلى كلمة الله، ويقيم دعائم الحق، ويثبت أركانه.. وهذا مثل قوله تعالى: «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» . (69: العنكبوت) - وقوله تعالى: «هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» هو تعليل للأمر بالجهاد، وداعية إلى امتثال هذا الأمر، لأنه صادر من الله الذي «اجتبى» أي اختار هذه الأمة.. واصطفاها من بين الأمم لحمل رسالة الإسلام، آخر الرسالات، وأكملها، فهم لهذا مطالبون بأن يكونوا رسلا يحملون دعوة الإسلام، وجنودا يدافعون عنها، ويبذلون النفس والمال فى سبيلها.. إنها أمانة، هم أهل لحملها، إذ قد اجتباهم الله لها، وخصّهم بها.. ثم إن هذه الرسالة- رسالة الإسلام- مع ما فيها من دعوة إلى بذل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1105 النفس والمال، بالجهاد فى سبيل الله- فإنها رسالة قائمة على الرحمة والعدل، ليس فيها حرج ومشقة على أهلها، إذ أن من أسسها العامة أنه «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» .. وأن كل إنسان يحمل من تكاليفها وأوامرها قدر ما يستطيع، وفى هذا القدر تحقيق لأدنى المطلوب.. ففى باب الجهاد مثلا، يبدأ الجهاد بمجاهدة النفس، وكفها عن المحرمات، وردّها عن الأهواء والشهوات، وهذا وإن كان الجهاد الأكبر، كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه قريب من كل إنسان.. إنه أقرب شىء إليه، لا يتكلّف له مالا، ولا يبذل له نفسا.. ومع هذا فهو درجات.. يبدأ بالكف عن الكبائر، وينتهى بالانتهاء عن اللّمم والصغائر.. ومن الجهاد مثلا.. الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.. فهو مجاهدة بالقلب وباللسان، لا بالنفس ولا بالمال.. وفى باب الجهاد كذلك، رفع الله الحرج عن الضعفاء والمرضى، وأصحاب العاهات، ونحوهم، وأعفاهم من الجهاد بأنفسهم.. «لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى، وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (91: التوبة) .. وقل مثل هذا فى جميع أوامر الشريعة وأحكامها.. إنها شريعة قائمة على اليسر ورفع الحرج، وفى هذا يقول الله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (16: التغابن) أي فى حدود ما تحتمل أنفسكم، وما تتسع له طاقاتكم.. وفى الحديث الشريف: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» .. وفى الحديث أيضا: «إن هذا الدين ذلول لا يركب إلا ذلولا» أي إن هذا الدين سمح سهل، لا ينتفع به إلا إذا أخذ سمحا سهلا، تتقبله النفوس، وتنشرح له الصدور.. شأنه فى هذا شأن الطعام، لا يفيد منه الجسم، إلا إذا طابت له الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1106 النفس، واشتهته، واستساغت طعمه، واستطابت مضغه وبلعه.. وفى الحديث أيضا: «لا تبغّض إلى نفسك عبادة الله» وذلك بالقسوة عليها، وبحملها على ما هو شاق، وبين يديها القريب الميسور! وفى الحديث: «ما خيّر الرسول صلوات الله وسلامه عليه بين أمرين، إلا اختار أيسرهما» .. - وقوله تعالى: «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ» .. الملة، الشريعة، وهى منصوبة على الإغراء.. أي الزموا هذه الملة، ملة أبيكم إبراهيم. - وقوله تعالى: «هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ» أي أنه هو الذي طلب من الله أن تكون من ذريته تلك الأمة المسلمة التي هى أنتم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: «رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ» (128: البقرة) . فالداعيان، هما إبراهيم وإسماعيل، ودعوتهما، هى أن يكونا مسلمين لله وأن يجعل منهما- أي من إبراهيم، وإسماعيل- أمة مسلمة.. وأن يبعث فيهم رسولا منهم كما يقول الله تعالى على لسانيهما بعد ذلك: «رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (129: البقرة) .. فالنبىّ صلى الله عليه وسلم، هو «دعوة إبراهيم» - كما قال صلى الله عليه وسلم: «أنا دعوة إبراهيم» .. وكذلك أبناء إبراهيم من ذرية إسماعيل، هم الأمة المسلمة، وهم الدعوة المستجابة لإبراهيم.. قوله تعالى: «وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1107 الإشارة هنا بهذا، إلى قوله تعالى: «هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» أي وفى هذا الاجتباء، ورفع الحرج عنكم، سبب لأن يكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس.. وشهادة الرسول على أمته، هو أن يشهد بأنه بلّغ رسالته فيهم، ودعاهم إلى الإيمان بالله، وإلى الاستقامة على ما شرع الله لهم من عبادات وأحكام.. وهو بهذه الشهادة يدين كلّ من أبى وقصّر.. أما شهادة هذه الأمة على الناس، فهى مثل شهادة الرسول عليهم.. أي أنهم بمنزلة الرسول فى الناس، يدعونهم إلى الله، ويبلغونهم رسالة الإسلام، وهم بهذه الشهادة يدينون كلّ من أبى الاستجابة لهم، والدخول فى دين الله معهم.. وهذه المنزلة التي رفع الله بها قدر هذه الأمة، وأعلى بها شأنها فى الناس، وجعل لها بها ما للرسل فى أقوامهم- هذه المنزلة العالية الرفيعة، هى أمانة، لا يحملها إلا أولو العزم من الناس، ومن هنا كان واجبا على كل مسلم أن ينهض بحمل هذا العبء، وأن يرى الناس منه، فى قوله وعمله، من استقامة الخلق، واعتدال السلوك ما يرى الناس فى الأنبياء والرسل.. فيا ليت قومى يعلمون هذا الشرف العظيم، الذي قلده الله سبحانه وتعالى إياهم، وهذا الواجب الكريم الذي أناطه بهم، وهذا المقام الرفيع الذي أقامهم على الناس فيه..!! إن أي مسلم لا يرى- بعمله، وعلمه، وقدره فى الناس- أنه فى مكان القيادة من المجتمع الإنسانى، فهو ليس من الإسلام فى شىء.. إنه لن يكون فى المسلمين الذين يشهدون على الناس يوم القيامة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1108 وقوله تعالى: «فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» . هو تذكير برسالة المسلم، وبتلك المؤهلات التي يحقق بها هذه الرسالة، ويكون من الشهداء على الناس.. وذلك بأن يقيم الصلاة، ويؤتى الزكاة، وأن يعتصم بالله، ويجعل وجوده كلّه لله، وبالله.. وذلك هو الذي يضمن له علوّا، ونصرا وعزّا.. «وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» . بعونه تعالى تم الجزء السابع عشر، ويليه الجزء الثامن عشر إن شاء الله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1109 23- سورة المؤمنون (23) نزولها: هى مكية.. إجماعا. عدد آياتها: مائة وثمانى عشرة آية. عدد كلماتها: ألف ومائتان وأربعون كلمة. عدد حروفها: أربعة آلاف وثمانمائة حرف، وحرف. بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 11) [سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11) التفسير: يلتقى بدء هذه السورة مع خاتمة سورة الحج قبلها.. فقد ختمت سورة الحجّ، بهذا الخطاب العام للمؤمنين، الذين اصطفاهم الله واجتباهم، وقد تضمن هذا الخطاب دعوة إلى إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة والاعتصام بالله.. ثم ختم بقوله تعالى: «وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1110 وبدء سورة: «المؤمنون» بقوله تعالى: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ... » إلى آخر الآيات- هو استقبال كريم لهؤلاء المؤمنين الذين دعوا إلى الله، واستجابوا لدعوته، وآمنوا به.. فهؤلاء المؤمنون، قد أفلحوا، وفازوا برضوان الله.. وكان هذا الخبر من معجّل البشريات لهم فى هذه الدنيا. ومن صفات هؤلاء المؤمنين المفلحين، أنهم فى صلاتهم خاشعون.. أي يؤدّون صلاتهم فى خشوع، وخشية، وولاء.. إنها صلاة تفيض من قلب خاشع لجلال الله، راهب لعظمته، فكيان المؤمن كله، ووجدانه جميعه، وهو قائم فى محراب الصلاة- مشتمل عليه هذا الجلال، مستولية عليه تلك الرهبة. ومن أجل هذا كان لتلك الصلاة الخاشعة الضارعة أثرها العظيم، فى إيقاظ مشاعر الخير فى المصلين، وفى تصفية أنفسهم من وساوس السوء.. فهم لهذا: «عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ» أي لا يقبلون اللّغو، ولا يتعاملون به.. فإذا نطقوا، نطقوا خيرا أو سكتوا، وإذا سمعوا، سمعوا حسنا أو انصرفوا.. إنهم- وقد صفت نفوسهم، وطهرت قلوبهم- ليعافون موارد اللّغو، من القول التافه، أو الحديث الباطل.. ثم هم «لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ» أي يؤدون زكاة أموالهم، ويشاركون الفقراء والمحتاجين فيما رزقهم الله من فضله، فلا يضنّون بما فى أيديهم، ولا يؤثرون أنفسهم بما معهم.. وفى التعبير عن أدائهم للزكاة، بأنهم فاعلون لها- إشارة إلى أن الزكاة ليست من نافلة الأعمال، التي تصدر عن غير وعى أو شعور من الإنسان، بل إنها شىء عظيم، يحتاج إلى يقظة كاملة ممن يؤديها.. وذلك من وجوه: فأولا: نظره إلى المجتمع الذي حوله، وإلى الجوانب الضعيفة منه، وإلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1111 ذوى الضرّ والحاجة من أفراده، فيعمل على سدّ هذا الخلل، وتقوية تلك الجوانب ودعمها، بما بين يديه من مال. وثانيا: نظره إلى هذا المال الذي فى يده، وحمل نفسه على السّماح والبذل فى كل وجه نافع طيب.. وذلك حتى لا تغلبه نفسه على الضنّ به، والوقوف عند حدّ الزكاة الواجبة. ومن هنا كانت الزكاة «فعلا» أي عملا جادّا، يحتاج إلى كل ما يحتاج إليه العمل الجادّ، من إمعان نظر، وبذل جهد.. وليست مجرد صدقة طارئة، تطرق المتصدق بين الحين والحين، أو تلقاه على رأس كل عام، وإنما هى «فعل» متصل، يشغل به الإنسان فى كل لحظة من لحظات حياته.. وبذلك يكون على صلة دائمة بالمجتمع الذي يعيش فيه.. يحسّ بإحساسه، ويتحرك معه فى الاتجاه الذي يتحرك فيه، ويحمل هموم ذوى الحاجات والهموم من جماعة المسلمين.. وفى الحديث: «من لم يحمل همّ المسلمين فليس منهم» . ومن صفات هؤلاء المؤمنين أنّهم «لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ» أي أنهم كما حفظوا ألسنتهم عن اللغو، وكفوا جوارحهم عن الشر والأذى- حفظوا فروجهم من الدّنس، ولزموا بها جانب العفّة والطهارة.. وقوله تعالى: «إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ» هو استثناء من حفظ الفروج عن الاتصال بالنّساء، والتعفف عنهن.. فليس هذا على إطلاقه، وإنما لفروجهم ما أحلّ من أزواج، ومما ملكت اليمين من جوار.. فهذا لا لوم عليهم فيه.. تماما كالإمساك عن اللغو من الكلام، مع إباحة الحديث الطيب من القول.. - وفى قوله تعالى: «فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ» ما يشعر برفع الحظر عن أمر كان محظورا، وبدفع اللوم عن أمر كان إتيانه موضع لوم.. فكيف هذا؟ والله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1112 سبحانه وتعالى جعل الصلة بين الرجل والمرأة من النعم التي أنعم الله بها على عباده، فقال تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» ؟ (21: الروم) والجواب على هذا- والله أعلم- هو أن الإنسان فى صورته الحيوانية، مباح له إباحة مطلقة، أن يتصل بالمرأة أيا كانت، شأنه فى هذا شأن الحيوان فى اتصال الذكر بالأنثى.. بلا قيد ولا حد.. ولكن الإنسان، الذي يندسّ فى كيانه هذا الحيوان، قد أراد الله سبحانه له، أن يعلو بإنسانيته، ويرتفع إلى مستوى كريم، يكون فيه أقرب إلى العالم العلوي منه إلى العالم الأرضى.. وذلك لا يكون إلا بأن يخرج من مسلاخ الحيوان، أو يقتل هذا الحيوان المندسّ فى كيانه.. وذلك من مظاهره ألا تكون صلته بالأنثى شبيهة بصلة الحيوان، المطلقة من كل قيد..! ولكن الإنسان مهما يكن، لا يمكن أن ينسلخ من الجانب الحيواني الذي فيه، وهو على هذا التركيب الجسدى، الذي تتحرك فيه شهوة داعية إلى اتصال الرجل بالمرأة.. فكان من تدبير الله سبحانه وتعالى أن وقف بالإنسان موقفا وسطا، يأخذ فيه وضعا ملائما للإنسان والحيوان معا.. فقيد الإنسان بهذا القيد الذي ألزمه حدود إنسانيته، ثم نفّس عنه بعض الشيء، فجعل لهذا الجسد فى الإنسان حظّه من المرأة فى حدود مرسومة لا يتعداها، وهو أن يتخذ له امرأة، أو أكثر إلى أربعة، ممن أحلّ الله له.. أو ما يشاء من النساء، ممن ملكتهن يده! الأصل إذن، الحرمة المطلقة فى اتصال الرجل بالمرأة عموما.. ثم الإباحة فى هذا النطاق الضيق المحدود..! أو قل: الأصل هو الإباحة المطلقة من كل قيد، ثم هذا القيد الوارد على هذا الإطلاق.. وذلك حسب أي النظرتين بنظر بها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1113 إلى الإنسان.. فإن نظر إليه على أنه إنسان يسمو بإنسانيته عن الانتساب إلى عالم الحيوان- كان على مستوى التقدير الأول، وإن نظر إليه على أنه حيوان، يريد أن يتحسس طريقه إلى الإنسان- كان على مستوى التقدير الثاني. وانظر: إنه لو ترك للإنسان الحبل على الغارب، لكان له أن يتصل بأية امرأة يريدها ويشتهيها.. وهذا من شأنه أن يجعل جميع النساء مباحات له.. يتصل بهنّ، بوسيلة أو بأخرى.. وهذا القدر المحدود المباح له من النساء، هو استثناء من هذا الحظر العام، وهو بالقياس إلى الحظر العام، لا يكاد يعدّ شيئا، يحسب حسابه. حتى لكأن الحظر العام قائم.. فقوله تعالى: «فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ» تذكير بهذه النعمة، التي أتاحت للإنسان أن يتصل بالمرأة فى هذه الحدود، وهى وإن وجدها ضيقة، لا تشبع جوعه الحيواني، فإن عليه أن يذكر أنه إنسان، وأنه كان من مطلب الجانب الروحي منه، ألا يكون هناك هذا المنفذ الذي ينفذ منه إلى المرأة.. ومع ذلك فإنه غير ملوم فى الاتصال بالمرأة فى هذه الحدود، وإن جار هذا على الجانب الروحي منه، وهذا كله يعنى القصد فى هذا الأمر، والاعتدال فيه، وألا يكون الإنسان على سواء مع الحيوان! وفى قوله تعالى: «فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ» - تحذير من مجاوزة هذه الحدود، والانطلاق إلى ماوراءها، فإن ذلك هو دخول فى عالم الحيوان باربعة أرجل، وهو عدوان على إنسانية الإنسان، واعتداء على حدود الله! قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ» - هو من صفات هؤلاء المؤمنين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1114 الذين وصفهم الله سبحانه وتعالى بالفلاح.. فمن صفات هؤلاء المؤمنين- مع ما وصفوا به من قبل- أنهم يرعون الأمانات، ويحفظون العهود.. ومن الأمانات، والعهود، هذه التكاليف التي كلّف بها الإنسان، وهذه الأوامر التي أمر بها.. ورعاية هذه التكاليف، وتلك الأوامر، هو القيام عليها، والتزام حدودها.. والخروج عليها، هو عدوان عليها، وعلى الله سبحانه! قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ» - هو من صفات المؤمنين المفلحين أيضا.. وهو محافظتهم على الصلوات، وأداؤها فى أوقاتها، بعد أن وصفوا من قبل بأنّهم فى صلاتهم خاشعون.. وقدمت الخشية فى الصلاة، على المحافظة عليها.. لأن الخشية هى المطلوب الأول من الصلاة، وأن صلاة بغير خشوع وخشية، لا محصّل لها، ولا ثمرة منها.. قوله تعالى: «أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ» . هو بيان للجزاء الحسن، الذي يجزى الله سبحانه وتعالى به المؤمنين، الذين وصفوا بهذه الصفات، وهو ما يكشف عن فلاحتهم، وفوزهم، وإنه لا فلاح أعظم من هذا الفلاح! ولا فوز أكرم من هذا الفوز..! وأي فلاح أعظم، وأي فوز أكرم، من أن تكون الجنة ميراثا خالدا أبدا، يعيش فيه أولئك المؤمنون المفلحون! الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1115 الآيات: (12- 22) [سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 الى 22] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) التفسير: قوله تعالى: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ» . مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة من متفتح السورة إلى هذه الآية، قد كانت عرضا، مسعدا للمؤمنين المفلحين، الذين آمنوا بالله، واستقاموا على طريقه المستقيم.. وفى مقابل هذا العرض كانت تتراءى صورة الضالين والغاوين، الذين كفروا به، وحادوا عن سواء السبيل.. وإلى هذه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1116 الصورة كانت تتطلع كثير من النفوس إلى هيئتها التي تكون عليها، لو أنها أطلّت بوجهها، وكشفت عن حال أصحابها، كما كشفت الصورة السابقة عن المؤمنين، وعن حالهم الطيبة المسعدة.. فالمؤمنون بالله ينظرون إلى من خلّفوهم وراءهم على طريق الكفر والضلال، ليروا ما صنع الله بهم.. وغير المؤمنين، ينظرون إلى مكانتهم بعد أن رأوا المؤمنين، وقد ورثوا جنات النعيم. ولكن كان من رحمة الله بهؤلاء الضالين الغاوين، أن حجب عنهم صورتهم السيئة المنكرة، ولم يكشف لهم عن المصير المشئوم الذي هم صائرون إليه، إذا وقفوا حيث هم على موارد الضلال والغواية. وبدلا من أن يكشف الله لهم عن حالهم السيئة، وينزلهم منازل الهون والبلاء- دعاهم إليه، ومنحهم فرصة أخرى، يراجعون فيها أنفسهم، ويتدبرون حالهم، ويرجعون إلى الله من قريب، ليكونوا فى المؤمنين المفلحين، فعرض عليهم سبحانه وتعالى شيئا من مظاهر قدرته، وعلمه، وحكمته.. يجدونها- لو عقلوا- فى أقرب شىء إليهم.. فى أنفسهم، وفى عجائب قدرة الله، وبالغ حكمته.. إذ أخرج من التراب هذا الإنسان، السميع البصير، العاقل، الناطق، الذي عمر هذه الأرض، وتسلّط على حيوانها ونباتها وجمادها.. ففى هذه النظرة التي ينظر بها الإنسان إلى نفسه، وإلى أصل نشأته، وتطوره فى الحياة، وتنقله فى الخلق- فى هذه النظرة، يرى الإنسان أن يدا حكيمة قادرة، هى التي أوجدته، وأخرجته على هذه الصورة، التي لا وجه للشبه بينها وبين هذا التراب الهامد الذي ولدت منه.. فكيف لا يولى الإنسان وجهه إلى الذي فطره وصوّره، وأقامه على هذا العالم الأرضى خليفة لله فيه؟ وكيف لا يدين لخالقه ورازقه بالطاعة والولاء؟ ثم كيف يعطى يديه، ويسلم زمامه لأحجار ينحتها، أو لحيوان يربيه، أو لإنسان هو مخلوق مثله؟ ذلك ضلال مبين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1117 وانحدار سريع إلى عالم التراب، مع الهوام والحشرات! قوله تعالى: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ» . السلالة: الأصل، وكأنها السلسلة التي يمتد عليها أصل الشيء، ويصل بين مبدئه وغايته، وهذا يشير إلى أن الإنسان قد مرّ فى أطوار كثيرة بين عالم التراب، وسار مسيرة طويلة فى سلسلة متصلة الحلقات.. من التراب إلى الطين، ثم من الطين إلى الحمأ المسنون، ثم من الحمأ المسنون إلى الصلصال، كما يقول تعالى على لسان إبليس- لعنه الله-: «قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ» (33: الحجر) .. ثم من هذا الصلصال إلى عالم النبات.. من الطحالب.. إلى النخلة، ثم من عالم النبات إلى الحيوان، من الجرثومة.. إلى الإنسان..! وقد عرضنا لقضية خلق الإنسان فى الجزء الأول من هذا التفسير.. قوله تعالى: «ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ» . هو إشارة إلى أن هذا الإنسان الذي أخرجته القدرة الإلهية من بين هذا التراب بشرا سويّا، ما هو إلا هذه النطفة التي اختصرت وجوده كله، واشتملت على كل ما فى كيانه من قوى عاقلة، ناطقة، مبصرة، سميعة، مريدة، فما النطفة إلا الإنسان مضمرا فى كيانها، وما الإنسان إلا النطفة سابحا فى محيطها متحركا فى فلكها.. والقرار المكين، المودعة فيه النطفة، هو الحبل المنوىّ، الذي يمتد بين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1118 فقار الظهر، وأضلاع الصدر، كما يقول تعالى: «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ» (5- 7: الطارق) . وقد يكون القرار المكين، هو الرحم الذي تستقرّ فيه النطفة.. وبين خلق الإنسان من طين، وبين جعله نطفة فى قرار مكين، مقابلة، بين نشأة الإنسان الأول من الطين، وبين عملية التوالد، التي هى وظيفة عضوية من وظائف هذا الإنسان.. فالنشأة الأولى، من التراب.. وفى هذا التراب كانت تكمن جرثومة الإنسان الأول كما تكمن النطفة فى هذا القرار المكين من الإنسان.. ولكن شتان بين نطفة ونطفة! فالنطفة التي تخلّق منها الإنسان الأول كانت من مادة هذه الأرض كلها.. والمدى بعيد شاسع بين مادة الأرض، وبين هذا الإنسان المتخلق من المادة.. ولهذا جاء التعبير القرآنى المعجز عن هذه العملية بلفظ «الخلق» : «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ..» أما نطفة الإنسان، وما يتخلّق من هذه النطفة من كائن بشرى مثل هذا الإنسان، فالمسافة بينهما قريبة فى مرأى العين البشرية، وفى مواجهة الشواهد الكثيرة لهذا.. فى عالم النبات والحيوان.. حيث تخرج الحبّة نباتا مثل هذا النبات الذي جاءت منه، ويخرج الحيوان من نطفته حيوانا مثله.. ولهذا جاء التعبير القرآنى المعجز عن هذه العملية بلفظ جعل. «ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً» .. والجعل دون الخلق، إذ هو وظيفة من وظائف المخلوق، وذلك مثل قوله تعالى: «وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً» (8- 11 النبأ) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1119 قوله تعالى: «ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً.. فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً.. فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً..» فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً.. ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ.. فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ.» تقصّ هذه الآية قصة «خلق» الإنسان، ابتداء من النطفة، التي جعلها الله سبحانه وتعالى فى قرار مكين.. هو الرّحم. وهنا يتجلى الإعجاز القرآنى، حتى ليكاد يلمس باليد، إن عميت عنه العيون، وزاغت عنه الأبصار! فقد رأينا كيف فرق النظم القرآنى بين أمرين: فأولا: جعل إيجاد الإنسان من الطين، عملية خلق.. «خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ» . وثانيا: جعل توالد الإنسان من النطفة عملية وظيفية، تخضع لسنن ظاهرة يدركها الإنسان، ويعمل على تحقيقها، وقد عبر عنها القرآن بلفظ «جعل» .. «ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ» . وهنا فى هذه الآية- وهو موضع العجب والدّهش والانبهار لهذا الإعجاز- هنا تتحرك النطفة نحو غايتها إلى أن تكون مولودا بشرا.. يتنقّل من نطفة، إلى علقة، إلى مضغة، إلى هيكل عظمى معرّى من اللحم.. إلى هيكل بشرى يكسوه اللحم.. إلى جنين.. ثم طفل.. وهذه الأطوار، هى فى الواقع انطلاقة لهذه النطفة، وإظهار لما فى كيانها..! وعلى هذا، فقد كان من المتوقع أن تكون هذه التحركات للنطفة من باب «الجعل» لا «الخلق» لأن النطفة ذاتها «مجعولة» وكل ما تعطيه هو من «المجعول» أيضا.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1120 ولكن النظم القرآنى، خالف هذا، وجاء بالتعبير عن «الجعل» بلفظ «الخلق» . فالنطفة لم تجعل علقة، وإنما خلقت علقة.. «ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً..» والعلقة لم تجعل مضغة، وإنما خلقت مضغة.. «فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً..» وهكذا المضغة، لم تجعل عظاما، وإنما خلقت عظاما.. «فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً..» فما سر هذا؟ بل ما أسرار هذا؟ وماذا وراءه؟ السرّ فى هذا- والله أعلم- أن كلّ عملية من هذه العمليات، هى خلق جديد، لا يملكه إلا الخالق جل وعلا، وهو مما استأثر به سبحانه وتعالى وحده، فسمّى ذاته «الخالق» وأبى على خلقه أن يشاركوه فى هذه الصفة.. ومعنى هذا، أنه لا يمكن للإنسانية كلها- وإن اجتمعت- أن تنتقل بالإنسان فى هذه الأطوار من طور إلى طور.. وأن قدرة الناس- ولو اجتمعت- لا تستطيع أن تنتقل بالنطفة إلى العلقة، ولا بالعلقة إلى المضغة.. وهكذا.. إنها جميعها- كما قرر القرآن- عمليات «خلق» ، استأثر بها الخالق.. وإنها لمعجزة قرآنية متحدية، قائمة على التحدي فى كل زمان ومكان.. وإنه لن يأتى العلم أو العلماء- مهما بلغ العلم، واجتهد العلماء- بما يقف لهذه المعجزة المتحدية، على مدى الأزمان. نقول هذا، لا لنحجر على العلم، ولا لنقف فى طريق العلماء، الذين يحاولون الوصول إلى «خلق» الكائن الحىّ.. بل نحن ندعو العلم، ونهيب بالعلماء أن يجروا فى هذا الميدان إلى غايته، وأن يتحدّوا هذه المعجزة المتحدية.. فتلك هى دعوة القرآن للكشف عن إعجازه، والدعوة إلى الإيمان بأنه تنزيل من ربّ العالمين.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1121 وقد عرضنا لهذه القضية فى مبحث خاص، تحت عنوان: «الخالق وما خلق» فى تفسير الجزء السابع عشر، من القرآن الكريم.. - وفى قوله تعالى: «ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ» إشارة إلى نفخة الروح فى الإنسان، بعد أن يتخلّق، ويتم تصويره على الصورة الإنسانية.. فهو قبل هذه النفخة كتلة من اللحم والعظم.. حتى إذا نفخ فيه الخالق من روحه، أصبح كائنا حيّا، ودخل فى عالم الإنسان! - وقوله تعالى: «فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» هو تمجيد لله، وتسبيح بجلاله وعظمته، يقولها الحق سبحانه وتعالى ممجدا ذاته، ويقولها الوجود كلّه، تسبيحا، وصلاة، وحمدا للخالق المبدع المصوّر.. قوله تعالى: «ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ» . وهذه حقيقة واقعة، يعلمها الناس ويقعون فى دائرة تجربتها.. فهى- والحال كذلك- فى غير حاجة إلى أن يخبر عنها، ثم إذا كان لا بد من الإخبار بها، فهى فى غير حاجة إلى توكيد.. ولكن جاء القرآن مخبرا عنها، ومؤكدا لها.. وذلك لأن الناس- وإن كانوا على علم واقع بهذه الحقيقة- ذاهلون عن الموت، غافلون عنه، حتى لكأنهم لن يموتوا أبدا.. فلقد غرّتهم الدنيا، وألهاهم متاعها، وشغلهم غرورها، فكانت هذه النخسة من القرآن الكريم، إيقاظا لهؤلاء النيام، الذين هم فى غمرة ساهون، والذين هم فى خوضهم يلعبون. قوله تعالى: «ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1122 إن الموت ليس هو نهاية الإنسان، بل إنه مرحلة من مراحل وجوده، وموقف يتحول به من عالم إلى عالم آخر.. فيه حساب وجزاء. قوله تعالى: «وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ» . الطرائق: جمع طريقة- وهى الطبقات.. بعضها فوق بعض.. والسبع الطرائق: السموات السبع.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً» (15: نوح) . فالسّموات، ليست كما تبدو فى مرأى العين، سقفا جامدا، وإنما هى طبقات من الأثير، بعضها فوق بعض، كما أن الأرض طبقات من المادة الكثيفة.. بعضها فوق بعض كذلك.. طبقة قشرية من تراب.. ثمّ تحتها طبقات من أحجار، ومعادن.. وغيرها، مما لم يبلغه علم الإنسان.. - وفى قوله تعالى: «وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ» - إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى، إذ يخلق ما يخلق، فإنه- سبحانه- يقوم على أمر هذا الخلق وتدبيره، ويمسك نظامه، ويحفظ وجوده. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» .. فهو وحده- سبحانه- الذي يخلق، وهو وحده- جل شأنه- الذي يدبّر أمر ما خلق. قوله تعالى: «وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ» . هو بيان لقوله تعالى: «وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ» .. وذلك أن الله- سبحانه- الذي خلق الإنسان، لم يدعه وشأنه، بل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1123 تولّى أمره، ودبّر شئونه، فأنزل هذا الماء الذي هو ملاك حياة كل حىّ، من نبات وحيوان.. وأن هذا الماء لم ينزل إلا بحساب، وتقدير، فكان على قدر ما يصلح به الناس، وتصلح به حياتهم.. وأنه لو كان أقلّ مما هو، لهلك الناس، وفسدت حياتهم، ولو كان أكثر مما هو، لهلك الناس، وذهب العمران.. - وفى قوله تعالى: «فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ» - إشارة إلى أمور. أولها: استقرار الماء فى الأرض، ولزومه إياها، وجعلها سكنا له، يألفها، وتألفه، فلا ينفصل أحدهما عن الآخر أبدا، حتى لكأنهما كائنان من عالم الأحياء، يتزاوجان تزاوج الذكر والأنثى. وثانيهما: أن إسكان الماء فى الأرض، إنما هو لرسالة يؤدّيها فى الحياة، شأنه فى هذا شأن الإنسان، الذي أسكنه الله هذه الأرض، وجعله خليفة فيها.. وهذا هو بعض السرّ فى التعبير عن استقرار الماء فى الأرض، بالسكن فيها. وثالثهما: أن تعدية الفعل «فَأَسْكَنَّاهُ» بحرف الجرّ «فى» الذي يفيد الظرفية- هذه التعدية تعنى جريان الماء فى الأرض، ونفوذه إلى أعماق بعيدة فيها، وأنه بهذا يأخذ وضعا متمكنا منها، بحيث لا يعرض له من العوارض، ما يجليه عنها، أو يقطع صلته بها. - وفى قوله تعالى: «وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ» إلفات إلى تلك النعمة العظيمة التي لا يكاد يلتفت إليها الناس إلا فى أحوال نادرة، حيث ينقطع الماء عنهم.. فهذه النعمة التي يجدها الإنسان بين يديه من غير أن يبذل لها جهدا، هى أثمن وأغلى شىء فى هذه الحياة، وأن الإنسان ليقدّم كلّ ما يملك فى هذه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1124 الدنيا فى مقابل شربة من الماء، تمسك عليه حياته، إذا حرم الماء فى حال من الأحوال.. روى أن أحد الزهاد دخل على الرشيد، فعتب عليه الرشيد أنه لم يطلب منه شيئا.. فقال الزاهد: وماذا فى يدك حتى أطلب منك؟ فقال الرشيد: هذه خزائن مالى، وهذه الأمصار.. فاطلب من المال ما تشاء، واختر أي مصر أقيمك واليا عليه! فقال الزاهد: وكم يساوى ما فى خزائنك من مال؟ وكم يقدّر لأمصارك وولاياتك من ثمن؟ فقال الرشيد: إنه كثير كثير.. كما ترى.. فقال الزاهد: يا أمير المؤمنين.. بكم تشترى شربة الماء إذا اشتدّ بك العطش. وأنت فى متاهة، ولا ماء معك؟ فقال الرشيد: بملكي كلّه، ولو كان معى مثله لبذلته.. فقال الزاهد: يا أمير المؤمنين.. وبكم من ملكك تدفع عن نفسك شربة الماء إذا احتبست فى داخلك، ولم تخرج من مخرجها؟ فقال الرشيد: بملكي كلّه.. ولو كان معى ضعفه لخرجت منه!! فقال الزاهد: هذا ملكك يا أمير المؤمنين.. كما رأيت.. فماذا أطلب مما ملكت؟ فلو أن الناس ذكروا أدنى نعم الله عندهم، لوجد أشدّهم فقرا أنه فى غنى عريض، وملك كبير، ولبات مع القليل الذي فى يده، على رضا وحمد لله ربّ العالمين.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1125 - قوله تعالى: «فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ» . هو بيان لبعض وجوه النفع التي ينتفع بها الإنسان من هذا الماء، الذي أنزله الله سبحانه وتعالى من السماء، وأسكنه فى الأرض، وأبقاه ولم يذهب به. فمن هذا الماء- فضلا عن حياة الإنسان به، وإرواء ظمئه- ينبت النبات والشجر، ويخرج الحب والفاكهة.. وفى اختصاص الجنّات بالذكر، لأنها الصورة الكاملة التي تجمع مختلف الزروع، من الفاكهة وحبّ الحصيد.. وفى اختصاص النخيل والأعناب من بين أشجار الفاكهة، لأنها أعلى درجات النبات صعودا إلى الكمال فى عالم النبات.. فهاتان الشجرتان على قمة العالم النباتي، حيث تلامسان عالم الحيوان.. وقد تحدثنا عن النخلة فى بحثنا عن خلق آدم، فى الجزء الأول من هذا التفسير، وأشرنا إلى معنى الحديث الشريف: «أكرموا عماتكم النّخل.. فإنهن خلقن من طينة آدم» .. قوله تعالى: «وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ» . المراد بالشجرة هنا شجرة الزيتون.. وقد جاءت منكرة للتنويه بها، وبأنها فى تنكيرها أعرف من كل معرّف.. وذلك لأن الله سبحانه وتعالى بارك عليها، فقال تعالى: «يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ» (35: النور) . وهى منصوبة بالعطف على «جَنَّاتٍ» .. على تقدير وأخرجنا لكم به جنات من نخيل وأعناب وشجرة.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1126 وفى وصفها بأنها «تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ» - مع أنها تخرج من مواطن كثيرة من الأرض- إشارة إلى أنها ولدت أول ما ولدت فى هذا الموطن المبارك، طور سيناء.. فذلك هو مسقط رأسها الأول، وذلك هو الرّحم الطاهر الذي خرجت منه.. فكل أشجار الزيتون ممسوسة بنفحة من هذه الأمّ التي ولدتها تلك الشجرة التي تفتق عنها رحم هذا المكان الطاهر المبارك.. - وقوله تعالى: «تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ» أي تنبت وفى كيانها الدهن، وهو الزيت الذي يخرج منها، ويعصر من ثمارها.. - وقوله تعالى: «وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ» .. معطوف على الدهن، والصبغ الإدام، الذي يصبغ اللقمة من الطعام حين تغمس فى الزيت، فتصطبغ به، وتتلوّن بلونه، وتصبح مشتهاة للآكلين.. قوله تعالى: «وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ» . هو إلفات إلى هذه الأنعام المسخرة للإنسان، وما فيها من منافع كثيرة له. وأعجب ما فى هذه الأنعام، هذا اللبن الذي يخرج من بطونها، من بين فرث ودم.. فلا يأخذ من لون الدم، أو ريح الفرث شيئا، على حين أنه يجرى بينهما، ويأخذ مسلكه الدقيق معهما.. ففى ذلك شاهد من شواهد قدرة الله وإحكام تدبيره وتفرّده سبحانه بالخلق والتدبير. قوله تعالى: َ عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ» . أي أن من هذه الأنعام ما يتخذ للركوب ولحمل الأثقال، كما تتخذ الفلك مراكب للانتقال وحمل الأثقال.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1127 الآيات: (23- 30) [سورة المؤمنون (23) : الآيات 23 الى 30] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) التفسير: قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ» . كان ذكر نعمة الفلك فى الآية السابقة فى قوله تعالى: َ عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ» مناسبة قوية تذكّر بقصة نوح عليه السلام، وبالسفينة، التي جعلها الله مركب نجاة له، ولمن آمن معه.. وأن هذه السفينة لم تكن إلا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1128 نعمة من نعم الله، نجا عليها من آمن به.. وكذلك كل نعمة من نعم الله الكثيرة التي فى أيدى الناس، هى فلك نجاة، يسلك بها الإنسان طريقه إلى الله، ويستدل بها على قدرته وحكمته، فيؤمن به، ويبتغى مرضاته، وبهذا ينجو من سخطه وعذابه، الواقع بالظالمين المكذّبين. وقد جاء نوح إلى قومه يذكّرهم بالله، ويدعوهم إلى الإيمان به وحده، ويحضهم على تقواه: «أَفَلا تَتَّقُونَ؟» . وكان جواب القوم على هذه الدعوة الكريمة، ما جاء فى قوله تعالى: «فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ» . إنها فلسفة مريضة، وسفاهة عمياء.. «ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ» .. هكذا رأى القوم- بجهلهم وغبائهم- فى هذا الداعي الذي يدعوهم إلى الله.. إنه طالب سلطان عليهم واستعلاء فيهم، بهذا الموقف الذي يقفه منهم.. إذ كيف يقودهم فينقادون؟ ويدعوهم فيستجيبون؟ وهو واحد منهم لا فضل له عليهم؟ فمن أين جاءه هذا السلطان فيهم؟ ومن أين كانت له هذه الكلمة عليهم؟ إنّها لا أكثر من دعوى يدّعيها، وإنه لا أكثر من قول يقوله: أنا رسول الله إليكم!! وإذا كان لله رسل، فلم لم يكونوا من الملائكة، وهم أقرب إلى الله، وأكثر اتصالا به؟ وإذن فالقوم كانوا يعرفون الله، ويعرفون أن لله سبحانه وتعالى ملائكة. نعم، ولكنهم كانوا أشبه بمشركى العرب.. يعرفون الله هذه المعرفة المطموسة بتلك التصورات الفاسدة، التي لا ترتفع بجلال الله إلى ما يليق به من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1129 تنزيه عن الصاحبة، والشريك، والولد.. قوله تعالى: «إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ» . وهذا حكمهم على «نوح» .. إنه رجل مخبول، يهذى بهذا الكلام الذي يقوله لهم، ويحدثهم به عن الله.. وإذن، فمن الحكمة- حكمة السفهاء- أن ينتظروا قليلا، حتى يروا ما وراء هذا الجنون.. أهو عارض فيشفى منه صاحبه، أم هو متمكن منه، ولا شفاء له.. وإذن فسيكون لهم معه شأن غير هذا الشأن! قوله تعالى: «قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ» . وإنه ليس أمام نوح مع هذا العناد الأعمى، إلّا أن يستنصر بربه، وأن يطلب الانتقام له من هؤلاء الذين كذّبوه، وبهتوه، وتوعدوه بالبلاء والنكال. وقوله «بِما كَذَّبُونِ» أي انصرني بما كذبون به، من سلطانك وبأسك وقوتك.. فالباء للاستعانة، وليست للسببية.. قوله تعالى: «فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ» . هذا هو جواب الله لنوح فيما سأله إياه.. أن يصنع الفلك على حسب ما يتلقّى من توجيه ربه، ووحيه له، وأن «يسلك» أي يدخل وينظم فيها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1130 من كل حيوان نافع له، زوجين اثنين، ذكرا وأنثى، وأن يأخذ أهله معه، إلا من سبق عليه القول منهم، فلم يكن من المؤمنين بالله.. - وقوله تعالى: «وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ» - هو تثبيت لقلب نوح، وعزاء له فى أهله الذين سيخلّفهم وراءه للهلاك غرقا.. فهذا أمر الله فيهم، وحكمه عليهم.. وليس لأمر الله مردّ، ولا وراء حكمه معقب، وإنه ليس عند المؤمنين بالله إلا الاستسلام والرضا.. قوله تعالى: «فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» . هو وعد من الله سبحانه وتعالى لنوح بالنجاة من هذا الطوفان المخيف، وأن هذه الرحلة التي سيخوض فيها بسفينته غمرات هذا الطوفان، هى رحلة مأمونة، عاقبتها السلامة والنجاة، وحقّها الحمد والشكران لله ربّ العالمين. قوله تعالى: «وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ» . هو تلقين لنوح بتلك الدعوة المباركة، التي يدعو بها ربّه، وهو فى طريق العودة إلى اليابسة، بعد أن تنهى السفينة دورتها على ظهر هذا الطوفان، حتى يهيئ الله له مكانا خيرا من هذا المكان الذي شهد فيه عناد قومه، ورأى مصارعهم، وقد اشتمل عليهم الطوفان.. وهذا يعنى أن بعض الأمكنة أفضل من بعض.. بعضها ينبت الشوك والحسك، وبعضها يخرج زروعا ناضرة، وجنات مثمرة.. كذلك بعضها يلد الكرام من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1131 الرجال وبعضها يلد الأنكاد المشائيم منهم.. وهذا ما نجده فى قوله تعالى: «وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً» . وليس ينكر أثر البيئة فى تكوين شخصية الإنسان، وفى تلوين صبغته الظاهرة والباطنة.. فأهل البادية غير أهل الحضر، وسكان البلاد الحارة غير سكان البلاد المعتدلة. ولحكمة عالية، وسرّ عظيم، كان اختيار الجزيرة العربية مطلعا لرسالة الإسلام الخالدة، واختيار رسولها من نبت هذه البادية، ومن زهرها الطيب الكريم.. وقد عرضنا لهذا الموضوع فى كتابنا: «النبىّ محمد صلى الله عليه وسلم» .. تحت عنوان: «مكان الدعوة وزمانها» . قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ» . الإشارة هنا إلى هذا الحدث، وما كان فيه من هلاك القوم الظالمين، ونجاة الرسول ومن آمن معه.. ففى هذا الحدث آيات، وشواهد على قدرة الله، وإحاطة علمه بما يقع من عباده من طاعة أو عصيان.. وقوله تعالى: «وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ» .. (إن) هنا مخففة من «إنّ» الثقيلة.. والمعنى أن الله سبحانه وتعالى جعل الابتلاء والاختيار أمرا لازما يؤخذ به عباده، حتى ينكشف حالهم، ويأخذ كل منهم مكانه فى هذا الابتلاء.. فإرسال الرسل إلى الناس، ودعوتهم إلى الإيمان بالله، وإتيان ما يفرضه عليهم الإيمان من واجبات، هو ابتلاء، يتكشف آخر الأمر عن مؤمنين وكافرين، وناجين وهلكى.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ» (31: محمد) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1132 الآيات: (31- 41) [سورة المؤمنون (23) : الآيات 31 الى 41] ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) التفسير: قوله تعالى: «ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ» . أي وبعد نوح أرسل الله سبحانه وتعالى رسلا كثيرين إلى أقوامهم، فكان الموقف واحدا «كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ» . - وفى قوله تعالى: «ثُمَّ أَنْشَأْنا» .. إشارة إلى أن عملية الخلق ليست عملية آلية، كما تبدو من التوالد بين الأحياء، وإنما تتجلّى قدرة الله سبحانه وتعالى فى خلق كل مخلوق، صغر أم كبر- فميلاد المولود هو خلق، وإنشاء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1133 مستقلّ.. تماما كما خلق الإنسان الأول من تراب، فكذلك خلق الإنسان المولود منه.. هو من تراب أيضا.. حيث تتولد النطفة من مادة المأكولات المتولدة من الأرض.. ثم تسير النطفة فى مراحل التطور بقدرة الخالق، فتتحرك من طور إلى طور، حتى يولد المولود. وهذا هو السر فى التعبير القرآنى بلفظ «أنشأنا» بدلا من لفظ أقمنا، أو خلقنا.. ونحوهما. والقرن الآخرون، الذين جاءوا بعد قوم نوح، هم قوم عاد وقوم ثمود.. وقد جمعهما القرآن الكريم فى قرن واحد، لأنهم كانوا على شاكلة واحدة، وقد جاء قوم ثمود، خلفا لقوم عاد، فى ديارهم ومساكنهم.. قوله تعالى: «فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ» . تلك هى دعوة الرسول فى القوم، سواء أكان الرسول هودا، المرسل إلى عاد، أم صالحا المرسل إلى ثمود.. إن رسول كل من القومين هو واحد منهم، وإن كلمة كلا الرسولين إلى قومه هى: «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ.. ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ.. أَفَلا تَتَّقُونَ» .. دعوة إلى عبادة الله، وإفراده بالعبودية وحده.. والاستقامة على ما يأمر به، واجتناب ما ينهى عنه.. قوله تعالى: «وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ» - تلك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1134 هى بعض مقولات القوم- قوم عاد وقوم ثمود معا- التي استقبلوا بها دعوة رسولهم لهم، إلى الإيمان بالله.. والملأ: الجماعة من أشراف القوم وساداتهم.. - وفى قوله تعالى: «الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» .. وفى عطف «أَتْرَفْناهُمْ» على التكذيب والكفر- فى هذا إشارة إلى أن نعم الله التي نعمهم بها وأترفهم بالتنعم فيها- كانت عندهم عدلا للكفر والتكذيب.. وكأن ذلك صفة من صفاتهم إلى جانب الكفر والتكذيب.. وكأن ذلك صفة من صفاتهم إلى جانب الكفر والتكذيب.. أي كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة، وجحدوا بنعمنا التي أترفناهم بها، وكذبوا بالرسول الذي جاءهم، وأبوا أن يؤمنوا لبشر مثلهم، وعدوا هذا خسرانا وبلاء عليهم. قوله تعالى: «أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ» . هو بعض من مقولات القوم، التي ينكرون بها على النبي دعوته إياهم إلى الإيمان باليوم الآخر.. فهم يستبعدون- إلى حد الاستحالة- أن يبعثوا بعد أن يموتوا، ويصبحوا ترابا ورفاتا.. كما يقول الله تعالى بعد هذا، على لسانهم: «هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» . إنهم بهذا يؤكدون استبعاد البعث بعد الموت، ويؤكدون أنه لا حياة إلا هذه الحياة التي هم فيها، وأنهم إنما يدورون فى هذين المدارين، حياة وموت، وموت وحياة.. حيث يموت ناس، ويولد ناس.. وهكذا دواليك.. أما أن يبعث الموتى من قبورهم، ويعودوا إلى الحياة مرة أخرى، فذلك ما لا تقبله عقولهم ولا يتصوره خيالهم.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1135 إن الإيمان بالبعث فرع عن الإيمان بالله، وبقدرته، وعلمه، وحكمته.. فإذا لم يكن إيمان بالله، أو دخل على هذا الإيمان خلل وفساد- لم يكن أمر البعث ممكن التصور.. كما يقول الشاعر الجاهلى. حياة ثم موت ثم بعث؟ ... حديث خرافة يا أمّ عمرو قوله تعالى: «إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ» هى قوله القومين- عاد وثمود- قالها كل قوم لرسولهم، فرموه بالافتراء والكذب على الله. «قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ» وتلك هى صرخة كل من الرسولين إلى ربه، وفزعته إليه.. وقد كانت تلك هى صرخة نوح وفزعته إلى ربه من قبل: «رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ» . «قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ» . وقد استجاب الله للرسولين الكريمين، بهذا الوعيد الذي توعّد به القوم الظالمين.. «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» الصيحة: هى الزلزلة، التي رجّت ديار القوم، وأتت على كل شىء وإذا كان عاد قد أهلكوا بريح صرصر عاتية، كما يقول الله تعالى: «وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ» .. وإذا كانت ثمود قد أهلكت بالصيحة. وقد سماها القرآن «الطاغية» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1136 كما فى قوله تعالى: «فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ» - إذا كان هذا وذاك، فإن الصيحة تجمع الصفة التي هلك عليها عاد وثمود، فأنهم أهلكوا بهذا البلاء الذي صاح فيهم صيحة جمد لها الدم فى عروقهم، وتصدعت لها قلوبهم، وتهاوت منها ديارهم.. وفى قوله تعالى: «فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً» إشارة إلى أن ما خلّفه البلاء الواقع بهم، من ذواتهم، وديارهم، وأموالهم- لم يكن إلا ترابا وحطاما أشبه بالغثاء الذي يحمله السيل فى اندفاعه، مما يجده فى طريقه من مخلفات الأشياء، التي لا يلتفت إليها أحد. الآيات: (42- 50) [سورة المؤمنون (23) : الآيات 42 الى 50] ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1137 التفسير: قوله تعالى: «ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ» . القرون: الأمم.. والقرن من عمر الزمن مائة عام، ومن عمر الإنسانية، جيل من أجيالهم ويقدّر بثلاث وثلاثين سنة. والإنشاء: الخلق، والإيجاد من عدم، كما أشرنا إلى ذلك من قبل. «ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها» : أي ما تسبق أمة أجلها.. وحرف الجرّ من» زائد، و «أمة» فاعل. والمعنى.. أنه بعد أن أهلك الله قوم عاد، وقوم ثمود، خلق من بعدهم أمما أخرى كثيرة، جاء بعضها إثر بعض.. فكان لكل أمة ميقات لميلادها ومهلكها، تماما كميقات مولد الإنسان ومهلكه.. لا تجىء أمة قبل الوقت المقدر لميلادها، ولا تستأخر عنه.. قوله تعالى: «ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» .. تترى: أي تتتابع، ويجىء بعضها وراء بعض. أي ثم أرسل الله سبحانه وتعالى إلى كل أمة رسولا منها.. يلقاها فى الوقت المعلوم.. وكما تتابعت الأمم، وجاء بعضها إثر بعض، كذلك تتابعت الرسل وجاء بعضهم وراء بعض.. وكما خلفت كل أمة الأمة التي قبلها، فى ديارها وأموالها، خلفتها كذلك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1138 فى تكذيبها لرسول الله المبعوث إليها! ثم حل بها البلاء، وأخذها الله ببأسه.. كما أخذ من سبقها من أمم.. - وفى قوله تعالى: «وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ» إشارة إلى هلاك هذه الأمم المتتابعة، وزوال آثارها، فلم يبق منها إلا أحاديث يرويها الناس عنها، وعما كان منها، وما نزل بها.. - وقوله تعالى: «فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» .. هو تهديد لمن لا يؤمن بالله من الأقوام الحاضرة أو المقبلة، وعبرة بهذه الأمم التي هلكت بعذاب الله. وفى التعبير هنا بقوله تعالى: «فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» .. وبقوله تعالى: «فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» عند التعقيب على هلاك قوم عاد وثمود- فى هذا مراعاة لمقتضى الحال هنا وهناك.. فهنا تهديد لقوم يدعون إلى الإيمان، ويقفون موقفا مباعدا له، ولكنهم لم يقعوا بعد تحت عذاب الله الراصد للكافرين.. فحسن لهذا أن تعرض عليهم صورة الكافرين، وقد تلبسوا بكفرهم هذا الذي إذا لم يخرجوا منه، كان مصيرهم البلاء والنكال.. وهناك- مع قوم عاد وثمود- قد هلك القوم فعلا، بعد أن قطعوا طريقهم مع الكفر إلى آخره.. فكانوا بهذا كافرين وظالمين غير مظلومين، إذ أخذوا بهذا العذاب البئيس، فكان وصفهم بالظلم أنسب وصف لهم. قوله تعالى: «ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ» . عطفت قصة موسى على ما قبلها بحرف العطف «ثمّ» الذي يفيد التراخي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1139 وهذا الفصل بثم، بين هذه القصة وما سبقها من قصص، للإلفات إلى قصة موسى، إذ كانت، بما اشتملت عليه من أحداث، وما صحبها من معجزات- تكاد تكون مثلا فريدا بين قصص الأنبياء التي سبقتها.. والسلطان المبين الذي كان مع موسى- هو ما ضمّت عليه هذه الآيات من إعجاز قاهر غالب، يفحم الخصم، ويقهره.. وبهذا يكون له السلطان القوى المبين عليه. وفى قوله تعالى: «وَكانُوا قَوْماً عالِينَ» . هو حال من الضمير فى قوله تعالى: «فَاسْتَكْبَرُوا» أي فاستكبروا مصاحبين استعلاءهم الذي كان يملأ شعورهم بالترفع عن مستوى البشر.. فهذا الاستكبار الذي لقى به فرعون والملأ الذين معه، دعوة موسى وهرون لهم إلى الإيمان بالله، - هذا الاستكبار، هو أثر من آثار هذا الغرور الذي استبد بعقولهم، فرأوا منه فى فرعون إلها، وأنهم حاشية إله!! قوله تعالى: «فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ» ؟ وهذا القول، هو من قوم فرعون، ومن الملأ الذين معه.. وليس من فرعون.. إذ أن فرعون ما كان يرى أنه من البشر، وإنما هو إله من نسل آلهة.. ولهذا قال لموسى: «لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ» ! وهذه القولة من قوم فرعون شاهد يشهد بأن الناس جميعا على سواء فى إنكارهم على رسل الله أن يكونوا بشرا مثلهم.. وأكثر ما يكون هذا عن الحسد الذي ينفس فيه بعض الناس على بعضهم، أن ينالوا شيئا من نعمة، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1140 أو جاه، أو سلطان، وأشد ما يكون الحسد، حين يكون بين المتجاورين، والمتقاربين فى الدار، أو العمل.. وأنه كلما بعدت الصلات بين إنسان وإنسان، فترت أو ماتت دواعى الحسد له، والعكس صحيح.. ومن هنا صحت العبرة القائلة: «لا كرامة لنبى فى وطنه» وذلك للنظرة الحاسدة له من قومه. وقوله تعالى: «وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ» - هو من بعض تعلّات القوم على موسى وهرون، ومن الحجج التي أقاموها فى دفع دعوته لهم إلى متابعته.. إذ كيف يتابعون بشرا مثلهم؟ وإذا جاز هذا فكيف يتابعون بشرا هو دونهم منزلة؟ أليس موسى وهرون من قوم هم خدم وأتباع لفرعون وقومه؟ قوله تعالى: «فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ» . وتلك هى عاقبة من يدعى إلى الهدى فيأبى، ويلقى إليه بحبل النجاة فيأنف أن يمسك به من يد لا يراها كفئا له حسبا ونسبا، ويؤثر أن يموت غرقا على أن تكتب له النجاة، ويأخذ الحياة من تلك اليد المحقّرة عنده!. قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» . هو إشارة إلى قصة أخرى.. هى قصة موسى مع قومه بنى إسرائيل، بعد أن انتهت قصته مع فرعون وقومه.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1141 ولم يجر ذكر هنا لبنى إسرائيل، وإنما جىء بضمير الغيبة عنهم بدلا منهم، إشعارا لما كان عليه القوم من عناد، وخلاف، ومكر بآيات الله، حتى لكأنهم- وهم يسمعون آيات الله، ويرون المعجزات التي يطلع بها عليهم موسى- غائبون غير حاضرين، لما فى قلوبهم من قسوة، وما فى طبائعهم من التواء. قوله تعالى: «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ» هو معطوف على قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ» .. أي آتينا موسى الكتاب، وجعلنا ابن مريم وأمّه آية.. لبنى إسرائيل لعلهم يهتدون، وذلك أن عيسى عليه السلام هو رسول إلى بنى إسرائيل، وآية من آيات الله فيهم.. وتلك الآيات القاهرة المتتابعة، هى مظاهرة لحجة الله على هؤلاء القوم، حتى إذا لم يستجيبوا لها، كان العذاب الواقع بهم أضعافا مضاعفة، لما يحلّ بغيرهم من عباد الله. وفى الإشارة إلى عيسى عليه السلام بقوله تعالى: «ابْنَ مَرْيَمَ» إشارة إلى النسب الصحيح له.. وهو أنه ابن أمّه مريم.. وليس ابن إله كما يدّعى النّصارى، ولا ابن زنا كما يفترى اليهود.. «إنه ابن مريم» ! وقد اختلف فى الربوة- وهى المكان المرتفع من الأرض- التي آوى الله سبحانه وتعالى، إليها ابن مريم وأمّه.. والراجح عندنا أنها مصر.. التي جاء إليها المسيح طفلا محمولا على صدر أمه، مع زوجها يوسف النّجار.. وذلك حين أوحى الله إلى مريم أن تهرب بوليدها إلى مصر، خوفا عليه من الحاكم الرومانى، الذي طلبه ليقتله، حين سمع بمولده.. كما يحدّث بذلك إنجيل متّى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1142 وتسمية مصر «رَبْوَةٍ» لأنها بالنسبة لأرض فلسطين أشبه بالربوة المشرفة على الوادي، وذلك لأنه كلّا من مصر وفلسطين فى النصف الشمالي من الكرة الأرضية.. وأن الأرض فى هذا النصف تأخذ فى الانحدار من الجنوب إلى الشمال، أي من خط الاستواء إلى القطب الشمالي، ولهذا تجرى الأنهار من الجنوب إلى الشمال فى هذا النصف من الكرة.. ولما كانت مصر تقع إلى الجنوب من أرض فلسطين، فإنها- لهذا- أعلى مكانا منها، بحيث لو نظر الناظر إليهما من أفق أعلى لرأى مصر مشرفة على فلسطين كأنها ربوة عالية. والقرار: المكان الذي يستقرّ فيه، حيث تتوفر أسباب الحياة والاستقرار والمعين: الماء الذي يفيض من العيون.. وهذا الوصف جدير أن يكون لمصر. الآيات: (51- 62) [سورة المؤمنون (23) : الآيات 51 الى 62] يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1143 التفسير: قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ» . الخطاب الموجه من الله سبحانه وتعالى إلى الرسل.. عليهم الصلاة والسلام- هو خطاب عام يشمل أتباع الرسل جميعا.. وقد خصّ الرسل بالنداء لأنهم القدوة والمثل للأنسانية كلها عامة، ولأقوامهم خاصة. وقدّم الأكل من الطيبات على العمل الصالح، لأنه ثمرة الأعمال الصالحة، فلا يتحرّى الأكل من الطيب إلا من أقام نفسه على الأعمال الصالحة وأخذها بها. ولأن الأكل، وما يتصل به، هو مدار حياة الإنسان، وكل سعيه وعمله يكاد يكون دائرا فى مجاله- كان الإلفات إليه ألزم وأولى، لأنه هو الذي يجسّم العمل، ويصوّره، وهو الذي يرى عليه أثر العمل وصفته، إن كان صالحا أو غير صالح. - وفى قوله تعالى: «إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ» تحذير من مراقبة الله، وعلمه بما يقع من الناس من أعمال، وبما تتصف به هذه الأعمال من صلاح أو فساد. - وقوله تعالى: «وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ» - هو دعوة إلى الإخاء الإنسانىّ، وإلى إزالة هذه السدود التي تعزل المجتمعات الإنسانية بعضها عن بعض.. فما هذه الأصباغ والألوان التي تصبغ الناس، من معتقدات دينية، لا ينبغى أن تقوم حجازا بين الناس، وخاصة إذا كانوا جميعا يتجهون. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1144 إلى الله، ويؤمنون به.. فوجهتهم جميعا هى الله، وإن كان لكلّ وجهة هو موليها.. وكذلك ينبغى أن تكون وجهتهم جميعا هى الإنسانية، وإن كان لكلّ إنسان لونه، ووطنه وجنسه. قوله تعالى: «فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» . هو إنكار على الناس هذا التقاطع والتدابر الذي بينهم، وقد كان الأولى بهم، وهم إخوة أبناء ذكر وأنثى، وهم مربوبون لربّ واحد أن يكون أمرهم واحدا.. ولكنهم تنكبوا هذا الطريق، فتنازعوا أمرهم بينهم، وتقطعوه قطعا، وذهب كل فريق منهم بجزء منه، فرحا بما ذهب به، ظانّا أنه أخذ الخير كلّه، على حين أنه أخذ القليل وفاته الكثير. - وفى قوله تعالى: «فَتَقَطَّعُوا» بدلا من قوله «فقطعوا» الذي يقتضيه ظاهر النظم إشارة إلى أنهم هم الذين تقطعوا، لا أن الأمر هو الذي تقطع.. وذلك أنهم بهذا الخلاف الذي وقع بينهم، قد أوقعوا الضرر بأنفسهم، فكان بينهم الصراع والقتال.. والزّبر: القطع، جمع «زبرة» وهى القطعة من الشيء.. كما فى قوله تعالى: «آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ» (96: الكهف) قوله تعالى: «فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ» . الأمر هنا، هو أمر مطلق، لكل ناصح ومرشد، لهؤلاء الضالّين، المختلفين على الحق. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1145 وهذا الأمر هو تهديد لهؤلاء الضالين المختلفين، بأن يتركوا فيما هم فيه من ضلال، وألا يلح عليهم أحد فى تنبيههم من غمرتهم، وسكرتهم التي هم فيها. وذلك إلى أن تقرعهم القارعة، التي تذهب بهذا الخمار الذي لذّلهم النوم فى ظله المعتم الكثيف! قوله تعالى: «أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ.. بَلْ لا يَشْعُرُونَ» . المفعول الثاني للفعل يحسبون محذوف، دلّ عليه المقام.. والتقدير أيحسبون هذا الذي نمدّهم به من مال وبنين، إكراما، وإحسانا منّا إليهم؟ كلا، وإنما «نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ» لنفتنهم فيما نمدهم به، كما يقول تعالى: «وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ» (131: طه) . - وقوله تعالى: «بَلْ لا يَشْعُرُونَ» - إشارة إلى أنهم لا يشعرون بهذا الابتلاء، وأنهم يحسبون ذلك خيرا لهم، كما يقول تعالى: «وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ» (180: آل عمران) . هذا، ويمكن أن يكون قوله تعالى: «نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ» هو المفعول الثاني للفعل يحسبون.. ويكون المعنى: «أيحسبون أنما نمدّهم به من مال وبنين مسارعة لهم منا بالخيرات؟ كلا.. إنه فتنة لهم.. ولكن لا يشعرون» لما استولى عليهم من سكرة بهذا الذي هم فيه من نعيم.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1146 قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ» .. فى هذه الآيات عرض للصورة الكريمة، التي يكون عليها الذين يسارعون فى الخيرات حقا، ويملئون أيديهم منها، ويكون لهم فيها زاد طيب فى الدنيا والآخرة.. وهؤلاء هم على صفات تؤهلهم لهذا المقام الكريم: فهم (أولا) من خشية ربهم، وخوفهم من بأسه- على إشفاق دائم، من أن يعصوه، وأن يفعلوا منكرا.. «إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ» .. وهم (ثانيا) بآيات ربهم يؤمنون، ويعملون بهذه الآيات، ويهتدون بهديها.. «وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ» ثم هم (ثالثا) قد خلت نفوسهم من كلّ أثر من الشرك بالله.. «وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ» ثم هم (رابعا) على خشية ومراقبة دائمة لله.. حتى أنهم وهم يفعلون ما يفعلون من خير ويقدمون ما يقدمون من طاعات وعبادات، لا تزايلهم الخشية ولا يبارحهم الخوف من الله، ومن أنهم على تقصير فى حقه تعالى، وفيما يجب له من طاعة وولاء.. «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ» ويستعمل الإيتاء غالبا فى فعل الخير مثل قوله تعالى: «وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ» وقوله تعالى: «وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ» وقوله سبحانه: «آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا» .. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1147 ويستعمل الإتيان فى فعل الشر غالبا.. كما فى قوله تعالى: «أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ» وقوله: «وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» .. وقد جاءت الآية هنا بلفظ «الإيتاء» .. «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ» .. وفى قراءة مشهورة: «والذين يأتون ما أتوا» .. ويقال لها قراءة النبىّ.. وعلى هذه القراءة يكون المعنى: والذين يفعلون المنكر، وهم على خوف وخشية من ربهم. فإنهم بهذا الخوف وتلك الخشية أهل لأن يكونوا فى هذه الأصناف التي ذكرها الله سبحانه وتعالى من أصناف المؤمنين.. إذ أن ما فى قلوبهم من وجل من لقاء ربّهم وهم على المنكر- سينتهى بهم يوما إلى النزوع عن المنكر، والوقوف عند حدود الله.. وقد يبدو فى ترتيب هذه الصفات تقديم وتأخير، وأنها لم تلتزم الترتيب الطبيعي، تصاعدا أو تنازلا.. فمثلا.. الإيمان بآيات الله.. ينبغى أن يسبق الخشية من الله، وكذلك عدم الشرك بالله، وهو سابق للخشية من الله، حيث لا تكون الخشية لله إلا من قلب مؤمن بالله، وبآيات الله.. وإنه لا بد لهذا من سر.. فما هو؟ الجواب- والله أعلم- أن هذه الصفات، وإن أمكن أن تلتقى جميعها فى قلب المؤمن بالله، إلا أن المؤمنين على حظوظ مختلفة منها.. فبعضهم تغلب عليه صفة الخشية من الله، وبعضهم يؤمن بآيات الله، ولكن تغلبه نفسه، فلا تتحقق الخشية كاملة من الله فى قلبه.. وبعضهم يعترف بوجود الله، ويقرّ بوحدانيته إقرارا عقليّا، كالفلاسفة ونحوهم. ولا يتلقون عن الرّسل، ولا يأخذون مما معهم من آيات الله.. وبعضهم يؤمن بالله، وبآيات الله، وبرسل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1148 الله.. ثم يؤتون ما آتوا من طاعات وعبادات وهم فى صراع مع أنفسهم، وفى خوف من لقاء الله أن يكونوا قد قصّروا.. فهؤلاء جميعا يمكن أن يتجهوا إلى الخير، ويجاهدوا أنفسهم لتحصيل الخير، حيث يحمل كل منهم فى كيانه شرارة من شرارات الإيمان يمكن أن تنقدح فى حال من الأحوال، ما دام على أية صفة من تلك الصفات، فتشرق نفسه بنور الله، وإذا هو- شيئا فشيئا- على هدى من ربه، وعلى طريق الخير والإحسان.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» (201: الأعراف) وهذه الأصناف من المؤمنين- على قربها أو بعدها من الإحسان- يشدّها جميعها إلى النجاة، والفلاح، الإيمان بالله.. وحيث يكون الإيمان بالله، فإنه يكون الأمل والرجاء فى السلامة والنجاة، وحيث يتعرّى الإنسان من الإيمان فإنه لا أمل ولا رجاء فى سلامة أو نجاة، وإن فعل أفعال المؤمنين المحسنين.. قوله تعالى: «أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ» .. أي أن هؤلاء المؤمنين الذين تحققت فيهم تلك الصفات جميعها، أو تحقق فيهم بعضها دون بعض- هم أهل لأن يسددوا ويرشدوا، وأن يكونوا يوما من السباقين إلى الخير، ما داموا فى صحبة الإيمان بالله، ذلك الإيمان الذي يقيم فى كيانهم نورا يطلع عليهم كلما أظلمت سماؤهم، وظللتها سحب الفتن والأهواء.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1149 فالإيمان بالله، هو المعتصم، ولا معتصم غيره، إذا استمسك به الإنسان فقد ضمن النجاة والفلاح.. «وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (101: آل عمران) وقد روينا من قبل حديثا عن النبىّ صلى الله عليه وسلم، فى شأن ثقيف، حين دعيت إلى الإسلام، فقبلته، ولكنها اشترطت ألا تؤدى الزكاة، ولا تجاهد فى سبيل الله.. وحين عرض على النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- إسلامهم هذا، قبله منهم، وقال صلوات الله وسلامه عليه: «سيتصدقون ويجاهدون فى سبيل الله إذا أسلموا» .. قوله تعالى: «وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها.. وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ..» هو تطمين لقلوب هؤلاء المؤمنين، الذين ملأت الخشية قلوبهم، واستولى الخوف من الله عليهم، حتى لقد كاد ذلك يكون وسواسا دائما يعيش معهم.. فجاء قوله تعالى: «وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» ليخفف عن المؤمنين بالله هذا الشعور الضاغط عليهم، وليريهم من رحمة الله ما تقرّ به عيونهم، وتطمئن به قلوبهم، وذلك لأن الله سبحانه: «لا يكلف نفسا إلا وسعها» وحسب المؤمن بالله أن يأتى من الطاعات ما تتسع له نفسه، ويحتمله جهده.. والله سبحانه وتعالى يقول: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (16: التغابن) . وقوله تعالى: «وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ» .. المراد بالكتاب هنا، هو الكتاب الذي تسجّل فيه الأعمال، لكل عامل فى هذه الدنيا، من حسن أو سىء.. كما يقول سبحانه: «هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1150 ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (29: الجاثية) وكما يقول جل شأنه: «وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً» (13: الإسراء) . فكل ما يعمله الإنسان، مسطور فى هذا الكتاب، ناطق بكل صغيرة وكبيرة.. دون أن يكون هناك خطأ أو نسيان.. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. فليكتب الإنسان فى كتابه هذا ما يحبّ أن يراه، ويسعد به. ولا تكتب فى كتابك غير شىء يسرّك فى القيامة أن تراه الآيات: (63- 74) [سورة المؤمنون (23) : الآيات 63 الى 74] بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1151 التفسير: قوله تعالى: «بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ» .. الضمير فى قلوبهم، يراد به المشركون من أهل مكة، ومن حولها.. وهم وإن لم يجر لهم ذكر فيما سبق من آيات، فإنهم- فى الواقع- مذكورون فى كل آية، إذ كان هذا القرآن كلّه هو كتابهم، وهو رسالة رسول الله فيهم. - فقوله تعالى: «بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا» هو نخسة موجعة لهؤلاء المشركين الذين يستمعون إلى هذه الآيات، وكأنها لا تعنيهم، ولا تتحدّث إليهم.. على حين أنها إنما هى مسوقة لهم، أولا، ثم هى للناس جميعا، بعد هذا.. والإشارة «هذا» مشاربها إلى هذا الحديث الذي تحدثت به الآيات السابقة، عن الذين يؤمنون بالله، ويخشونه، ويشفقون من لقائه.. فالمشركون قلوبهم «فى غمرة» ، أي فى شغل، وغفلة وضلال، عن هذا الحديث وما يحمل إليهم من عظات. وخصت القلوب، لأنها موطن المشاعر فى الإنسان، ومستقرّ المعتقدات الصالحة أو الفاسدة. وقوله تعالى: «وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ.. هُمْ لَها عامِلُونَ» أي أن لهؤلاء المشركين الغافلين عن هذا الحديث، مشغلا بأمور أخرى، فى مستوى غير هذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1152 المستوي الرفيع، الذي تحدث به الآيات.. أنهم فى شغل بما هم فيه من صلات مع آلهتهم.. والمشغول- كما يقولون- لا يشغل! وفى تسمية هذه الصلات التي بين المشركين وبين معبوداتهم- بالأعمال، إشارة إلى أنها مجرد حركات، ورسوم، لا تتصل بالعقل أو القلب.. إنها حركات وصور مرسومة، توارثها القوم عن آبائهم، فكانت أشبه شىء بالعمل الآلى الذي لا يتصل بعقل الإنسان أو قلبه.. - وفى قوله تعالى: «هُمْ لَها عامِلُونَ» تقريع وتوبيخ لهؤلاء المشركين، الذين يؤدون هذه الأعمال ويحتشدون لها، ويضيعون أوقاتهم وأعمارهم فيها.. على حين أنّها عبث ولغو، ولعب أشبه بلعب الأطفال! فهم وهذه الأعمال على سواء.. هى أعمال تافهة، يأتيها أناس تافهون! قوله تعالى: «حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ» . الجأر، والجؤار: الصراخ. والمعنى: أن هؤلاء المشركين الغافلين عن آيات الله، المشغولين بهذا العبث الذي هم فيه مع معبوداتهم- سيظلون على ما هم فيه من غفلة، حتى إذا جاء وقت الحساب والجزاء، وسيقوا إلى جهنم- فزعوا، وعلا صياحهم، وارتفع صراخهم، من هذا الهول الذي هم فيه.. وفى اختصاص المترفين من المشركين بالذكر، عرض لأبرز مثل فيهم، وهم المنعمون من المشركين، أصحاب المال، والجاه.. فهؤلاء إذا أخذوا، وفعل بهم هذا البلاء، ولم يغن عنهم ما لهم ولم يشفع لهم جاههم- كان غيرهم ممن لا مال له ولا جاه، أشدّ خوفا من لقاء هذا العذاب، الذي ينتظره، وقد سبقه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1153 إليه من كانوا على الشرك مثله، ولم يشفع لهم مال أو سلطان.. فكيف بمن لا مال له ولا سلطان؟ قوله تعالى: «لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ» . هذا هو الردّ على هذا الصراخ، الذي يتعاوى به المترفون من المشركين، وهم فى العذاب المهين.. «لا تَجْأَرُوا» فإنه لا فائدة ترجى من وراء هذا الصّراخ.. إنه لا يسمع أحد لكم، ولا يخفّ أحد لنجدتكم.. «إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ» .. فليس لأحد قدرة على أن يدفع عنكم هذا العذاب الذي حكم الله به عليكم.. قوله تعالى: «قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ» . أي لا تلوموا إلا أنفسكم، فقد كانت النجاة من هذا البلاء بين أيديكم، لو أنكم استمعتم إلى آياتي وآمنتم بها. ولكنكم كنتم إذا وقع إلى آذانكم شىء منها نفرتم كما ينفر الحيوان الوحشىّ حين يرى وجه إنسان.. فرجعتم على أعقابكم، فى حركة منكوسة، وعيونكم إلى مصدر هذا الصوت الذي يسمعكم ما سمعتم من آيات الله، تنظرون إليه فى حذر وخوف، كما ينظر العدو إلى عدوه..! بل وأكثر من هذا.. فإنكم كنتم تتخذون مما تسمعون من آيات الله، مادة للسّمر فى أنديتكم، ومجالا للسخرية والاستهزاء بها فيما بينكم.. «مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ.. سامِراً تَهْجُرُونَ» .. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1154 والضمير فى «به» يعود إلى ما يتلى عليهم من آيات الله، وما يسمعون من كلماته.. وقد عدّى الفعل «استكبر» بحرف الجرّ الباء، لتضمنه معنى الاستهزاء.. أي أنكم لاستكباركم تلقون ما تسمعون من آيات الله، باستهزاء وسخرية.. فهى سخرية المستكبر، واستهزاء المتعالي.. «والسامر» مجتمع القوم للسمر. ونصب «سامِراً» على أنه مفعول له.. أي لأجل السامر تهجرون مجلس الاستماع إلى القرآن.. «سامِراً تَهْجُرُونَ» .. لأن السامر يحمل معنى السّمر، وسمر القوم هو عبث ولهو، فكأن المعنى: لهوا ولعبا تهجرون الاستماع إلى كلام الله.. والجملة حال أخرى- من فاعل «تَنْكِصُونَ» .. ويجوز أن يكون «تَهْجُرُونَ» من الهجر، وهو الفحش فى القول.. ويكون «سامِراً» منصوبا على الحال من الضمير المستكن فى «مُسْتَكْبِرِينَ» ويكون السامر بمعنى الاجتماع.. وجملة «تهجرون» حال من الضمير فى السامر بمعنى الاجتماع.. بمعنى أنكم كنتم تنكصون على أعقابكم عند الاستماع إلى آيات الله، وقد اشتملت عليكم أكثر من حال.. إذ تنكصون.. مستهزئين، سامرين، متفحشين.. قوله تعالى: «أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ» . لقد ترك القوم المشركون يصرخون ويتعاوون فى جهنم، بعد أن أجيب على صراخهم وجؤارهم بهذا التقريع العنيف.. «لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ.. إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ» . ثم كان لمن يرون هذا المشهد الذي تنخلع له القلوب، وما يعانى المشركون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1155 فيه من بلاء ونكال- كان لهم تساؤلات عن هؤلاء المعذبين، وعن جنايتهم التي جنوها فى حق الله، وفى حق الرسول المرسل إليهم من عند الله. وكان من تساؤلات السائلين، ما ذكره القرآن الكريم هنا: - «أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ؟» . أن ألأنهم لم يحسنوا الاستماع، والنظر، والتدبر فيما جاءهم به الرسول- لم يعرفوا وجه الحق، ولم يروا الطريق إلى الله على ضوء هذا النور الذي بين يدى الرسول- ومن أجل هذا ظلوا فى ضلالهم وشركهم، فكانت جهنم مأواهم. والعذاب جزاؤهم.. أهذا لهذا؟ قد يكون! - «أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ؟» . أي ألأنهم لم يدّبروا القول فضلّوا؟ أم لأن هذا الذي جاءهم به رسول الله، هو شىء غريب لم يكن لآبائهم شىء منه؟ .. فهم لهذا ينكرونه، وينكرون ما معه، لأنهم مأسورون فى قيد ما ورثوا عن آبائهم من عادات وتقاليد..؟ أهذا لهذا؟ قد يكون!. - «أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ.. فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ؟» . أي أهذا، أم أن الرسول الذي جاءهم غير معروف عندهم بنسبه، وباسمه، وبصفته- فهم لهذا ينكرونه، وينكرون مقامه فيهم، ويرمونه بما لم يعرفوا منه من سحر أو شعر أو جنون؟. - «أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ؟» أي أهذا الذي حجزهم عن اتباع الرسول.. أم هو هذا الرأى الذي رأوه فيه، وأنه مجنون، يخاطب عقلاء، وما كان للعقلاء أن يستجيبوا لدعوة مجنون؟ قد يكون! الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1156 وفى هذه التساؤلات، نجد الثلاثة الأولى منها اتهاما لهم.. فالتساؤل الأول، يرميهم بنقص فى التفكير، وضعف فى الإدراك، وقصور عن فهم آيات الله، وتدبرها.. والثاني، يتهمهم بأنهم أسرى التقليد الأعمى، وأنهم لا يخرجون من هذا الأسر ولو ماتوا فيه اختناقا بهذا الهواء الفاسد الذي يتنفسون فيه، دون أن يفتحوا نافذة تملأ عيونهم نورا، وصدورهم هواء نقيا، منعشا! إن من تهم الرسول عندهم أنه جاءهم بما لم يعرفه آباؤهم الأولون، حيث لم يأتهم من قبل رسول من عند الله، كما أتى الأمم الأخرى.. وفى هذا يقول الله تعالى: «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» (46: القصص) . ويقول سبحانه: «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ» (6: يس) . والقوم فى هذا الموقف مهددون بالفناء، إذ قيدوا أنفسهم بهذا القيد الثقيل ووقفوا حيث يقف آباؤهم منذ زمن بعيد.. فهم، والأمر كذلك، يأخذون من الحياة موقفا واحدا لا يتحولون عنه.. والحياة متحركة متحولة.. ومن شأن كل حىّ أن يأخذ مكانه فى دورة الفلك، وأن يعيش الليل ليلا والنهار نهارا، والصيف صيفا، والشتاء شتاء.. وإلا هلك.. فكيف ينكر القوم على الحياة أن تأتيهم بجديد لم يأت آباءهم الأولين؟ إن الحياة ولود لكل جديد فى كل زمان ومكان.. وأنه إذا كان للإنسان أن يتوقف أمام كل جديد، فإن من السفاهة والحمق أن يرفضه ابتداء بحكم أنه جديد، دون أن يعرضه على عقله، وينظر فيما يمكن أن يكون فيه من خير ونفع. والتساؤل الثالث، ينكر على القوم هذه التهم التي يرمون بها الرّسول، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1157 فيكذبون على أنفسهم، ويزيفون الحقّ، ويلبسونه ثوب الباطل، حتى يخدعوا به عقولهم، ويريدوها على قبوله والتسليم به.. فهم يقولون فى الرسول.. إنه مجنون.. وإنه شاعر.. وإنه ساحر.. وإنه كذاب مفتر- يقولون هذا، وهم على معرفة كاملة بالرسول، من مولده، ومن قبل مولده، إلى أن جاءهم برسالة ربه.. فما عرفوا فيه شيئا مما يتهمونه به زورا وبهتانا.. بل لقد عرفوه العاقل الرشيد، والصادق الأمين، والطاهر العفّ.. وأنه كان فى صباه يتحلّى بأحسن ما يتحلّى به الرجال، من حكمة ورويّة، ورشاد.. وأنه ما كذب قط، ولا قال هجرا قط، ولا نطق بشعر أبدا، ولا طاف بصنم أبدا.. أما قولهم عن الرسول: «بِهِ جِنَّةٌ» فهو أشنع تهمة يتهم بها القوم فى تفكيرهم، وتقديرهم.. وقد يكون سائغا منهم أنهم لم يتدبروا القول، فكثير من الناس لا يتدبرون القول، ولا يحسنون الفهم..! وقد يكون مقبولا أيضا أن يحمدوا على ما هم عليه من عادات موروثة.. فإن كثيرا من الناس يعيشون فى عادات وتقاليد، كما تعيش الحيوانات الرّخوة فى أصدافها وقواقعها..! وقد يمكن أن يساغ- ولو بمرارة ووقاحة- إنكار الحقائق الثابتة، والتعامي عن الواقع المحسوس..! فكثير من الناس يكابرون فى الحق، ويمارون فى الواقع، ولا تعلو وجوههم صفرة الخجل، ولا تندى جباههم بقطرة حياء! أما الذي لا تتسع له المكابرة، ولا يحتمله التبجّح، فهو الكذب الصّراح، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1158 الذي لا يدارى بتمويه أو خداع، بل يعرض هكذا سافرا بكل مشخصاته، ثم يقال عنه: هذا هو الحقّ! فذلك إن وجد مساغا عند أهله، فإنه لا يجد له موجها من القبول عند أحد، ممن يمكن أن يخدع ويضلّل.. فإذا قال سفهاء قريش فى النبىّ إنه شاعر.. فأين هو الوجه الذي يقبل به هذا القول عند من يريدون قبوله منه؟ وقد يكون لهذا الكذب مدخل إلى بعض العقول لو أنهم اصطنعوا شعرا ثم نسبوه إلى النبىّ. فيكون أمرا محتملا للنظر والجدل.. وقد يأخذ به البعض من غير بحث أو نظر..! ولكنهم لم يفعلوا ولم ينتحلوا للنبىّ شعرا، بل قالوا عنه إنه شاعر، دون أن يأتوا على هذا القول بشاهد من مفترياتهم وأكاذيبهم.. وهذا معجزة من معجزات الرسول الكريم.. وإذا قال سفهاء قريش فى النبىّ إنه مجنون.. أو به جنّة.. فقد كان عليهم لكى يغطّوا وجه هذا الكذب بشىء من التمويه- أن يقيموا شهودا من الزور يشهدون بأنهم رأوا من النبىّ كذا، وكذا، من هذيان المجانين.. ولكنهم لم يفعلوا.. نعم، إنهم لم يفعلوا هذا، أو ذاك، وما كان فى استطاعتهم أن يفعلوا.. إذ كان أمر النبىّ فيما اتهموه به، أبعد من أن يدخل عليه زيف، أو تعلق به شائبة من تمويه.. وهذا من معجزات الرسول صلوات الله وسلامه عليه، والتي هى بعض ما عصمه الله سبحانه وتعالى به من الناس، كما يقول سبحانه: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» .. وإنها لعصمة تحفظ- فيما تحفظ- ذاته ومشخصاته، وصفاته، من أن يعلق بسمائها الصافية المشرقة شىء من هذا الغبار الذي تثيره أفواه النافحين فى الجبال الراسيات. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1159 قوله تعالى: «بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» هو الردّ السماوىّ، على كل ما اتهم به المشركون النبىّ فى شخصه، وفى الكتاب الذي معه.. فالرسول صادق أمين، والذي جاء به هو الحقّ من ربّ العالمين.. وإنهم ليعرفون أنه الحقّ من ربّ العالمين.. وإنهم ليعرفون أنه الحقّ، ولكن أكثرهم كارهون لهذا الحقّ، ومن ثمّ كان منهم هذا العمى عنه، وهذا الإنكار له، وهذا الرمي الأحمق الطائش، الذي لا يصيب إلا الرماة فى مقاتلهم! قوله تعالى: «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ» . أي هؤلاء المشركون، إذ يكرهون الحق، ويكرهون التعامل به، فإنهم يتعاملون بما تمليه عليهم أهواؤهم من سفاهات وضلالات.. والحقّ، هو مركز الدائرة الذي يدور عليه هذا الوجود، وهو النظام الممسك بكل ذرة من ذراته.. وإن الحقّ هو هذه السنن الكونية التي قام عليها نظام كل موجود. إنه الأسباب والمسببات.. وإن أي خروج على الأسباب يفضى إلى فساد المسببات واضطرابها.. وإن ما يمسك به العلم والعلماء من أسرار الكون، هو الحقّ الذي إن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1160 أخطأهم كله أو بعضه، أفلت من أيديهم هذا السرّ، الذي يفتحون به مغالق الحياة، ويذللون به ما تأبّى عليهم منها.. فالحق، هو هذا المحيط العام الذي تصب فيه روافد الحقائق التي يقوم عليها نظام الوجود، والموجودات جميعا.. - وفى قوله تعالى: «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ» . إشارة إلى أن أىّ اختلال يدخل على الحق، فى أي موقع من مواقعه، وفى أي ذرة من ذرات الوجود كله، من شأنه أن يفسد نظام هذا الوجود فى أرضه وسمائه، وفيما فى أرضه وسمائه.. ذلك أن الحق- كما قلنا- كيان واحد.. إنه أسباب ومسببات يأخذ بعضها برقاب بعض.. من الذرة إلى النجوم والكواكب.. فكل سبب يقوم على سبب، ويقوم عليه سبب، وهكذا فى سلسلة متصلة الحلقات، وقطع أي حلقة، هو قطع لهذا الشريان، الذي يغذى كيان الحق، ويحكم نسجه.. فلو أنه دخل على الحق، بعض ما فى نفوس هؤلاء المشركين من هوى وضلال، ثم صار هذا الهوى قوة عاملة فى الوجود، لأدخل الخلل على نظام الوجود كله، ولفسدت السموات والأرض ومن فيهن!! قوله تعالى: - «بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ» . أي أن الحق لم يتبع أهواء هؤلاء المشركين، ولم يجئهم الرسول بما تشتهى أنفسهم، بل جاءهم بالحق، الذي فيه ذكرهم.. أي رفع قدرهم، وعلوّ إنسانيتهم، لو أنهم اتبعوه، واستقاموا عليه.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1161 - وفى قوله تعالى: «فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ» تسفيه لهم، وتحميق لعقولهم، إذ ليس أبعد فى السفاهة، ولا أوغل فى الحمق، ممن يدعى إلى ما فيه خيره، وعزّه، ورفعته، ثم يأباه، ويؤثر الإسفاف والتدلّى إلى منازل الهوان والضياع! .. قوله تعالى: «أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» . الخرج: الأجر، وهو فى الأصل ما يخرج من الأرض من ثمرات، ومنه الخراج.. وفى الآية تعريض بالمشركين، وبما ركبهم من سفه وجهل.. إن الخير الذي يبذل لهم، وثوب المجد الذي ينسج ليتحلّوا به- إنما يقدم لهم من غير ثمن، ومع هذا فهم يرفضونه، ويأبون إلا أن يمشوا فى الناس عراة مهازيل! قوله تعالى: «وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» هو تأكيد لهذا الخير الذي يحمل إلى هؤلاء المشركين، على يد الرسول الكريم.. إنهم إنما يدعون بهذا الكتاب الذي يحمله الرسول إليهم- إلى صراط مستقيم، إذا هم ساروا عليه أمنوا الزّلل والعثار، وانتهوا به إلى غايات العزة، والسيادة، والفلاح.. فى الدنيا والآخرة جميعا. قوله تعالى: «وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ» هو تهديد للمشركين، بأنهم إذا هم لم يسيروا على هذا الصراط المستقيم الذي يدعوهم إليه الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- لم يكن أمامهم إلا طرق الضلال، يركبونها إلى حيث تهوى بهم فى قرار الجحيم. والصراط هنا، هو الصراط الأخروى، الذي يصل بالمؤمنين إلى الجنة، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1162 حيث يجتازونه فى يسر، على حين يتساقط من جانبيه المشركون والكافرون والضالون، الذين لا يؤمنون بالآخرة، ولا يعلمون حسابا لهذا اليوم.. أو هو الصراط المذكور فى قوله تعالى: «وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» . وهو صراط الله المستقيم على الهدى، والقائم على الحق! والناكب: هو المتنكب، الذي يعدل عن الطريق المستقيم، إلى المتاهات المضلّة، التي لا يرجى للسائر عليها نجاة.. الآيات: (75- 92) [سورة المؤمنون (23) : الآيات 75 الى 92] وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1163 التفسير: قوله تعالى: «وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» . المتحدّث عنهم هنا، هم المشركون من قريش، الذين تحدثت عنهم الآيات السابقة، وكشفت عن موقفهم من الهدى، ومقولاتهم فى النبي الذي يخاطبه الله سبحانه وتعالى بقوله: «وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» . فهؤلاء المشركون، لا يزيدهم الهدى، إلا ضلالا، ولا النور، إلا عمى، ولا الإنعام والإحسان، إلا طغيانا، وكفرا.. فلو أن الله سبحانه وتعالى رحمهم، وكشف ما بهم من ضر، فأحال هذا الجدب الذي هم فيه خصبا، وجعل الصحارى التي تشتمل عليهم، جنات، وفجّر فيها أنهارا- لما شكروا لله، ولما استجابوا لداعى الحق الذي يدعوهم.. بل زادهم ذلك ضلالا وبعدا عن الحق.. وعدوانا على الرسول الذي يدعوهم إلى الله.. واللجّ، واللجاج: التخبط على غير هدى. والعمه: عمى البصيرة، وضلال العقل.. قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1164 وهؤلاء المشركون. قد أخذهم الله بالبأساء والضّراء، وأنزلهم منازل الخزي فى بدر، والأحزاب والحديبية.. ثم الفتح.. ومع هذا، فإن هذا البلاء لم يفتح قلوبهم إلى الله، ولم يقدهم بنواصيهم إليه: «فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ» أي فما لجأوا إليه، ولا ضرعوا له، ولا طلبوا غوثه ورحمته.. وهذا مثل قوله تعالى فى فرعون: «وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» (130: الأعراف) وقد جاء الإخبار عن هذا الذي نزل بالقوم من بلاء، بصيغة الماضي. على حين أنه لم يكن قد وقع بعد، وذلك لتحقق وقوعه مستقبلا، فهو من أنباء الغيب التي جاء القرآن الكريم بكثير منها.. ويجوز أن يكون هذا إخبارا عما كان ينزل بهم من حوائج ومجاعات، قبل البعثة النبوية، ويكون هذا الخبر عنهم، مرادا به الكشف عن جفاء طباعهم، وغلظ مشاعرهم، وأنهم أشبه بالجماد، لا يتأثرون بالخير أو الشر.. قوله تعالى: «حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ» . وهكذا يظل القوم على ما هم فيه من ضلال، وكفر، وعناد، لا يصلح من فسادهم تأديب بالخير أو الشر، ولا يقوّم معوجّهم إحسان أو إساءة.. حتى يموتوا بدائهم هذا، الذي لا شفاء له إلّا عذاب السعير.. والإبلاس: الوجوم، والجمود، وسكون الحركات، وخمود المشاعر.. من الهول وشدة البلاء.. قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1165 هذه الآية والآيات التي بعدها، تعرض بعض نعم الله على الناس، وموقف كثير منهم من هذه النعم. وأعظم هذه النعم وأكرمها، السمع والبصر، والفؤاد، وهو القلب.. إذ أن هذه الجوارح هى التي تجعل الإنسان إنسانا، إذا هو انتفع بها، ووجهها الوجهة الصالحة، حين يرد بها موارد الخير، ويلقى بها فى محيط الوجود، فتجىء إليه بكل صيد ثمين طيب! وفى هذا الترتيب الذي جاء عليه نظم الآية: «أَنْشَأَكُمْ.. وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ.. وَالْأَبْصارَ.. وَالْأَفْئِدَةَ» - ما يحدّث عن كثير من الأسرار.. فأولا: قدّم الإنشاء، وهو الخلق العام للإنسان، على إيجاد السمع والبصر، الفؤاد.. إذ أن الوجود الإنسانى مقدم على ظهور هذه الحواس فيه.. وثانيا: قدم السمع على البصر.. لأن حاسة السمع تسبق حاسة الإبصار عند مولد الطفل، كما ثبت ذلك بالملاحظة. وثالثا: قدم السمع والبصر على الفؤاد، وهو العقل، لأنه لا يكون للإنسان إدراك أو تمييز إلا بعد أن تعمل حواس الإنسان كلها، وتؤدى وظائفها، وتتوثق الصلات بينها وبين خلايا المخ.. ومن هنا يبدأ الإدراك والتمييز ويتخلّق فى الإنسان العقل أو الفؤاد، الذي ينمو شيئا فشيئا، حتى ينضج ويكتمل.. - وقوله تعالى: «قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» هو خطاب للناس عامة، وأن قليلا منهم هم الذين يعرفون نعمة الله عليهم ثم يشكرونها.. أما كثرتهم الغالبة فهم فى غفلة عن هذه النعم، وفى شرود عن المنعم بها، وعن القيام بواجب الحمد والشكر.. وهذا مثل قوله تعالى: «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» (13: سبأ) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1166 قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» . الذرء: الخلق، والإيجاد والحشر: الجمع، والحشد. وهذه نعمة أخرى.. الخلق والإيجاد من عدم، ثم الموت، ثم البعث والنشور، والرجعة إلى الله سبحانه وتعالى، للحساب وللجزاء.. فالوجود نعمة، لأنه خير من العدم.. والحشر بعد الموت، نعمة أخرى، لأنه حياة جديدة، لا موت بعدها، ووضع لكل نفس فى مكانها الذي أعدّ لها، فى الجنة أو فى النّار.. وإذا كانت النار شقاء على أهلها، وبلاء- نعوذ بالله منها- فإنها مطهرة للنفوس الدنسة، وصفل لمعدنها الصّدئ، وشفاء لأمراضها الخبيثة! قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ» هو دفع لهذا الوهم الذي قد يتسرب إلى بعض الناس من وجود الموت، والشك فى عدّه نعمة من بين النعم المذكورة فى هذه الآيات.. فالموت دورة من دورات الوجود الإنسانى، ووجه مقابل للحياة، مقابلة الليل للنهار.. فالحياة يقابلها الموت، والنهار يعقبه الليل.. تلك هى سنة الله فى الحياة الدنيا، كل شىء فيها يقابله ضدّه، كى يثبت وجوده، ويحقق ذاته.. وهذا أمر لا يدرك سرّه، ولا يعرف حقيقته، إلا أصحاب العقول، الذين يستعملون عقولهم.. قوله تعالى: «بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ» .. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1167 أي أن هؤلاء المشركين لا يستعملون عقولهم، ولا ينظرون فى هذه الآيات الكونية التي بين أيديهم.. بل لقد أنكروا الحياة بعد الموت، وقالوا ما قاله آباؤهم من قبل.. قالوا: كيف نعود إلى الحياة مرة أخرى، بعد أن نصير ترابا وعظاما؟ ولو أنهم نظروا إلى الليل والنهار مثلا، لعرفوا أن النهار ينسخه الليل، ثم يعود النهار فيطلع من جديد ناسخا ظلام الليل.. وهكذا.. ليل ونهار، ونهار وليل! فمن عاش فى النهار، وملأ عينيه من ضوئه الوضيء.. ثم عاش فى الليل، ولفّه ظلامه الدّامس، لم يكن له- حسب تقديرهم هذا- أن ينتظر نهارا يطلع من أحشاء هذا الظلام الكثيف! لكن الذي يحدث، هو أن نهارا يطلع من كيان هذا الظلام، وكأن ليلا لم يكن! كذلك الحياة، والموت، ثم الحياة بعد الموت.. فهذا الإنسان الذي كان يملأ الدنيا حركة وسعيا، ثم تضمّه الأرض فى بطنها، ويدسّه التراب فى كيانه.. ليس بالشيء البعيد المستغرب- والشواهد ماثلة- أن يخرج من بين أحشاء هذا التراب إنسانا، كهذا الإنسان الذي كان! قوله تعالى: «لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» . هو تأكيد لقولهم الباطل الذي قالوه عن إمكان البعث.. وأن هذا البعث قد وعد به آباؤهم من قبل.. وها هم أولاء ما زالوا ترابا هامدا.. ثم إن هؤلاء يوعدون به.. وسيكونون بعضا من هذا التراب الهامد، مع آبائهم.. فما هذا الوعد عندهم، وحسب تطورهم، إلا من الخرافات والأساطير التي تعيش فى الناس من زمن بعيد ولا محصّل لها أبدا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1168 قوله تعالى: «قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ.. قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ» . هذا سؤال، لا يجيب عليه الإجابة الصحيحة إلا من عقل وعلم.. لمن هذه الأرض ومن فيها، من عوالم ومخلوقات؟ جواب واحد عند أهل الدراية والعلم.. إنها لله.. وقد ألزمهم الله سبحانه وتعالى حجّة أهل العلم.. فإن لم يكونوا عالمين، كان عليهم أن يأخذوا بقول العالمين.. وإلا فإى الناس هم؟ إنهم ليسوا علماء، وليسوا بالمنتفعين بعلم العلماء.. والأعمى إذا لم يسلم يده للمبصر.. تخبط، وضلّ وهلك.. وإذن فهم فى الهالكين، إذا لم ينزلوا على هذا الحكم الملزم، ولم يأخذوا به.. قوله تعالى: «قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ؟ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ! قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ؟» وسؤال آخر.. يحتاج إلى نظر أوسع، وعلم أكثر! من ربّ السموات السبع وربّ العرش العظيم؟. إنهم لمحجوجون بقول أهل الدراية والمعرفة.. إنها جميعا لله.. هكذا يقرر أهل الدراية والعلم. فليقولوا هذا.. وإنهم إن لم يقولوه اختيارا قالوه اضطرارا. وإنهم إذا سلموا بهذا- ولا بد من التسليم به- فلم لا يتقون الله؟ ولم لا يخشون بأسه، وهو المالك المتصرف فى هذا الوجود كله.. لا شريك له؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1169 قوله تعالى: «قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ.. وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ.. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ.. قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ؟» وسؤال ثالث.. لا بدّ أن يسلم به من سلم بالسؤالين السابقين.. وإن كان أشمل منهما، وأوسع مدى. «مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ» ؟ أي من بيده ملك كل شىء وتصرفه فيه..؟ «وَهُوَ يُجِيرُ» أي يحمى، ويحفظ «وَلا يُجارُ عَلَيْهِ» : ولا سلطان لأحد يدفع بأسه، ويكشف ضرّه.. من هذا، ولمن هذا؟ جواب واحد.. هو الله ربّ العالمين.. وهو لله ربّ العالمين. ونتيجة واحدة: الاستسلام لله، والولاء لله. «فَأَنَّى تُسْحَرُونَ» أي فكيف تذهلون عن هذا، وتستسلمون لغير الله، وتعطون ولاءكم لما تشركون به من دونه؟ أسحركم ساحر فأخذ على عقولكم، وأضلّكم عن الله، وأعماكم عن الحق؟ وهذا الخطاب جار على ما هو فى أوهام القوم من أن هناك قوى تسحر الناس، وتفسد عقولهم، كما كانوا يقولون عن النبىّ، إنه ساحر! قوله تعالى: «بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» . هو تعقيب عام، على هذه الأسئلة، وأجوبتها. إن الله سبحانه وتعالى قد أعطاهم الجواب الحقّ عليها، ولكنهم يجيبون عليها كذبا وبهتانا.. وإنهم إذ ينطقهم الحقّ بتلك الأجوبة، ويقهرهم سلطانه قهرا عليها، فإنهم لا يأخذون بما نطقت به ألسنتهم، ولا ينزلونه منزلة الاعتقاد من قلوبهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1170 قوله تعالى: «مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ.. سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ.. عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ.. فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» . هذا هو ملاك الأمر كلّه، ومدار القضية، وأصل البحث، وهذا ما كان ينبغى أن يقرّ به أولئك المشركون، بعد أن ألقيت إليهم تلك الأسئلة، محملة بالأجوبة الصحيحة عليها.. إنه لا شريك لله.. من صاحبة أو ولد، وإنه لا إله معه.. وأنه لو كان معه إله آخر لشاركه هذا الملك، ونازعه هذا السلطان، واستبدّ بالتصريف فيما يملك منه.. ولكان لكلّ منهما أن يفعل ما يشاء.. وهذا من شأنه أن يذهب بنظام الوجود، ويفسد الوضع القائم عليه، حيث لا تلتقى إرادتهما، ولا تتفق مشيئتهما.. إن الجسد الإنسانى، لا يقوم عليه إلا سلطان واحد، هو القلب، ولو أنه كان هناك قلبان فى جسد واحد، لا ختل نظام الجسد، وانحلت روابطه، ولما تنفّس هذا الجسد نفسا واحدا. والكون.. هو جسد كبير.. يحكمه نظام، ويقوم عليه سلطان.. وهيهات أن يحكم بنظامين، أو ينتظم أمره بسلطانين! «سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ» .. وتنزهت ذاته عن أن يكون كما يصفه الضالون، بنسبة الولد، أو الشريك إليه، فتعالى، سبحانه، عما يشرك به المشركون: من آلهة وأشباه آلهة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1171 الآيات: (93- 111) [سورة المؤمنون (23) : الآيات 93 الى 111] قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1172 التفسير: قوله تعالى: «قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» . هو التفات إلى النبىّ الكريم، بعد هذا العرض المبسوط لوجوه المشركين، وما يدور فى أفكارهم من سخافات، وما تنطق به ألسنتهم من سفاهات، وما تنعقد عليه قلوبهم من شرك وضلال. وفى هذا الالتفات يدعو الله سبحانه نبيّه، أن يطلب إلى ربه ألا يكون بمشهد من هؤلاء المشركين حين يحلّ بهم بأس الله، ويقع عليهم عذابه. وفى هذا إشارة إلى شدّة هذا البلاء وقسوته، وأنه مما لا تحتمل النفس رؤيته بالعين، فكيف حال المبتلى به، الذي يتجرع كئوس عذابه؟ ثم إن هذا- من جهة أخرى- تهديد للمشركين بالعذاب الأليم، والبلاء العظيم، الذي يدعو الله أولياءه إلى أن يتضرعوا إليه، طالبين الفرار منه، قبل أن يقع، حتى لا يشهدوه بأعينهم. ولا شك أن هذا دعاء مجاب مقدّما من قبل أن يدعو به النبي، لأن الله سبحانه هو الذي أمره بهذا الدعاء، وهو سبحانه الذي بيده إجابته.. وهذا يكشف لنا عن الارتباط بين الأسباب والمسببات.. وأن على الإنسان أن يأخذ بالأسباب لكل أمر يريده.. وقد دل الله عباده على الأسباب، وأمرهم بالأخذ بها، وأن يدعوا المسببات لله وحده، والله يفعل ما يريد. وأصل النظم هكذا: «ربّ إن ترينى ما يوعدون فلا تجعلنى فى القوم الظالمين» .. وقد جاء النظم القرآنى على ما ترى من فخامة ودوىّ ينبعثان من الحرف «ما» باتصاله بأن الشرطية.. «إما» ، وفى هذا تهويل للعذاب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1173 الذي يتهدد المشركين، ويحوم حولهم.. ثم ما ترى فى تصدير جواب الشرط بهذا النداء للاسم الكريم «رب» الذي يضرع إليه لكشف الضرّ، ودفع البلاء، لأنه بلاء عظيم لا يدفعه إلا الله، وليس للناس جميعا سبيل إلى دفعه. قوله تعالى: «وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ» . هو تطمين للنبىّ بأن الله قد أعدّ للقوم الهزيمة والخزي على يديه، وأن ذلك موقوت بوقته، وأنه حاضر فى علم الله، ولو شاء سبحانه أن يطلع النبي لرأى بعينه مسيرة هذا الصراع، بينه وبين قومه، خطوة خطوة.. حتى يجىء نصر الله والفتح، ويدخل الناس فى دين الله أفواجا. قوله تعالى: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ» . وإذا كانت خاتمة النبي هى النصر على هؤلاء المتطاولين عليه، المعاندين له، فإن ذلك يهوّن كثيرا من الأذى الذي يلقاه منهم، حيث يكون بصره متعلقا بيوم النصر الموعود، غير ملتفت إلى ما يصادفه على يومه من مشقّة وعناء. ومن هنا، كانت دعوة النبي إلى لقاء إساءات قومه بالإحسان دعوة تلتقى مع مشاعره، التي استروحت أنسام الرضاء فى ظل هذا الموعد الكريم بالنصر المبين لدعوته، وطلوع شمسها على كل أفق.. فإن كل صعب يهون، وكل بلاء محتمل، إذا كانت العاقبة نجاحا، ونصرا محققا. وفى قوله تعالى: «نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ» تهديد للمشركين، الذين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1174 يسيئون ويحسن إليهم، ثم لا يردّهم هذا الإحسان عن غيّهم وضلالهم.. فليفعلوا ما يحلو لهم، والله سبحانه عالم بما يفعلون، ومحاسبهم عليه.. قوله تعالى: «وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ» . همزات الشياطين: وساوسها، ونخسلتها التي تنخس بها فى صدور الناس.. وكما أمر الله سبحانه وتعالى نبيه الكريم، أن يدعو ربه، بأن يقيه شر الناس، ويباعد بينه وبين القوم الظالمين- أمره سبحانه أن يستعيذ به من وساوس الشياطين، وما يزينون به للناس من منكرات، وأن يباعد بينه وبينهم، فلا يلمّون به، ولا يحضرونه فى أي حال من أحواله، خاليا، أو مع الناس.. وهذه الاستعاذة من الشيطان، هى إلفات للمسلمين إلى هذا العدو المتربص بهم، والذي هو شر خالص، لا يجىء منه إلا الشر لكل من يأنس إليه، ويطمئن له.. وإنه إذا كان النبي- صلوات الله وسلامه عليه.. وهو فى حراسة من ربه، وفى قوة من خلقه، ودينه- إذا كان النبي يطلب الغوث والعياذ بالله من هذا العدو الراصد، فأولى بالناس- وهم على ما فيهم من ضعف- أن يستكثروا من طلب الغوث والعياذ بالله من الشيطان الرجيم، وأن يكونوا على ذكر دائم بأنهم مع عدو متربص بهم، ينتظر غفلتهم، لينفذ إلى ما يريد فيهم، من إغراء وإضلال.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1175 قوله تعالى: «حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ.. كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» . «حَتَّى» غاية لمحذوف دل عليه السياق، والتقدير، ولكن كثيرا من الناس، لا يأخذون حذرهم من الشيطان، ولا يستعيذون بالله منه، فيفسد عليهم دينهم، وينقض ظهورهم بالذنوب والآثام، ثم يظلون هكذا فى غفلتهم «حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ» وانكشف عن عينيه الغطاء، ورأى ما قدم من منكرات «قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ» إلى دنياى، «لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ» ولأصلح من أمرى ما فسد، وأقيم من دينى ما اعوجّ.. ولكن هيهات.. لقد فات وقت الزرع، وهذا أوان الحصاد.. «كَلَّا.. إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها» أي إنها مجرد كلام يقال، لا وزن له، ولا ثمرة منه.. «وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ» أي أن هناك سدا قائما، فاصلا بين الأموات، وعالم الأحياء.. فلا سبيل لمن أدركه الموت أن يخترق هذا البرزخ، وينفذ إلى عالم الأحياء مرة أخرى، وذلك «إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» .. حيث يزول البرزخ، وينتقل الناس جميعا إلى العالم الآخر، ويصبحون جميعا فى عالم الحق.. قوله تعالى: «فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ» . أي فإذا صار الناس إلى هذا اليوم، يوم النفخ فى الصور، للبعث، جاءوا وقد شغل كل منهم بشأنه وتقطعت بينهم الأنساب، فلا يجتمع قريب إلى قريب، ولا يلتفت صاحب إلى صاحبه.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1176 «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» (34- 37: عبس) .. فلا يسأل أحد أحدا عن حاله ومآله. وحسبه ما هو فيه من شغل بنفسه «يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ، وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ. وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً» (8- 10: المعارج) . قوله تعالى: «فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ» . وفى هذا اليوم توضع الموازين لحساب الناس، ويرى كل ميزانه وما يوزن فيه. - «فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» . حيث لا تثقل الموازين، إلا بالأعمال الصالحة. فتلك الأعمال الصالحة، هى التي يقام لها وزن، ويكون لها فى الميزان ثقل.. أما الأعمال السيئة فلا وزن لها، لأن هذا الميزان ميزان حق وعدل، لا يوضع فيه إلا ما كان حقا وعدلا وإحسانا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» (105: الكهف) وقوله سبحانه، عن أعمال الكافرين والضالين: «وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً» (23: الفرقان) وفى قوله تعالى: «تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ» عرض لحال من أحوال أهل النار، وما يلقون فيها من بلاء، حيث تداعبهم النار بلهيبها، وتصفع وجوههم بلظاها، وحيث يغشاهم من ذلك همّ وكرب، وتعلو وجوههم غبرة ترهقها قترة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1177 والكالح: العابس المكفهرّ، لما يعتمل فى كيانه من غموم وهموم.. قوله تعالى: «أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ» . هو رد على جؤار المعذبين فى جهنم، وما يصطرخون به من ويل وثبور. إنه لا مصير لكم إلا هذا.. فقد جاءكم رسولنا بآيات الله، وتلاها عليكم، ودعاكم إلى الهدى والإيمان.. فأبيتم وكذبتم. فهذا جزاؤكم، فذوقوا عذاب الخزي بما كنتم بآيات الله تكذبون.. قوله تعالى: «قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ» . وماذا ينفع الندم، والإقرار بالذنب فى دار الحساب والجزاء؟ «فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» (57: الروم) . قوله تعالى: «رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ» . وفى ذلة واستخزاء، وفى لهفة وجنون، يقولون ربنا أخرجنا من هذا البلاء، وردّنا إلى الدنيا مرة أخرى، فنؤمن بك ونتبع الرسل.. فإن عدنا إلى ما كنا فيه من كفر وضلال، كنا ظالمين، فنستحق ما نلقى من عذاب وهوان! وكأنهم لم يكونوا ظالمين، وكأن عذرهم الذي اعتذروا به حين قالوا: «رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ» - كأن عذرهم هذا قد قبل منهم! لقد منّتهم أنفسهم تلك الأمانىّ الكاذبة.. وإنهم لأهل شر وسوء، لا يرجى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1178 لدائهم دواء: «وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» (28: الأنعام) ولهذا جاء الردّ القاطع الزاجر: «اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ» .. أي انزجروا فيها، وأقيموا حيث أنتم، ولا تكلموا الله.. فإنه سبحانه لا يقبل منكم قولا، ولا يجيب لكم سؤلا. قوله تعالى: «إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ» . هو تعليل لما أخذهم الله به، من كبت وزجر، ولما رماهم به من عذاب اليم. إنهم لم يؤمنوا بالله، ولم يستجيبوا لرسول الله، بل كذّبوه، وبهتوه، وآذوه.. ولم يقفوا عند هذا، بل إنهم تسلطوا على المؤمنين بالله، واتخذوهم سخريّا، وجعلوا منهم مادة للضحك والعبث.. «إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ» (29، 30 المطففين) . وفى قوله تعالى: «حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي» إشارة إلى أن اشتغال هؤلاء المشركين الضالين بالسخرية من المؤمنين، والضحك منهم، قد ألهاهم عن ذكر الله، وصرفهم عن النظر فى آياته، والاستماع إلى كلماته.. إنهم شغلوا بغيرهم عن أنفسهم، وعن العمل لما فيه خيرهم ورشادهم.. وهذا شأن كل من يشغل بأمور الناس، ويجعلها همّه.. إنه ينسى نفسه، ويحرمها ما كان يمكن أن يسوقه إليها من سعيه وجهده. وفى نسبة نسيانهم لذكر الله، إلى المؤمنين، مع أن المؤمنين لم يكن منهم دعوة لهم إلى نسيان ذكر الله، بل إنهم كانوا يدعونهم إلى الله، ويذكّرونهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1179 به- فى هذا مضاعفة لحسرة الكافرين، وزيادة فى إيلامهم، إن كان ما هم فيه يحتاج إلى زيادة. وذلك حين ينظرون إلى المؤمنين الذين كانوا يسخرون منهم، فيجدون أنهم هم الذين شغلوهم عن ذكر الله، وعن الإيمان به، وأنهم هم الذين أوردوهم هذا المورد الوبيل.. ثم يجدونهم- مع هذا- فى نعيم ورضوان من الله: «إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ» .. لقد صبروا على استهزائكم بهم، وسخريتكم منهم، ولم يتحوّلوا عن الصراط المستقيم الذي استقاموا عليه، فكان هذا هو جزاؤهم عند الله. الآيات: (112- 118) [سورة المؤمنون (23) : الآيات 112 الى 118] قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) التفسير: قوله تعالى: «قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟ .. قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1180 سؤال يسأله الحقّ جلّ وعلا، أهل النار، وقد أيأسهم من الخروج منها.. «كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ» . وفى تمييز العدد بأنه سنون، وليس أياما ولا شهورا، مع أنه فى تقديرهم يوما أو بعض يوم، كما سيكون جوابهم بعد هذا- فى هذا كشف عن تلك المفارقة البعيدة بين حسابهم فى الدنيا لحياتهم، وما لبثوا فيها من سنين، وبين حساب هذه السنين فى الآخرة.. إنها ليست شيئا بعد أن طويت صفحتها، وذهب ريحها.. «فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ» (38: التوبة) .. ولهذا كان جوابهم- حسب تقديرهم-: «يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» .! وهكذا ما يمضى من عمر الإنسان.. إنه مهما طال وامتدّ، إذا نظر إليه فى يومه، كان شيئا قليلا.. يوما أو بعض يوم.. فكيف إذا نظر الناس إلى حياتهم الدنيا، وهم بين يدى هذا الهول العظيم يوم القيامة؟ «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ» (35: الأحقاف) . وفى قولهم: «فَسْئَلِ الْعادِّينَ» ما يكشف عن سوء حالتهم، وأنهم فى ذهول لا يدرون معه من أمرهم شيئا.. فلقد ذهب الهول بعقولهم، فلا يدرون ماذا يقولون.. إنهم ليسوا أهلا لأن يسألوا، وأن يجيبوا على ما يسألون عنه.. ويجيئهم الجواب الذي تاه من عقولهم، وضلّ عن إدراكهم.. «إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا» أي ما لبثتم إلا قليلا.. «لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» أي لو كان عندكم عقل ونظر لعلمتم هذا وأنتم فى دنياكم، ولما شغلكم هذا القليل الزائل، عن آخرتكم الباقية الخالدة.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1181 قوله تعالى: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ» . [الحياة.. والموت وحتمية البعث] هناك قضيتان.. قضية «الخلق» وقضية «البعث» .. وإذا كان الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، لا ينكرون «الخلق» لأنه أمر واقع فعلا، وأنهم هم أنفسهم بعض هذا الخلق- فهلّا سألوا أنفسهم هذا السؤال: لم كان هذا الخلق؟ أو لماذا خلقنا؟. وجواب واحد لا غير، هو الذي يجاب به على هذا السؤال، وهو أن هذا الخلق لم يكن لهوا وعبثا، وأنهم إنما خلقوا عن علم، وحكمة وتقدير، لأن هذا الخلق ينطق عن حكمة بالغة، وقدرة قادرة على كل شىء، وعلم محيط بكل شىء.. ومن كانت تلك صفاته لا يكون منه لهو أو عبث.. ثم إن هذا النظام الدقيق المحكم، الممسك بكل ذرة من ذرات الوجود، أيدخل عليه شىء من اللهو والعبث؟ إنّ اللاهي العابث، لا يتقيد بنظام، ولا يجرى أعماله على توافق وترابط، وانسجام، بل يفعل ما تمليه عليه نزواته، وما تصوره له أهواؤه! وإذن فالناس لم يخلقوا عبثا، ولم تجىء بهم الصّدفة، كما يقول بذلك الماديّون والملحدون، وإنما هم غراس غارس حكيم، عليم، قادر، مدبر.. هذه قضية.. لا بد من التسليم بها، وفى إنكارها مكابرة فى الحق، ومجادلة بالباطل.. ومن مقتضى التسليم بهذا أن يسلّم أيضا ببعث الإنسان بعد موته، أو بمعنى آخر، امتداد حياة الإنسان، وانتقاله من دار إلى دار، ومن عالم إلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1182 عالم، أشبه فى هذا بانتقاله من الطفولة إلى الصبا، أو الشباب، أو غير هذا من مراحل العمر.. ذلك أن الإنسان هو خليفة الله على هذه الأرض.. وهو سيد هذا الكوكب من غير جدال.. فهو الكائن الذي ملك من القوى ما استطاع بها أن يغيّر وجه الأرض، وأن يستخرج خبأها، ويسخّر موجوداتها.. وإذا كان هذا شأن الإنسان فإن مما يجانب الحكمة، ويدخل فى باب اللهو والعبث، أن تنطفىء جذوة هذا الكائن، بعد سنوات قليلة يقضيها على هذه الأرض.. ثم يصير رمادا، يختلط بتراب هذه الأرض، مع الدواب، والحشرات والهوام! إن فى هذا لجورا على الإنسان، وظلما له، إذ كان الحيوان- على هذا الحساب- خيرا منه، لأنه تنفّس أنفاس الحياة، وليس معه هذا العقل الذي لم يدع للإنسان لحظة يخلد فيها إلى الراحة والاطمئنان.. بل إنه أبدا فى صراع داخلى لا يهدأ أبدا، بين رجاء ويأس، وسعادة وشقاء، وطمأنينة وخوف.. فى يقظته ونومه.. على السّواء.. إن الإنصاف للإنسان يقضى بألا تنتهى حياته بالموت، بل لا بد أن تكون له رجعة أخرى، إلى حياة أكمل، وأفضل.. إن الحياة- كما قلنا فى مواضع كثيرة- نعمة أنعم الله بها على الإنسان، وامتنّ عليه بها.. كما يقول سبحانه: «قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» .. ومن تمام هذه النعمة، دوامها، وإلا فما كان لوجودها أصلا حكمة، ولكان خيرا منها العدم! وقد يسأل سائل: كيف تكون الحياة الآخرة بالنسبة للكافرين والمشركين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1183 وغيرهم من أصحاب النار، خيرا من العدم، والله سبحانه وتعالى يقول: َوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً» (40: النبأ) أيتفق هذا وذاك الذي نقول به..؟ ونقول: إن الحياة بعد الموت نعمة لأهل الجنة وأهل النار جميعا، وهى خير من العدم! أيّا كانت صورة تلك الحياة، وأيّا كان مصير الأحياء فيها.. نقول هذا، وبين أيدينا كثير من الشواهد، من كتاب الله.. فأولا: من أمنيّات أهل النار فى النّار أن يردّوا إلى الحياة الدّنيا.. وذلك فى كثير من الآيات القرآنية، كما يقول سبحانه وتعالى عنهم: «وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (27: الأنعام) وكما يقول سبحانه فى هذه السورة على لسان أهل النار: «رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ» (الآية: 107) وكما يقول جل شأنه على لسانهم أيضا: «رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ» (44: إبراهيم) . وهذا يعنى أنهم، وهم فى النار، متمسكون بالحياة، راغبون فيها، على أية صورة كانوا عليها.. وثانيا: أن ما يقوله الكافر فى الآخرة، حين يرى العذاب، وهو قوله: الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً» هو بسبب ما يلاقى الكافرون من بلاء، تضيق به نفوسهم، شأنهم فى هذا شأن كثير من الناس فى هذه الحياة الدنيا حين تحتويهم حياة قاسية، يتمنون معها الموت.. ولكنهم فى الواقع متمسكون بالحياة حريصون عليها.. ولو طلع عليهم الموت فى تلك الحال، لفزعوا منه وكربوا، ولطلبوا المهرب، إن كان ثمة مهرب! وقليل من الناس أولئك الذين يرحلون عن هذه الدنيا، دون أن تنازعهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1184 أنفسهم إلى التعلق بها، واللهفة على التشبث بكل خيط فى يدهم منها، مهما يكن حظهم فيها، وشقاؤهم بها.. الناس جميعا متعلقون بالحياة، راغبون فى المزيد منها، ولو أخذت منهم الأيام، وألحت عليهم العلل، وحطمتهم السنون.. إن حبّ الحياة طبيعة فى كل حىّ، وهو فى الإنسان طبيعة وإرادة معا.. طبيعة تدفعه إلى حفظ نفسه، والإبقاء على ذاته أطول زمن ممكن.. وحبّ البقاء- فوق ذلك- إرادة تخلّقت فى الإنسان عن اتصاله بالحياة، واختلاطه بالأحياء، واشتباك مصالحه بهم، وانفساح آفاق آماله بينهم، وامتداد آثاره فى الحياة وفيهم.. إن الإنسان- مهما طال عمره، وامتد أجله، فإن يده تقصر عن أن تنال كل ما أراد، وإن الحياة لتضمن بأن تحقق له كل رغبة، وأن تدنيه من كل أمل.. يقول الشاعر: تموت مع المرء حاجاته ... وحاجة من عاش لا تنقضى من أجل هذا، كان فى الناس هذا الحرص الشديد على الحياة، وعلى الاستزادة منها، ولو كان ماؤها آسنا، وهواؤها سموما، وطعامها الشوك والحسك! والموت هو الشبح المخيف، الذي يطل على الناس بوجه كالح بغيض، يتهددهم فى أنفسهم، وفيمن يحبون، من ولد، وأهل وصديق.. إنه أعدى عدو للإنسان.. إنه يبغت الناس بغتة، ويفجؤهم فجاءة على غير موعد.. فهم أبدا فى وسواس منه، وفى خوف من وقعاته بهم، وبمن يحبون، ويؤثرون. إنه ليس شىء أبغض إلى الناس من الموت، وليس شىء أكثر طروقا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1185 ووسواسا لهم منه.. إنه أبدا مصدر إزعاج لكل سليم وسقيم، وكل شاب وشيخ.. إن لم يره دانيا منه فى حال، رآه ناشبا أظفاره فى أب، أو أم، أو زوج، أو ولد، أو صديق. ومن أجل هذا كره الناس لقاء الموت، وتعلقوا بالحياة، مهما تكن هذه الحياة، ومهما تكن ضراوتها وقسوتها، وما تسوق إلى الناس من مآس وآلام.. يقول أبو العلاء: نحبّ العيش بغضا للمنايا ... ونحن بما هوينا الأشقياء ويقول أيضا: ودنيانا التي عشقت وأشقت ... كذاك العشق- معروفا- شقاء سألناها البقاء على شقاها ... فقالت عنكم حظر البقاء ولزوميات أبى العلاء، تدور كلها حول الموت، وماوراء الموت، ولا تكاد قصيدة أو مقطوعة من شعره فى هذا الديوان تخلو من الحديث عن الموت، أو النفس، أو البعث والجزاء.. وذلك فى صور شتى من الرأى المتقلب بين اليقين والشك، والإيمان والإلحاد، والإقرار والإنكار.. إن الموت هو الينبوع الذي ارتوت منه فلسفة «أبى العلاء» فعمقت جذورها، وسمقت فروعها، وتعددت طعومها. فكانت فلسفة مؤمنة، ملحدة.. متفائلة، متشائمة.. شأن الخائف المفزّع، تتغاير فى عينيه صور الأشياء، وتغيم حقائقها.. إن ظاهرة الموت من أكبر الظواهر وأعمها، مما شغل به العقل، والتفتت إليه الديانات السماوية والوضعية، منذ الخطوات الأولى للإنسان فى هذه الحياة.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1186 يقول بعض الفلاسفة المعاصرين: «إن الموت هو أصل الديانات كلها، ويجوز أنه لو لم يكن هناك موت لما كان للإله عندنا وجود» . وذلك لأن الموت لفت الإنسان إلى قوة عليا، يستمد منها الحياة، ويدفع بها الموت.. وإذا لم يتحقق له ذلك فى الحياة الدنيا، طمع فى حياة أخرى بعد الموت، يصل بها ما انقطع بالموت.. ويكاد التفكير الإنسانى كله- عدا جماعات قليلة متناثرة على رقعة الزمن الفسيح- يكاد يرى الموت خاتمة حياة، ومبدأ حياة جديدة أخرى. لقد رفض العقل منذ أول مرحلة من مراحل تفكيره- رفض أن يجعل الموت خاتمة نهائية لحياة الإنسان، وأبى أن يذهب بمن يموتون من الأهل والأحباب والأصدقاء إلى وادي الفناء والعدم.. فأقام لهم المقابر، وسعى إليهم فى أوقات مختلفة، يناجيهم، ويبثهم ما بصدره من شوق وحنين، ويشكو إليهم ما لقى من بعدهم من آلام وأحزان.. وحول المقابر، وعليها، أقيمت تماثيل الموتى، وقدّمت القرابين والصلوات والأدعية، حتى يجد الميت فى ذلك ما يهنأ به فى عالمه الجديد.. إن شبح الحياة تدبّ فى الأموات، مازال يطلّ على الأحياء من وراء القبور، فلم تنقطع الصلة بين الأحياء والأموات.. بمواراتهم فى القبور، أبدا، بل كان الأحياء دائما يناجون الأموات، ويتحدثون إليهم حديث الحىّ إلى الحىّ، بل وكثيرا ما يتلقى الأحياء من الموتى- عن طريق التخيل والتوهم- الجواب الشافي لما يلقون إليهم من شئون وشجون.. إن تلك الصلة النفسية بين الأحياء والأموات، قد خلقت فى الناس عقيدة الحياة بعد الموت.. وذلك قبل أن تجىء الأديان السماوية، فتقرر هذه الحقيقة، وتلتقى مع ما وجده الإنسان بحدسه، واستشعره بوجدانه، وطرقه بخياله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1187 لقد كان أهم ما يميز ديانة المصريين القدماء هو فكرة الخلود.. أعنى الحياة الخالدة بعد الموت.. فتلك العقيدة هى جرثومة التفكير الديني، الذي تولدت منه الديانة المصرية القديمة، وتشكلت منه طقوسها ومراسمها.. فالمصريون القدماء، كانوا يعتقدون أنه وقد أمكن أن يحيا النيل بعد موته، فيفيض ثم يفيض، وأن يحيا النبات بعد موته، فيزدهى وينضر، فإنه- من باب أولى- أن يحيا الإنسان بعد أن يموت.. واقرأ قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ.. أَفَلا تَعْقِلُونَ» (80: المؤمنون) . لم يرض الإنسان أن يكون نصيبه من الحياة تلك السنوات التي يعيشها فى هذه الدنيا، وأبى أن يقبل الحكم الأبدىّ عليه بالفناء الأبدىّ، بعد الموت.. بل إنه جعل من الموت طريقا إلى الحياة الأبدية الخالدة، التي لا موت معها. يقول «سقراط» «عند ما فتشت عن علة الحياة وجدت الموت.. وعند ما وجدت الموت ألفيت الحياة الدائمة.. ولهذا ينبغى أن نغتمّ بالحياة، ونفرح بالموت، لأننا نحيا لنموت، ونموت لنحيا..» وفى كتاب الهند المقدس «كاثا» : «يفنى الفاني كما تفنى الغلال، ثم يعود إلى الحياة فى ولادة جديدة كما تعود الغلال «1» » . ويقول الفيلسوف الألمانى «جوته» :   (1) يريد بفناء الغلال دفنها فى باطن الأرض، ثم تحللها، وتشققها ليخرج منها النبات. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1188 «إن الاجتهاد المحتدم فى نفسى، هو برهانى على الديمومة.. فإذا كنت قد عملت حياتى كلها ولم أسترح، فمن حقى على الطبيعة أن تعطينى وجودا آخر عند ما تنحلّ قواى، وتنوء بحمل نفسى» . والديانات السماوية، تصور الموت على أنه إشارة البدء إلى رحلة طويلة، ينتقل فيها الإنسان من هذه الدنيا إلى عالم الخلود، حيث يلقى كل إنسان هناك جزاء ما عمل، من خير أو شرّ. ويؤدى الموت فى الديانات السماوية، دورا عظيما فى إقامة العقيدة الدينية، وفى تعميق جذورها فى قلوب المؤمنين، وبعث الحماس للأعمال الصالحة التي تدعو إليها، وتقبّلها فى رضا وغبطة، وإن كانت تحمل الإنسان على تقديم نفسه قربانا لله بالجهاد فى سبيله، طمعا فى حياة أفضل! وليس من خلاف بين الديانات السماوية كلها فى تقرير هذه الحقيقة وتوكيدها.. وتكاد تكون دعوة الرسل منحصرة فى الإيمان بالبعث واليوم الآخر، بعد الإيمان بالله. ومع أن الكتب السماوية، لم تتعرض لشرح عملية الموت شرحا «فسيولوجيا» ولم تدخل فى جدل حول الجسد والروح وما بينهما من علاقة فى الحياة، وما بعد الحياة- مع هذا، فإن أتباع هذه الكتب لم يقفوا عند هذا، بل كان فى المتدينين- من فلاسفة وعلماء وفقهاء- من أجال تفكيره فى هذه القضية، مستصحبا الدين، أو مستقلّا بنظره ورأيه. وفى التفكير الإسلامى كثير من الآراء والمقولات.. نكتفى هنا بأثارة منها.. فمثلا يقول «الراغب الأصفهانى» : «إن الموت المتعارف، الذي هو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1189 مفارقة الروح للبدن، هو أحد الأسباب الموصلة للإنسان إلى النعيم الأبدى.. فهو وإن كان فى الظاهر فناء واضمحلالا، فهو فى الحقيقة ولادة ثانية.. إن الإنسان فى دنياه جار مجرى الفرخ فى البيضة، فكما أن من كمال الفرخ تفلّق البيضة عنه وخروجه منها، كذلك من شروط كمال الإنسان مفارقة هيكله.. ولولا الموت لم يكمل الإنسان!» . ثم يقول: «فالموت إذن ضرورى فى كمال الإنسان، ولكون الموت سببا للانتقال من حال أوضع إلى حال أشرف، سمّاه الله «توفّيا» وإمساكا عنده: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» (42: الزمر) . ثم يقول الراغب: «فالموت هو باب من أبواب الجنة، منه يتوصّل إليها، ولو لم يكن الموت، لم تكن الجنة، ولذلك منّ الله به على الإنسان.. فقال تعالى: «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» (2: الملك) .. فقدّم الموت على الحياة، تنبيها إلى أنه يتوصل به إلى الحياة الحقيقة ومن هنا عدّ نعمة.. وقال سبحانه أيضا: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ.. ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» فجعل الموت إنعاما، لأنه لما كانت الحياة الأخروية نعمة لا وصول إليها إلّا بالموت، فالموت نعمة، لأن السبب الذي يتوصّل به إلى النعمة، نعمة.. وعلى هذا جاء قوله تعالى: «ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ.. فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ.. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ» (14- 16 المؤمنون) - فنبّه على أن هذه التغيرات متجهة إلى خلق أحسن.. ويقول الفيلسوف المسلم «محمد إقبال» : الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1190 «إن كائنا- يعنى الإنسان- اقتضى تطوّره ملايين السنين، ليس من المحتمل إطلاقا، أن يلقى به كما لو كان من سقط المتاع.. وليس إلّا من حيث هو نفس تتزكى باستمرار- يمكن أن ينسب إلى معنى الكون.. «وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» (7- 10: الشمس) .. وكيف تكون تزكية النفس وتخليصها من الفساد؟ إنما يكون ذلك بالعمل: َبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ» (1- 2: الملك) - فالحياة تهيىء مجالا لعمل النفس، والموت هو أول ابتلاء لنشاطها المركب» . وننتهى من هذا كله إلى حتمية البعث والحياة بعد الموت.. وإنه قبل أن تجىء الديانات السماوية، وقبل أن تقول كلمتها فى الحياة الآخرة، قالت الإنسانية كلمتها.. قالتها شعرا ونثرا.. وقالتها شعوذة وفلسفة! وأعدّت نفسها للحساب بين يدى قوة عليا، بيدها وحدها الجزاء الأوفى لكل عمل.. ففى الديانات المصرية القديمة مثلا، كان يحمل الميت معه دفاعا مكتوبا، يلقيه بين يدى المحاسب العظيم.. وهذا، مثل من صور هذا الدفاع: «سلام عليك.. أيها الإله العظيم.. ربّ الصدق والعدالة.. لقد وقفت أمامك يا ربّ.. «وجىء بي لكى أشاهد ما لديك من جمال!! «أحمل إليك الصدق.. إنى لم أظلم الناس.. لم أظلم الفقراء.. لم أفرض الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1191 على رجل حرّ عملا أكثر مما فرض هو على نفسه! «لم أهمل.. ولم أرتكب ما تبغضه الآلهة.. ولم أكن سببا فى أن يسىء السيد معاملة عبده.. «لم أمت إنسانا من الجوع.. ولم أبك أحدا.. ولم أقتل إنسانا. ولم أخن أحدا.. «لم أرتكب عملا شهوانيا داخل أسوار المعبد المقدس.. «لم أكفر بالآلهة.. ولم أغشّ فى الميزان.. «لم أنتزع اللعب من أفواه الرّضّع.. ولم اصطد بالشباك طيور الآلهة.. «أنا طاهر.. أنا طاهر.. أنا طاهر..!!» فالحياة بعد الموت، والحساب والجزاء، هى مما يطلبه الإنسان، ويعيش فيه، ويعمل له.. ولو لم يكن هناك دين يدعو إليها، أو شريعة تكشف عنها.. فكيف إذا جاءت شرائع السماء كلها، مقررة لها، كاشفة عنها، ضاربة الأمثال لها، مقدمة الحجج والبراهين عليها؟ وخير ما نختم به هذا البحث، ما قرّره الراغب الأصفهانى، فى كتابه: «تفصيل النشأتين» حيث يقول: «لم ينكر المعاد والنشأة الأخرى، إلا جماعة من الطبيعيين، أهملوا أفكارهم، وجهلوا أقدارهم، وشغلهم عن التفكير فى مبدئهم ومنشئهم، شغفهم بما زيّن لهم من حبّ الشهوات.. «وأما من كان سويّا، ولم يمش مكبّا على وجهه، وتأمل أجزاء العالم، علم أن أفضلها ذوات الأرواح، وأفضل ذوات الأرواح ذوات الإرادة والاختيار، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1192 وأفضل ذوى الإرادة والاختيار، الناظر فى العواقب، وهو الإنسان- فيعلم أن النظر فى العواقب من خاصية الإنسان، وأنه- سبحانه- لم يجعل هذه الخاصيّة له، إلّا لأمر جعله فى العقبى، وإلا كان وجود هذه القوة فيه باطلا! «فلو لم يكن للإنسان عاقبة ينتهى إليها غير هذه الحياة الخسيسة، المملوءة نصبا وهمّا وحزنا، ولا يكون بعدها حال مضبوطة- لكان أخسّ البهائم أحسن حالا من الإنسان!! فيقتضى هذا أن تكون هذه الحكم الإلهية، والبدائع الربانية، التي أظهرها الله فى الإنسان عبثا، كما نبّه الله تعالى بقوله: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ» .. فإن إحكام بنية الإنسان، مع كثيرة بدائعها وعجائبها، ثم نقضها، وهدمها من غير معنى سوى ما تشاركه فيه البهائم من الأكل والشرب، مع ما يشوبه من التعب الذي أغنى عنه الحيوان- سفه» «تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا» . قوله تعالى: «فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ» . هو تنزيه لله سبحانه وتعالى، أن يكون خلق الخلق عبثا، وأنه سبحانه يميتهم، ثم لا يبعثهم.. إن هذا لا يليق بالملك العظيم، الحقّ، الذي لا إله إلا هو ربّ العرش الكريم.. وفى وصف الله سبحانه وتعالى لذاته الكريمة العلية، بهذه الأوصاف الجليلة ما يشير إشارة مبينة إلى تقرير هذين الأمرين: الخلق، والبعث، وأنهما من شأن «الملك» الذي قام ملكه على الحقّ، والذي لا إله معه، يشاركه الخلق والأمر، فيعطل مشيئته، أو ينقض حكمته.. ثم إن فى وصفه ذاته سبحانه وتعالى بالكرم، إشارة أخرى، إلى أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1193 الخلق والبعث نعمة من منعم كريم، بيده الخير، وهو على كل شىء قدير. قوله تعالى: «وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» . وبهذه الآية، والآية التي بعدها تختم السورة الكريمة، حيث يلتقى ختامها مع بدئها.. فقد بدئت بهذا الإعلان العام: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ» .. ثم جاءت الآيات بعد ذلك تعرض صفات المؤمنين، وما أعدّ الله لهم فى الآخرة من نعيم، حيث يورّثهم الجنّة، ويطلق أيديهم فيها، ينعمون بما يشاءون منها.. ثم عرضت الآيات بعد هذا صورا من قدرة الله، وفضله على الإنسان، الذي أخرجه من تراب، فكان هذا البشر السّوىّ.. وتمضى الآيات فتعرض، صورا للمعاندين المكذبين برسل الله، وما أخذهم الله به فى الدنيا من نكال، وما أعد لهم فى الآخرة من عذاب.. ثم تخلص الآيات من هذا العرض إلى تقرير أمر البعث، وأنه أمر واقع لا شك فيه.. ثم تجىء خاتمتها داعية إلى الإيمان بالله، والإقرار بوحدانيته، والتحذير من الشرك به، فإن من يشرك بالله فهو من الكافرين.. وإن الكافرين هم الخاسرون.. - وفى قوله تعالى: «لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ» - دعوة صريحة إلى تحرير العقل، وإطلاقه من قيد الأسر للأوهام، ومن الانقياد للآخرين، من غير أن يكون له نظر واقتناع، عن برهان قاطع، وحجة واضحة.. فالإيمان بالله سبحانه وتعالى: «قضية» أولى من قضايا العقل، يرتبط بها مسيره ومصيره، فى الدنيا والآخرة.. وهذا من شأنه أن يدعو الإنسان أن يلقى هذه القضية فى جدّ واهتمام بالغين، وأن يوجّه إليها كل مدركاته، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1194 وملكاته، وأن يفتح لها عقله وقلبه، حتى يمحصها تمحيصا، ويقيم لها الأدلة والبراهين.. فإن هو آمن بعد هذا، كان إيمانه على بصيرة وهدى، وكان لهذا الإيمان أثره فيه، وسلطانه عليه.. وإن لم يجد بين يديه «البرهان» المقنع، والدليل القاطع، والحجة الملزمة، فلا عليه أن يمسك عن الإيمان، حتى تتضح له معالم الطريق إليه، وحتّى يقع على الدليل الهادي، الذي يقوده إلى الله مذعنا، مستسلما! .. فذلك هو الإيمان الذي يطلبه الإسلام من المسلمين، ويفتح أبصارهم وبصائرهم له. وليس هذا هو شأن العقل مع قضية الإيمان بالله وحدها، بل إن ذلك هو الذي ينبغى أن يكون من شأنه مع كل قضيّة من قضايا الحياة، صغيرها وكبيرها.. إذ كان العقل هو الحاسّة التي يذوق بها الإنسان طعوم الحياة، ويميز بها الخبيث من الطيب، والشرّ من الخير، والنافع من الضار.. تماما كما يذوق باللسان طعوم المأكولات والمشروبات، حتى لا يدخل على الجسد طعاما فاسدا، فيفسد طبيعته. قوله تعالى: «وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ» . بهذه الآية الكريمة، تختم السورة.. وبهذه الرحمة الواسعة من ربّ كريم رحيم، يغاث الناس، ويتداوون من جراحات الآثام والذنوب، التي شوهت معالم فطرتهم، وذهبت بالكثير من جمال خلقهم السّوىّ، الذي خلقهم الله عليه.. لقد ركب كثير من الناس طرق الغواية والضلال، وكادت تضيع إنسانيتهم فى هذا التّيه، ولكن رحمة الله تداركتهم، فلقيتهم هناك فى هذا الضّياع، وأعادتهم إلى مجتمع الإنسانية الكريم.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1195 وهكذا ينتهى أمر الناس، برحمة عامة شاملة، تنال البرّ والفاجر، وتكسو المطيع والعاصي. ولترغم أنوف أولئك الذين يتألّون على الله، ويؤيّسون الناس من رحمة ربّ الناس، ويحتجزونها لأنفسهم، حتى لكأنها لا تتسع إلّا لهم، وأنه لو شاركهم فيها غيرهم لضاقت بهم، وقلّ حظهم منها.. فهذا من سوء الظنّ بالله، ومن ضلال فى الفهم لما لذاته من كمال مطلق.. «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» .. (32: الزخرف) ومن أسرار هذا الختام للسورة بهذه الآية الكريمة، أنها جاءت تحمل الرحمة والمغفرة- الرحمة الواسعة، والمغفرة الشاملة- وبين يديها هذه الأحكام، وتلك الحدود، التي جاءت بها سورة «النور» التي تلى هذه الآية مباشرة، وكأنها تبشر بالرحمة والمغفرة، أولئك الذين تغلبهم أنفسهم، وتستعلى عليهم أهواؤهم، فيخرجون عن حدود الله، ويواقعون الإثم والمنكر!! فسبحانك سبحانك من رب كريم، غفور، رحيم.. تعنو لجلاله الوجوه، وتستخزى فى مواجهة كرمه، ومغفرته ورحمته، النفوس، ويستحى من عصيانه، والتمرد على طاعته، أهل الحياء! وألا شاهت وجوه الذين يلقون رحمة الرحمن الرحيم بالتمرد والكفران.. وألا خسىء وخسر، أولئك الذين يغريهم لطف اللطيف، وإحسان المحسن بالتطاول عليه، والعدوان على حرماته..! الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1196 24- سورة النور نزولها: هى مدنية.. باتفاق. عدد آياتها: أربع وستون آية. عدد كلماتها: ألف وثلاثمائة وست عشرة كلمة. عدد حروفها: خمسة آلاف، وستمائة وثمانون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم الآيات: (1- 3) [سورة النور (24) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) التفسير: فى هذه السورة- أمران- نحب أن نقف قليلا عندهما، قبل أن نمضى فى تفسيرها: أولهما: هذا البدء الذي بدئت به، والإخبار عنها بأنها سورة- مع أنها «سورة» من مائة وأربع عشرة سورة، هى القرآن الكريم كله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1197 فما سرّ هذا؟ لم نجد أحدا من المفسرين سأل هذا السؤال، أو أشار إليه من قريب أو بعيد.. وإن كانوا قد توسعوا فى شرح معنى سورة، وأنها من السور الذي يقوم على ما يداخله، ويحتويه.. فهى بهذا أشبه بالسور.. لها بدء وختام.. وما بين بدئها وختامها محصور فى البدء والختام.. وليس فى هذا ما يجعلها منفردة بوضع خاص بين سور القرآن الكريم. أما الإخبار عنها بأنها سورة، وهى سورة فعلا.. فهذا ما قد سكتوا عنه.. وهو أمر يلفت النظر، ويستوجب الدراسة والبحث.. ونحن إذ ننظر فى قوله تعالى: «سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» . نجد هذا الخبر وما وصف به، ينطبق على كل سورة من سور القرآن الكريم.. فكل سورة منه هى سورة، وكل سورة، أنزلها الله وفرضها، وأوجب على المسلمين التعبّد بآياتها، والفعل بأحكامها.. وكل سورة فيها آيات بينات، للتذكر والتدبر، وهى فى هذا لا تختص بمزيد فضل على غيرها من السور، لأن القرآن كله كلام الله، وكلام الله- سبحانه- على التمام والكمال جميعه، لا يفضل بعضه بعضا بشىء.. إذ ليس هناك مكان لزيادة فى فضل! فما السر إذن؟ نقول- والله أعلم- إن بدء السورة فى الحقيقة هو قوله تعالى فى الآية الثانية منها: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» .. وإن الآية التي بدئت بها السورة ليست إلا تنبيها على أن سورة ستنزل، وفيها فرائض، وأحكام، وآيات بينات.. وذلك أن الأحكام الشرعية.. وخاصة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1198 ما يتصل منها بالحدود- لم يجىء بها القرآن الكريم فى صدر السور القرآنية، وإنما جاء بها بين ثنايا الآيات، حيث يمهد لها بآيات قبلها، ثم يعقب عليها بآيات بعدها.. وبهذا يجىء الحكم الشرعي وبين يديه ومن خلفه ما يدعمه، ويوضحه. فقوله تعالى: «سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» .. هو أشبه بالموسيقى، التي تتقدم موكب المجاهدين فى سبيل الله، المتجهين إلى غزو مواقع الكفر والضلال، إذ أن الآيات التي جاءت بعد هذا المطلع، هى فى الواقع أقرب شىء إلى أن تكون بعثا من جند السماء، يحمل الهدى والنور إلى هذه المواطن المظلمة من المجتمع الإسلامى، فيبدد ظلامها، ويكشف للأبصار والبصائر، الطريق المستقيم إلى مرضاة الله! وثانيهما: تسميتها بسورة «النور» .. على اعتبار أن أسماء السور توقيفى، وهو الرأى الراجح عندنا.. لم سميت بهذا الاسم؟ والجواب- والله أعلم- أن ذلك: أولا: لأنها جاءت بآيات كشفت ظلاما كثيفا، كان قد انعقد فى سماء المسلمين قبل أن تنزل هذه السورة، وتنزل معها هذه الآيات.. وذلك أن السيدة عائشة رضى الله عنها، كانت فى تلك الفترة موضع اتهام على ألسنة المشركين والمنافقين، وقد أوذى رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الحديث المفترى، كما أوذيت زوجه رضى الله عنها، وأوذى المسلمون بهذا الذي طاف حول بيت النبوة من غبار تلك التهمة المفتراة.. فلما نزلت الآيات التي تبرّئ البريئة الصدّيقة بنت الصديق- انقشع هذا الظلام، وكشف النور السماوي، عن وجوه المنافقين المفترين.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1199 وثانيا: جاء فى السورة الكريمة قوله تعالى: «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ.. الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ.. الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ.. نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ..» (35) فلهذه الأنوار التي تملأ الوجود من نور الله، ولهذه الآيات المنزلة التي أضاءت للمسلمين ظلام الليل الكثيف، وفضحت المشركين والمفترين- لهذا أو ذاك، أولهما معا، استحقت السورة أن تحمل هذا الاسم، وأن تكون نورا على نور.. من نور الله..! بعد هذا، نستطيع أن نلتقى بالسورة الكريمة، ونقف بين يدى آياتها.. قوله تعالى: «سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» . «سُورَةٌ» خبر لمبتدأ محذوف، تقديره، هذه سورة.. وقد قرىء «سورة» بالنصب، بتقدير ناصب لها من فعل، أو اسم فعل، مثل اقرأ، أو استقبل، أو إليك أيها النبي سورة.. وفى هذا البدء إلفات إلى ما سيجيئ فى السورة من أحكام. وتشريعات، وقواعد، لحفظ المجتمع، وصيانة روابط الأسرة، التي هى الأساس الذي يقوم عليه كيان الجماعات والأمم.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1200 [الجلد والرجم.. وجريمة الزنا] قوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» . هكذا تبدأ السورة بهذا الحكم، على غير ما جرى عليه القرآن من تقرير الأحكام فى ثنايا السورة، وبين يديها ومن خلفها آيات تمهيد لها، وتعقب عليها. أما هنا، فقد تكاد السورة تبدأ بهذا الحكم، وليست الآية التي بدأت بها السورة إلا إعلانا عن أن هذه سورة، وأنها جاءت ابتداء بتقرير هذا الحكم، وهذا يشير إلى أن هذا الأمر الذي جعلته السورة فى مقدمتها، هو أمر عظيم الخطر على المجتمع الإنسانى، وأن من الحكمة الإسراع فى محاربته والقضاء عليه، وأنه لهذا جدير بأن يتصدر سورة من سور القرآن الكريم، وألا تسبقه مقدمات، وإرهاصات تشير إليه.. وفى تصدير الحكم بالجملة الاسمية، تقديم للمسند إليه- المبتدأ- وكشف عنه قبل الكشف عن الحكم الذي سيسند إليه.. إذ ليس المقصود أولا هو إقامة الحدّ على الزانية والزاني، وإنما المراد هو التعرف على من يحمل هذا المرض الخبيث فى كيانه.. ثم يأتى بعد ذلك ما يتخذ لوقايته، ووقاية المجتمع منه.. فقوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي» يلفت السامع إلى أن حكما ما سيقع عليهما، أو قولا سيقال فيهما.. وهنا تصغى الأسماع، وتتطلع النفوس إلى هذا الحكم.. وإذ يتوقع المستمعون أن هذا الحكم سيكون وعيدا من الله، أو وصفا دامغا للزانية والزاني- يجىء الأمر على غير ما ينتظرون، وإذا هم أنفسهم، هم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1201 المطالبون بالكشف عن هذا الداء، ثم هم مطالبون أيضا بأخذهم بهذا الدّواء الذي وضعه الله فى أيديهم، وإنفاذ أمره فيهم.. وهذا كله من شأنه أن يجعل المسلمين جميعا حربا على هذا الداء، وأساة لمن يصابون به.. ففى قوله تعالى: «فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» . أولا: عزل للمؤمنين، عن جماعة الزّناة، الذين تحقق المجتمع من هذا الداء الذي نزل بهم.. وثانيا: إلزام للمؤمنين ألا يقفوا موقفا سلبيا من هذا الداء الذي يتهددهم إن هم تغاضوا عنه، ولم يأخذوا ولأنفسهم وقاية منه. وبهذا يكون معنى الآية: الزانية والزاني، ها هما قد أصيبا بهذا الداء الخبيث، وإنه لكى تدفعوا عن أنفسكم شر هذا الداء، فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، إذ لستم أنتم أرأف بالناس من رب الناس.. وفى قوله تعالى: «وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» - إشارة إلى أن الجريمة ينبغى أن يكون عقابها علنا، بمحضر من الناس، ليكون فى ذلك فضح للجانى، وتحذير لغيره من أن يأتى هذا المنكر، ويقع تحت سياط العذاب، وعلى أعين الناس! وهذه الجريمة ينكرها الناس جميعا، وتنكرها كذلك المدنية الغربية جهرا، وترضى بها وعنها سرا.. وذلك لما فى هذه الجريمة من عدوان على حقوق الأزواج، ومن اختلاط الأنساب، وحل روابط الأسرة، وقطع ما بين الآباء والأبناء من تعاطف، وتراحم، وإيثار، وبذل يبلغ حد التضحية بالنفس، الأمر الذين لا يكون إلا إذا ملأت عاطفة الأبوة قلوب الآباء.. وهذا لا يكون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1202 إلا إذا وقع فى نفوس الآباء وقوعا محققا أن هؤلاء الأبناء من أصلابهم، وأنهم غرسهم الذي غرسوه، ونبتهم الذي خرج من هذا الغرس.. ومن هنا تقوم فى أنفسهم الدواعي القوية لرعاية هذا النّبت وبذل الجهد له، حتى ينمو، ويزهو، ويثمر.. إن المجتمع لا يكون مجتمعا سليما، قوى البنيان، ثابت الأركان، إلا إذا انتظمت أفراده مشاعر متلاحمة من التوادّ والتعاطف بين أفراده.. والأسرة هى أول لبنة فى بناء المجتمع.. ومن هنا كان حرص الإسلام على إقامة هذه اللّبنة من مادة متماسكة، متلاحمة، مصفاة من الشوائب، محصنة من الآفات.. فربط أولا بين الزوج والزوجة بهذا الرباط الموثق، الذي لا ينحل إلا إذا عرضت له عوارض تجعل من إمساك الزوجين بهذا الرباط أمرا فيه إعنات لهما، أو لأحدهما، فكان التحلل منه أرفق وأوفق.. ثم لم يدع الإسلام هذا الرباط ينحل تلقائيا- إذا دعت دواعيه- بل جعل له أسلوبا خاصا يجرى عليه، ويتعامل الزوجان بمقتضاه، كأن تعتدّ المرأة بعد انحلال الرابطة الزوجية بالطلاق أو الوفاة، وكأن يقدم الرجل للمرأة مؤخر الصداق، ونفقة العدة، وغير هذا مما هو مفصل فى كتب الفقه.. ثم هذه الثمرة التي يثمرها الزواج من أولاد، وما يجب على الآباء عن رعاية وتربية لهؤلاء الأولاد، وهو أمر وإن كان فى فطرة الكائن الحي، إلا أن الإسلام جعله شريعة، يؤخذ بها من فسدت فطرتهم من الآباء والأمهات.. وكذلك أوجبت الشريعة على الأبناء طاعة الآباء، وبرّهم، وتقديم الرعاية الكاملة لهم عند الكبر والعجز.. وهذا أمر وإن كانت تقضى به الفطرة، وتوجبه المروءة، التي تدعو إلى مقابلة الإحسان بالإحسان، فإن الإسلام جعله شريعة ملزمة، وحقا واجب الأداء، إذا كان فى الأبناء من ذهبت مروءته، وطمست معالم فطرته، فلم يرع هذا الحق ابتداء من غير طلب.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1203 وهكذا ينظر الإسلام إلى الأسرة، ويعدّها «البوتقة» الأولى، التي تنصب فيها مبادئه، وتختبر أحكامه، وتثمر شريعته.. فإنه إذا ظهرت آثار هذه الشريعة فى مجتمع الأسرة، وقامت منها تلك «الخلية» السليمة، القوية، المحصنة من آفات الانحلال والتفكك- كان المجتمع الذي يقوم من اجتماع هذه الخلايا، مجتمعا سليما قويا.. أشبه بالجسد السليم القوى، الذي لا تنال منه الآفات والعلل.. إذا عرضت له.. وسلامة الرباط الذي يقوم بين الزوجين، وقيام الرابطة الزوجية فى ضمان من التحلل والتفكك، وفى أمان من الشك والارتياب- هو الأساس الذي تقوم عليه الصلات الروحية، والنفسية، والمادية بين أعضاء هذه الأسرة، التي يبنيها الزوج والزوجة معا.. من أجل هذا وقفت شريعة الإسلام هذه الوقفة الحكيمة الحازمة، من أمر الزنا، وعدّته آفة مهلكة إذا لم يأخذ المجتمع كله السبيل عليها، وينكّل بالذين يعتدون على حرمته ويهددون أمنه وسلامته، ويدكون صرح بنيانه، باقتراف هذا المنكر.. وقد فرق الإسلام فى العقوبة بين المحصنين وغير المحصنين، لما بين الفريقين من اختلاف فى الحاجة، وفى الدافع إليها. فالحدّ الذي فرضه الإسلام، هو مائة جلدة لغير المحصن، من النساء والرجال: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» .. أما المحصن من الرجال والنساء، فحدّه الموت.. رجما بالحجارة. فإذا توافرت أركان هذه الجريمة بما يوجب الحد، وجب الحد، ولزم. ثم إنه إذا أقيم الحد- جلدا أو رجما- وجب أن يكون علنا، يشهده طائفة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1204 من المؤمنين، وقد أشرنا من قبل إلى الحكمة المبتغاة من هذه العلانية. هذا، وقد جاء الجلد نصا فى القرآن الكريم.. كما جاءت به الآية الكريمة: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» . ولكن.. هنا سؤال: إذا كان حكم القرآن قد جاء هكذا مطلقا فى الزانية والزاني، وهو الجلد.. فلم هذا التخصص بغير المحصنين؟ ومن أين جاء النص على المحصنين بالرجم؟ ونقول إن التقييد للنص القرآنى، وصرفه إلى غير المحصنين، إنما هو من عمل الرسول، صلوات الله وسلامه عليه.. فقد رجم الرسول صلوات الله وسلامه عليه- محصنا هو «ماعز بن مالك» كما رجم محصنة هى: «الغامدية» وذلك كما هو ثابت فى السنة المطهرة.. ولكن.. لسائل أن يسأل: كيف يجىء حكم القرآن عن جريمة «الزنا» نصا فى الجلد، ثم لا يجىء فيه نص «للرجم» ؟ ألا يكون عكس هذا هو الأولى.. فينصّ القرآن على العقوبة الكبرى وهى «الرجم» ثم يجعل «الجلد» عملا من إعمال هذا النص، فيكون تعزيرا، حيث لا تتوافر الأدلة القاطعة؟. ونقول- والله أعلم-: أولا: حمل إطلاق قوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» - حمل هذا الإطلاق على غير المحصنين، فيه رعاية لمقتضى الحال، الذي يكاد يصرّح بأن الزنا- إن كان- فلا ينبغى أن يكون إلا من غير الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1205 المحصنين، حيث لم يكن لهم ما يتحصنون به من دواعى الشهوة، بالزواج، الذي من شأنه أن يكسر حدة هذه الشهوة، ويطفىء وقدتها.. فهم لهذا- إذا أقدموا على الزنا كانوا أقل جرما من المحصنين، الذين من شأنهم أن يتحصنوا ويتعففوا، وهم فى حياة الزوجية. فهذه الإشارة بليغة من الشريعة الإسلامية، إلى أن المؤمن ينبغى أن يكون فى حصانة من دينه، وفى يقظة دائمة من مراقبة ربه.. وتوقى العدوان على حدوده، فإذا غلبت المؤمن شهوته، فى هذه الحال، وأغواه شيطان فاستغوى، وركب طريق الفاحشة- فإنه ملوم مذموم.. ولكن شتان فى هذا، بين المحصن وغير المحصن، فى موقف الحساب والجزاء، على تلك الفعلة المفكرة.. ولشناعة هذه الجريمة، وعظيم خطرها، فقد نص القرآن على أدنى حد يجب أن يؤخذ به مقترفها. وهو الرجم، كما أن القرآن أمسك بهذا النص من يغلب عليهم أن يواقعوا هذا المنكر، ويقعوا تحت العقوبة الراصدة له، وهم غير المحصنين.. أما المحصنون فأولى بهم ألا يكون لهم موقف هنا. وألا يذكروا فيمن يذكر فى معرض هذا الأمر الشنيع. وثانيا: إن عمل الرسول، متمم للشريعة، وشارح لها، بحكم القرآن الكريم فى قوله تعالى: «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» (7: الحشر) ذلك أن الرسول لا يدخل على شريعة الله إلا بما يأمره به الله.. كما يقول تعالى: «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى.. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى» (3- 4: النجم) وثالثا: أن وجوب إقامة الحد على الزاني والزانية، لا يكون إلا إذا وقعت هذه الجريمة مستوفية أركانا خاصة، دون أن يعلق بأى ركن منها شبهة من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1206 الشبه القريبة أو البعيدة.. فإذا انحلّ ركن من هذه الأركان، أو دخلت عليه شبهة لم تكن جريمة فى نظر الشارع، ومن ثم فلا حد على المأخوذ بها. وأهم الأركان التي تثبت بها جريمة الزنا، شهادة أربعة من الشهود العدول، بأن يشهدوا بأنهم رأوا هذا المنكر بين الرجل والمرأة، على الوجه الذي يقع بين الزوجين فى فراش الزوجية، من المعاشرة التي لا يطلع عليها أحد، وأن تكون هذه الرؤية كاشفة كل شىء بين الرجل والمرأة، وخاصة فيما يتصل بالتقاء سوءتيهما، التقاء مباشرا كاملا. فإذا لم تقم كل شهادة من شهادات الشهود الأربعة على هذا الوجه، بحيث لو وقع الاختلاف بينها فى أية صفة من تلك الصفات- لم يحكم بوقوع الجريمة، ومن ثمّ فلا إقامة لحد عليها.. ويجلد الشهود ثمانين جلدة، إعمالا لقوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً، وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» (4: النور) . وطبيعى أن تحقق هذه الشروط ندر أن يقع.. ذلك أن الذي يمكن أن يحدث منه هذا الأمر المنكر على ملأ من الناس بحيث تنكشف لهم سوءته- هو إنسان معتوه، أو مجنون، أو مخمور.. لأن العاقل- فى أي درجة من درجات العقل- يأبى عليه حياؤه أن يتجرد هذا التجرد لأعين الناس.. وإنه لو فرض وكان ممن ذهب ماء الحياء من وجهه.. فكيف السبيل إلى المرأة التي جمد حياؤها هذا الجمود، فتعرّت للرجل هذا التعرّى على أعين الناس؟ إن هذه صورة لا تقع إلا فى أحوال نادرة، وتحت ظروف وأحوال غير طبيعية، كأن يقدر الزانيان أنهما فى مأمن، فينكشف عنهما هذا الستر الذي تسترا فيه، على غير انتظار، أو أن يطلع عليهما مطلع من حيث لا يحسبان أو يقدران.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1207 ولا شك أن غير المحصنين هم أقرب إلى التعرض لمثل هذا الفعل المنكر المفضوح، إذ كانوا- تحت وطأة الشهوة وقسوة الحرمان- معرضين للاندفاع إلى هذه الجريمة، وإلى قلة المبالاة بعواقبها، والعمى أو التعامي عن الظروف المحيطة بها. أما المحصن فإنه- إذ يقدم على هذه الجريمة- لا يكون محكوما بثورة الشهوة، أو قسوة الحرمان إلى هذا الحد الذي يكون عليه غير المحصن.. كما أنه لا يندفع إلى هذه الجريمة هذا الاندفاع الصارخ المجنون، فى غير مبالاة، خوفا من الفضيحة والخزي، عند زوجه وبنيه وأهله.. ولهذا لم تثبت جريمة الزنا على المحصن أو المحصنة إلا بإقرارهما، كما كان الشأن مع «ماعز» والمرأة الغامدية.. وهنا يتضح لنا حكمة نص القرآن على حد الجلد، وهو العقوبة المفروضة على غير المحصنين، إذ كان غير المحصنين- كما قلنا- هم الكثرة الواقعة تحت حكم الزنا، على تلك الصورة المكشوفة المفضوحة، وهم أدنى إلى مواقعة الإثم على صورته تلك، من المحصنين، الذين يكاد الإسلام لا يفترض لهم وجودا.. لأنهم إذا وجدوا على تلك الحال، كانوا من الندرة النادرة التي لا يتوجه إليها عموم الحكم. كذلك تتضح حكمة هذا التقدير الذي قدّره الإسلام لعقوبة هذا الجرم، فى مجاليه معا، الإحصان وغير الإحصان، وهو تقدير عادل رحيم، لا تخف موازينه أبدا، فى أي مجتمع إنسانى، يحترم وجوده، ويكرم إنسانيته، ويرعى حرماتها، ويحتفظ بالقدر الإنسانى من حيائه ومروءته.. والجلد مضافا إليه الفضح على الملأ، هو عقوبة غير المحصن والمحصنة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1208 وهذا الجلد.. غير منكور ما فيه من استخفاف بإنسانية الإنسان، وامتهان لكرامته، وإسقاط لمروءته! نعم.. إن الإسلام يأخذ هذا «الإنسان!» بكل هذا التجريم والتجريح، فى مقابل جنايته تلك التي جناها على المجتمع.. وكيف يرعى الإسلام، حرمة فرد- رجلا كان أو امرأة- لم يرع إنسانيته، ولم يحفل بمروءته؟ وكيف يقبل منه هذا العدوان الصارخ على المجتمع، وهذا التحدّى المجنون لحرمة الجماعة وحيائها، دون أن يذيقه من الكأس التي سقى منها مجتمعا كاملا؟ وكيف لا يلبسه هذا الثوب من المذلة والهوان والاستخفاف، وقد ألبس هو المجتمع هذه الملابس جميعها؟ إن أقلّ ما ينبغى أن ينال مقترقى هذا الإثم- فى علانية وفى غير مبالاة- هو أن يكون العقاب المسلط عليهما قائما على العلانية، وعدم المبالاة بهما. أما المحصنون الذين يضبطهم المجتمع على تلك الحال، ويقيم الشهادة عليهم، فقد نزلوا دركات بعيدة عن هذا المستوي المنحط الذي نزل إليه غير المحصنين، إذ لا يجدون عند الله، ولا عند الناس شيئا من العذر الذي قد يقوم لغير المحصنين.. ولهذا كان عقابهم أن يدفنوا فى هذه الحفرة التي حفروها لأنفسهم، وأن يقذفهم المجتمع بالأحجار التي قذفوه بها، حتى تزهق أرواحهم. إن جريمة الزنا، لا يلقاها الإسلام بهذا العقاب الدنيوي الراصد الزاجر، إلا حين تتحول عند مرتكبيها إلى عمل غير منكر، فيأتيه من يأتيه منهم، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1209 وكأنه يؤدى رسالة كريمة فى الحياة، يرى من الخير أن يشهد الناس وهو متلبس بها.. وهنا يكون الحساب على هذا الفجور العريان، وعلى تلك الحيوانية الطاغية التي تلبس الإنسان، وتتمشى به فى الناس، فى غير خجل أو حياء.. وكيف يستحلّ دم الحيوان، ولا يباح دم هذا الحيوان من أبناء آدم؟ وهل مثل هذا الإنسان أكرم عند الله أو عند الناس من الحيوان الذي أباح الله دمه، وأحلّ ذبحه؟ أما حساب الإسلام لمرتكبى هذا الإثم، فى ستر وخفاء، فهو مما يتولّاه الله، ويأخذ به أهله، يوم يقوم الناس لربّ العالمين، ويقف المذنبون بذنوبهم بين يدى أحكم الحاكمين، فيغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء. من أجل هذا، لم تكن عقوبة الجلد أو الرجم تقع، إلا فى القليل النادر جدا، على أولئك الذين ينادون على أنفسهم بالفضيحة.. بلا مبالاة أو تحرج..! فما فرض الإسلام على المسلمين- حكاما أو محكومين- أن يفتّشوا على دخائل الناس، وأن يعمدوا إلى كشف ما ستروه، وما ستره الله عليهم.. بل إنه سبحانه- رحمة بعباده- دعا إلى الستر على المبتلين من عباده بمنكر من المنكرات، وعدّ الكشف عن هذا المنكر من إشاعة الفاحشة فى المؤمنين وتوعّد الذين يذيعونها بالعذاب الأليم.. فقال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» (19: النور) . روى أن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وقد بلغه عن امرأة كانت تعلن الفجور، فقال: «لو كنت راجما أحدا بغير بيّنة لرجمت هذه» وهذه المعالنة التي يشير إليها الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1210 هى تلك التي يرى فيها الناس تلك المرأة متلبسة بهذا المنكر، على مرأى ومشهد منهم.. حتى لقد كان منها أن اشتهرت أنها على علاقة بفلان أو فلان، وأن بعضهم قد اطلع منها على هذا المنكر.. بقي أن نشير هنا إلى ما ورد فى بعض الأحاديث من أن رجم المحصن والمحصنة، قد جاء فى كتاب الله غير المتلو من آياته.. أي الذي نسخ تلاوة، وبقي حكما.. ويروون لهذا، هذه الآية: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فاجلدوهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» . وقالوا: إن هذه الآية مما كان أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نسخت تلاوته، وبقي حكمه، ولم يثبت فى المصحف. ومن هذا ما يروى فى صحيح البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود، أن ابن عباس أخبره أن عمر قام، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد أيها الناس، فإن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها وو عيناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجمنا بعده.. فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل: لا نجد آية الرجم فى كتاب الله، فيضلّوا بترك فريضة قد أنزلها الله، فالرجم فى كتاب الله حق على من زنى وهو محصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو الحبل، أو الاعتراف» . وفى مسند أحمد عن ابن عباس، عن عبد الرحمن بن عوف، قال: إن عمر بن الخطاب، خطب الناس، فسمعته يقول: «ألا وإن ناسا يقولون: ما الرجم فى كتاب الله، وإنما فيه الجلد، وقد رجم رسول الله صلى الله عليه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1211 وسلم ورجمنا بعده، ولولا أن يقول قائل أو يتكلم متكلم: إن عمر زاد فى كتاب الله لأثبتها كما نزلت» ! وفى مسند أحمد أيضا عن ابن عباس، قال: خطب عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فذكر الرجم فقال: «لا نجد من الرجم بدا، فإنه حدّ من حدود الله، ألا وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلم رجم، ورجمنا بعده، ولولا أن يقول قائلون: إن عمر زاد فى كتاب الله ما ليس فيه لكتبت فى ناحية من المصحف: وشهد عمر بن الخطاب، وابن عوف، وفلان، وفلان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم ورجمنا بعده» ! هذا بعض من أحاديث جاءت فى هذه القضية، وهى عند أصحاب الحديث صحيحة، لا مطعن عندهم فى سندها.. ونحن إذ ننظر فى هذه الأحاديث نجدها معلولة بأكثر من علة: فأولا: آية الرجم التي تروى بأنها كانت هكذا: «الشيخة والشيخة إذا زنيا فاجلدوهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» . هذه الآية- إذا صحّ أن تأخذ اسم آية- فيها أكثر من أمر يصرّح بأنها ليست من آيات الله، ولا من كلام الله، ولا من كلام رسوله.. وذلك: 1- «الشيخ والشيخة» كلمتان ثقيلتان، قلقتان، لا ينتظم باجتماعهما نظم قرآنى.. وقد جاء فى القرآن لفظ «الشيخ» فوقع موقعه من النظم.. كما فى قوله تعالى: «وَهذا بَعْلِي شَيْخاً» وقوله سبحانه: «وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ» ولم يجىء لفظ الشيخة، لا فى القرآن، ولا فى كلام عربىّ بليغ. 2- كلمة «البتّة» كلمة غريبة، لم يستعملها العرب، وإنما هى كلمة مولدة استعملها الفلاسفة والمناطقة، وأصلها من البتّ، وهو القطع.. وليس فى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1212 اللغة العربية الصحيحة كلمة تلزمها همزة القطع فى «ال» التي للتعريف.. «والبتة» لا تنطق ابتداء أو وصلا إلا بهمزة القطع محققة، على ما استعمله عليها أصحابها. 3- كلمة «البتة» هذه- فوق أنها غريبة- هى أيضا زائدة لا حاجة إليها فى تقرير الحكم أو توكيده.. وقد جاء قوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» .. وكان من الطبيعي أن يجىء الحكم المتمم لهذه الآية هكذا: «والشيخ والشيخة فارجموهما.. نكالا من الله..» وإذن فهذه التي تسمى آية، أبعد ما تكون عن نظم القرآن، كما أنها أبعد ما تكون عن بلاغة الرسول، وبيانه المعجز.. وثانيا: إلى جانب هذا الذي يقال عنه إنه آية.. يروى هذا الحديث عن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «خذوا عنى.. خذوا عنّى.. قد جعل الله لهن سبيلا.. البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» . وهذا الحديث- إن صح- وقد صححه رجال الحديث، يكون أشبه بالناسخ لآية «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي» ولآية: «الشيخ والشيخة» .. صارفا النظر عنهما إلى الأخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لا معنى للقول: «خذوا عنى خذوا عنى» إلا صرف النظر عن كلّ ما جاء فى القرآن عن هذا الأمر، والأخذ بهذا الذي يقال.. وحاش لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينطق بهذا، وأن يتحدّى كلام الله الذي نزل عليه وبلّغه، فقد أخذ عنه المسلمون من قبل قوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» ! الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1213 وثالثا: سورة النور كلها محكمة، وقد نوّه الله سبحانه وتعالى بها بقوله: «سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ..» فهى نور من نور، وكل ما فيها بيّن جلّى، وكلّ ما فيها مفروض لا نقض فيه.. وإذن فتغريب المجلود، والمجلودة، عاما، هو حكم زائد على ما نصّ عليه الحكم الصريح البين فى الآية.. وهذا يناقض ما جاء فى مطلع السورة من أنها سورة فرضها الله وأنزل فيها آيات بينات، واختصاصها بهذه الأوصاف- مع أن كل القرآن على هذه الصفة- مزيد عناية بها، وتأكيد بأنه لا يدخلها نسخ، إن كان هناك نسخ. وقد ذهب كثير من الأئمة والفقهاء إلى القول بأن لا تغريب مع الجلد.. ويروى عن الإمام علىّ كرم الله وجهه أنه كان يقول: «كفى بالتغريب فتنة» . وإذا كان للتغريب حكمة فى أنه يبعد المجلود أو المجلودة عن محيطهما الذي ارتكبا فيه الفاحشة، ويباعد بينهما وبين الأعين التي ترميمهما بالازدراء، والألسنة التي تقذفهما بالسوء- إذا كان للتغريب هذا، فإن فيه ما ينسى الناس العبرة والعظة التي يجدونها كلما طالعوا وجه المجلودين، كما أن المجلودين- إذا بعدا عن موقع الجريمة، وعن شهودها، خف عنهم أثرها، وزال وشيكا وقعها.. ثم إن الغربة- كما يقول الإمام علىّ- فتنة قائمة بذاتها..!! ورابعا: الأحاديث التي تروى عن عمر بن الخطاب فيها اضطراب، وتناقض.. فما ينسب إلى عمر أنه قال: «إن ناسا يقولون: «ما الرجم فى كتاب الله وإنما فيه الجلد..» هذا غير معقول أن يقول به عمر، وأحداث الرجم التي وقعت بأمر رسول الله لا تزال حديث الناس.. والمسلمون يعلمون أن الرسول مبيّن لكتاب الله، وأن قوله وعمله- فيما يتعلق بالشريعة- شرع.. فمحال إذن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1214 أن يقول إنسان هذا القول، ومحال كذلك أن يكون لعمر تعليق على قول لم يقل..! ثم من جهة أخرى، يرى فى الحديث أن عمر يقول: «لولا أن يقول قائل أو يتكلم متكلم أن عمر زاد فى كتاب الله لأثبتّها كما نزلت..» وهذا كلام لا يلتقى أوله مع آخره.. فعمر رجل قوىّ، لا يأبه أبدا لقول قائل أو كلام متكلم، فى أي أمر متعلق بأحكام الله.. ثم كيف يخشى عمر قول الناس وكلامهم، ولا يخشى أن يزيد فى كلام الله.. ثم كيف يخشى عمر قول الناس وكلامهم، ولا يخشى أن يزيد فى كلام الله، ويثبت ما لم يأمر الرسول بإثباته؟ وكيف تظل هذه الآية غير مقروءة زمن النبىّ، وزمن أبى بكر، وزمن عمر، ثم يبدو لعمر أن يثبتها، لولا أنه يخشى قول القائلين؟ وأكثر من هذا، فإن الحديث الثالث الذي رويناه آنفا عن عمر، يدل دلالة قاطعة على أن الرجم كان سنّة عملية، ولو لم يكن عن آية قرآنية نسخت تلاوتها.. يقول عمر: «لا نجد من الرجم بدا» - وصدق فإن الرجم للزانية والزاني المحصنين، مما فعله الرسول، وأمر به.. ثم يقول: «فإنه من حدود الله..» وصدق- رضى الله عنه- فإن الرجم كالجلد، كلاهما من حدود الله.. ثم يقول: «ألا وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم رجمنا بعده» وهذا إجماع لا خلاف فيه.. ثم يقول: «ولولا أن يقول قائلون: إن عمر زاد فى كتاب الله ما ليس فيه- لكتبت فى ناحية من المصحف» وهذا يعنى أن الذي كان يهتم به عمر ولا يفعله مخافة الفتنة- هو أن يكتب فى جانب من المصحف، بعيدا عن الآيات القرآنية- هذا الذي همّ أن يكتبه.. وماذا همّ عمر بكتابته ولم يكتبه للاعتبارات التي رآها؟ هذا هو نص ما أراد عمر أن يكتبه، وأمسك عن كتابته: «وشهد عمر بن الخطاب وابن عوف وفلان وفلان أن رسول الله صلى الله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1215 عليه وسلم رجم، ورجمنا معه..» هذا ما همّ عمر بكتابته ولم يكتبه، هو شهادة تلحق بالمصحف، فى ناحية منه.. ومضمون هذه الشهادة، هو: «أن رسول الله رجم، ورجم المسلمون بعده» ويشهد على هذا عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف، وآخرون. وهذا يعنى أنه لو كانت هناك آية «الرجم» هذه التي يقولون عنها: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» - لو كان لهذه الآية وجود- ظاهر أو خفى- لكانت شهادة عمر عليها أولى من شهادته على الرجم، ولأثبتها فى ناحية من المصحف، وشهد هو ومن معه على أنها قرآن، نسخت تلاوته وبقي حكمه.. وهذا قليل من كثير مما يمكن أن يقال فى هذه الأحاديث، وفى آية الرجم هذه، وأنه كلما نظر الإنسان فيها وجد خللا واضطرابا برىء منهما القرآن الكريم، وتنزه عنهما كلام الله.. فمثلا: الشيخ والشيخة إذا كانا غير محصنين فهل يرجمان؟ والشاب والشابة إذا كانا محصنين فهل لا يرجمان؟ هذا ما يتسع له منطوق آية: «الشيخ والشيخة» ومفهومها! وفى حديث يروى عن علىّ بن أبى طالب كرم الله وجهه، أنه قد ثبت لديه حكم الزنا على امرأة محصنة اسمها «سراحة» فجلدها يوم الخميس، ثم رجمها يوم الجمعة، وقال جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله.. وهذا دليل على أن الأصل هو «الجلد» ، وهو عام يشمل المحصن وغير المحصن حيث جاء الحكم مطلقا فى قوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ» وأما الرجم فهو استثناء، من الأصل، وهو مما جاءت به السنّة، فى حق الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1216 المحصنين فى الحكم العام، وأن يجرى عليهما حكم الآية المحكمة، ثم يأخذهما بالاستثناء الذي جاءت به السنة.. وهو الرجم.. والله أعلم. قوله تعالى: «الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» . اختلف المفسّرون فى معنى النكاح هنا، فذهب بعضهم إلى أو المراد به التزوج، على اعتبار أن هذا هو المعنى الغالب على هذه الكلمة.. وذهب آخرون إلى أن معنى النكاح هنا، الوطء، والتقاء الرجل بالمرأة.. وعلى المعنى الأول، يكون معنى الآية: أن الزاني لا يجوز له أن يتزوج إلا من زانية أو مشركة، وأن الزانية، لا يجوز لها أن تتزوج إلا من زان أو مشرك.. وهذا يعنى بدوره أن الزاني والزانية ليسا مسلمين، وأن لهما أحكاما تخالف أحكام المسلمين، إذا لا يجوز لهما أن يتزوجا من المسلمين، وأن لهما أن يتزوجا من المشركين.. وهذا مما لا يحلّ لمسلم أو مسلمة.. والثابت شرعا وعملا، أن الزانية والزاني، لم يخرجا من الإسلام بجريمتهما، وأن إقامة الحدّ عليهما تطهير لهما من الرجس الذي وقعا فيه.. ولهذا كانت كلمة من جاءوا إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- معترفين بذنبهم، هى قولهم: «طهرنى يا رسول الله» ! .. ولهذا، فإن المعنى الذي تستقيم عليه الآية هو أن يكون «النكاح» بمعنى «الوطء» ، والتقاء الرجل بالمرأة.. ويكون معنى الآية حينئذ: أن الزاني لا يطأ إلا زانية، أي لا يتهيأ له الحصول على من يشاركه هذا الإثم إلا امرأة فاسدة فاسقة مثله. فهو فاسد فاسق، لا يستجيب له إلا فاسدة فاسقة، أو «مشركة» لا تؤمن بالله، ولا تخشى حسابا أو جزاء، فهى لهذا مستخفّة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1217 بكل معنى من معانى الخلق والفضيلة، إذ لا ترجو بعثا، ولا تطمع فى ثواب ولا تخشى من عقاب.. وكذلك الشأن فى الزانية.. إنها لا تدعو إليها إلا فاسدا فاسقا، يستجيب لها، ويواقع المنكر معها، أو مشركا.. لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر.. وفى هذا تغليظ لهذا الجرم. واستخفاف بأهله.. وأنهم أهل سوء، يجتمع بعضهم إلى بعض.. فليس فيهما صالح وفاسد.. وإنما هما كائنان فاسدان، ينجذب بعضهما إلى بعض، كما ينجذب الذباب إلى القذر والعفن. وفى قوله تعالى: «وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ» إشارة إلى أن هذا الفحش، أو هذا المنكر، قد حرّم على المؤمنين، لا يأتونه أبدا.. كما حرم عليهم شرب الخمر وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وما أهلّ لغير الله به.. ومع هذا فإن بعض المؤمنين يأتى هذه المحرّمات، ولا تنزع عنه صفة الإيمان إلا فى حال تلبّسه بالمنكر.. وهذا ما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقتل القاتل حين يقتل وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يختلس خلسة وهو مؤمن.. يخلع منه الإيمان كما يخلع سرباله، فإذا رجع رجع إليه الإيمان» . أي أنه فى الحال التي يتلبس فيها يفعل هذا المنكر أو ذاك لا يكون الإيمان فى صحبته، إذ لو كان الإيمان معه، لكان له منه وازع يزعه عن مخالفة الله، والاعتداء على حدوده.. ففى تلك الحال يجلى الإيمان من قلبه، وينزع الثوب الذي يلبسه منه.. فإذا صدر عن هذا المنكر، وتاب إلى الله، ورجع إليه، عاد إليه الإيمان، وكان فى المؤمنين، العاصين.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1218 الآيات: (4- 10) [سورة النور (24) : الآيات 4 الى 10] وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) التفسير: قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» . بعد أن بينت الآيتان السابقتان حكم الزانية والزاني، وما يجرى عليهما من عقاب، وما يكون لهما من مكان فى المجتمع الإسلامى- جاءت الآيات بعد هذا تبيّن شناعة هذه الجريمة، والخطر العظيم الذي ينجم عنها، حتى ليكاد يصيب كل من يقترب منها، فضلا عن أن يكون طرفا من أطرافها.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1219 وهذه الجريمة لا تتم إلا بشهادة شهود أربعة، كما بيّنا، أو بالاعتراف أربع مرات، أو بالحمل فى غير فراش الزوجية. أما الاعتراف بالزنا والإقرار به، فأمره موكول إلى من فعله، وأقرّ به، ليتطهر بالعقوبة، من الرجس الذي لبسه.. وأما الحمل فى غير فراش الزوجية، فهو منكر يمشى بين الناس، وفيه- مع المجاهرة بالفاحشة- اعتراف ضمنى.. وأما الشهود الذين يشهدون على واقعة الزنا، فهو موضوع هذه الآية، حيث تدعو الشهود إلى التثبت، والتحقق مما يشهدون عليه، وإلّا يعجلوا بالشهادة قبل التثبت والتحقق، وألا يتلقوا ما يشهدون به من أفواه الشائعات والأقاويل.. ذلك أن هذه الشهادة إذا تمت، كان من شأنها أن تهدر دم إنسان بالرجم، إن كان محصنا، أو تحطّم إنسانيته وتذهب بكرامته بالجلد، إن كان غير محصن.. إن آثارها فى كلا الحالين، قضاء على إنسانية إنسانين، وفضحهما وفضح من يتصل بهما من أهل وولد.. ومن هنا أقام الإسلام تلك الحراسة الشديدة على الشهادة، وعلى الشهود معا.. كما فصلنا ذلك من قبل! فمن رمى محصنة أو محصنا، وقذفهما بهذه التهمة علنا، كان عليه أن يأتى بأربعة شهداء، هو واحد منهم، أو أربعة ليس هو فيهم.. يشهدون على ما رأوا بأعينهم من التقاء المرأة والرجل، التقاء محققا، كما يلتقى الزوج بزوجه فى فراش الزوجية.. وقد ذكرت المحصنات، ولم يذكر المحصنون.. لأن المرأة تبعتها فى هذه الجريمة- إذا ثبتت- أفدح من الرجل.. وكذلك ذكر المحصنات، ولم يذكر غير المحصنات، لهذا السبب عينه.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1220 فالجميع داخلون فى هذا الحكم، نساء ورجالا، محصنات، وغير محصنات، ومحصنين وغير محصنين.. وإنما ذكر الإحصان، للدلالة به على التعفف والتصوّن، وأن الذي يرمى بتلك التهمة إنما يرمى عفيفا متصونا، أو من شأنه أن يكون هكذا، أو من شأن المسلمين أن يظنوا به هذا الظن، قبل أن يتهموه.. فإذا لم يأت القاذف للمحصنة أو المحصن بأربعة شهداء، أو إذا أتى بهما ولم تتحقق التهمة من شهادتهم، لخلل فيها.. وقعوا جميعا- أي القاذف والشهود- تحت طائلة العقاب، واستحقوا شيئا من العقوبة التي كان يستحقها المتهم لو أن التهمة ثبتت عليه، وذلك بأن يجلد كل منهم ثمانين جلدة.. وليس هذا فحسب بل إنهم يخرجون من دائرة المسلمين العدول، فلا تقبل لهم شهادة أبدا.. وليس هذا وكفى، بل إنهم لينادى عليهم بأنهم فاسقون.. فتلك هى صفتهم- بل هذه هى صفتهم الخاسرة التي خرجوا بها من هذا الأمر الذي دخلوا فيه من غير تثبت، واستيقان.. وفى هذا كلّه دعوة للمؤمنين ألا يذيعوا الفاحشة فى المؤمنين، وألا يتعجلوا الفضيحة للمسلمين، وأن يستروا عليهم ما كان للستر موضع.. وليس معنى هذا ألا ينكر الناس المنكر، وألا يسوقوا أهله إلى موقع العقاب، وإنما هو الحذر والحيطة، وعدم الطّير فرحا، إذا اطلع المسلم على سوء من مسلم..! وأنه إذا أراد الكشف عن هذا السوء فليكن فى حذر، وفى مهل، وفى رفق، بل وفى أسى على هذا الذي غرق فى الإثم، ووقع بين أنياب الفتنة..! - وفى قوله تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» استثناء من الحكم الذي قضى به الله تعالى على أولئك الذين يرمون المحصنات، ولم تكن بين أيديهم الحجة القاطعة، وقد تضمن هذا الحكم ثلاثة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1221 أمور: جلدهم ثمانون جلدة.. وعدم قبول شهادة لهم أبدا.. ثم وسمهم بهذه السمة، وهى الفسق.. وقد اختلف فيما يقع عليه الاستثناء فى قوله تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا» أهو الجلد؟ أم عدم قبول الشهادة؟ أم وصفهم بالفسق.؟ ولا خلاف يعتدّ به فى وقوع الجلد.. لأن التوبة، إنما تجىء بعد وقوع العقوبة، لأن التوبة لا تدفع الحدّ عمن لزمه الحدّ ووجب عليه، إذا أعلن توبته.. وإنما هى طهرة له، مما بقي عليه من آثار فعلته، مما لم يذهب به الحدّ.. أما الخلاف فهو فى: هل التوبة ترفع عن الذين أقيم عليهم حدّ القذف، هذا الحظر الذي أقيم عليهم بعدم قبول شهادتهم؟ وهل تزيل عنهم وصفهم بالفسق؟ .. أكثر المفسرين على أن التوبة هنا إنّما تدخل بالاستثناء على الوصف بالفسق وحده. بمعنى أن المجلودين فى هذا الحد، إذا تابوا، وأعلنوا توبتهم على الملأ وأصلحوا ما فسد منهم، رفعت عنهم صفة الفسق.. أما الحظر الذي أقيم عليهم بعدم قبول شهادتهم فهو قائم، لا ترفعه التوبة، لأنه جاء حكما مؤبدا، كما يقول سبحانه: «وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً» .. وذهب بعض المفسرين إلى أن التوبة تدخل بالاستثناء على الأمرين معا: عدم قبول الشهادة، والوصف بالفسق، وأن التأبيد هو تأبيد قائم ما لم تلحقه توبة.. وقالوا: إن المجلود فى الزنا، وهو أصل الجريمة، لم ينصّ على ردّ شهادته، فكيف ترد شهادة من جلد فى الشهادة على الزنا، وتقبل شهادة من زنى..؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1222 والحقّ أن هذا قياس مع الفارق- كما يقولون- فالزّانى الذي جلد فى الزنا إنما ارتكب جريمة، قامت عليه بالبيّنة، أو بالإقرار، أو بالحبل.. وفيها أن من أقرّ على نفسه، وطلب التطهير، هو شخص لم يقبل ضميره هذا المنكر، وأنه طلب بنفسه إنزال العقوبة به، ومثل هذا لا يمكن أن يشهد زورا، ومن ثمّ فهو عدل لا تردّ شهادته.. ومن جهة أخرى، فإن المجلودة أو المجلود فى الزّنا، قد غلبتهما شهوة، وتسلط عليهما هوى، وأنهما بهذا قد جنيا على أنفسهما، أما شاهد الزور هنا، فهو إنما دخل إلى هذا الأمر لما غلب على طبيعته من فساد، وليس عن حال طارئة، أو شهوة غالبة، ثم إنه بهذا الزور يجنى على نفسه كما يجنى على غيره.. وكذلك الشأن فى كل شهادة، هى فى أصلها مؤثرة فيمن شهد عليه.. فردّ شاهد الزور الذي ثبت عليه هذا، ثم أقيم عليه الحدّ فيه، هو حماية للناس من أن يجنى عليهم بشهادة الزور، وقد جرّب عليه هذا، وأنه إذا كانت شهادته قد ردّت هنا، ولم يؤخذ بها، فإنه إذا كان له أن يشهد بعد هذا وأن تقبل شهادته، فقد يشهد بالزور، وقد يقضى بما شهد به.. وفى هذا بلاء وشر، يقع على الناس منه.. وعلى هذا، فإننا نرى أن المجلود فى القذف لا تقبل شهادته أبدا.. وإن قبلت شهادة المجلود فى الزنا.. وبهذا يكون الاستثناء فى قوله: «إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا» واقعا على صفة الفسق، التي تسعها رحمة الله، وتشملها مغفرته.. لأن أمرها يتعلق بحق من حقوق الله.. أما شهادة الزور ففيها حق الناس، الذين تحمل عليهم هذه الشهادة. ويؤيد هذا ما جاء فى الرسالة المشهورة المعروفة برسالة القضاء، والمنسوبة إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه.. وفيها: «المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلودا فى حدّ، أو مجربا عليه شهادة زور، أو كان ظنينا فى نسب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1223 أو ولاء» وقد جرى الفقه على هذا، وأخذ به القضاء! وفى قوله تعالى: «وَأَصْلَحُوا» إشارة إلى أن من تمام التوبة أن يصلح الرامي ما أصاب برميته من جراح، أصابت المقذوف فى شرفه وسمعته، كما أصابت أهله برذاذ من هذا الدم الذي يقطر من جراحه.. والإصلاح يكون بأن يعلن الرّامى على الملأ، أنه كان مخطئا، أو غير متحقق مما شهد به، أو أنه ألبس عليه الأمر، واختلط عنده الحق بالباطل.. إلى غير ذلك مما يطيّب خاطر المتهم، ويقطع ألسنة السوء فيه، أو يمسكها عن التمادي فى النيل منه.. قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ» . قررت الآية السابقة حكم الذين يرمون غير أزواجهم بتهمة الزنا، وفى هذه الآية بيان لحكم الذين تكون التهمة منهم موجهة إلى أزواجهم.. فللعلاقة الزوجية شأن فى هذا الأمر، غيره مع غير الزوج والزوجة.. فإذا وضع الرجل امرأته موضع التهمة، ورماها بهذا المنكر، لم يكن مطالبا لإثبات هذه التهمة بإحضار أربعة شهود يشهدون على هذا الأمر، إذ لا يقبل رجل على نفسه أن يعرض امرأته فى هذا المعرض، وأن يفضحها تلك الفضيحة المعلنة، على الملأ.. وإنما المطلوب منه هنا هو أن يستشهد نفسه، ويحتكم إلى دينه وضميره، فيستخرج من كيانه أربعة شهود يشهدون على لسانه أربع شهادات، وذلك بأن يشهد هو هذه الشهادة، ويحتملها ديانة أمام الله، فيقول مثلا: أشهد الله أنى رأيت زوجتى هذه، فلانة، مع فلان، فى حال تلبس بتلك الجريمة.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1224 وإنى لمن الصادقين فيما شهدت.. ويكرر هذا أربع مرات.. ثم يجىء بالخامسة بعد هذا مواجها بها نفسه، فيقول: إنّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ولا شك أن تكرار هذه الشهادة، وتكرار ذكر اسم الله معها فى كل مرة، مما يتيح للرجل فرصة فى أن يراجع نفسه، أو يرجع إلى الله إن كان أمره قائما على ظنون، وشكوك. وفى المرة الخامسة التي يصبّ فيها لعنة الله عليه إن كان كاذبا، عملية يقف بها الإنسان على حافة الهاوية، ويطلّ منها على تلك الهوة العميقة التي سيتردّى فيها إذا هو مضى إلى غايته، ولم يكن متقيا الله فى نفسه، وفى المرأة التي يضربها الضربة القاضية، بهذه الكلمة تخرج من فمه.. روى الإمام الشافعي- رضى الله عنه- فى «الرسالة» أن رجلا لاعن زوجه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صار إلى الخامسة، التي يحسم فيها الأمر، قال صلوات الله ورحمته وبركاته عليه: «قفوه.. فإنها موجبة» ! والواقع أن الزوج لا يسوق زوجه إلى هذا الموقف، إلا إذا قامت بين يديه القرائن القاطعة، والأدلة الواضحة.. ولكن كثيرا من الأزواج قد تعميهم الغيرة، فيخالون غير الواقع واقعا.. ثم لا يرضون إلا أن يكون انتقامهم من المرأة على تلك الصورة الفاضحة المخزية، التي أقلّ ما فيها أنها تنفى نسبة الولد إليه، إن كانت حاملا.. أما المرأة التي وضعت هذا الموضع، ولا عنها زوجها- فإن أقرت بما شهد به، أقيم عليها الحدّ، ورجمت.. وإن أبت أن تقرّ، فإن عليها أن تردّ شهادته بأن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين.. وذلك بأن تقول الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1225 مثلا: أشهد بالله أن فلانا زوجى كاذب فيما اتهمني به.. تكرر ذلك أربع مرات.. ثم تقول فى الخامسة: إن غضب الله عليها إن كان من الصادقين.. وبهذا تدرأ عن نفسها العذاب الدنيوي، وهو الرجم.. أما فى الآخرة، فحسابها، وحساب زوجها على الله، سبحانه وتعالى، وهو الذي يعلم المحق من المبطل منهما.. إذ لا شك أن أحدهما كاذب. ويترتب على هذا أن تطلّق المرأة من الرجل، ولها مهرها، من غير متعة، وتلزمها العدّة، ولا ينتسب ولدها الذي تأتى به إلى أبيه، بل ينسب إلى أمه، ولا يحلّ له زواجها أبدا. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ» . والدرء: الدّفع، والردّ.. والمراد بالعذاب هنا: الرجم. قوله تعالى: «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ» . جواب لولا محذوف، وتقديره: ولولا فضل الله عليكم، ورحمته بكم، وأنه تواب حكيم- لولا هذا لعنتّم، ولما عرفتم هذه الحدود، وتلك الأحكام التي بينها الله لكم، والتي يحسم بها ما يقع بينكم من شر وفساد، وضياع للأنساب.. ثم إنه تعالى: «تَوَّابٌ» يقبل العاصين منكم، ويردّهم إلى حظيرة المؤمنين الصالحين، إذا هم تابوا وأصلحوا، وهو سبحانه: «حَكِيمٌ» فيما حدّد من حدود ورصد من عقوبات، للمعتدين على حدوده. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1226 الآيات: (11- 20) [سورة النور (24) : الآيات 11 الى 20] إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20) [حديث الإفك.. عبرة وعظة] التفسير: بعد أن بينت الآيات السابقة حكم الذين يرمون المحصنات، ثم حكم الذين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1227 يرمون أزواجهم- جاءت الآيات هنا تبين حكما خاصا لواقعة خاصة، ترمى بها أحصن المحصنات، أم المؤمنين، عائشة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم.. والقضية فى أصلها قضية واحدة، هى رمى المحصنات، واتهامهنّ بتلك التهمة الشنعاء.. وقد جاءت فى ثلاثة معارض، الأول عاما، والثاني خاصا، والثالث أخص.. فالمحصنات، يدخل فى حكمهن الزوجات، كما يدخل فيهن الإفك على أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها. وإنما جاء الحديث عن الزوجات فى معرض خاص- وإن شملهن حكم المحصنات- لأن للعلاقة الزوجية- كما قلنا- اعتبارات خاصة، ينبغى أن يكون لها حساب وتقدير، غير حساب الأجنبى الذي يرمى محصنة أو محصنا.. كذلك، أم المؤمنين- عائشة- هى غير عامة المحصنات، وهى غير الزوجة.. إنها الأم لكل مؤمن ومؤمنة، فكان لا بد أن يكون لأمرها هنا ذكر خاص، وأن يتولى القرآن الكريم الكشف عن تلك الفرية التي افتريت عليها، وأن يمسك بأهل الإفك، ويسجل فضيحتهم، لتبقى عالقة بهم إلى الأبد.. والرأى عند المفسرين، والفقهاء، والأصوليين- أن بين الحكم الخاص بقذف الزوجات، وبين الحكم العام المتعلق بقذف المحصنات- تناسخا، وأن الآية الثانية ناسخة لعموم الحكم فى الأولى.. أي أن قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ.. الآيات» ناسخ لعموم الحكم فى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً..» والرأى عندنا أنه لا تناسخ بين الحكمين.. فكل من الحكمين عامل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1228 فى موضعه، وكل من الآيات، السابقة واللاحقة تقرر حكما لا يتعارض، ولا يتداخل مع صاحبه.. فالآيات الأولى، خاصة بقذف المحصنات حين يكون القاذف غير زوج.. ولهذه الحالة حكم خاص بها، وهى أن القاذف مطالب بأن يأنى بأربعة شهداء، وإلّا جلد ثمانين جلدة، ثم لا تقبل له بعد هذا شهادة أبدا.. ثم هو من الفاسقين.. أما الآيات الأخرى، فهى خاصة بقذف الزوج زوجه.. والحكم فى هذا، هو التلاعن بينهما، وما يترتب على هذا، كما أشرنا إلى ذلك من قبل.. والذي أدخل الشبهة على القائلين بالتناسخ بين الآيات، هو وجود كلمة «الْمُحْصَناتُ» هنا، وهناك.. فافترضوا لهذا عمومية الحكم فى الآيات الأولى، بحيث يشمل الزوجات وغيرهن، وعدّوا إفراد الزوجات بذكر خاص فى الآيات الأخرى، تخصيصا لعموم الحكم.. وهو عندهم- أي التخصيص- من قبيل النسخ الوارد على الحكم العام! وهذا غير صحيح من وجهين: فأولا: المحصنات فى الآيات الأولى، إنما يراد بهن العفيفات المتحصنات بعفتهن، سواء أكنّ متزوجات أم غير متزوجات، كما أنه يشمل- ضمنا- المحصنين من الرجال، بهذا المعنى أيضا، وهو المتحصّن بالعفة، سواء أكان متزوجا أم غير متزوج.. أما «المحصنات» فى الآيات الأخرى، فالمراد بهن- نصا- المتزوجات، سواء أكنّ- فى واقع الأمر- عفيفات أم غير عفيفات. وثانيا: الذين يرمون المحصنات، أو اللائي يرمين المحصنين، فى الآيات الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1229 الأولى حكم خاص، لا يلتقى معه الحكم الذي يقع من التلاعن بين الزوجين، فى أي وجه من الوجوه.. وإذن فلا تناسخ بين الآيات السابقة واللاحقة، بالتخصيص أو غيره.. وإنما كل من السابق واللاحق من الآيات له موضعه، وله الحكم الواقع على هذا الموضع.. ونعود بعد هذا إلى حديث الإفك.. وقد جاء كما قلنا فى معرض خاص به، لأنه أشنع ما يقع فى هذا الباب، من صور القذف.. وقد جاء القرآن الكريم بالحكم أولا على هؤلاء الذين افتروا تلك الفرية المنكرة، وأذاعوا هذا البهتان العظيم.. فقال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ» .. وقد تضمن هذا الحكم أمورا، منها: أولا: وصف هذا الحدث الذي أثار البلبلة فى الخواطر، والاضطراب بالنفوس- بأنه «إفك» .. والإفك هو الافتراء، وخلق الأباطيل، ونسجها من الكذب والبهتان.. وثانيا: تصوير هذا «بِالْإِفْكِ» الذي جرى على ألسنة المؤتفكين، فى صورة مجسّدة، وأنّه شىء مجلوب جاءوا به من عالم الظلام، وتعاملوا به، وتبادلوه، فيما بينهم، كما يتبادلون النقد الزائف: «جاؤُ بِالْإِفْكِ» وثالثا: وصف الجماعة التي جلبت هذا «بِالْإِفْكِ» واستوردته من ظنونها السيئة، وأوهامها الضالة- وصفها بأنها «عُصْبَةٌ» تداعت على الإفك، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1230 واجتمعت عليه، وأصبحت عصبة له، لما بينها من علائق التلاحم، والترابط، والتوافق، فى فساد العقيدة، وضعف الإيمان، والانجذاب نحو الشرّ.. ورابعا: أن هذه العصبة التي جاءت بالإفك- شأنها فى ذلك شأن كل عصبة- لها رأس فاسد يقودها إلى الشرّ، ويجمعها عليه.. ومن وراء هذا الرأس، أعضاء، تعمل معه، ولكل عضو مكانه ودوره الذي يقوم به. وخامسا: هذه العصابة الآثمة التي جاءت بهذا الإفك- لها حسابها، وجزاؤها عند الله.. أما زعيمها، ولذى تولّى كبر أمرها، فله عذاب عظيم، أضعاف ما يلقاه غيره من الذين معه.. وسادسا: هذا الحديث الآثم، وإن بدا فى ظاهره أنه شرّ تأذّت به النفوس الطاهرة، وضاقت به الصدور الكريمة- فإنه يحمل فى طيّاته خيرا كثيرا، حين ينجلى هذا الدخان، ويتبدد هذا الضباب، فيسفر وجه الحق، ويكشف عن آية من آيات الله، فى الطّهر، والعفّة، والتصوّن.. وحديث الإفك- كما يروى- هو أن أم المؤمنين «عائشة» رضى الله عنها، كانت فى صحبة النبىّ صلى الله عليه وسلم فى إحدى غزواته، ويقال إنها غزوة- بنى المصطلق- وفى طريق العودة، نزل النبي- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه منزلا، فلما آذنوا بالرّحيل، كانت أم المؤمنين، عائشة، تقضى حاجة لها، بعيدا عن هودجها الذي كانت تحمل عليه، وإذ كانت فى عجلة من أمرها، فقد افتقدت عقدا لها.. فلما التمسته ولم تجده، وهى فى طريقها إلى هودجها، عادت تبحث عنه، فلما وجدته، وأسرعت لتأخذ مكانها فى رحلها، كان القوم قد احتملوه، وكانت صغيرة، خفيفة اللحم، فلم ينتبهوا إلى شىء مما حدث، وظنوا أنها فى الرحل الذي حملوه.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1231 وحين وصلت إلى مكانها، كان النبىّ وأصحابه قد بعدوا عنها، وهم على يقين من أنها فى هودجها، على راحلتها التي يقودونها معهم.. والذي صنعته أم المؤمنين عائشة فى تلك الحال، هو أنها جلست فى مكانها، تنتظر عودة من يعود إليها من القوم، بعد أن يفتقدوها فى الرحل، فلا يجدوها.. وكان من العادة أن يتخلّف وراء القوم من ينتدبونه، لينظر.. إذا استبان النهار- فيما خلّفوه وراءهم من أدواتهم، وأمتعتهم، فيلتقطها، ويحملها معه إلى أصحابها.. وذلك أنهم كانوا يرتحلون ليلا، فتندّ عنهم بعض الأشياء التي يحجبها الظلام عنهم.. وقد كان «صفوان بن المعطل» - رضوان الله عليه- هو المنتدب لهذه المهمّة.. فلما استبان ضوء النهار، وجاء حيث كان منزل الرسول وأصحابه فى تلك الليلة، رأى سوادا، لم يتبيّنه أول الأمر، وظنّه متاعا من أمتعة القوم، فلما داناه رأى كائنا يتحرك فى داخله- وكان الحجاب قد ضرب على نساء النبىّ- فلم ير لأم المؤمنين، وجها، ولكنه عرف أنها أم المؤمنين، فاسترجع، ثم أناخ لها بعيره، فركبته، وقاده بها حتى أدرك النبىّ وأصحابه فى بعض الطريق.. دون أن ينطق بكلمة. هذا هو مجمل القصة.. ولكن المنافقين- وعلى رأسهم عبد الله بن أبىّ بن سلول- أخذوا يتهامسون ويتغامزون، ثم تحول همسهم وتغامزهم إلى اتهام صريح لأم المؤمنين، على هذا الصحابي الجليل، صفوان بن المعطل.! ثم أخذ هذا الحديث يدور فى المدينة، والمنافق عبد الله بن أبىّ ينفخ فيه، حتى أصبح نارا مشتعلة، علقت بأذيال المسلمين، وأكلت كثيرا من القلوب المؤمنة.. كما أنها أكلت ما بقي من إيمان فى قلوب المنافقين والذين فى قلوبهم مرض! الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1232 وقد بلغ النبىّ صلى الله عليه وسلم، قالة المنافقين، وعلى رأسهم عبد الله بن أبىّ.. واستأذن بعض الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قتل هذا المنافق، وقتل من كان على شاكلته، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبى عليهم ذلك، وفوّض أمره إلى الله، فى هذا المنافق ومن معه.. أما أم المؤمنين، فإنها كانت فى غفلة عن هذا الذي يتحدّث به المنافقون فى شأنها، وكانت فى تلك الأيام متوعكة، تلازم فراشها- وربما كان ذلك لما أصابها من مشقة السفر.. وقد استشعرت بطبيعة الأنثى إعراضا من النبىّ صلى الله عليه وسلم عنها، إلا أنها لم تعرف لذلك سببا.. كل هذا، والحديث يدور حولها، والعاصفة تزمجر عن يمينها وشمالها، وهى الغافلة عن كل هذا، غفلة أهل البراءة، المشغولة بدينها عن دنياها، شغل المؤمنين بالسماء، عما يشغل به الناس فى الأرض.. وفى ليلة.. خرجت أم المؤمنين، مع قريبة لها، هى أم مسطح، لقضاء حاجة فى الخلاء.. وكان أن عثرت أم مسطح أو تعمدت العثار، لتنطق بتلك الكلمة التي تريد أن تلقى بها إلى أسماع أم المؤمنين، ولتتخذ منها مدخلا إلى الحديث الذي تريد أن تفضى به إليها، وهى فى غفلة عنه- فقالت أم مسطح حين عثرت أو تعاثرت: «تعس مسطح» تريد ابنها مسطحا! فقالت أم المؤمنين بئس ما قلت يا أم مسطح فى رجل شهد بدرا! فقالت أم مسطح: لا، وتعسا له!! أما سمعت ما يقول مسطح؟ فقالت وما يقول؟ .. فأخبرتها ما يدور على الألسنة من حديث الإفك، ومن التهمة الظالمة التي يرميها بها المنافقون، ويتلقاها عنهم كثير من الثرثارين.. ومنهم مسطح!! وهنا تنبهت أم المؤمنين إلى ما كانت غافلة عنه، واسترجعت موقف النبىّ منها، وعرفت سبب إعراضه عنها، وأنه لم يكن لذلك من سبب إلا هذا الحديث، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1233 وأن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- قد وقع منه هذا الحديث موقعا.. فكربت لهذا واضطربت، ورجعت إلى البيت محمومة يكاد يقتلها الأسى، ويفرى كبدها الألم! ثم استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لتمرّض عند أبويها.. فأذن لها!! .. وكان ذلك مما ضاعف فى بلوتها، لأنها ما استأذنت إلا لترى ما عند النبىّ لها.. فلما أذن لها عرفت ما هناك! ثم كان حديث عاصف ثائر، كادت تزلزل به أركان هذا البيت الكريم، بيت الصدّيق رضى الله عنه.. ولا نحسب أن أمرا عرض لأبى بكر، منذ صحب الرسول إلى هذا اليوم، كان أشدّ وقعا عليه، وابتلاء لصبره، وإيمانه، وإيثاره لرسول الله صلى الله عليه وسلم- من هذا الأمر، الذي هيأ نفسه فيه لتقديم ابنته، وشرفه، على مذبح التضحية والفداء، فى سبيل الله، ومن أجل رسول الله.. إنه- رضوان الله عليه- لم ينظر إلى نفسه، ولا إلى ابنته، وإنما نظر إلى رسول الله، وما أصابه فى نفسه من هذا الأمر.. وإنه ليودّ مخلصا أن لو نزل طير من السماء، فاختطف ابنته، أو انشقت الأرض فابتلعتها، إذ كانت- فى نظره يومئذ- هى الشوكة التي شاك بها المشركون والمنافقون رسول الله.. وإنه لا شىء أبغض إلى الصديق- رضوان الله عليه- من شىء يجىء إلى رسول الله منه ما يسوؤه، ولو كانت نفسه التي بين جنبيه، أو كانت فلذة كبده.. عائشة، رضوان الله عليها! إن الصدّيق- رضوان الله عليه- لم يكن ينظر إلى تلك الفرية إلا من حيث ما أصاب الرسول منها من أذى.. وسواء أصحت عنده تلك التهمة أو لم تصح.. فإنها آذت النبيّ.. والصدّيق لا يهمه فى الدنيا شىء، إلا أن يرى النبىّ معافى من كل ضرّ، بعيدا عن كل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1234 أذى.. أما ما وراء ذلك- وإن عظم- فهو هين، يمكن أن تتحمله النفس وتصبر عليه.. ومن هنا ندرك، ما كان يعالجه الصدّيق من هموم، وما يعاينه من آلام! .. فهو- كمؤمن من المؤمنين، وأكثرهم حملا لأعباء الإسلام- قد أخذ بنصيبه الأوفى من تلك التهمة.. ثم هو كأكثر المؤمنين حبّا لرسول الله، وتعلقا به، وإيثارا له.. قد ذهب بالنصيب الأوفر منها.. ثم هو كأب لأم المؤمنين، وكسيد من سادات القوم، يحرص على شرفه- قد أخذ نصيبه كاملا منها.. ومع هذا كله، ومع تلك الأعباء الثقال التي حملها- فإنه- رضوان الله عليه لم ير النبىّ إلا ما يحبّ، ولم يسمعه إلا ما يرضيه.. وإنه لو استطاع أن يحمل عن النبىّ ما حمل من هذا الأمر لفعل.. ولكنه كان أبدا مع قوله تعالى: «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ» .. ومن هنا أيضا ندرك بعض السرّ فى أن كان من تدبير الله سبحانه وتعالى، ومن فضله العظيم على أبى بكر وإحسانه العميم إليه.. أن تتنزل رحمات الله على هذا البيت الكريم، الذي تعرض لهذه العاصفة الهوجاء المجنونة، وأن يطلع منه هذا النور السماوىّ الوهاج، الذي يفضح دعاة الإفك، ويخزيهم، ويسمهم بسمات الذلة، ويقيمهم فى قفص الاتهام إلى يوم الدين، حيث ينظر إليهم نظرة اتهام، كلّ قارئ لكتاب الله، مرتل لتلك الآيات البينات، التي نزل بها الروح الأمين على الرسول الكريم، فى بيت الصدّيق، وعلى مشهد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1235 منه، ومن أهله جميعا.. ففى زورة للرسول- صلوات الله وسلامه عليه- لآل أبى بكر، وهم فى هذه المحنة القاسية، وفى أثناء حديث مرير، حرج، مزعج، بين رسول الله، وبين أم المؤمنين- تهبّ على هذا الجمع الكريم ريح طيبة، كأطيب ما يكون الطيب، ويخلص إلى نفوس الجمع منها، أنفاس عطرة، تشيع السكينة، والأمن، والرضا، فيجد لها كل من ضمه هذا المجلس الطيّب فى رحاب هذا البيت الكريم- نغما علويا، يصدح بألحان مسعدة، تزفّ بين يديها آيات الله محمولة على أجنحة نورانية، ترف حول رسول الله، وتوشك أن تشتمل عليه.. ويمسك القوم عن الحديث بعد أن اتصل رسول السماء بالنبيّ، وتسكن الجوارح، وتبهر الأنفاس، وتتعلق الأبصار برسول الله، وما غشيه من هذا النور المتدفق من السماء.. ويأخذ الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- ما يأخذه من الوحى، والقلوب واجفة، والأبصار زائغة. والنفوس قلقة.. لا يدرى أحد ما جاءت به السماء، وما يكون لها من حديث عن هذا الحدث الصاعق! وإن كانت السيدة عائشة على إيمان وثيق بربّها، وعلى ثقة مطلقة بطهرها، وبراءتها- فإنها ما كانت تتوقع- كما كانت تحدث عن نفسها فيما بعد- أن ينزل فى شأنها قرآن، وأن تتنزل من السماء آيات تزكّيها، وتدمغ الباغين عليها!. فلما انفصل الوحى عن رسول الله، وسرّى عنه- نطق وجهه الكريم بشرا، ونورا، قبل أن ينطق لسانه بما نزل على قلبه من كلمات ربه.. وعرفت السيدة عائشة، ومن معها أن قرآنا قد نزل ببراءتها.. وما هى إلا لحظة- مرت كأنها دهر- حتى أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة قائلا: «أبشرى يا عائشة. أما الله عز وجل فقد برّأك» !! فقالت: بحمد الله لا بحمدك! الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1236 فقالت لها أمها: قومى لرسول الله صلى الله عليه وسلم.. فقالت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله عز وجل الذي أنزل براءتي» !! إنها ثورة الحرة على شرفها، وعلى شرف النبىّ الذي شرفت بزواجها منه، وعلى شرف بيت النبوّة الذي ضمّت إليه، وعلى شرف بيت الصديق الذي نبتت منه!!. وتهدأ العاصفة، وتخمد نار الفتنة، ويخرج أبو بكر وآله من هذه المحنة بأعظم مغنم، لم يكن لأحد من المؤمنين أن يشاركه فيه.. فقد نزل الوحى فى بيت أبى بكر، بستّ عشرة آية من القرآن الكريم، هى فى شأن أبى بكر، وبنت أبى بكر! لقد كان المسلمون يتعبدون فيما يتعبدون به من آيات القرآن الكريم، بقوله تعالى: «إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ، إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا.. فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها، وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى، وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (40: التوبة) - وإنهم منذ الآن ليتعبدون إلى آخر هذه الحياة الدنيا، بتلك الآيات الست عشرة أيضا.. وكأنّ ذلك استغفار متصل من المؤمنين جميعا لأبى بكر، وبنت أبى بكر، من هذا المنكر الذي جاءت به عصبة من المؤمنين!. وانظر إلى تدبير الله سبحانه، وإلى غيوث رحمته، وسوابغ فضله على المخلصين من عباده.. لقد كانت هجرة النبىّ، وإخراجه من بلده، والمسجد الحرام، غاية ما وصل إليه المشركون من إيذاء للنبىّ، فى مشاعره. وكان «الغار» على طريق الهجرة، الغاية القصوى لما كان يمكن أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1237 يبلغه المشركون من النبىّ وصاحبه الصديق، لو أنهم ظفروا بهما، وقد كانوا على بضع خطوات منهما!! وإنه ليس لهذه الآلام النفسية القاسية من شفاء إلا فى آيات الله، التي يقول سبحانه وتعالى فيها: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» .. (82: الإسراء) وقد نزل ما فيه الشفاء والرحمة: «إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ..» فأخذ أو بكر نصيبه من هذا من الشفاء والرحمة. وفى حديث الإفك، كان المنافقون ومرضى القلوب من المسلمين، يمثّلون دور المشركين فى مكة.. لقد آذوا النبىّ فى مشاعره، وفى الدعوة التي يقوم عليها، إذ أن هذا الحديث لو جرى إلى غايته، ولم تعالجه السماء بهذا الدواء الرباني، لكان معولا يهدم فى صرح الإسلام، الذي لم يتم بناؤه بعد، ولكان فى يد الذين يكيدون لهذا الدين حجة قوية عليه، فى عدوان أصحاب النبىّ على حرماته ومقدساته، لا يخافون عقاب الله، ولا يوقّرون الذي يدعوهم إلى الله.. ولكان لقائل أن يقول: إن أصحاب محمد هؤلاء، لو وجدوا فى هذا الدين، أو فى الداعية إلى هذا الدين ما يبعث فى قلوبهم خشية، أو توقيرا لما جرؤ أحدهم على فعل هذا الذي يجرى به هذا الحديث الأثيم! نعم.. لقد كان النبىّ، ومعه صاحبه أبو بكر، ومعه المؤمنون الصادقون، يجدون من وقع ألسنة الذين جاءوا بهذا الإفك، ما كانوا يجدونه وهم فى مكة على يد المشركين، وما يرمونهم به من ضرّ وأذى.. وكان فراق النبىّ للسيدة عائشة، وقبول انتقالها إلى بيت أبويها لتمرّض هناك وتستشفى مما ألمّ بها، أشبه بفراقه- صلوات الله وسلامه عليه- لبلده، وأهله، إلى حيث يطلب السلامة والعافية، فى مهاجره الذي هاجر إليه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1238 ثم كان بيت الصديق، الذي أوت إليه أم المؤمنين أشبه «بالغار» .. حيث كثر الطلب للحديث عنها، وعلت الأصوات الخافتة للقالة فيها، بعد أن خرجت من بيت النبىّ، إلى بيت أبويها.. ثم لم يكن لهذا البلاء العظيم إلا ما ينزل من رحمة السماء، حتى يردّ للنفوس الطاهرة اعتبارها، ويأخذ لها بحقها، ويجزيها الجزاء العظيم على صبرها واحتمالها.. فنزلت تلك الآيات الست عشرة، التي رفعت قدرا رفعه الله وأراد المنافقون ومن فى قلوبهم مرض أن ينالوا منه.. فكان أن زاده الله رفعة إلى رفعة، وشرفا إلى شرف، وذكرا باقيا خالدا على الدهر.. وهذا ما يشير اليه قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» .. وأي خير أعظم من هذا الخير؟ وأي شىء فى الدنيا كلها يعدله، أو يعدل بعضا منه؟ قوله تعالى: «لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ» .. لولا: حرف تحضيض، بمعنى هلّا.. فهو استفهام يراد به الحثّ على إتيان الأمر المستفهم عنه.. والمعنى: لقد كان من الخير لكم أيها المؤمنون وأيتها المؤمنات، إذ سمعتم هذا المنكر- أن تنكروه، وتردوه على أهله الذين جاءوا به.. حيث أن التي ترمى به، امرأة مؤمنة منكم، بل هى أم المؤمنين، وزوج الرسول الكريم.. وكل صفة من تلك الصفات هى وحدها أمان لها من الزلل والعثار، ووازع قوى يزعها عن الاعتداء على حدود الله، فكيف إذا اجتمعت لها هذه الصفات جميعها؟ .. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1239 وفى قوله تعالى: «ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً» أمور.. منها: أولا: الإشارة إلى تلك الرابطة القوية الوثيقة، التي تربط المؤمنين جميعا بعضهم ببعض، بحيث يكون ما يعرض لأحدهم من عارض يمسّه، فى نفسه، أو دينه، أو مقامه فى مجتمعه- هو مصاب يصاب به المجتمع المؤمن كلّه.. فالمؤمنون كما وصفهم القرآن الكريم «إِخْوَةٌ» كما يقول سبحانه: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» .. ثم هم كما وصفهم الرسول الكريم «جسد» بحكم هذا الرباط الأخوة الذي يربطهم، ويشد بعضهم إلى بعض.. يقول الرسول- صلوات الله وسلامه عليه «مثل المؤمنين فى توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر» . وثانيا: الإشارة إلى أن المؤمن حقّا، إنما ينظر إلى المؤمنين من خلال نفسه، فإذا كان على السلامة فى دينه، والاستقامة فى طريقه، رأى المؤمنين جميعا مثله، على تلك الصفة.. وهذا من شأنه أن يلفت المؤمن إلى نفسه أولا.. فإذا سمع عن مؤمن ما ينقص من إيمانه، أو ما يشير إلى انحراف فى سلوكه- ثم استقبل هذا الذي سمعه، ولم يضق صدره به، ولم تألم نفسه له- كان عليه أن يتهم إيمانه أولا، لأنّه قبل أن يدخل عليه هذا المنكر، الذي دخل على المؤمنين جميعا، وأضيف إليهم، بحكم الوحدة القائمة بينهم.. ثم إذا هو هشّ لهذا الذي سمعه، أو طار به فرحا- فليعلم أنه ليس من الإيمان إلا على حرف، وأنه موشك أن ينفصل عن الإيمان، ويقطع صلته بالمؤمنين.. ثم إذا هو لم يقف عند الحدّ، وأطلق لسانه بهذا المنكر الذي سمعه، وعمل على إذاعته، ونشره فى الناس- فليعلم أنه- مادام على تلك الحال- فهو ليس من الإيمان فى شىء، وأنه قائم على منكر، لا يجتمع هو والإيمان، فى كيان إنسان. وثالثا: الإشارة إلى أن المؤمن من شأنه أن يكون مبرّا من التهم، بعيدا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1240 عن مواطن الشبهات.. وأنه أبدا على هذه البراءة حتى تثبت إدانته.. أما قبل هذا، فإن كلّ كلمة سوء تقال فيه، هى إثم كبير، وبهتان عظيم.. يستحق قائل السوء فيه أن يساق إلى موقف الاتهام، وأن يطالب بالدليل القاطع على صدق ما يقول، وإلا فالحدّ فى ظهره.. تأديبا له، وقصاصا لحرمة هذا المؤمن، أو المؤمنة.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ» (194: البقرة) .. قوله تعالى: «لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ» . «لَوْلا» هنا للتمجيز، وليست للتحضيض.. إذ لم يكن من الممكن الإتيان بأربعة شهداء، يشهدون على هذا المنكر، لأنه إن أمكن اصطياد أربعة ممن يشهدون عليه زورا، فإن الزور سينفضح، حيث ستختلف أقوالهم، وتضطرب ألوان الصورة التي يصورون بها الواقعة المزورة، لأن كلا منهم يصورها حسب ما تمليه عليه أوهامه وخيالاته، وهيهات أن يلتقى وهم مع وهم، أو يجتمع خيال إلى خيال، وإن أحكموا فيما بينهم تدبير الأمر، وعملوا على سد الخلل فيه!! وفى قوله تعالى: «فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ» - إشارة إلى أنهم لم يأتوا بهم، لأن هذا الأمر لم يشهده أحد.. فقد كانت أم المؤمنين، وكان معها صفوان ابن المعطّل.. ولم يكن أحد غيرهما، وذلك على ما رأى المسلمون وغير المسلمين جميعا.. فأى شاهد يمكن أن يجىء ويقول: إنه شهد شيئا كان بين أم المؤمنين وصفوان؟. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1241 وهذا هو السر فى التعبير بالظرف «إذ» بدلا من أداة الظرف الشرطية «إذا» أو «إن» كما يبدو من ظاهر النظم.. وفى هذا ما يجعل هذا الخبر واقعا محققا، وهو قوله تعالى: «فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ» .. أي أن هؤلاء الذين جاءوا بهذا الإفك، موسومون عند الله بالكذب. وقوله تعالى: «فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ» .. هو ظرف تقع فى حيّزه الجملة الخبرية.. وتقدير النظم هكذا: هاتوا أربعة شهداء.. وإنه لا شهداء معكم، وإذن فأنتم عند الله الكاذبون، إذ أنكم لم تستطيعوا أن تجدوا من يشهد على افترائكم وبهتانكم. وفى قوله تعالى: «فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ» إشارة إلى أن هؤلاء الذين جاءوا بالإفك، ليسوا كاذبين عند الناس، وحسب، بل إنهم فى حقيقة الأمر كاذبون فعلا.. وهذا ما سجله الله عليهم، ووصفهم به فقد يكون الإنسان فى نظر الناس كاذبا فى حديث تحدث به، أو شهادة شهد بها، وهو فى واقع الأمر صادق.. وإن لم تقم قرائن للناس منهم، حين لم يكن معهم شاهد على بهتانهم.. قوله تعالى: «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ» . أفاض فى الأمر: أي بالغ فيه، وأكثر منه. وأفاض فى الحديث: توسّع فيه، وجاوز الحد.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1242 والخطاب موجه إلى المؤمنين جميعا، وأنهم يحملون شيئا من وزر هذا الحديث الآثم، الذي تردد فى آفاقهم، وأن الذين لم يشاركوا فيه، ولم يستمعوا له، وقد مسّهم شىء من ريحه الخبيثة.. فهؤلاء الآثمون الذين افتروا هذا البهتان العظيم، هم بعض هذا المجتمع الكبير.. وأنه لو وقع بهم بلاء الله، لأصاب رذاذه من لا ذنب له من المؤمنين. ولكن فضل الله سبحانه وتعالى على المؤمنين، وإحسانه إليهم، قد اتسع لهؤلاء المذنبين، فشملهم.. وبدلا من أن يقع البلاء بالمذنبين، ويتسرب إلى غيرهم من المؤمنين، أراد الله للمؤمنين الحسنى، فجعل إحسانه إلى المؤمنين، وقاية من إساءة المسيئين، ثم جعل من هذا الإحسان شيئا ينال الآثمين، فلم يعجّل لهم العذاب فى الدنيا، بل مدّ لهم فى هذه الحياة، ليجدوا فرصتهم فى التوبة إلى الله، وقد تاب كثير منهم، وقبلت توبتهم، وحسن إيمانهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» .. قوله تعالى: «إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ» . تلقونه بألسنتكم: أي يلقيه بعضكم إلى بعض، وتتداوله الألسنة، كما تتداوله الأيدى الأشياء فيما بينها! وهذا يعنى، أن حديث الإفك الذي تداوله المتداولون بينهم، لم يكن إلا بضاعة رخيصة من لغو الكلام، الذي تتحرك به الألسنة وحدها، دون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1243 أن يكون له دافع من عقل أو رأى.. إنه حركة آلية، لا يشترك فيها من كيان الإنسان إلّا اللسان.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ» - أي أن هذا الحديث المدار بينكم فى هذا الأمر، هو حديث ألسنة، لا تنطق عن علم، ولا تأخذ عن عقل، أو منطق.. إنه حديث لسان يأخذ عن لسان، حتى دون أن يمر على الأذن! «إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ» . وإنه لإعجاز من القرآن الكريم هذا التصوير المعجز الشائعات السوء، حين تجد من الناس آذانا مصغية إليها، ونفوسا مستجيبة لها.. إنها حينئذ تنطلق فى سعار وجنون، بحيث لا تدع للناس فسحة من الوقت يتلقونها بآذانهم، ثم يديرونها فى عقولهم ومشاعرهم، ليكون لهم خيار فى قبولها أو ردها، بل إنه يلقى بها على ألسنتهم خلقا مصنوعا، مجهزا للتعامل به على صورته تلك.. إنها كلمات مردّ الحكم فيها إلى الألسنة.. فلتذقها الألسنة إذن، ولتحكم عليها بما تذوق منها.. وإن كثيرا من الناس، ليقفون بالكلام على حدود ألسنتهم، ويفوّضون لها الأمر فيما تقبل منه أو ترفض.. وإن لكلمات السوء لحلاوة على ألسنة أهل السوء والفساد، يترشفونها كما يترشفون الماء البارد على ظمأ، فى يوم قائظ!. وفى قوله تعالى «وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ» تحذير لهؤلاء الذين يستخفّون بالكلمة، وينفقون من رصيد ألسنتهم بغير حساب.. ظانين أن ذلك لا يضيرهم فى شىء أبدا، ما دام الذي ينفقون لا يكلّفهم جهدا أو مالا.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1244 وهذا ظن خاطئ.. فالكلمة ليست مجرد صوت ينطلق من فم، وإنما هى- فى حقيقتها- رسالة من الرسالات إلى عقول الناس، قد تكون طيبة، فتحمل إليهم الخير والهدى، وقد تكون خبيثة، فتسوق إليهم البلاء والهلاك.. وقد ضرب الله مثلا للكلمة الطيبة فقال سبحانه: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها» .. وكذلك ضرب الله مثلا للكلمة الخبيثة، فقال سبحانه: «وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ» (24- 26: إبراهيم) .. فالكلمة فى حساب المبطلين، والمفسدين، وأصحاب النفوس المريضة، والعقول الفارغة- شىء رخيص، لا وزن له، ولا ثمن للقليل أو الكثير منه.. وهى عند أهل الرأى والعقل، والحكمة، والإيمان.. شىء عظيم، هى آية الله فى الإنسان.. بها كان إنسانا، وكان خليفة الله فى الأرض.. وبالكلمة خلق الله السموات والأرض، وما فيهن ومن فيهن.. وبالكلمة صاغ الإنسان هذه المصنوعات التي ملأ بها وجه الأرض. فلولا الكلمة ما ولدت الأفكار، ولولا الأفكار ما ظهر للإنسان عمل أكثر من عمل الحيوان على الأرض.. وهذا الحديث الآثم، الذي انطلق فى آفاق المدينة، وتداولته بعض الألسنة فى غير تحرج أو تأثم، هو أخبث ما تنطق به الأفواه من كلم، إذ كان زورا وبهتانا، وافتراء على الحق فى أرفع منازله، وعدوانا على الطهر فى أشرف مواطنه.. قوله تعالى: «وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا.. سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ» .. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1245 هو بيان من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين الذين خاضوا فى هذا الحديث، أو استمعوا له، أو سكتوا عنه، وتوجيه لهم إلى الموقف الذي كان ينبغى أن يقفوه من هذه الفتنة، وتلقين لهم بالكلمة التي كان يجب أن يلقوا بها هذا البهتان العظيم. فليس للمؤمن إلا موقف واحد من هذا الحديث، وهو إنكاره، وبهت المتحدثين به، ووضعهم موضع التهمة بالكذب والافتراء.. وفى قوله تعالى: «إِذْ سَمِعْتُمُوهُ» - إشارة إلى أن الأمر لم يكن إلا حديثا يدار على الألسنة، ويلقى به على الأسماع، وأنه لم يكن عن رؤية ومشاهدة.. وفى قوله تعالى: «ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا» إشارة أخرى إلى أن هذا الحديث الآثم، لا ينبغى لمؤمن أن ينطق به، لأنه عدوان على النبىّ، وجرح غائر لمشاعره، وإيذاء شديد له.. وليس مؤمن ذلك الإنسان الذي يسوق إلى النبي شيئا يسوءه، أو يخدش مشاعره.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (61: التوبة) . فلو فرض وكان هذا الأمر على شىء من الحقيقة- فإن الإيمان بالله ورسوله يقتضى المؤمن أن يدفع هذا السوء الذي يعرض للنبى، وأن يتلقاه دونه، ويحمله عنه.. إن وجد إلى ذلك سبيلا.. أما أن يكون خطبا يزيد النار اشتعالا، فذلك هو الذي لا يجتمع معه إيمان، ولا يبقى معه دين.. لأن الإيمان ولاء، وحب وتقديس، والدين عبادة وصلاة وتسبيح.. قوله تعالى: «يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1246 هو دعوة كريمة من رب كريم، إلى المؤمنين، ألّا يعودوا إلى مثل هذا الأمر، وألا يخوضوا فى أعراض المسلمين، وألا يجعلوا لكلمة السوء مكانا فى قلوبهم، أو موضعا على ألسنتهم، أما هذا الحديث الذي حدث، فالله سبحانه وتعالى، قد عاد بفضله على الذين عضهم الندم، وجاءوا إلى الله تائبين مستغفرين.. فالخطاب هنا موجه إلى كل من كان له مشاركة فى هذا الأمر، من قريب أو بعيد. وفى قوله تعالى: «يَعِظُكُمُ اللَّهُ» - إشارة إلى أن الذين اشتركوا فى هذا الحديث لم يهلكوا بعد، وأنهم مدعوون إلى أن يستمعوا إلى ما يوعظون به، فإن قبلوا الموعظة وعملوا بها نجوا، وإلا فهم فى الهالكين. وفى قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» إشارة إلى أن الذين توجّه إليهم هذه العظة إنما هم الذين يحرصون على الإيمان، ويدفعون عن أنفسهم كل ما يشين إيمانهم، أو ينقصه. قوله تعالى: «وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» . هو إشارة إلى أن ما وعظ به المؤمنون فى الآيات السابقة، هو ما اقتضته رحمة الله بالمؤمنين، ببيان الشبهات التي تعرض لهم، وبألا يؤخذوا بالعقاب قبل أن يبلّغوا البلاغ المبين، الذي لا شبهة فيه.. وفى هذا يقول سبحانه: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ» (115: التوبة) .. وذلك عن علم العليم، الذي يعلم من عباده ما لم يعلموا، ومن حكمة الحكيم، الذي كشف بالعلم طريق الهدى لعباده، ليكونوا بهذا العلم أهل حكمة وبصيرة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1247 قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» . هو تعقيب على هذا الحدث العظيم، بالتنبيه إلى أن الذين يحبون أن تفشو الفاحشة، وتشيع الفتنة فى مجتمع المؤمنين- هؤلاء لهم عذاب أليم فى الدنيا، وذلك بأنّ يؤخذوا بما رصد من عقاب لأولئك الذين يرمون المؤمنين بغير ما اكتسبوا.. ثم إن لهم عذابا أشد وأنكى من هذا العذاب، فى الآخرة. وإشاعة الفاحشة فى المجتمع من يكون أكثر من وجه. - بالإقدام على الفاحشة، والتعامل بها.. - أو بالمعالنة بإتيان الفاحشة من مرتكبها، أو التحدث بها إلى الناس، وإفشاء ما ستر الله منه.. - أو بإذاعة الأحاديث عن الفاحشة، سواء أكان ذلك فى أهل الفاحشة أم فى غيرهم. - أو بالإصغاء إلى حديث الإثم، وترك المتحدثين به، يثرثرون، دون أن يردعهم رادع، أو يمسك ألسنتهم أحد.. فهذه الوجوه، وما يدخل مداخلها، كلها مما تشيع به الفاحشة فى المجتمع، قولا، وفعلا.. وأنها إذا لم تؤخذ عليها السبل، من أول الأمر، استشرى شرها، وعظم خطرها، واتسعت دائرتها، حتى ليصبح المجتمع كله واقعا فى قبضتها.. إنها أشبه بالنار، تكون أول الأمر شرارة، فإذا هى لم تعالج فى الحال، اندلعت ألسنتها، وعلا لهيبها، وصارت حريقا عظيما، لا يقف له شىء، ولا يدفعه شىء، فتقع الجماعة كلها تحت الخطر الذي ترمى به.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1248 وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» تحذير للذين يستمعون لقالة السوء، ويعطون آذانهم لمن يلقون إليهم بها.. فأكثر هذه المقولات كذب، وبهتان، ورجم بالغيب، ورمى بالظنون.. وأكثر ما يدفع المتقولين إلى ركوب هذا المركب الآثم، هو ادعاؤهم العلم بخفايا الأمور، وأنهم يعلمون ما لا يعلم الناس.. وهذا ليس من العلم فى شىء حتى وإن كان صدقا، فما هو إلا قشور من قشور العلم، أما العلم الحق، فهو ما يعلمه الله: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» .. قوله تعالى: «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» لولا: حرف امتناع لوجود.. أي امتناع تحقيق جوابها، لوجود شرطها.. ولولا هذا الشرط لتحقق الجواب ووقع.. وجواب الشرط هنا محذوف، وتقديره، ولولا فضل الله عليكم ورحمته، وأنه رءوف رحيم بكم، لأخذكم بعذابه على هذا الأمر العظيم الذي وقعتم فيه، وخاض فيه الخائضون منكم.. الآيات: (21- 26) [سورة النور (24) : الآيات 21 الى 26] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1249 التفسير: قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» . هذه الآية وما بعدها إلى الآية (26) - هى مما يتصل بحديث الإفك، ويدور حوله، ليطفىء النار المشتعلة منه، ويذهب بدخانها الذي انعقد فى سماء المجتمع الإسلامى كلّه.. والآية هنا تنهى المؤمنين عن أن يتبعوا خطوات الشيطان، وأن يستجيبوا له فيما يدعوهم إليه، فإن دعوته لا تكون إلا إلى شر وبلاء.. «فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1250 وإن مما يدعو إليه الشيطان ويأمر به، ويزينه للناس، هو إطلاق الألسنة بالسوء والفحشاء، تنهش فى أعراض المؤمنين، وتشيع الفاحشة فيهم.. فمن أراد أن يكون فى المؤمنين حقا، فليمسك لسانه عن لغو الحديث، وليصمّ أذنيه عن سماع كلمات السوء والفحش فى المؤمنين، فإنه إن لم يفعل، واستمع إلى كلمات السوء والفحش، ثم أطلق لسانه بها كان فى ركب الشيطان، يجرى وراءه، ويتبع خطواته، مع أولئك الذين استجابوا للشيطان ووقعوا فى شباكه.. وقوله تعالى: «لَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً» .. ما زكى: أي ما طهر، وما خلص من الرجس، والإثم، وصار طيبا زكىّ النفس بعد أن تطهر، وأزال ما علق به من ريح خبيثة بما اقترف من إثم.. فالزكاة تجىء بعد الطهر وغسل القذر.. وهذا يعنى أن الناس جميعا هم أبناء الخطيئة، وأنهم جميعا- بما ركّب فيهم من طبيعة حيوانية- معرّضون للزلل، وللوقوع فى الخطايا والآثام.. كما يقول الرسول الكريم: «كل ابن آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون» .. ولكن الله سبحانه وتعالى بفضله ورحمته بعباده، قد جعل لهم مطهّرا يتطهرون به من آثامهم التي تعلق بهم، وهم على طريق الحياة.. وذلك عن طريق العبادات والطاعات والقربات.. فالصلاة مثلا، هى مطهرة لما بين الفريضتين. كما فى الحديث: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهنّ ما لم تغش الكبائر» وقد شبهها الرسول الكريم بنهر جار، يغتسل فيه المصلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1251 خمس مرات فى اليوم، فقال صلوات الله وسلامه عليه: «أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم، يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شىء؟» قالوا: لا يبقى من درنه، قال «فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا» . والزكاة، مطهرة ... شأنها فى هذا شأن الصلاة، كما يقول الله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها» (103: التوبة) .. وهكذا الصوم، والحج،.. وكل طاعة، وكل قرية، هى مما يتطهر به الإنسان ويتزكى من ذنوبه وآثامه.. هذا إلى «التوبة» التي هى الباب الواسع الذي يدخل منه الآثمون جميعا إلى رحمة الله ومغفرته، فمن صحت توبته، صار نقيا طاهرا، كيوم ولدته أمه.. «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ» (222: البقرة) . وهذا كله مما يفتح للمؤمن الطريق إلى أن يكون فى الطاهرين الزاكين، الذي يدخلون مع الداخلين فى قوله تعالى: «وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ» . وقوله تعالى: «وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» هو بيان للراغبين فى الطّهر والتزكّى، وذلك بالانخلاع عما هم فيه من منكرات، والرجوع إلى الله، والتقرب إليه، بالعبادات والطاعات.. والله سبحانه وتعالى «سَمِيعٌ» لما تنطق به أفواههم، وما تتحدث به خواطرهم «عَلِيمٌ» بما فى قلوبهم من إخلاص فى العمل، وصدق فى التوبة.. قوله تعالى: «وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1252 وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا.. أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» . «وَلا يَأْتَلِ» : أي ولا يمتنع، أو يقصّر. هذه الآية الكريمة، نزلت فى أبى بكر الصديق- رضى الله عنه- وكان قد حلف ألّا ينفق على «مسطح» بعد أن خاض مع من خاضوا فى حديث الإفك. وكان مسطح قريبا لأبى بكر، وقد هاجر فيمن هاجر إلى المدينة، وكان فقيرا، يعينه أبو بكر، وينفق عليه من ماله، وقد انزلق مسطح إلى هذا المنحدر، وكان رأسا من رءوس الخائضين فى هذه الفتنة. وفى هذه الدعوة السماوية لأبى بكر، تكريم عظيم له، وإعلاء لمنزلته عند الله.. إذ دعاه الحق سبحانه وتعالى إلى التي هى أحسن، وهو أن يلقى السيئة بالحسنة، ويدفع الشر بالخير.. وهذه المنزلة عالية لا ينالها، إلا من أراد الله لهم الكرامة والإحسان.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» (35: فصلت) . ومن وجهة أخرى، فإن الله سبحانه وتعالى أرى أبا بكر المثل الأعلى فى ذاته سبحانه وتعالى، إذ وصف ذاته سبحانه هنا بقوله: «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .. أي فكن ربانيا أيها الصديق، وكن غفورا رحيما، أيها الإنسان المبارك، لأنك عبد لربّ غفور رحيم.. ومن شأن العبد الصالح أن ينظر إلى سيده، ويتّبع سبيله.. وليس هذا فحسب، بل إنه تعالى نادى عبده، ودعاه إلى رحاب المغفرة بقوله: «أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ» ؟ ومن ذا الذي لا يحب أن يغفر الله له؟. ولهذا كان جواب أبى بكر على هذا النداء الكريم، وتلك الدعوة المباركة: «بلى والله يا ربنا، إنا لنحب أن تغفر لنا» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1253 ثم إن فى وصف «مسطح» بقوله تعالى: «أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» - إثارة لأكثر من عاطفة تعطف أبا بكر على الإنسان الذي آذاه فى شرفه.. فهناك عاطفة القرابة، ثم عاطفة الحاجة والمسكنة، ثم عاطفة الهجرة فى سبيل الله.. وكل واحدة منها تدعو إلى الرحمة والمغفرة، فكيف إذا اجتمعن جميعا فى هذا الإنسان الذي أوقعه سوء حظه فيما وقع فيه؟ إن هناك لأكثر من داعية تدعو إلى إقالته من عثرته، والتجاوز عن مساءته.. قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» . هو وعيد لأولئك الذين لم يمسكوا ألسنتهم بعد عن الخوض فى هذا الحديث، والذين لا زال فى أنفسهم بقية من شك فى براءة أم المؤمنين وطهرها.. فهى- كما وصفها الله سبحانه، وتعالى- المحصنة، أي الطاهرة المبرأة من السوء، وهى الغافلة عن هذا المنكر، فلم يطف بها، ولم يقع فى خطرة من خطرات نفسها، وهى المؤمنة، الكاملة الإيمان، المتحصّنة بإيمانها الوثيق، الذاكرة لجلال ربها وخشيته.. وفى كل صفة من هذه الصفات عاصم يعصم المتصف بها من الزلل، والوقوع فى هذا المنكر.. وكيف وقد اجتمعن جميعا، فى أمّ المؤمنين، الصديقة بنت الصديق، والحبيبة بنت الحبيب إلى رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه؟ - وقوله تعالى: «لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» - هو الجزاء الذي يلقاه كل من يخوض فى أعراض المؤمنين والمؤمنات، ويرميهم بالفاحشة، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1254 كذبا، وبهتانا.. فالحكم عام، قائم أبدا الدهر، وإن كان مساقا فى معرض الحديث الآثم، الذي رميت به أم المؤمنين من المنافقين والذين فى قلوبهم مرض. وأنه إذا كان أناس ممن خاضوا فى هذا الحديث قد تابوا، وأنابوا إلى الله، واستغفروا لذنبهم، فقبلهم الله، وغفر لهم- فإن هناك أناسا آخرين، قد هلكوا بهذا الحديث، إذ أمسكوا به فى أنفسهم.. فهؤلاء: «لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» . قوله تعالى: «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ» . الظرف هنا «يَوْمَ» متعلق بقوله تعالى: «وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» ، أي لهم عذاب عظيم، فى الآخرة، يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.. فهؤلاء الذين جاءوا بهذا الإفك، وماتوا به، وأبوا أن يشهدوا على أنفسهم فى الدنيا، وبأنهم كانوا كاذبين مفترين- هؤلاء، ستنطق ألسنتهم فى الآخرة بما أبت أن تنطق به فى الدنيا، وتقوم شاهدة عليهم بأنهم كانوا كاذبين مفترين، وإنهم ليؤخذون بإقرارهم هذا، وبما شهدت به عليهم ألسنتهم، التي خرست فى الدنيا عن قول الحق، وانطلقت تهذى وتعوى بالزور والبهتان.. ثم إلى جانب شهادة ألسنتهم عليهم فى الآخرة بما نطقوا به فى الدنيا من زور وبهتان- تقوم أيديهم وأرجلهم شاهدة عليهم بما عملوا من منكر.. فاليدان، والرجلان شهود أربعة، تشهد على هذا الادعاء الذي يدعيه اللسان على صاحبه.. وكأن هذا اللسان متهم عند صاحبه، لأنه لم ينطق أبدا إلا بالزور والبهتان.. فإذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1255 جاء صاحبه ليردّ شهادته عليه، قام من كيانه شهود أربعة، كلها تصدق هذا اللسان، الذي لم يصدق أبدا إلا فى هذا الموقف! وهذا هو بعض السر فى تقديم اللسان على الأيدى والأرجل فكأنه هو المدّعى، وكأن شهوده على دعواه.. اليدان والرجلان! ثم إنما قامت الشهادة عليهم، أخذوا بذنبهم، جزاء وفاقا. قوله تعالى: «الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ.. لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» . تعرض الآية الكريمة هنا دليلا من واقع الحياة، يشهد لما نطقت به الآيات من براءة أم المؤمنين، مما رمتها به الألسنة الآثمة من زور وبهتان.. فالسيدة عائشة، نبتة طيبة، نبتت فى بيت طيب، لم يعرف عنه فى الجاهلية شىء مما كان يأتيه الجاهليون، من استعلان بالفجور ومباهاة به.. بل كان هذا البيت، أشبه بنسمة رقيقة، بين هذه العواصف التي تدوّم وتصخب فى بيوت الجاهلين، من سفك دماء، واعتداء على الحرمات، حتى إذا جاء الإسلام كانت أول يد تصافحه، وأول قلب يتفتح له، هى يد أبى بكر الصديق، وهو قلب أبى بكر الصديق.. وما ذاك إلا لأن طبيعته كانت مسلمة، أو أقرب إلى الإسلام، من قبل أن يجىء الإسلام، حتى إذا كان أول صوت يؤذّن بدعوة الإسلام، كان أبو بكر أول المستجيبين له، والمتجهين إليه، حتى لكأنه كان على توقّع له، وتطلع إليه..!! فمن ظهر هذا الرجل الكريم النبيل جاءت «عائشة» ، وفى بيت هذا الرجل الطاهر العفّ نشأت «عائشة» .. ثم كان أن انتقلت السيدة عائشة، وهى لا تزال فى إهاب الطفولة- انتقلت من هذا البيت الطاهر الكريم، إلى البيت الأكرم بيت النبوة.. فكان فى هذا البيت القدس مرباها فى طفولتها، وصباها، وشبابها. فشهدت فيه منذ صباها الباكر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1256 أنوار السماء تنزل على النبي، فيغمرها هذا النور البهىّ، ويملأ قلبها ووجدانها، علما، وحكمة، وطهرا.. فكانت بهذا، المرأة التي أخذت بحظ النساء جميعا من هذا الخير المنزل من السماء.. وكأنها الشاهد القائم على أن المرأة شريكة للرجل حتى فى مقام النبوة، التي إن اختص بها الرجال فكان منهم الأنبياء، فإن النساء لم يحرمن حظهن منها، فكان منهن حواريو الأنبياء!! فامرأة هذا شأنها، وذلك هو منبتها، ومرباها، يكون من البعيد بعد المستحيل، أن تزلّ وأن تسقط، وأن تأتى من المنكر ما تأباه الحرّة، على شرفها وخلقها، ومروءتها..! ومن جهة أخرى.. فإن الله الذي اصطفى النبي لحمل رسالة السماء، وصفّى جوهره من كل شائبة، حتى لقد كان نورا أقرب إلى هذا النور الذي ينزل عليه وحيا من ربه- إن الذي اصطفى محمدا لهذا، قد اصطفى له- فيما اصطفى- أزواجه، وأصحابه، ومواليه، ومن كان على صلة قريبة مدانية له.. وقد كانت السيدة عائشة، أقرب المقربين إلى رسول الله، وأشدّهم صلة به، وأكثرهم اطلاعا على سره وعلانيته. فهى- والأمر كذلك- أصفى من اصطفى الله سبحانه وتعالى من النساء- إن لم يكن من الرجال- لصحبة نبيه، ومرافقته رفقة ملازمة، فى أخطر دور من أدوار رسالته، وأكثرها ازدحاما والتحاما بالأحداث!. فإذا جاء قوله تعالى: «وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ» كان مفهوم هذا واضحا أتمّ وضوح وأبينه، فى التقاء السيدة عائشة بالنبيّ، وصحبتها له، وجعلها زوجا يسكن إليها، ويسعد بصحبتها.. إنها طيبة أطيب الطيبات، لا تكون إلا لطيّب بفضلها طيبا، وإن صاحبها لطيب، أطيب الطيبين، لا يتصل به، ولا يدخل فى حياته إلا طيبة، أشكل الطيبات به، وأقربهن طيبا إلى طيبه!. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1257 فإذا كان فى الحياة طيب، وعفة، وطهر، فهنا الطيب، والعفة والطهر، وإذا كان فى النساء امرأة لا تزلّ، وأنثى لا تأثم، فهى هذه المرأة، وهى تلك الأنثى!! .. هذا هو منطق الواقع، فيما تنطق به الحياة، فى مختلف البيئات، وفى كل الأزمان.. الطيّب لا يقبل إلا طيبا، من قول أو عمل، أو زوج أو صديق.. والخبيث لا يقبل إلا الخبيث، من قول أو عمل، أو زوج، أو صاحب،.. وهذا ما يشير إليه الحديث: «الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تنافر منها اختلف» .. وفى الآية أمور.. فأولا: قدّم «الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ، وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ» على «الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ» .. وذلك لأن الخطاب موجه أولا إلى أولئك الذين خبثوا نفسا، ودينا، فأطلقوا ألسنتهم فى الطيبات والطيبين من المؤمنين، وأنهم لو لم يكونوا على تلك الصفة لظنوا بالمؤمنين والمؤمنات خيرا، ولكانوا يقولون إذ سمعوا اللغط بهذا الحديث: «ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا.. سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ» كما وصّى الله المؤمنين بذلك، ودعاهم إليه.. وثانيا: قدّمت المرأة على الرجل هنا فى الحالين: الخبث والطّيب.. وذلك لأن المرأة هى التي يطلب لها كفؤها من الرجال، فلا يصح أن تتزوج بمن هو أنزل منها شرفا وقدرا.. والكفاءة هنا منظور إليها من ناحية التقوى، والعفة، والطهر.. فالخبيثة، كفؤها من هو أخبث منها خبثا.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1258 والطيبة، كفؤها من هو أطيب منها طيبا.. وثالثا: الإشارة فى قوله تعالى: «أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ» .. تشير إلى من مسهم شىء من هذا الحديث الآثم، وهم الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- وعائشة- رضى الله عنها، وأبواها، وصفوان بن المعطل.. فهؤلاء قد برأهم الله من كل دنس، وعافاهم من كل سوء، ودمغ بهذا القول الزائف الآثم أهله.. على حين أجزل الثواب العظيم، والرزق الكريم لمن مسهم هذا القول بضرّ: «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» .. الآيات: (27- 29) [سورة النور (24) : الآيات 27 الى 29] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29) التفسير: جاءت هذه الآيات الثلاث، بعد حديث الإفك، الذي كان المدخل إليه، هو هذا الحديث الذي شغل السيدة عائشة عن أن تكون فى الركب، وقد لقيها على الطريق صفوان بن المعطل، فحملها على بعيره، وألحقها بكرب الرسول.. فكان المنافقين، ومن فى قلوبهم مرض أن ينظروا إلى هذه الحادثة بنفوس الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1259 مريضة، وأهواء متسلطة، وأن يعموا عن هذا الجوهر الكريم المصفّى الذي ينظرون إليه.. سواء فى ذلك أم المؤمنين، أو الصحابىّ الذي كان فى خدمتها.. نقول- جاءت هذه الآيات الثلاث، بعد حديث الإفك لتقيم المسلمين على أدب خاص، يتصل بالبيوت وحرمتها، حتى لا تكون مظنّة لريبة، أو موضعا لتهمة.. ذلك والنفوس- إذ تستقبل هذه الآيات- مهيأة لقبول كل ما يدفع التهم، وينفى الرّيب، بعد تلك التجربة القاسية التي عاشها النبىّ، وزوجه، وصديقه الصديق، وصحابته، وصالحو المؤمنين.. قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» فهذا أول مادة فى دستور هذا الأدب الربانىّ، فى تزاور المسلمين، وتواصلهم بلقاء بعضهم بعضا فى البيوت.. وهو ألّا يدخل أحد بيتا غير بيته حتى يستأنس، ويسلم على أهله.. والاستئناس، هو طلب الأنس، وإزالة الوحشة، وذلك باستئذان أهل البيت، ولقاء من يلقاه منهم على باب الدار، فإذا لقيه أحد سلم عليه.. فإن أذن له بالدخول دخل، وإن لم يأذن له رجع.. وهذا ما يشير إلى قوله تعالى: «فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ.. وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ» . وفى قوله تعالى: «فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ» أي لا دخول الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1260 أبدا إلا بعد إذن.. فإن لم يكن أحد فى البيت فلا دخول أبدا.. وإن كان فى البيت أحد، فلا دخول إلا بعد التسليم، والإذن.. وفى قوله تعالى: «هُوَ أَزْكى لَكُمْ» أي هذا الموقف هو أزكى لكم، وهو أن لا دخول أبدا إذا لم يكن أحد، وأن لا دخول إذا كان أحد إلا بعد تسليم وإذن. والضمير «هو» يعود إلى مصدر مفهوم من قوله تعالى «فَارْجِعُوا» أي فالرجوع أزكى لكم، فإن الدخول بغير إذن هو تطفّل، وعدوان على حرمات غيركم، فقد يكون عدم الإذن لكم راجعا إلى أن الذي تريدون لقاءه لا يريد لقاءكم، أو قد يكون لأنه فى أمر لا يحبّ أن تطلعوا عليه منه.. أو نحو هذا.. فالبيوت ستر لأهلها، ودخولها بغير إذن ابتداء، هو أشبه باللصوصية، أما إن كان الدخول بعد طلبكم الإذن، ثم لم يؤذن لكم فهو اعتداء صارخ، فوق أنه تطفّل وصغار! - وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ» تحذير لمن تحدثهم أنفسهم بانتهاك حرمات الله، أو لا يأتمرون بهذا الأمر، الذي أمرهم الله به، وأدّبهم بأدبه. قوله تعالى: «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ» . هذا استثناء من الأمر العام بالاستئذان قبل دخول البيوت، وبهذا الاستثناء يفهم أن المراد بهذه البيوت هى البيوت المسكونة، وهى التي يكون الحرج واقعا على من يدخلها بغير إذن.. أما البيوت غير المسكونة، كالأمكنة العامة، مثل النّزل، والمطاعم، ونحوها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1261 فلا حرج فى دخولها بغير إذن.. إذ كانت طبيعتها لا تقتضى إذنا، بل إنها تستدعى الواردين إليها، وأبوابها مفتوحة لهم دائما.. والمراد بالمتاع فى قوله تعالى: «فِيها مَتاعٌ لَكُمْ» هو المنفعة والحاجة، وليس المراد أن يكون لهم فيها أمتعة. - وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ» إشارة إلى أن هذا الأدب المطلوب رعايته فى دخول البيوت المسكونة- هو مما يقضى به الظاهر، وليس امتثاله، والدخول بعد الاستئذان، مما يحلّ المؤمن من غضّ البصر، ورعاية الحرمات، وحفظ أسرار البيوت، وما يطلع عليه الذي يدخلها من شئونها وما يجرى فيها- فإن لهذا كلّه حسابه عند الله، الذي يعلم ما نخفى وما نعلن، وهو يحاسب على كل ما نقول أو نعمل فى علن وسرّ.. الآيات: (30- 31) [سورة النور (24) : الآيات 30 الى 31] قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1262 التفسير: هاتان الآيتان تشرحان تلك الإشارة الخفية التي جاءت فى قوله تعالى فى الآية السابقة عليهما فى قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ» .. حيث جاءت الآيتان تدعوان إلى غضّ الأبصار، وحفظ الفروج، وهى أمور تقع غالبا فى خفاء وستر.. فجاءت الآيتان تصرحان بالأمر بما هو مطلوب من المؤمن، والمؤمنة، وهو غض البصر، وحفظ الفرج.. وقوله تعالى: «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ» . الخطاب موجّه إلى المؤمنين، الذين هم بحكم إيمانهم بالله، ومراقبتهم له، أهل لأن يمتثلوا أمر الله ويستجيبوا له.. وغضّ البصر، هو كسره، وعدم ملء العين من النظر إلى المحرمات من النساء، مخالسة، أو معالنة.. فإن النظر هو رسول الشيطان إلى تحريك الشهوة، والدعوة إلى الفاحشة.. وقدّم الرجال على النساء، لأن النساء، عورة، والنظر إليهن يدعو إلى الفتنة أكثر من نظر النساء إلى الرجال.. وقوله تعالى: «وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1263 عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» . هذه الآية موجهة إلى النساء، وإلى ما ينبغى أن يأخذن أنفسهن به، من أدب، واحتشام، حتى لا يتعرضن للفتنة، أو يقعن تحت دائرة الشك أو الاتهام.. وأول ما يأخذن به أنفسهن، هو أن «يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ» .. هذا هو الأمر العام، الذي يطلب منهن امتثاله، فلا تملأ المرأة عينها من رجل غير محرم لها، وأن تحفظ فرجها.. فهذا وذاك أمانة هى مؤتمنة عليها، وليس من سلطان عليها، إلا دينها وضميرها، وعفّتها.. وقد اقترن الأمر بغض الأبصار بحرف من الذي يفيد التبعيض، لأنه لا يمكن أن يغضّ البصر، ويقفل قفلا تامّا، ولهذا لم تجىء من التي للتبعيض مع حفظ الفروج، لأن الحفظ هنا لا أبعاض له.. ثم هناك أمور.. هى ذرائع إلى الفتنة والإغراء بها، من جانب الرجال.. فعلى المرأة أن تسدّ هذه الذرائع وتغلق هذه النوافذ، التي تطلّ بها الفتنة منها على الرجال، فتكون بذلك داعية فتنة وإغراء بالفتنة سواء قصدت إلى هذا أم لم تقصده.. وهذه الذّرائع هى ما جاء مفصلا فى الآية على هذا الترتيب: - «وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها» .. أي لا يكشفن من أنفسهن إلّا ما لا سبيل إلى ستره وإخفائه، كالعينين، والكفّين، والقدمين. فالمرأة كلّها «زينة» فى عين الرجل.. حتى صوتها.. ولكن الشريعة الإسلامية نافية للحرج.. وأمر المرأة بإخفاء كيانها كلّه، مما لا تحتمله النفوس، ولا تقبله الحياة.. ومن هنا كان الاستثناء بقوله تعالى: «إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها» أي إلّا ما لا بدّ من ظهوره، حتى تعيش المرأة فى الحياة، وتشارك فيها، فتنظر بعينيها وتعمل بيديها، وتسعى بقدميها.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1264 - «وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ» . الضرب: وضع الشيء على الشيء فى إحكام. والخمر: جمع خمار، وهو ما تستر به المرأة نحرها.. والجيوب: جمع جيب، وهو فتحة الثوب، بين النحر، والعنق.. والمعنى: أنه يجب عليهن ستر العنق والنحر بالخمر، وضربها على العنق، وإرسالها إلى النحور.. - «وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ.. أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ» . فهؤلاء الأصناف من الرجال، هم محارم للمرأة، أو أشبه بالمحارم لها.. وليس عليها من جناح فى أن تتحفف كثيرا أو قليلا من هذا الحظر المضروب عليها.. - فقوله تعالى: «وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ» أي أزواجهن.. فليس على المرأة حرج أن تبدى زينتها كلها أو بعضها للزوج. - «أَوْ آبائِهِنَّ» .. وليس عليها من حرج كذلك فى أن تبدى زينتها كلها أو بعضها فى حضور أبيها. - «أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ» وهم آباء الأزواج، أي وكذلك الشأن مع أبى الزوج.. فهو مثل أبيها. - «أَوْ أَبْنائِهِنَّ» .. وليس على المرأة من حرج فى حضور أبنائها، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1265 أن يظهر منها شىء مما أمرت بستره من زينتها. أو «أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ» أي أبناء الأزواج من غيرهن.. فهن مثل أبنائهن. - «أَوْ إِخْوانِهِنَّ» .. وليس على المرأة حرج فى أن يظهر منها شىء من زينتها فى حضور إخوتها.. - «أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ» وكذلك أبناء الإخوة، هم كالإخوة.. - «أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ» وأبناء الأخوات كأبناء الإخوة.. - «أَوْ نِسائِهِنَّ» أي زوجات هؤلاء الرجال المذكورين، حيث لا يكون فى مخالطتهن فتنة، ولا فى كشف الزينة أمامهن ما يفضح جمال المرأة، وذلك لأن زوجة أىّ من هؤلاء الرجال تتحرج من أن تصف ما ترى منها للرجال، إذ كانت المرأة هنا بالنسبة لأية زوجة من أولئك الزوجات بعضا منها، وأهلا من أهلها، فلا تغرى الرجال بها، ولا تكشف لهم عن مفاتنها.. وكذلك الشأن فى نساء زوجها، اللائي تمسكهن الغيرة عن وصف أي حسن تراه إحداهن فى الأخرى.. - «أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ» وهم الرقيق، المملوك لهن من الرجال.. فملك اليمين، وإن لم يكن من محارم المرأة، هو أشبه بالمحرم، لأنها تملكه، كما تملك المتاع، الأمر الذي لا يصح معه أن يكون زوجا لها، له القوامة عليها، كما يقول الله تعالى: «الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ» .. (34: النساء) فاعتبار ملك اليمين، أهلا لأن ينظر إلى مالكته نظرة اشتهاء، فيه إيذان بفتح باب فتنة وفساد، حيث يخلى المرأة من شعور الترفّع عن أن تكون مستفرشة لخادمها وملك يمينها، على حين أن هذا يجرّىء المملوك على التطاول إلى سيدته، والطمع فيها.. وفى التخفف من زينة المرأة أمام مملوكها، إشعار له ولها، أن الأمر بينهما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1266 قائم على غير ما يقوم عليه الحال بينها وبين غير المحارم من الرجال.. وبهذا يموت، أو يصل إلى قريب من الموت، هذا الإحساس الذي يكون بين المرأة والرجل الأجنبى عنها.. فالمملوك- وإن كان رجلا، فيه ما فى الرجال من رغبة واشتهاء- هو بالنسبة إلى مالكته كأحد محارمها، الذين يخالطونها، ويعايشونها.. كالأب، والابن، والأخ.. وتخففها من زينتها فى وجوده يشعره ويشعرها بهذا المعنى، وهو أنه لا ينبغى أن يمدّ بصره إليها، كما أنه لا يليق بها أن تشتهيه. وقد ذهب كثير من المفسّرين، والفقهاء إلى أن المراد بما ملكت أيمانهن الإماء، دون العبيد.. ولكن الذي نراه، هو أن المقصود به العبيد.. وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى إلى فاطمة- رضى الله عنها- بعبد لها، فأرادت أن تستتر منه بالحجاب، فقال عليه الصلاة والسلام: «إنه ليس عليك بأس.. إنما هو أبوك وغلامك» !! - «أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ» .. والإربة: من الأرب، وهو الرغبة والاشتهاء.. والمراد بالتابعين، هم الذين يخدمون المرأة، ويكونون فى حاجتها بأجر، وهم ليسوا فى ملك يمينها.. فهؤلاء التابعون، وقد انقطعت شهوتهم للمرأة، لمرض، أو شيخوخة، أو غير هذا مما تنقطع به شهوة الرجل للمرأة- هؤلاء التابعون، لا حرج على المرأة من أن تتخفف من زينتها فى حضورهم، لأنهم لا ينظرون إلى ما بدا منها نظرة رغبة واشتهاء.. ومن ثمّ لا يكون النظر إليها مدخلا إلى الفتنة، إذ لا إربة لهم فى المرأة.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1267 - «أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ» . والطّفل: الولد، مادام ناعما، ويطلق على المفرد، والجمع، ويجمع على أطفال، ويقال للمرأة الناعمة طفلة. وحكم الصغار- وإن كانوا غير محارم للمرأة- كحكم التابعين غير أولى الإربة من الرجال.. لأنهم فى تلك الحال بعيدون عن التفكير فى المرأة، وعن النظر إليها فى رغبة وشهوة.. وفى وصفهم بقوله تعالى: «لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ» إشارة إلى أنهم وهم فى سنّ الطفولة، لا يستطيعون التمييز بين ما هو عورة، وما ليس بعورة من المرأة.. فهؤلاء اثنا عشر صنفا من الرجال، ليس على المرأة حرج فى أن تبدى بعض زينتها فى وجودهن.. هذا، ويلاحظ فى هذا النظم، الذي جاءت عليه هذه الآية فى ذكر هؤلاء الأشخاص، أنه يأخذ ترتيبا تنازليا فى تضييق دائرة التخفف من الزينة، شيئا فشيئا.. بحيث تكون هذه الدائرة على سعتها كلها مع الزوج، ثم تبدأ تضيق شيئا فشيئا مع من بعده، حتى تبلغ حدها الأدنى مع «الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ» .. ونظرة فى هذا الترتيب، تدلّ على حكمة الحكيم، وتقدير العزيز العليم، لما فى النفس البشرية من نوازع وعواطف، تتحرك حسب ما يقوم بينها وبين العالم الخارجي من روابط وصلات. وقوله تعالى: «وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ» أي ولا يأتين بأرجلهن حركة تنمّ عما يخفين من زينتهن.. وذلك بما يكون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1268 من ضروب متصنعة فى المشي، تهتز معها الأرداف، وتتمايل الخصور، وتتماوج الصدور.. وفى قوله تعالى: «وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» هو دعوة للمؤمنين، والمؤمنات، إلى التوبة إلى الله، والرجوع إليه من قريب حيث أن الإنسان فى هذه المواقف معرض للزلل والعثار.. من خطرات نفسه، أو نظرات عينه، أو فحش لسانه، إلى غير هذا ممالا يكاد يسلم منه أحد.. وليس لهذا من دواء إلا التوبة إلى الله من كل زلّة أو عثرة.. فإن هذه التوبة هى التي تصحح للمؤمن إيمانه، وتبقى على ما فى قلبه من جلال وخشية لله رب العالمين.. وفى هذا الفوز والفلاح.. الآيات: (32- 34) [سورة النور (24) : الآيات 32 الى 34] وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1269 التفسير: قوله تعالى: «وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ.. إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» .. الأيامى: جمع أيّم، وهو من لم تكن له زوجة، أو من لم يكن لها زوج.. والأمر موجه إلى المجتمع الإسلامى كله.. وهو نصح وإرشاد، وترغيب فى الزواج، وذلك لما فيه من وقاية، وحصانة، وتعفف.. وهو مما يعين على الاستجابة لما أمر الله به فى الآيات السابقة، من غضّ الأبصار وحفظ الفروج.. وفى هذا يقول الرسول الكريم: «يا معشر الشباب.. من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغضّ للبصر، وأحفظ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء» .. والباءة: القدرة على التزوج، وامتلاك الصلاحية له.. والوجاء: الخصاء، الذي به تموت الشهوة، وينقطع اتصال الرجل بالمرأة.. فالمسلمون مطالبون بأن يتحصنوا بالزواج، وأن يرغبوا فيه، وييسّروا أموره، وذلك حتى لا تفشو فيهم دواعى الفساد، والاعتداء على الفروج، أو حتى لا يتجه أصحاب الإيمان القوىّ إلى الرهبنة، التي تحرمها شريعة هذا الدين.. كما يقول الرسول الكريم: «النكاح سنّتى، فمن رغب عن سنتى فليس منّى..» وكما يقول صلوات الله وسلامه عليه: «لا رهبانية فى الإسلام» .. - وقوله تعالى: «وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ» معطوف على قوله تعالى: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1270 «وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ» .. أي وزوجوا من لم يتزوج من أحراركم وحرائركم، وزوجوا كذلك الصالحين من عبادكم وهم العبيد، وإمائكم، وهن الرقيقات.. أي وكما يرشدكم الله سبحانه وتعالى إلى أن تتزاوجوا فيما بينكم أيها الأحرار، لتحفظوا فروجكم، كذلك ينصح لكم أن تزوجوا من ترونه صالحا للزواج من عبيدكم وإمائكم.. فهم بشر مثلكم، فيهم رغبة وشهوة، وإنه لا سبيل إلى قضاء هذه الشهوة، إن لم يكن فى حلال، ففى حرام.. ومن أجل هذا، فإن على من فى يده فتى أو فتاة، أن يرعى الله فيهما، وألّا يدعهما هملا، يعيشان فى الفاحشة كما تعيش البهائم.. فهم جزء من المجتمع الإنسانى، وفى فسادهم فساد للمجتمع، ومنهم تصل العدوى إلى غيرهم من الأحرار والحرائر.. وفى وصف العبيد والإماء بالصلاح، إشارة إلى أنه ليس كل عبد أو أمة صالحا للزواج.. فإن حياة العبيد والإماء تذهب بكثير من معالم إنسانيتهم.. ولكن يبقى- مع هذا- قدر صالح من الإنسانية عند بعضهم، يصلح به أن يكون أهلا للزواج من مثله.. وقوله تعالى: «إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» .. الضمير فى «يَكُونُوا» يعود إلى المذكورين فى الآية من «الْأَيامى» ويشير من طرف خفىّ إلى العبيد والإماء.. أي إن يكن هؤلاء المذكورون صالحين للزواج، وراغبين فيه طلبا للتعفف، ولكن يمنعهم خوف الفقر والحاجة، وعدم القدرة على حمل أعباء الزوجية، وما تجىء به من ذرية- إن يكن هذا صارفا لهم عن التزوج فليتزوجوا، والله سبحانه وتعالى يعدهم سعة الرزق، ودفع الضرّ الذي يتوقعونه من الزواج، ما دامت نيتهم قائمة على طلب مرضاة الله، وحفظ الفروج بهذا الزواج.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1271 وهذا وعد كريم من الله سبحانه، لا بدّ أن يتحقق، وذلك لأمرين: أولهما: أنه وعد من الله.. والله سبحانه وتعالى لا يخلف وعده! .. وثانيهما: أن هذا الوعد يحمل معه أسباب الغنى! .. وكيف؟ .. والجواب، هو أن الذي يطلب فى الزواج العصمة لدينه والحفاظ على شرفه ومروءته، هو إنسان جادّ فى هذه الحياة، وملء إهابه، إيمان، وتقى، وجدّ، وعزم.. وأنه ليس من اللاهين الفارغين، الذين يقضون حياتهم فى اللهو والعبث، وتصيّد الشهوات، والتقاطها من كل وجه.. فهؤلاء الذين يشغلون بالبحث عن اللذات والمتع، وقضاء الشهوات، هم أقرب الناس إلى الفقر، وأدناهم إلى الحاجة والعوز، لأنهم لا يصرفون أنفسهم إلى عمل جاد مثمر أبدا.. أما أولئك الذين تحصنوا بالزواج، فقد أراحوا أنفسهم من هذا الجري اللاهث وراء شهواتهم، وهم لهذا منصرفون إلى العمل الجاد المثمر، الذي يبذلون له كل جهدهم وطاقتهم.. وهذا من شأنه أن يملأ أيديهم من الخير، وأن يدنيهم من الغنى، بل ويحققه لهم.. وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» إشارة إلى سعة فضل الله، وأنه لا يضيق بالطالبين لفضله، المبتغين من رزقه، وهو «عَلِيمٌ» بما يصلح أمرهم، ويقربهم من فضله، ويعرّضهم لرزقه.. ومن ذلك تحصنهم بالزواج.. قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1272 فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .. الكتاب: المكاتبة، وهو أن يطلب العبد إلى مولاه أن يعتقه من الرقّ، فى مقابل قدر من المال، يؤديه إليه، فيعطيه سيّده بذلك كتابا، يذكر له فيه المال الذي كاتبه عليه.. وفى دعوة ما لكى الرقاب إلى مكاتبة من فى أيديهم، ممن يرغب منهم فى هذا- دعوة إلى تحرير الأرقاء، وفكّ الرقاب.. وذلك بعد الدعوة إلى حفظ إنسانيتهم، ورفع قدرهم بالزواج، ونقلهم من دائرة الحيوان إلى عالم الإنسان.. وفى قوله تعالى: «فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً» إرشاد لمالكى الرقاب، إذا هم استجابوا لأمر الله، ورغبوا فى مكاتبة من يطلب المكاتبة من مواليهم- أن ينظروا فى حالهم قبل أن يكاتبوهم، وأن يتحرّوا صلاحيتهم للحياة بعد أن يتحرّرا من الرق-.. فقد لا يكون لمن يتحرر منهم حيلة فى الحياة الجديدة التي يدخل فيها، فيصبح- وهو الحر- عالة على المجتمع، يعيش على السؤال والتكفف، وفى هذا ضياع له، أكثر من ضياعه وهو فى قيد الرق! .. ولا شك أن السيد إذا أمسك عن مكاتبة عبده، وهو ينظر فى هذا إلى مصلحة العبد نفسه- إنما يريد له الخير، باختيار ما هو أصلح له.. وسيد هكذا.. هو سيد يخاف الله ويتقيه، فى هذا الإنسان الذي ملكه الله رقبته، وحفظه فى يده رقيقا خير من إطلاقه. وهو لا يحسن القيام على نفسه. وفى قوله تعالى: «وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ» دعوة إلى المؤمنين جميعا، ومنهم السيد مالك الرقيق المكاتب، أن يعينوهم على جمع المال المطلوب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1273 منهم، حتى يتخلصوا من أسر الرق، وحتى يدخلوا فى المجتمع الحرّ، ويكونوا قوة عاملة فيه.. قوله تعالى: «وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً» . البغاء: من البغي، وهو العدوان على حدود الله بإهدار حصانة الفروج.. والنهى هنا متجه إلى من يملكون إماء فى أيديهن.. وقد أجمعت أقوال المفسرين جميعا، على أن معنى إكراه الإماء على البغاء، هو دعوة مالكيهن لهن إلى طلب البغاء، رغبة فى الحصول على المال الذي يجمعنه لهم من هذا الوجه الخسيس.. والنهى هنا واقع على مالك الرقبة، إذا أرادت المملوكة تحصنا وتعفّفا.. أما إذا كان البغاء بدعوة من سيدها، وعن رغبة ورضا منها، فلا محلّ للنهى، ويكون هذا البغاء مباحا.. هذا ما يفهم مما أجمع عليه المفسرون فى تأويل هذه الآية.. وللمفسرين فى هذا تخريجات، وأساتيد يستندون إليها، ومرويات يأتون بها، فى أسباب النزول، والأحداث التي لابست نزول الآية.. والحق أننا لم نر فى هذه التخريجات وجها، نقبلها عليه، وأن نفهم كلمات الله بها، دون أن يكون فى الصدر حرج، وفى القلب ضيق ووسواس! .. فمن أراد أن ينظر فى هذه المرويات، وتلك التخريجات فهى مبثوثة فى كتب التفاسير، يضيق الصّدر بها، ويثقل على النفس نقلها هنا.. وقد هدانا الله سبحانه وتعالى، إلى مفهوم للآية الكريمة. نرجو أن يكون أقرب إلى الصواب، وأدنى إلى الحقّ. فالفهم الذي نستريح إليه فى الآية الكريمة.. هو أن قوله تعالى: «وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً» هو دعوة إلى مالكى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1274 رقاب هؤلاء الفتيات (الإماء) بتزويجهن إذا رغبن فى الزواج. ليتحصّن به، وليحفظن فروجهن.. فهذه الإرادة منهن للتحصن بالزواج، شاهد مبين على صلاحهن، وسلامة إيمانهن، وأنهن يرغبن عن الحياة الطليقة، التي يعيش فيها الإماء، مستباحات الأعراض.. إنهن بهذا الزواج الذي يرغبن فيه، يردن قيدا يقيّد خطوهن المطلق فى عالم الخطيئة.. وهذا لا يكون إلّا من أمة تشعر بإنسانيتها، وتخاف الله فى عرضها.. فالإمساك بالإماء اللاتي يرغبن فى الإحصان بالزواج- الإمساك بهن عن الزواج، هو فى الحقيقة- إكراه لهن على البغاء.. إذ لا سبيل إليهن- وهن رقيقات- إلا البغاء، رغبن فى هذا، أو لم يرغبن.. إذ لا حجاز بينهن وبين من يريدهن.. ويكون تحرير معنى الآية هكذا: «وَلا تُكْرِهُوا» أيها المؤمنون «فَتَياتِكُمْ» أي إماءكم اللاتي يرغبن التحصن بالزواج- لا تكرهوهن «عَلَى الْبِغاءِ» وتحملوهن عليه حملا، بمنعهن من التزوج.. وفى قوله تعالى: «لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا» إشارة إلى العلة التي قد تحول بين السيد، وبين إجابة رغبة أمته أو إمائه فى التحصن بالزواج.. وذلك لما تشغل به الأمة عن سيدها، بزوجها، وبالحمل، والرضاعة، وغيرها، الأمر الذي يخفّ به ميزانها فى خدمة سيدها، وينزل به قدرها عند بيعها.. وهذا المقطع من الآية هو الذي حمل المفسرين على القول بأن الإكراه مراد به الإكراه على الزنا، وجلب المال لأسيادهن من هذا الوجه.. وقد رأيت تأويلنا لهذا المقطع، واتساقه مع المعنى الذي ذهبنا إليه.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1275 ثم تجىء خاتمة الآية هكذا: «وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .. وقد اضطرب المفسرون فى توجيه هذه الخاتمة، وضاقت بهم السبل فى تخريجها، إذ كيف يكره السيد أمته أو إيماءه على البغاء، ثم يجىء من ذلك عفو الله ومغفرته ورحمته؟ إن هذا أشبه بالتحريض على الإكراه على البغاء..! ومن مخرج ضيّق كسمّ الخياط، خرج بعض المفسرين إلى القول، بأن المغفرة والرحمة إنما يراد بهما الإماء اللاتي أكرهن على البغاء، على حين لا تنال المغفرة والرحمة من أكرههن!! وهذا مردود من أكثر من وجه: فالأمة فى تلك الحال مكرهة، ولا ذنب عليها، ترجى له المغفرة والرحمة.. ففى الحديث الشريف: «رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» .. ثم هى من جهة أخرى، ملك فى يد سيدها، لا تملك من أمر نفسها شيئا، فهو يحلّ منها ما يشاء لمن يشاء! وعلى هذا، فإن المغفرة والرحمة إنما تطلب لمن كانت منه إساءة، هى فى مفهومنا ممن أمسك بهن عن التحصن بالزواج، وكان بسبب هذا كالمكره لهن على البغاء.. فإن هو رجع إلى الله، وأمسكهن عن طريق الفساد، وحصنهن بالزواج، نالته مغفرة الله، وسعة رحمته.. ومن جهة أخرى.. فإننا نرى فى هذه الآية، دعوة إلى مالكى الرقاب بمكاتبة من يرونه صالحا للمكاتبة من عبيدهم، إذا هم رغبوا فى هذا.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1276 فهذه رغبة يدعو الإسلام إلى تحقيقها للعبيد.. لأنهم فى الواقع هم الذين تنزع بهم نفوسهم إلى الرغبة فى التحرر بالمكاتبة، بخلاف الإماء اللاتي لا حول لهن ولا طول.. ومن حق الإماء على الشريعة الإسلامية أن تحقق لهن رغبة يرغبنها، كما حققت للعبيد الرغبة التي يرغبونها.. ورغبة الإماء هنا، هى إرادة التحصن بالزواج، كما يقول سبحانه: «إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً» .. فهذه الرغبة تقابل رغبة العبيد فى المكاتبة كما يقول سبحانه: «وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ» .. وبهذا يعتدل ميزان الإماء والعبيد، فى شريعة قامت على العدل والإحسان والمساواة.. فى الحقوق، والواجبات.. للمرأة والرجل على السواء.. ومن جهة ثالثة، فإن الأمة إذا تزوجت أحصنت، كما يقول الله تعالى: «وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ.. ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (25: النساء) . ففى هذه الآية أمور.. أولا: أن الحرّة محصنة، سواء أكانت متزوجة أم غير متزوجة، وأن الأمة إنما تحصن بالزواج.. ثانيا: فى زواج الأمة تكريم لها، ورفع لخسّتها، ونقلها من مرتبة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1277 الحيوان المملوك، إلى درجة المرأة الحرة.. حيث ينشىء لها الزواج حقوقا، ويفرض عليها واجبات، وقد كانت قبل الزواج مطلقة، لا حقوق لها، ولا واجبات عليها.. ثالثا: أن الأمة إذا تزوجت ثم زنت، وثبتت عليها الجريمة، أقيم عليها الحدّ، وهو نصف ما على المحصنات من العذاب، فتجلد خمسين جلدة. رابعا: أشارت الآية إلى أن زواج الأمة لا يكون إلا بإذن مالكها وعن رضاه، فليس لها والحال كذلك، أن تزوج نفسها إذا رغبت فى الزواج، وأرادت التحصن به.. فإن أبى عليها مالكها أن تتزوج، لم يكن أمامها إلا أن تعرض نفسها للرجال.. وهذا هو البغاء الذي أكرهها مالكها عليه بوقوفه فى وجه الزواج الذي تتحصن به وتعفّ عن الفاحشة. هذا، هو ما رأينا والله سبحانه وتعالى أعلم «وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ» . قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ» . هذه الآية هى ختام لآيات الأحكام، التي جاءت بها السورة من قوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي» إلى قوله تعالى: «وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً» . وهى فى هذا أشبه بالبدء الذي بدئت به السورة، فى قوله تعالى: «سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» . فبدء السورة كان إعلانا بنزول آيات بينات، تلى هذا الإعلان، وتجىء بعده.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1278 وقد نزلت هذه الآيات البينات، متضمنة تلك الأحكام الخاصة بحرمات الفروج. وحين انتهت الآيات من بيان هذه الأحكام، جاء قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ» .. ليذكّر بتحقيق هذا الخبر الذي أعلنته السورة فى أول آية منها، وليلفت الأنظار إلى أن هذه الآيات، هى الآيات البينات، التي أشارت إليها الآية الأولى من السورة.. فليتحققوا من هذا الوصف، وليطلبوه منها، وليكون لهم منه عبرة وموعظة.. وفى وصف الآيات فى أول السورة بأنها «آياتٍ بَيِّناتٍ» ووصفها هنا بأنها «آياتٍ مُبَيِّناتٍ» ما يحقق وصفين لهذه الآيات فهى آيات بينات واضحات مشرقات فى ذاتها.. سواء نظر إليها الناظرون، أو لم ينظروا.. ثم هى مبينات، تكشف لمن ينظر فيها طريق الحقّ والهدى.. وقدّم وصفها بالبيّنات على وصفها بالمبينات.. لأنها فى أول الأمر لم تكن بين يدى الناس، ولم ينظروا فيها بعد.. فكان وصفها بالبينات وصفا ذاتيا لها، دون نظر إلى اتصال الناس بها.. فلما نزلت، واتصل الناس بها كانت مبينة لهم الحق من الباطل، والهدى من الضلال.. وقوله تعالى: «وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ» معطوف على قوله تعالى: «آياتٍ مُبَيِّناتٍ» أي وأنزلنا إليكم فى هذه الآيات مثلا من الذين خلوا من قبلكم. وهذا المثل الذي جاءت به الآيات هنا مشابها ومماثلا لمثل آخر وقع فى الأزمنة الخالية- هذا المثل هو حديث الإفك، الذي رميت به السيدة عائشة- رضى الله عنها- ومثله فى الذين خلوا من قبل، هو ما وقع لمريم- عليها السلام لما لقيها به أهلها من اتهام، حين جاءت إليهم بوليدها تحمله.. وقد برأ الله مريم فى آيات بينات من كتابه الكريم، كما قال سبحانه وتعالى فى اليهود: «وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً» (156: النساء) - فقد وصف الله سبحانه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1279 وتعالى قولهم فى مريم بأنه بهتان عظيم، كما وصف سبحانه ما رميت به السيدة عائشة، بأنه بهتان عظيم، وذلك فى قوله سبحانه: «وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ» .. وكفى السيدة عائشة- رضى الله عنها- قدرا وشرفا أن تكون مثلا مناظرا للسيدة مريم، عفة وطهارة، وأن تشاركها هذا الوصف الذي وصفت به فى قوله تعالى: «يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ» (42: آل عمران) . الآيات: (35- 40) [سورة النور (24) : الآيات 35 الى 40] اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1280 التفسير: قوله تعالى: «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ.. الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ.. الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» . هذه الآية تحدث عن سلطان الله، وامتلاكه لناصية كل موجود فى هذا الوجود، من الذّرّة فما دونها، إلى النجم فما فوقه.. وقد وصف الله سبحانه وتعالى ذاته بأنه نور السّموات والأرض.. أي أنه الكاشف لكل موجود طريقه فى هذا الوجود، والهادي الموجّه له إلى الطريق الذي يأخذه، كما يقول سبحانه: «الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ، ثُمَّ هَدى» (50: طه) . فهذا النور الذي يضىء الوجود كله، ويقيم لكل موجود فيه، بصيرة، أو بصرا- هذا النور هو مظهر من مظاهر جلال الله، وعظمته، وقدرته.. فكما أن الله سبحانه وتعالى هو ربّ العالمين، فكذلك هو- سبحانه- نور العالمين.. وقد ضرب الله سبحانه وتعالى لنوره العظيم، مثلا يقربه إلى العقول، ويدنيه من المدارك والتصورات، ويخرجه من عالم ماوراء الحس إلى عالم الحسّ.. وإلا فإن هذا النور فى ذاته لا يمكن تصوره، حقيقة أو خيالا، لأنه من صفات الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1281 الله، وكما لا تدرك ذات الله، فكذلك لا تدرك صفاته.. والمثل المضروب لنور الله هو «المشكاة» وهى الكوة أي «الطاق» المفتوحة فى الحائط، والمغلقة من أحد وجهيها.. ويمكن أن تكوّن «المشكاة» هى هذا القنديل من البلّور، الذي يحمل المصباح. وهذه المشكاة، أو القنديل، يتلألأ نورا مشعّا، يكاد يخطف الأبصار.. وهذا النور، ينبعث من «مصباح» وهو الشعلة المتقدة المضيئة، من فتيل أو نحوه، داخل المشكاة.. وهذا المصباح داخل زجاجة.. وهذه الزجاجة.. شفافة صافية.. كأنها كوكب درّىّ.. ثم إن وقود هذا المصباح هو، من زيت مبارك، مستصفى من شجرة مباركة زيتونة، «لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ» أي مغروسة فى أنسب مكان لها، وأعدله.. فهى وإن كانت من نبات المناطق المعتدلة، لا الحارة، ولا الباردة، إلا أنها تأخذ أعدل مكان فى هذه المناطق، فهى لا إلى الشرق، ولا إلى الغرب.. وقد يحسب بعض الناس أن التأثيرات الطبيعية فى حياة الناس، والحيوان والنبات، تخضع لقرب المكان أو بعده من خط الاستواء.. وهذا، وإن كان صحيحا، إلا أنه ليس على إطلاقه، فإن قرب المكان أو بعده، من نصف الكرة الأرضية، شرقا، أو غربا، له تأثيره القوىّ فى الكائنات الحية، من إنسان، وحيوان، ونبات، ولهذا اختلف الشرق والغرب، ولهذا قيل: الشرق شرق والغرب غرب، بمعنى أن لكل منهما بيئة خاصة، يتأثر بها الأحياء التي تعيش فيها.. وإنه لشتان بين اليابانى فى أقصى الشرق، وبين الأمريكى فى أقصى الغرب، وإن كانا على خط عرض واحد.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1282 والمشرق، أو النصف الشرقي من الكرة الأرضية، تختلف طبائع الناس فيه، بين من كان منهم فى أقصى الشرق، ومن كان فى أقصى الغرب من هذا الشرق، وذلك لامتداد المسافة وطولها بين شرق الشرق وغربه، وكذلك الشأن فى الغرب، ولهذا جاء قوله تعالى: «رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ» (17: الرحمن) وجاء فى آية أخرى: «فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ» (40: المعارج) .. فالمشرق مشرقان، والمغرب مغربان.. والمشرق مشارق، والمغرب مغارب، وذلك حسب اتساع النظرة التي ينظر بها إليهما. ولا شك أن وصف الشجرة الزيتونة بأنها لا شرقية ولا غربية، يدلّ على أنها أكرم شجرة زيتون، وأحسنها، وأتمها، إذ كانت تنبت فى أعدل مكان من الأماكن التي تنبت فيها. ونعود إلى هذا التشبيه الذي شبه به نور الله.. وقد أكثر المفسرون القول فى العائد عليه الضمير فى قوله تعالى: «مَثَلُ نُورِهِ» أهو الله؟ أم المؤمن؟ أم قلب المؤمن؟ أم القرآن؟ أم النبي صلى الله عليه وسلم؟. والذي تدل عليه الآية صراحة، هو أن هذا الضمير يعود إلى الله سبحانه وتعالى، وأن هذا التشبيه هو تشبيه لنور الله، وإنه لا حرج من أن يشبه نور الله بما يقع لحواسنا من نور، ولله- مع هذا- المثل الأعلى، «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» وقد وصف سبحانه ذاته، بأنه يرى، ويسمع، ويطوى السموات بيمينه، ويصنع من يصطفى من عباده على عينه.. إلى غير ذلك مما هو من صفات الإنسان، وأعماله.. وما ذلك إلا لنعطيه سبحانه، نحن البشر- الوصف الكامل، الذي ننتزعه من عالم الحس الذي نعيش فيه.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1283 وقد تحرّج كثير من المفسرين أن يقبلوا هذا المثل لنور الله، ولهذا كان منهم تلك التأويلات التي تجعل النور لقلب المؤمن، أو للقرآن، أو للرسول الكريم.. وهذا مثل، وليس تماثلا من كل وجه بين نور الله، وبين هذا النور الممثل به نور الحق جل وعلا.. وفى الحديث: «إن الله سبحانه وتعالى خلق آدم على صورته» .. وتقول التوراة! «خلق الله الإنسان على صورته.. على صورته خلقه» . وأين الإنسان من عظمة الله، وجلال الله؟ إنه هباءة تسبح فى الهواء! قيل إن أبا تمام الشاعر، دخل على ممدوحه فى مصر، فمدحه بقصيدة جاء فيها قوله: إقدام عمرو «1» فى سماحة حاتم ... فى حلم أحنف فى ذكاء إياس فقال بعض حاشية الأمير: ما هكذا يمدح الأمير.. ما زدت أن شبهته ببعض صعاليك الأعراب! فسكت أبو تمام قليلا.. ثم قال، دافعا هذا الاعتراض، ومفحما هذا المعترض: لا تنكروا ضربى له من دونه ... مثلا شرودا فى الندى والباس فالله قد ضرب الأقلّ لنوره ... مثلا من المشكاة والنبراس فهكذا يجب أن تفهم الأمثال، وأنها ليست تماثلا بين مضرب المثل والمضروب له.   (1) هو عمرو بن ودّ العامري. من فرسان العرب المعدودين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1284 وقد عرضنا لهذه القضية فى كتابنا قضية الألوهية «بين الفلسفة والدين» فى الجزء الأول منه. والصورة التي يصورها التشبيه هى: كوة أو مشكاة «بلورية» .. فيها مصباح متقد، وهذا المصباح مظروف فى زجاجة صافية أتم ما يكون عليه الصفاء، حتى لكأنها كوكب درى.. ثم إن شعلة هذا المصباح تشتعل من زيت مستخلص من أكرم شجرة عرفت من شجر الزيتون.. فهذا النور، ليس مجرد نور، وإنما هو كما وصفه الله سبحانه: «نُورٌ عَلى نُورٍ» .. نور المشكاة البلورية. ثم نور الزجاجة الصافية صفاء الكوكب الدري، ثم نور الزيت الذي يكاد يضىء ولو لم تمسسه نار.. ثم ضوء فتيل المصباح بعد أن يشتعل.. فكلّ منها نور يجتمع إلى نور.. وهذا النور هو أقصى ما كان يمكن أن تحصل عليه الإنسانية، أو تتشهّى الحصول عليه عند نزول القرآن.. أما ما جدّ بعد ذلك من نور الكهرباء- فإنه لا ينقض هذا النور، ولا ينقص من جلاله وروعته.. لأنه نور وديع، هادىء، لطيف، على حين أن نور الكهرباء زاعق، صارخ.. وهذا هو السّر أو بعض السرّ فى ضرب المثل بهذا النور، دون ضوء الشمس، وهو أبهى بهاء وأقوى قوة من كل نور تعرفه الإنسانية. وقد قلنا إن المراد بنور الله هنا، هو هداية الله سبحانه وتعالى لكل ذرّة فى هذا الوجود، وإقامتها فى مكانها الصحيح، وتوجيهها الوجهة التي تأتلف فيها مع الوجود، وتتناغم مع الموجودات.. فكأنّ كل ذرة من ذرات الوجود تعمل فى نور، فلا تضلّ طريقها أبدا.. ثم إذا نظرنا بعين العلم اليوم، رأينا الوجود كله نورا.. فالأجسام جميعها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1285 مكونة من ذرات، والذّرات- كما عرف العلم- نور من نور.. فكل ذرة مجموعة من الشموس، تدور فى فلك النواة التي للذرة.. فهذه الأجسام المعتمة وغير المعتمة، من جبال، ورمال، وتراب، وأناسىّ، ودوابّ، وعربات، وسيارات، ودور، وقصور، وشموس وأقمار- هى نور مجسد، متكاثف. إذا انحلّ إلى ذرات كان كتلا من النور الوهاج.. فالعالم المادىّ- كما يبدو اليوم فى مرآة العلم الحديث- هو شموس من نور، وأن نوره سبحانه، يتخلل هذا النور، الذي هو بالإضافة إلى نور الله ظلام، لا تتجلى حقيقته إلا على ضوء نور الله، كما تتجلى حقائق الأشياء التي تقع فى محيط المشكاة، وما يشعّ المصباح الذي فيها من أضواء. فنور الله سبحانه وتعالى، هو الذي يمسك هذا الوجود على نظامه الذي أقامه الله عليه، إذ على هذا النور يدور كل موجود فى فلكه، متناغما متجاوبا مع دورة الموجودات كلها فى فلك الوجود.. وهذا ما يشير إلى قوله تعالى: «وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» .. (40: النور) وقوله سبحانه: «قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ» (15: المائدة) وعلى هذا يكون المراد بنور الله، هو ما أودع فى الموجودات من سنن، وما ركّب فى المخلوقات من قوى، وما بعث فى الناس من رسل، وما أنزل من كتب، ومن دلائل.. ففى كل هذا نور من نور الله، «يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ» (16: المائدة) ولهذا جاءت هذه الآية: «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» تالية قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ» وذلك بعد أن كشفت آيات الله بأنوارها هذه الغاشية التي غشيت المسلمين من حديث الإفك، حتى لقد انقشع ظلامها، وانجلى ليلها عن صبح مشرق مبين.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1286 ولا بد من الإشارة إلى أن التعبير عن قيومية الله سبحانه وتعالى، وسلطانه القائم فى الوجود- بالنور.. إنما هو لما فى النور من لطف، بحيث لا يتجسد أبدا، بل أنه فى هذا على عكس الأشياء كلها، فالأشياء اللطيفة كالزجاج الرقيق مثلا، كلما علت طبقة منه طبقة أخرى زادت كثافته، ثم لا تزال شفافيته نقل كلما تكاثرت طبقاته حتى يصبح جسما معتما.. أما النور، فإنه كلما تضاعفت أشعته، ازداد شفافية وقدرة على كشف المرئيات التي يقع عليها.. فنور شمعة فى حجرة، ونور آلاف منها فى نفس الحجرة، هو هو من حيث أنه لا يشغل حيّزا فيها، ولا يحدث خلخلة فى الهواء الموجود بها، وإن كان يزيد الموجودات وضوحا وانكشافا. ومن جهة أخرى، فإن النور- مع شفافيته، ومع زيادة هذه الشفافية كلما قوى وكثر- هو أكثر ظواهر الطبيعة سرعة، بحيث لا يكاد يقيد بقيد الزمن.. فالشعاعة من الضوء تنتقل من طرف الأرض إلى طرفها الآخر فى لمحة بصر، لا تتجاوز جزءا من الثانية ... فالنور- كما ترى- لا يتحيز فى مكان، ولا يكاد يتقيّد بزمان. والله سبحانه وتعالى لا يحويه مكان، ولا يحدّه زمان.. فإذا كان الله نور السموات والأرض، كان معنى هذا أنه- سبحانه- وهو القيوم على الوجود- ليس حالّا فى الموجودات، ولا متحيزا فيها، ولا محجوزا فى مكان منها دون مكان.. وأقرب مثل لهذا فى تصورنا، هو النور المنبعث من مصباح فى زجاجة درية، داخل مشكاة، هى أشبه بالوجود الذي يستضىء بنور الله.. فهذه المشكاة، يكشف النور وجودها، دون أن يشغل حيزا فيها، ودون أن تحيزه هى داخلها، لأنها شفافة لا تحجب النور الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1287 الذي يشع فيها، ودون أن يكون هناك زمان ينتقل فيه النور من مكان إلى مكان فيها.. وإذا علمنا أن الوجود- كما أثبت العلم- مصور على هيئة كروية، كان لنا أن نرى هذا الوجود ممثلا فى تلك المشكاة البلورية، المعلقة فى الفضاء يضيئها مصباح فى زجاجة كأنها كوكب درىّ، يوقد من زيت شجرة زيتونة مباركة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضىء ولو لم تمسسه نار! .. وأقرب صورة للوجود، والنور المنبعث فى كيانه، هو القنديل المعلق فى بيت من بيوت الله، ينبعث منه النور فى ظلمات ليل بهيم. ومن بعد هذا كله، أو قبل هذا كله، ينبغى أن نفرق بين نور ونور.. نور الله، وهذا النور الذي نصطنعه.. فهذا النور الذي نحصل عليه من الطبيعة، هو ظلام بالإضافة إلى النور الإلهى.. الذي لا يعرف كنهه، ولا يدرك سره، وإن استضاءت به البصائر واستنارت به القلوب.. فهذا مثل، لا يقوم منه تماثل بينه وبين الحقيقة المشار إليه بها.. «وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. وفى قوله تعالى: «يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ» - إشارة إلى أن نور الله الذي يملأ الوجود، هو نفحة من النور العلوي، وأن هذه النفحة، موجودة فى كل موجود.. ومع هذا فإن الله سبحانه وتعالى ألطافا بعباده، فيصل نورهم بنوره، ويفتح لهم بهذا النور طريقا إلى عالم الحق، والخير: «يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ» . فالوجود كله، وإن كان نورا من نور الله، بالإفاضة والخلق، فإن هناك نور الهداية، الذي يضىء البصائر، ويشرح الصدور، وهذا النور يدعو الله إليه من شاء من خلقه، ليكونوا فى ضيافة هذا النور القدسي؟ وليكونوا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1288 ربانيين، بما فيهم من النور الرباني، الذي أمدهم الله به: «وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» (40: النور) . قوله تعالى: «وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ» . أي هذا النور، الذي صوّرته المشكاة، والمصباح، هو مثل، وليس حقيقة، لأن نور الله سبحانه وتعالى لا يمكن وصفه، وإن أمكن الإشارة إليه بصورة تمثله، ولا تماثله.. وقوله تعالى: «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» إشارة إلى أن نور الله، هو من علم الله الكاشف لكلّ شىء.. فهو نور علم وهداية، يصدر عن عالم، حكيم، مدبر، فيفيض على الوجود هدى ورحمة، ويسكب على الموجودات سكينة وسلاما وأمنا.. قوله تعالى: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ» - متعلّق الجار والمجرور «فِي بُيُوتٍ» هو فعل محذوف، تقديره: إذا أردتم التماس هذا النور.. نور الله.. فالنمسوه «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ» . وهذا الذي نقول به، هو أنسب من القول بأن هذا الجار والمجرور متعلق بمشكاة، على تقدير: «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ.. فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ» . وهذا بعيد من حيث النظم، ثم بعيد من حيث المعنى. إذ أن نور الله هو نور الله، سواء فى المساجد، أو فى غيرها.. والذي ذهبنا إليه، هو المناسب للمقام.. إذ كان قوله تعالى: «يَهْدِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1289 اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ» مشوّقا للنفوس أن يكون لها نصيبها من هذا النور، وأن تكون فيمن شاء الله هدايتهم إليه.. ومن بواعث هذا الشوق تجىء تساؤلات عن هذا النور، وكيف السبيل إليه، وبلوغ النفس حظها منه؟ ولا تكاد النفس تتلقّى هذه الخواطر المتسائلة، وهى بين يدى قوله تعالى: «يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ» - حتى يلقاها الدليل الذي يأخذ بها إلى مواقع هذا النور: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ» - ففى هذه البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، يلتمس نور الله، حيث يتجلى الله سبحانه وتعالى على كل من يغشون هذه البيوت، ويذكرون الله فيها.. وفى تنكير البيوت، تعظيم لمقامها، ورفع لشأنها، وتضخيم لقدرها، وإن ضاقت رقعة وقلت عددا.. فهى أيّا كانت، أعلى البيوت مقاما، وأرفعها عمادا، وكل بيوت غيرها، ظلّ لها، ومرفق من مرافقها. وإذن الله برفع هذه البيوت، هو أمره بإقامتها.. فحيث أقيمت، فهى مرفوعة على كل بنيان، وإن علا بناء، وعظم جسما. وقوله تعالى: «وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ» معطوف على قوله تعالى: «تُرْفَعَ» أي أذن الله أن ترفع، وأذن أن يذكر فيها اسمه.. وهو بيان للغاية من رفعها، وإقامتها، وأنها إنما رفعت وأقيمت ليذكر فيها اسم الله.. فهى بيوت عبادة، وذكر لله.. وذكر اسم الله، هو ذكر الله.. واسم الله، هو صفته، وليس لله سبحانه اسم واحد، أو صفة واحدة، وإنما له أسماء وصفات كثيرة، هى الكمال المطلق، كما يقول سبحانه: «وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها» (180: الأعراف) ودعاء الله بأسمائه، هو ذكر وتمجيد له.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1290 وفى ذكر الله، ذكر لجلاله، وعظمته، وقيومته، واستحضار لما له سبحانه وتعالى فى خلقه، من تقدير وتدبير، وفى هذا الذكر يتصل العبد بربه، ويقترب من مواقع رضاه ورحمته.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (28: الرعد) وقد عرضنا لبحث هذا الموضوع، عند تفسير هذه الآية الكريمة «1» .. وقوله تعالى: «يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ» .. هو بيان شارح لهذه المساجد، ولمن يغشونها من عباد الله.. فهذه البيوت لا تهشّ، ولا تسعد إلا بمن يتعلق فلبه بها، ويجد الأنس والمسرّة فى رحابها، ويستشعر الغربة والوحشة فى البعد عنها، فهو لهذا غاد ورائح إليها، لا تلهيه تجارة ولا بيع عن غشيانها وذكر الله فيها، ابتغاء رضوانه، وخوفا من لقائه فى يوم «تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ» أي تضطرب فيه القلوب هولا وفزعا، وتزيغ فيه الأبصار، كربا وجزعا.. والغدوّ: أول النهار، والآصال: جمع أصيل، وهو آخر النهار.. وأفرد الغدوّ: لأن فيه صلاة واحدة، هى صلاة الصبح.. وجمع الأصيل.. لأنه زمن ممتد، فيه صلاة الظهر، والعصر، والعشاءين.. (المغرب والعشاء) . قوله تعالى: «لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» . هو تعليل لما ببغيه الغادون والرائحون إلى بيوت الله.. أي أنهم يفعلون   (1) انظر التفسير القرآنى للقرآن: الكتاب السابع. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1291 هذا، ويولّون وجوههم إلى ربهم بالغدو والآصال، ليكون ذلك سببا فى أن يرضى الله عنهم، ويجزيهم أحسن ما عملوا ويقبله منهم، ويتجاوز بإحسانهم هذا عن سيئاتهم، كما يقول سبحانه: «أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ» (16: الأحقاف) .. وليس هذا فحسب، بل إنه سبحانه وتعالى- سيزيدهم من فضله، ويضاعف الجزاء لهم من إحسانه.. فهذا رزق من رزقه «وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» لأن خزائنه ملأى أبدا، لا تنقص بالعطاء.. وإذن فلا يجرى حساب على هذه الخزائن، لإحصاء ما ذهب منها وما بقي.. ولكن- مع هذه الخزائن الملأى من رزق الله، ومن فضله، وإحسانه- فإنه سبحانه، قيوم حكيم، يضع رحمته حيث يشاء، ويعطى منها ما يشاء لمن يشاء، بحساب وتقدير، حسب ما تقضى به حكمته وتدبيره، وفى هذا يقول سبحانه: «وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ» .. ويقول جلّ شأنه: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ» (21: الحجر) .. قوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ» . فى الآية السابقة، ذكر الله سبحانه وتعالى المؤمنين، الذين يغدون ويروحون إلى بيوته، يذكرونه ويسبحون بحمده، وقد وعدهم الله على ذلك، قبول أحسن ما عملوا، ومضاعفة هذا الإحسان.. وفى هذه الآية عرض للكافرين، وأعمالهم التي يعملونها فى دنياهم.. إنها أعمال مهلكة لأهلها، لا يجيئهم منها إلا البلاء وسوء المنقلب.. لأنها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1292 أغوتهم وأضلتهم، وخيّل إليهم منها أنها أعمال مبرورة، وأنها غرس فى مغارس الخير والإحسان.. وهى فى حقيقتها أشبه بالسراب، يلمع فى «قيعة» - جمع قاع- وهو الأرض الفسيحة التي لا زرع فيها.. وفى قوله تعالى: «يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً» إشارة إلى خداع النفس، بعد خداع البصر بهذا السراب، فإن لهفة الظمآن، وحرارة شوقه إلى الماء، تغطّى على عقله، فيخال السراب ماء، مثله كالخائف المذعور، فى سواد الليل ووحشته، يمثّل له الوهم أشباحا تطلع عليه من كل أفق، تريد الانقضاض عليه والفتك به. وإلى هذا السراب يشتد طلب الظمآن، ويسعى حثيثا لاهثا إليه، وكلما قطع مرحلة وجد السراب يتحرك أمامه ويفلت من بين يديه، وهكذا حتى تتقطع أنفاسه: «حَتَّى إِذا جاءَهُ» ووصل إلى حيث كان يظن أنه الماء «لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً» ! فتتضاعف لذلك حسرته، ويشتد يأسه، وتتقطّع أنفاسه، وتغلى مراجل غيظه وظمئه.. وليس هذا وحسب، بل إنه سيجد هناك من يمسك به، ويقوده إلى موقف الحساب على ما كان منه من كفر، وضلال.. «وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ.. فَوَفَّاهُ حِسابَهُ.. وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ» ! فالكفر يمحق كلّ عمل وإن كان من باب الخير والإحسان.. لأن كل عمل لا يزكّيه الإيمان، هو أشبه بالميتة، لا يؤكل لحمها، وإن كانت من أطيب الحيوان لحما! قوله تعالى: «أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً.. فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1293 هو مثل آخر، تشبه به أعمال الكافرين، بعد أن شبهت بالسراب. والفرق بين المثلين، أن السّراب صورة تمثيلية لما يراه الكافرون فى أعمالهم وهم فى الحياة الدنيا، حيث يرونها فى صورة حسنة معجبة.. وهى فى حقيقتها سراب يخدعهم، ويدفع بهم فى طريق الغواية والضلال، حتى تخمد أنفاسهم، ويسلمهم هذا السراب إلى القبر، وما وراء القبر من حساب، وعقاب.. والله سبحانه وتعالى يقول: «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً» . (8: فاطر) وهنا فى هذا المثل، تطلع عليهم أعمالهم هذه فى الدار الآخرة، حيث يلتمسونها، فيجدون أنهم غارقون فى ظلام مطبق، لا يرى فيه أحدهم يده، إذا أخرجها من كمّه، وعرضها لعينيه.. فكيف يرى هذه الأعمال، التي كان يظنها أعمالا مبرورة محمودة؟ إنها قد استحالت إلى قطعة من الظلمات، فى كيان هذه الظلمات.. فليقتطع لنفسه قطعة من هذا الظلام إن أراد، وإن استطاع! «أَوْ كَظُلُماتٍ» كظلمات لا ظلمة واحدة، بل طبقات بعضها فوق بعض من مادة الظلام «فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ» أي متلاطم الموج، حيث يتعالى الموج، ويركب بعضه بعضا، فإذا سواده الكثيف يلتقى مع هذه الظلمات المطبقة على هذا البحر اللجىّ «يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ» أي يغطى هذا البحر موج، وفوق الموج، موج، وفوق الموج، سحاب، هو موج فوق موج.. وهو «ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ» .. وأنّى لمن تركبه هذه الظلمات أن يعرف طريقا إلى النجاة والخلاص؟ إنه لا يكاد يرى يده التي يمدّها إلى حبل النجاة إن كان هناك حبل! إن هذا الظلام يكاد ينعقد عليه، ويلبسه من قمة رأسه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1294 إلى أخمص قدمه، حتى تضيق به أنفاسه، وتزهق منه روحه! وقوله تعالى: «وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» - أي من لم يجعل الله فى قلبه نورا، هو نور الإيمان، الذي يهدى صاحبه إلى طريق السلامة والنجاة، فهيهات هيهات أن يجد النور أبدا.. وإنه للمحروم الشقي، ذلك الذي حرم حظّه من نور الله، الذي يملأ السموات والأرض! الآيات: (41- 46) [سورة النور (24) : الآيات 41 الى 46] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) التفسير: قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1295 قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ» .. فى هذه الآية، والآيات التي بعدها، استعراض لقدرة الله، وبسطة نفوذه، وسلطانه المتمكن فى هذا الوجود، والآخذ بناصية كلّ موجود.. وذلك بعد أن عرضت الآيات السابقة مثلا لنور الله سبحانه وتعالى، الذي يملأ الوجود كله، ويسرى فى كيان كل ذرة فيه، ويقيمها المقام المناسب لها فى ملكوت السموات والأرض.. وأن هذا النور قد اهتدى به المهتدون، فأسعدهم الله وأرضاهم، وأنزلهم منازل السعادة والنعيم، على حين قد عمى عن هذا النور، الضالون، والمشركون، والكافرون، فأذاقهم الله الوبال والخسران، وأنزلهم منازل الهون والشقاء.. وفى هذا العرض الذي تعرض فيه هذه الآية والآيات التي بعدها، مالله سبحانه وتعالى من قدرة وسلطان- فى هذا العرض تثبيت لإيمان المؤمنين، وربط على قلوبهم، وتوثيق للصلة التي أقامها الإيمان بينهم وبين ربّهم.. ومن جهة أخرى، فإن فى هذا العرض دعوة مجدّدة إلى الكافرين، والمشركين، والمنافقين ومن فى قلوبهم مرض- أن يعيدوا النظر فى موقفهم هذا الزائغ المنحرف عن سواء السبيل، وأن ينظروا فى هذه المعارض التي تعرضها تلك الآيات لجلال الله، وقدرته، وعظمته، ففيها نور الله لمن يلتمسون النور، ويطلبون الهدى. وقوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» .. الرؤية هنا معناها العلم الذي يجىء عن بحث ونظر.. وهو خطاب للنبىّ صلى الله عليه وسلم، يخاطب به كلّ من هو أهل للخطاب.. ثم هو دعوة إلى النظر والتدبّر فى هذا الوجود.. وعن هذا النظر وذلك التدبر يستطيع الإنسان أن يرى انقياد الوجود كلّه للخالق جل وعلا، وولاءه له، وعبوديته لذاته، وخضوعه لجلاله.. وبهذا يعلم أن كل ما فى السموات والأرض يسبّح بحمد الله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1296 ويمجّده، ويعظّمه.. «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» (44: الإسراء) .. فهو تسبيح وولاء، وخضوع واستسلام، كما يقول سبحانه: «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ» (15: الرعد) . - وقوله تعالى: «وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ» .. معطوف على فاعل الفعل «يُسَبِّحُ» وهو الاسم الموصول «من» والمعنى.. ويسبح له «الطَّيْرُ صَافَّاتٍ» .. وصافات، حال من الطير، أي أنها تسبّح لله سبحانه وتعالى، وهى فى أروع مظاهرها، وأعلى منازلها، حيث تكون محلقة فى جوّ السماء، صافّة أجنحتها، أي باسطتها فى حال من الهدوء والسكون، كأنها تستعرض العالم الأرضى، وتبسط ظلها عليه.. فهى فى علوّها وتربعها على هذا العرش، لم يدخل عليها شىء من الكبر والغرور، كما يقع ذلك لكثير من الناس، بل إنها لتزداد بهذا ولاء وخشوعا لله، فتقيم صلاتها لله، فى جوّ السماء، صافة أجنحتها، مرسلة جوارحها، فى خشوع واستسلام، معتمدة على قدرة الله، لا تخشى أن تهوى من حالق.. وهذا هو التوكل فى أروع مظاهره.. - وقوله تعالى: «كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ» . يمكن أن يكون فاعل الفعل «عَلِمَ» ضمير يعود إلى الله سبحانه وتعالى: ويكون المعنى كلّ من هذه المخلوقات قد علم الله صلاته وتسبيحه.. وهذا هو الذي ذهب إليه المفسّرون.. ويمكن أن يكون الفاعل ضميرا يعود إلى هذه المخلوقات.. ويكون المعنى أن كلّ مخلوق من هذه المخلوقات، قد علم الصلاة التي يصلّى بها، والتسبيح الذي يسبّح به لله.. وهذا هو الرأى الذي نقول به.. ويكون معنى العلم هنا، هو ما أودعه الله فى كيان كل مخلوق من قوى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1297 يتصرف بها، ويعمل حسب ما يسّره الله له.. وهذا يشعر بأن عملها هذا ليس عملا آليا، وإنما هو عمل عن علم، ذاتى، أو خارج عن الذات.. فهو على أي حال عمل يحكمه علم، حتى يحقق هذا التآلف، والتجاوب بين موجودات الوجود، فى حمد الله وتسبيحه.. وقوله تعالى: «وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ» إشارة إلى علم الله سبحانه وتعالى، المحيط بكل شىء، والعالم بكل ما يعلم الخلق وما يعملون.. وهذا يؤيد ما ذهبنا إليه من أن هذه المخلوقات لها علمها الذي تعمل به، وأن لله سبحانه وتعالى علمه، المحيط بعلمها وعملها جميعا! قوله تعالى: «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» . هو تأكيد لعلم الله بعلم المخلوقات، وبعملها.. إذ هو علم متمكن، لأنه علم الخالق لما خلق، ومعرفة المالك لما ملك.. فقد يعلم الإنسان الشيء ولا يملكه ولا يقدر على التصرف فيه بمقتضى ما يعلم منه.. أما علم الله فهو علم المالك لما ملك، يتصرف فيه كيف يشاء، بما يقضى به علمه، وحكمته، وإرادته. وفى قوله تعالى: «وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» تأكيد للملكية، وأنها ملكية لا تخرج عن سلطان المالك أبدا، لا كملكية المالكين لما يملكون.. إذ أن كل ما يملكه الإنسان من شىء، هو ذاهب عنه، مقضىّ عليه بالفراق بينه وبين ما ملك.. إما بأن يستهلكه فى حياته، وإمّا بأن يموت عنه، ويخلّفه وراءه لمن يرثه من بعده.. أمّا ملكية الله سبحانه وتعالى لهذا الوجود وما فيه، فهو ملك لا يخرج من يد المالك أبدا، مهما تحولت أحواله، وتبدّلت صوره وأشكاله، فالمالكون، وما يملكون صائرون جميعا إلى الله.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1298 قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ» . يزجى: أي يدفع، ويحرك.. والركام: المتراكم، المجتمع بعضه إلى بعض.. الودق: المطر، ينزل متساقطا فى قطرات، فيدق الأرض، أي يترك فيها آثارا.. فى هذه الآية عرض محسوس لقدرة الله، بعد هذا العرض غير المحسوس، الذي جاءت به الآية السابقة، من النظر المطلق الشامل للوجود كله، وما قام عليه من نظام.. وفى هذا العرض، إلفات إلى ظاهرة من ظواهر الطبيعة، التي يشهدها الناس جميعا فى كل زمان، وكلّ مكان.. فهذه السحب التي تنطلق فى مواكب متدافعة فى جو السماء، كأنها جيوش غازية، تزحف إلى ميدان القتال، أو تتراكض عائدة من المعركة محملة بالغنائم والأسلاب- هذه السحب: من أنشأها؟ ومن سيرها؟ ومن حدّد لها خط مسيرها؟ ومن وقف بها عند غاية معلومة لها؟ ألا فليعلم من لم يكن يعلم، أن الله سبحانه وتعالى، هو الذي أنشأها، وسيرها، وحدّد لها وجهتها، وأمسك بها عند الغاية المحددة لها.. - «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً.. ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ، ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً» .. فهذه صور ثلاث، لمشاهد السحاب.. يولد أولا دخانا رقيقا، ثم يدفعه الرّيح الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1299 فى خفة ويسر.. ثم يجتمع هذا السحاب بعضه إلى بعض، فيتكاثف شيئا فشيئا، ثم يتدافع هذا السحاب، ويدخل بعضه فى بعض، فإذا هو ركام، أشبه بالآكام، أو الجبال.. - وفى قوله تعالى: «فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ» .. إلفات إلى مولد المطر من هذا السحاب، وتحلبه من خلاله، كما يتحلّب اللبن من الضرع.. وليس يدرك سر هذه اللفتة إلى قطرات الماء، وهى تتساقط من السحاب، إلّا من عاش فى الصحراء، وشهد آثار الماء حين ينزل إلى الأرض، ويبعث الحياة والحركة فى جمادها ونباتها، وحيوانها.. إنها عملية خلق، وبعث جديدين، لهذا الجسد الكبير الهامد.. ثم هو بعد ذلك عرس رائع، تحتشد له الأحياء، وتنطلق من كيانها نشوات البهجة والحبور، فى أهازيج، وأناشيد، وزغاريد: يتألف منها لحن عبقرىّ بالتسبيح والحمد لله رب العالمين.. انظر إلى هذا الوصف الرائع، الذي صوّر به «امرؤ القيس» احتشاد الطبيعة، ونشوتها غبّ مطر.. فيقول امرؤ القيس، فى معلقته المشهورة: أصاح ترى برقا أريك وميضه ... كلمع اليدين فى حبىّ مكلّل يضىء سناه.. أو مصابيح راهب ... أمال السليط بالذّبال المفتّل «1» قعدت له وصحبتى بين ضارج ... وبين العذيب بعد ما متأمّلى «2» كأنّ مكاكىّ الجواء غديّة ... صبحن سلافا من رحيق مفلفل   (1) السليط: الزيت الذي يوقد منه المصباح. (2) ضارج، والعذيب: موضعان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1300 هذه نظرة شاعر.. نظر إلى هذه الظاهرة من ظاهرها، وشغل بألوانها، وألحانها، عما وراء هذه الألوان، وتلك الألحان، من حقائق، تصل هذه القطعة من الطبيعة بالوجود كله، ثم تضيف هذا الوجود إلى الموجد، المبدع، المصوّر! وإليك نظرة نبىّ! ومن؟ إنه نبىّ الأنبياء، وخاتم المرسلين، محمد بن عبد الله، صلوات الله وسلامه عليه.. فقد روى أنه- صلوات الله وسلامه عليه- كان إذا نزل المطر، خرج إلى العراء، وكشف له عن رأسه، واحتواه بين ذراعيه.. وكان صلوات الله وسلامه عليه يقول: «إنه قريب عهد بربه» .. أي إنه رحمة مرسلة من عند الله.. رحمة محسوسة ملموسة، ترى بالعين، وتلمس باليد، وتذاق باللسان..! فمن أراد أن يشهد رحمة الله عيانا، فهى فى هذا الماء المنزّل من السماء.. صافيا طاهرا، لم يعلق به شىء من أخلاط الأرض.. إنه فى طهر المواليد التي تلدها الحياة.. من إنسان أو حيوان أو نبات! قوله تعالى: «وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ» .. أي وينزل من جبال فى السماء، وهى السحب المتراكمة- بردا، وهو قطع الثلج.. فقوله تعالى: «مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ» بدل من السماء.. وفى الإشارة إلى هذه الظاهرة، إشارة إلى أن هذه السحب التي ينزل منها الماء، هى أيضا، وإن كانت مصدر نعمة، يمكن أيضا أن تكون مصدر نقمة، حين ينزل منها هذا البرد، وكأنه قطع من الأحجار، تتساقط من الجبال، فتهلك كل من تقع عليه، وكأنها بهذه العقوبة الراصدة إلى جانب تلك النعمة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1301 الكبرى المنزلة من السماء- مرصودة ليؤخذ بها كل من يكفر بهذه النعم، ولا يضيفها إلى المنعم بها، ويسبح بحمده، ويشكر له.. وقوله تعالى: «فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ» أي أن هذا البرد الذي تحمله السحب بين يديها، لا نرمى به هكذا من غير حساب، بل هو مملوك بيد القدرة القادرة، فيقع حيث أراد الله أن يقع، ويصرف عمن أراده الله سبحانه أن يصرفه عنه، من نبات، وحيوان، وإنسان.. وفى قوله تعالى: «يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ» - لون جديد تكمل به الصورة، صورة هذا العذاب الواقع مع البرد المتساقط كالأحجار.. فهذا البرد يحمل معه الصواعق المهلكة، والنار المحرقة، وإن كان ماء! فما أعظم قدرة القادر، وما أعزّ وأقوى سلطانه!! قوله تعالى: «يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ» . وهذه ظاهرة أخرى.. تشهدها الحواس، وتعيش فيها.. حيث يدور الليل والنهار فى هذا الفلك دورة منتظمة، محكمة، لا تتخلف أبدا.. وكأنهما الكفّ فى حركتها، ظاهرا وباطنا..! يقلبهما الله- سبحانه- كما يقلب الإنسان كفّه! وفى هذا عبرة وعظة لأولى الأبصار.. «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.. رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا» (191: آل عمران) . قوله تعالى: «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ.. فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ، وَمِنْهُمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1302 مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ.. يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ.. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .. هذه الآية، شارحة لنعمة الماء، الذي أشارت إليه الآية قبل السابقة.. فهذا الماء الذي ينظر إليه بعض الناس نظرة باردة جامدة، ولا ينظر إليه بعضهم أبدا- هذا الماء هو أصل هذه الحياة، وهو جرثومة كل حى.. من نبات، أو حيوان، أو إنسان.. وهذا ما جاء فى قوله تعالى: «وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» .. فليعد الإنسان الغافل النظر إلى هذا الماء، وليرجع إليه البصر مرة ومرة ومرات، وسيرى أن هذا الماء هو أصل وجوده، كما أنه سبب فى إمساك هذا الوجود، وحفظه، وأنه لو حرم الماء لأيام معدودة لهلك!. فالماء، هو الحياة العاملة فى هذا الكوكب الأرضى.. ففى الماء أودع الله سرّ الحياة، فى صورها المختلفة، وأشكالها المتباينة المتعددة.. فحيث كان الماء كانت الحياة، وكانت الحركة، وكان التوالد لصور الحياة، التي تكتسى بها الأرض حسنا وجمالا، وتتبدل بها من وحشتها بهجة وأنسا.. ونظرة فى وجوه الأرض المختلفة، يتكشف لنا منها ما للماء من آيات وأسرار.. فحيث يوجد الماء يوجد الخصب والنماء، وتشاهد الحركة والحياة، وحيث يفتقد الماء، يكون الجدب، والوحشة، والموات، والهمود.! ومن أجل هذا كان للماء هذا الذّكر الحفىّ به فى القرآن الكريم.. ويكفى أن يكون عرش الله سبحانه وتعالى على الماء، كما يقول سبحانه: «هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ» (7: هود) .. والمراد بالعرش، هو السلطان.. وهذا يعنى أن سلطان الله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1303 قائم على الماء. يصرفه كيف يشاء، ويخلق منه ما يشاء.. وهذا يعنى أيضا أن الماء هو سر الحياة، التي يفيضها الله سبحانه وتعالى بقدرته وحكمته على الأحياء فى الوجود كله.. - وفى قوله تعالى: «فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ.. وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ» .. إشارة إلى تنوع صور المخلوقات، وتعدد أشكالها، وهى جميعها من مادة واحدة، لا لون لها، ولا طعم، ولا رائحة.. إنها شىء واحد، ومع هذا فقد جاءت بقدرة القادر، وصنعة الخبير الصانع- على هذه الصور التي لا تكاد تحصر من عوالم الأحياء، على اختلاف صورها، وتباين أشكالها، وتعدد ألوانها.. وهذا التقسيم الذي أشارت إليه الآية، هو تقسيم عام، حيث يندرج تحت كل قسم ما لا حصر له من صور وأشكال، تنضوى تحت كل قسم، وتندرج تحت كل صنف.. فأنواع الزواحف، من ديدان، وحيات، وحشرات.. وما شاكلها- هى مما يمشى على بطنه.. والناس، واختلاف ألسنتهم وألوانهم.. والطير، وتعدد أجناسه واختلاف ألوانه وأشكاله.. ذلك كله ممن يمشى على رجلين.. والبهائم والدوابّ، والأنعام، والوحوش.. فى تعدّد عوالمها، واختلاف أجناسها.. ممن يمشى على أربع.. - وقوله تعالى: «يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ» - هو إلفات إلى هذه القدرة القادرة، التي تبدع وتصور وتخلق، هذه الصور، وتلك الأجناس والأنواع، من عنصر واحد.. وهذا لا يكون إلا من قادر حكيم عليم، يتصرف كيف الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1304 يشاء.. ولو كان ذلك من عمل غير هذه القدرة المطلقة، لجاءت جميع المخلوقات فى قالب واحد، وعلى صورة واحدة.. - وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» تقرير لهذه الحقيقة، وتأكيد لها، وأنها لا تصدر إلا ممن هو على كل شىء قدير.. لا يعجزه شىء وهذا كلّه فى عالم الأرض.. ومن قطرة الماء.. وأين الأرض، وما فيها، ومن فيها، من ملك الله العظيم؟ ألا شاهت وجوه من يولّون وجوههم إلى غير الله، وألا خسئ وخسر المبطلون! .. قوله تعالى: «لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» المراد بالآيات المبينات، هى تلك الآيات التي تحدثت عن نور الله، وعن أن هذا النور هو آيات مبينات، تسرى فى كيان الموجودات، وتقيم كل موجود بمكانه الملائم له، وتوجهه وجهته المقدرة له.. ثم كان من نور الله، تلك الآيات القرآنية، التي كشفت للناس طريقهم إلى الله، وأطلعتهم على دلائل قدرته، وآثار رحمته.. وذلك فيما جاء فى الآيات التي تحدثت عن بيوت الله التي أذن الله أن ترفع، ويذكر فيها اسمه.. والآيات التي تحدثت عن الكافرين وأعمالهم، ثم فى هذه الآيات التي عرضت تلك المشاهد الناطقة بقدرة الله، وسعة علمه ونفوذ سلطانه.. من السحاب والمطر، ومن خلق الحياة القائمة على الأرض من عنصر الماء.. ففى هذا كله، آيات مبينات، أي موضحات، وكاشفات، لطريق الحق، والهدى، والإيمان بالله، والولاء له، والتسبيح بحمده. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1305 - وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» . إشارة إلى أن هذه الآيات المبينات، وتلك الشموس الساطعة، لا يهتدى بها، ولا يبصر الحق على ضوئها، إلا من أراد الله أن يفتح عيونهم إليها، ويكشف لبصائرهم الطريق إلى الله من خلالها.. وذلك شأنه فى عباده: «مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (39: الأنعام) .. «فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ» (125: الأنعام) . الآيات: (47- 52) [سورة النور (24) : الآيات 47 الى 52] وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52) التفسير: قوله تعالى: «وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1306 من هم هؤلاء الذين يقولون آمنا بالله وبالرسول؟ إنه لم يجر لهم ذكر فى الآيات السابقة.. ولكنهم مذكورون ضمنا فى قوله تعالى «لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» . فهناك أناس، قد دخلوا فى الجماعة الإسلامية، وحسبوا فى المؤمنين، وأضافوا أنفسهم إلى تلك الجماعة وتزيّوا بزيّها، وأخذوا سمتها.. واطمأنوا إلى ما هم فيه- ولكن الله فضحهم، وكشف عن نفاقهم، وأنهم ليسوا من الإيمان فى شىء.. إن الإيمان ولاء، وطاعة، وانقياد.. ثم هو قبل هذا حبّ، وإن تجرّع المحب فى سبيله جرع البلاء! وهؤلاء الذين لبسوا الإيمان ظاهرا، إذا وضع إيمانهم على محكّ التجربة، ظهر زيفه، وبان ما فيه من دخل، وفساد.. «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ» (2: العنكبوت) . - «وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا» .. ما أكثر الأقوال، وما أيسرها على الأفواه.. وإن القول الذي لا يصدقه العمل، هو زور وبهتان.. «ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» .. أفهذا شأن المؤمنين؟ أو تلك هى سبيل المطيعين؟ - ذلك ما لا يكون من أهل الإيمان أبدا.. والتولّى: هو النكوص على الأعقاب، والعودة إلى حيث ما كانوا عليه من ضلال وكفر.. - وقوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ ذلِكَ» .. أي من بعد قولهم هذا القول بألسنتهم، والدخول بهذا القول مدخل المؤمنين، وهو قولهم: «آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا» .. وقوله تعالى: «وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ» هو حكم على هؤلاء الذين قالوا هذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1307 الذي قالوه بأفواههم، ولم يتصل بعقولهم، وقلوبهم، ولم يؤثر فى مشاعرهم ووجداناتهم.. وهم فريقان: فريق دخل فى التجربة، فكشفت التجربة عن نفاقه.. وفريق ما زال ينتظر التجربة التي تفضحه وتعرّيه من هذا الثوب الزائف الذي استتر به، وهو لا بد أن يتعرى ويفضح فى يوم من الأيام: ثوب الرياء يشفّ عما تحته ... فإذا التحفت به فإنك عار قوله تعالى: «وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ» .. هو بيان لما فى قلوب هؤلاء المنافقين من نفاق.. فهم مؤمنون، إذا كانت ريح الإيمان تدفع سفينتهم إلى الوجهة التي يريدونها.. وهم غير مؤمنين، إذا تعارضت ريح الإيمان مع أهوائهم وشهواتهم.. إنهم لا يرضون حكم الله ورسوله فيهم، ولا يقبلون ما قضى به كتاب الله فى شأن من شئونهم، إذا كان ذلك الحكم مما لا يرضيهم. وفى الحديث عن هؤلاء المنافقين عموما، ثم الإشارة إلى فريق منهم- فى هذا إشارة إلى أنهم كيان واحد، من الضلال، والفساد.. وأنه لا فرق بين من يمتحن منهم، ومن لا يمتحن، وبين من يدعى إلى حكم الله ومن لا يدعى. إنهم جميعا عصابة لصوص، دخلت فى حظيرة الإسلام، فإذا ضبط الإسلام بعضهم متلبسا بجرمه، فليس ذلك بالذي يبرىء ساحة هؤلاء الذين لا يزالون بعيدين عن قبضة الإسلام، حيث لم يفتضح نفاقهم بعد! إنهم على طريق الفضيحة.. إن لم يكن اليوم، فغدا، أو بعد غد! وقوله: «إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ» . فى عطف الرسول على لفظ الجلالة «اللَّهِ» سبحانه وتعالى، تشريف لمقام الرسول ورفع لقدره.. وأنه إنما يقضى بما قضى الله به، فحكمه من حكم الله، وطاعته، طاعة الله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1308 قوله تعالى: «وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ» - أي إن هؤلاء المنافقين، إذا كان حكم الإسلام فى أمر من الأمور العارضة لهم، مما يتفق مع مصلحتهم، جاءوا إلى الرسول مذعنين، أي مطيعين، معلنين الولاء لله، ولرسوله، يطلبون أن يأخذهم بحكم الإسلام، لأنه يجرى مع مصلحتهم، ويلتقى مع حاجتهم.. قوله تعالى: «أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ؟ أَمِ ارْتابُوا؟ أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ؟ .. بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» . الاستفهام هنا هو تقريرى، يكشف عن العلل، التي تموج بها صدور أولئك المنافقين.. فليس داء واحدا هو الذي يخامر المنافق.. وإنما هو يعيش فى أكثر من داء، مما فى قلبه من مرض. وهذا المرض الذي فى قلبه، من شأنه أن يفسد كلّ معتقد.. فلا يعتقد المنافق فى صحة رأى أو فساده إلا بالقدر الذي يجنى منه نفعا عاجلا.. إنه لا ميزان عنده لخلق، أو رأى. أو دين.. إنه يدين بالدين الذي يمشى مع هواه.. ومن هنا، فهو فى ارتياب من كل شىء.. يلقاه مترددا متشككا، ويقلّبه، كأنما يراه لأول مرة، ولو كان قد مرّ به ألف مرة.. لأن له فى كل مرة حالا معه، ورأيا فيه.. ومن هنا جاءت العلة الثالثة التي تسكن فى قلوب المنافقين، وهى تخوفهم من أن يحيف الله عليهم ورسوله، إذا هم احتكموا إلى كتاب الله.. فكتاب الله ميزان واحد.. وهم إنما يجرون أمورهم على موازين لا حصر لها.. وكل حكم لا يتفق مع أهوائهم، هو عندهم جور وحيف.. فهم يضعون أحكام الله موضع الاختبار والامتحان، ولا يجيئون إليها مستسلمين راضين بما يقضى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1309 به الله، سواء أكان لهم أم عليهم.. بل إنهم إن وجدوا فى حكم الله، ما هو لهم، أخذوا به ورضوا عنه، وإن وجدوه على غير ما يريدون، أعرضوا عنه، وتنكروا له.. - وفى قوله تعالى: «بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» .. إشارة إلى أن هذه الأمراض الخبيثة التي يعيش فيها المنافقون، إنما تنتهى بهم إلى أخسر صفقة، وهى الظلم الذي هم أول ضحاياه.. إنهم ظلموا أنفسهم، وساقوها إلى هذا المرعى الوبيل، الذي لن يطعموا منه إلا الخزي والخسران فى الدنيا، والعذاب الأليم فى الآخرة، وحسبهم أنهم كفروا بآيات الله.. وللكافرين عذاب مهين.. قوله تعالى: «إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» .. هذه هى الصورة المشرقة لإيمان المؤمنين، وما فى قلوبهم من صدق ويقين.. إنهم إذا دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم، أجابوا بالسّمع والطاعة، ورضوا بما يقضى به الله ورسوله فيهم، سواء أكان ذلك لهم، أم عليهم.. هكذا الإيمان، وهكذا شأن المؤمنين: «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ.. وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً» (36: الأحزاب) إنه السمع والطاعة لما يأمر به الله ورسوله، دون تردد أو ارتياب.. إذ لا إيمان مع تردد فى أمر من أمر الله أو شك فى حكم من أحكامه.. قوله تعالى: «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ» . هذا هو جزاء المؤمنين حقا.. الفوز برضوان الله، بعد أن أفلحوا حين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1310 أخلصوا دينهم لله، ودانوا بالطاعة لله ولرسوله، وامتلأت قلوبهم خشية وتقى لله، فلم ينافقوا فى دينهم، ولم يتّجروا بإيمانهم، بل كانوا على حال، سواء مع الله ورسوله، فى السراء والضرّاء وفى الشدة والرخاء.. إنه الحب لله، والرضا بحكم الله.. والحب الصادق لا يجىء منه أبدا ما يغير موقف المحب ممن أحب. هكذا الحب بين الناس، فكيف يكون الحب بين الناس ورب الناس؟ يقول الشاعر لمن أحب: أسيئي بنا أو أحسنى.. لا ملومة ... لدينا ولا مقليّة إن تقلّت الآيات: (53- 57) [سورة النور (24) : الآيات 53 الى 57] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1311 التفسير: قوله تعالى: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا.. طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» . عادت الآيات بعد ذلك لتكشف عن وجه آخر من وجوه المنافقين، ولتعرض صورة أخرى من صور نفاقهم مع الله، بعد أن عرضت تلك الصورة المخزية الفاضحة منهم، وأنهم لا يقبلون حكم الله ورسوله فيهم، ولا يرضون بكتاب الله حكما عليهم.. فتراهم هنا فى هذه الصورة، لا يستجيبون لدعوة الجهاد إذا حان وقت الجهاد، ودعا داعية.. وقد كانوا من قبل يقسمون الأيمان أغلظ الأيمان وأوكدها، لئن أمرهم الرسول بالخروج إلى القتال ليخرجنّ من غير تردد أو مهل.. فهم فى مجال القول، أبطال حروب، وفرسان قتال، فإذا جدّ الجدّ، كانوا أجبن الناس، وأحرص الناس على حياة.. وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطعن وحده والنّزالا والحلف، هو أول سمة من سمات النفاق، وكثرة الحلف وتوكيده، هو الإدام الذي يأتدم به الكلام فى أفواه المنافقين، فلا يسوغ لأفواههم كلام، ولا يجدون لقول طعما إلا إذا غمسوه فى تلك الأيمان الكاذبة، وأكدوه بهذا الحلف الفاجر، واليمين الغموس.. - وقوله تعالى: «لا تُقْسِمُوا» هو ردع لهم، وردّ لأيمانهم المؤكدة، ومبادرة بالتكذيب لما وراء هذه الأيمان، وذلك لما هو معروف من أمرهم، وأنهم ليسوا أهل صدق ووفاء، لأن من لا إيمان له، لا أيمان له.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1312 - وفى قوله تعالى: «طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ» استهزاء بهم، وسخرية منهم، وبطاعتهم تلك التي يحلفون عليها، ويقدّمون بين يديها أوكد الأيمان.. إنها طاعة معروفة، طاعة بالقول، وعصيان بالعمل.. وهذا مثل قوله تعالى فى المنافقين: «يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا.. لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ.. قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ.. وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (94: التوبة) . قوله تعالى: «قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» . هو دعوة إلى المنافقين، أن يخرجوا من نفاقهم هذا، وأن يستقيموا على طريق الإيمان، ويأخذوا وجهتهم مع المؤمنين، ولن يكون ذلك إلا بأن يطيعوا الله والرسول، وأن يمتثلوا ما أمر الله به على لسان نبيه الكريم، فإن فعلوا رشدوا، وإن تولوا فإنما على الرسول «ما حمّل» من أمانة، وهى تبليغ رسالة ربه، وقد بلّغها.. «وعليهم ما حملوا» وهو الاستجابة للرسول، والإيمان به، وبما معه من آيات الله.. وقد ألقوا هذه الأمانة من أيديهم، وخلعوها من أعناقهم. وقوله تعالى: «فَإِنْ تَوَلَّوْا» أصله «تتولوا» .. حذفت تاء المضارعة للتخفيف.. - وقوله تعالى: «وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا» - هو مطلوب الأمانة التي حمّلوها، والتي أشار إليها قوله تعالى: «وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ» .. - وقوله تعالى: «وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» - هو مطلوب الأمانة التي حملها النبىّ، والتي أشار إليها، قوله تعالى: «فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ» .. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1313 وقد كان مقتضى النظم أن يردّ فيه ختام الآية على مطلعها، مراعى فيه الترتيب الذي جاء عليه المطلع.. بمعنى أن يكون نظم الكلام هكذا: فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم، وما على الرسول إلا البلاغ المبين، وما عليكم إلا أن تطيعوه.. ولكن هذا كلام، وذاك قرآن.. وشتان بين القرآن، وبين الكلام! .. فقد جاء القرآن على هذا النظم، فحمّل المنافقين الأمانة، ثم دعاهم فورا إلى الوفاء بها، لأنهم هم المطلوبون، المنادى عليهم بالخيانة.. على حين أن الرسول قد أدى أمانته، وليس فى حاجة إلى تنبيه أو طلب.. وعلى هذا يكون قوله تعالى: «وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» توكيدا وشرحا لقوله تعالى: «فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ» وليس دعوة جديدة للنّبى أن يبلغ البلاغ المبين، على حين أن قوله تعالى: «وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا» هو أمر مطلوب من المنافقين أداؤه. قوله تعالى: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً، وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» . الخطاب هنا للمؤمنين جميعا، فى مواجهة المنافقين.. وأن هؤلاء المؤمنين موعودون من الله- إذا هم صدّقوا إيمانهم بالعمل الصالح- أن يستخلفهم فى الأرض، أي يجعلهم خلفاءه عليها، ويجعل إلى أيديهم السلطان المتمكن فيها.. فالإنسان هو خليفة الله على هذه الأرض، ولن يكون أهلا لهذه الخلافة إلا إذا صحّت إنسانيته، وسلمت فطرته. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1314 أما إذا انحرف، وفسد، فإنه ينزل عن هذه الخلافة، ويخلى مكانه منها، ليأخذ مكانه بين حيوانات الأرض ودوابّها. - وقوله تعالى: «كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» - إشارة إلى من استخلفهم الله من عباده المؤمنين الصالحين، بعد أن أهلك القوم الظالمين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ» (13- 14: إبراهيم) .. وكذلك قوله سبحانه: «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» (105: الأنبياء) . فالمؤمن بالله، المستقيم على طريق الحق والهدى، هو أقوى الناس قوة، وأقدرهم على جنى أطيب الثمرات مما على هذه الأرض.. وبهذا يكون له السلطان المتمكن فيها.. - قوله تعالى: «وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ» أي أن المؤمنين الذين عرفوا حقيقة الإيمان، وأدوا ما يقتضيه الإيمان منهم، من عمل صالح- هم أهل لأن يجمعوا إلى أيديهم الدنيا، والدين جميعا، فتكون لهم العزة، ويكون لدينهم الغلب والتمكين. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ» .. فالمؤمنون الذين لهم العزة هنا، إنما يستمدون عزتهم من عزة الرسول، الذي يستمد عزته من ربه.. فهم بهذا موصولون بالله، باتباعهم رسول الله، وما أنزل إليه من ربه. وهيهات أن يكون لإنسان ذليل ضعيف، دين، أو أن يقوم دين لدولة فى مجتمع مريض هزيل! الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1315 والدّين الذي ارتضاه الله للمؤمنين، هو الإسلام، كما يقول سبحانه وتعالى فى آخر آيات القرآن نزولا: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» (3: المائدة) . فالإسلام، هو الدين الذي قامت فى ظلّه الشرائع السماوية، كما يقول تعالى: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» .. هو الدين الذي خلص كلّه للأمة الإسلامية.. كما يقول سبحانه: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ» .. وكما يقول سبحانه: «وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ» (193: البقرة) .. وفى قوله تعالى: «وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً» إشارة إلى ما يكسبه الإيمان الحق أهله، من عزّة ومنعة وقوة، وأنهم بهذا الإيمان قد أمنوا أن يزيحهم الكافرون والمشركون والمنافقون عن دينهم، وأن يفتنوهم فيه.. ومن ثمّ فإنهم يعبدون الله بقلوب خلصت من المداهنة والنفاق، والشرك.. فلا يلتفتون إلى غير الله، ولا يعطون ولاءهم لسلطان غير سلطان الله. وقوله تعالى: «وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» .. أي من حدّثته نفسه بالإقلاع عن الإسلام، والعودة إلى الكفر، بعد أن لبس ثوب العزّة، وأمن الفتنة فى دينه من جور الجائرين، وظلم الظالمين- فهو من الفاسقين.. أي الخارجين طوعا عن دينهم، وليس لهم ثمّة عذر.. فهم كافر وفاسق معا.. وهذه الآية، تواجه المنافقين.. كما قلنا- بما يسوءهم ويكبتهم، وذلك بهذا الوعد الكريم من الله بإعزاز المؤمنين، والتمكين لهم، واستخلافهم فى الأرض.. وأن المنافقين إذ كانوا ينظرون إلى حال المؤمنين يومئذ، وإلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1316 ما يعجبهم من كثرة المشركين وغلبتهم، فإن الدولة وشيكة، أن تكون للمؤمنين.. فليبادروا إلى هذا المغنم، وليأخذوا مكانهم بين المؤمنين منذ اليوم، وإلا فلن يكون لهم مكان بعد أن يفوتهم الركب، وهم بمنقطع الطريق. قوله تعالى: «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» . وهذا بيان للأعمال المطلوبة من المؤمنين، حتى يكونوا على الوصف الذي وصفهم الله سبحانه وتعالى به، ووعدهم عليه الاستخلاف، والتمكين.. وهو أن يقيموا الصلاة، وأن يؤتوا الزكاة، وأن يطيعوا الرسول فيما يدعوهم إليه، ويندبهم له، من الجهاد فى سبيل الله.. قوله تعالى: «لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ» . هو خطاب للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- مشار به إلى المؤمنين، الذين استمعوا إلى وعد الله سبحانه وتعالى لهم، بالاستخلاف فى الأرض، والتمكين لدينهم.. وأنهم إذا نظروا فوجدوا ما هم عليه من قلّة وضعف، وما عليه الكافرون والمشركون من كثرة وقوة- إذا نظروا فوجدوا هذا، فلا يهولنّهم الأمر، ولا يدخل على ثقتهم بوعد الله وهن أو شك.. فهؤلاء الكافرون وإن بلغوا ما بلغوا من كثرة وقوة، فإنهم لا شىء أما قدرة الله سبحانه وتعالى.. فلن يعجزوه، ولن يفلتوا من المصير الذي هم صائرون إليه، من ذلّة وخزى فى الدنيا، وعذاب أليم فى الآخرة.. فليمض المؤمنون على إيمانهم، وليستقيموا على ما أمرهم الله.. فإن هم صدقوا الله، صدق وعده لهم، إذ يلقاهم على تلك الصفة التي وعدوا عليها.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1317 الآيات: (58- 60) [سورة النور (24) : الآيات 58 الى 60] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) التفسير: جاءت هذه الآيات الثلاث لتستكمل أدب المعاشرة والمخالطة فى المجتمع الإسلامى، بعد أن بينت الآيات السابقة أحكام الاستئذان، والحجاب والتحصن فى الزواج.. وكان من تدبير الحكيم العليم فى هذا، أنه لم يجىء بهذه الأحكام جميعها فى معرض واحد، حتى لا تزحم العقل، وحتى لا يفلت منها شىء فى هذا المزدحم.. فهى جميعها دستور متكامل، وعقد منتظم، إن انفرطت حبة منه انفرطت حبّات العقد كلها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1318 ومن أجل هذا كان هذا الفصل بينها بتلك الآيات، التي عرضت مالله سبحانه وتعالى من جلال وقدرة، وأنه سبحانه نور السموات والأرض، وما فيهن، وأن كلّ من فى السموات والأرض يسبح بحمده، وأن عالم الأحياء خلق جميعه من ماء، وذلك بقدرة القادر العليم الحكيم.. وأنه كما اختلفت عوالم الأحياء صورا وطبائع، اختلف الناس عقلا وسفها، وإيمانا وضلالا.. فكان فيهم المؤمنون المتقون، وكان منهم الكافرون الجاحدون، وكان فيهم المنافقون، الذين يجمعون بين الكفر والإيمان.. وبعد هذا العرض الممتد المتنوّع، تجىء هذه الآيات الثلاث، لتستوفى أدب المعاشرة والمعايشة، بين الناس والناس.. وفى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ، وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ» - فى هذا أمر للمؤمنين- من رجال ونساء أن يلزموا مواليهم الذين تحت أيديهم- من عبيد وإماء- ألا يدخلوا عليهم خلواتهم، إلا بعد إذن.. وذلك فى ثلاثة أوقات بينتها الآية كما سنرى.. وكذلك تحمل الآية أمرا إلى البالغين الراشدين- من أحرار الرجال والنساء- ألا يدعوا الصغار- من بنين وبنات- الذين، لم يبلغوا الحلم بعد، ولكنهم يميزون ما للرجل والمرأة، ويعرفون العورة وغير العورة- ألّا يدعوهم يدخلون عليهم فى هذه الأوقات الثلاثة إلا بعد استئذان، وإذن.. وهذه الأوقات، قد بينها الله سبحانه وتعالى فى قوله: - «مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ.. وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ.. وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ» .. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1319 ففى هذه الأوقات الثلاثة، يتهيأ الإنسان للراحة والنوم، ويتخفف كثيرا من ملابسه ومن تحفظه فى ستر عورته، لأنه على شعور بأنه فى خلوة مع نفسه، أو مع زوجه.. ففى هذه الأوقات الثلاثة ينبغى ألا يدخل الموالي- عبيدا أو إماء- على سادتهم، من رجال أو نساء، وكذلك الصغار المميزون من بنين وبنات- لا يدخلون على آبائهم أو أمهاتهم، أو غيرهم، إلا بعد أن يستأذنوا ويؤذن لهم. وذلك سترا للعورات، وحفظا للحياء، وسدّا لذرائع الفتنة. - وقوله تعالى: «ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ» أي هذه الأوقات، هى أشبه بثلاث عورات لكم، ينبغى أن تصونوا فيها أنفسكم عن أن يدخل عليكم أحد فيها إلا بإذن، حتى أولئك الذين لا تحتشمون لهم، ولا تتحرجون كثيرا منهم، وهم الموالي والصغار.. - وقوله تعالى: «لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ» .. أي لا حرج عليكم ولا عليهم، بعد هذه الأوقات الثلاثة، فى أن يدخلوا عليكم من غير استئذان.. إذ كان أمركم غالبا فى غير تلك الأوقات، أقرب إلى التصوّن والتحفظ.. وفى الاستئذان الملزم للموالى والصغار، فى جميع الأوقات، كثير من الحرج، الذي تأباه هذه الشريعة، وتعفى أتباعها منه.. وقوله تعالى: «طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ» . جملة حالية. أي لا جناح عليكم ولا عليهم بعد هذه الأوقات الثلاثة وأنتم طوافون بعضكم على بعض.. فهذا شأنكم وشأنهم، بحكم المخالطة والمعاشرة.. ومن هنا رفع عنكم وعنهم الحرج، فى غير هذه الأوقات الثلاثة.. فلكم أن تطوفوا عليهم، ولهم أن يطوفوا عليكم من غير استئذان! الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1320 - وقوله تعالى: «كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» أي مثل هذا البيان الجلىّ الواضح، يبين الله لكم الآيات، ويجىء بها محكمة، لا تحتاج إلى تأويل، حتى تأخذوا بها، وتستقيموا عليها.. «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بما يصلح حياتكم «حَكِيمٌ» فى وصف الدواء لكل داء، يعطى منه بالحكمة، دون إفراط أو تفريط.. قوله تعالى: «وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» . أي أن هؤلاء الأطفال، الذين أذن لهم بالطواف عليكم من غير استئذان فى كل وقت، ما عدا هذه الأوقات الثلاثة- هؤلاء الأطفال إذا زايلتهم صفة الطفولة، وبلغوا الحلم، ودخلوا مدخل البالغين- من رجال ونساء- أخذوا بحكمهم، وأصبح لزاما عليهم أن يستأذنوا فى جميع الأوقات، لا فى هذه الأوقات الثلاثة وحسب.. - وفى قوله تعالى: «كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» إشارة إلى أن هذا الأمر وإن كان واضحا، من حيث أن الطفولة هى التي قضت بإعفاء الأطفال من الاستئذان فى غير هذه الأوقات الثلاثة، فإذا زايلتهم الطفولة زايلهم حكمها الذي ترتب عليها- إلا أنه يمكن لمتأول أن يتأول الطفولة بأنها البنوّة، ومن ثم فإن أبناء الرجل أو المرأة إذا بلغوا، ظلّ هذا الأعفاء ملازما لهم.. فكان هذا البيان الحكيم، وضعا للأمر فى موضعه الصحيح، وقاطعا الطريق على كل تأويل، إذ كان الأمر من عظم الشأن بحيث يجب كشفه وبيانه على هذه الصورة الواضحة، حتى لا يقع فيه لبس أو خفاء.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1321 ولا بدّ من أن يقف المرء هنا وقفة متأملة أمام هذا الأدب الإسلامى الرفيع، الذي يضفى على أتباعه سترا جميلا من التصوّن، والتعفف، والحياء، بهذه الحواجز الرقيقة التي لا تشف عما وراءها من عورات، وذلك لا يكون إلا فى مجتمع كملت إنسانيته، ورقت مشاعره، فعرف لنفسه قدرها، ولكرامته حقها.. إن الحياء هو لباس الإنسانية التي جمّلها الله سبحانه وتعالى به.. ولهذا كان أول ما ظهر على آدم من صفات الإنسان هى ستر عورته، حين ظهرت إرادته بهذا العصيان الذي عصى به ربّه، وأكل من الشجرة التي نهى عن الأكل منها.. إنه هنا كائن ذو إرادة.. إنه إنسان..! ولن يكون إنسانا وهو فى هذا العرى الحيواني.. فكان أن نظر آدم وزوجه إلى وجودهما، فرأيا سوءتيهما، وفرض عليهما الحياء أن يسترا ما استحييا منه.. وقد أسعفتهما الحيلة، فطفقا يخصفان عليهما من أوراق الشجر، ما ستر العورة. هذا هو الإنسان فى أصل فطرته.. الحياء أول شعور وجده فى كيانه، وستر العورة أول صنيع صنعه ليخرج به عن عالم الحيوان..! ومن أجل هذا كان من آداب الإسلام، هذا الحرص الشديد على الحفاظ على عورات المسلمين، وعلى إيقاظ مشاعر الحياء فيهم، بما أوجب عليهم من أحكام وآداب، فى المخالطة والمعاشرة، والاستئذان وستر العورة، حتى يظل ماء الحياء ساريا فى كيانهم، تتغذّى منه مشاعرهم، وتسمو به إنسانيتهم.. فإنه لا إنسانية إذا خفّ ماء الحياء فيها.. وفى هذا يقول الرسول الكريم: «الحياء خير كله» .. «والحياء شعبة الإيمان» .. «الحياء من الإيمان» .. فأين هذا الأدب الرفيع من تلك الحياة البهيمية التي تعيش فيها أمم تعد فى نظر المجتمعات الإنسانية قائمة على قمة الرقىّ، مستولية على زمام المدنية الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1322 والحضارة؟ ولا تسل عن الأزياء الخليعة التي تشف عما تحتها، وتجسّد ما وراءها.. ولا تقف عند الاختلاط الحيواني بين الرجال والنساء فى الأندية والطرقات، والبيوت.. فذلك كله قد صار حياة من حياة تلك المجتمعات، ووضعا مستقرا من أوضاعها.. ولكن الذي يثير العجب والدهش حقا أن يصبح هذا الأسلوب من الحياة دينا يدين به الناس، له فلسفته، وله آدابه وأحكامه.. تجد ذلك فى أندية العراة، وفى مجتمع الوجودية والبرجمانية وغيرها.. مما تضج به حياة الغرب.. والعجب، هو أن يكون للفوضى منطق، وأن يكون للعرى أدب! قوله تعالى: «وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» .. وهذه الآيات استثناء أيضا من عموم قوله تعالى: «وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ.. الآية» . فالقواعد من النساء، وهن المتقدمات فى السنّ، اللاتي لا إربة لهن فى الرجال ولا أرب للرجال فيهن- هنّ أشبه بالأطفال الذين لم يبلغوا الحلم.. ومن هنا كانت نظرة الشريعة إليهن، التخفيف مما أخذ به النساء عموما، من ألا يبدين زينتهن، ولا يكشفن شيئا من تلك الزينة إلا لمن استثنوا فى الآية من الأزواج وغيرهم.. فهؤلاء القواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا- ليس عليهن حرج فى أن يتخففن من ثيابهن، فى جميع الأوقات، مع المحارم، وغير المحارم.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1323 والمراد من ثيابهن، الثياب التي يراد منها ستر ما وراءها من زينة.. كغطاء الرأس، والخمار وغيرهما.. لا الثياب التي تستر العورات من المرأة.. وفى قوله تعالى: «غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ» قيد للإذن برفع الحرج عنهن فى وضع ثيابهن، وذلك بألا يكون غرضهن من وضع هذه الثياب إبداء زينتهن، والتعرض بعرضها للأعين.. فهذا ينافى الوصف الذي وصفن به، وهو قوله تعالى: «اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً» لأن تبرجهن بالزينة، وعرض أنفسهن بها، ينقض هذا الوصف.. وقوله تعالى: «وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ» .. أي وإن يتحفظن، ويدعن التخفف، خير لهن.. فذلك التعفف وعدم التبرج هو من طبيعة المرأة الحرة، أيا كانت السنّ التي بلغتها.. ثم هو من زينة المرأة المسلمة، ومن أدبها الذي تعيش به فى المجتمع الإسلامى! أما هذا التخفيف فهو رخصة، من الله، للتخفيف والرحمة، تضعها المرأة فى يدها، وتستعملها عند الضرورة، بعقل، وحكمة، ودين.. والله سميع عليم.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1324 الآية. (61) [سورة النور (24) : آية 61] لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) التفسير: اختلف المفسرون فى الحرج الذي رفع عن الأعمى، والأعرج، والمريض.. وذهب أكثرهم إلى القول بأن هذا الحكم نزل فى شأن أولئك الزمنى، وأصحاب العاهات، الذين كانوا يقومون على شئون المسلمين الذاهبين إلى الغزو، حيث يخلّفونهم وراءهم، ويدعون إليهم التصرف فى شئونهم.. ويضعون فى أيديهم ما يملكون، من مال أو متاع إلى أن يعودوا من الغزو..! وهذا الرأى يعارضه ما جاء فى قوله تعالى فى هذه الآية: «أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ» فهؤلاء الزمنى والمرضى، يدخلون فى عموم هذا الحكم، سواء كانوا ممن فى أيديهم مفاتيح المجاهدين، أو كانوا أصدقاء لهم.. والذي نذهب إليه، ونرجو- إن شاء الله أن يكون صحيحا- هو أن الآية الكريمة دعوة إلى البر والتوادّ بين المسلمين عامة، وبين الأهل والأقارب خاصة.. وأنه إذا كان للمسلم أن يتحرج من أن يستطعم أو يطعم من أحد من الناس، فإنه ليس له أن يتحرج من أن يستطعم أو يطعم من أحد من الناس، فإنه ليس له أن يتحرج أو يخزى، إذا هو أصاب طعامه عند أحد من أقاربه هؤلاء، الذين ذكرهم الله سبحانه فى تلك الآية، من الآباء والأمهات، والإخوة، والأخوات، والأعمام والعمات والأخوال والخالات- فهؤلاء جميعا أبناء أسرة واحدة، قد قضوا فترة من حياتهم معا، يظلهم سقف واحد، وتجمعهم معيشة واحدة.. فإذا التمس أحدهم طعاما، ولم يجده فى بيته، كان له الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1325 أن يلتمسه عند أىّ من الأقارب، وأن ينال منه شبعه، بإذن أو بغير إذن.. هكذا التكافل بين الأقارب وذوى الأرحام.. ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، كانت دستورا يحكم العلاقة بين الأقارب، وذوى الأرحام، من رجال ونساء، فى اختلاط بعضهم ببعض، كما أنها تحكم العلاقة بين المسلمين عامة- من رجال ونساء- فى دخول البيوت، بعد الاستئذان، والإذن من أصحابها.. ولما كان هذا الاختلاط بين الأقارب، وهذا لتزاور بين المسلمين عامة، يضع المخالطين والزائرين فى أحوال يشهدون فيها طعاما بين يدى أهل البيت الذي دخلوا إليه مستأذنين- فقد كان من تمام الحكمة أن تبين الشريعة ما يقضى به الموقف إزاء هذا الطعام الممدود، وهل من حرج على من يحضره أن يتناول منه، إذا دعى إليه؟ إن الذي دخل البيت هنا لم يكن يقصد الطعام الذي حضرة.. وربّما يقع فى شعور أهل المنزل أنه جاء يطلب الطعام، ويرصد وقته، وقد يكون الزائر جائعا فعلا، ونفسه تشتهى هذا الطعام، ولكنه يتحرج أن ينال منه.. إن هناك مشاعر كثيرة مختلطة تشتمل على أهل الدار وعلى زائرهم.. فكان ما جاءت به الآية الكريمة هنا، ما يصحح هذه المشاعر، ويقيمها على ميزان حكيم عادل كما سنرى.. فقوله تعالى: «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ، وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ» ..- هو رفع للحرج عن هذه الأصناف التي ذكرتها الآية، من أن يستطعموا، ويطعموا من تلك البيوت التي يطرقونها ولا حرج عليهم فى هذا.. أما الأعمى، والأعرج، والمريض.. فإنهم حين يقعون تحت داعية الحاجة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1326 إلى الطعام، ويعجزهم حالهم عن أن ينالوا من كسب أيديهم، فإنهم فى هذه الحال أبناء الأسرة الإسلامية كلها، وإن لهم على المجتمع حقّ الإطعام، كما للابن على أبيه أن يدخل بيته، وينال من الطعام ما يسد جوعته.. ولكى يتقرر هذا المعنى فى نفوس المسلمين، ولكى يصبح هذا الأمر حقّا، للأعمى والأعرج والمريض، على المجتمع الإسلامى، يطالب كل منهم به، ويستأدبه من أي مسلم قادر على الوفاء به، دون أن يكون فى ذلك جرح لكرامته، أو منّة وفضل عليه من أحد- نقول لكى يتقرر هذا، فقد قدّمهم القرآن على الأهل والأقارب، إذا كانوا على الصحة والسلامة، وكانوا أقدر على أن يجدوا حيلة لدفع غائلة الجوع عنهم، بخلاف هؤلاء العجزة الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا.. فجاءت الآية برفع الحرج عن هؤلاء العجزة أولا، ثم دخل معهم هؤلاء الذين جاءت بهم الآية، من الأقارب، وذوى الأرحام.. ثانيا. وهذا الذي ذهبنا إليه، هو الذي يتفق مع روح تلك الشريعة السمحاء، التي قامت على التآخى بين الناس، والتكافل بين المسلمين جميعا.. وفى هذا يقول الرسول الكريم: «ليلة الضّيف واجبة على كل مسلم، فإن أصبح بفنائه محروما «1» كان دينا عليه «2» ، فإن شاء اقتضاه، وإن شاء تركه» .. ويقول- صلوات الله وسلامه عليه: «أيّما مسلم ضاف قوما فأصبح الضيف محروما، فإن حقّا على كل مسلم نصره، حتى يأخذ بقرى ليلته، من زرعه وماله» .   (1) اسم أصبح ضمير يعود إلى الضيف، أي إذا أصبح الفقير بفناء الغنى محروما.. (2) أي كان حق هذا المحروم دينا على الغنى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1327 وروى البخاري ومسلم عن عقبة بن عامر قال: قلنا يا رسول الله تبعثنا «1» فننزل بقوم فلا يقروننا.. فما ترى فى ذلك؟ فقال- صلوات الله وسلامه عليه..: «إذا نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغى للضيف فاقبلوا منهم، وإن لم يفعلوا، فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغى لهم» .. والذي ينظر فى الآية الكريمة يجد أن مساقها يشير إشارة واضحة إلى أن المقصود برفع الحرج فيها، إنما هو عن أولئك العجزة.. من الأعمى، والأعرج والمريض، وأن من دخل بعدهم فى هذا الحكم من الأهل والأقارب، إنما جاء ليدعم هذه القضية، قضية العجزة، وليدلّ على أنهم أولى فى هذا المقام من الأهل والأقارب، وأنه إنما رفع الحرج عن الأقارب، تبعا لهؤلاء.. ففى قوله تعالى: «وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ» ما يشعر بأن شيئا ما من الحرج مع هذا الإذن، وأن الإسلام قد تجاوز عنه، تخفيفا ورحمة، إذ كان المقام مقام رحمة عامة تنال البعيد، ولا يحرم منها القريب.. ولهذا جاء التصريح نصا برفع الحرج، عن الأعمى، وعن الأعرج، وعن المريض.. هكذا. «ليس على الأعمى.. حرج.. «ولا على الأعرج.. حرج. «ولا على المريض.. حرج. وكل واحد منهم قد نصّ على رفع الحرج عنه.. زيادة فى التقرير، والتوكيد.. وإلّا كان من مقتضى النظم أن يجىء رفع الحرج.. مرة واحدة   (1) أي فى سبيل الله.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1328 عن جميع المتعاطفين.. هكذا: «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ» ..! ثم إنه حين جاء ذكر الأقارب، لم يجىء رفع الحرج عنهم نصّا مصرّحا به، بل جاء بالحمل على الحكم الذي كان للمعطوف عليهم، وهم هؤلاء العجزة! .. ولكأن المعنى هو: «حتى ولا على أنفسكم حرج» .. - وفى قوله تعالى: «أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ» - إشارة إلى صنفين آخرين من الناس، ليس عليهم حرج فى أن يأكلوا مما ليس لهم.. والصنف الأول، هم الذين فى أيديهم مفاتيح غيرهم، كالوكلاء، والأوصياء، وغيرهم، ممن يتولّون شئون غيرهم، وحفظ أموالهم وأمتعتهم، فهؤلاء لهم أن يأكلوا مما تحت أيديهم، بالمعروف، من غير إسراف، وذلك إذا كانوا فى حاجة إلى هذا الذي يأكلونه.. كما يقول سبحانه: «وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» (6: النساء) .. أما الصنف الآخر، فهم الأصدقاء، إذ أن لهم على أصدقائهم هذا الحق الذي يجعل لهم مما فى أيدى أصدقائهم شيئا، أقلّه هو لقمة الطعام عند الحاجة.. لأن الصداقة، لا تكون صدقا إلا إذا وصلت بين الصديقين بحبل المودّة والإخاء.. هذا، ويلاحظ فى الآية الكريمة أمران: أولهما: أنها لم تذكر الأبناء، بالنسبة للآباء، على حين ذكرت الآباء، وفتحت بيوتهم للأبناء.. وذلك لأن الأبناء لا يتحرّجون أبدا من أن يطعموا مما يجدون فى بيوت آبائهم.. وكيف وقد أنبتتهم هذه البيوت، وغذتهم منذ الولادة إلى أن صاروا رجالا.. فهل تنكرهم هذه البيوت بعد هذا؟ وهل يجد أحد منهم وحشة فى دخولها، وتناول طعامه منها؟ ذلك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1329 ما لا يكون! أما الآباء فإنهم إذ تلجئهم الحاجة إلى بيوت أبنائهم، فإنهم يغشون بيوتا لم يكن لهم بها عهد.. إنها بيوت مستحدثة، أحدثها أبناؤهم، بعد أن كبروا، واستقلوا بحياتهم.. ومن هنا تكون الوحشة، ويكون الحرج.. وقد جاء القرآن الكريم برفع هذا الحرج.. ومن جهة أخرى، فإن الآباء، لا يمكن أن يضيقوا أبدا بأبنائهم إذا دخلوا عليهم، وطعموا من طعامهم، فى أي وقت، وعلى أي حال، بل إن ذلك هو مبعث السعادة والرضا إلى قلوب الآباء، بخلاف كثير من الأبناء، فإن فيهم العاقّ الذي لا يرعى حقوق الأبوة، والذي قد يضيق بدخول أبيه عليه، والأكل مما عنده.. ولهذا جاء الأمر بفتح هذه الأبواب.. أبواب الأبناء.. للآباء! .. وثانيهما: أن هذا الترتيب الذي جاءت عليه الآية فى ذكر هذه الأصناف، هو ترتيب تنازلى فى رفع الحرج، حسب درجة القرابة.. كما هو واضح فى الآية.. الآباء أولا، فالأمهات، فالإخوة، فالأخوات، فالأعمام، فالعمات، فالأخوال، فالخالات.. بقي بعد هذا، أن نسأل عن تأويل قوله تعالى: «وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ» فهل هناك حرج فى أن يأكل الإنسان من بيته، حتى يدخل هذا فى عموم الحكم القاضي برفع الحرج؟ إن أكل الإنسان من بيته هو الأصل الأصيل فى هذا الباب، فكيف يجىء حكم برفع حرج عن أمر لا حرج فيه أصلا؟. والجواب على هذا- والله أعلم- هو أن بيت الإنسان، وما فيه من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1330 مال، ومتاع، وطعام، وإن كان ملكا خالصا له، يتصرف فيه بما يشاء، وكيف يشاء- إلا أن ذلك ليس على إطلاقه فى مفهوم الشريعة الإسلامية.. فالشريعة مع تسليمها بحق الإنسان بالتصرف فيما يملك، وبالتسلط على ما فى يده من مال ومتاع- لا تعزل المسلم عن المجتمع الذي يعيش فيه، ولا تعزل المجتمع عنه فهو- أيّا كان- خلية فى هذا المجتمع، وعضو من أعضاء هذا الجسد الكبير.. وأن ما يملكه الإنسان ليس ملكا خالصا له، وإنما تتعلق بهذا الملك حقوق لله، وللوالدين والأقربين، والفقراء والمساكين، وابن السبيل، والمجاهدين فى سبيل الله.. هذا ما ينبغى أن يقيم عليه المسلم، شعوره فى كل ما يملك.. إن له فى هذا الملك شركاء، منظورين، وغير منظورين.. وإذن فلا يغلق بابه على ما فيه من طعام، ولا يمسك يديه عما معه من مال، وإنه لن يكون على شريعة الإسلام إذا خلت نفسه من هذا الشعور، أو ضنّ بما تعلق من حقوق فيما بين يديه من فضل الله.. وعلى هذا نجد ما جاءت به الآية الكريمة من رفع الحرج عن أصحاب البيوت أن يأكلوا من بيوتهم، هو إلفات حكيم لأصحاب البيوت إلى أنهم ليسوا هم وحدهم أصحابها، والمستأثرين بما فيها، وأن هناك أصحاب حقوق يشاركونهم فيما فى هذه البيوت، فإذا جاء أحد أصحاب الحقوق يطرق أبوابهم، فليفتحوا له، وليؤدوا إليه حقه! وألا إن الطارقين لكثيرون.. يأتون إليهم من قريب وبعيد.. فلا يضيقوا بهم، ولا يضجروا.. إنها حقوق يجب أن يؤدوها لهم، وأن يبرئوا ذمتهم منها، إن كانوا مؤمنين بالله، مطيعين لما يأمر به الله.. وهنا يرفع الحرج عما يملكون، فى أن ينتفعوا به، ويطلقوا أيديهم للتصرف فيه، بعد أن أدّوا ما عليهم من حقوق.. وإلا فإن الحرج قائم.. حتى تؤدى هذه الحقوق.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1331 هكذا الملكية فى شريعة الإسلام.. ملكية تتعلق بها حقوق، وتقوم عليها التزامات، ولن تصبح ملكا خالصا لمالكيها، حتى يؤدوا ما عليها من حقوق، ويفوا بما عليها من التزامات.. - وقوله تعالى: «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً» أي ليس عليكم أيها المسلمون حرج فى أن يأكل الواحد منكم وحده أو فى جماعة.. حسب الظروف والأحوال.. وذلك أنه كان من عادة العرب ألّا يأكل الإنسان إلا إذا التمس من يأكل معه، ويشاركه فيما يأكل.. وفى هذا يقول شاعرهم: إذا ما صنعت الزّاد فالتمسى له ... أكيلا.. فإنى لست آكله وحدي فلما جاء الإسلام، ودعا إلى التكافل بين المسلمين، أمسك المسلمون بهذه العادة، وجعلوها أمرا ملزما، وخاصة بعد أن سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهم: «ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا بلى يا رسول الله؟ قال: «من أكل وحده، ومنع رفده، وضرب عبده» . ولا شك فى أن مقصد الرسول الكريم بمن أكل وحده، هو ذلك الشره الشحيح الذي يؤثر نفسه بما بين يديه من طعام، دون أن يلتفت إلى من حوله من زوج، وولد، وخادم.. فإنه قلّ أن يأكل الإنسان وحده إلا إذا كان على تلك الصفة.. أما فى غير تلك الحال، فإنه لا بأس من أن يأكل الإنسان وحده، ولهذا جاء القرآن برفع الحرج.. قوله تعالى: «فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» . المراد بالبيوت هنا، هى تلك البيوت التي أشارت إليها الآية، والتي أذن بدخولها للأصناف الذين ذكروا فيها.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1332 فهذه البيوت، لها حرمتها، ولأهلها الذين هم فيها علاقة مودة وقربى بمن يدخلون عليهم فيها.. ومن أجل هذا كان التسليم على أهلها، وصلا لهذه المودة، واستدعاء لهذه القرابة، التي تجمع المسلمين جميعا.. - وفى قوله تعالى: «فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ» إشارة إلى أن الذي يدخل هذه البيوت، هو بعض ممن فيها. وأنه وقد دخلها- سواء أكان قريبا، أو صديقا، أو غير قريب أو صديق- فقد صار من أهلها، وصار أهلها منه.. وهكذا يصبح بيت كل مسلم بيتا لكل مسلم! وفى قوله تعالى: «تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً» هو مفعول مطلق لقوله تعالى: «فَسَلِّمُوا» الذي ضمّن معنى: «فَحَيُّوا» أي فحيوا أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة، هى تحية الإسلام.. أي «السلام عليكم» .. ففى هذه التحية البركة، والطّيب، لما تشيع فى النفوس من أمان وسلام، ومودة وإخاء.. هذا ويجوز أن يكون «تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» منصوبا بفعل محذوف، تقديره، فسلموا على أنفسكم، وتقبلوا تحية من عند الله مباركة طيبة.. وفى قوله تعالى: «كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» .. وفى جعل فاصلة الآية «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» إشارة إلى أن فى هذه الآية معانى دقيقة تحتاج إلى روية وتعقل، لإدراك مراميها البعيدة، وأسرارها العظيمة.. وحسب المرء أن يدبر عقله، إلى تلك الرعاية التي أوجبها الإسلام على المسلمين فى حق أصحاب العاهات، والمرضى، الذين هم الأعضاء الضعيفة فى المجتمع، تلك الأعضاء التي ينبغى أن تكون موضع رعاية، وعناية، كما يرعى الإنسان بعض أعضائه، إذا أصابها مكروه..! الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1333 الآيات: (62- 64) [سورة النور (24) : الآيات 62 الى 64] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) التفسير: قوله تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .. هذه الآية تحكم الصلة التي بين المؤمنين وبين النبي صلوات الله وسلامه عليه بعد أن جاءت الآية السابقة لتحكم الصلة بين أفراد المجتمع الإسلامى.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1334 وأنها صلة وثيقة العرى، ملاكها السمع والطاعة لرسول الله من كل مؤمن ومؤمنة.. وحقيقة إيمان المؤمن، الإيمان بالله ورسوله، ثم السمع والطاعة والولاء للرسول.. والمحكّ الذي يظهر عليه ما عند المؤمن من طاعة، هو ساعة الضيق والعسرة، وامتحان المسلم، فى نفسه وماله.. قوله تعالى: - «وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ» . الأمر الجامع: هو الأمر العظيم، الذي يدعى له المسلمون جميعا، ليواجهوه، وليحمل كل منهم نصيبه منه. وذلك فى حال الدعوة إلى الجهاد، والنّفرة إلى لقاء العدو.. فإذا دعا النبيّ- صلوات الله وسلامه عليه- إلى الجهاد، واجتمعت جماعة المسلمين، لم يكن لأحد منهم أن يذهب لشأن من شئونه، أو يشغل بأمر خاص به، إلا بعد أن يستأذن النبىّ، فإن أذن له مضى، وإلا لزام مكانه. - وقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» هو إذن للمؤمنين، من ذوى الأعذار فى أن يستأذنوا.. فليس طلب الإذن من النبىّ مما يحظر على المسلم فى هذا الوقت.. فالإسلام يسر لا عسر، والرسول الكريم، خير من يقدّر حال المستأذن وظروفه.. - وقوله تعالى: «فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ» أي إنّ طلب الإذن ليس معناه إجابة هذا الطلب، بل إن ذلك يرجع إلى تقدير النبىّ، ونظره إلى الأمر من جميع وجوهه، فقد يرى أن يأذن لبعض، ولا يأذن الآخرين.. فهذا وذلك مما يقضى به الرسول، وعلى المسلم أن يسمع ويطيع.. - وفى قوله تعالى: «وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ.. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» - إشارة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1335 إلى أن طلب الإذن فى هذا الأمر الجامع، وإن كان مباحا- فإن تركه أولى وأفضل، إذ أن فيه إيثارا على النفس، وتضحية بالخاص من أجل العام، ومع هذا، فإن الذين يستأذنون ويأذن الرسول لهم، قد شملهم الله بمغفرته ورحمته، إذ أمر رسوله أن يستغفر لهم الله، والله غفور رحيم.. وهذا من سماحة هذا الدين ويسره.. قوله تعالى: «لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» .. الدعاء: الأمر الذي يحمل دعوة، أو الدعوة التي تحمل أمرا. يتسللون: أي ينسحبون فى خفاء، من غير أن يشعر بهم أحد. اللّواذ: الفرار طلبا للسلامة والعافية. والآية تحت المسلمين على الامتثال لأمر الرسول الكريم، والاستجابة لما يدعوهم إليه، من غير مهل، أو تردّد.. فليست دعوة الرسول للمسلمين، مثل دعوة بعضهم لبعض، حيث يكون للإنسان الخيار فى أن يجيب دعوة الداعي أو لا يجيب.. إن دعوة الرسول، هى أمر من أمر الله، ليس لمؤمن ولا مؤمنة الخيار فى هذا الأمر، وإنما عليه الطاعة والامتثال.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» (36: الأحزاب) ودعاء الرسول هنا، هو دعاء إلى الجهاد فى سبيل الله، وهو أمر ملزم لكل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1336 قادر على حمل السلاح.. وفى هذا يقول الله تعالى: «ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ» (120 التوبة) وقد يكون الدعاء لأمر غير الجهاد، وهو- أيّا كان- أمر ملزم لمن تلقى الأمر من الرسول، فإنه لا يأمر إلا بخير، والله سبحانه وتعالى يقول: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ» (24: الأنفال) قوله تعالى: «قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» . قد، هنا، للتحقيق، والتوكيد.. والمعنى: إن الله ليعلم الذين يتسلّلون من بين المسلمين، ويخرجون فى خفية، فرارا بأنفسهم، وطلبا للدعة والراحة.. فليحذر هؤلاء المتسلّلون، الذي خرجوا على أمر الرسول، ونكصوا على أعقابهم، أن تصيبهم فتنة وابتلاء فى الدنيا، حيث يفتضح أمرهم، ويصبحوا فى عداد المنافقين.. فإن لم يصبهم هذا فى الدنيا، لم يفلتوا من عذاب الله فى الآخرة.. وهو عذاب أليم، نعوذ بالله منه. وفى تعدية الفعل «يُخالِفُونَ» بحرف الجر «عَنْ» مع أنه فعل يتعدى بنفسه.. إشارة إلى أن هذا الفعل قد ضمن معنى «الخروج» ، فهو مخالفة، وخروج معا، إذ قد تكون المخالفة فى الرأى، ثم يكون الامتثال بالعمل.. وهؤلاء المخالفون الذين يتوعدهم الله إنما جمعوا بين المخالفة فى الرأى، والخروج عليه قولا وعملا.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1337 وهذا يشير إلى أن مراجعة الرسول، فيما يأمر به، مما لم يستبن للمسلم منه الحجة الواضحة والدليل المقنع- هذه المراجعة، بل المعارضة أحيانا لا حرج منها، إذ كانت غايتها هى وضوح الرؤية، وانكشاف الطريق، لعينى المؤمن، حتى يكون على بينة من أمره، وحتى يمتثل ما يؤمر به، وهو على هدى وبصيرة، واقتناع.. فدعوة الإسلام دعوة قائمة على العدل، مستندة إلى الحجة والبرهان.. ومن ثمّ كان على المسلم أن يعرض أمور دينه كلها على عقله، وأن يلتمس الدليل المقنع، والحجة القاطعة فى كل أمر.. فإذا لم يسعفه عقله بالدليل، وجب عليه امتثال ما يؤمر به، مع اليقين بأنه هو الحق، والخير.. إذ ليس العقل إلا حاسّة من الحواس العاملة فى الإنسان، وشأنه شأن كل حاسّة فى أن له حدودا يعمل فيها، وأنه إذا جاوز هذه الحدود بطل عمله.. وفى سيرة الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- مع صحابته رضوان الله عليهم، كثير من المواقف، التي يلقى فيها الصحابة رسول الله- فى أدب رائع واحترام عظيم- معترضين أو مخالفين، حتى إذا كشف لهم الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- عن وجه الأمر، أو أراهم من نفسه أنه ماض لم أمرهم به، لم يكن لأحد منهم إلا السمع والطاعة، فى إيمان ثابت ويقين مكين.. وتذكر هنا- من باب الإشارة- ما كان من الحباب بن المنذر بن الجموح، حين رأى النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- وقد أنزل المسلمين منزلا فى غزوة بدر، فلما لم يره الحباب بالمنزل المناسب للمسلمين، جاء إلى رسول الله يسأله قائلا: يا رسول الله.. أهو منزل أنزلكه الله، فليس لنا أن نتحول عنه، أم هو الرأى والمكيدة والحرب؟ فقال صلوات الله وسلامه عليه: «بل هو الرأى والمكيدة والحرب» .. وهنا أشار الحباب بالمنزل الذي رآه.. فأخذ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1338 النبىّ برأيه، وتحول بالمسلمين إليه.. فكان المنزل المبارك، الذي هبت على المسلمين ريح النصر منه!! فمخالفة الرسول هنا ليست لمجرد المخالفة، وإنما هى للنصح للمسلمين، أو لنصح المرء لنفسه ولدينه، حتى لا يكون فى صدره حرج مما يؤمر به! وبذلك تطيب نفس المسلم، ويسلم له دينه، ويتضح له طريقه، ومن هنا يقوم بينه وبين معتقده ألفة وحب، حيث لا يدخل عليه شىء لم يرضه، ويعتقده، عن إيمان واقتناع.. قوله تعالى: «أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» . بهذه الآية تختم السورة الكريمة، مضيفة هذا الوجود كله إلى الله سبحانه وتعالى، الذي أوجده، وأقامه على سنن، وأخذه بنظام حكيم، لا يتخلف عنه أبدا. والإنسان هو بعض ما لله- هو جزء من هذا الوجود.. وهذه الأحكام والشرائع التي سنها الله سبحانه وتعالى للإنسان، وبين له فيها الطريق الذي يسلكه، والطرق التي يجتنبها- هى من سنن هذا الوجود، وفى خروج الإنسان عن أمر الله خروج على هذه السنن، وانحراف عن الوضع السليم الذي يجب أن يكون عليه، الأمر الذي يعرّضه للعزلة عن هذا الوجود، ويلقى به بعيدا عن دائرة الأمن والسلامة.. ومن هنا يجىء شقاؤه فى الدنيا والآخرة جميعا.. وفى قوله تعالى: «قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ» تحذير للمخالفين لله، الخارجين على سننه، المتمردين على أوامره تحذير لهم من عقابه الراصد، وعذابه الأليم.. لأنه سبحانه يعلم كل شىء، ويعلم من الإنسان ما يخفى وما يعلن، وما هو عليه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1339 من صلاح وفساد، وطاعة وعصيان، واستقامة وانحراف.. وقد هنا، للتحقيق والتوكيد.. - وقوله تعالى: «وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا» هو جواب لسؤال يرد على الخواطر، بعد الاستماع إلى قوله تعالى: «قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ» ، وهو: ما وراء هذا العلم الذي علمه الله سبحانه وتعالى من الناس وأعمالهم؟ - وفى قوله تعالى: «وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا» . إشارة إلى جواب هذا السؤال، وهو أنهم سيحاسبون على هذه الأعمال، كبيرها وصغيرها، فى الدنيا والآخرة.. أما فى الدنيا فيكون الحساب والجزاء من غير أن يحضروا هذا الحساب، أو أن يعرفوا سبب هذا الجزاء الذي يجزون به.. وأما فى الآخرة، ويوم يرجعون إلى الله فينبئهم بما عملوا، حيث يرون كل ما عملوه حاضرا، فيعرف كل عامل ما عمل، وما لعمله من ثواب أو عقاب.. كما يقول سبحانه: «يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» (6- 8 الزلزلة) وكما يقول جل شأنه: «وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» .. (13، 14: الإسراء) . وهذا هو بعض السر فى الانتقال من الخطاب: «قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ» إلى الغيبة: «وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا» .. وكان النظم يقضى بأن يجىء هذا المقطع من الآية الكريمة هكذا: «ويوم ترجعون إليه فينبئكم بما عملتم» .. وذلك لأن الخطاب بعلم الله سبحانه وتعالى بما عليه الناس من خير أو شر- هو خطاب عام، موجه إلى الناس جميعا.. أما قوله تعالى: «وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا» فهو موجه إلى المكذبين بهذا اليوم، الذين لا يرجون لقاء الله، ولكن على طريق الإيماء، وذلك بتوجيه الحديث الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1340 - الذي هو من شأنهم- إلى غيرهم، من المؤمنين الذين يؤمنون باليوم الآخر، وما يلقى الناس فيه.. وكأنهم بهذا غير أهل لأن يخاطبوا.. وأنه إذا كان ثمة حديث «إليهم» ، فليوجه إلى غيرهم، ممن هم أهل لأن يسمعوا، ويعقلوا، وأنه إذا كان لهؤلاء المكذبين بهذا الحديث، عودة إلى أنفسهم، وإلى النظر فى هذا الحديث، فليأخذوه من أهله.. «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» . هذا، والله أعلم.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1341 25- سورة الفرقان نزولها: مكية.. باتفاق.. عدد آياتها: سبع وسبعون آية.. عدد كلماتها: ثمانمائة واثنتان وسبعون كلمة.. عدد حروفها: ثلاثة آلاف، وسبعمائة وثلاثون حرفا.. مناسبتها لما قبلها كانت سورة «النور» التي تسبق هذه السورة، نورا من نور الحق جلّ وعلا، سطع نورها في آفاق المجتمع الإسلامي، فجلا كل غاشية، وفضح كل ضلال وبهتان. وكانت «سورة الفرقان» مكملة لهذه السورة، إذ قد استفتحت بتمجيد الله، الذي أفاض على عباده هذا الخير الكثير المبارك، بما نزّل من آيات بينات على نبيّه الكريم.. هى الفرقان، بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والنور والظلام. فكان النور المشع من سورة النور كاشفا للشّبه، مجليا للشكوك والريب، مقيما أمر المسلمين على نور مبين.. وهذا النور الذي معهم من آيات الله، هو «الفرقان» الذي يفرقون به بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال!. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1342 بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 6) [سورة الفرقان (25) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) التفسير: قوله تعالى: «تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً» . تبارك: عظمت بركته، وكثر حيره وفضله.. والمراد بهذا الخبر، الثناء على الله سبحانه، وتعالى.. وهو ثناء من ذاته لذاته، جلّ وعلا.. ومن حقّه على عباده أن يثنوا عليه، كما أثنى سبحانه على نفسه.. وقد كان من دعاء الرسول صلوات الله عليه، وتسبيحه بحمد ربه، قوله: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1343 «سبحانك.. لا أحصى ثناء عليك.. أنت كما أثنيت على نفسك» .. والثناء على الله سبحانه، من ذاته، أو من مخلوقاته، في هذا المقام، إنما هو شعور بعظم المنّة العظيمة، التي كانت بنزول القرآن، وما في هذا القرآن من رحمة، وهدى للعالمين.. - وقوله تعالى: «الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ» - هو وصف لله سبحانه وتعالى، يكشف عن بعض إحسانه وفضله، الذي استحق به التمجيد، والتبريك.. - وفي قوله تعالى: «نَزَّلَ» بدلا من «أنزل» إشارة إلى أن ما نزل على النبىّ من آيات ربّه، لم ينزل جملة واحدة، وإنما نزل نجوما مفرّقة.. وذلك لحكمة عالية، كشف عنها سبحانه وتعالى في ردّه على الكافرين والضالين، الذين قالوا: «لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة؟» فقال سبحانه: «كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً» (32- 33: الفرقان) . وفي تسمية القرآن «فرقانا» إشارة إلى أن ما يحمل القرآن من هدى ونور، يفرق به العاملون به، بين الحقّ والباطل، والخير والشر، والهدى والضلال.. - وفي قوله تعالى: «عَلى عَبْدِهِ» تكريم للنبىّ الكريم، وإدناء له من ربّه، بإضافته إلى ذاته سبحانه وتعالى.. ووصفه- صلوات الله وسلامه عليه- بالعبودية لله، رفع لمقامه وتشريف لقدره، وأنه هو الإنسان الذي يستحقّ هذه الصفة وحده من عباد الله.. فلم يذكر القرآن الكريم عبدا من عباد الله، أو رسولا من رسله، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1344 مضافا إلى الذات العليّة إلا «محمدا» صلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته عليه.. لقد جاء وصف العبد لعيسى عليه السلام، ولكن غير مضاف إلى ذات الله، فقال تعالى: «إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ» (59: الزخرف) وجاء وصف زكريا بأنه عبد، وقد أضيف إلى ضمير الذات، ولم تطلق هذه الإضافة، بل قيّدت بذكر اسم زكريّا.. فقال تعالى: «ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا» (2: مريم) . وبهذا لم تخلص له الإضافة على إطلاقها.. كذلك أضيف كثير من الأنبياء بصفة العبودية، إلى ضمير الذات، ولكن قيّدت هذه الإضافة بذكر أسمائهم، بعدها، كما في قوله تعالى: «وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ» (41: ص) . وقوله سبحانه: «وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ» (45: ص) . وأكثر من هذا، فإن «محمدا» صلوات الله وسلامه عليه قد تكرر ذكره في القرآن الكريم، مضافا إلى ذات الله سبحانه وتعالى بوصف العبودية، ولم تقيّد هذه الإضافة في أية مرة، بذكر اسمه، أو صفته بعدها، بل ترسل الإضافة، هكذا في كل مرة، على إطلاقها، وذلك مما يؤكّد المعنى الذي ذهبنا إليه، وهو إفراد «محمد» صلوات الله وسلامه عليه، بهذه المنزلة بين عباد الله جميعا.. وأنه عبده، الخالص من بين العبيد جميعا. ومما يؤيد هذا المعنى، ويؤكده، أن إضافة محمد إلى ربّه، بصفة العبودية، لم يكن إلا في أحوال خاصة، وصل فيها النبىّ إلى أعلى مقامات القرب من ربّه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1345 ففى الإسراء.. يوصف «محمد» صلوات الله عليه بصفة العبودية، مضافا إلى الذات العلية.. فيقول سبحانه: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» (1: الإسراء) . وفي المعراج، تخلع على «محمد» - صلوات الله وسلامه عليه- تلك الخلعة السنيّة، وهو في أعلى عليين.. فيقول سبحانه وتعالى: «فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى» (10: النجم) . وأكثر من هذا أيضا.. فإن «محمدا» - صلوات الله وسلامه عليه، لم تخلع عليه صفة العبودية مضافة إلى ضمير الذّات، وحسب، بل أضيفت إلى الذات ذاتها، في قوله تعالى: «وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً» (19: الجن) .. وهذه خصوصية أخرى، تعطى هذه العبودية وضعا ليس لغيرها من عباد الله جميعا.. ومع هذا التفرّد، الذي للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- بين خلق الله جميعا، ومع هذا القرب الذي ليس لأحد غيره من عباده، فإنه- صلوات الله وسلامه عليه- لن يخرج عن قيد العبودية، ولن يكون إلا عبدا لله، وإن كان أكرم العبيد.. وإلّا خلقا من خلقه، وإن كان أفضل الخلق.. وأن هذه المنزلة الرفيعة العالية، التي لم تكن ولن تكون لبشر، هى تكريم للإنسان من حيث هو ابن الماء والطين، والذي يرقّ، ويصفو، ويعلو، حتى يتقدم الملأ الأعلى، ويدنو من ذى العرش، حتى يكون قاب قوسين أو أدنى.. ومع هذا كلّه، فإن ما يتحدث به المتحدثون عن الحقيقة المحمدية، يريدون بهذا الحديث أن يقطعوه عن البشرية، وأن يعزلوه عن هذا الوجود البشرى، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1346 إنما يسيئون من حيث لا يدرون إلى مقام النبىّ الكريم، بهذه الألوان الصارخة من الخيال، الذي يلقونه على صورته الكريمة، فيطمسون معالمها، ويشوّهون حقيقتها، فلا يمسك منها النظر، أو العقل، أو الخيال، إلا بظلال باهتة متراقصة، يموج بعضها في بعض، فلا تستبين فيها حقيقة لمخلوق، من أهل الأرض، أو عالم السماء، وإنما هى أمشاج مختلطة، من خيالات وأوهام ... ! «1» إن عظمة «محمد» فى أنه بشر كامل البشرية.. ولد من أب وأم.. وحملت به أمه تسعة أشهر، وأرضع في البادية كما يرضع الأطفال، وعاش كما يعيش أطفال قومه، وصبيانهم، وشبّانهم، ورجالهم.. وإن كان ذلك على أحسن صورة يراها الناس في إنسان، ويتمنّونها لهم، ولأبنائهم.. فلما كرّم الله سبحانه وتعالى محمدا بالرسالة، لم تقطعه هذه الرسالة عن حاله الأولى، ولم ير فيه الناس غير ما يرون، بل إنه لم يأتهم بخارقة من الخوارق، أو معجزة من المعجزات، يملكها في يده، وإنما جاءهم بآيات هى كلمات الله، مضافة إلى الله سبحانه، ومنسوبة إليه جلّ شأنه.. وما محمد إلا مبلغ لهذه الكلمات، وليس له منها إلا ما للناس جميعا، من الاهتداء بنورها، والامتثال لأمرها ونهيها.. فكان ذلك أعظم توكيد وأبلغه، للدلالة على بشرية الرسول من جهة، وعلى أن ابن الماء والطين يحمل في كيانه من قوى الخير، ومشاعل النور، ما يرتفع به إلى أعلى عليين، وأن الطريق مفتوح إلى مالا حدود له من الكمالات، أمام الإنسان.. وأمامه المثل الأعلى للإنسان.. في محمد- «صلوات الله وسلامه عليه» ..   (1) انظر بحثنا في هذا عن «الحقيقة المحمدية.. وما يقال فيها» في الكتاب الثامن من هذا التفسير. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1347 وما أحسن ما يقول «البوصيرى» في رسول الله، وفيما يقال، وما لا يقال، فيه، إذ يقول: دع ما ادّعته النصارى في نبيّهم وقل ما شئت مدحا فيه واحتكم قوله تعالى: «الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً» .. هو تمجيد لله سبحانه، وتعظيم لذاته، بإضافة هذا الوجود إليه، في سماواته وأرضه، وما في السموات والأرض.. - وقوله تعالى: - «وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً» هو تنزيه لله أن يكون له ولد، كما يدعى النصارى، في المسيح، وكما يدّعى اليهود في عزيز.. لأن اتخاذ الولد إنما يكون لافتقار الأب إلى من يحفظ نسبه، ويبقى ذكره.. ثم إن هذا الولد في حاجة أيضا إلى أن يكون له ولد.. وهكذا في سلسلة من التوالد، تجعل الآلهة وأبناء الآلهة أكثر من الآدميين، وأبناء الآدميين.. إذ كان الآلهة- على حسب هذا المنطق- أطول أعمارا، وأكثر قدرة على الإنجاب.. أو أنهم يتوالدون، ولا يموت لهم مولود..! ومن جهة أخرى، فإن الابن- قياسا على هذا المنطق البشرى- لا بد أن تكون له أم، هى زوج الإله.. ومن جهة ثالثة، فإن التناسل لا يكون إلا بين الطبائع المتماثلة.. وعلى هذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1348 تكون زوجة الإله شبيهة به، مشابهة المرأة للرجل.. ويكون الابن شبيها لهما مشابهة الأولاد للآباء.. وهذا كلّه، مما لا يرتفع بالإله عن مستوى البشر.. ومن ثمّ فلا يكون له في هذا الوجود أكثر مما لأى إنسان.. وبهذا يظل مكان مالك الوجود- فى هذا التصوّر- خاليا.. فلمن إذن يضاف هذا الوجود، خلقا، وحفظا وتدبيرا وتصريفا؟ لمن هذا الملك؟ لمن ما في السموات والأرض؟ من يقول أنا؟ ألا فلتخرس الألسنة، وألا فلتخضع الأعناق.. وألا فلتخشع القلوب.. فذلكم الله ربّ العالمين! .. - «الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.. وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً.. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً» . وإنّا إذا ننظر في هذه الآية، وفي قوله تعالى في الآية قبلها: «عَلى عَبْدِهِ» نجد أن فيها حراسة لعبودية النبىّ لربه أن تطغى عليها عواطف الحب والإكبار للنبىّ صلوات الله وسلامه عليه، من أتباعه، وأوليائه، فيجعلوا له إلى الله نسبا، بولادة أو مشاركة، أو نحو هذا، مما يمليه الحبّ، الذي لا تحكمه بصيرة ولا يضبطه عقل! - وقوله تعالى: «وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ» .. أي خلق كلّ ما في السموات والأرض من مخلوقات، ظاهرة أو خفية عرفها الناس، أو لم يعرفوها.. - وقوله تعالى: «فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً» أي أن كل مخلوق خلقه الله، هو عن علم، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1349 وتدبير، وتقدير.. وليس خلقا آليا، كما يقول الطبيعيون، الذين يرون فى قوانين الطبيعة قدرة ذاتية خلّاقة! وهذا ضلال في ضلال.. فأولا: لو كانت الطبيعة هى التي تعطى هذا المحصول الوافر من المخلوقات، لكانت كل مخلوقاتها على صورة واحدة، ولما تعددت أجناسا، واختلفت صورا وأشكالا.. لأن تعدد الأجناس، واختلاف الصور والألوان، إنما يكون من عمل إرادة حرّة، مختارة، تفعل ما تشاء.. والطبيعة عند الطبيعيين لا إرادة لها ولا اختيار.. أشبه بالحجر يلقى به من أعلى الجبل، فلا يملك إلا أن يخضع لحكم الجاذبية، ويسقط على السفح! وثانيا: لو سلمنا أن هذه القوانين التي تحكم الطبيعة، وتحدد مسيرتها، هى التي تعمل وتنتج هذا النتاج المتولد من قوانينها- لو سلمنا بهذا.. لكان لنا أن نسأل: فمن أوجد الطبيعة هذه؟ ثم من أودع في هذه الطبيعة تلك القوى الكامنة فيها؟ ومن رسم القوانين التي تحكم الصلات التي بين أشيائها؟ .. وكيف يقبل الطبيعيون تأليه الطبيعة، في كل ذرة من ذراتها.. ثم لا يقبلون أن يكون على هذه الطبيعة قوة قادرة، تردّ إليها هذه الطبيعة، إيجادا وتقديرا، وتنظيما؟ أليس ذلك أقرب إلى منطق العقل، وأشكل بأسلوب العلم، فى كشف الحقائق، وتقعيد القواعد؟ إن قوانين الطبيعة التي كشف العلم عنها، لا يعيش بعضها بمعزل عن بعض.. فهى وإن كان بينها تفاضل من جهة فإن بينها تكاملا من جهة أخرى.. حتى ينتهى الأمر بها إلى أن تكون قانونا واحدا عاما، شاملا.. هو الذي يحدّث القرآن الكريم عنه بأنه «سنة الله» .. فكل ما عرف وهو هباءة مما لم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1350 يعرف من قوانين هو مندرج تحت هذا القانون العام «سنة الله» ، أي نظام الله، وتقدير الله، الذي أقام عليه هذا الوجود.. قوله تعالى: «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً» .. الضمير فى «اتخذوا» يراد به المشركون بالله، الذين يجعلون مع الله آلهة أخرى، ولم يجر لهؤلاء المشركين ذكر من قبل في هذه الصورة.. وفي عود هذا الضمير على غير مذكورين، تحقير لهم، وإصغار لشأنهم، وأنهم ليسوا شيئا ذا بال، حتى يذكروا ذكرا ظاهرا.. وقوله تعالى: «لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ» - هو صفة لتلك الآلهة التي اتخذها المشركون، واصطنعوها بأيديهم، وجعلوها آلهة.. وإنه ليس بعد سفه هؤلاء المشركين سفه.. يخلقون آلهة بأيديهم، ثم يعبدونها؟ .. إن ذلك وضع معكوس منكوس.. فهم بالنسبة إلى هذه الدّمى التي صنعوها بأيديهم، أشبه بالآلهة.. لأنهم هم الذين خلقوها، وأنه إذا كان لا بدّ من أن يعبد أحدهما الآخر، فإن المخلوق هو الذي يعبد خالقه.. أما أن يعبد الخالق ما خلق.. فهذا ضلال بعيد بعيد! وفي قوله تعالى: «وَهُمْ يُخْلَقُونَ» - وفي إضفاء صفة العقلاء على هذه الدّمى إشارة إلى أنها إذا قيست بهؤلاء المشركين، الذين يعبدونها، كانت أثقل منهم ميزانا، وأعلى منزلة، وأشرف قدرا.. إنها معبودة وهم لها عابدون.. وأنهم- فيما يبدو للناس- أصحاب عقول، فكيف لا يكون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1351 لآلهتهم تلك التي يعبدونها عقول كعقولهم؟ وهل يعقل أن يكون المعبود، دون العابد في شىء؟ .. إنهم هم أنفسهم لا يرضون بهذا، لا يرضون لأحد أن ينزل آلهتهم من هذه السماء التي ينظرون من أرضهم إليها.. فهذه الدّمى عاقلة، وإن كانت من حجر منحوت، أو خشب منجور، أو معدن مصنوع..!! وهل يرى الأطفال فى الدّمى واللعب التي بين أيديهم إلا شخوصا حية، عاقلة، يناجونها، ويلقون إليها بأمانيهم، وخواطرهم.. إن هذا من ذاك سواء بسواء..! وقوله تعالى: «وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً، وَلا نُشُوراً» هو بيان لصفات أخرى، من صفات هذه الآلهة.. فهى مخلوقة غير خالقة، وهى لا حول لها ولا طول، إذ أنها في جمودها هذا لا تستطيع التحول من حال إلى حال، ولا الحركة من مكان إلى مكان.. حتى لو أرادت أن تحطم نفسها ما استطاعت، ولو أرادت أن تدفع عنها يد من يحطمها ما كان لها إلى ذلك من سبيل.. إنها باقية على حالها تلك، إلى أن يطرقها حدث من الأحداث، فيغير من وضعها، كيف يشاء، دون أن يكون لها موقف.. إيجابا، أو سلبا.. وهل يملك الجماد شيئا إلا أن يجمد على ما هو عليه، حتى تجىء إليه قوّة من الخارج، فتحدث فيه ما تحدث من تغيير وتبديل؟ .. وقدمّ الضّرّ على النفع، لأن جلب الضرّ أيسر من تحصيل النفع.. فالإنسان يستطيع أن يضر نفسه بأيسر مجهود، بل وبلا مجهود أصلا، وحسبه أن يقف في طريق الحياة من غير حركة، فإنه إن فعل، سيجد ألوانا من الضرّ والأذى تزحف إليه من كل اتجاه.. وليس كذلك تحصيل النفع، فإنه يحتاج إلى بذل، وجهد، هو الثمن المقابل لهذا النفع، كيلا بكيل، ووزنا بوزن.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1352 وهذه الجمادات- ومنها تلك الأصنام- لا تملك أن تتحول من حال إلى حال أبدا، سواء في الاحتفاظ بوضعها، أو التحول عنه إلى وضع أسوأ، أو أحسن.. إنها لا تملك «موتا» لنفسها، وذلك بتحطيم صورتها التي تشكلت عليها، ولا «حياة» أي إيجاد هذه الصورة من قبل أن توجد، «ولا نشورا» أي إعادة هذه الصورة بعد تحطيمها.. هذا شأنها مع نفسها.. عجز مطلق واستسلام صامت.. فهل يمكن- مع هذا- أن يكون لها حيلة مع غيرها، فى دفع ضر، أو جلب نفع؟ ذلك محال.. وأبعد منه استحالة، أن تقدر على إماتة حى، أو إيجاد حى، أو بعث ميت.. فذلك مما عجز عنه الأحياء.. والذي لا يملكه إلا خالق الحياة، وموجد الأحياء.. الله رب العالمين.. قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ.. فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً» . تكشف الآية هنا عن وجه هؤلاء الذين ذكرتهم الآية السابقة بضمير الغيبة، دون أن تذكر صفتهم، أو ترجع هذا الضمير إلى مذكورين من قبل ذلك في قوله تعالى: «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً» : - ففي قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ» .. إشارة دالة على أن هؤلاء الكافرين الذين يقولون هذا القول المنكر في القرآن الكريم- هم أولئك الذين اتخذوا من دونه آلهة! وإنك لو ذهبت تضع كلا من الآيتين مكان الأخرى، لا استقام النظم. بل إنك لو كنت الذي يحدّث بهذا الأمر، ويصوغ هذا القول، لما ذهبت غير هذا المذهب فجعلت تكذيب المشركين بآيات الله، واتهامهم الرسول بالكذب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1353 والافتراء على الله، سببا في كفرهم، وفي اتخاذهم آلهة يعبدونها من دون الله.. ولكن نظم القرآن وإعجازه، هو وحده الذي يستولى على الحقيقة كاملة، حيث ينفذ إلى الصدور، وينكشف ما تجنّ من خلجات وخطرات.. فهؤلاء الذين التقوا بكلمات الله، وقالوا فيها هذا القول المنكر، إنما التقوا بها، وقد فسدت فطرتهم، بما دخل على قلوبهم من مرض، وما غطّى على عيونهم من موروثات الضلال.. ولو أنهم التقوا بآيات الله من غير أن يكون معهم هذا الداء الذي تمكن منهم، وأفسد عليهم فطرتهم- لكان لهم فى آيات الله قول غير هذا القول، ولرأوا في سناها الوضيء وجه الحق، فاهتدوا إلى الله، وآمنوا به، وبرسوله، وبكلماته..! وكيف يرجى من عقول تملى لأصحابها أن ينحتوا بأيديهم صورا من أحجار ثم يخرون بين يدى هذه الأحجار عابدين، يرجون منها ما لا يرجونه من أنفسهم، ويحملون عليها من آلامهم، وآمالهم ما لا يحتملون هم، أفرادا، أو جماعات- كيف يرجى من هذه العقول أن تعقل آيات الله، وما تحمل فى كيانها من أنوار الحق، والخير، والإحسان؟ ذلك ما لا يكون!. وإذن، فهذا القول الذي يقوله هؤلاء الكافرون في آيات الله.. هو من منطق هذه العقول التي تتعامل مع الدّمى، وتقف بين يديها هذا الموقف الذليل المستكين.. قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ، وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ..» . والإفك: هو الزّور والبهتان.. والافتراء خلق الأكاذيب، ونسبتها إلى الغير.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1354 ومن منطق هؤلاء الضالين، أنهم يتهمون النبىّ بالكذب والافتراء، وهم الذين لم يجرّبوا عليه في حياته كلّها قولة واحدة جانبت الصواب، أو بعدت عن الصميم من الحقّ.. ولم يسألوا أنفسهم: لم يكذب؟ وما غايته من هذا الكذب؟ إن الذي يزوّر الكلام، ويختلق الأكاذيب، لا بدّ أن يكون له وراء ذلك غاية يتغيّاها، ومطلب يسعى للحصول عليه.. فماذا طلب النبىّ منهم من وراء هذا الدّين الذي يدعوهم إليه؟ إنهم- لو عقلوا، لعرفوا أنما يدعوهم ليحترموا عقولهم، وليرتفعوا بإنسانيتهم عن هذا الصّغار الذي هم فيه، من لعب في التراب! ومن عجب، أن هؤلاء الرجال الأطفال، قد استطاعوا أن يميزوا هذا القول، وأن يعرفوا أنه فوق مستوى البشر، وأنه ما كان لمحمد أن يقدر على افترائه، وإنما استعان بأهل الصنعة والخبرة فأعانوه عليه- من عجب أن تبهرهم آيات الله، وأن يروا بعض ما فيها من عظمة وجلال.. ثم تأبى عليهم عقولهم التي أذلّها الجهل والضلال، أن يسلّموا بأن هذا الكلام ليس من صنعة بشر، وإنما هو من كلام ربّ العالمين، كما يقول لهم ذلك محمد، الذي لم يجرّبوا عليه كذبة قط، وكما تحدّثهم بذلك كلمات الله، فى جلالها، وسموّها، وبعدها عن أن تكون في متناول إنسان!. - وفي قوله تعالى: «فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً» - هو ردّ على قول الكافرين: «إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ» .. إنهم هم الذين جاءوا بهذا القول الظالم، الجائر عن الحق، والذي زوّروه على أنفسهم، وكذّبوا عليها به.. وفي تعدية الفعل «جاء» إلى المفعول، وهو يتعدّى بحرف الجرّ، فيقال الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1355 جاء بكذا، لا جاء كذا.. فى هذا إشارة إلى أن هذا القول الذي قالوه، إنما هو مستجلب من وراء عقولهم، وأنه من موروثات الضلال الذي يعيش معهم.. فهم قد استجلبوا هذا القول، الذي ظلموا به الحقيقة، وظلموا به أنفسهم، وكذبوا به عليها.. فالفعل «جاء» ضمّن معنى «جلب» أو «اختلق» .. قوله تعالى: «وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها.. فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» . هو قول آخر من مقولات المشركين في كلمات الله.. وكأنهم أرادوا بهذا أن يقيموا لهذا الزور الذي استجلبوه أو اختلقوه، مستندا يستند إليه، وقد رأوه يكاد يفرّ من بين أيديهم.. ونسبة القرآن إلى أنه من أساطير الأولين، فرار من القول بأنه من معطيات الحياة التي يعيشون فيها، وذلك حين رأوا أن هذه الحياة لا تعطى مثل هذا الكلام في جلاله وروعته، وأنه لو كان ذلك ممكنا لكان عليهم أن يجيئوا بقول مثله، فلم يكن- والحال كذلك- إلا أن ينسبوه إلى علم الماضين، وما سطروه من علم وحكمة.. وفي أساطير الأولين مدخل فسيح للخيال، واصطياد الغرائب التي لا تخطر على البال، حيث يقع الماضي من الناس موقع القداسة والرهبة، لكل صغير وكبير يستجلب منه.. فلا حجة عليهم لمن يجيئهم من عالم الأساطير بما لم يقع لأيديهم، فهذا عالم لا حدود له، ولا مجاز بين أحد وبينه..!! وفي قولهم: «اكتتبها» إشارة إلى أمية النبىّ، ودفع الاعتراض القائم بين يدى قولهم: «إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ» .. وقولهم عن هذا الإفك المفترى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1356 إنه من «أساطير الأولين» .. فأنّى لمحمد بأساطير الأولين، وهو الأميّ؟ فكان قولهم: «اكتتبها» دفعا لهذا الاعتراض ... أي أنه وإن كان أمّيّا، فإنه استعان بمن يكتبها له!! وفي قولهم: «فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» دفع لاعتراض آخر.. وهو: إذا كان محمد قد استكتب هذه الأساطير، واستعان بمن يكتبها له- فما فائدة هذه الكتابة، وهو لا يقرأ ما كتب له؟ ثم هو إنما يتحدث بهذا الكلام مشافهة بلسانه، لا يقرؤه من كتاب، ولا يقرؤه له أحد عليهم.. فكيف هذا؟ .. وجوابهم- كما قدروه-: أن هذا الذي استكتبه، يتلى عليه بكرة وأصيلا، تلاوة دائمة، حتى يحفظه، ثم يحفظه، ثم يخرج على الناس به! وهكذا يركبون بجهلهم، وسفههم، هذا المركب الوعر، والطريق أمامهم مستقيم قاصد.. فماذا عليهم لو أخذوا بما تحدّثهم به أنفسهم، وقالوا إنّ هذا الكلام من عند الله؟. إنهم لو قالوا هذا.. لكان لهم في هذا القول ما لمحمد نفسه.. إنه ليس لمحمد فيه إلّا ما هو لهم، وإنه إذا كان له من فضل عليهم، فهو فضل الدّليل على الراكب الضّالّ، وفضل الطبيب على الأعمى، يعيد إليه بصره، فيرى النور، الذي هو من نعمة الله، على عباد الله، وليس للطبيب ولا لغيره فضل على أحد فيه! أفيكرهون أن يقوم من بينهم طبيب، يجلى عمى أبصارهم، ويزيح ضلال عقولهم، فيروا آيات الله بعيون مبصرة، وعقول سليمة مدركة؟ إنه العناد، والكبر.. عناد الأطفال، وكبر السفهاء والحمقى.. يموت أحدهم غرقا ولا يمدّ يده إلى حبل النجاة الممدود له من يد كريمة رحيمة، حتى لا يقال إن فلانا قد أخذ بيده، ونجّاه من مهلكه!! الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1357 قوله تعالى: «قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.. إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» . هذا هو القول، الذي يلقى به رسول الله، قول هؤلاء الضالين عن كلام الله، بأنه إفك افتراه محمد، وأعانه عليه قوم آخرون، وأنه أساطير الأولين اكتتبها، فهى تملى عليه بكرة وأصيلا.. فهذا الذي بين يدى محمد، وعلى لسانه، وفي قلبه- هو كلام ربّ العالمين. أنزله عليه، هدى ورحمة للعالمين.. وفي وصف الله سبحانه وتعالى بتلك الصفة هنا، وهو أنه يعلم السرّ فى السموات والأرض- إشارة إلى ما لله سبحانه وتعالى من علم، فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.. وأن ما عند الأولين من علم، وما خلفوا من آثار، باقية، أو مطموسة، هى في علم الله، وأنه إذا كان فيما نزل على محمد أخبار من حياة الأولين، ومن أحداثهم- فذلك في علم الله، ومن علم الله.. وإنه ليس بمحمد حاجة- وهو يتلقى آيات ربه- أن يستكتب أساطير الأولين، وأن يحفظها، ثم يحدث بها.. إنه يستقى من مصدر العلم، ومن ينابيعه الصافية، فما حاجته إلى أن يمدّ بصره إلى سراب خادع، أو بئر مطموسة؟. وفي قوله تعالى: «إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» - إشارة إلى أن الله سبحانه، مع علمه بخفايا الناس، وبما يرتكبون من منكرات يخشون أن يطلع عليها من يفضحهم، ويكشف المستور من أمرهم- فإنه سبحانه وتعالى، «غفور» لأصحاب المنكرات، ولا يعجّل لهم العقاب، ولا يفضح المستور منهم، حتى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1358 تكون لهم عودة إلى أنفسهم، ورجعة إلى الطريق المستقيم.. فإنهم إن فعلوا، وجدوا ربا «غفورا» يقبل توبتهم، ويغفر لهم ما كان منهم.. «إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» . الآيات: (7- 16) [سورة الفرقان (25) : الآيات 7 الى 16] وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16) التفسير: قوله تعالى: «وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً» .. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1359 بعد أن فضحت الآيات السابقة مقولة المشركين في القرآن الكريم، بأنه إفك مفترى، وأنه أساطير الأولين، اكتتبها محمد، فهى تملى عليه بكرة وأصيلا- بعد أن فضحت الآيات السابقة تلك المقولة الظالمة عن المشركين فى القرآن الكريم، وردّ الله سبحانه وتعالى كذبهم وافتراءهم بقوله: «قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.. إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» - جاءت هذه الآيات لتفضح مقولتهم في النبىّ نفسه.. فإن لهم فيه مقولات، كتلك المقولات التي يقولونها في كلمات الله التي حملها إليهم.. ومن مقولاتهم في الرسول قولهم الذي حكاه القرآن عنهم: «مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ؟» . فهم ينكرون أن يكون هذا الإنسان رسولا، ثم يأكل الطعام كما يأكلون، ويمشى في الأسواق، ليبيع أو يشترى، كما يمشون ويبيعون ويشترون! وفي حديثهم عن محمد بأنه رسول، استهزاء، وسخرية، وإنكار.. إذ كيف يكون رسولا ثم يكون بشرا تحكمه الضرورات البشرية، من طعام وشراب، وغيرهما؟ هكذا يجرى تفكيرهم وتقديرهم. وفي قولهم: «لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً» تسليم جدلىّ منهم، بأن يكون الرسول بشرا، ولكن لا يعترف به رسولا، إلا أن يكون معه ملك هو الذي يأخذ منه الناس شاهدا على أن محمدا رسول الله، وأن هذه الكلمات التي ينذرهم بها هى كلمات الله!! ولم يسأل هؤلاء الضالين أنفسهم ما جدوى الرسول إذن، مع هذا الملك المنزل من السماء بكلمات الله؟ ولم لا يتصل بهم الملك اتصالا مباشرا إن كان ذلك ممكنا؟ ومع أىّ من المرسلين يتعاملون؟ أمع البشر، أم الملك؟ .. ثم، من يرى ملكا ويتعامل مع بشر؟. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1360 قوله تعالى: «أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» . ثم ها هم أولاء يسلّمون جدلا، أن يكون محمد رسولا، يأكل الطعام ويمشى في الأسواق.. ولكن كيف يكون على هذه الحال، من الضيق فى العيش، وهو على صلة بالله، الذي يفيض الخير على الناس ويملأ أيديهم من النعم؟ ألا يلقى إليه ربّه كنزا من السماء، ينفق منه عن سعة، وينال به كلّ ما شاء من متع الحياة؟ أولا يجعل له ربّه جنة يأكل منها، ويعيش في خيرها، كتلك الجنات التي يملكها أصحاب الجاه والنعمة فيهم؟ إن الذين يتصلون بالملوك، والأمراء، وأصحاب الجاه والغنى، يعيشون فى نعمة ورخاء.. فكيف تكون تلك الحال من الفقر والضيق، لمن يدّعى أنه على صلة بالله، وأنه رسول الله؟ - هكذا يقيس القوم أقدار الناس ومنازلهم عند الله! فعلى قدر ما وسع الله لإنسان في الرزق، يكون- فى تقديرهم- على قدر حبّه له، ومنزلته عنده! إن مقاييس الناس عندهم بما ملكوا من مال، وما جمعوا من حطام.. ولم يدخل في حسابهم شىء من كمالات النفس، وسمّو الروح.. وحسبوا أن هذه الحياة الدنيا هى كلّ ما للإنسان، فإذا انتهت حياته بموته انتهى كلّ شىء بالنسبة له..! ومن هنا كان حسابهم قائما على ميزان فاسد، لا يقام لشىء وزن فيه، إلا إذا كان فاسدا معطوبا.. ثم يدور هذا الحديث في القوم، ويتعاطونه فيما بينهم كما يتعاطون كئوس الخمر.. ثم يكون حصيلة هذا كله، أن يقولوا: «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» ! أي ما تتبعون إن اتبعتم إلا إنسانا سحر، فاختلط عقله، واضطرب تفكيره.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1361 وفي قوله: «وَقالَ الظَّالِمُونَ» بدلا من قوله «وقالوا» إظهارا للصفة التي يدمغهم بها الله سبحانه وتعالى، فى مقابل تلك المقولات المنكرة، الضالة، التي يقولونها في النبىّ. إنّهم ظالمون، جائرون عن الطريق المستقيم، راكبون طرق الضلال، والهلاك.. قوله تعالى: «انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا» .. التفات إلى النبي الكريم بهذا الخطاب من ربّه جلّ وعلا، يدعوه إلى أن ينظر فى هذه المقولات التي يقولونها فيه، وليعجب من تلك العقول الفارغة التي لا يخرج منها غير هذا اللّغو من القول؟ إنهم أعجوبة، تثير الدهش والعجب، وتبعث على السخرية والاستهزاء! والأمثال التي ضربوها، هى تلك الصور التي صورتها عقولهم الفارغة لمن يرون أن يكون أهلا لرسالة السماء. - وفي قوله تعالى: «فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا» إشارة إلى أن ضلالهم كان ضلالا بعيدا، مستوليا على وجودهم كله.. ومن هنا، فإنهم لا يقدرون- ولو حاولوا- على أن يجدوا سبيلا للخلاص من هذا الضلال، الذي غرقوا فى لججه المتلاطمة! قوله تعالى: «تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً» . أي تبارك ربّك، وكثرت خيراته وبركاته.. وإنه ليس بالذي يمسك عنك هذا المتاع الدنيوي، الذي يقتتل عليه هؤلاء المشركون، ويأبون متابعتك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1362 إلا إذا كنت على تلك الصورة التي تمثلوها لمبعوث السماء إليهم، من وفرة الغنى وكثرة الأموال والزروع.. فلو شاء ربك لجعل لك بدل الجنة جنات، وبدل القصر قصورا.. ولكنه سبحانه ضنّ بك على هذه الدنيا أن تشغل قلبك، عن ذكره، أو تحجز عينك عن النظر في غير آياته..! قوله تعالى: «بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً» . إن هؤلاء القوم، لا يرضون عن هذا القول، ولا يجدون فيه ما يعتدل به ميزانك عندهم.. لأنهم لا يؤمنون بالآخرة، ولا يرجون وراء هذه الدنيا حياة أخرى.. ولو أنهم آمنوا بالحياة الآخرة، لعلموا أنها هى الحياة، وأن نعيمها هو النعيم، وأن شقاءها هو الشقاء. وأن ما في هذه الدنيا من متاع وشقاء، إلى زوال: «وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» (64: العنكبوت) . - وفي قوله تعالى: «وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً» وعيد لهؤلاء المشركين بالعذاب الأليم الذي أعده الله للظالمين في الآخرة.. وإنهم لمن الظالمين.. قوله تعالى: «إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً» .. فهذه جهنم- وهذه أهوالها- إنها إذا رأت أهلها المساقين إليها، وهم على بعد منها، «سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً» إنها ترسل إليهم بنذرها قبل أن يصلوا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1363 إليها، حتى لكأن بينها وبينهم ترة وثأرا.. فما أن تلمحهم من بعيد، حتى يفور فائرها، ويموج مائجها.. حتى إذا بلغوها، وألقوا منها في مكان ضيق خانق، أطبقت عليهم، فضاقت أنفسهم، واختنقت أنفاسهم، وتنادوا بالويل والثبور.. فقالوا: يا ويلنا، يا ضيعتنا، يا سوء مصيرنا.. ثم لا يجدون لهذا الاستصراخ من يسمع أو يجيب، وصوت الحال يقول لهم: «لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً» إن صراخكم سيطول، وإن عويلكم لا ينتهى.. ولن ينفعكم صراخ أو عويل! - وقوله تعالى: «مُقَرَّنِينَ» إشارة إلى ما يؤخذ به الظالمون من إذلال وهوان، وأنهم إذ يساقون إلى جهنم، وإذ يلقون فيها، فإنما يحزمون كحزم الحطب، ويقرن بعضهم إلى بعض كما يقرن القطيع من الحيوان.. قوله تعالى: «قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا» . أفهذا العذاب الأليم والهوان المهين الذي ستجدونه يوم القيامة أيها الضالون المكذبون، أم جنة الخلد التي وعدها الله المتقين من عباده؟. فذلك هو جزاؤهم، وهذا هو مصيرهم، إنها جنة الخلد، أعدها الله سبحانه وتعالى لعباده المتقين، وأعد لهم فيها ما يشاءون من نعيم خالد، لا ينفد- أفذلك الذي أنتم فيه أيها الضالون، خير، أم هذا النعيم المقيم؟ ألا فذوقوا هذا العذاب، وانعموا به، واسكنوا إليه، كما كنتم تحيون مع آلهتكم وتسكنون إليهم! - وفي قوله تعالى: «كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا» - إشارة إلى أن هذا النعيم الذي وعده الله عباده المؤمنين المتقين، هو وعد أوجب الله سبحانه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1364 وتعالى على نفسه- فضلا منه وإحسانا وكرما- تحقيقه لمن وعدوا به، وإن لهم على الله- فضلا وإحسانا وكرما- أن يسألوه إنجاز هذا الوعد، الذي هو منجز ومعدّ لهم من غير سؤال.. ولكن الله سبحانه، قد جعل هذا الوعد كدين لعباده المتقين وجعل لهم حق استقضاء هذا الدين! وفي هذا ما فيه من كرم الكريم، وإحسان المحسن. ويجوز أن يكون معنى قوله تعالى: «كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا» أن هذا الوعد كان مما يدعو به المؤمنون ربّهم في الدنيا، ويطلبون استجابته لهم، كما يقول الله سبحانه وتعالى على لسانهم: «رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ» ، وقد تلقى الله سبحانه وتعالى دعاءهم هذا بالقبول، فقال سبحانه: «فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى» (195: آل عمران) . فلما كان يوم القيامة، صدقهم الله وعده، وأنزلهم منازل رحمته ورضوانه.. الآيات: (17- 20) [سورة الفرقان (25) : الآيات 17 الى 20] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1365 التفسير: قوله تعالى: «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ» .. هذا مشهد من مشاهد يوم القيامة، يعرض على هؤلاء المشركين، وهم فى هذه الدنيا، مع ضلالاتهم ومعبوداتهم.. وفي هذا المشهد يرون ما سيكون بينهم وبين هذه المعبودات، من عداوة وخصام، وشقاق.. فإذا حشر الناس إلى ربهم، ووقفوا موقف الحساب والمساءلة، جىء بالمشركين، وبمعبوداتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله.. من جماد، وحيوان، وإنسان، وملائكة، وجنّ.. وهنا يسأل الحقّ جل وعلا أولئك المعبودين: «أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ» .. أي أأنتم أيها المعبودون، الذين أضللتم عبادى هؤلاء؟ أم هم ضلوا السبيل؟. وانظر إلى- ما لله سبحانه وتعالى من لطف وكرم.. كيف يدعو هؤلاء الضالين إليه، وكيف يضيفهم إلى ذاته الكريمة: «عِبادِي هؤُلاءِ» الذين أشركوا بي، وكذّبوا رسلى!! فما أقلّ حياء هؤلاء الضالين، الشاردين عن ربّهم.. يدعوهم إليه، ثم هم لا يستجيبون له، ويأبون إلا أن يولّوا وجوههم إلى غيره! ويجىء جواب المعبودين. «قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً» .. إن هؤلاء المعبودين للمشركين.. من جماد، وحيوان، وإنسان، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1366 وملائكة، يعرفون قدر الله، ويعطونه ولاءهم كاملا.. «سبحانك» أي جلّ جلالك، وعلا علاك، «ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ» أي أنه ما كان يصح لنا، أو يقع في تقديرنا، أن نستنصر بغيرك، ونعتز بغير عزتك، ونقبل ولاء من عبادك، الذين ينبغى أن يكون ولاؤهم لك وحدك.. - وفي قوله تعالى: «وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً» .. إشارة إلى الجهة التي جاء منها الضلال إلى هؤلاء الضالين.. إنه البطر بنعم الله، والكفر بإحسانه وفضله عليهم.. «وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ» أي أن إحسانك إليهم، ربّنا، ومدّهم بالنعم، وحلمك عليهم، فلم تعجل لهم العقاب فى الدنيا، مع محادتهم لك، وشركهم بك- إن ذلك هو الذي صار بهم إلى هذا المصير، وإنهم حين رأوا آباءهم قد سلكوا هذا المسلك من قبلهم، ولم يحل عليهم غضبك ولم تنزل بهم نقمتك، اطمأنوا إلى هذا الضلال، وتمادوا في هذا الغىّ.. وهكذا أهل السوء، تبطرهم النّعم، ويفسدهم الإحسان.. وفي هذا يقول الله تعالى: «بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ» (44: الأنبياء) . وهذا العرض الكاشف، الذي يعرض فيه المعبودون، نعم الله وإحسانه على هؤلاء الضالين، وما ركبهم من هذه النعم وذلك الإحسان، من سفه، وغواية- هو زجر، وتعنيف، وتقريع لهؤلاء المشركين الذين يقفون هذا الموقف، وأنهم ليسوا موضعا لهذا الإحسان، ولا أهلا لهذا الفضل.. وإن هذا العذاب الذي ينتظرهم، لهو الجزاء العادل الذي يؤخذون به.. وفي قوله تعالى: «حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ» .. إشارة إلى أن تطاول العهد عليهم بالعافية، من غير أن تحل بهم النقم، أو يشتمل عليهم البلاء- قد أنساهم ذكر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1367 الله، وأبعدهم عن مواطن اللجأ إليه.. فإن المحن والشدائد، هى التي تشدّ المرء إلى الله، فيكثر من ذكره، والغياث به.. والله سبحانه وتعالى يقول: «قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ» (63: الأنعام) ويقول سبحانه «وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ» (51: فصلت) . وإنه لمن الإيمان أن يذكر الإنسان ربّه في الضراء، وأن يدعوه لما نزل به من مكروه، إذ هو سبحانه وحده غياث المستغيثين، وحمى اللاجئين، وقد أمرنا سبحانه وتعالى أن ندعوه، ووعدنا الإجابة لما ندعوه به، فقال سبحانه: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» (60: غافر) وقال جلّ شأنه: «وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ» (186: البقرة) .. ولكن الذي ليس من الإيمان في شىء، بل هو من المكر بالله، وآيات الله، أن يذكر الإنسان ربه في الشدّة، وينكره في الرخاء والعافية إن ذلك إيمان كإيمان فرعون حين أدركه الغرق، فقال وقد ضاقت به سبل النجاة: «آمنت» ! إن المؤمن حقّا هو الذي يملأ قلبه أبدا بذكر الله، فى السرّاء والضرّاء على السواء.. فهو في السرّاء يذكر الله شاكرا نعمه، مسبحا بحمده، طالبا المزيد من فضله.. وهو في الضراء يذكر الله، طالبا كشف الضرّ، ورفع البلاء.. وهذا ما أشار إليه الرسول الكريم في قوله، حين خيره ربه، بين أن يكون ملكا نبيا، أم عبدا رسولا، فاختار أن يكون عبدا، وقال: «بل أكون عبدا أشبع يوما فأشكرك، وأجوع يوما فأذكرك» بل إن حقيقة الإيمان لا تنكشف إلا في مواقع النعم، وفي مواطن الإحسان، ولهذا مدح الله سبحانه وتعالى الشاكرين من عباده، ونوّه بهم، كما قال سبحانه فى نوح: «ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ. إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً» (3: الإسراء) الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1368 كما حثّ سبحانه عباده الذين أجزل لهم العطاء، وأغدق عليهم الإحسان، أن يشكروا له، فقال لداود وآله: «اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً، وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» (13: سبأ) . أما ذكر الله في ساعة العسرة والضيق، فإنه أمر يكاد يستوى فيه الناس جميعا، المؤمنون والمشركون.. كما يقول سبحانه: «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ» (12: يونس) فالإنسان هنا هو مطلق الإنسان، والحكم واقع على الأعمّ الأغلب من الناس. وفي قوله تعالى: «وَكانُوا قَوْماً بُوراً» - إشارة إلى هؤلاء المشركين بالله، وإلى أن شركهم هذا قد حرمهم كل خير، فكانوا بهذا «قوما بورا» أي هلكى، لا سبيل لهم إلى النجاة من هذا المصير المشئوم الذي هم صائرون إليه.. وقوله تعالى: «فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً، وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً» فى هذا، التفات إلى هؤلاء المشركين، الذين يقولون فى كلام الله، وفي رسول الله هذا القول المنكر، الذي لا يزال على ألسنتهم، ولا تزال أصداؤه تطنّ في آذانهم.. فقد سمعوا شهادة آلهتهم فيهم، وبراءتهم منهم، بل وقرعهم بمقارع التعنيف والتسفيه، وأنهم ليسوا أهلا لما ألبسهم الله من نعم، وما دفع عنهم من نقم.. ومن إعجاز القرآن الكريم هنا، أنه- بكلماته المعجزة- ينقل الناس من الدنيا إلى الآخرة، ثم يردّهم إلى الدنيا مرة أخرى، فى لحظات عابرة، يرتفع فيها هذا الحجاز بين الحياة والموت، وبين الدنيا والآخرة، وإذا هؤلاء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1369 المشركون ينتقلون من ناديهم الذي يتفكهون فيه بهذه الكلمات الساخرة الهازئة، بآيات الله وكلمات الله- ينتقلون من ناديهم هذا إلى الآخرة، وإلى موقف الحساب والجزاء، وإلى جهنم وسعيرها.. ثم إذا هم- فى حلم كأحلام اليقظة- قائمون في ناديهم، وقد دخلت عليهم مشاعر كئيبة ثقيلة خانقة، من هذه الرحلة القصيرة، وإذا هم في وجوم ورهق، كمن أفاق من حلم مزعج، ثم إذا هم وقد صكّت آذانهم بهذا القول الذي يطلع عليهم من حيث لا يعلمون: «فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ» ! ويصحو القوم من وجومهم هذا، ويدورون بأعينهم هنا وهناك، باحثين عن هؤلاء الذين كذبوهم بما يقولون.. فيذكرون هذا الحلم المخيف، ويتذكرون هذا الموقف الذي كان بينهم وبين معبوداتهم، وتكذيبهم لهم.. ثم ما يكادون يصلون ما انقطع من حياتهم، حتى يلقاهم هذا الصوت قائلا: «فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً» .. فلقد كذبكم آلهتكم، وتخلّوا عنكم، وذهب النصير الذي كان متعلقكم به.. وها هو ذا العذاب مقبل عليكم، وإنكم لا تستطيعون له صرفا، ولا تستطيعون أن تجدوا لكم ناصرا ينصركم من دون الله.. ثم لا ينتهى الموقف بهم عند هذا، فإنهم ما يكادون يستسلمون لليأس، ويعطون أيديهم لهذا العذاب في استسلام ذليل، حتى يلقاهم هذا الصوت بقوله: «وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً» .. إنه ليذكرهم بأنهم ليسوا في الآخرة، وإنما هم مازالوا في هذه الدنيا، وأن طريق الخلاص مفتوح أمامهم، إذا هم أرادوا أن يلتمسوا وجه النجاة من هذا العذاب الذي رأوه بأعينهم.. فليرجعوا إلى الله، وليأخذوا في غير هذا الحديث المنكر، الذي يقولونه في آيات الله، وفي رسوله الله.. فإنهم إن رجعوا إلى الله، وآمنوا بالله وبآيات الله وبرسول الله، فقد نجوا بأنفسهم، وإلا فإن أمسكوا بما هم فيه من ظلم، فإن الله أعدّ للظالمين عذابا كبيرا.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1370 واقرأ كلمات الله مرة أخرى، وانظر في هذا البيان المعجز. «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» .. «فَيَقُولُ: أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ.. أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ؟» .. «قالُوا سُبْحانَكَ.. ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ! .. «وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً» .. «فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ!!» .. «فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً» .. «وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً» .. آمنت بالله، وصدقت بكلمات الله، وبرسول الله.. ففى هذه الكلمات المعدودات ملحمة، لا يستطيع أن يمسك بها خيال، أو أن يضبط صورها ومشاهدها كل ما عرف الإنسان من ألوان التعبير، مجتمعة ومتفرقة.. إن ذلك لا يكون إلا بكلمات الله.. التي يخرج بها الحىّ من الميت، ويخرج الميت من الحىّ، ويحيى الأرض بعد موتها! قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً.. أَتَصْبِرُونَ. وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً» . هذا التفات إلى النبىّ الكريم، وهو على مرأى ومسمع من قومه، وهم فى حالهم تلك، التي صورتهم عليها الآيات السابقة، ودارت بهم تلك الدورة العجيبة، بين الدنيا والآخرة.. وهذا الحديث إلى النبي الكريم، هو حديث إلى قومه هؤلاء، وهو ردّ على قولهم: «مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الأسواق» .. وكأنه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1371 يقول لهم. هذا هو رسول الله إليكم، وإنه ليأكل الطعام ويمشى في الأسواق، شأنه في هذا شأن المرسلين من قبله جميعا.. فهل أنتم بعد هذا الذي رأيتم من مشاهد الآخرة- هل أنتم مؤمنون به على صفته تلك، أم لازلتم على ما أنتم عليه من إنكار له، وتكذيب به؟ وقوله تعالى: «وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ» - هو توكيد لبشرية الرسل جميعا.. وأنه ما أرسل الله سبحانه وتعالى من رسل، إلا كانوا على تلك الصفة، وكان حالهم هو هذا الحال: «لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ» ! أي يتعاملون مع الناس، بيعا وشراء، وأخذا وعطاء. وقوله تعالى: «وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً» إشارة إلى أن هؤلاء المشركين هم فتنة للنبىّ وللمؤمنين، وابتلاء من الله لهم بهم، وبما يسوقون إليهم، من مكر، وما يرمونهم به من أذى.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ.. فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ» (112: الأنعام) . أما ما يذهب إليه معظم المفسّرين من إطلاق الآية على عمومها، وأن الناس جميعا- مؤمنهم وكافرهم- هم فتنة، يفتن بعضهم بعضا، فالكافرون يفتنون المؤمنين، والمؤمنون يفتنون الكافرون- فإنه مردود من أكثر من وجه.. فأولا: الفتنة، حيث لبست إنسانا كانت وبالا عليه، وعلى غيره.. وإذن فلن يكون المؤمن فتنة أبدا، لا لغيره، ولا للناس.. وقد كان من دعاء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1372 المؤمنين، ما جاء في قوله تعالى: «رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا» (5: الممتحنة) . وثانيا: توعّد الله سبحانه وتعالى، أهل الضلال، الذين يفتنون المؤمنين والمؤمنات بقوله سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا.. فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ» (10: البروج) .. فكيف يكون المؤمنون على موقف كهذا؟ وثالثا: جاء تعقيبا على قوله تعالى: «وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً» .. قوله تعالى: «أتصبرون؟» . وهو دعوة للنبى وللمؤمنين إلى الصبر على هذه الفتن التي يرميهم بها المشركون.. وهذا الاستفهام مراد به الأمر أي: اصبروا على ما تكرهون، مما يهبّ عليكم من ريح الفتن من أهل الضلال والشرك.. رابعا: جاء ختام الآية.. هكذا: «وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً» وفيه تطمين للنبى، وللمؤمنين، وربط على قلوبهم، حتى يصبروا على أذى المشركين، فالله سبحانه وتعالى بصير، عالم بما يحتملون من مكروه في سبيل الحق، وفي الثبات على الإيمان، وسيجزيهم عليه، كما أنه سبحانه، بصير عالم بما يعمل المشركون، وسيلقون جزاء ما يعملون: «وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (111: هود) . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1373 فهرست المجلد الثالث من موضوعات هذا المجلد الموضوع الصفحة لمحة من القضاء والقدر 21 قميص يوسف.. ما هو؟ 43 الحق والباطل.. دولة ودولة 93 ذكر الله واطمئنان القلوب 110 الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة 170 إبليس.. ومن له سلطان عليهم 234 القرآن الكريم.. والحقائق الكونية 341 مع النسخ.. مرة أخرى 361 وقفة مع الإسراء والمعراج 412 الحقيقة المحمدية وما يقال فيها 434 بنو إسرائيل.. ووعد الآخرة 442 العرب وقتل الأبناء ووأد البنات 478 الشجرة الملعونة فى القرآن.. ما هى؟ 512 أصحاب الكهف.. من هم؟ 585 قصة موسى والعبد الصالح 640 القضاء والقدر.. والإنسان 672 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1374 الموضوع الصفحة ذو القرنين.. من هو؟ وما شأنه 696 يأجوج ومأجوج 706 جهنم وهل يردها الناس جميعا؟ 756 الخير والشر 874 أولياء الله وما يبتلون به 933 الحياة.. وخالق الحياة 975 مناسك الحج ومشاهد القيامة 1014 الغرانقة العلى.. قصّتها ومن أين جاءت؟ 1061 الجلد والرجم.. وجريمة الزنا 1201 الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1375 بعون الله تم الكتاب التاسع، ويليه الكتاب العاشر، وفيه تفسير الجزءين التاسع عشر والعشرين.. إن شاء الله.. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1376 [الجزء العاشر] [تتمة سورة الفرقان] الآيات: (21- 29) [سورة الفرقان (25) : الآيات 21 الى 29] وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29) التفسير: قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً» . هو بيان لمقولة من مقولات المشركين، فى مواجهة الدّعوة التي يدعوهم إليها رسول الله، وما يحمل إليهم من كلمات ربّه وآياته.. من هدى ونور.. فقد قالوا فى آيات الله وكلماته: «إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ» .. وقالوا فيها أيضا: «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» . وقالوا فى رسول الله: «مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 3 وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها» . وهم هنا يقولون أكثر مما قالوا.. يقولون: «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا» .. فهم لا يجدون فيما اقترحوه من قبل مقنعا لهم، للتصديق بالرسول، وبرسالته.. بل يطلبون أن يكون المبعوث إليهم من الله، ملكا من ملائكته.. «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ» ثم يمدّون فى حبل الأمانىّ، فلا يجدون فى إنزال الملائكة إليهم ما يقيم حجة بأنهم من عند ربّهم.. إنهم يريدون أن يروا الله عيانا. «أَوْ نَرى رَبَّنا» ! فيال لضلال القوم، وبال لعتوّهم وغرورهم!! وقد ردّ الله سبحانه عليهم بقوله: «لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً» فكشف عن الغرور الذي استبدّ بهم، وملك عليهم أمرهم.. إنهم سادة فى الناس، ورؤساء فى القوم، وزعماء فى العشيرة.. وإنه إذا كان للسماء حديث معهم، فليكن بلسان جنود الله فيها، وهم الملائكة.. فهذا أقلّ ما يقبلونه من السماء إذا أرادت السماء أن تتحدث إليهم.. وإنهم ليعدّون هذا تنازلا منهم، وإلّا فإنهم فى المستوي الذي ينبغى أن يلقاهم فيه الله لقاء مباشرا.. هكذا بلغ بهم السّفه والجهل والغرور!. - وفى قوله تعالى: «لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ» إشارة إلى أن هذا الكبر الذي أراهم فى أنفسهم هذا الرأى- هو داء سكن فى كيانهم، فأشاع فيهم مشاعر كاذبة، من ضلالات وأوهام، ورمت بها أنفسهم، كما يتورم الجسد بالمرض الخبيث! وهذا هو بعض السرّ فى ذكر النفوس، وإسناد الاستكبار إليها، دون إطلاقه ليكون كبرا لهم، فقال تعالى: «لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ» .. وهذا الذي جاء عليه النظم القرآنى، يبين أن استكبارهم استكبار يعيشون به فى نفوسهم، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 4 وأنه لا أثر له فى الخارج، إذ لا يرى الرائي منهم، إلا سفها وجهلا، تخفّ به موازينهم فى الحياة، وينزل به قدرهم فى أعين الناس.. وقوله تعالى: «وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً» - إشارة إلى مخلّفات هذا الاستكبار الكاذب، وأنه أغرى القوم بأن يلبسوا ثوب الجبابرة العتاة المتكبرين.. فإذا نظرنا إلى القوم فى هذا الوصف الكاشف، الذي وصفهم الله به، ثم نظرنا فى قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا» - رأينا أن قولهم: «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا» إنما هو منطلق من قلوب لا تؤمن بالبعث، ولا بالحساب والجزاء، ومن هنا أطلقوا العنان لسفههم وتطاولهم على الله، حتى تمثّلوه واحدا منهم! قوله تعالى: «يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً» . إن هؤلاء السفهاء طلبوا مطلبين، لكى يصدّقوا بما ينزل عليهم من السماء.. إما أن تأتيهم الملائكة، أو يأتيهم الله! وقد ردّ الله سبحانه وتعالى على المطلب الأول، وهو نزول الملائكة، وأضرب عن المطلب الثاني، إذ لا سبيل إليه، وهو رؤية الله! وإنه إذا كان من الممكن أن تنزل عليهم الملائكة، فإنها لا تنزل عليهم إلا بالهلاك والدمار.. فذلك ما كانت ننزل به الملائكة على الأقوام الظالمين قبلهم، كما يقول سبحانه: «ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ» (8: الحجر) والحقّ هنا، هو ما حقّ على الضالين من عذاب الله، بعد أن كفروا بالله، وكذّبوا برسله.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5 فلو أن الله سبحانه استجاب لهؤلاء المشركين، ورأوا الملائكة، لكان ذلك إيذانا ببلاء واقع بهم، فلا يرى لهم بعد هذا من باقية. وقوله تعالى: «لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ» .. أي أن هذا اليوم الذي يرى فيه هؤلاء المجرمون الملائكة، هو يوم عسر، لا يطلع عليهم إلا بما يسوءهم، سواء أكان ذلك فى الدنيا، أو فى الآخرة.. فلا شىء من البشريات المسعدة لهم فى هذا اليوم الذي يرون فيه الملائكة.. وقوله تعالى: «وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً» . الحجر: المنع، ومنه سمى العقل حجرا، لأنه يحجر صاحبه عن العثار، والزلل.. والضمير فى «يَقُولُونَ» يعود إلى الملائكة.. و «حِجْراً مَحْجُوراً» هو مقول قولهم للمجرمين.. أي أنهم يقولون للمجرمين: «حِجْراً مَحْجُوراً» أي ادخلوا هذا الحجر الضيّق، الذي لا تستطيعون الهرب منه.. ويجوز أن يكون الضمير فى: «يَقُولُونَ» عائدا على المجرمين أنفسهم، ويكون ذلك من مقولاتهم، حين يرون الملائكة، وما بين أيديهم من نذر الهلاك، والعذاب، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً» .. فقولهم: «حِجْراً مَحْجُوراً» بمعنى قولهم: ثبورا ثبورا، أي هلاكا مهلكا.. قوله تعالى: «وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً» . القدوم على الشيء: الورود عليه، والوصول إليه من مكان بعيد عنه.. وقدوم الله سبحانه وتعالى إلى أعمال هؤلاء المجرمين، لا يعنى أنها كانت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6 بعيدة عن الله، إذ كل شىء حاضر بين يدى الله سبحانه، وإنما بعدها عن الله، هو بعدها عن موضع الرضا والقبول منه سبحانه وتعالى.. فهو بعد معنوى، استعير للبعد الحسىّ.. وذلك مثل قوله تعالى: «وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» (77: آل عمران) .. فالمراد بالنظر، هو نظر الرضا والرحمة.. وفى التعبير بقدوم الله سبحانه وتعالى إلى أعمال الكافرين، دون التعبير بقدومها هى إلى الله سبحانه وتعالى- إشارة إلى سوء هذه الأعمال، وكراهية الله سبحانه وتعالى لها، وأنها لا ترد عليه، ولا تنزل بحماه، وإنما تظل بمعزل عن هذا الحمى حتى يجئ اليوم الموعود، ويعرض أصحابها على الحساب، فيجاء لهم بأعمالهم تلك من مكانها المنعزل البعيد.. وإذا هى هباء منثور. والهباء: الغبار الدقيق الذي لا يرى إلّا على أشعة الشمس. والمنثور: المنتشر المتطاير.. وهذا يعنى، أن هذه الأعمال إذ تعرض على أصحابها، لا يرونها إلا هباء لا يمسكون منه بشئ، ولا يحصلون منه على ما ينفع، فى هذا الموقف الحرج. والمراد بالعمل هنا، هو العمل الذي يحسب فى الأعمال الصالحة للمؤمنين، على حين أنه لا يعتدّ به إذا كان من عمل غير المؤمنين بالله.. لأن كل عمل لا يزكّيه الإيمان، هو عمل مردود على صاحبه، لأنه لم يرد به وجه الله، فهو- كما قلنا فى غير موضع- أشبه بالميتة من الحيوان، قد خبث لحمه، لأنه لم يزكّ بالذبح، ولو زكّى بالذبح لكان طيّبا، حلالا.. قوله تعالى: «أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 7 هو عرض لأهل الإيمان، الذين تقبل الله سبحانه منهم أحسن ما عملوا، وتجاوز عن سيئاتهم، وأدخلهم منازل رضوانه.. وهذا العرض لأصحاب الجنة، وما يلقون عند الله من رضوان- هو مما يضاعف فى حسرة الكافرين، ويزيد فى قسوة البلاء المحيط بهم.. فإن أهل البؤس، يزداد بؤسهم، حين يرون النعيم الذي يعيش فيه غيرهم، ولو أنهم كانوا يعيشون وحدهم، فى عزلة مع بؤسهم، لخفّف ذلك كثيرا من عناء ما يعانون من قسوة الحرمان.. وفى التعبير عن المؤمنين النازلين بالجنة، بأنهم أصحاب الجنة- إشارة إلى التمكين لهم من كلّ ما فيها من نعيم، وأنهم أصحابها المالكون لها، يتصرّفون فيها تصرّف المالك فيما ملك، من غير مراجعة أو حساب، كما يقول سبحانه وتعالى لهم: «تِلْكُمُ الْجَنَّةُ، أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (43 الأعراف) . والمستقرّ: مكان الاستقرار، والأمن، والطمأنينة، حيث لا يجد الإنسان داعية للتحول عنه.. والمقيل: مكان القيلولة وقت الظهيرة، حيث الظلّ الذي يفرّ إليه الإنسان من الحرور فى ذلك الوقت. فأصحاب الجنة فى أمن واستقرار، وفى ظلّ ظليل من حرّ الشمس، ولفح الهجير.. وتلك أمنية يتمنّاها الذين يعانون حياة الصحراء، ويكتوون بنار شمسها المحرقة، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا» (14: الإنسان) .. أما الذين يعانون حياة البرد ولفحات الزّمهرير، فإنهم سيجدون أمنيتهم فى جوّ معتدل، لا تحرقهم شمسه، ولا يلفحهم برده، كما يقول سبحانه: «لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً» (13: الإنسان) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 8 وكلّ ما جاء فى القرآن الكريم من أوصاف الجنة ونعيمها، هو مما كان يتمنّاه المؤمنون فى الدنيا، وتقصر عنه أيديهم.. فإذا منّ الله عليهم بالجنّة، كان من تمام هذه النعمة، أن يجدوا كل ما فاتهم فى الدنيا حاضرا بين أيديهم، إلى جانب ما أعدّ الله لهم من نعيم، لم يكن يخطر على قلب بشر.. وإذا كلّ نعيم هذه الدنيا الذي كانوا يتشهوّنه، لا يوازى مثقال ذرة من هذا النعيم الذي لم يروه من قبل، ولم يتخيّلوه! وكذلك الشأن فى عذاب الآخرة، فإن ما يساق منه إلى أهل النار، هو مما كان يراه أهلها واقعا بالمؤمنين فى الدنيا، ومما كان يأخذ به الظالمون أولياء الله- هو شىء لا يذكر، إلى جانب ما يلقون هم اليوم من عذاب فوق هذا العذاب.. فالسياط من النار، والمقامع من الحديد، والسلاسل والأغلال، وغيرها مما تحدّث به القرآن من ألوان النكال لأهل النار، هو مما كانوا يعذّبون به أهل الإيمان.. كما فعل المشركون بالسابقين الأولين من المؤمنين، كبلال وآل ياسر وغيرهم. قوله تعالى: «وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً» . تشقّق السماء بالغمام: أي يأخذ الغمام فيها طرقا، فيتشقق بهذه الطرق أديمها، وبتغير وجهها، وتتلوّن صفحتها.. والمراد بالغمام هنا، هو ما يشبه السّحاب، الذي ينزل الملائكة على هيئته يوم القيامة، فلا يراهم الناس يومئذ إلا فى هذه الظلل من الغمام. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 9 كما يقول الله تعالى: «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ» (210: البقرة) . ففى يوم القيامة، يتشقق أديم السماء، حين يتنزل الملائكة فى صورة محسوسة، يراهم الناس فيها كما يرون قطع السحاب.. وفى هذا اليوم، يجىء الناس إلى موقف الحساب، مجردين من كل شىء.. عراة حفاة، كما ولدتهم أمهاتهم.. فإن ما كانوا يملكونه فى الدنيا هو ملك زائل.. أما الملك الحق، فهو للرحمن، سبحانه وتعالى.. كما يقول سبحانه يوم القيامة: «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ ..» فلا يكون إلا جواب واحد، هو: «لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» (16: غافر) . وفى إضافة الملك إلى «الرحمن» - دون ما لله سبحانه من صفات أخرى- فى هذا إشارة إلى ما لله سبحانه وتعالى من رحمة بعباده، فى ذلك اليوم، الذي تلتمس فيه الرحمة، وبلاذ فيه بجناب الرحمن الرحيم.. فحساب الناس، فى هذا اليوم، هو إلى ربّ رحمن، رحيم، وأن ما ينال العصاة والمذنبين، والمنحرفين من عذاب، هو ممسوس برحمة الله، لا يراد منه، إلا تطهير هذه النفوس الخبيثة، وإلّا شفاء هذه القلوب المريضة.. وليست النقمة ولا التشفي مما يتصل بهذا العذاب الذي يلقاه العصاة.. فإنه لا ينتقم ولا يتشفّى إلا من كان عاجزا فقدر، وإلّا من كان عدوّا، فقهر، ثم انتصر.. وتعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.. فالناس خلقه، وصنعة يده.. هو الذي أوجدهم، وربّاهم، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة.. ولا يتفق الانتقام والتشفّى، مع الإنعام والإحسان. وإن صحّ ولزم الإصلاح، والتقويم! وفى قوله تعالى: «وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً» - إشارة إلى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 10 ما يلقى العصاة والمجرمون، فى هذا اليوم- يوم القيامة- من شدائد وأهوال، وما يطلع عليهم منه، من بلاء، وعذاب.. مع الرحمة المحفوفة به. من الرحمن الرحيم.. فكيف بهذا العذاب لو جاءهم خالصا من غير رحمة الرحمن؟ قوله تعالى: «وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا» . هو معطوف على قوله تعالى: «وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ» .. وكلا الظّرفين متعلّق بقوله تعالى: «الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ» .. أي أنه يتجلّى للناس عيانا فى هذا اليوم، يوم تشقق السماء بالغمام، ويوم يعضّ الظالم على يديه- يتجلى لهم أن الملك الحق، هو لله، وأن ما كانوا يملكونه فى الدنيا، لا شىء فى أيديهم منه اليوم، وأنه باطل الأباطيل وقبض الريح.. وعضّ الظالم على يديه، كناية عن الحسرة والندم، على ما فاته من خير، ولا يمكنه الآن دركه.. وقوله تعالى: «يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا» جملة حالية، تكشف عن سبب الحسرة، التي تملأ قلب الظالم فى هذا اليوم، وهو أنه قد كان على طريق مخالف لطريق النبىّ، وأنه دعى إلى الإيمان فأبى؟؟؟؟، ولم يتخذ مع الرسول سبيلا، بل اتخذ سبيله مع الضالين، والظالمين من أمثاله، الذين أغووه، وأغواهم، فكانوا حزبا على النبىّ والمؤمنين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى، على لسان هذا الظالم: «لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا» . وفلان: كناية عن إنسان، يعرفه المتحدّث عنه، ولا يريد ذكر اسمه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 11 كراهية له.. وهو هنا كناية عن كل ضالّ أضلّ صاحبه، كما يقول الله تعالى: «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» (67: الزخرف) .! فالأخلّاء فى الدنيا، إذا كانت المخالّة بينهم قائمة على الخير، وعلى الإيمان والتقوى، كانت فى الآخرة روحا وأنسا.. أما إذا كانت قد جمعت بينهم على طريق الضلال والغواية، فإنها تكون يوم القيامة حسرة وندامة، وعداوة بادية، وتراميا باللّعن والسّباب.. وفى هذا يقول الله تعالى فى الكافرين: «ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ» (25: العنكبوت) . روى أن بعض الصالحين، افتتن بامرأة، حتى كاد يجنّ بها، ولم يستطع مغالبة هواه، وجعل يتوسل إليها بوسائل كثيرة، وهى تأبى عليه، حتى إذا استجابت له بعد لأى، وأمكنته من نفسها، أعرض عنها، وفرّ من وجهها، فسألته: لم هذا الإعراض والفرار، بعد الطلب الملحّ والملاحقة المتصلة؟ فقال: لقد ذكرت قول الله تعالى: «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» .. وأنا أريد أن أحرص على هذا الحبّ الذي لك فى قلبى، وأحتفظ بذلك الإعزاز الذي لك فى نفسى، وألّا ينقلب هذا الحب وذلك الإعزاز إلى عداوة وخصام، ولعان.. يوم القيامة!! وقوله تعالى: «لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي» - هو مقولات الظالم يوم القيامة، حيث ينحى باللائمة على كل من كان سببا فى إضلاله وغوايته. «وَالذِّكْرِ» هو ذكر الله، والاتجاه إليه، والإيمان به.. وقد جاء ذلك الذكر على لسان الرسول الكريم فى آيات الله المنزلة عليه.. فالقرآن الكريم، هو ذكر فى ذاته، وهو منبع الذكر، ومصدره، كما يقول الله تعالى: «وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ» (1: ص) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 12 وقوله تعالى: «وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا» - يجوز أن يكون من كلام الظالم، تعقيبا على الصفات التي وصف بها صاحبه. وأنه شيطان، يغوى، ويضل، كما يغوى الشيطان ويضلّ.. ففى الناس من هو أقدر من الشيطان فتنة، وغواية، لمن بصحبه، ويستجيب له.. ومن هذا كان على الإنسان، أن يتخير الأخيار من الناس، ليصل بهم نفسه، ويشدّ بهم ظهره، على طريق الاستقامة والهدى.. فالإنسان على دين من يصاحب، وعلى هوى من يخالط ويعاشر.. يروى عن السيدة عائشة رضى الله عنها، أنها كانت تحدّث فنقول: «إن امرأت كانت تدخل على نساء قريش، تضحكهم.. فلما هاجرت إلى المدينة، قدمت علىّ، فقلت لها: أين نزلت؟ قالت على فلانة (وكانت تضحك الناس بالمدينة) فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: فلانة المضحكة عندكم؟ قلت نعم! قال: على من نزلت؟ قلت على فلانة المضحكة، فقال: الحمد لله.. إن الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف!» .. الآيات: (30- 34) [سورة الفرقان (25) : الآيات 30 الى 34] وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 13 التفسير: قوله تعالى: «وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً» .. هو أسلوب من أساليب القرآن، فى تنويع العرض، وفى إثارة المشاعر، وتحريك العواطف، فى مجال الدعوة إلى الله، وذلك بعرض الناس على مشاهد القيامة، وما يلقون هناك من حساب وجزاء، ثم العودة بهم إلى حياتهم الدنيا، حيث تواجههم الآيات بماهم متلبسون به من كفر وعناد، فيكون لذلك وقعه فى كثير من القلوب القاسية، والعقول المظلمة.. حيث تلين القلوب، وتنقشع الضلالات عن العقول.. وهنا فى هذه الآية، تقرع آذان المشركين كلمات الله، صارخة بشكوى الرسول الكريم من إعراض قومه عنه، وسخريتهم به، واستهزائهم بكلمات الله.. ذلك، وما زالت مشاهد القيامة، التي كانوا بين يديها منذ قليل- ما زالت تلبس كيانهم، وما زال العرق المتصبب من هولها يرشح على وجوههم! .. وانظر فى قوله تعالى: «وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً» وإلى هذه الكلمات الشاكية الضارعة، وإلى ما تحمل من مشاعر الألم والضيق اللذين يجدهما الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- من هذا الموقف الذي يقفه قومه، من مركب النجاة، التي يدعوهم إليها الرسول، وهم غرقى، يتخبطون فى أمواج الضلال، والهلاك..! إنك لتستشعر لتلك الكلمات حرارة هذا الدعاء الذي يدعو به الرسول ربّه، إلى هداية قومه، وإلى إنقاذهم مما هم فيه.. إنها رحمات يستمطرها الرسول الجزء: 10 ¦ الصفحة: 14 - صلوات الله ورحمته وبركاته عليه- من السماء، لتلين هذه القلوب القاسية، ولتبصر هذه العيون العمى!. وإنك لتجد فى كلمة «قَوْمِي» من الحنو الممزوج بالحسرة والألم، ما تجده فى قول نوح: «رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي!» .. إن هذا من ذاك، سواء بسواء! وفى قوله تعالى: «هذَا الْقُرْآنَ» .. إشارة إلى أن هذا الخير الذي يتجنبه القوم، بل ويرمونه بالفحش من القول، والهجر من الكلام، وهو اليد البرّة الرحيمة، الودود.. فما أبعد ما بين القوم، وبين هذا القرآن! إنه يحسن ويسيئون، ويتودد إليهم ويحزنون؟؟؟؟، ويروّض ويجمحون، ويسمع ولا يسمعون! وفى قوله تعالى: «مَهْجُوراً» .. بيان جامع لموقف المشركين من القرآن. وهو أنهم اتخذوه، كما يتخذون الأماكن المهجورة، يلقون فيها بالنفايات، والقاذورات.. فإن ما يخرج من ألسنتهم فى شأن هذا القرآن، هو من ساقط القول، وسخف الكلام، وهجر الحديث! قوله تعالى: «وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً» .. هذا عزاء كريم، من ربّ كريم، للنبىّ الكريم، عن مصابه فى قومه، الذين تفيض نفسه الرحيمة عطفا عليهم، ورحمة بهم.. فهذا حكم الله فى الضالين المعاندين منهم.. وتلك هى سنة الله فى الذين خلوا من قبل.. وأنه مما قضى الله به فى الناس، أن يكون منهم المؤمنون، والكافرون، وأولياء الأنبياء وأعداؤهم.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 15 فلكلّ نبى أعداء من المجرمين، يقفون من دعوته موقف الخلاف، والعداء. وفى هذا ابتلاء للنبىّ، وللمؤمنين، ليميز الله الخبيث من الطيب، كما يقول سبحانه: «وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً.. أَتَصْبِرُونَ؟ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً» (20: الفرقان) . وكما تحمل الآية الكريمة عزاء للنبىّ، تحمل كذلك التهديد والوعيد للمجرمين، الذين يقفون منه، ومن دعوته، هذا الموقف العنادىّ اللئيم.. وكفى أن يكون الوصف الذي لهم، هو أنهم مجرمون، قد حملوا أبشع جريمة تعرفها الحياة فى عالم البشر.. وهى قتل أنفسهم بأيديهم..! وقوله تعالى: «وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً» يهدى من يشاء من عباده.. «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً.. أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ.. لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ» (41: المائدة) . وفى قوله تعالى: «وَنَصِيراً» تثبيت للنبىّ وللمؤمنين، ودعوة لهم إلى الصبر على أذى «الْمُجْرِمِينَ» .. فالله سبحانه وتعالى هو الذي يتولّى نصر النبىّ ومن معه، وكفى بالله نصيرا.. «إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ» (160: آل عمران) .. قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً.. كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا» .. وهذه مقولة أخرى من مقولات المشركين فى القرآن، ومن مما حكاتهم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 16 الغثّة الباردة حوله.. لقد أخزاهم قولهم فيه: «إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ» .. وقولهم: «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» - لقد أخزاهم هذا القول، ولم يجدوا له بينهم أذنا تسمع، أو إنسانا يصدّق.. فجاءوا إلى ما حول القرآن، لا إلى القرآن نفسه، إذ لم يجدوا للزّور فيه مقالا، وبدا لهم أن الصورة التي ينزل عليها القرآن، يمكن أن ينظروا إليها على أنها دليل على العجز، والقصور، وعلى معاودة النظر، ومعاناة البحث، حتى يقع النبىّ على الكلمات المناسبة، والظرف المناسب، ثم يطلع على الناس بها. هذا، وإلّا لماذا جاء هذا القرآن منجّما هكذا، تتنزّل آياته قطرات قطرات، ولا تنزل جملة واحدة؟ إنه لو كان هذا القرآن من عند الله لأنزله الله جملة واحدة، إذ أن قدرة الله لا يكون منها هذا العجز البادي فى نزول القرآن قطعا متناثرة! .. هكذا فكروا وهكذا قدّروا.. وإنه لبئس التفكير ولبئس التقدير! وفى قولهم «نُزِّلَ» بدل أنزل، الذي يناسب قولهم: «جُمْلَةً واحِدَةً» . لأن «نُزِّلَ» يفيد تقطيع الفعل، ووقوع النزول حالا بعد حال- فى قولهم هذا تعريض بالتهمة التي يتّهم بها القرآن عندهم، وهو أنه نزّل لا أنزل، فهم يحكون الصورة التي نزل عليها القرآن، ثم ينكرونها بقولهم: «جُمْلَةً واحِدَةً» .. وقد ردّ سبحانه وتعالى عليهم هذا الإنكار، مبيّنا الحكمة من نزول القرآن منجّما، على هذا الأسلوب، بقوله سبحانه: «كَذلِكَ.. لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً» . فقوله تعالى: «كَذلِكَ» - إشارة إلى الصورة التي نزل عليها القرآن.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 17 أي أنزلناه على هذا الأسلوب المنجم: «لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ» .. وذلك التثبيت، هو بهذا الاتصال الدائم بالسماء، وبتلقّى ما ينزل منها، حالا بعد حال، على مدى ثلاث وعشرين سنة، تنتظم مسيرة الدعوة، من مبدأ الرسالة إلى خاتمتها.. فعلى كلّ خطوة في هذه المسيرة، وعند كل موقف من مواقفها، كان الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- يتلقى أمداد السماء، ويفتح قلبه وسمعه، لنداء الحق جل وعلا، فيما يحمل إليه الملك من كلمات ربّه، فيجد الرّوح لروحه، والأنس لنفسه، والعزاء الجميل لكل ما يلقى من ضرّ وأذى.. «كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ» .. ولو نزل القرآن جملة واحدة، لما وجد الرسول هذا الذي كان يجده منه، من أنس دائم، ومدد ممتد، من تلك الثمرات الطيبة، التي ينال غذاءه الروحي منها، كلّما أحسّ جوعا، وهفت روحه إلى زاد من مائدة السماء!! إنه لو نزل القرآن جملة واحدة، لكان على النبيّ، أن يحمل هذا الزاد الكثير معه على كاهله، ثم كان عليه- كلما أحسّ جوعا- أن يتخير من هذا الزاد طعامه.. ثم كان عليه أن يعدّ هذا الطعام، وأن يهيئه.. ثم كان عليه أيضا أن يحدد القدر المناسب لحاجته. وهذه كلّها عمليات تستنفد جهدا كبيرا من النبيّ، وتذهب بكثير من طاقانه الروحية في البحث والإعداد. وهذا على خلاف نزول القرآن منجّما، حسب الحاجة، وعند الظروف الداعية.. حيث يجد النبيّ في تلك الحال وجوده كلّه مع آيات الله المنزلة عليه، فتشتمل عليه، وتنسكب في مشاعره ووجدانه، وتملأ عقله، وتلبس روحه.. وشتان بين طعام محفوظ في علب، وبين هذا الطعام المجننى من مغارسه لساعته! قوله تعالى: «وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا» إشارة إلى الصورة التي نزل عليها القرآن، وأنه جاء أرتالا متواكبة، ومواكب يتبع بعضها بعضا، حيث تستطيع العين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 18 أن تشهد كل ما في هذه المواكب، وأن تتبيّن شخوصها، وملامحها، وما تحمل معها من متاع، وذلك على خلاف ما لو جاءت هذه الحشود في موكب واحد، يزحم بعضه بعضا، ويختلط بعضه ببعض، فإن أخذت العين جانبا، فاتها كثير من الجوانب، وإن أمسكت بطرف، أفلت منها كثير من الأطراف. والترتيل: - كما يقول الراغب في مفرداته «هو اتساق الشيء وانتظامه على استقامة واحدة.. يقال رجل رتل الأسنان (أي منتظمها) والترتيل: إرسال الكلمة من الفم بسهولة واستقامة» . ومن هنا كان «ترتيل القرآن» .. وهو قراءته، قراءة مستأنية، فى أنغام متساوقة، يأخذ بعضها بحجز بعض، فيتألف منها نغم علويّ، هو أشبه بتسابيح الملائكة، يجده المرتّل لآيات الله في أذنه، وفي قلبه، وفي كل خالجة منه.. قوله تعالى: «وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً» - هو بيان لحكمة أخرى من حكم نزول القرآن منجما، وهو أن هذا النزول على تلك الصورة، يرصد الأحداث الواقعة على طريق الدعوة الإسلامية من مبدئها إلى ختامها.. ثم يطلع على كل حدث، بما هو مناسب له.. فيحقّ حقّا، ويبطل باطلا، ويزيل شبهة، ويحيى سنة، ويميت بدعة.. وهكذا.. ونكتفى هنا بأن نضرب لهذا مثلا واحدا.. فقد كان من مقولات المشركين. فى إنكارهم للبعث، قولهم: كيف تبعث هذه العظام النّخرة، وتلبسها الحياة مرة أخرى؟. وذلك ما حكاه القرآن عنهم فى قوله تعالى: «وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 19 فجاء قوله تعالى: «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ.. بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ» (79- 81: يس) . فكان ذلك ردّا على هذا المثل الذي ضربوه، وإبطالا له، وإطفاء لنار الفتنة المنطلقة منه، قبل أن يعظم لهيبها، ويشتدّ ضرامها. قوله تعالى: «الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا» .. «الَّذِينَ» بدل من الضمير في قوله تعالى في الآية السابقة: «وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ» .. «فهؤلاء الذين يضربون الأمثال للنبيّ الكريم، يجادلونه بها، ويشوّشون على دعوته، ويثيرون الشكوك والريب عند صغار الأحلام ومرضى القلوب- هؤلاء الذين يجيئون تلك الأمثال، هم الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم، وهم شر الناس مكانا في هذه الحياة الدنيا، وأضلهم سبيلا، إذ عزلوا عن طريق الحق، وركبوا طرق الغواية والضلال.. وحشرهم على وجوههم، هو تنكيل بهم، وامتهان لهم، حيث يعاملون معاملة الحيوانات الميتة،؟؟؟ من أرجلها، ويلقى بها في مكان بعيد.. وفي هذا يقول الله تعالى في هؤلاء الظالمين: «يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ» (48: القمر) الآيات: (35- 44) [سورة الفرقان (25) : الآيات 35 الى 44] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 20 التفسير: قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً» . مناسبة هذه الآية وما بعدها، لما قبلها من آيات، هى أن الآيات السابقة كانت تحدّث عن موقف المشركين من النبيّ الكريم، وخلافهم عليه، ومقولاتهم المنكرة فيه، وفي الكتاب الذي نزل عليه- فجاءت هذه الآية وما بعدها، تحدّث عن الظالمين من الأمم السابقة، وموقفهم من رسلهم، وكيف أخذهم الله سبحانه بعذابه، وأوفع بهم بلاءه. وفرعون والملأ الذين معه، هم الظّلم ممثلا في أبشع صورة. وهم الأئمة في الضلال، والعناد، والكفر.. ولهذا نجد القرآن الكريم، يعرض فرعون، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 21 وعناده، وضلاله، وما انتهى إليه أمره، من الهلاك غرقا- يعرضه في مواجهة المشركين من قريش، وفي المواقف التي يكشف فيها القرآن عن عنادهم وضلالهم، حيث يلقاهم بهذا العرض الكاشف لفرعون، وموقفه من آيات الله وما أخذه الله من نكال، وما ينتظرهم، هم، من بلاء وعذاب، قد رأوه فيمن كذبوا بآيات الله وعصوا رسله..! فهذا موسى رسول الله، قد آتاه الله كتابا من عنده، وشد أزره بأخيه هرون، حتى يلقى فرعون ويبلغه رسالة ربّه.. ولكن فرعون أبى واستكبر، وكذّب بآيات الله التي طلع بها موسى عليه، وهي آيات مادية محسوسة، كتلك الآيات التي يقترحها المشركون على النبيّ، ويجعلونها شرطا لازما لتصديقهم به.. وما موقف القوم إزاء هذه الآيات بأحسن من موقف فرعون.. إنهم لن يؤمنوا بها، وسيكون لهم فيها مقال، كما كان لفرعون فيها مقال! وكذلك شأن الظالمين جميعا مع آيات الله.. إنهم على موقف سواء إزاءها، هو الاتهام والتكذيب! وفي كلمات معدودات، تعرض قصة موسى مع فرعون، هذا العرض الذي يمسك بالصميم منها: «اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً» وفي هذا ما يسأل عنه: - كيف يوصف فرعون وقومه بأنهم كذبوا بآيات الله، ولم يكن موسى قد التقى بهم، وعرض عليهم آيات الله.. والله سبحانه يقول: «اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» ؟ والجواب، هو أن فرعون لم يؤمن بآيات الله المبثوثة في هذا الوجود، وهي آيات تتمثل له في كل شىء.. فى نفسه، وفي عالم الجماد والنبات والحيوان. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 22 وفي ظواهر الطبيعة، وفي الكواكب والنجوم.. وفي كل ما يقع عليه النظر، من قريب وبعيد.. وفي كل شىء له آية ... تدل على أنه الواحد فإغفاله لهذه الآيات، وعدم استنطاقها بما تحدّث به من جلال الخالق وعظمته، هو تكذيب بها.. ولو نظر نظرا باحثا عن الحقيقة، لآمن واهتدى.. ومن جهة أخرى.. فإن الآية حديث إلى هؤلاء المشركين، وعرض لما انتهى إليه أمر فرعون، وأنه قد كذّب بالآيات التي عرضها عليه موسى، فكان أن قال له: «أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى؟ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ!» (57- 58: طه) . -لماذا لم يذكر القرآن فرعون وملأه، واقتصر على الإشارة إليهم بقوله تعالى: «الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا؟» ألا يمكن أن ينصرف هذا الوصف إلى غير فرعون وملائه، كبني إسرائيل مثلا؟ والجواب، من وجوه: أولا: أن بني إسرائيل، لم يدمّروا تدميرا، حين آذوا موسى، ومكروا به، وعبدوا العجل من ورائه، بل كان عقابهم أن صبّ الله عليهم اللعنة، ومسخهم مسخا، وهم أحياء. وثانيا: أن هذا الوصف، وهو التكذيب بآيات الله التي جاء بها موسى، إنما كانت من فرعون وملائه، وقد تحدّث عنها القرآن في غير موضع، تفصيلا، وإجمالا.. ومن هنا كان هذا الوصف علما على فرعون وملائه، لا يشاركهم أحد فيه، فى هذا الموقف. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 23 وثالثا: أنه ليست العبرة هنا في ذوات الأشخاص، وإنما العبرة بالصفة التي يكونون عليها مع آيات الله.. فحيث كان التكذيب بها، كان التدمير، وكان الهلاك.. يستوى في هذا فرعون وغير فرعون.. فما دمّر الله فرعون لأنه فرعون، وإنما لأنه كذّب بآيات الله.. وهؤلاء الذين يكذبون بآيات الله من المشركين، هم فراعين، يلقون ما لقى فرعون! وفي هذا العرض الموجز للقصة كلها: «اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً» تهديد بهذا البلاء المطلّ على رءوس المشركين، وأنه منهم كلمح البصر أو هو أقرب.. إنه التكذيب، فالهلاك والتدمير.. قوله تعالى: «وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً» . الواو في قوله تعالى: «وَقَوْمَ نُوحٍ» للعطف، وَ «قَوْمَ نُوحٍ» معطوف على قوله تعالى: «فَدَمَّرْناهُمْ» أي وكذلك دمّرنا قوم نوح لمّا كذّبوا الرسل. والتدمير الذي وقع على فرعون، وعلى قوم نوح، هو الإغراق.. ومن هنا كان عطف الحدثين وجمعهما في سياق واحد.. وعلى هذا يكون قوله تعالى: «أَغْرَقْناهُمْ» هو جواب عن سؤال: كيف كان تدمير هؤلاء وهؤلاء؟ فكان الجواب: «أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً» .. فالإغراق والعبرة الماثلة للناس من هذا الإغراق، هو حكم واقع على الفريقين معا.. وكذلك التعقيب على هذا الحكم: «وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً» هو تعقيب على مهلك السّابقين واللّاحقين.. ثم هو تهديد ووعيد للحاضرين، والآتين! الجزء: 10 ¦ الصفحة: 24 قوله تعالى: «وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً» . هو معطوف على قوله تعالى: «وَقَوْمَ نُوحٍ» أي وكذلك دمّرنا عادا وثمود وأصحاب الرسّ وقرونا بين ذلك كثيرا.. والقرون: جمع قرن، والمراد الجيل من الناس. وقد اختلف في أصحاب الرسّ.. فقيل إنهم أهل قرية باليمامة يقال لها الرسّ، وقيل هم بقية عاد وثمود، وقيل هم وأصحاب الأيكة قومان، أرسل إليهما شعيب.. وفي مفردات الراغب: الرّس: الأثر القليل الموجود في الشيء. يقال سمعت رسّا من خبر أي قليلا منه.. وفي القرآن الكريم لم يرد ذكر لهذه الجماعة إلا في هذه الآية، وفي آية أخرى في سورة (ق) هى قوله تعالى: «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ» . ويلاحظ أن «أَصْحابَ الرَّسِّ» قدّموا على ثمود في سورة (ق) على حين جاء عكس هذا في سورة الفرقان، فجاء ذكرهم بعد ذكر ثمود. ويمكن أن يتخذ من هذا قرينة على أن أصحاب الرسّ وثمود متجاوران زمانا، أو مكانا، أو زمانا ومكانا معا. كما يلاحظ أنه لم يذكر في الموضعين الرسول الذي أرسل إلى أصحاب الرسّ.. والخلاف الذي وقع فى «أَصْحابَ الرَّسِّ» وقع فى «الرَّسِّ» نفسه.. ما هو؟ وأبن هو؟ وهل هو مكان، كما في قوله تعالى: «كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 25 (176: الشعراء) ؟ أم هو اسم حيوان، كما في قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ» ؟ أم هو سمة من سمات القوم الغالبة فيهم، كما فى قوله تعالى: «وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ» (80: الحجر) ؟ وليس في التعرف على «أَصْحابَ الرَّسِّ» وفي الكشف عن موطنهم، وزمنهم، ورسلهم، ما يزيد في حجم أو أثر العبرة والعظة من مهلكهم.. فما هم إلا جماعة من تلك الجماعات التي شردت عن الحقّ، وتأبّت على الهدى، ووقفت من آيات الله، ومن رسل الله، موقف اللجاج والعناد.. وفي ذكرهم مع عاد، وثمود، ما يصبغهم بهذا الصّبغ الذي اصطبغ به هؤلاء وهؤلاء، من الضلال، والعناد.. فهم، ومن سبقهم، أو لحق بهم من الأقوام الضالين- على سواء في الكفر والضلال.. وفي قوله تعالى: «وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً» إضافة للكثير من الأقوام الضالين، الذين احتواهم الزّمن بين قوم نوح، وبين عاد وثمود وأصحاب الرس.. فهناك كثيرون من الرسل، قد بعثهم الله سبحانه وتعالى إلى أقوام عديدين، فى تلك الحقبة، بين نوح، وبين عاد وثمود وأصحاب الرس.. وأن هؤلاء الأقوام لم يختلف موقفهم مع رسلهم، عن موقف عاد وثمود وأصحاب الرسّ، من رسلهم.. وعلى هذا، فإنه إذا كشف الزمن عن وجه أصحاب الرس- فليكونوا كعاد وثمود، وإذا لم يكشف الزمن عن وجوههم فليكونوا في هؤلاء الأقوام الذين احتواهم الزمن، بين نوح وبين عاد وثمود..! وهذا هو بعض السرّ فى وضع «أَصْحابَ الرَّسِّ» فى هذا الوضع من الآية.. فهم بين معلومين علما قاطعا، وبين مجهولين جهلا تاما.. وكذلك كان وضعهم في آية «ق» : «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ» .. فقد أخذوا وضعا وسطا بين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 26 معلومين قد ذهبت آثارهم، وبين معلومين قد بقيت من آثارهم بقية، هى أطلال دائرة، يمرّ عليها المشركون! قوله تعالى: «وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً» . أي وكلّ قوم من هؤلاء الأقوام الذين أهلكهم الله، ودمدم عليهم- قد ضرب الله لهم الأمثال، وأراهم العبر فيمن سبقهم من الهالكين، حيث ذكّرهم بهم، وبما كان منهم من ضلال وعناد، وما أثمر لهم هذا الضلال وذلك العناد من ثمر نكد.. هو «التتبير» أي الهلاك والعذاب. قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ.. أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها؟ بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً» . أتوا: أي مرّوا، ووقفوا على هذه القرية.. والضمير، يعود إلى المشركين من أهل مكة.. والقرية التي أمطرت مطر السوء: هى قرية لوط.. فقد أهلكها الله سبحانه، بما صبّ عليها من حجارة من سجيل، كما يقول سبحانه وتعالى: «فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ» (82: هود) . والمعنى: أن هؤلاء المشركين، قد مرّوا على هذه القرية، قرية لوط، وهم في تجارتهم إلى الشام، ورأوا من آثار هذه القرية ما يحدّث عن مصارع أهلها.. وفي قوله تعالى: «أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها؟» استفهام يراد به التقريع والتوبيخ. فهم كانوا يرون هذه الآثار، وما تنطق به، ولكنهم كانوا ينظرون بأبصار الجزء: 10 ¦ الصفحة: 27 ترى ولا تعقل، فلم يك ينفعهم هذا النظر شيئا.. كما يقول سبحانه وتعالى: «وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ» (105: يوسف) . وفي قوله تعالى: «بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً» إضراب عن الاستفهام فى قوله تعالى: «أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها» - والمعنى، أنهم كانوا يرون هذه القرية بأعينهم، ولكنهم كانوا لا يرجون نشورا، ولا يتوقعون حياة بعد الموت.. وتلك هي علّتهم في حجب الرؤية النافذة إلى مواقع العبرة في قلوبهم، من تلك القرية.. إنهم ينظرون إليها ويرون مصارع أهلها، ولم يرد على خاطرهم، ما وراء هذا البلاء الذي نزل بهؤلاء القوم؟، إذ كانوا لا يرون أن وراء هذا شيئا آخر.. ولو أنهم كانوا يؤمنون بالبعث، وبالحياة الآخرة، لتمثل لهم العذاب الذي ينتظر هؤلاء الذين ضمّهم الثرى، وأصبحوا ترابا.. وإذن لها لهم الأمر، واستولى عليهم الفزع، ولطلبوا لأنفسهم النجاة من أن يصيروا إلى هذا المصير، الذي ينتهى إليه كل متكبر جبار، لا يؤمن بالله، ولا باليوم الآخر.. قوله تعالى: «وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً.. أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها..» إنه لقاء مع المشركين، بعد أن وقفوا على مصارع القوم الظالمين، وما سيلقونه من عذاب أليم، يوم البعث والجزاء.. وفي هذا اللقاء يستمع المشركون إلى مقولاتهم المنكرة، التي يقولونها فى رسولهم، الذي جاء ليستنقذهم من مصير كهذا المصير، الذي رأوه في أصحاب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 28 القرية، الذين أعنتوا رسولهم، وسفهوا عليه، كما يعنت هؤلاء المشركون رسولهم ويسفهون عليه.. وفي قوله تعالى: «إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً» .. إعلان بالجرم الذي أجرمه المشركون في حقّ الرسول.. وأنهم اتخذوه هزوا وسخرية.. وأن من هزئهم وسخريتهم به، هو الإشارة إليه تلك الإشارة المنكرة له، المستخفّة به، المستصغرة لشأنه: «أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا» ؟. و «إِنْ يَتَّخِذُونَكَ» جملة منفية، و «إن» حرف يفيد النفي، أي ما يتخذونك إلا هزوا.. وفي التعبير عن هزء المشركين بالنبي بقوله تعالى: «يَتَّخِذُونَكَ» إشارة إلى أنهم يجعلون النبي غرضا لسهام السخرية، كلما لاح لهم، وبدا لأعينهم.. فذلك هو دأبهم معه. وفي هذا تشنيع عليهم، وتهويل لجرمهم. وقوله تعالى: «إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها» . «إِنْ» أداة تفيد التوكيد، وهي المخففة من إنّ الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، وتقديره: إنه كاد ليضلنا عن آلهتنا.. وهذه الجملة هي بقية مقول القول: «أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا» .. أي قائلين أهذا الذي بعث الله رسولا؟ إنه كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها..!! وإنهم ليحمدون لأنفسهم هذا الوقوف في وجه النبيّ، وهذا الثبات على ما هم عليه مع آلهتهم، وأنه لولا هذا، لجرفهم هذا التيار الجديد، ولأفسد النبيّ ما بينهم وبين آلهتهم، كما أفسد كثيرا ممن ليس لهم مثل ما عندهم من قوة وإرادة! هكذا ظنهم بأنفسهم، وبما أمسكوا به من ضلال! الجزء: 10 ¦ الصفحة: 29 وفي قولهم: «لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا» ما يكشف عن مدى ما ركب القوم من سفه وضلال، إذ يرون أن ما هم فيه من ولاء لهذه الأصنام، هو الهدى، وأن ما يدعوهم إليه النبيّ من الانخلاع عنها، هو الضلال!! ألا ساء ما يحكمون. وفي قوله تعالى: «وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا» هو ردّ على مقولة المشركين: «لَيُضِلُّنا» .. فإن الضلال هو ما هم فيه.. وسوف يعلمون ذلك، حين ينكشف الغطاء، ويساقون إلى جهنم.. حيث لا ينفع العلم، ولا ينصلح ما فسد.. قوله تعالى: «أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا» . هو استفهام يراد به الإغراء برؤية هذا الأمر العجيب المنكر، الذي يتلبس به ذلك الإنسان الضال، الذي اتخذ إلهه هواه، وجعله معبودا، يعطيه ولاءه، ويسلم إليه إرادته. والخطاب للنبيّ- صلوات الله وسلامه عليه- وإلفات له إلى هؤلاء الضالين من قومه، الذين لعبت بهم الأهواء فلم تكن لهم أعين يبصرون بها، إلى هذا الوجود، وما فيه من آيات تحدث عن أن لهذا العالم خالقا خلقه، ومدبرا حكيما أقامه على هذا النظام المحكم الدقيق، ولم يكن لهم آذان يسمعون بها ما يتلى عليهم من آيات الله، فصمّوا عنها، واستمعوا إلى ما تحدثهم به أهواؤهم، - فكان منهم هذا السخف، وهذا الضلال الذي هم فيه..! وفي قوله تعالى: «أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا» إزاحة لهذا العبء الثقيل من الهمّ الذي كان يجده النبيّ، وهو ينظر إلى سفاهة قومه، وضلالهم، ويعانى من ذلك ما يعانى من آلام.. إنه ليس وكيلا عليهم، يحمل عنهم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 30 ما حملوا من أوزار.. إنهم مسئولون عن أنفسهم، بعد أن بلغتهم رسالة ربك.. فتخفف من هذه المشاعر الثقيلة الضاغطة عليك، ودعهم وما حملوا: «وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها» (164: الأنعام) .. «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ» (8: فاطر) . قوله تعالى: «أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ.. إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا» . هو بيان لهذا الهوى الذي استولى على القوم، واستبدّ بعقولهم، وأن أكثرهم لا يسمعون، ولا يعقلون.. فما هم إلا كالأنعام، فيما يسمعون أو يعقلون.. إن أجهزة السمع عندهم لا تنقل إليهم إلا أصواتا، وإن عقولهم لا تعقل إلا خواطر مبهمة غائمة.. فهم- والحال كذلك- دون الأنعام قدرا، وأنزل منها منزلة في عالم الأحياء.. إذ كانت الأنعام مستقيمة على فطرتها التي فطرها الله عليها.. أما هؤلاء، فقد أفسدوا فطرتهم، واتخذوا أهواءهم قائدا يقودهم إلى كل مهلكة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا!. وفي هذا تخفيف عن النبيّ فى مصابه في قومه، هؤلاء الضالين. إنهم شىء تافه، وأجسام تعرّت من آدميّتها، فليس في فقدهم ما تخف به موازين الإنسانية أبدا.. الآيات: (45- 52) [سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 52] أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 31 التفسير: قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً» مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، تحدثت عن الضالين، الذين لهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، وكل ما لهم، هو هوّى مطاع متسلط عليهم، مستبد بهم، لا يملكون معه نظرا عاقلا، أو سمعا واعيا.. وهنا في هذه الآيات، عرض لصورة كريمة، للإنسان الذي يرى فيعتبر، ويسمع فيعقل، ثم ينتفع بما عقل. والخطاب، وإن كان للنبيّ- صلوات الله وسلامه عليه- فإنه خطاب عام لكل من يستجيب لهذا النداء العلويّ، ويلقاه بقلب سليم، ونظر مستقيم. والاستفهام، إنما يراد به الأمر بالنظر في هذه الظاهرة، التي تحدثت عنها الآية الكريمة، ولفتت الأنظار إليها.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 32 ومجىء الأمر، على هذا الأسلوب الاستفهامى، هو إغراء بهذا الأمر. حيث يطلع من هذا الاستفهام إنكار، واستغراب من عدم النظر إلى الظل، وكيف مدّه الله.. ثم يطلع من هذا الإنكار والاستغراب داع يدعو إلى المبادرة بالنظر، وإدراك مافات.. والتقدير هكذا: ألم تر إلى ربّك كيف مدّ الظل؟ ماذا صرفك عن هذا؟ فيأيها الإنسان إذا كنت إلى الآن لم تكن قد نظرت فهيّا، فذلك أمر لا ينبغى أن يفوت ذا عقل! وقوله تعالى: «إِلى رَبِّكَ» أي إلى قدرة ربّك، وحكمته ورحمته.. وهذا يعنى النظر إلى الله سبحانه وتعالى من خلال آثاره، وما يتجلّى على هذه الآثار، من صفات الكمال والجلال، التي تفرّد بها، الإله الواحد، الفرد الصمد.. وفي إضافة النبيّ الكريم إلى ربّه، تكريم له، وأنس لوحشته، فى هذا الوقت العصيب، الذي كان يعيش فيه مع قومه، وقد وصفوه بالجنون والسّفه. وقوله تعالى: «مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً» أي نشره، وبسطه.. حتى ليكاد يغمر الكائنات. وقوله تعالى: «ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا» - إشارة إلى أنه لولا الشمس، لما عرف الظل، فظهور الشمس، هو الذي يدل على أن هناك ظلّا يطوى، فتحرك الظلّ مع الشمس هو الذي يدل على وجوده، وإن كان موجودا فى ذاته.. وهذا يعنى أن التضادّ بين الأشياء، هو الذي يدل على وجودها، ويجعل لهذا الوجود صفات، تحدد شخصيته، وذاتيته.. وهذا يعنى أيضا أن التضادّ أمر لازم في نظام حياتنا البشرية- على الأقل- حتى نميز بين الأشياء ونحدّد سلوكنا إزاءها.. فهناك الخير والشر، والهدى والضلال، والكفر والإيمان، والنور والظلام، والجميل والقبيح، والحلو والمرّ.. إلى ما لا يحصى من محسوسات ومعنويات.. حتى لا نكاد نجد معنى من المعاني، أو محسوسا من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 33 المحسوسات إلّا وفي الجانب الآخر، الوجه المضاد له.. فإن لم نجد هذا الوجه بحثنا عنه، حتى نعثر عليه، واقعا أو متخيّلا. وفي قوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً» إشارة إلى أن هذا الظل هو فى يد الله، وتحت سلطان مشيئته، وأنه سبحانه لو شاء أن يجعله ساكنا، أي مقيما أبدا على حال واحدة لا ينسخه ضوء- لو شاء سبحانه ذلك، لنفذت مشيئته، ولأظلّنا هذا الظلّ أبدا.. ولكنه سبحانه قضى- بحكمته ورحمته- أن ينسخ الظلّ بالنور، وأن ينسخ النور بالظل، فنلبس في حياتنا هذين الثوبين على التناوب، كل يوم.. وفي قوله تعالى: «ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً» - إشارة إلى حركة التناسخ بين الظل والنور.. وأن يد القدرة تقبض الظلّ شيئا فشيئا، على حين تبسط النور بقدر ما تقبض من الظل.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (71- 73: القصص) .. والصورتان، وإن كانتا تدلان على مدلول واحد، إلا أن الصورة الأولى- على صغرها- فيها حركة، وفيها تفصيل، أريد بهما الالتفات إلى تلك العملية، التي تجريها يد القدرة في تناسخ الليل والنهار، أو الظلام، والنور، على حين أن الصورة ثانية كانت غايتها الكشف عن الحكمة في هذا التناسخ، وبهذا تتآلف الصورتان، وتتكون منهما صورة واحدة وإن كانت كل صورة منهما قائمة على التمام والكمال، لا ينقصها شىء من الألوان أو الظلال.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 34 قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً» - هو بيان لتلك الحكمة العالية في هذا التدبير الحكيم، من قبض الظل، وبسطه فيحدث من هذا القبض والبسط، الليل، والنهار.. - وفي قوله تعالى: «جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً» - إشارة إلى ما في الليل من ظلمة، تلبس الكائنات، وتسترها، وكأنه بهذا يضم الكائنات الحية تحت جناحه، لتأخذ حظها من الراحة، والهدوء، بعد سعيها، وتعبها خلال النهار.. فهى تحت هذا الجناح لا تملك إلا أن تستسلم للدعة والسكون، حتى يتجدد نشاطها، ويتجمع ما ذهب من قوتها، لتستقبل صبحها الجديد بالعمل الجادّ والسعى المتصل.. فهذا نظام تفرضه الطبيعة، ومن مصلحة الكائن الحيّ أن يأخذ به ويلتزمه. - وفي قوله تعالى: «وَالنَّوْمَ سُباتاً» إشارة إلى أن النوم ظاهرة غير ظاهرة الراحة والسكون.. فقد يستريح الإنسان ويسكن، ولكن وجوده كلّه حركة عن طريق العقل، الذي لا يكفّ عن العمل والتفكير، إلا بالنوم المستغرق، الذي يسكن فيه العقل، كما تسكن الجوارح. فالسبات، هو السكون التام.. الذي يمثل صورة مصغرة للموت. - وقوله تعالى: «وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً» أي تنتشر فيه الكائنات الحية، وتبعث من مرقدها، كما يبعث الموتى من القبور.. وفي هذه الصورة التي تعرضها الآية الكريمة، للنوم، واليقظة، إشارة إلى صورة أخرى ينبغى أن يستحضرها أولئك الذين ينكرون البعث.. فما النوم إلا الموت، وما اليقظة إلا البعث! الجزء: 10 ¦ الصفحة: 35 قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً» .. هو امتداد لهذا العرض، الذي تحدّث فيه الآيات عن قدرة الله.. وعن إحسانه إلى عباده، ورحمته بهم.. وأنّ من سوابغ إحسانه، سبحانه، ومن فواضل رحمته، أنه يرسل الرياح فيجد الناس فيها بشريات الغيث، الذي يوشك أن ينزل، فيحيى الأرض بعد موتها.. - وفي قوله تعالى: «بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ» - إشارة أن إلى الريح، وإن كان يدفع السحاب، فإنه هو الذي ينشىء السحاب، وأنه لولا الريح، ما نشأ السحاب.. فإذا هبت الريح، أثارت وجه البحار، وحدث البحار الذي يتصاعد في السماء، ويكوّن السحاب.. ثم يدفعه الريح إلى حيث يشاء الله سبحانه وتعالى.. وفي التعبير عن المطر بالرحمة، إشارة إلى أنه رحمة خالصة، إذ لولا هذا الماء الذي ينزل من السماء، ما كان للحياة أثر على هذه الأرض.. وفي قوله تعالى: «وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً» هو بيان لرحمة الله، التي تقدّمتها «الرِّياحَ» معلنة البشرى بمسيرتها إلى الناس.. وفي وصف ماء المطر بأنه ماء طهور، إشارة إلى أنه ماء خالص، لم يختلط به شىء مما على الأرض، ولم تعلق به شائبة من شوائبها.. فهو ماء نقيّ صاف، طهور.. وفي قوله تعالى: «أَنْزَلْنا» بدلا من قوله «أنزل» الذي يجرى مع السياق لقوله تعالى: «أَرْسَلَ الرِّياحَ» - إلفات إلى جلال الله، وإلى عظمته، وقدرته، وإلى ما بين يديه من رحمة، يجود بها على عباده، ويدعوهم إلى تناولها من يدى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 36 رحمته.. فهذا الحضور للوجود كله، بين يدى رحمة الله، هو دعوة جامعة إلى صلاة شكر، وحمد، وثناء.. لله رب العالمين. قوله تعالى: «لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً» . هو بيان للحكمة من سوق هذه الرحمة إلى الناس.. إنها حياة لكل ميت، وبعث لكل هامد.. ففى قوله تعالى: «لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً» إشارة إلى أن الماء هو أصل الحياة، ومبعثها، كما يقول سبحانه: «وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» . وفي قوله سبحانه: «وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً» - إشارة إلى أن الماء، هو الذي يمسك الحياة على الأحياء، بعد أن قامت به الحياة ذاتها.. فهو الذي يقيم الحياة بقدرة الله، وهو الذي يمسكها، برحمة الله! .. وفي تقديم الأنعام على الناس- إشارة إلى أن رحمة الله، تسرى في الكائنات كلها، وأنها ليست، للناس وحدهم، كما يقع ذلك عند بعض ذوى العقول القاصرة.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها» (6: هود) . وليس هذا فحسب، فإنه مع تقديم الأنعام على الناس، استعمل القرآن لفظ «ما» الذي هو لغير العقلاء، بدلا من «من» الذي للعقلاء، فقال تعالى: «مِمَّا خَلَقْنا» بدلا «ممن خلقنا» وذلك لتوكيد المعنى المقصود هنا،. وهو أن الأنعام لها عند الله سبحانه وتعالى وزنها وتقديرها، وأنها إذ كانت أقل حيلة من الإنسان، فقد كفل الله سبحانه لها حاجتها، وقدم مطلوبها على مطلوب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 37 الإنسان، شأن الأب، يرعى صغاره، وينظر في حاجة الصغير قبل الكبير.. إذ كان الصغير لا حيلة له، على حين أن الكبير يستطيع أن يدبر أمره، ويرعى شئونه.. ومع هذا فإن الأب لا يحرم الكبير- وإن بلغ مبلغ الرجال، أو الشيوخ- عطفه، وحنانه، ورحمته! وهذه النظرة إلى الآية الكريمة، جديرة بأن تفتح الأعين على حقيقة ينبغى أن يعيها المجتمع الإنسانى، وأن يجعلها أساسا من أسس النظام الذي يقوم عليه المجتمع، وتلك الحقيقة، هى أن ضعاف المجتمع، الذين لا حول لهم ولا حيلة في جلب خير، أو دفع ضر، هم أولى الناس بالرعاية وبتوفير أسباب الحياة لهم، حتى يأخذوا مكانهم في المجتمع، فينتظم خطوهم، ويجتمع شملهم مع شمله فى أسرة واحدة، متكافلة، متساندة.. قوله تعالى: «وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً» . الضمير فى «صَرَّفْناهُ» يراد به القرآن الكريم، وهو إن لم يجر له ذكر صريح في الآيات السابقة، فإنه مذكور في كل كلمة، وفي كل آية.. فهذه الآيات السابقة، هى بعض القرآن الكريم في مجموعه، وهي القرآن الكريم كله فى مضمونه.. وتصريف القرآن، هو تنويع معارضه، وعرض حقائقه ومقرراته في صور متعددة، بين الإيجاز والبسط، والإجمال والتفصيل، والتصريح والتلميح، إلى غير ذلك من أساليب البيان، التي ملك القرآن زمانها، واستولى على غايتها.. وقوله تعالى: «لِيَذَّكَّرُوا» بيان للحكمة من هذا التصريف، وهو أن يجد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 38 المستمع لكلمات الله، والناظر في هذه المعارض المتعددة، ما يكشف له وجه الحقيقة، ويطلعه على جوانبها كلها، وفي ذلك ما يفتح له الطريق إلى التعرف على الله والإيمان به.. وقوله تعالى: «فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً» هو عرض لموقف هؤلاء للمعاندين الضالين، إزاء آيات الله، وأن هذا البيان المبين الذي يخاطبهم به القرآن الكريم، لم يزدهم إلا نفورا من الدعوة التي يدعوهم إليها، وإلا إمعانا فى الضلال والسفه.. وذلك هو الشأن الغالب على الناس، وقليل هم أولئك الذين يرون النور، ويهتدون به.. قوله تعالى: «وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً» .. أي أنه سبحانه وتعالى الذي صرف القرآن، وعرض حقائقه هذا العرض الكاشف المضيء، الذي ليس بعد نوره نور، ولا وراء هداه هدى- الله سبحانه الذي نزل هذا القرآن المبين، لو شاء لجعل في كل قرية نذيرا، يحمل إلى أهلها ما حمل محمد إلى الناس جميعا، من هذا النور.. ولكن ذلك لم يكن من مشيئة الله، ولا مما اقتضته حكمته.. فإن نذيرا واحدا يحمل آيات الله وكلماته فيه بلاغ مبين، لكل ذى نظر وعقل، لأن مع كل إنسان نذيرا في كيانه، هو ما أودعه الله سبحانه وتعالى فيه من عقل، يميز به بين الخير والشر، وبين الهدى والضلال، والحق والباطل: فمن كان معه هذا النذير فإن أية إشارة من إشارات الحق تكفى لإيقاظه إن كان نائما، ولتنبيهه إن كان غافلا، ولهدايته إن كان ضالا.. أما من فقد هذا النذير، فإنه لن تنفعه النّذر أبدا، ولو جاءه رسول خاص به من عند الله.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 39 فالقرآن الكريم- مثلا- ليس نذيرا واحدا، وإنما في كل آية منه نذير، ولكل نذير ذاتيته، وشخصيته، حتى لكأن كل آية رسول ينشر بين الناس رسالته.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا» .. فهذا التصريف والتنويع في معارض القول، ووجوه النذر، هو بمثابة أعداد كثيرة من الرسل، تجىء إلى الناس من كل جهة، وتلقاهم على كل طريق، ومع هذا فإن كثيرا من الناس لم يستجيبوا لتلك الآيات التي يلقاهم من كل آية منها رسول كريم ونذير مبين.. وإذن، فإن كثرة الرسل، فى الناس، واختصاص كل رسول بقرية من القرى، أو جماعة من الجماعات لا يغنى كثيرا في مجال الهداية إلى الإيمان بالله، وإقامة الناس على طريق الحق، والخير.. ولو كان ذلك مغنيا في هذا المقام لكان في القرآن الكريم، وفي النذر المديدة التي تحملها آياته وكلماته، ما يزع هؤلاء الضالين الغاوين عن ضلالهم وغوايتهم.. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» (95- 96: يونس) ويقول سبحانه: «قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» (101: يونس) .. قوله تعالى: «فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً» . هو التفات كريم إلى النبيّ- صلوات الله وسلامه عليه- وتوجيه له إلى الوجهة التي ينبغى أن يأخذها من موقف هؤلاء الكافرين المشركين من قومه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 40 وهو ألا يلتفت إلى عنادهم، وألا يلقى بالا إلى لغوهم وسفههم، وما يتقوّلونه عليه، وعلى القرآن الذي بين يديه، وأن يتصدّى لهم، ويقف في وجههم بهذا الحق الذي معه، وأن يجاهدهم به، ويرميهم بنذره، كما يقول الله تعالى: «فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ.. إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ» (79: النمل) وكما يقول جلّ شأنه «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ» (94: الحجر) . وقد امتثل النبي- صلوات الله وسلامه عليه- أمر ربّه، فوقف من المشركين، وقفة الجبل الراسخ الأشمّ في وجه الرياح الهوج، والأعاصير العاتيات.. وقال قولته الخالدة، لعمّه أبى طالب، حين جاء يعرض عليه مهادنة قريش، وله عندها ما يشاء من جاه، ومال، وسلطان، فقال: «والله يا عمّ، لو وضعوا الشمس في يمنى، والقمر في شمالى، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته، أو أهلك دونه» . وفي قوله تعالى: «وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً» - إشارة إلى ما كان ينتظر النبي من أعباء ثقال، فى مواجهة قومه، وفي الصبر على المكاره التي يرمونه بها، فى قسوة، وحنق، وجنون. الآيات: (53- 59) [سورة الفرقان (25) : الآيات 53 الى 59] وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 41 التفسير: قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً» . مرج البحرين: المرج، خلط الشيء بالشيء، ومرج الخاتم في اليد، أي اضطرب، وأمر مريج، أي مختلط.. ومرج البحرين: أي خلطهما، وجمع بعضهما ببعض.. والعذب: الحلو، الطيب.. والفرات: العذب أيضا.. وهو توكيد للعذب، أي عذب عذب. والسائغ: الذي تقبله النفس وتستطيبه.. والأجاج: الشديد الملوحة. والبرزخ: الحاجز بين الشيئين.. والحجر المحجور: المحتجز، المحجوز، الذي لا سبيل له إلى الخروج من هذا الحجاز.. والآية الكريمة، مثل واقع محسوس، لقدرة الله، ولسلطانه القائم على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 42 هذا الوجود، حيث ترى في لقاء الماء بالماء قدرة القادر الحكيم، فى عزل أجزاء هذا السائل المائع، الذي يشبه الهواء في سيولته.. فالماء الملح في جانب، والماء العذب الفرات في جانب، وهما حيث ترى العين، ماء واحد، لا يعرف أيهما هذا أو ذاك، إلا بالمذاق باللسان..! فما أروع هذه القدرة، وما أعظم سلطانها الذي يحجز هذين السائلين بعضهما عن بعض، فلا يطغى أحدهما على الآخر، ولا يختلط العذب بالملح.. وفي هذا يقول الحقّ جلّ وعلا: «مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ» (19- 20: الرحمن) . وفي هذا المثل صورة للمجتمع الإنسانى، حيث الأخيار والأشرار، والمؤمنون والكافرون، والهواة والضالون.. إنهما في محيط حياة واحدة، حيث يموج بعضهم في بعض، وحيث تتشابه وجوههم وصورهم، تشابه الماء والماء، ومع هذا فإن بين الأخيار والأشرار، حجاز، وبرزخ، أشبه بهذا البرزخ غير المنظور، الذي يحجز بين الماء والماء: «هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ» . [الماء والماء. والناس والناس] ومن إعجاز القرآن الكريم، ما تكشف عنه هذه الآية، من روعة التصوير، ودقة التمثيل، فيما بين مجتمع الماء والماء، والناس والناس: فأولا: هذا التشابه في الصورة بين الماء العذب، والماء الملح، وبين الأخيار والأشرار من الناس.. وأن التطابق يكاد يكون تامّا في الظاهر، بين المتناقضين، فى كل من وجهى الصورة.. فعلى أحد وجهيها، ماء عذب فرات، وماء ملح أجاج، وعلى الوجه الآخر.. مؤمنون، أخيار، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 43 طيبون، وكافرون، أشرار، خبيثون.. لا يعرف أي من هذه الأطراف، إلا بالمذاق والاختبار، ولا يبين فضل أىّ منها إلا في موقع العمل والتجربة.. وعلى هذا، فإن ما في كيان المؤمنين من إيمان وخير وطيب، إنما تظهر آثاره في مجال العمل، وفي موقع التجربة والاحتكاك بالحياة وبالناس.. وكذلك ما عند الكافرين من كفر وشر وخبث، إنما يعرف حسابه، ويأخذ الوصف الذي له، حين يتحول إلى عمل، واقع في الحياة.. وإلا فالناس جميعا على سواء، ما لم ينكشف ما بداخلهم من خير أو شر، ومن إيمان وكفر، فى صورة سلوك، وعمل..! «وَقُلِ اعْمَلُوا.. فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» . وثانيا: الناس- وإن ظهروا في صورة واحدة- هم في حقيقتهم، فريقان: مؤمن وكافر، ومستقيم، ومعوج، ومهتد وضال، وطيب وخبيث.. سواء اختبروا أم لم يختبروا، وجرّبوا أم لم يجرّبوا.. هكذا خلقهم الله، وإن توالد بعضهم من بعض، كما يتولد الماء العذب، من الماء الملح.. «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ» (95: الأنعام) .. «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (2: التغابن) . وفي هذا يقول الرسول الكريم: «النّاس معادن.. خيارهم في الجاهلية، خيارهم في الإسلام» .. وثالثا: المؤمنون الأخيار في المجتمع الإنسانى، وهم مادة الحياة، وهم الروح الذي يسرى في شرايين كل ما هو نافع، وصالح، لإثبات شجرة الحياة، وإروائها، وإزهارها، وإثمارها، ولو افتقدتهم هذه الأرض، لما كان للحياة أثر فيها- إنهم الماء العذب، الذي هو حياة الأحياء، من نبات، وجماد، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 44 وإنسان.. «وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» (30: الأنبياء) .. وفي هذا يقول بعض العارفين: «الماء العذب، ما وقع منه على الأرض أنبت البرّ، وما وقع فى البحر ولد الدرّ» أي اللؤلؤ والمرجان.. ورابعا: المؤمنون الأخيار، فى المجتمع الإنسانى، هم قلّة- فى كل زمان ومكان- بالإضافة إلى الضالين، والأشرار.. وتكاد نسبتهم تعدل نسبة الماء العذب، إلى الماء الملح.. وفي هذا يقول الحقّ تبارك وتعالى: «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» (103: يوسف) ويقول سبحانه: «مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ» (110: آل عمران) . ويقول: «وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ» (8: الروم) ويقول: «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ» (24: ص) . وخامسا: ليس في الناس من هو شر خالص، أو خير محض.. ففى الأشرار الماء ما في الملح، من عناصر الماء العذب.. بل إن من هذا الماء الملح، ما يرقّ ويصفو، ويتحول إلى بخار، وسحاب، ثم ينزل على الأرض ماء عذبا فراتا.. وفي الأخيار ما في الماء العذب الفرات من قابلية للاختلاط بما يفسده وبغير طبيعته وهو يسلك مسالكه في الأرض.. فتارة يسلك مجرى طيّبا. فيكدر، ثم يصفو.. وتارة يقع في مستنقع، فيركد، ثم يتعفن.. وهكذا.. قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً» . هو مضمون من مضامين هذا المثل، الذي ضربه الله سبحانه وتعالى فى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 45 الآية السابقة، للمؤمنين والكافرين، فيما بين الماء العذب، والماء الملح، من تشابه، وتضادّ في آن واحد.. فالماء العذب. والماء الملح.. هما ماء واحد.. وهما في الوقت نفسه ماءان.. فالصلة بينهما قريبة، وبعيدة معا..!! والناس، مؤمنون، وكافرون.. من أصل واحد.. هم أبناء هذا الماء.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَجَعَلَهُ نَسَباً» .. أي فجعل هذا الماء هو صلة القرابة القريبة، التي تجمع الإنسان إلى الإنسان، كما تجمع الأخ إلى أخيه.. والناس، مؤمنون وكافرون.. هم صنفان، وكان من الممكن، أن يفرّق بينهما هذا الاختلاف، ولكن ما بينهما من نسب قريب، يمنع هذه الفرقة، ويرفع هذا الاختلاف.. ومن هنا، فإنه إذا كان لكلّ من المؤمنين والكافرين ذاتيته، وطريقه فى الحياة، فإن ما بينهما من تلاق في الأصل يجعل طريقيهما كالخطّين المتقابلين، يلتقيان، عند نقطة هندسية، أشبه بهذا اللقاء بين الماء العذب والماء الملح، وليس كالخطين المتوازيين اللذين لا يلتقيان أبدا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَصِهْراً» ! فالصهر: أهل بيت المرأة بالنسبة لزوجها.. وأصهر إلى فلان: أي تزوج ابنته أو أخته.. وفي قوله تعالى: «وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً» - إشارة إلى قدرة الله سبحانه وتعالى، فى الجمع، بين المختلفين، والتفرقة بين المتشابهين في حال معا.! الجزء: 10 ¦ الصفحة: 46 قوله تعالى: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً» .. الضمير في قوله تعالى: «وَيَعْبُدُونَ» يعود إلى الكافرين، الذين ذكرهم الله سبحانه في قوله: «فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً» .. فهؤلاء الكافرون، لا يستمعون إلى هذا القرآن، ولا ينتفعون بما يضرب لهم من أمثال، وما يكشف لهم من جلال الله وقدرته.. وإذا هم على ما هم عليه من ضلال الجاهلية وشركها، لم ينكشف لعقولهم من هذا النور السماوي، ما هم فيه من عمى وضلال.. وهاهم أولاء- كما عهدتهم الحياة من قبل- عاكفون على عبادة هذه الدّمى وتلك الأحجار، التي لا تنفع ولا تضرّ، إذا دعاها عابدها لجلب خير، أو دفع ضرّ.. وقوله تعالى: «وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً» إشارة إلى جناية من يكفر بربّه ويعبد إلها غيره. إنه يحارب خالقه، إذ يكون حربا على أولياء الله، من الرسل، وأتباع الرسل سواء أكان ذلك باتباع سبيل غير المؤمنين، أم كان بالوقوف في وجه المؤمنين، وإعلان الحرب سافرة عليهم.. وهو بهذا يظاهر أعداء الله على أوليائه، وفي هذا حرب لله، ومظاهرة لأعدائه المحاربين له، على حربه. فالظهير، هو المعين الذي يسند ظهر غيره.. والكافر بكفره، وبانتظامه فى صفوف الكافرين المحاربين لله، هو يظاهر على الله، ولا يظاهر لله.. وذلك كما يقول سبحانه: «رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ» (17: القصص) . قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 47 هو عزاء للنبيّ الكريم، لما يلقى في تبليغ رسالته من عنت هؤلاء المشركين، وضلالهم، وما يسوءه من خلافهم عليه، وهم في هذا الضلال الذي لن يسلمهم إلا إلى الهلاك والبوار.. وماذا يفعل الرسول أكثر ممّا فعل مع هؤلاء المعاندين الضالّين.. إنه لا يملك بين يديه قوة تحركهم على أن يركبوا سفينة النجاة معه، وإن كلّ ما يملكه هو كلمات الله، يبشر بها المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا، وينذر الضالين المكذّبين بأن لهم عذابا أليما.. «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» (21- 22: الغاشية) . قوله تعالى: «قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا» . أي أن الرسول الذي يحمل عبء هذه الرسالة، ويحتمل الأذى في سبيلها من الضالين والمعاندين، والسفهاء- لا يطلب لذلك أجرا على هذا الجهد المضنى الذي يبذله، كما يطلب الناس أجرا لكل عمل يعملونه.. إنه يؤدى رسالة الله خالصة لوجه الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يتولى جزاءه، وحسن مثوبته. وقوله تعالى: «مِنْ أَجْرٍ» .. من هنا لاستغراق النّفى، للشىء الذي وقع عليه الفعل، وهو الأجر.. وهذا يعنى أنه لا يسأل على هذا العمل الذي يقدمه لهم أي أجر، وإن قلّ سواء أكان أجرا ماديا من مال ومتاع، أم أجرا معنويا، من جاه وسلطان.. وقوله تعالى: «إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا» .. إلا هنا أداة استثناء عاملة، وما بعدها مستثنى من عموم النفي الواقع على كلمة أجر.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 48 والتقدير: لا أسألكم أجرا على ما أقدم لكم من خير، إلا أجر من شاء أن يتخذ إلى ربّه سبيلا، بالإنفاق في سبيل الله، والإحسان إلى الفقراء والمساكين، والضعفاء.. فذلك هو الأجر الذي أناله منكم، فهو وإن لم يكن لى، فإنى أحتسبه لى، لأن ما يقدّم لله، وما يؤدّى لعباد الله، هو لى.. وما ينفق فى سبيل الله، هو كأنما ينفق في سبيلى.. إذ ليس لى سبيل إلا سبيل الله.. وهذا مثل قوله تعالى: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» (23: الشورى) فالإحسان إلى ذوى القربى، كالوالدين، والإخوة والأعمام والعمات ونحوهم- هو إحسان إلى النبيّ، وتحقيق لدعوة الخير التي يدعو إليها.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» (23: الإسراء) .. فالإحسان إلى الوالدين، هو من تمام الإيمان بالله، وكأن ذلك الإحسان هو إحسان إلى النبيّ، وهو الأجر الذي يناله من المؤمنين، الذين هداهم الله إلى الإيمان على يديه.. قوله تعالى: «وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً» . هو معطوف على قوله تعالى: «قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ» - أي: قل لهم هذا القول، ودعهم وما يشاءون، متوكلا على الحيّ الذي لا يموت.. أما كلّ حيّ سواه، ففى كيانه معاول هدمه وفنائه: «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» (88: القصص) .. وسبّح بحمد ربك، منزّها له عن الشريك والولد، حامدا له أن هداك إلى الإيمان، وأن جعلك السّراج المنير الذي يهتدى به الضالون، ويسير على سنا ضوئه المؤمنون.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 49 - وقوله تعالى: «وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً» .. هو تهديد للكافرين والضالين، وما يقترفون من آثام، وأن الله سبحانه وتعالى عليم بما يعملون، خبير.. لا يختلط عليه المحسنون بالمسيئين.. قوله تعالى: «الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً» . هو من صفات الله سبحانه وتعالى، الذي دعى النبيّ إلى التوكّل عليه، وتفويض أمره إليه.. فهو سبحانه، حيّ لا يموت، خلق السموات والأرض، وما بينهما من عوالم، فى ستة أيام.. وقد قلنا من قبل، إن هذه الأيام الستة، هى الظرف الحاوي، الذي تمّ فيه ميلاد المخلوقات، جميعها، أي الوجود كله، فى أرضه وسماواته، وما في أرضه وسماواته.. وليس هذا الزّمن مرتبطا بقدرة الله سبحانه وتعالى في خلق المخلوقات.. ولو شاء- سبحانه- لخلق العالم كله في لحظة واحدة: «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (82: يس) . - وقوله تعالى: «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ» . الاستواء على العرش، هو القيام على هذا الوجود، والاستيلاء على مركز القوة والسلطان فيه. فلا تخرج ذرّة من ذرات هذا الوجود عن سلطان الله، وعن علم الله: «وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» (59: الأنعام) . وقوله تعالى: «الرَّحْمنُ» هو فاعل الفعل «اسْتَوى» .. وهو يعنى أن صاحب السلطان القائم على هذا الوجود هو «الرَّحْمنُ» الذي أفاض رحمته الجزء: 10 ¦ الصفحة: 50 على الوجود.. فبالرحمة أقام الوجود وأوجده، وبالرحمة ملك أمر الموجودات، ودبّر شئونها، وقدّر مقام كل موجود بين الموجودات. - وقوله تعالى: «فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً» الأمر هنا إلى كل إنسان غابت عنه هذه الحقيقة، وهي رحمانية الرحمن، القائم على هذا الوجود.. فمن غابت عنه هذه الحقيقة، ولم يدرك آثارها في هذا الوجود، وفي كل موجود.. فليسأل أهل العلم والخبرة، الذين يقدرون الله حق قدره، ويعرفون مواقع رحمته في خلقه.. والله سبحانه وتعالى يقول: «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» (7: الأنبياء) . الآيات: (60- 77) [سورة الفرقان (25) : الآيات 60 الى 77] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 51 التفسير: قوله تعالى: «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً» .. مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الله سبحانه وتعالى، قد ذكر في الآية السابقة عليها، أنه- جل شأنه- هو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما فى ستة أيام، وأنه استوى على العرش، برحمانيته، ثم دعا- سبحانه- من غابت عنه هذه الحقيقة من رحمانية الرحمن، أن يسأل أهل العلم والخبرة في هذا المقام.. فناسب ذلك أن يدعو إليه- سبحانه- الضالين، باسم «الرحمن» الذي له في كل مخلوق أثره، وله في كل حيّ نفحة من رحمته.. وبهذا يظهر ما عندهم من علم بالرحمن، سواء أكان هذا العلم مما أدركوه بعقولهم، وعرفوه بنظرهم، أو أخذوه عن أهل العلم والخبرة.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 52 وقد كشف هذا الامتحان، عن جمود هؤلاء الضالين على ضلالهم، وأنهم لم يهتدوا إلى هذه الحقيقة بأنفسهم، ولم يسألوا عنها أهل الذكر.. وأنهم إذا قيل لهم: «اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ» وآمنوا به، واجعلوا ولاءكم له- أنكروا هذا الاسم، ولم يعرفوا مدلوله ومسماه الذي يسمى به، فقالوا منكرين: «وَمَا الرَّحْمنُ» ؟ فيا لخسران القوم، ويا لتطاولهم على الله!! إن الرحمن هو الذي رحمهم برحمته، فلم يأخذهم بعاجل عذابه، وهم ينكرونه إنكار المستخفّ المستهزئ.. وكلمة منه- سبحانه- تمسخهم قردة وخنازير، أو تسلبهم السمع والبصر والكلام، فيعيشون صمّا، عميا، بكما، بين الأحياء!! فما أوسع رحمة الرحمن، التي يعيش في ظلها أعداء الرحمن، المحاربون له، المستكبرون عن عبادته.. - وفي قوله تعالى: «أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا؟» بيان لجريمة أخرى من جرائم هؤلاء المجرمين.. إنهم لن يسجدوا للرحمن، لأنهم لا يعرفونه، وإنهم لو عرفوه لا يسجدون له، لأن الذي يدعوهم إليه بشر مثلهم، ورجل منهم!! إنه الكبر والعناد، إلى جانب الجهل والضلال.. وقوله تعالى: «وَزادَهُمْ نُفُوراً» أي زادهم هذا الطلب الموجّه إليهم من النبي نفورا إلى نفورهم، فهم نفروا أولا، لأنهم لا يعرفون الرحمن، وهم نفروا ثانيا، لأن الذي يدعوهم إليه إنسان، من الناس، وليس ملكا من الملائكة، كما كانوا يقترحون! قوله تعالى: «تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً» . هو عرض لبعض آثار رحمة الرحمن في خلقه، وأنه سبحانه، «جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً» .. أفليس ذلك من آثار الجزء: 10 ¦ الصفحة: 53 رحمة الله؟ وكيف كانت تكون الحياة على هذه الأرض، ولا شمس ولا قمر؟ وقوله تعالى: «تَبارَكَ» أي تمجد، وتقدّس، وكثرت آلاؤه ونعمه.. فهو- سبحانه- يمجّد ذاته، وإن لم يمجده الضالون المجرمون من خلقه وهو سبحانه جدير بأن يحمد ويمجّد من عباده الذين أسبغ عليهم نعمه ظاهرة، وباطنة والبروج: هى مدارات الكواكب، ومنازلها.. والسراج: هى الشمس.. والقمر المنير: هو القمر، الذي يستمد نوره من الشمس.. وقد وصف بأنه منير، ولم يوصف بأنه مضىء، لأن النور خلاف الضوء.. فالنور لا حرارة فيه، على خلاف الضوء، والنور ليس ذاتيا، وإنما هو متولد من وقوع الضوء على الأجسام.. وقد أشرنا إلى ذلك في سورة يونس، عند تفسير قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً» (الآية: 5) . قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً» . ومن آثار رحمة الله، أنه جعل الزمن على هذه الأرض خلفة بين الليل والنهار، حيث يخلف أحدهما الآخر، ويحلّ محلّه.. وفي هذا آية لمن أراد أن يتذكر، ويتعظ، إذا لم يكن قد وجد في آيات الله المبثوثة في الكون طريقا إلى التذكر والاعتبار، أما من وجد التذكر والاعتبار في غير هذه الآية، فإنها تزيده تذكرا واعتبارا، كما تزيده شكرا وحمدا، لآلاء الله. ونعمائه.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 54 قوله تعالى: «وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً» تعرض هذه الآية والآيات التي بعدها، الصفات الكريمة التي يتصف بها أولئك الذين استحقوا أن يضافوا إلى الله سبحانه، وأن يحسبوا في عباده، أما غيرهم ممن لا يتحلّون بهذه الصفات، فإنهم ليسوا أهلا لهذا المقام ولا موضعا لهذا الشرف العظيم.. وأن هؤلاء الذين قيل لهم اسجدوا للرحمن فأنكروا هذا، وقالوا: وما الرحمن؟ - هؤلاء ليسوا من عباد الرحمن، ولن يكونوا من عباده، ما داموا على حالهم تلك.. [عباد الرحمن.. من هم؟] أما عباد الرحمن الذين يستحقون هذا الشرف العظيم، فهم هؤلاء الذين جاءت تلك الآيات، تكشف عن صفاتهم التي يتحّلون بها، والتي تؤهلهم لهذا المقام الكريم.. وهذه الصفات التي يتحلّى بها عباد الرحمن، هى أنهم: - «يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً.. وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً» . والمشي الهيّن على الأرض، هو دليل على التواضع، ولين الجانب، وسماحة الخلق.. بخلاف المشي الذي يضرب وجه الأرض، تيها وفخرا، وقد نهى الله تعالى عنه في قوله: «وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً.. إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا» (37: الإسراء) . - «وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً» .. أي أن عباد الرحمن لا يلقون فحش القول وهجره، بفحش، وهجر مثله.. فإذا رماهم السفهاء بالكلمة الخبيثة أعرضوا عنهم، وقالوا: «سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ» (55: القصص) . وليس هذا المشي الهيّن، أو الإمساك عن الفحش من القول، هو عن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 55 ضعف وذلّة، وإنما هو عن قوة نفس، ومتانة خلق، وكرم طبيعة.. وكلّ إناء ينضح بما فيه.. وكل شجرة لا تعطى إلا من ثمرها.. فالشجرة الطيبة. تعطى ثمرا طيبا، والشجرة الخبيثة لا تعطى إلا ثمرا خبيثا.. - «وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً» . أي ومن صفات عباد الرحمن أن قلوبهم لا تخلو من ذكر الله أبدا، وأنهم يقضون نهارهم في كفاح وعمل، فإذا جهّم الليل أقبلوا على ربّهم بالعبادة والذكر، راكعين ساجدين.. والليل هو أنسب الأوقات للعبادة، ومناجاة الله سبحانه وتعالى، حيث تسكن النفوس، وتجتمع الخواطر، وتهدأ القلوب، فيجد الإنسان منطلقه في عالم الروح، وقد انزاحت من طريقه السدود التي يقيمها ضجيج الحياة، ولغط الأحياء أثناء النهار.. وقد نوه القرآن الكريم في أكثر من موضع بشأن العبادة في أوقات الليل، وما للعابدين عند الله في تلك الأوقات، من رضا ورضوان، فيقول سبحانه للنبى الكريم. «وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» (78- 79: الإسراء) . ويقول له سبحانه: «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا. إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا. إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا» . (1- 6: المزمل) ويقول سبحانه في وصف المتقين من عباده، وما أعدّ لهم من جزاء عظيم: «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» (15- 18: الذاريات) . وفي قوله تعالى: «لِرَبِّهِمْ» - إشارة إلى أنهم يقصرون عملهم كله بالليل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 56 على ذكر الله، لا يذكرون إلا الله جلّ وعلا، لا يشغلهم شىء عن ذكره.. فاللام هنا للاختصاص. - «وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً» إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً» أي أن عباد الرحمن هؤلاء، إنما يعبدون ربّهم، وهم من عذاب ربّهم مشفقون.. إن عذاب ربّهم غير مأمون.. فهم مع طمع ورجاء في رحمته، وخشية وخوف من بأسه وعقابه.. هكذا حال المؤمنين بالله، لا يأس من روح الله، ولا أمن من بأسه وعذابه.. وقوله تعالى: «إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً» أي أنها- نعوذ بالله منها- لا يلقى أهلها إلا السوء والوبال، فهى أشأم وأسوأ مكان.. فكيف إذا كان هذا المكان مستقرا ومقاما لا يتحول عنه أهله؟ إن أهله أشقى خلق الله، وأنكدهم حظّا، وأشأمهم مصيرا.. - «وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً» . وهذه صفة أخرى من صفات عباد الرحمن.. إنهم يلزمون الطريق الوسط فى حياتهم، وفي كل شان من شئونهم، فلا إفراط، ولا تفريط، فإن خير الأمور أوساطها.. وأكثر ما يتجلّى هذا المبدأ في إنفاق المال، حيث هو عملية مستمرة، يقوم بها الإنسان مرات كل يوم، سواء أكان غنيا أم فقيرا.. كلّ ينفق حسب ما معه من مال.. والإسراف، هو مجاوزة الحدّ في زيادة المطلوب في النفقة والتقتير، هو الإمساك دون الحدّ المطلوب.. وقوله تعالى: «وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً» أي وكان إنفاقهم وسطا، وقواما، بين الإسراف، والتقتير.. - «وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ،» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 57 «إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ.. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً» . ومن صفات عباد الرحمن أيضا، أنهم لا يشركون بالله شيئا، ولا يدعون معه إلها آخر، بل عبادتهم خالصة لله، ودعاؤهم متجه إليه وحده.. وأنهم لا يقتلون النفس التي حرّم الله إلا قصاصا، وأنهم يحصنون فروجهم فلا يأتون الفاحشة.. فإن من يفعل شيئا من هذه الكبائر، لن يكون في عباد الله هؤلاء للكرمين، بل إنه سينزل منازل المجرمين، أصحاب النار.. وقوله تعالى: «يَلْقَ أَثاماً» أي أن من يفعل هذه الآثام يلق أثاما مثلها، فهذه الآثام منكرات، والعذاب الذي يساق إلى فاعلها، ويلقاه، هو عذاب منكر شديد.. وقوله تعالى: «يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً» بيان لما يلقى مرتكبو هذه المنكرات الغليظة من العذاب، والهوان يوم القيامة.. فهم أكثر الناس عذابا يومئذ، لأن جرائمهم الثلاث تلك، من أعظم الجرائم.. وهي الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله، والزنا.. فإذا عذب غيرهم من المعذبين بألوان من العذاب، فإن ما يلقاه هؤلاء، أضعاف ما يلقاه المعذبون من أهل النار غيرهم.. وقوله تعالى: «وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً» الخلد والخلود، هو اللصوق بالأرض في ذلة ومهانة.. والضمير فى «فِيهِ» يعود إلى العذاب الذي لا يخرج منه، بل يعيش فيه، مستكينا، ضارعا، ذليلا، مهينا.. وقوله تعالى: «إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 58 - هو استثناء من عموم الضمير الواقع فاعلا في قوله تعالى: «يَلْقَ أَثاماً» أي ويستثنى من الوقوع في هذا العذاب، من تاب من هؤلاء المرتكبين لتلك الآثام من آثامه، ورجع إلى الله، مؤمنا به غير مشرك، مستقيما على ما أمر به، من عدل وإحسان.. فلا يقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا يزنى.. فمن اجتنب هذه الكبائر، فإنه لن يلقى هذا المصير، بل يخرج من زمرة هؤلاء المجرمين، ويأخذ طريقه مع عباد الله المكرمين.. وقوله تعالى: «فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ» - إشارة إلى أن هؤلاء التائبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات، قد قبلهم الله في عباده، وأنه سيبدل سيئاتهم تلك حسنات، فإنه سبحانه كريم بعفو عن طالبى عفوه ومغفرته، رحيم بعباده، يرحم ضعفهم، وما غلبتهم عليه أهواؤهم، إذا هم رجعوا إليه تائبين، مؤمنين، مصلحين- ما أفسدوا.. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» (114: هود) ولهذا قدم سبحانه التوبة- فقال سبحانه: «إِلَّا مَنْ تابَ» أي عقد النية، وعزم على التوبة، ثم أتبعها بقوله تعالى: «وَآمَنَ» أي وقرن النية بالتوبة بالإيمان بالله، وبكتبه ورسله، واليوم الآخر، فإن التوبة من غير إيمان بالله، لا متوجّه إليها، ولا محصل لها.. ثم جاء قوله تعالى: «وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً» شرطا ثالثا لقبول التوبة، وتصحيح الإيمان، وهو العمل الصالح.. فالإيمان بلا عمل، زرع بلا ثمر.. وقوله تعالى: «وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً» .. لم يجىء هنا ذكر للإيمان مع التوبة، لأنه ذكر في الآية السابقة، ولأن التوبة لا تكون إلا من مؤمن.. وذكر الإيمان في الآية السابقة للإلفات إليه، والتنويه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 59 به، وبأنه لا تقبل توبة إلا إذا زكاها الإيمان بالله.. وقوله تعالى: «فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً» - أي يتوب توبة، فمتابا توكيد، وفي هذا إشارة إلى أن الذين ارتكبوا هذه المنكرات، قد بعدوا عن الله، وشردوا عن الطريق إليه، وأنهم حين عدلوا عن طريقهم، وأخذوا الطريق إلى الله- قد رجعوا إلى الله رجوعا حقّا، وأصبحوا في عباده المؤمنين المكرمين، غير منظور إلى شىء من حياتهم الماضية، التي كانوا عليها قبل أن يتوبوا.. إنهم بعد التوبة والعمل الصالح، قد ولدوا ميلادا جديدا، ذهب به كل ما كان عليهم من أدران وأوزار.. فتوبتهم حينئذ توبة مثمرة ثمرا طيبا، لأنها أثمرت هذه الأعمال الصالحة التي أتوا بها بعد توبتهم تلك.. - «وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً» .. وصفة أخرى من صفات عباد الرحمن.. إنهم لا يشهدون الزور، أي لا يحضرون مجالس الفحش، والهجر، ولا يستمعون لمقالات الكذب والبهتان.. وإنهم إذا وقع لهم في طريقهم مشهد من مشاهد العبث واللهو، لم يقفوا عنده، ولم يلقوا بآذانهم، أو أبصارهم إليه، بل مرّوا به وهم كرام مترفعون بإيمانهم، وبمروءاتهم، عن أن يشاركوا في هذا الباطل من قريب أو بعيد! - «وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً» .. وصفة سادسة من صفات عباد الرحمن، وهي أنهم يحيون مع آيات الله حياة عاقلة واعية، ويعايشونها معايشة ودودا طيبة.. فإذا قرءوا، وسمعوا آيات الله تتلى عليهم، أعطوها عقولهم وقلوبهم، وفقهوا ما تتسع له عقولهم وقلوبهم من نورها، وهديها.. وهذا غير ما يلقى به الغافلون والجاهلون آيات الله، حيث يخرون بين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 60 يديها كما يخر عابد الوثن على وثنه، من غير أن يكون معه نظر أو رأى، فيما هو عاكف عليه.. فآيات الله لا تسمع الصم، ولا تهدى العمى، وإنما تهدى من نظر إليها بعقله، وأعطاها وجدانه ومشاعره، وعندئذ يؤذن له بأن يجنى من ثمارها، ويقطف من زهرها، وينشق من طيبها.. ومن هنا، كان واجبا على المسلم أن يطلب العلم، والمعرفة، حتى يأخذ حظه من النظر في آيات الله، وحتى ينتفع بهديها، ويستضىء بنورها.. وإلا فإنه أشبه بالأعمى الذي يستوى عنده طلوع الشمس ومغيبها.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ» (43: العنكبوت) . ويقول سبحانه: «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» (28 فاطر) إذ لا خشية لله إلا عن علم بجلاله، وعظمته، وعلمه، وقدرته.. ولا علم إلا مع أهل العلم! - «وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً» . وصفة سابعة من صفات عباد الله الرحمن.. إنهم أهل صلاح وتقوى، ومن تمام صلاحهم وتقواهم أن يكون أزواجهم وأولادهم- وهم بعض منهم- عى حال من الصلاح والتقوى، أقرب إليهم، وأشبه بهم، حتى يأتلف جمعهم، وتتوحد مشاعرهم، ولا يقع في محيطهم ما يثير شقاقا، أو يبعث ألما وحسرة، لخلاف زوجة، وضلال ولد.. فإن هذا من شأنه أن يجور على صلة المؤمن بربه ويشغله كثيرا أو قليلا عن ذكره.. ومن هنا كان من دعاء المؤمنين: «رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي» (15: الأحقاف) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 61 وكان مما امتن به الله سبحانه وتعالى على بنى كريم من أنبيائه، هو زكريا عليه السلام- أن وهب له الولد الصالح، وأن أصلح له زوجه، كما يقول سبحانه: «فَاسْتَجَبْنا لَهُ.. وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى، وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ» (90: الأنبياء) «وقرة الأعين» ما تقرّ به، وتطمئن.. وذلك لا يكون إلا عن هدوء النفس، واطمئنان القلب، وراحة الضمير.. الأمر الذي يجعل العين تنظر إلى الحياة نظرا هادئا مطمئنا.. أما المذعور الخائف المضطرب، فإنه ينظر بعين زائغة مضطربة.. ومن هنا كان للعيون لغتها التي يعرفها أهل البصيرة والرأى، حيث يكون للرضا نظرة، وللغضب نظرة، وللحب نظرة، وللبغض نظرة. وهكذا تنطبع الأحاسيس والمشاعر على مرآة العين، كما تنطبع صور الأشياء على المرايا.. قوله تعالى: «وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ» - أي ومما يدعو به عباد الرحمن ربهم، أن يجعلهم قدوة لأهل الإيمان، فى الخير والإحسان، وأن تكون أعمالهم قائمة على طريق الحق والعدل، حتى يكونوا أسوة في الطريق إلى الله.. وبذلك يكون لهم ثوابهم، وثواب من اقتدى بهم.. على خلاف أهل الضلال، الذين يكون عليهم وزر ضلالهم، ووزر من ضل بضلالهم.. وفي الحديث: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» . قوله تعالى: «أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا» - الإشارة هنا إلى عباد الرحمن، الذين ذكرت أوصافهم في الآيات السابقة.. فهؤلاء المكرمون من عباد الله، الذين أضافهم سبحانه وتعالى إليه، سيجزون الغرفة بما صبروا على التكاليف، والعبادات، وعلى مغالبة أهوائهم وشهواتهم.. وإنه لولا الصبر لا نحلّت عزائمهم، وفترت هممهم، واختلّ توازنهم على الصراط المستقيم.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 62 فبالصبر، استطاعوا أن يصمدوا أمام الشدائد، وأن يحتملوا ما يصابون به في أموالهم وأنفسهم، مستسلمين لأمر الله، راضين بقضائه.. وبالصبر قهروا نوازع أهوائهم.. فالصبر، هو زاد المؤمن على طريق الإيمان، وهو القوّة التي تشدّه إلى الله، وتمسك به على طريق الحق والخير.. والغرفة، أعلى مكان في الجنة، وهي في البيت أعلى موضع منه.. وهي فى الجنة ليست غرفة واحدة، وإنما هي غرفات، كما يقول الله تعالى: «وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ» .. وإنما أفردت هنا لأن المراد بها، المنزلة، أي يجزون المنزلة التي فيها الغرفة، وفيها الغرفات، لأنها جميعها في درجة واحدة. قوله تعالى: «وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً» أي أن الذين ينزلون بهذه الغرفة، هم في موضع احتفاء وتكريم، وأن مما يكون لهم فيها من صور الإحسان، أن تتردد عليهم الملائكة، وتغشى مجالسهم، بالتحية والسلام.. وفي ذلك ما فيه من أنس وروح لهم.. قوله تعالى: «خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً» .. أي أنهم ساكنون ووادعون في هذه الغرفة، سكون أمن وطمأنينة وقرار.. لا يريدون التحول عنها، فقد حسن فيها مستقرّهم، وطاب فيها مقامهم.. هذا، ويلاحظ أن عرض صفات المؤمنين، الذين استحقوا، أن يضيفهم الله سبحانه وتعالى إليه، وأن ينزلهم منازل رحمته، وأن يكونوا عباد الرحمن- يلاحظ أن هذه الصفات لم تجىء مرتبة ترتيبا تصاعديا أو تنازليا.. وذلك لغاية قصد إليها القرآن، كما سنرى. فأول صفة لعباد الرحمن.. أنهم «يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً، وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 63 فهذا هو الوجه الظاهر لإيمان المؤمنين. فيهم تواضع، وتعفف عن السّفه والفحش.. وهذا حالهم مع الناس.. والصفة الثانية، هى حالهم مع الله.. فهم يقطعون الليل عبادة وتسبيحا لله، فيما بينهم وبين خالقهم.. «وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً» . فالصفتان، تمثلان صورة كريمة للإنسان، الذي رضى عنه الناس، ورضى عنه ربّه.. وتلك غاية ما يمكن أن يدركه أحسن الناس، وأكمل الناس.. والصفة الثالثة.. خاصة بهم: إذ يطلبون لأنفسهم النّجاة من النّار، والخلاص من عذاب جهنم.. فقد أدّوا أولا حقّ الله عندهم لعباده، ثم أدّوا حقه لذاته.. ثم طلبوا من الله ما هو مطلوب لهم..! «وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً» وهذه الصفات الثلاث، صفات وجوب.. أي صفات عاملة، يقوم عليها سلوكهم.. ثم تأتى بعد ذلك صفة تجمع بين الإيجاب والسّلب، وهي أنهم يلزمون فى الإنفاق طريقا بين الإسراف والتقتير، وهو التوسط والاعتدال بين الأمرين، وتلك صفة موجبة، متولدة من صفتين سالبتين.. وهما الإسراف والتقتير.. وهما من صفات غير المؤمنين، من عباد الرحمن!. ثم تجىء بعد ذلك صفة سلبية،.. هى في إيجابها صفة خاصة بغير المؤمنين.. أو بالمؤمنين الذين ليسوا عبادا للرحمن. فهم ليسوا ممن يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 64 إلا بالحق ولا يزنون.. على حين أن من غير المؤمنين أو الذين ليسوا عبادا للرحمن، من يتصف بهذه الصفات كلها، أو بعضها. ثم تأتى بعد ذلك صفة متولدة من حال، يذهب غير المؤمنين بشرّها، على حين لا ينال المؤمنين سوء منها.. وتلك الصفة هي شهود مجالس الإثم واللغو. فغير المؤمنين يعمرون هذه المجالس، ويطعمون من زادها الخبيث، والمؤمنون، عباد الرحمن.. يعطونها ظهورهم، ويصمّون عنها آذانهم.. ثم تجىء صفة سلبية، يتصف بها عباد الرحمن سلبا، على حين يتصف بها الجاهلون من المؤمنين إيجابا..: «وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً» . فعباد الرحمن، إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخرّوا عليها صمّا وعميانا، على حين أن المؤمنين الذين لم يدخلوا في عباد الرحمن، يخرّون عليها صمّا وعميانا.. ففى صفات السلب الثلاث هذه، تعريض بغير المؤمنين أصلا، وبغير المؤمنين الذين لم يكمل إيمانهم، ولم يصبحوا أهلا لأن يكونوا من عباد الرحمن.. ثم تختم هذه الصفات الإيجابية والسلبية التي وصف بها المؤمنون- تختم بهذا الوصف الذي تسوّى به صورتهم على أحسن حال وأكمله، حتى يصبحوا قدوة للناس في الخير والإحسان- «وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً» فهم على حال من الكمال الإنسانى، بحيث يكونون فيه أئمة، يدعون الناس إلى الهدى، ويقودونهم إلى البرّ والتقوى.. وارجع البصر كرة أخرى إلى هذه الآيات، وإلى سلاسة نظمها، وتدفّق الجزء: 10 ¦ الصفحة: 65 سلسالها، وروعة بيانها، وصلصلة أنغامها، ثم استروح أنسام هذا الإعجاز الذي يطلع عليك، من هذا المنطق المحكم، الذي يستولى بسلطانه على كل نفس، وينفذ بقدرته إلى كل قلب.. فإنك إن فعلت- وخير لك أن تفعل- رجعت وملء إهابك خشوع وولاء، لآيات الله، ولكلمات الله، وكنت في هذا الموكب الكريم، الذي ينتظم عباد الرحمن، الذين إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا.. «وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً» (109: الإسراء) .. قوله تعالى: «قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً» .. وبهذه الآية تختم السورة، وهي إعلان عام للناس جميعا- مؤمنين وكافرين، مهتدين وضالين- إعلان لهم أنهم ما خلقوا إلا ليعبدوا الله، وأن من لا يعبد الله، فكأنه غير مخلوق، لأنه لم يؤدّ ما خلق له. وعبأ بالشيء يعبأ به: إذا اهتمّ به، وعمل له حسابا.. والعبء: الحمل الثقيل، من ماديات أو معنويات.. والمعنى: أنكم أيها الناس، إنما خلقتم لتعبدوا الله، وتسبّحوا بحمده، وأن من فاتته هذه الغاية، فقد سقط من حساب المخلوقات.. فقيمتكم أيها الناس عند الله هي في عبادتكم له، واتجاه وجوهكم إليه، فى السّرّاء والضّرّاء، وأنه لولا هذا، ولولا أن فيكم مؤمنين بالله، عابدين له، لما كان لكم وزن في عالم المخلوقات.. فإذا اعتدل ميزانكم، وأقيم لكم وزن، فإنما ذلك بفضل المؤمنين منكم. وفي تسليط حرف النفي «ما» على الفعل «يعبأ» بدلا من «لا» الذي يتسلط على الفعل المضارع، على حين يتسلط الحرف «ما» على الفعل الماضي- وذلك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 66 للمبالغة في النفي، وإنه نفى لازم لا يتعلق بزمن، بل هو واقع في الزمان كله، ماضيه وحاضره ومستقبله، على خلاف النفي بلا الذي يقيّد النفي بالمستقبل وحده.. تقول: لا أفعل هذا الأمر، إذا كنت على نية ألا تفعله، حالا أو استقبالا، فإذا قلت: ما أفعل هذا الأمر، كان المعنى، أنه لا يليق بك، ولا ينبغى منك أن تفعله أبدا، وأنه ما كان منك فعله في الماضي، ولن تفعله حالا أو مستقبلا.. وعلى هذا جاء قوله تعالى لنبيه الكريم: «قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ» (86: ص) .. أي ليس لى أن أسألكم أي أجر على ما بلغتكم من رسالة ربّى في أي وقت من الأوقات.. ومنه قوله في هذه السورة- سورة الفرقان- «قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا» . (75) وعلى هذا، فإن تسلط حرف النفي «ما» على الفعل «يعبأ» يعنى أن خلق الناس إنما كان لحكمة أرادها الله، وأنه لولا هذه الحكمة لما اتجهت إرادة الله سبحانه إلى خلقهم، وهذه الحكمة هي أن يعبدوه، وفي هذا يقول الله تعالى: «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» (56: الذاريات) ، فخلق النّاس، وقيومة الله سبحانه وتعالى عليهم، وتسخير ما سخّر لهم، وإنعامه بما أنعم به عليهم- إنما كان ليعبدوه، ولتتجلّى فيهم آيات قدرته، وعلمه، ومن أجل هذا عبأ الله سبحانه وتعالى بهم، ونظر إليهم، وجعلهم خلقا من خلقه!!. وقد يسأل سائل: فيقول: إن أكثر الناس لا يعبدون الله أي لا يدعونه، ولا يعترفون بوجوده، فكيف تتحقق حكمة الله من خلق الناس؟ وكيف يعبأ بهم، وهم لا يعبدونه ولا يدعونه؟. وقد أجبنا على هذا الاعتراض من قبل، إذ قلنا: إن الذين آمنوا بالله، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 67 وولّوا وجوههم إليه- وإن كانوا قلّة في النّاس- هم وجه الإنسانية، ومن أجلهم كانت رحمة الله بالناس جميعا. ومن جهة أخرى، فإن الناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم، منقادون لله، طوعا أو كرها، كما يقول سبحانه: «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ» (15: الرعد) . وكما يقول جلّ شأنه: «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» (49: النحل) . فالناس جميعا، والخلق كلّهم، منقادون لله، خاضعون لسلطانه، مسبحون بحمده، كما يقول سبحانه: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» (44: الإسراء) . وقوله تعالى: «فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً» . هو تهديد ووعيد للكافرين المكذبين، الذين دعوا إلى عبادة الله ليحققو الغاية من خلقهم، ولكنهم كذبوا رسول الله وأبوا أن يؤمنوا بالله، ويوجّهوا وجوههم إليه، فحقّ عليهم العذاب، ولزمهم ما قضى الله سبحانه وتعالى به في أهل الكفر والضلال. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 68 26- سورة الشعراء نزولها: مكية، وقيل إن آية «وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ» وما بعدها إلى: آخر السورة مدنية. عدد آياتها: مائتان وسبع وعشرون آية. عدد كلماتها: ألف ومائتان وسبع وسبعون كلمة. عدد حروفها: خمسة آلاف وخمسمائة وثنتان وأربعون.. حرفا. بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 9) [سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) التفسير: المناسبة بين هذه السورة، والتي قبلها، واضحة، بحيث يمكن أن تتصل السورتان فى سورة واحدة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 69 فقد كانت سورة الفرقان معرضا لمقولات المشركين الحمقاء الطائشة، فى رسول الله، وفي القرآن الكريم.. ثم كانت مقولتهم حين دعوا إلى أن يسجدوا للرحمن، فأنكروا الرحمن! وقالوا: «وَمَا الرَّحْمنُ؟» ثم كان ختام السورة كاشفا عن الغاية التي خلق من أجلها الإنسان، وهي عبادة الله والتسبيح بحمده.. وأن هؤلاء المشركين لم يستجيبوا لله، ولم يؤمنوا به، وكذبوا رسوله وإذن فهم في عداد السّقط، الذي لا يؤبه له، ولا يحسب له حساب. وقد جاء بدء سورة الشعراء، متلاقيا مع هذه المعاني التي ضمّت عليها سورة الفرقان.. فأولا: فى قوله تعالى: «طسم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» - هو ردّ على قول المشركين، فى سورة الفرقان: «إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ ... » وثانيا: قوله تعالى «لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» - هو نتيجة لازمة لما تضمنه قوله تعالى، فى ختام سورة الفرقان: «قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ» .. أي أنه لا وزن ولا حساب لمن لا يؤمن به، ولا يقيم وجهه عليه، إنه شىء تافه، لا يحرص على الإمساك به، ولا يحزن على فقده.. وهؤلاء المشركون وقد رضوا لأنفسهم أن يكونوا على هذا الوصف فإنهم لا يستحقون منك- أيها النبي- هذا الحرص الشديد على هدايتهم، ولا هذا الأسى المضنى على ما هم فيه من ضلال.. فإنك لو نظرت إليهم حسب وضعهم عند الله بين المخلوقات، لوجدتهم في منزلة دون منزلة الهوام والحشرات.. فكيف تهلك نفسك أسى على هلاكهم وضياعهم. وثالثا: فى قوله تعالى: «وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ» - توكيد لتلك الصفة من صفات الله، التي أنكرها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 70 المشركون، حين قيل لهم: اسجدوا للرحمن، فقالوا: «وَمَا الرَّحْمنُ» . وهكذا، تلتقى السورتان في أكثر من موضع، لقاء تطابق أو تكامل. قوله تعالى: «طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» .. هو مثل قوله تعالى: «الر.. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» (يوسف) . وقوله تعالى: «المر.. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ» (الرعد) . وقوله تعالى: «الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» (إبراهيم) . وقوله سبحانه: «الر.. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ» (الحجر) . وقد قلنا، إن هذه الحروف التي بدئت بها تلك السور، هى إشارة إلى مادة القرآن الكريم، وأنها من هذه الحروف، التي تتألف منها الكلمات، والعبارات، التي يحتويها قاموس اللغة العربية، ويتعامل بها اللسان العربي.. وأن هذه المقاطع من الحروف مبتدأ، وما بعدها خبر. وقوله تعالى: «تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» - هو ردّ على المشركين، الذين قالوا في هذا القرآن: «إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ» فإن الأمر ليس في حاجة إلى افتراء.. فمادة هذا الكلام هي بين يدى كلّ عربى، وكلماته، وعباراته، تجرى على ألسنتهم.. فالأمر لا يحتاج إلى أكثر من صياغة الكلمات والعبارات التي هي ملك مشاع للعرب جميعا، فليفعلوا هذا، متفرقين، أو مجتمعين، وليأتوا بمثل هذا النظم القرآنى، وهم أرباب البيان، وفيهم الشعراء والخطباء.. هذه هي آيات الكتاب المبين، فى معرض التحدي.. فهل من مبارز؟ وأين الأبطال في هذا الميدان؟. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 71 قوله تعالى: «لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» .. البخع: الهلاك غمّا وكمدا.. والأسلوب أسلوب ورجاء، يراد به الإنكار.. والمعنى، لم تهلك نفسك أسى وحسرة، على أهلك وقومك إذ لم يؤمنوا بالله، ولم يستجيبوا لك؟ إنهم لا يستأهلون هذا، ولا يستحقون من أحد أن يحرص عليهم، فهم ممن لا وزن لهم في ميزان الإنسانية. وفي التعبير عن هذا الإنكار، بأسلوب الرجاء، ما يكشف للنبى عن موقفه العجيب من قومه، وأنه إذ يرجو لهم النجاة، كأنما يرجو لنفسه- فى الوقت ذاته- الهلاك، والتلف! وفي هذا ما فيه من التناقض.. فإن من الظلم للنفس أن يطلب الإنسان لغيره السلامة بعطب نفسه وتلفها.. فارفق بنفسك أيها النبي، ولا عليك أن يضل الضالون، ويهلك الظالمون.. «إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ» . قوله تعالى: «إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ» . أي إن حرصك أيها النبي على هداية قومك الضالين المشركين، لن يخرج بهم عماهم فيه من ضلال وشرك، لأن الله سبحانه وتعالى لم يرد هدايتهم: «إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» (37: النحل) وإن الله سبحانه وتعالى، لو أراد أن يهديهم لهداهم قهرا وقسرا، ولأنزل عليهم آية لا يملكون معها قولا، ولا يستطيعون من يديها إفلاتا، تلك الآيات المهلكة التي تقطع على الناس سبيل الخروج من سلطانها، فإذا عاينوا آية من تلك الآيات خضعوا لها، وذلوا لسلطانها، وجاءوا إلى الله مؤمنين، كما جاء فرعون إلى الله مؤمنا، حين أدركه الغرق.. فقال: «آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» (90: يونس) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 72 وخضوع الأعناق: كناية عن الذلة والخضوع، لما يقع على الإنسان من شدائد وأهوال، حيث تثقل الرأس، ويضعف العنق عن حملها، وحمل ما بها من هموم. قوله تعالى: «وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ» . أي أن هؤلاء المشركين، لا يتأثرون إلا بما هو مادىّ، يقع على أجسادهم ويصيبهم في جوارحهم، شأنهم في هذا شأن الحيوان.. أما ما يقع لعقولهم من آيات الله وكلماته، فإنهم لا يتأثرون له، ولا يفقهون مواقع العبرة والعظة منه.. وهذه آيات الله وكلماته، تجيئهم يوما بعد يوم، وتطلع عليهم حالا بعد حال، فلا يزيدهم ذلك إلا إعراضا عنها، وكفرا بها.. وإذن فإن تطاول الزّمن بهم، وتوارد الآيات عليهم، لا يغيرّ من أمرهم شيئا. وإن حرصك- أيها النبيّ- على هداهم، وجريك وراءهم، ولقاءك إياهم بكل ما ينزل عليك من السماء- إن كل هذا لا يغنى شيئا، ولا يحقق الغاية التي تسعى إليها من أجلهم.. وآية واحدة تفتح القلوب المستعدة للإيمان، المتفتحة للخير.. وعشرات الآيات، ومئاتها، وألوفها لا تغير من حال القلوب المريضة، والنفوس السقيمة، التي تلتقط كل دواء.. «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» (96- 97: يونس) .. قوله تعالى: «فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» .. أي فقد كذبوا بالآيات السابقة التي تلقوها منك- أيها النبي- فأنكروها وأنكروك.. وإذن فلا ينفعهم ما سينزل عليك من آيات بعد هذا، وإذن فلينتظروا البلاء والعذاب، وسيعلمون علما متيقنا، حقيقة هذا الذي يكذبون به من آيات الله، وأنه الحق من ربهم.. ولكن ذلك يكون بعد فوات الأوان.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 73 «يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً» (158: الأنعام) . قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ» . أي أعمى هؤلاء المشركون عن أن ينظروا إلى هذه الأرض الميتة، كيف ينزل الله سبحانه وتعالى عليها الماء من السماء، فتحيا، وتهتزّ، وتربو، وتنبت من كل زوج بهيج وإذا كانت عقولهم قد عميت عن أن ترى ما في آيات الله وكلماته من هدى ونور، أفعميت أبصارهم عن أن ترى هذه الظاهرة الحية، التي تطلع عليهم في كل أفق من آفاق الأرض؟ فإذا كانوا قد عموا عن هذا الواقع المحسوس، فإنهم أشد عمى من أن يروا شيئا من آيات الله، وكلمات الله! قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ» .. إن في هذه الظاهرة لآية مبصرة، يرى فيها أصحاب النظر والعقل من الناس، آثار رحمة الله، وقدرته، وحكمته.. ولكن أكثر الناس لا يلتفتون إليها، وإن التفتوا لا يروا شيئا، وإن رأوا شيئا أنكروه، وتأوّلوه تأويلا فاسدا. وهذا هو شأن هؤلاء العتاة المتكبرين المشركين.. قوله تعالى: «وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» .. وإن هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله، ولا ينقادون لسلطانه، لن يعجزوا الله، ولن يخرجوا من سلطانه.. فهم في قبضته، لأنه هو العزيز، الذي لا يغلب، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 74 القوىّ، الذي لا يحتاج إلى ناصر ينصره من خلقه، وهو- مع عزته، وقوته، ونفاذ سلطانه- «رحيم» يعفوا عن المسيئين، ويتوب على الضالين، ويقبل العاصين، إذا هم رجعوا إليه واستقاموا على صراطه المستقيم. إن الطريق أمامهم مفتوح. فمن شاء فليدخل!! الآيات: (10- 22) [سورة الشعراء (26) : الآيات 10 الى 22] وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22) التفسير: هذه الآيات، والآيات التي بعدها، تعرض قصة موسى وفرعون، وقد وردت هذه القصة في معارض متعددة من القرآن الكريم، تختلف بسطا وإيجازا، ولا تختلف محتوى ومضمونا.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 75 وهذا الاختلاف في العرض، هو من تصريف القول، الذي أشار إليه سبحانه وتعالى، وأشار إلى الغاية منه.. فى قوله تعالى: «وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» (51: القصص) وقوله تعالى: «وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً» (113: طه) وقوله سبحانه: «وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً» (50: الفرقان) . وقد كان هذا التكرار في القصص القرآنى، موطنا من المواطن التي دخل منها المستشرقون، وأشباه المستشرقين، من أعداء الإسلام، للطعن في القرآن، وأن هذا التكرار، هو اختلال في النظم، جاء نتيجة للحالات العصبية والنفسية التي كانت تعترى النبيّ، كما يقولون، كذبا وبهتانا.. وسنعرض لموضوع التكرار القصصى في القرآن، بعد أن ننتهى من عرض هذه القصة.. ومناسبة هذه القصة لما قبلها، هى أن الآيات السابقة عرضت لموقف المشركين من النبيّ، وخلافهم عليه مع حرصه على هدايتهم واستنقاذهم.. فكان أشبه الناس بخلافهم، وعنادهم، وعتوهم- فرعون، الذي جاءه موسى بآيات مادية محسوسة- كتلك الآيات التي كان يقترحها المشركون على النبيّ- فما زاده ذلك إلا لجاجا وعنادا.. فناسب ذلك أن يذكر هذا الحديث عن فرعون، فى معرض الحديث عنهم، ليروا على مرآة الزمن وجههم واضحا، فى أعتى العتاة، وأظلم الظالمين.. وليروا مصيرهم في هذا المصير الذي صار إليه صاحبهم، وأقرب الناس إليهم.. فرعون، وهامان، وقارون. وتبدأ القصة هنا، بالمرحلة الثانية من حياة موسى، بعد أن بلغ أشدّه، وتلقى الرسالة من ربه.. فلم يجىء فيهاهنا ذكر، لميلاده، وإلقاء أمه إياه فى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 76 اليمّ، خوفا من فرعون، ثم التقاط آل فرعون له، واتخاذ فرعون له ولدا.. ثم قتله المصري، وفراره إلى مدين، ثم زواجه من ابنة شعيب- عليه السلام- ثم عودته إلى مصر.. ثم تلقيه رسالة السماء وهو في طريق العودة- كل هذا لم تعرض له القصّة هنا، لأنه عرض في مواضع أخرى من القرآن الكريم.. وتبدأ أحداث القصة هنا، بهذا الأمر يتلقاه موسى من ربّه: «أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.. قَوْمَ فِرْعَوْنَ» .. فهذا هو الوصف الذي لهم في المجتمع الإنسانى.. ثم جاء التعقيب على هذا الأمر بقوله تعالى: «أَلا يَتَّقُونَ» كاشفا عن بغيهم وظلمهم، وأنهم لا يتقون.. وقد أطلق فعل التقوى، فلم يقيّد بمفعول، للدلالة على أن قلوبهم قد خلت من كل أثر للتقوى، فى أي قول أو عمل، مع الله، أو مع الناس.. فهم على بغى وعدوان في كل أمر، وفي كل حال.. ويتلقى موسى أمر ربّه، وإذا صورة فرعون تطلع عليه، بوجه ظالم غشوم فتعتريه رهبة، واضطراب، من هذا اللقاء، الذي سيكون بينه وبين فرعون، فيضرع إلى ربه قائلا: «رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ» . إن هناك أكثر من جهة يطلع منها الخوف على موسى من فرعون.. ففرعون ظالم جبار، لا يدنو منه أحد إلا افترسه، كما يفترس الأسد فريسته.. إنه لا يسأل عما يفعل، وما هي إلا كلمة، أو إشارة تصدر منه، حتى يمضى زبانيته أمره.. وفوق هذا، فإن موسى مطلوب لفرعون في دم القتيل المصري الذي قتله.. إن الأبرياء لا تشفع لهم براءتهم أمام ظلم فرعون وبغيه، فكيف بأرباب التهم الذين يقعون ليده؟ وموسى مطلوب منه أن يمتثل أمر ربّه، وأنه لممتثل لهذا الأمر، صادع به، ولكنه يسأل الله العون والمدد.. وذلك بأن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 77 يبعث معه أخاه هرون، وأن يجعله شريكا له في هذا الأمر، حتى يشتدّ به أزره، ويثبت به جنانه، إذا أخذه هول الموقف ورهبته. ويتلقى موسى أمداد السماء، ويستمع إلى قول الحق جلّ وعلا: «كلّا» أي لن يقتلوك، «إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ» ولن ينالوا منك شيئا، فالله معك، يسمع ويرى..َأْتِيا فِرْعَوْنَ» أنت وهارون، الذي جعلناه رسولا معك إلى فرعون: َقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ» أي إننا- وإن كنا اثنين- فنحن شخص واحد، يحمل إليك رسالة الله إليك.. «أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ» .. فهذه هي رسالتنا التي أمرنا الله بتبليغها إياك، وهي أن تدع بني إسرائيل وشأنهم، لنمضى بهم إلى حيث يشاء الله، بعيدا عن محيط ملكك وسلطانك! وتنتقل الأحداث في سرعة يطوى فيها الزمن.. وإذا موسى وهرون وجها لوجه مع فرعون، وإذا بهذه الرسالة قد أعلنت إلى فرعون.. ولا يظهر على مسرح الأحداث شيء من هذا، وإذا المشهد يعرض فرعون، وقد جابه موسى بهذه المجابهة التي تمسّ أضعف جانب منه، ضاربا صفحا عن هرون، متجاهلا الرسالة التي أفضيا إليه بمضمونها.. فيلقى إلى موسى بهذه القذائف: - «أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ» ؟ - «وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ» ؟ فمن أنت حتى تجئ إلينا اليوم في صورة مبعوث سماويّ؟ ألست ربيب نعمتنا، وغذىّ فضلنا وإحساننا؟ فكيف تجئ إلينا من هذا العلوّ، وتطلب إلينا هذا الطلب، الذي هو من خاصة شئوننا، ومن بعض سلطاننا في رعيتنا؟ ثم كيف تحدّثك نفسك بالجرأة علينا، وبالنجاة من عقوبتنا، وقد فعلت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 78 ما فعلت بارتكاب هذه الجريمة، والاعتداء على أحد رعايانا؟ أليس هذا كفرا بنعمتنا، وإحساننا؟ أليس هذا عدوانا على سلطاننا واستخفافا بناموسه؟. ويضطرب موسى أمام هذه المفاجأة، وفي مواجهة هذا الاتهام.. ولكنه يذكر قول الله له.. «إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ» .. فيسكن جأشه، ويطمئن قلبه.. ويرمى فرعون، بأشدّ مما رماه به.. - «فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ..!! - «فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ.. فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ.. - «وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ» ؟ إنه يعتذر من قتل المصري بأن ذلك كان عن جهل منه، وضلال.. لأن الله سبحانه وتعالى لم يكن قد خرج به عن هذا الضلال الذي يعيش فيه فرعون، ومن يضمه سلطانه.. فهذه الفعلة هي أثر من آثار تلك الحياة التي يحياها المجتمع الفرعوني، حيث لا حرمة فيه للدماء.. وهكذا يلقى موسى بهذه التهمة في وجه فرعون، لأنه هو الذي أرخص دماء الناس، وأغرى بعضهم ببعض، وأن موسى قد مسّه شىء من هذا الذي رمى به فرعون المجتمع كله!! وأنه- أي موسى- حين فرّ من وجه فرعون، طالبا النجاة لنفسه منه، وخرج من هذا الظلام المطبق- رأى النور، وأبصر الهدى.. وهناك، فى أفق بعيد عن آفاق فرعون، تلقى الكرامة والإحسان من ربّه، وتزوّد بزاد طيب كريم، غير هذا الزّاد الذي تناوله من يد فرعون.. فوهب الله له «حكما» - أي جعل له سلطانا على بني إسرائيل، يقودهم، ويسوس أمرهم، وجعله من المرسلين، إلى هداية الناس.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 79 وهذه غمزة أخرى، يغمز بها موسى فرعون، وأنه إنما تلقى الخير من السماء حين فارق هذا الجوّ المظلم الفاسد، ولو بقي فيه لما أصاب خيرا أبدا، ولما كان له هذا السلطان.. وبهذا السلطان الذي وضعه الله في يد موسى على بني إسرائيل، أقبل على فرعون، يحاسبه على هذا الجرم الشنيع الذي أجرمه في حقّ هذه الجماعة، التي أصبح ليد موسى أمرها.. لقد استعبدهم فرعون وأذلهم، وأن موسى إذا كان قد قتل واحدا من رعايا فرعون، فإن فرعون قد قتل معالم الإنسانية، فى هذه الجماعة، وأحالها إلى قطيع من الحيوان، الذليل المهين!! إن موسى قتل نفسا خطأ من غير قصد.. أما فرعون فقد قتل نفوسا لا حصر لها، عن عمد وإصرار!!. فإذا كان هناك من يحاسب ويدان، فهو فرعون.. وليس موسى!. وهكذا يتحول الموقف، ويصبح الطالب مطلوبا، والمدّعى متّهما..! وسنرى بقية المشهد في الآيات التالية.. الآيات: (23- 37) [سورة الشعراء (26) : الآيات 23 الى 37] قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 80 التفسير: ولا يلتفت فرعون إلى هذه التّهم التي وجهها إليه موسى، وكأنه يعدّ هذا لغوا من القول، فما كان لموسى أن يحاجّ فرعون، أو يجادله فيما هو من سلطانه! إن فرعون لم يسمع شيئا!! ويسأل فرعون موسى، عن مضمون هذا القول الذي ألقى به إليه، حين واجهه برسالته، فقال: ِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ» فيقول فرعون: «وَما رَبُّ الْعالَمِينَ؟» مجهّلا هذا الربّ، منكّرا ومنكرا له: «وَما رَبُّ الْعالَمِينَ» ؟ إنه لا يمكن أن يكون هذا الربّ عاقلا.. وكيف وفرعون هو الربّ القائم على رقاب العباد؟ أليس هو القائل: «يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي!» (38: القصص) . ويجئ جواب موسى: «رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ» : أي كنتم ممن يطلبون الحقّ ويستيقنونه! فهذا هو ربّ العالمين. ويعجب فرعون لهذا الكلام، ويستثير عجب من حوله: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 81 «قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ. أَلا تَسْتَمِعُونَ» ؟ .. فما هذا اللغو؟ وما هذا الهذيان؟ أهناك ربّ غيرى؟. ولا يكاد القوم يتجهون بعقولهم إلى ما يدعوهم إليه فرعون، حتى يلقاهم موسى بالجواب الذي كان ينبغى أن يلقوا به هذا السؤال الذي ألقاه إليهم فرعون، فى عجب ودهش: «قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» .. هذا هو الربّ الذي ينكره فرعون، ويعجب من أمره.. أفتنكرونه أنتم كذلك؟ فأين عقولكم حتى تنقادوا إلى هذا الضلال؟. ويأخذ فرعون الطريق على موسى إلى الملأ.. فيقول لهم: «إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ» .. إنّه رسول إليهم، لا إلى فرعون.. ثم إنه لمجنون يهذى بهذا القول.. فلا تستمعوا إليه، ولا تأخذوا كلامه إلّا على أنه كلام مجانين!. ويردّ موسى على فرعون هذا الاتهام بقوله: «رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ» .. إنه يدعوهم جميعا، ومعهم فرعون، إلى أن يستمعوا ويعقلوا، وإنهم لو كانوا عقلاء حقّا لعرفوا أن لهذا الوجود ربّا، وأنه ربّ المشرق والمغرب، وما بين المشرق والمغرب، من كائنات. ويقطع فرعون هذا الجدل، ويجرد سيف بأسه وسلطانه، ليفحم موسى، ويسكته.. فيقول: «لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ» .. هكذا منطق القوة الغاشمة.. إنها لا تحتكم إلى عقل، ولا تخضع لمنطق، إلّا منطق القهر والتسلّط!. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 82 وماذا يصنع موسى، فى مواجهة هذا السلطان الغشوم؟ إن لفرعون أن يسجنه، وأن يقتله.. إنه لا يعترض على هذا، ولكن كلمة أخيرة، يريد موسى أن يستمع إليها فرعون، ثم ليفعل ما يشاء.. «قالَ: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ؟» - أي أتنفّذ فيّ هذا الحكم، ولو كان معى شىء مبين، وحجة واضحة على هذه الأقوال التي استمعت إليها، وأنكرتها؟ وهنا يسيل لعاب فرعون إلى هذا السلطان العظيم الذي بين يدى موسى، وهو يخفيه عنه.. فما هو هذا السلطان؟ وكيف يكون مع موسى سلطان وفي يد فرعون كل سلطان؟ أين هو؟ لا بد أن يستولى عليه، ويضيفه إلى سلطانه..!! وفي لهفة، وحزم، وقوة.. يقول فرعون.. «فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ!» . ولا يقول موسى كلمة.. بل يضرب ضربته في غير تراخ أو تردد.. «فَأَلْقى عَصاهُ.. فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ..» «وَنَزَعَ يَدَهُ.. فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ..» ولا تعرض القصة هنا لما كان من فرعون، وما لبسه من اضطراب وفزع.. فذلك أمر معلوم، فى مثل هذه الأحوال.. وليس فرعون بدعا من الناس، فيما يطلع عليهم من عالم المجهول. ويظهر أثر هذا الفزع الذي استولى على فرعون، فى استنجاده بمن حوله، وتعلّقه بهم قبل أن يهوى من هول المفاجأة.. فيشركهم معه في هذه المعركة، بل ويجعل إليهم لا إليه- الرأى فيها، وهو الذي كان يتولى كلّ شىء، ويأمر بما يرى.. أما هنا فإنه صاغر ذليل، يطلب الرأى، وينتظر الأمر، ليفعل ما يؤمر به.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 83 «قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ.. إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ؟» . إنه يستسلم للملأ حوله، ويسلّم بأن الأرض أرضهم، وقد كانوا منذ قليل هم والأرض ملكا خالصا ليده. وإذا كانت الأرض أرضهم، وموسى يريد أن يخرجهم من أرضهم هذه بسحره.. فالأمر إذن أمرهم.. فماذا يرون؟ وبماذا يأمرون؟ «قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ» . هذا هو الرأى الذي ارتآه القوم في موسى.. إنه ساحر.. فليلقوه بسلاح مثل سلاحه.. وليجمعوا له السحرة من كل مكان! وهكذا انتهى هذا المشهد، ليبدأ مشهد آخر، على مسيرة الأحداث المتتابعة للقصة.. كما سنرى في الآيات التالية: الآيات: (38- 42) [سورة الشعراء (26) : الآيات 38 الى 42] فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) التفسير: وفي هذا المشهد نرى حركات سريعة متلاحقة، بعضها خفيّ، وبعضها ظاهر.. ويتشكل من خيوط هذه الحركات صور شتى، تظهر على مسرح الأحداث.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 84 فهاهم أولاء السحرة قد جئ بهم من كل مكان، وقد أنذروا بالسّحر الذي سيلقونه وبالساحر الذي سيرميهم بسحره، وباليوم المعلوم الذي تلتحم فيه المعركة: «فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» . ثم هاهم أولاء دعاة فرعون، ينطلقون بين الناس، يغرونهم بالاحتشاد لهذا اليوم، وبشهود تلك المعركة.. بين السحرة، وبين الساحر.. وهذا الحشد للناس.. غايته، هو شدّ ظهر هؤلاء السّحرة، وإلقاء الرعب في قلب موسى بهذه الحشود التي تتربص به، وتنتظر الهزيمة له، لتسخر منه أو تفتك به. «وَقِيلَ لِلنَّاسِ: هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ، لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ» !. ثم ها هم أولاء السحرة، يلتقّون بفرعون قبل المعركة، ليتلقّوا كلمته، وليعرضوا بين يديه ما معهم من أسلحة قد أعدوها للقاء هذا الساحر.. ثم إذ ينتهى هذا العرض، يعرضون على فرعون مطلبا خاصّا بهم، وهو الجزاء الذي سيجزيهم به فرعون إذا هم جاءوا له بالنصر المبين.. «قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ» .. ولا يتردد فرعون في بذل الجزاء الحسن لهم.. إنه ليس جزاء ماديّا وحسب، بل إنهم سيكونون من خاصة فرعون، ومن المقربين عنده «قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» وينتهى هذا المشهد، ليخلى مكانه لمشهد آخر.. تعرضه الآيات الآتية: الآيات: (43- 51) [سورة الشعراء (26) : الآيات 43 الى 51] قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 85 التفسير: وينتقل المشهد إلى خارج المدينة، حيث احتشد الناس، ليشهدوا هذا اليوم العظيم.. وفي ميدان المعركة، التقى موسى بالسحرة.. ثم ماهى إلا كلمات يتبادلها الطرفان، حتى يلتحم القتال.. ويدعو موسى السحرة إلى أن يبدءوا المعركة، وليصدموه الصدمة الأولى بكل ما معهم.. «قالَ لَهُمْ مُوسى.. أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ» .. ويلقى السحرة كل أسلحتهم..! «فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ» ! إن كل ما معهم هي حبال وعصيّ، شكلوها على صفات خاصة، حتى إذا ألقوا بها اضطربت اضطراب الأفاعى والحيّات.. فلما ألقوها، أطلقوا وراءها مشاعر إيمانهم بفرعون، واستمدادهم القوة من قوته.. وهم بهذا الشعور لا بسحرهم- سيغلبون، وينتصرون! ولا يذكر القرآن هنا ماذا كان لهذه الحبال وتلك العصى من أفاعيل، وما كان لها من آثار في مشاعر الناس، وفي موسى نفسه.. وقد ذكر القرآن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 86 ذلك في مواضع أخرى.. فقال تعالى في سورة الأعراف: «فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ» (الآية: 116) . وقال في سورة طه، عما وقع في نفس موسى من هذا السحر: «فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى» (الآية: 67) . «فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ» .. والإفك: ما كان من واردات الضلال والبهتان.. وهكذا في لمحة خاطفة، يتبدد هذا السراب، وتختفى أشباح هذا الضلال. وإذا موسى وقد ملك الموقف، واستولى على كل ما في الميدان من مغانم..! وإذا هذا الهرج والمرج، وهذا الصخب واللجب، يتحول إلى صمت رهيب، وسكون موحش، لا يقطعه إلا السحرة، وقد استبدت بهم نشوة غامرة، وغشيتهم صحوة مشرقة، وإذا هم يخرجون من أحشاء هذا الصمت الرهيب، ويتحركون في وسط هذا السكون الموحش. َأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ..» ! ويعود الهرج والمرج، وتختلط أصوات الاستهجان بالاستحسان، ثم تخمد الأنفاس فجأة، وتحتبس الكلمات على الألسنة، وتموت المشاعر في الصدور، ويفيق القوم من وقع هذه الصاعقة، إذ يذكرون أنهم في حضرة «فرعون» فتتعلق به الأبصار.. ليطلّ الناس منها على ما يصنع فرعون، أو يقول. والحساب هنا مع السحرة أولا، الذين خذلوا فرعون، وأذلوا كبرياءه، وأعلنوا فضيحته على الملأ. «قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ» ؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 87 إن خذلانهم على يد موسى، ليس هو الأمر الذي ينظر إليه فرعون الآن، ويحاسب السحرة عليه.. لأنه رأى بعينه، هذه القوى القاهرة التي بين يدى موسى، والتي لا قبل لبشر بمواجهتها.. ولكن الذي يعنيه من أمر السحرة فى هذا الموقف، هو خروجهم عن أمره، ومتابعة موسى من غير إذن منه؟ إذ كيف يكون لهم وجود خاص، وكيف يكون لعقولهم ومشاعرهم سلطان عليهم مع سلطانه؟ إنه يملكهم ويملك ووجودهم الخارجي والداخلى جميعا!! - «آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؟» إنها مؤامرة مدبرة، ومكر مبيت بينكم وبينه.. إنه الساحر الأكبر، الذي علمكم السحر.. وهكذا استجبتم له ولم تخرجوا عن سلطانه عليكم، شأن التلميذ مع أستاذه.. «إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ.. فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» !! ولا ينتظر، حتى يعود إلى كرسيّ سلطانه، ويقدّمهم للمحاكمة.. بل إنه يقيم المحكمة في موقع الجريمة، وينفذ الحكم على أعين الجماهير التي شهدت الحادثة، حتى يكون فيها عبرة وعظة.. إنه يضرب والحديد ساخن كما يقولون.. «لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ!» . وإذا وقع الإيمان في القلب موقعا صحيحا، وجاء إليه عن حجة قاطعة، وبرهان ساطع، لم تستطع قوى الأرض كلها مجتمعة أن تنتزع هذا الإيمان، أو تزحزحه من موضعه.. وبهذا الإيمان يلقى السحرة تهديد فرعون ووعيده في استخفاف، وغير مبالاة.. إن كل شىء هيّن، ماداموا قد حصلوا على الإيمان، وأنزلوه هذا المنزل المكين من قلوبهم.. «قالُوا لا ضَيْرَ» .. أي لا ضيم، ولا خسران علينا، إذا ذهب من بين أيدينا كل شىء، ولو كانت حياتنا، وسلّم لنا إيماننا الذي أشرقت شمسه بين جوانحنا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 88 «إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ» .. فلتذهب هذه الحياة غير مأسوف عليها.. فإن لنا حياة أخرى، أفضل، وأكرم.. إنها حياتنا الآخرة.. والآخرة خير وأبقى..! «إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ» .. إننا بإيماننا هذا نفتح طريقا من النور وسط هذا الظلام الكثيف، فيهتدى بنا الضالون الحائرون.. وبهذا نطمع في مغفرة ربنا، لما كان لنا من خطايا في السير معك على طريق الضلال.. ثم ينتهى هذا المشهد، ويخيل للمشاهد أن المعركة قد انتهت.. وأن فرعون قد جمع وجوده الممزّق، وجرّ وراءه فلّه المهزوم.. ولكن الأحداث تتصل، وتأخذ مسرحا آخر غير هذا المسرح.. كما سنرى في الآيات التالية.. الآيات: (52- 68) [سورة الشعراء (26) : الآيات 52 الى 68] وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 89 التفسير: لم تكن تلك المعركة التي أقامها فرعون بين موسى والسحرة، والتي انتهت بتلك الهزيمة المنكرة للسحر والساحرين- لم تكن هذه المعركة، لتحسم الموقف بين موسى وفرعون، فما زاد فرعون بعدها إلا كفرا، وكبرا، واستعلاء، وإلا ضراوة وبغيا وعدوانا على بني إسرائيل..! وإذا لم يكن في هذه الحرب السافرة، وفي الآية الكبرى التي رآها فرعون رأى العين، ما يقيم له دليلا على أن موسى مرسل من ربّ العالمين، وأن سلطان هذا الربّ سلطان عظيم، يخضع له كل ذى سلطان- فقد قامت من وراء هذه الحرب حرب خفية، لا يرى الناس مشاهدها، ولكن يشهدون آثارها.. إنهم لا يرون سيوفا تسلّ، ولا حرابا تشرع، ولكن يرون رءوسا تقطع، وجراحا تفور، ودماء تسيل، وأشلاء تتمزق وتتطاير..! فلقد سلّط الله على فرعون وملائه ألوانا من البلاء، وصب عليهم مرسلات من النقم، وأخذهم بها حالا بعد حال، وواحدة بعد أخرى.. فما استكانوا، وما تضرّعوا، وما لانت منهم القلوب، ولا استنارت البصائر.. وفي هذا يقول الله تعالى: «وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 90 يَذَّكَّرُونَ فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ. آياتٍ مُفَصَّلاتٍ. فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ» . (130- 133: الأعراف) .. وكان فرعون كلّما نزلت به نازلة طلب إلى موسى أن يدعو إلهه بأن يرفع هذا البلاء، وفي مقابل هذا سيؤمن به فرعون، ويرسل معه بني إسرائيل.. وفي هذا يقول الله تعالى: «وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى: ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ» (134: الأعراف) . ولكن ما إن يرفع البلاء، وتسكن العاصفة، حتى يعود فرعون إلى سيرته الأولى، فيصب على بني إسرائيل نقمته ويزيد في قهرهم وإذلالهم، ضراوة وقسوة.. «فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ» (135: الأعراف) . فيشتد بهذا البلاء على بني إسرائيل، وتزداد محنتهم، كما يقول الله تعالى على لسانهم إلى موسى: «قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» (129: الأعراف) . وفي ضوء هذا نستطيع أن نفهم قوله تعالى: «وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ» .. وأن هذا الأمر من الله سبحانه وتعالى إلى موسى، لم يكن بعد التقاء السحرة بموسى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 91 وإيمانهم به مباشرة. وإنما كان ذلك بعد زمن، رأى فيه فرعون هذه الآيات من النقم والبلايا. حتى إذا بلغ الكتاب أجله، أمر الله موسى أن يسرى بقومه ليلا وأن يخرج بهم من مصر. - وفي قوله تعالى: «إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ» إشارة إلى أن يأخذ موسى وقومه حذرهم، وأن يخرجوا من مصر في خفية وحذر، فإن عيون فرعون ترقبهم، ولهذا جاء الأمر بأن يكون خروجهم ليلا، من غير أن يراهم أحد.. قوله تعالى: «فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ» .. لقد كان فرعون في أثناء هذه البلايا التي صبت عليه- يعدّ العدة ليضرب بني إسرائيل ضربة قاضية، فأرسل رسله في البلاد يغرون الناس ببني إسرائيل، ويحذرونهم الشر الذي ينجم عن وجودهم بينهم، وأن هذه الجماعة، وإن كانت شرذمة، أي جماعة مفرقة، متناثرة هنا وهنا- إلا أنه يجب الحذر منها، والانتباه إلى خطرها.. قوله تعالى: «فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ» . يكاد يجمع المفسرون هنا على أن إخراج فرعون وقومه من هذه الجنات والعيون، إنما كان بغرقهم وهلاكهم، حين تبعوا بني إسرائيل، وعبروا وراءهم البحر، فأطبق عليهم وأغرقهم.. ثم يقولون: إن بني إسرائيل قد عادوا إلى مصر مرة أخرى، بعد أن رأوا ما حلّ بفرعون وقومه، وأنهم ورثوا ما كان في يد فرعون وقومه! الجزء: 10 ¦ الصفحة: 92 وهذا، مخالف لصريح آيات القرآن الكريم، التي تحدثت في أكثر من موضع عن حياة موسى وبني إسرائيل في الصحراء، وتيههم في الصحراء أربعين سنة، بعد أن أمرهم موسى بدخول الأرض المقدسة، فأبوا، وخافوا أن يدخلوها على أهلها، وقالوا: «يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ» (22: المائدة) وقالوا «إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» (24: المائدة) . ثم كيف يكون مع بني إسرائيل من المشاعر ما يلفتهم إلى مصر مرة أخرى، وقد لبسهم فيها الذل والهوان، وسكن إلى كيانهم الرعب والفزع؟ ذلك بعيد بعيد!! وهل إذا غرق فرعون وجنوده.. هل خلت مصر من أهلها؟ وهل خلت البلاد من الجنود؟ ثم إن التاريخ يؤيد هذا، ويشهد بصدق القرآن الكريم، وأنه لم تكن لبني إسرائيل عودة إلى مصر، بعد أن خرجوا منها فارين مذعورين.. - أما قوله تعالى: «فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ» فهو- والله أعلم- ما كان من نقم الله التي حلّت بفرعون وملائه.. من جدب، ونقص في الثمرات، ومن طوفان، وجراد وفمّل.. فهذه النقم قد سلبت القوم ما كان في أيديهم من نعم، فأحالت الخصب جدبا، والنعيم والرفه بلاء وكربا.. وبهذا كان خروجهم مما كانوا فيه من جنات وعيون، وكنوز ومقام كريم.. على حين أن بني إسرائيل لم يمسهم شىء من هذا البلاء، وهم يعايشون المصريين، ويحيون معهم، فكأنهم بهذا، قد ورثوا ما كان في أيدى المصريين، من هذه النعم والكنوز! إذ كانوا هم الذين يأخذون بحظّهم منها، على حين حرمها فرعون والملأ الذين معه.. ولهذا جاء ذكر خروج بني إسرائيل من مصر بعد هذا الميراث لا قبله، كما ترى ذلك في قوله تعالى بعد هذا: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 93 «فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ» .. أي متجهين جهة الشرق.. «فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ» .. أي فلما رأى الجمعان- جمع فرعون، وجمع بني إسرائيل- بعضهم بعضا.. قال أصحاب موسى: إنا لمدركون. «قالَ كَلَّا.. إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ.. «فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ.. فَانْفَلَقَ.. فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ» .. «وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ..» أي جذبناهم إلى البحر، وأغرقناهم، «ثمّ» أي هناك و «الآخرين» فرعون وقومه، إذ كانوا في المؤخرة من القوم. «وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ» . وهكذا تختتم القصّة، فيغرق فرعون وجنوده، وينجو موسى ومن معه ولا تذكر لبني إسرائيل عودة إلى مصر، ولو كان ذلك لما غفل القرآن الكريم عن ذكره، إذ أن ذلك لا يكون إلا بعد أن يضرب موسى بعصاه البحر مرة أخرى، فينفلق.. ويكون ذلك آية لا يغفل القرآن ذكرها.. هذا، وقد جاء في أكثر من موضع من القرآن الكريم، ذكر ميراث بني إسرائيل، لما ورثهم الله إياه، سابقا لخروجهم من مصر، ونجاتهم من يد فرعون. ففى سورة الأعراف يجىء قوله تعالى: «وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا، وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ» .. ثم يجىء بعد ذلك مباشرة قوله تعالى: «وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ» (الآيتان: 137- 138) .. وفي سورة الدخان.. يقول الله تعالى: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 94 عن فرعون وملائه: «كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ» .. ثم يجىء بعد هذا قوله تعالى: «وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ» الآيات: (25- 31) .. فالميراث الذي تتحدث عنه الآيات في هذه المواضع، كان ميراث ما في أيدى المصريين من خيرات مصر، التي سلط الله عليها آفات تحرمهم الانتفاع بها، على حين كان ينتفع بها بنو إسرائيل، إلى أن خرجوا من مصر.. وتلك آية من آيات الله، حيث تجتمع النعمة والنقمة في الشيء الواحد.. تتناوله يد، فيتحول فيها إلى نقمة، وتمسك به يد أخرى، فإذا هو نعمة! ولا يدفع هذا، ما وصفت به الأرض في قوله تعالى «الَّتِي بارَكْنا فِيها» إذ قد يقع في بعض الأفهام أن «البركة» تعنى أرضا مخصوصة، هى الأرض المقدسة.. وفي رأينا أنه إذا اجتمع للأرض المقدسة، القداسة والبركة، فإنه لا ينفى أن يشاركها غيرها بعض صفاتها، فقد وصف البيت الحرام بأنه مبارك وهدى للعالمين، كما يقول تعالى: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ» (96: آل عمران) . ومصر بلد مبارك، لا شك في هذا.. فقد ربى في حجره، النبيان الكريمان موسى وعيسى عليهما السلام.. حتى إذ طلعت شمس الإسلام كان مصر البلد المبارك الذي سبق إلى الإسلام، وأمدّ بخيراته المسلمين، وأعزّ برجاله جيوش المجاهدين.. ثم كان بعد هذا حمى الإسلام وملاذه في الشدائد والمحن، كما كان- ولا يزال- الحفيظ الأمين على شريعته ولغته، حيث ينشر علوم الشريعة في آفاق الإسلام، ويفد إليه طلاب علوم الدين واللغة من كل قطر، فينهلون من المعارف، ثم يعودون إلى أقوامهم أساتذة معلمين، وهداة مرشدين.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 95 فهل كثير على مصر بعد هذا أن توصف أنها البلد المبارك؟ وأي بركة أعظم من أن تكون مصر هي اليوم مركز الإسلام، والراية التي يجتمع إليها المسلمون؟ وإذا لم يصح الحديث بأن: «مصر كنانة الله في أرضه، من أرادها بسوء قصمه الله» . فإنه يصح كلمحة من لمحات الغيب، كشف عنها قلب مؤمن، ونطق بها لسان صدّيق!! وقد آن لنا بعد هذا، أن نقف وقفة، عند التكرار في القصص القرآنى، وما يقال فيه، وأن نجعل من تكرار قصة موسى في القرآن مثلا لهذا التكرار إذ كانت تلك القصة أكثر القصص القرآنى تكرارا.. [التكرار في القصص القرآنى «1» ] التكرار في القصص القرآنى ظاهرة واضحة، ملفتة للنظر، وداعية لكثير من التساؤل والبحث.. وقد وجد أصحاب الأهواء، ومرضى القلوب، من الملحدين وأعداء الإسلام فى هذا التكرار مدخلا ملتويا، يدخلون منه على هذا الدين، للطعن في القرآن الكريم، والنيل من بلاغته، وإسقاط القول بإعجازه، وليقولوا إن هذا التكرار قد أدخل الاضطراب على أسلوب القرآن، وجعله ثقيلا على اللسان وعلى السمع معا.. ثم يخلصون من هذا إلى القول بأن أسلوب القرآن ليس على المستوي البلاغى الرفيع، الذي يتسع للدعوى التي يدعيها له المسلمون بأنه معجز   (1) اقرأ في هذا كتابنا: القصص القرآنى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 96 وبأنه منزل من السماء، من كلام ربّ العالمين! ثم يتمادون في هذا الضلال، فيقولون: إن هذا الخلط الذي وقع فيه التكرار، إنما هو أثر من آثار تلك الأحوال النفسية التي كانت تنتاب محمدا، فتخرج به عن وعيه، وتجىء الكلمات التي ينطق بها في تلك الحال، مردّدة مقطعة، كما يقع هذا للمحمومين والمصروعين، وأنه لا يكاد يبدأ القصة حتى ينصرف عنها، ثم يذكرها فيعود إليها، ثم ينصرف عنها.. وهكذا.. وإن الذين يقولون هذا القول، أو يحكونه عنهم، هم أعاجم أو أشباه أعاجم، لم يذوقوا البلاغة العربية، ولم يتصلوا بأسرارها.. ولو أنهم رزقوا شيئا من هذا لما اتسع لهم باب الخروج عن الحياء، لأن يقولوا هذا القول، وأن ينطقوا بهذا البهتان العظيم، ولردّهم أقلّ الحياء أن يقولوا قولا لم يقع في حساب «قريش» نفسها، وهي تتصيد التهم والمفتريات على القرآن الكريم، وحتى لقد بلغ بها الأمر في هذا، أنها لو وجدت زورا من القول لقالته فيه، ورمته به.. ولكن الزور نفسه أعياها أن تمسك به، فى وجه هذا الحق المشرق المبين. فكان أكثر قول القوم فيه ما حكاه القرآن عنهم: «وقالوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ» . وقد ردّ عليهم القرآن هذا القول، فقال تعالى: «فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً» . وإذا لم يكن لقريش أن تقول هذا القول، فى وجه عداوتها وحربها للنبيّ، وهي مرجع الفصاحة والبلاغة وموطنهما، فكيف يساغ هذا القول من أعاجم وتلاميذ أعاجم؟ إن ذلك لهو الضلال البعيد. وندع الردّ على هذه المفتريات، ويكفى أن نعرض وجوها من هذا التكرار، لنرى ما يطالعنا من بعض أسراره، التي هي وجه من وجوه إعجازه، وفيها الرد أبلغ الردّ على هذا الضلال المبين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 97 ما داعية هذا التكرار: كانت هذه الظاهرة- ظاهرة تكرار القصص القرآنى- على تلك الصورة الواضحة، مما استرعى أنظار العلماء إليها، وحرك عقولهم وألسنتهم للكشف عن أسرارها ودواعيها.. فهذا أبو بكر الباقلّانيّ، يقول في كتابه «إعجاز القرآن» : إن إعادة القصّة الواحدة بألفاظ مختلفة، تؤدّى معنى واحدا- من الأمر الصعب، الذي تظهر فيه الفصاحة، وتبين البلاغة» . وهو يريد بهذا القول أن يقول: إن عرض الموضوع الواحد بأساليب مختلفة من القول، دون أن تتغيّر معالمه، ودون أن يضعف أسلوب عرضه، هو من العسير، الذي لا يقدر عليه إلا من كان ذا ملكة بيانية، واقتدار بلاغي، وذلك في حدود لونين أو ثلاثة من ألوان العرض، فإذا جاوز ذلك اضطرب الأسلوب، وبهتت المعاني، إلا أن يكون ذلك من تدبير الحكيم العليم.. رب العالمين. ثم يقول «الباقلاني» : «وأعيد كثير من القصص (القرآنى) فى مواضع مختلفة، ونبّهوا- أي العرب- بذلك على عجزهم عن الإتيان بمثله، مبتدأ، ومكررا» . ويريد الباقلاني بهذا، أن يقرر: أن من صور التحدي الذي عجز العرب عنه، إزاء القرآن، هو عرض القصص القرآنى، عرضا متفاوتا بين الطول والقصر، والبسط والقبض، وقد وسّع عليهم بهذا مجال المعارضة والمحاكاة.. فلم يكن منهم إلّا العجز والاستخزاء! وهذا القول من «الباقلانيّ» لا يكشف عن السرّ الذي نراه في التكرار الجزء: 10 ¦ الصفحة: 98 الذي جاء عليه القصص القرآنى، والذي سنعرض له، بعد أن ننظر في بعض الآراء الأخرى، التي عرضها أصحابها في هذا المقام. ويقول «الزركشي» فى كتابه: «البرهان في علوم القرآن» : «ومنه- أي من التكرار- تكرار القصص في القرآن، كقصة إبليس فى السجود لآدم، وقصة موسى، وغيره من الأنبياء.. قال بعض العلماء: ذكر الله موسى في القرآن في مائة وعشرين موضعا» !! ثم يكشف الزركشيّ عن وجوه لبعض أسرار هذا التكرار فيقول: «وإنما كرّرها- أي القصة- لفائدة خلت عنه في الموضع الآخر، وهي أمور: أحدها: أنه- أي القرآن- إذا كرر القصّة زاد فيها شيئا.. ألا ترى أنه ذكر «الحيّة» فى عصا موسى عليه السلام، وذكرها في موضع آخر ثعبانا؟ ثم يذكر الزركشي أمرين آخرين.. نتجاوزهما إلى ما بعدهما.. الرابعة: إبراز الكلام الواحد في فنون كثيرة، وأساليب مختلفة- لا يخفى ما فيه من الفصاحة! الخامسة: أن الله سبحانه أنزل هذا القرآن، وعجّز القوم عن الإتيان بمثل آيه، لصحة نبوة محمد صلّى الله عليه وآله، ثم بيّن وأوضح الأمر في عجزهم، بأن كرر ذكر القصة في مواضع، إعلاما بأنهم عاجزون عن الإتيان بمثله، بأى نظم جاءوا، وبأى عبارة عبّروا» . والإشارة المقتضبة التي أشار إليها الزركشي، وكأنها جاءت عفوا من غير قصد في قوله: «إنه- أي القرآن- إذا كرر القصة زاد فيها» - هذه الإشارة هى في نظرنا أبرز داعية من دواعى التكرار في القصص القرآنى، وأوضح وجه يطلّ علينا منه.. ولم يذكر «الزركشيّ» ما لهذه الزيادة من قيمة في عرض القصة، وفى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 99 إبراز ما يراد إبرازه من أحداثها، واكتفى بالقول: بأن القرآن كلما كرّر قصة جاء فيها بجديد لم يكن موجودا في العرض الأول، أو الثاني أو الثالث.. وهكذا.. دعوى وبرهانها: والدعوى التي ندّعيها لداعية التكرار في القصص القرآنى، وفي كل تكرار في القرآن الكريم- هى أن هذه الصور المكررة يكمّل بعضها بعضا، وأنها في مجموعها تعطى صورة واضحة، كاملة، مجسّمة، أو شبه مجسّمة للحدث، وأن ما يبدو من أنه اختلاف بين المقولات، فى الواقعة، الواحدة، أو الحدث الواحد، ليس إلا تجميعا لمتناثر الأقوال من هذه الواقعة أوليس إلا التقاطا لظاهر القول، وما يكمن وراءه من خواطر وخلجات، لا يستطيع أن يمسك بها إلا النظم القرآنى وحده، على هذا الأسلوب من التكرار الذي جاء به.. فالتكرار الذي يحدث في بعض مشاهد القصة القرآنية، يؤدّى وظيفة حيوية، فى إبراز جوانب لا يمكن إبرازها على وجه واحد من وجوه النظم، بل لا بدّ أن تعاد العبارة، مرّة ومرّة، لكى تحمل في كل مرة بعضا من مشخّصات المشهد، وإن كانت كل عبارة منها تعطى صورة مقاربة للمشهد كله. ولنا أن نشبه ذلك- على بعد ما بين المشبّه والمشبّه به- بالتصوير «الفتوغرافى» والتصوير «السينمائى» أو «التليفزيونى» .. ففى التصوير «الفتوغرافى» .. اللقطة الواحدة تصوّر المشهد كله، تصويرا كاملا.. صامتا.. والصورة هنا، وإن أعطت جميع ملامح المشهد، فإنها تحتاج في قراءتها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 100 إلى مهارة وحذق للكشف عن مضمونها، أو بعض مضمونها.. إذ كانت إنما تكشف المقطع السّطحى للحدث، أو الجسم الذي تصوّره.. منقطعا عن الحركة، والتجسيد. أما الصورة السينمائية، فإنها تتشكل من مئات وآلاف من «اللقطات» حتى تتجسم الأحداث والشخوص، وتتكشف كل خافية كانت مختفية وراء الصورة «الفتوغرافية» ، فإذا هي تجمع بين الحركة والتجسيد.. إن تكرار الأحداث القصصية في القصص القرآنى، هو إعجاز من إعجاز القرآن الكريم، تتجلّى فيه روعة الكلمة وجلالها، بحيث لا يرى لها وجه في أية لغة، وفي أية صورة من صور البيان، يقارب هذا الوجه، فى جلاله، وروعته، وسطوته. وهل شهدت الحياة «الكلمة» تؤدّى ما يؤديه العمل «السينمائى» اليوم فى نقل المشاهد والشّخوص بأبعادها الثلاثة: (طولها، وعرضها، وعمقها) ، وبحركاتها، وسكناتها، ونطقها، وصمتها؟ وكم تتكلف السينما لهذا العمل من لقطات؟ مئات وألوفا!! أما النظم القرآنى، فإنه يعرض المشاهد بأبعادها، وأعماقها، وحركاتها، وسكناتها، وبنطقها وصمتها، وبوسوسة خواطرها، وهجسات نفوسها، وخلجات قلوبها، ثم لا يكون ذلك كله إلا بعدد محدود من اللقطات، لا يكاد يتجاوز أصابع اليد عدّا. ومن تدبير القرآن الكريم في هذا، أنه لم يجمع هذه «اللقطات» فى معرض واحد، حتى لا تتراكب وتتراكم، بل جعلها موزعة في مواضع متباعدة أو متقاربة في القرآن الكريم، بحيث يمكن أن تستقل كل «لقطة» منها بذاتها مستغنية عن كل تفصيل، ثم بحيث لو نظر ناظر إليها من خلال «اللقطات» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 101 الأخرى المماثلة أو المناظرة لها، لوجد منها جميعا تجاوبا، واتساقا، وائتلافا.. حتى لكأنها اللحن الموسيقى يتألف من أنغام شتى، تجمعها الوحدة التي يسير فى مجراها اللحن. اعتراضات وتمويهات: وهناك اعتراضات كثيرة يلقيها بعض الدراسين والباحثين في وجه القول الذي عليه المسلمون في شأن القصص القرآنى، وأن هذا القصص هو تسجيل لأحداث واقعة، وأنه- لكى يقصّ الحق- جاء بالأحداث كما وقعت، دون أن يدخل عليها بشىء من التحويل والتبديل، أو الزيادة، والحذف، حتى لا يغير من وجوهها، أو يخرجها عن أن تكون حقّا.. وتتلخص هذه الاعتراضات، فى القول باستحالة نقل أي حدث من الأحداث مع جميع ملابساته.. فهناك كثير من الأمور التي تصحب وقوع الحدث، ثم لا يكون لها ذكر، إذ لا حاجة إليها في عرض المحتوى المشخّص له. ولو أنّ نقل الحدث كان يعنى الإمساك بكل جزئية من جزئياته، لكان ذلك- على استحالته- ضربا، بل ضروبا من العبث، الذي يدعو إلى الملل والسآمة، ويذهب بكل ما في النفس من طاقات الاحتمال لهذا اللغو والسّخف!. تصوّر- مثلا- حادثة عابرة، من الحوادث التي تقع وتتكرر كل يوم، بل كل ساعة، على مرأى ومشهد من الناس، ولتكن «سيارة» صدمت شخصا ما، طفلا، أو رجلا، أو امرأت، فى أحد شوارع القاهرة، وفي وقت من أوقات ازدحامها بالحركة والحياة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 102 وانظر.. أتستطيع قوة بشرية أن ترصد مجريات هذا الحادث، وتمسك بكل قريب وبعيد منه؟. السيارة.. لونها، وشكلها، ورقمها.. وسائقها.. هيئته، وطوله، وعمره، وزيّه.. ثم الشخص الذي صدم، وأين كانت الصدمة، ومدى آثارها ثم اجتماع الناس، والتفافهم حول الحادثة، ثم بعض ما كان من تعليقات عليها.. ثم عملية رجال الشرطة والإسعاف.. ثم انجلاء الموقف وعودة الحياة إلى سيرتها فى هذا المكان. ذلك أقصى ما يمكن أن يمسك به إنسان من شهود هذه الحادثة، وما دار فى محيطها. وإن ذلك لقليل إلى كثير جدا، مما وقع هناك، ولم يلتفت إليه أحد، ولم يكن في حساب أحد.. فكم من الناس من شهدوا هذا الحادث مثلا؟ وكم الذكور وكم الإناث منهم؟ وكم الصغار وكم الكبار؟ وما أسماؤهم؟ وماذا يلبس كل واحد؟ وأين يسكن؟ وأين يعمل؟ ثم ما شأن كل واحد من شهود هذه الحادثة؟ إلى أين كانت وجهته؟ وماذا تركت الحادثة في نفسه؟ وهل انطلق بعدها إلى غايته، أم صرف نفسه إلى غاية أخرى؟ .. وهكذا.. وهكذا.. إن لكل إنسان من هؤلاء قصة طويلة، لا تكاد تنتهى.. وهل ينتهى لأمر من هذه الحادثة عند هذا الحد؟ كلا.. فهناك مئات، بل ألوف من الأمور الصغيرة أو الكبيرة، التي تتصل بهذه الحادثة، يمكن أن يجتمع من أيّ منها كتاب ضخم، لو تتبّعها متتبع، ثم يبقى بعد ذلك كثير من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 103 مجربات الأمور قد أفلت منه، ولم يقدر على الإمساك به، ولو استعان بمئات من الأشخاص والأدوات المسجلة والمصورة. وهذا يكشف لنا عن أمرين: أولهما: استحالة نقل الحدث، مهما صغر، نقلا كاملا بملابساته جميعها، مما حواه زمانه، واشتمل عليه مكانه. وثانيهما: أن نقل الملابسات التي تتلبس بالحادث- على فرض إمكانها- لا داعية إليه في التعرف على وجه الحادثة، والاستدلال على مشخصاتها، والوقوف على ما يحتاج إليه منها، إذ يكفى من هذه المشخصات ما يصور الملامح الواضحة، للحادث، ويشخّصه. وبدهيّ أن القصص القرآنى إذ ينقل صورا من أحداث الماضي، فإنه لا ينقل كل ما تلبّس بها من قريب وبعيد، وإنما يأخذ منها ما كان ذا دلالة واضحة عليها، فى الكشف عن الوجه المعبر منها عن الحدث، والمضمون الذي اشتمل عليه.. وإذا كان ذلك كذلك في القصص القرآنى، فإنه يعنى أن هذا القصص لم يجىء بالواقع كله، بل أخذ منه بعضا وأعرض عن بعض، ويعنى أيضا أن هناك تفاوتا واختلافا كثيرا أو قليلا بين هذا القصص وبين الواقع.. وهذا يعنى- مرة ثالثة- أن القصص القرآنى مغاير للواقع على نحو ما. وهذا يعنى- مرّة رابعة- أن هذا القصص قد تصرّف في الأحداث، كما يتصرف القصصيّ في الأحداث الواقعة، حين يؤلف منها قصة من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 104 القصص، أو رواية من الروايات.. وهذا يعنى أخيرا أن أنباء القصص القرآنى، ليست هي الواقع- كما وقع، أو بعبارة أخرى أنها ليست الصدق كلّ الصدق!! هذا مدخل من المداخل التي رآها بعض الباحثين آذنة لهم بالقول بأن القصص القرآنى- شأنه شأن القصص الأدبى- لم يقف عند حدود الأحداث الواقعة، بل تصرف فيها على الوجه الذي يقيم منه قصصا «فنيّا!!» .. الأمر الذي جعله يغير من وجوه الواقع، ويخرج به على غير مألوف الحياة، حتى تجد النفس إقبالا عليه، لما فيه من جدّة وغرابة، ولما في الجدّة والغرابة من طرافة!! هكذا يذهب هذا التصور المريض، الذي يقع في نفوس أهل الغفلة عن جلال الله وقدرته، يذهب بهؤلاء السّفهاء أن يجعلوا الله سبحانه وتعالى، مع الأدباء والقصاصين، على كفتى ميزان، حتى ليضطر الخالق- كما يضطر المخلوقون- إلى خلط الحق بالباطل، وتزويق الحقيقة بالخيال، وتمويه الواقع بالكذب والاختلاق، حتى يكون له طعم جديد، غير ما اعتاد الناس تذوقه من طعوم الحياة وواقعها!! وماذا بقي لله سبحانه وتعالى إذن من تفاوت بينه وبين خلقه؟ أفتعجز كلمات الله عن أن تمسك بالصدق، وتشتمل عليه؟ ثم أيليق بكلمات الله أن تتلبّس بالكذب والاختلاق، وتتزوّق بالخيال وتتجمل به، حتى يكون لها وجه مقبول غير مردود؟. يا للسفاهه والضلال، ويا للحمق والجهالة.. بل يا للجرأة على الله، والتطاول على من خلق من التراب لسانا ينطق بهذا البهتان العظيم!! الجزء: 10 ¦ الصفحة: 105 هذا، ومما يراه أصحاب هذا الرأى الأحمق الجهول مؤيدا لوجهة نظرهم هذه، الضالّة المضلّة- أن القرآن الكريم جاء بلسان عربى مبين، والشخصيات التي وردت في القصص القرآنى، لم يكن لسانها عربيا، كموسى وفرعون مثلا.. وقد نطق القصص القرآنى عن هؤلاء الأشخاص، وأنطقهم بهذا اللسان العربي.. وطبيعى أن ما نطقت به هذه الشخصيات في القرآن، لم يكن هو نفس منطوقها، وإنما هو ترجمة أمينة وصادقة لما نطقت به. وهذه الترجمة، وهذا النقل- أيّا كان من الدقة والإحكام في نقل المعاني من لسان إلى لسان- هو على أي حال مخالفة للواقع، فى الصورة والشكل، وإن لم يكن في المضمون والمحتوى! وأي مخالفة أكبر من أن تتبدل ألسنة الناس، فينطقوا بغير اللغة التي نطقوا بها؟ ففرعون- ولغته المصرية القديمة- ينطق بالعربية الفصحى! وأصحاب الكهف- ولغتهم غبر عربية على وجه قاطع- قد أنطقهم القرآن بلسان عربى مبين.. وهكذا. وأكثر من هذا.. الحيوانات والجمادات، ينطقها القرآن بهذا البيان المبين.. إذ يقول سبحانه فيما أنطق به السماء والأرض: «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» (11: فصلت) . ويقول سبحانه فيما أنطق به النملة: «قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» (18: النمل) . فهذه المفارقات وأشباهها، قد جعل منها بعض الدارسين المجددين أو المجدفين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 106 منفذا ينفذون به إلى القول بأن القصص القرآنى- شأنه شأن القصص التأريخي- لا يكون قصصا إلا إذا لوّنه القاصّ بألوان من خارج الواقع، وجعل لنفسه سلطانا على الأحداث، فيغيّر ويبدّل، كما تقتضى الحال، ويستدعى المقام، حتى تكون القصة مقبولة مستساغة، بما فيها من فنّ وإبداع!! دعاوى متهافتة: والحق أن هذه الاعتراضات كلها مما حكات باطلة، وتلبيسات فاسدة، لا تقوم على أساس من الحجة الواضحة، والمنطق السليم.. فالقول بأن القصص القرآنى لم يحمل في أطوائه الأحداث التي جاء بها، متلبسة بكلّ ما صحبها من صور وأشكال، ساكنة ومتحركة، فى مجال الزمان والمكان على السواء- هذا القول- على تسليمنا به، لا تقوم منه حجة أبدا على أن القصص القرآنى قد بعد- مع هذا- عن الواقع في كثير أو قليل.. بل إنه احتوى الواقع كلّه، واشتمل عليه، وأخذ لبّه، والصميم منه.. ذلك أن الحياة كلها، بأزمنتها وأمكنتها، وأشخاصها وأحداثها، حاضرة عتيدة كلها، بين يدى الحكيم العليم، واقعة في علم من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.. وهذا القصص الذي جاء به القرآن، لم يكن تأريخا للحياة كلها، وأحداثها وإنما هو عرض لبعض المواقف، وكشف عن بعض الأحداث، التي من شأنها أن تحدث في النفس أثرا، وتقيم في الضمير وازعا، وتفتح على العقل والقلب مواقع ماثلة للعبرة والفطنة. فالقصص القرآنى. لا يمسك بالأحداث الواقعة في الحياة كلها، وإنما يمسك من الأحداث والوقائع، بما يراه مجلّيّا عن عبرة، كاشفا عن عظة، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 107 لتنتفع بها الدعوة الإسلامية، فى مقام الدعوة إلى الله، والتعرّف عليه.. وليس يعنيه- فى هذا المقام- أن يكون الحدث مدوّيّا صارخا، أو مزلزلا عاتيا، بقدر ما تعنيه الدلالة التي يدلّ عليها، والعظة التي تتكشف للناس منه. ولا شك أن هذه الأحداث والوقائع التي يقتطعها القرآن الكريم من «شريط» الحياة، هى الصدق الخالص، والحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. يقتطعها القرآن.. زمانا، ومكانا، وأشخاصا، وملابسات.. ثم ينفخ فيها نفخة الحياة، فنبعث من مرقدها، وقد تساقط منها ما جفّ من أوراقها، وما ذبل من أغصانها، وإذا هي ثمر دانى القطوف، نأخذه العين وتشتهيه النفس.. وإذن، فليس تخليص القصص القرآنى من الزوائد والحواشي التي لا تغنى شيئا في تصوير الحدث، وعرضه في معرض الاعتبار والعظة- ليس هذا التخليص إلا عملية غربلة وتصفية، غايتها تنقية الحدث من الشوائب، وتخليصه من الغثاء والزّبد، ليصفو مورده، ويسوغ مذاقه للواردين- وليس ذلك عن عجز أو غفلة، عن جميع الملابسات التي انصلت بالحدث من جميع جهاته، والتقت به من قريب أو بعيد. وهذا التصرف الذي كان من صنيع القرآن الكريم، فى عرض الأحداث وفي أخذ بعضها، والإعراض عن بعض- هذا التصرف لا يصح أن يكون مسوغا لقائل أن يقول: إن القرآن- وقد أباح التصرف على أي وجه من الوجوه- قد أدخل في القصص القرآنى ما ليس من صميم الواقع، وأنه غير وبدّل فى معالمه.. فهذه مغالطة سفيهة- كما قلنا- لأن ما جاء به القصص القرآنى، هو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 108 الصميم من الواقع، واللباب من الحدث، وإن يكن قد ترك ما ترك من حواش وأطراف، وزوائد، وقشور! وأما القول بأن القرآن قد تحدث بلسانه العربي، عن ألسنة غير عربية، أو نطق بلسانه العربي عن دلالة الحال، كما في تحديثه عن الجماد والحيوان، فهذا لا يمكن أن يحىء منه الادعاء بأن القرآن قد تقوّل على من نطق عنه.. وإنما هذا الذي نطق به القرآن، مترجما به عما نطق الناطقون، أو نطقت به دلالة الحال- إنما هو المضمون الحق، والمحتوى الصادق الأمين، لما تلبّست به الخواطر، وجمجمت به الصدور، قبل أن تنطق به ألسنة المقال، أو تهمهم به ألسنة الحال.. فإذا جاءت كلمات الله ناطقة بما نطقت به ألسنة الحال أو المقال، كانت تلك الكلمات هي الصورة الكاملة- روحا وشكلا، ومضمونا ومحتوى- لما نطق به الناطقون، ولما أراد أن ينطق به الناطقون، وأعجزهم العجز عن النطق به! ثم ماذا يمكن أن يكون غير هذا في مثل هذه الأحوال، إذا أريد نقلها وعرضها للحياة؟ أكان من التدبير الحكيم هنا أن يجىء القرآن الكريم بالأشخاص والأحداث، فيبعثها من مرقدها، ويحركها على مسرح الحياة من جديد، لتنطق بما كانت قد نطقت به، أو لتشير إلى ما كانت قد أشارت إليه؟ إن قدرة الله- سبحانه وتعالى- لا يعجزها شىء. ولكن أتحمل الحياة هذا، لو أنه حدث؟ وهل يلقاه الناس فلا يفتنون به، ولا يخرجون عن عقولهم، فى تخبط مجنون؟ ثم لو استمع العرب إلى هذه المقولات التي نطق بها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 109 أصحابها، كما نطقوها بألسنتهم، أو خواطرهم- أكانوا يفهمون شيئا، أو ينتفعون مما استمعوا بشىء؟ إن القصص القرآنى- لكى يكون قصصا نافعا مثمرا- قد جاء على سنّة الحياة التي يحياها الناس، ولم يخرج على مألوفها، ولو جاء على غير هذا لما كان للناس التفات إليه، ولو أنهم التفتوا إليه لما كان منهم إلا الاضطراب والبلبلة.! فالناس، يتداولون الأنباء، ويروون الأخبار، ويتناقلونها، على تعدد الأشخاص، واختلاف الألسنة.. ثم لا يكون شىء من ذلك التعدد وهذا الاختلاف، حائلا بينهم وبين أن يفيدوا منها، وينتفعوا بها، ويخلصوا إلى مضامينها. وغاية ما يمكن أن ينظر إليه في هذه الأحوال، هو الصدق فى الرواية، والأمانة في النقل، والدقة في التصوير والتعبير. وإنه إذا كان هناك ملتمس تلتمس فيه هذه الغاية، على أتم تمامها، وأكمل كمالها، فلن يكون ذلك، إلّا في القرآن، وفيما نطق به القرآن، وإلا في كلمات الله، وما نطقت به كلمات الله.. «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا؟» .. «وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً؟» . إن القصص القرآنى، وإن يكن سماويّ المطلع، فهو بشريّ الصورة، إنسانيّ المنازع والعواطف، يتحدث عن الناس إلى الناس، ويأخذ من الحياة للحياة.. يقرؤه الناس ويسمعونه، فكأنما يقرءون أطواء نفوسهم، ويسمعون همس ضمائرهم، ووسوسة خواطرهم.. ومن هنا، فهم يحيون معه، وينتفعون به انتفاع الأرض يصوبها الغيث، فيقع منها مواقع مختلفة، بين وديان وسهول، وجبال وقيعان، وأحراش وسهوب، وخصب وجديب! الجزء: 10 ¦ الصفحة: 110 وأحسب أننا بعدنا بهذا الاستطراد عن موضوعنا: «التكرار في القصص القرآنى» .. ولكنه كان استطرادا لا بدّ منه، ونحن ننظر من هذا القصص، فى معارض شتّى من البيان.. بين الإيجاز والتفصيل، فى القصة الواحدة، والحدث الواحد، بل والإشارة الواحدة.. إذ كانت معرفة الأصول التي قام عليها القصص القرآنى أمرا لازما لمن يتصدّى لدراسة هذا القصص، وضبط موارده ومصادره، على ميزان الحق الذي نزل به القرآن الكريم.. ثم كانت تلك المعرفة لازمة أيضا لدفع تلك المفتريات التي يفتريها السفهاء والجهلاء من الأعداء والأصدقاء، على القرآن الكريم، وما يقولونه في القصص القرآنى بالذات، وما وقع فيه من تكرار، وما اشتمل عليه- كما يتخرصون- من أساطير.. وقد فرغنا من الردّ على هذا القول الضالّ الآثم، الذمي يقوله القائلون عن مادة القصص القرآنى، وما اشتملت عليه من أساطير.. ورأينا في هذا الردّ- على إيجازه- ما يخرس تلك الألسنة التي نطقت الزور، وجاءت بهذا البهتان العظيم.. أما ما يتخرّص به المتخرصون في شأن التكرار في القصص القرآنى، فقد عرصنا في أول هذا البحث ما يتعلق به أولئك الذين يطعنون في بلاغة القرآن، من مدّعيات ومفتريات، لم تثبت لأول لمحة من النظر، حتى بان عوارها، وانكشف زيغها عن المنطق السليم، الذي يتعامل به في قضايا العلم ومقررات الفنّ وبقي بعد هذا أن نعرض نموذجا من التكرار القصصى في القرآن، لننظر وينظر معنا الذين يأخذون على بلاغة القرآن هذا التكرار- كيف كان هذا التكرار إعجازا من إعجاز النظم القرآنى، إلى جانت إعجاز النظم في ذاته، قبل التكرار، وبعد التكرار.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 111 ولا نتخير هذا النموذج من بين القصص القرآنى، بل فأخذ قصة موسى التي عشنا معها في هذه السورة «سورة الشعراء» - إذ كانت قصة موسى أكثر قصص القرآن تكرارا، فقد ذكرت- كما قيل- فى مئة وعشرين موضعا من القرآن الكريم.. ولا نعرض قصة موسى كلها- بل نأخذ منها هذا المقطع، الذي واجه فيه موسى فرعون وسحرته، إلى أن خرج ببني إسرائيل من مصر.. إذ كان هذا المقطع هو أول ما واجهنا من حديث عن موسى وموقفه من فرعون، وسحرة فرعون.. وهذا المقطع الذي نقف عنده من قصة موسى مع فرعون، قد جاء في عدة معارض في القران الكريم. وها نحن أولاء نعرضها حسب ترتيب نزولها، كما وقع لنا، وكما هو الرأى الراجح في القول بترتيب هذا النزول.. أولا: فى سورة طه بعد أن يدخل موسى وهرون على فرعون، ليبلغاه رسالة ربهما إليه.. يبدأ الموقف هكذا: «إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى. «قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى. «قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى. «قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 112 «قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى. «وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى. «قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً. «قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى. «فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى. «قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى. «فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى. «قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى.. «قالُوا يا مُوسى.. إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى. «قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى. «فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى. «قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 113 «فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً. «قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى. «قالَ: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؟ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى. «قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى» : (الآيات: 48- 71) . ثانيا- سورة الشعراء [الآيات: 16- 15] فى هذا الموقف، ينتقل المشهد الذي كان عليه موسى بين يدى ربه، إلى فرعون، دون فاصل ما.. وإذا موسى وهرون وجها لوجه، يسمعان من فرعون، ولا يذكر الموقف أنهما قالا له شيئا.. «فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ. «قالَ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ؟ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ! «قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ..! «فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ.. «وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ! «قالَ فِرْعَوْنُ: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ؟ «قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ. «قالَ: لِمَنْ حَوْلَهُ: أَلا تَسْتَمِعُونَ؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 114 «قالَ: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ. «قالَ: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ. «قالَ: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ. «قالَ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ. «قالَ: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ؟ «قالَ: فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.. «فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ. «قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ، فَماذا تَأْمُرُونَ؟ «قالُوا: أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ. «فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ. «فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ؟ «قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. «قالَ لَهُمْ مُوسى: أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ! «فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ.. «فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ. «فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. «فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ. «قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 115 «قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ. «فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ.. «قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ» . ثالثا: سورة الأعراف [الآيات: 103- 126] وجاء الموقف في سورة الأعراف هكذا: «ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ «وَقالَ مُوسى: يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ. «قالَ: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. «فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ. «قالَ: الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ.؟ «قالُوا: أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ. «وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ. «قالَ: نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 116 «قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ؟ «قالَ: أَلْقُوا. «فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ. «وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ. «فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. «فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ. «قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ. «قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؟ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ. «قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ. رابعا: سورة الإسراء [الآيتان: 101- 102] ويعرض الموقف في سورة الإسراء عرضا موجزا.. هكذا.. «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً. «قالَ: لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً» خامسا: سورة يونس [الآيات: 75- 82] ويجىء الموقف في سورة يونس، بين الإجمال والتفصيل، هكذا: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 117 «ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ.. «فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ. «قالَ مُوسى: أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ؟ أَسِحْرٌ هذا؟ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ.. «قالُوا: أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ. «وَقالَ فِرْعَوْنُ: ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ. «فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ. «فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ» . سادسا: سورة النازعات [الآيات 17- 25] وفي سورة النازعات يجىء الموقف في عرض قصير، سريع.. هكذا: «اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى. فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى فَكَذَّبَ وَعَصى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى» . سابعا: سورة الذاريات وفي الذّاريات، تعرض القصة كلها في لمحة خاطفة.. هكذا.. «وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ» (38- 39) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 118 هذه معارض سبعة، قد عرض فيها هذا الموقف الذي كان بين موسى وفرعون، عرضا مبسوطا اتسع لأهم الأحداث التي جرت فيه، والتقط أدقّ الخلجات النفسية التي تحركت في صدور الناس الذين كان لهم مكان في هذا الحدث.. مباشرا أو غير مباشر.. فهذه المعارض السبعة إذا ضمّ بعضها إلى بعض، قامت منها صورة واحدة، هى صورة مكبرة، لكل واحدة من هذه الصور على حدة.. فإنك إذ تنظر في الصورة التي تجمع هذه الصور كلها، ثم تنظر في أيّ من الصور الصغيرة، تجد الملامح هي الملامح، والصورة هي الصورة، وإن حملت الصورة الكبيرة ألوانا أكثر، وشغلت مساحة أوسع. ومن صنيع الإعجاز القرآنى في هذا، أنه مع تفرّق هذه الصور، وبعد ما بينها من مسافات، فى عرض القرآن الكريم لها- أنه يمكن أن تضمّ هذه الصور بعضها إلى بعض، على أي ترتيب تقع فيه، وعلى أي وضع تأخذه كل واحدة منها بين أخواتها، ثم يقرؤها القارئ أو يرتلها المرتل وكأنها صورة واحدة، دون أن يشعر أنه يعيد ما قرأ، أو يكرّر ما رتل! وهذه هي الصور السبع كما عرضناها من قبل، دون التفات إلى ترتيب خاص لها- وإن لك أن تقرأها قراءة أو ترتلها ترتيلا، ثم انظر فيما تجد لما تقرأ، من هذا التلاحم والتوافق الذي بينها، وستجد- كلما أعدت القراءة أو الترتيل- أكثر من هذا الذي حدثتك عنه من توافق وتلاحم بين هذه المعارض.. على أننى أودّ أن أصنع صنيعا آخر مع هذه الآيات جميعا، حتى يتضح لنا- بصورة أكثر وضوحا- خلوّ القصص القرآنى من التكرار، بالمعنى الذي فهم عليه، والذي كان في نظر الأغبياء والأدعياء تهمة يرمى بها القرآن فى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 119 أعزّ ما يعتز به من فصاحة وبيان. وننظر في الواقعة ذاتها، فنجد أنها تشتمل على عناصر أربعة: 1- موسى ومعه أخوه هرون، وما عرضا على فرعون من مقولات وآيات. 2- فرعون، والملأ الذين معه من قومه وسحرته، وما استقبلوا به موسى من مقولات وتحدّيات. 3- ما كان من موسى والسحرة، وما انتهى إليه أمرهم، من عجز، وتسليم، وإيمان.. 4- ما كان من فرعون حين خذله سحرته، وخرجوا عن طاعته وأمره.. وما توعدهم به من عذاب ونكال، وما كان منهم من استخفاف بهذا الوعيد وعدم التفات إليه. والذي سنصنعه هنا، هو أن نجمع لكل عنصر من هذه العناصر ما كان له من ذكر في هذه السور الست التي عرض فيها القرآن هذه المواقف.. فأولا: موسى وهرون في مواجهة فرعون.. «إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى» .. (48) (من سورة طه) «إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ» .. (16- 17) (من سورة الشعراء) «يا فِرْعَوْنُ.. إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ» .. (105 من سورة الأعراف) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 120 «هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى. وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى» .. (18- 19) (من سورة النازعات) واقرأ هذه المقولات الأربع، واحدة بعد أخرى، اقرأها على أي ترتيب شئت.. فهل تجد فيها تكرارا؟ وهل يمكن أن تستغنى عن واحدة منها، ثم لا يفوتك شىء مما يتطلبه الموقف، وما حملت تلك الصورة من رؤية جديدة له، ومن مشاعر وخلجات تلبست به؟ والذي أود الإشارة إليه، هو أن هذه المقولات الأربع ليست قولا واحدا جاء به القرآن الكريم في معارض مختلفة من القول، وإنما هي أقوال أربعة فعلا، كل قول منها مستقل بنفسه، قائم بذاته، وإن كان مكملا لغيره.. شارحا له، أو مؤكدا.. 1- فهذا موسى ومعه أخوه هرون، يدخلان على فرعون، ويتحدثان إليه بصوت واحد معا.. إذ كان ذلك هو شعور موسى من لقاء فرعون، قبل أن يلقاه، فقد طلب إلى الله أن يشدّ أزره بأخيه هرون، فهو أفصح منه لسانا.. ويدخل موسى وهرون على فرعون.. فينظر إليهما نظرة من يقول: ماذا تريدان؟ .. فيقولان معا وبصوت واحد: «إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى» .. (48) (سورة طه) 2- ثم ها هما وقد أخذت تزايلهما رهبة الموقف ودهشة اللقاء فيلقيان فرعون لقاء مباشرا، ويلقيان إليه بهذا الأمر العظيم، فيقولان معا: «إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ!!» (16- 17) (سورة الشعراء) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 121 ونستشعر من هذا أن «موسى» لا يزال يجد الرهبة والخوف من فرعون، وأنه لم تزايله رهبة الموقف بعد، ولا يزال في حاجة إلى هرون يسنده، ويشدّ أزره، ويثبت جنانه. 3- ثم ها هو ذا «موسى» بعد أن تمرّس بالموقف، وارتاد الطريق، واختبر المواجهة، واحتمل الصدمات الأولى لها- ها هو ذا يلقى فرعون وحده، ويسمعه بلسانه مضمون رسالته، فى قوة وصراحة، وتحدّ: «يا فِرْعَوْنُ.. «إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ.. «حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ.. «قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ.. «فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ.. (104- 105) (الإسراء) فيا للاعجاز الذي تذلّ لجلاله جباه الجبابرة، وتخضع له أعناق المكابرين، وتعنو له وجوه السفهاء المتطاولين.. «يا فرعون» ! هكذا يقولها موسى في وجه فرعون.. يناديه باسمه، متحدّيا، وينتزعه من سلطانه وجبروته انتزاعا.. فى غير تلطف أو رفق، أو مبالاة. إنّها فعلة من يقدم على أمر محفوف بالمخاطر، بعد خوف، وتردد، حتى إذا لم يجد من المواجهة بدا ألقى بنفسه إليه، مخاطرا، يتوقع ما يطلع عليه وراء فعلته تلك من أهوال. وما كان لموسى أن يقول هذه القولة: «يا فرعون» ولا أن يقول بعدها: «إنى» بهذا الضمير المحقّق لشخصيته، المؤكد لذاته: «إنّى» لا أحد غيرى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 122 «رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» .. ولحرف الجر «من» هنا ماله من الإشعار بهذا الاعتزاز بتلك الشخصية، والرسالة التي تحملها، والجهة التي جاءت منها.. ففيها ما ليس في قوله تعالى: «إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ» من الشّحنة القوية، المليئة بالاعتزاز بهذا السلطان، الذي يستند إليه، وهو سلطان رب العالمين. ما كان لموسى أن يقول هذا، ثم يمضى فيقول: «حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ» .. وهذا اعتزاز بعد اعتزاز لشخصه الذي يحمل رسالة السماء.. ما كان لموسى أن يقول هذا، لولا أن دخل على فرعون هذا المدخل الذي اختبر به الأرض التي تحت قدميه. ومن هذا الأفق العالي، يتنزل أمر موسى هادرا مدويّا في وجه فرعون: «فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ» . ولك أن تضع هذا الأمر الصّادع، إلى جانب هذا الرجاء الذي أسمعاه- موسى وهرون- لفرعون من قبل، فى قولهما: «أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ» وسيتضح لك بعد ما بين الأمرين. ويستشعر موسى أنّه وقع بين فكى الأسد وبراثنه.. وأن فرعون لن يدعه ينجو من العقاب الأليم، على هذه الجرأة التي اقتحم بها هذا الحمى الذي لا يقتحم. 4- وهنا لا يجد موسى بدّا من أن يصحح موقفه، وأن يلقى فرعون مترفقا متلطفا، كما أمره الله سبحانه بقوله: «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى» .. وهنا يلقاه موسى بهذا الأسلوب اللّين الرقيق، لعله يكسر بهذا حدّة الموقف، الذي وصل إلى هذا الحدّ من الخطر.. فيقول له: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 123 «هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى؟ وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى» ؟ (17- 18) [سورة النازعات] وإلى هنا لم نجد حديثا عن فرعون.. ولكنا نقرأ في وجهه، ومن حركاته أكثر من حديث.. ثانيا: فرعون وقومه وسحرته وماذا يكون من فرعون بعد أن سمع ما سمع مما لم يعهد سماعه من أحد من قبل؟ ننظر فنرى: أن فرعون- فى هذا الموقف- يواجه موسى وتحدياته، فيلقاه دهشا عجبا، لهذا التطاول عليه، والخروج على المألوف في حضرته. ثم هو- قبل هذا كله، وبعد هذا كله- هو فرعون! يبسط سلطانه على أهل المجلس.. يلقى نظرة هنا، ونظرة هنا، ويرمى بكلمة هنا وكلمة هنا.. إنه المحور الذي تدور به ومن حوله الأحداث. وطبيعيّ ألا يأخذ الحديث اتجاها واحدا، فى هذا الموقف، لتعدّد الأطراف المشتركة فيه.. فرعون، وموسى، وحاشية فرعون، وشهود هذه المساجلة من الملأ.. ونودّ أن نشير هنا إلى أن هذه الصور التي عرضها القرآن لهذا الموقف، ليست للقاء واحد بين موسى وفرعون.. وإنما هى «لقطات» مركزة مجمّعة لأكثر من لقاء.. إذ أنه من غير الطبيعي أن ينحسم الأمر بين موسى وفرعون في لقاء واحد.. ولكن المقدّر في هذه الحالة أن يتكرر لقاء موسى وفرعون، ويتكرر الأخذ والعطاء بينهما، إلى أن بيئس كل منهما من الوصول إلى وفاق مع خصمه، فلا يكون بعد هذا إلا التحدّى والصراع. ومع هذا فإن اقتدار القرآن وإعجازه، فى تصوير مشاهد هذا الموقف فى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 124 أزمنة مختلفة، وأحوال مختلفة أيضا، قد جعل منها مشهدا واحدا، يمسك بتلك المشاعر التي كان يعيش بها أصحابها في هذا الموقف، دون أن يحدث الانفصال الزمانيّ أو المكانيّ فيها خلخلة، أو ازدواجا. ومع هذا- أيضا- فإننا سنعرض هذه المشاهد، على أنها صورة واحدة، فى موقف واحد، وسنرى أنها تقبل مثل هذا العرض، وتتلاقى فيه وجوهها، دون أن تتصادم، أو تتدافع! ولقد رأينا في المشهد السابق، أن فرعون، قد أخذ بالمباغتة، التي طلع بها موسى وهرون عليه، وأنه حين أسمعاه هذا القول، الذي قالاه له في قوّة وجرأة- وجم، ولم ينطق. ثم صحا من هذا الذهول، وتنبه لحقيقة الموقف، فاتّجه إلى موسى بهذه الأسئلة الهازئة الساخرة: «أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ. وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ» (الشعراء) (18- 19) . وقد قدّر فرعون أن هذه الكلمات ستصيب موسى في الصميم منه، وأنها ستخفض رأسه في حضرته.. إذ أنه سيذكر من هذه الكلمات، طفولته وضياعه ووقوعه ليد فرعون.. ثم إنه ستطلع عليه من هذا الكلام صورة مخيفة لفعلته التي فعلها، وهي قتل المصري، وأن فرعون إذا لم يأخذه بجرأته عليه، أخذه بهذا المصريّ الذي قتله. ولا يقف موسى عند ما ذكره له فرعون، من تربيته له، وضمه إليه، بل يجعل همّه كلّه دفع هذا الخطر الذي يتهدّده من حادثة القتل.. فيقول مجيبا فرعون:! الجزء: 10 ¦ الصفحة: 125 «فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ. فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ. وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ؟» (الشعراء) . وهنا يلقاه فرعون سائلا: «فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى؟» . وانظر إلى كيد فرعون في هذا السؤال الماكر.. إنه يطلب الجواب من موسى، وهو يعلم ما في لسانه من حبسة، وذلك أمام الجمع.. ويجيب موسى.. وقد أطلق الله سبحانه حبسة لسانه: «رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» .. (20) [طه] ويعاجله فرعون بسؤال آخر: «فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى؟» ... (21) [طه] ويردّ موسى هذا الردّ المفحم: «عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى. كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى. مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى» .. [طه] وانظر كيف عدل موسى عن الجواب على سؤال فرعون، والدخول معه فى هذا المجال، الذي يكثر فيه اللجاج، ولا يستطيع أحد الخصمين- فى موقف العناد والجدل- أن ينال موقفا حاسما.. «فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى» ؟ إنه طوفان يغرق فيه من يتصدى للجواب عليه، إلا إذا كان مع من يطلب الهدى، ويسأل ليعلم، لا ليفحم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 126 وانظر كيف خلص موسى من هذا الموقف الذي كان يدفعه فرعون إليه دفعا- إلى هذا العرض المحسوس الذي لا ينكر، لقدرة الله، وما لهذه القدرة من آثار تملأ وجوه الحياة! ويضيق فرعون بهذا التدبير الذي أفلت به موسى من المصيدة.. فيجىء إلى موسى من طريق آخر.. فيسأله: «وَما رَبُّ الْعالَمِينَ» ؟ (23) [الشعراء] . ويكون جواب موسى حاضرا: «رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ» [الشعراء] ويتلفت فرعون حوله عجبا، ودهشا، مستنكرا.. يقول لأهل مجلسه «أَلا تَسْتَمِعُونَ» ؟ ... [الشعراء] وإلى هذه الجبهة الجديدة التي فتحها فرعون يتجه موسى قائلا: «رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» .... [الشعراء] وتثير هذه الجرأة حنق فرعون.. إذ كيف يجرؤ موسى على تخطى فرعون ومخاطبة غيره في حضرته.. أهناك من يكون له وجود مع وجود فرعون؟ ثم إن فرعون يخشى- من جهة أخرى- أن يكون لقول موسى أثر في الملأ الذين حوله.. فيقول لهم: «إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ» ! ... [الشعراء] ويردّ موسى قول فرعون هذا، ويؤكد لمستمعيه ما قال من قبل، فيقول: «رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ» [الشعراء] وفي قولة موسى هذه تحريض لهؤلاء الأتباع من قوم فرعون، أن يستقلّوا بوجودهم، وأن يحتفظوا بعقولهم، وأن يفكروا لأنفسهم، وألا يدعوا أحدا يفكّر لهم، ولو كان فرعون.. «إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ» ! الجزء: 10 ¦ الصفحة: 127 ويجنّ جنون فرعون لما يريد موسى أن يبلغه من القوم- قوم فرعون- من إغرائهم على الخروج عن طاعته، والخلاف عليه، فيلقاه بهذا الوعيد.. «لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ» [الشعراء] ويلقى موسى هذا الوعيد بقوله: «أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ؟» ... [الشعراء] ويجيبه فرعون: «فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.» .... [الشعراء] ويتوقف موسى قليلا يستجمع قواه، ويهيىء نفسه لهذا الامتحان الذي يلقى فيه بكل ما معه من أسلحة، وهو على حذر وإشفاق من أن تخونه عصاه، أو لا تستجيب له يده.. ويرى فرعون هذه الحال من موسى، ويخيّل إليه أن موسى لا يملك شيئا بين يديه، فيجدها فرصة للطعنة القاضية، يطعن بها موسى.. فيقول له: «إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» (106) [الأعراف] وعندها يكون موسى قد استجمع نفسه، واستردّ عزمه الذي ذهب به الموقف.. ولا يتكلم موسى.. بل يدع للآيات التي معه أن تتكلم عنه، وتنطق ببيان أفصح من كل بيان.. «فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ» (107- 108 الأعراف) (32- 33 الشعراء) هكذا يحىء المشهد في كلّ من سورتى الأعراف والشعراء، على نسق واحد في النظم، لم يقع فيه أي خلاف بحرف أو كلمة، أو تقديم أو تأخير.. وهذا أمر يلفت النظر، ويدعو إلى التأمل والبحث.. حيث لا يلتزم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 128 القرآن الاحتفاظ بصورة النظم إلا عن قصد، ولغاية مرادة، لا تتحقق إلا بهذا الالتزام، بحيث لو اختلفت صورة النظم قليلا أو كثيرا، لفات الغرض، ولم تتحقق الغاية.. فإن من مألوف النظم القرآنى، أن ينوّع الأساليب، ويغاير بينها، إذا لم يكن في هذا التنويع، وتلك المغايرة، ما يجور على المعنى، أو ينتقص شيئا منه.. أي شىء.. وإلا فإن القرآن يكرر اللفظ ويعيده كما هو ولو عشرات المرات، كما في قوله تعالى: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» من سورة «الرحمن» التي تكررت فيها هذه الآية بنظمها هذا، إحدى وثلاثين مرة. والسؤال هنا: ما سرّ التزام القرآن لهذا النظم، الذي جاء على هذه الصورة، فى كل من سورتى الأعراف والشعراء؟ والجواب- والله أعلم- أن المشهد الذي وقع من كل من العصا واليد، ظلّ على حالة واحدة ثابتة، لم يطرأ عليها تغيير من أول ما وقعت إلى أن رفعت. فالعصا.. ألقى بها موسى من يده.. فإذا هي في الحال ثعبان مبين، مرة واحدة. لم تتحول من حال إلى حال، ولم تتغيّر من صورة إلى صورة. كأن تبدأ صغيرة- كما هو المتوقع عادة في كل عمل إنسانى- ثم تظهر آثار التفاعل فيها، فتكبر شيئا فشيئا حتى تبلغ غايتها.. واليد.. أخرجها موسى من جيبه، فإذا هي كوكب دريّ متألّق.. مرة واحدة.. هكذا!! وهكذا شأن آيات الله ومعجزاته، التي يضعها بين يدى رسله.. تولد كاملة، وتظلّ محتفظة بهذا الكمال، دون أن يدخل عليها أي تغيير، حتى تزايل الموقف، فى الزمن المقدور لها أن تزايله.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 129 فثبات المعجزتين- العصا واليد- على هذا الوجه الذي ثبتتا عليه، اقتضى أن يكون النظم المصوّر لهما، والضابط لوقوعهما، ثابتا لا يتغيرّ، قليلا أو كثيرا.. وهذا وجه من وجوه إعجاز القرآن، كما أنه وجه آخر من وجوه صدقه، فى نقل الأحداث وضبطها.. وتكرار النظم لهذه الصورة وعرضها في معرضين على هيئة واحدة، هو الذي يكشف عن هذا المعنى الذي نلحظه في هذا الإعجاز الذي حملته المعجزتين، وبانتا به عن كل ما هو في مستطاع البشر أن يبلغه في مجالهما.. وإذ يرى فرعون والملأ حوله هذا الذي كان من عصا موسى ويده، تدور به الأرض، وتعتريه رعشة الخوف، ممزوجة بالغضب والحنق والنقمة، ثم لا يجد بدا من أن يقول قولا يمسك به وجوده، ووجود الملأ من حوله، وإلا استولى موسى على هذا الموقف، وأصبح السيد المتصرف فيه.. «قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ.. «إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ..فَماذا تَأْمُرُونَ» ؟ (34- 35 الشعراء) وتعمل هذه القولة عملها في قوم فرعون، ويصحو القوم من هذا الذهول الذي استولى عليهم، ولكنها صحوة أشبه بصحوة المخمور، يطلع عليه ما يزعجه، فيمسك بأى شىء، ويلقى بنفسه إلى أي شىء! والقوم لا يجدون شيئا يمسكون به إلا كلمة فرعون تلك، التي ألقى بها إليهم، إنه.. يسألهم فيجيبون بما سألهم.. إذ لا يملكون- فى تلك الحال المستولية عليهم- عقلا يفكر، أو رأيا يسعف.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 130 وقال الملأ من قوم فرعون: «إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ؟» . (109- 110: الأعراف) نفس الكلمات التي نطق بها فرعون.. يلتقطها القوم، ويجعلونها جوابا على ما سأل.. وهكذا يكشف القرآن الكريم عن المعجزة وأثرها في القوم، واستيلائها على وجودهم كلّه، بما لم ينكشف حتى لمن شهد الواقعة عيانا، أو وقع تحت تأثيرها مباشرة. ويمسك فرعون مرة أخرى بخيوط واهية من الموقف الذي كاد يفلت منه، وقد شاع في قومه هذا الشعور بأن موسى ساحر عليم، فيجسّد لهم هذه المشاعر في تلك الكلمات المتحدّية المهدّدة.. يواجه بها موسى! «قال: «أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى؟ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً» (57- 58) (طه) ويفزع القوم لما يسمعون من فرعون، وأن موسى يريد أن يخرجهم وفرعون معهم- من أرضهم، بقوة هذا السحر الذي بين يديه، ويتمثل لهم من هذا أنهم في وجه خطر داهم.. إن هم لم يعاجلوه بالعزم والحسم، عاجلهم بالبلاء والتشريد من ديارهم، والخروج عما هم فيه من دولة وسلطان في ظلّ من دولة فرعون وسلطانه.. إن الأمر جدّ ليس بالهزل، وإن فرعون يرى أنها معركة، وها هو ذا يحدد زمانها ومكانها. وهنا يصحو القوم صحوة أشبه بصحوة المحتضر.. وإذا هم صوت واحد يهدّد ويتوعد، وإذا القرآن الكريم يمسك بالصميم من هذا الصوت، ويجمع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 131 ما تفرق منه على كل لسان، وإذا هو ما حكاه الله عنهم في قوله تعالى: «قالوا: «أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ» [يونس] ونلاحظ أن القوم قد أفاقوا شيئا من هذه الضربة، التي فاجأهم بها موسى، فكان لهم قول، لم يأخذوه من لسان فرعون. وانظر في هذا الإعجاز الذي تتقطع دونه الأعناق. لقد وزع القرآن هذا المشهد في أربع سور.. فجعل قولة فرعون عن موسى وسحره، فى سورة «الشعراء» .. ثم أعاد هذه القولة نفسها على لسان الملأ من قومه في سورة «الأعراف» .. ثم جعل مواجهة فرعون لموسى مهددا متوعدا في سورة «طه» .. ثم جعل ما ردّده القوم من تهديد فرعون ووعيده، فى سورة «يونس» .. وذلك حتى لا تتراكم الصّور وتتراكب، وحتى لا يقع التكرار على أية صورة.. لفظية، أو معنوية.. ثم انظر مرة أخرى، فى هذه المقولة: «فَماذا تَأْمُرُونَ» ؟. لقد جاءت على لسان «فرعون» يسأل بها «الملأ» حوله في سورة الشعراء، كما جاءت على لسان «الملأ» يسألون بها «فرعون» فى سورة الأعراف. إنها الكلمة التي كانت تدور على كل لسان في هذا الموقف.. لا يملك أحد غيرها.. يقولها لنفسه، ويقولها لكل من يلقاه: «ما العمل» ؟ ثم يجىء الجواب ممسكا بالاتجاه الغالب الذي يكاد يستقرّ عليه الرأى، وتجتمع عليه الأكثرية: «قالوا: «أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ» [36- 37: الشعراء] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 132 «قالوا: «أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ» [111- 112 الأعراف] وقال فرعون: «ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ» [79 يونس] وإذا كان الرأى قد غلب في إرجاء موسى وأخيه حتى يعدّ فرعون العدّة للقائه، فإن الرأى يكاد يتوازن بين دعوة كل ساحر له أيّ إلمام وعلم بالسّحر، وبين دعوة كل من مهر في السحر.. فقال فريق بدعوة كل ساحر، وقال فريق آخر بدعوة كل سحّار.. ثم يجىء أمر فرعون وحكمه قاضيا بدعوة كلّ ساحر، أي كل قادر على حمل السلاح في هذه المعركة الفاصلة: «ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ» ! هذان مشهدان من المشاهد الأربعة التي ضمّ عليها هذا المقطع الذي قتطعناه من قصة موسى، وهو لقاؤه مع فرعون، ودعوته إلى الله، وإلى أن يرفع يده عن بني إسرائيل، ويرسلهم معه إلى حيث يخرج بهم إلى وجه آخر من الأرض غير أرض مصر.. وقد رأينا في هذين المشهدين، كيف تجتمع الصور فيهما، وكيف تتفرق، وهي في اجتماعها وافتراقها على سواء، فى عرض المشهد، وفي دقة تصويره، والإمساك بكل خاطرة وقعت فيه.. ولا أريد أن أمضى معك في عرض المشهدين الآخرين، حتى لا يطول بنا الوقوف هنا، ونبعد عن الغاية التي نحن على طريقها، مع تفسير كتاب الله.. فاصنع أنت صنيعك مع هذين المشهدين، على نحو ما رأيت في صنيعنا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 133 بالمشهدين السابقين، أو على أي نحو تراه أنت.. وستجد بين يديك ألوانا مشرقة من الإعجاز القرآنى، تطالع وجوهها، فى كل وجه تلقاها عليه.. فإن أنت آثرت ألا تكلف نفسك هذا الجهد، ورأيت أن تقطف الثمر من قريب، فإنك ستجد ذلك بين يديك في كتابنا: «القصص القرآنى «1» » .. والله يقول الحق، وهو يهدى السبيل. الآيات: (69- 89) [سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 89] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)   (1) صفحة 275 وما بعدها. [ ..... ] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 134 التفسير: مناسبة ذكر قصة إبراهيم، بعد قصة موسى، هى أنه في قصة موسى، قد رأى فيها المشركون أسوأ وجه لهم في فرعون، وما ركبه من عناد واستكبار واستبداد.. كما رأوا المصير الذي صار إليه هو ومن اتبعه.. وفي قصة إبراهيم يرى المشركون الجانب الآخر من هذا الوجه السيّء الذي يعيشون به في الناس.. فهم إذا كانوا قد رأوا في قوم فرعون عتوّهم واستكبارهم، فإنهم يرون في قوم إبراهيم جهلهم، وصغار عقولهم، وسفاهة أحلامهم، وضآلة قدرهم فى الناس.. إذ ينقادون لأحجار صمّاء، ويعقّرون جباههم بين يدى ودمى خرساء..! وفى قوله تعالى: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ» - يعود الضمير فى «عليهم» إلى المشركين من أهل مكة.. والنبأ: الخبر عن غائب.. وفي إضافة النبأ إلى إبراهيم، دون إشراك قومه معه، مع أن القصة حديث عنه وعنهم- إشارة إلى أن المنظور إليه هو «إبراهيم» ، وأنه هو الذي يجب أن يكون موضع القدوة والأسوة، للمؤمنين، ولأصحاب الرسالات الطيبة الداعية إلى الخير.. وعلى رأس أصحاب هذه الرسالات النبي محمد- صلوات الله وسلامه عليه- حيث يجتمع في قومه، كبر فرعون واستعلاؤه، وصغار قوم إبراهيم، وحماقتهم.. قوله تعالى: «إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ؟ قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ» إن سؤال إبراهيم، هو من تجاهل العارف، الذي يسأل عن الشيء، وهو يعرف الجواب عنه.. ولكنه يريد بهذا السؤال أن يأخذ الجواب عن هذا الجرم، من فم المجرمين أنفسهم، ليكون ذلك موضعا للمساءلة والمحاسبة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 135 على ما نطقت به ألسنتهم.. ولهذا كان تعقيب إبراهيم على هذا الجواب، بأن سألهم قائلا: «قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ؟ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ» ؟ وفي قولهم: «نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ» تحدّ وقاح لإبراهيم، وإصرار على عبادة هذه المعبودات التي ينكرها إبراهيم.. فهو الذي يقول عنها إنها أصنام، وهو الذي يقول عنها إنما تماثيل، كما يقول: «ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ» (52: الأنبياء) .. ونعم إنهم يعبدون الأصنام والتماثيل.. فما شأن إبراهيم؟ وماذا يريد؟ هكذا يردّون في تحدّ وسفه. ويضع إبراهيم القوم أمام واقع يفضح ضلالهم، ويكشف صغار عقولهم، وسفاهة أحلامهم.. إن هذه الأصنام التي يظلّون عاكفين عليها، جاثمين بين يديها- لا تسمع ما يقولون.. وإذن فلا يمكن أن تستجيب لما يدعونها إليه، من جلب خير، أو دفع ضر.. هذا ما تمثّل لهم في هذا الموقف، وهذا ما انكشف لهم من أصنامهم، حتى لكأنّهم يرون هذا منها لأول مرّة! ولا يجد القوم مخرجا من هذا الطريق المسدود، إلّا أن يحيلوا الأمر إلى غيرهم، ويعلقوا الجواب المطلوب على هذه الأسئلة برقاب آبائهم وأجدادهم! «قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ!» .. وإذن فنحن نفعل ما كان يفعل آباؤنا من قبل.. وما يفعله آباؤنا هو حجة علينا إن لم نفعله، ثم هو حجة لنا في وجه من ينتقص من فعلنا هذا!. ويحيّل إليهم بهذا المنطق الصبيانى أنهم أفحموا الخصم، وأسقطوا حجته عليهم! وإذا إبراهيم يواجهم بهذا التحدي لهم، ولما يعبدون هم وآباؤهم. «قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 136 العدوّ: يطلق على الواحد والجمع.. والضمير فى «إنهم» يعود إلى «ما» فى قوله تعالى: «ما كُنْتُمْ» أي الذي كنتم تعبدون، وهو الأصنام.. فالعدوّ لإبراهيم، هو تلك المعبودات من الأصنام.. وعداوة إبراهيم لهذه الأصنام، ليست عداوة ذاتية لهذه المعبودات، من حيث هي نصب قائمة، وإنما لأنها مضلّة لهؤلاء الضّالين.. أما هي في ذاتها، فلا تعادى، لأنها لا تعقل، ولم يكن منها فعل تعادى من أجله. - وفي قوله تعالى: «إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ» هو استثناء من العداوة التي أوقعها إبراهيم على ما كانوا يعبدون هم وآباؤهم الأقدمون من معبودات.. ولما كان من بين هذه المعبودات التي كان يعبدها القوم في مرحلة من مراحل حياتهم، الله سبحانه وتعالى، فقد استثنى إبراهيم هذا المعبود الحقّ، من تلك العداوة التي تقوم بينه وبين معبودات القوم.. وفي هذا ما يكشف للقوم على أن من بين ما كانوا يعبدون هم وآباؤهم، معبودا واحدا، هو الذي ينبغى أن يعبد، وهو الله ربّ العالمين، وأن ما سواه من معبودات هو باطل وضلال، وهو ما لا يمكن أن تقوم بينه وبين إبراهيم صلة، إلا أن تكون صلة عداوة وقطيعة!. - وفي قول إبراهيم: «فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي» دون أن يقول: «فإنى عدوّ لهم» حيث جعل العداوة منهم هم إليه، ولم يجعلها منه هو إليهم، كما يقضى بذلك ظاهر الأمر- فى هذا إشارة إلى أمور منها: أولا: أنه لما كان الله سبحانه وتعالى في هذه المعبودات التي ذكرها إبراهيم، فقد حسن أن يجعل إبراهيم العداوة صادرة من تلك المعبودات، إلى من تعاديه.. لأن المعبود، لا العابد، هو الذي يقام لعداوته، أو رضاه، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 137 وزن، ويكون لعداوته أو رضاه أثر.. أما العابد، فلا وزن، ولا أثر لعداوته أو رضاه، فى من يعبده.. هكذا يجب أن يكون الحساب والتقدير.. وثانيا: أنه لما كان الوجه البارز من هذه المعبودات هو هذه الأصنام الصمّاء الخرساء- فقد حسن أيضا ألا يكون من عاقل أن يعاديها، لأنها لم يكن لها أن تفعل شيئا تعادى أو تحبّ من أجله.. وأنه إذا كان فيها من يفعل، وهو الله سبحانه وتعالى، فإن عداوته لمن يعادى أو رضاه عمن يرضى عنه، هو من أمره وحده، إذ المعتبر هنا، هو عداوته لمن يعادى، أو رضاه عمن يرضى، لا عداوة من يعاديه، ورضا من يرضى عنه!. ثم إنه بعد أن استصفى إبراهيم من بين تلك المعبودات، المعبود الحقّ، الذي يعبده، والذي ينبغى أن يعبده العابدون.. أخذ يعرض صفات هذا المعبود، وما بين يديه من سلطان مطلق، يحكم به في عباده.. فقال: «الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ» . هذا هو الإله الحق، مالك الملك، ومن بيده النفع والضرّ.. ويلاحظ هنا أن إبراهيم قد ذكر من صفات الله- سبحانه- ما يتناسب وربوبية الربّ لعباده.. فهو الذي يربّى عباده، ويحوطهم بنعمه وآلائه.. فيهدى الضالّين، ويطعم الجائعين، ويلقى خطايا المخطئين من عباده بالعفو والغفران، يوم الحساب والجزء.. ويروى الظّماء، ويشفى المرضى، ويحيى الموتى.. وفي هذا ما يكشف للقوم عن نعم الله وإحسانه إلى عباده.. وفي هذا ما يغريهم باللّياذ به، واللّجأ إليه، حتى لا يحرموا هذا الخير الكثير الذي في يديه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 138 وإذ يفتح لإبراهيم هذا الباب الواسع من رحمة الله وإحسانه، فإنه يبادر بالدخول إلى هذا الجناب الرحيم، ليأخذ حظّه من الخير الممدود هناك.. فيمدّ يده طالبا الفضل والإحسان، من صاحب الفضل والإحسان. «رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» . وأول ما طلبه إبراهيم من عطاء ربّه في هذه الدنيا، هو أن يهب الله له حكما أي سلطانا من العلم والحكمة، يمسك به حقائق الأشياء، ويقيمها على ميزانه، وبهذا يكون في المقربين الصالحين من عباد الله. ثم كان الطلب الثاني له من ربّه أن يجعل له لسان صدق في الآخرين.. أي يبقى له ذكرا طيبا في الحياة من بعده، وذلك لا يكون إلّا لأهل الخير، والصلاح، من الناس.. ففى هذا الذكر الطيب، طريق من طرق الهداية للناس، حيث ينتصب لهم منه المثل الطيب، والقدوة الصالحة، وهذا ما علّم الله عباده المتقين أن يسألوه إباه، ويدعوه به، كما يقول سبحانه على لسانهم «وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً» (74: الفرقان) .. ثم يجىء الطلب الذي تختم به خاتمة الإنسان في هذه الآية، ويدرك به غاية مسعاه، وهو الفوز برضوان الله وجنات النعيم. «وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ» .. وفي هذا النعيم العظيم، لا ينسى إبراهيم أباه، وما حرم نفسه منه، بضلاله، وشروده عن الله.. فيسأل ربّه أن يغفر لأبيه، حتى يذوق حلاوة هذا الرضوان: «وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ» .. ثم عاد إبراهيم إلى نفسه، وقد خاف أن يحرم هذا النعيم الذي هو أحرص ما يكون على أن ينال حظّه منه: «وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 139 يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» .. أي قلب خالص من الشرك، معافى من الضلال. الآيات: (90- 104) [سورة الشعراء (26) : الآيات 90 الى 104] وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) التفسير: هذه الآيات، هى تعقيب على هذه المشاهد، التي شهد فيها المشركون من قريش، موقف أهل الضلال، كقوم فرعون وقوم إبراهيم، وما يعبدون من دون الله.. وتأبّيهم على الهدى، وخلافهم لمن يدعونهم إلى الله.. وفي هذا التعقيب، تنكشف عواقب الأمور، للمحسنين والمسيئين جميعا، فينزل كلّ منزلته، وينال كل جزاء ما عمل. فأما المؤمنون المتقون، فتزلف لهم الجنّة، أي تدنو منهم، وتفتح أبوابها لهم فيدخلونها، وينعمون بما أعد الله سبحانه وتعالى لهم فيها من نعيم مقيم.. وكأن هذه الجنّة التي أزلفت ودنت للمتقين، كأنما هي جواب على سؤال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 140 إبراهيم، واستجابة لدعوته في قوله: «وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ» .. وكأن الجواب: هذه هي الجنة قد أزلفت لك وللمتقين، فتبوأ منها حيث تشاء.. وأما أهل الشقاء، والضلال، فها هي ذى الجحيم تبرز لهم، أي تطلع عليهم، ويحيط بهم سرادقها.. ثم يقال لهم: أين ما كنتم تعبدون من دون الله؟ أين هم؟ وما حيلتهم لكم في هذا البلاء الذي تساقون إليه؟ «هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ» ؟ وهل يمدّون إليكم يدا تخرجكم مما أنتم فيه؟ «أَوْ يَنْتَصِرُونَ» هم لأنفسهم، إذا وقعوا فيما أنتم فيه من مهالك؟ لقد تقطع بينكم، وضلّ عنكم ما كنتم تزعمون! وإذن فإلى مصيركم المشئوم: «إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ» (7- 8: الطور) . «فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ» . والكبكبة: أصلها الكبّ، وهو إلقاء الشيء على وجهه، والكبكبة: تدهور الشيء وسقوطه في هوّة، حيث يكبّ مرة ومرة ومرات. ثم إذ تجتمع هذه الأخلاط من الضلال بعضها إلى بعض، تتصارع وتتناهش كما تتناهش الحيات، يسوقها سائق عنيف إلى جحر واحد! وفي هذا الجحر الضيق الخائق، يكثر اللدغ والنّهش، ويعلو الصّراخ والعويل! «ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ» (25: العنكبوت) . الآيات: (105- 122) [سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 122] كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 141 التفسير: وعلى نهج القرآن الكريم، فى تنويع المعارض، والانتقال بالناس من مشاهد الحياة الدنيا، إلى مشاهد القيامة، ثم العودة بهم إلى حيث هم في حياتهم الدنيا، وما هم فيه من غفلة، حيث تعرض عليهم الآيات والنذر، ليكون لهم فيها عبرة ومزدجر- على هذا النهج، جاءت قصة نوح وما بعدها من قصص الأنبياء مع أقوامهم، ليرى فيها هؤلاء المشركون من أهل مكة، بعد أن عادوا لتوهّم من مشاهد القيامة، وما يلقى فيها أهل الضلال من عذاب ونكال.. لعلّ في هذا ما يفتح لهم طريقا إلى الهدى والإيمان.. وفي قصة نوح صورة واضحة، تجرى فيها الأحداث على نحو مماثل تماما لما يجرى بين النبيّ وقومه.. يدعوهم إلى الله- وهو أخوهم- فلا تعطفهم عليه عاطفة النسب والقرابة، ولا ينكشف لأبصارهم شعاع من هذا النور الجزء: 10 ¦ الصفحة: 142 المشرق الذي بين يديه، ولا يستجيب له منهم إلّا قليل من حاشية القوم، من عبيد وإماء، وصغار، وإلا بعض من أهل اللّين والتواضع، ممن لا يراهم القوم من أصحاب الجاه والسلطان فيهم! وهؤلاء الذين آمنوا من المستضعفين وأشباه المستضعفين، هم علة أخرى من العلل المريضة التي تدعو القوم إلى خلاف النبيّ، والوقوف في الجانب الآخر المعادى له.. «أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ» ؟ وهذا ضلال في التفكير، وسفاهة في الرأى.. فإن أول المستجيبين لأنبياء الله ورسله، كانوا دائما من عامة الناس، ممن لا يمسكهم الخوف على جاه أو سلطان أن يذهب به الدين الجديد.. وهكذا الشأن في دعوات الإصلاح والتجديد.. إن أكثر الناس حربا عليها، ووقوفا في وجهها، هم أصحاب المصالح من ذوى الرياسات المدنية أو الدينية.. على حين يكون أقرب الناس إليها، وأكثرهم استجابة لها هم من خلت أيديهم من كل سلطان مادّيّ، أو روحيّ! هكذا موقف النبيّ مع قومه، وهكذا كان موقف نوح مع قومه.. ولا يملك نوح إزاء هذا العناد الغاشم، إلا أن يرفع شكاته إلى ربّه، قائلا: «رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ» .. وإلا أن يسأله الحكم بينه وبينهم فى هذا الموقف، الذي بلغ الغاية من التأزم والحرج بينه وبينهم.. فهو إما أن يمسك عن الدعوة إلى الله، وإما أن يرجموه.. ولا ثالث غير هذين.. «فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» .. أي فاحكم بينى وبينهم، فإن الله هو الحكم العدل، الذي يقضى بهلاك الظالمين، ونجاة المؤمنين.. ولهذا طلب نوح النجاة له، ولمن معه من المؤمنين، من هذا البلاء الذي يحمله حكم الله في القوم الكافرين.. وقد نجّى الله نوحا ومن معه، وأغرق الكافرين الضالين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 143 وإن في ذلك لآية، فيها العبرة والموعظة، لهؤلاء المشركين من أهل مكة، ولكن أكثرهم لا يؤمنون بهذه الآيات، ولا يقفون عندها، ليطالعوا وجه العبرة فيها. الآيات: (123- 140) [سورة الشعراء (26) : الآيات 123 الى 140] كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) التفسير: وآية أخرى من آيات الله هي في هذا الصراع الذي كان بين «هود» عليه السلام، وبين قومه. إن قوم «هود» على شاكلة قوم نوح.. سواء بسواء.. فهل يجد فيها المشركون عبرة لهم؟. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 144 «إن هودا» يدعوهم إلى الله، وإلى أن يستقيموا على طريقه المستقيم، وهو فى هذا الذي يدعوهم إليه، لا يريد إلّا الخير لهم، والنجاة لأنفسهم، من عذاب الله.. وليس له أجر على هذا، يقتضيه منهم، وإنما أجره على ربّه، الذي حمّله رسالته تلك.. إنه الطبيب الذي يكشف لهم عللهم وأدواءهم، ويقدّم لهم الدواء الذي إن قبلوه وتعاطوه، كان فيه شفاؤهم وسلامتهم. وإن الداء المتمكن منهم، هو تكالبهم على الدنيا، واستعبادهم لزخارفها، دون أن يكون لهم نظر إلى ما وراء هذه الحياة.. «أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ» .؟ الرّيع: المكان المرتفع، وواحده ربعة. فهذا هو بعض ما يشغلهم في دنياهم.. الافتنان في بناء مجالس ألهو والسّمر، والإبداع في تصويرها ونقشها، وجلب كلّ غريب نفيس إليها.. حتى لتبدو كأنها آية في الحسن والجمال.. ومن شأن الآيات أن تثير العقل، وتغذّى الوجدان، وتعلو بالنفس عن مدارج الأرض إلى معارج السماء! ولكن تلك الآيات، التي يبدعها القوم، هى آيات لاهية عابثة، تعلو بحيوانية الإنسان على آدميته، وتنتصر لجسده على روحه! «وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ» .؟ المصانع: الأمكنة الجيدة الصنع، وهي التي للإنسان فيها تقدير وتدبير، كما يقال: «صُنْعَ اللَّهِ» .. ويقال: رجل صنع، أي حاذق الصنعة جيّدها، وامرأة صناع.. والصنيعة: ما يصنع من خير للغير.. وهذا وجه آخر من الوجوه التي يصرف القوم فيها جهدهم، وهو أنهم يجوّدون في صناعة منازلهم وأمتعتهم، وأدوات ركوبهم.. حتى لكأنهم خالدون في هذه الدنيا، لا يموتون أبدا.. فليتهم إذ أجادوا الصنعة وأحسنوا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 145 العمل فيما هو لدنياهم- أن يجيدوا بعض الإجادة، ويحسنوا بعض الإحسان، لما بعد هذه الحياة الفانية. «وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ» . فقد كان القوم على بسطة خارقة في الجسم، ومع هذه البسطة الخارقة فى الجسم قوة طاغية في الحرب والقتال.. وتلك نعمة أساءوا استعمالها، فاستبدّوا بمن حولهم، وأزعجوا أمّن جيرانهم، بغيا وعدوانا في غير رحمة.. فكانوا أشبه بالوحوش الكاسرة، تقتل كل ما يقع ليدها من حيوان أو إنسان، فى حال جوعها وشبعها على السّواء.. إنها تغذّى طبيعة الافتراس على أية حال.. وشأن القوم مع هذه العظات، شأن كل غويّ ضال، قد استبدّ به ضلاله، فلم ير إلا ما يراه، وهو الأعمى الذي لا يرى إلا ظلاما وأوهاما.. يلقاهم الداعي الكريم بهذا النذير: «إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» فيلقونه بهذا الرد الهازئ الساخر. «سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ» !! إننا لا نسمع لك قولا، ولا نقبل منك رأيا. «إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ» . أي فما هذا الذي تحدث به إلا أكاذيب وأضاليل، تحدّث بها أناس قبلك، وتوعدوا الناس بالعذاب، فلم يقع شىء مما تحدثوا به. «وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» إن كان هناك حقا عذاب. فنحن أقوى الناس قوة، وأعزهم مكانا، وأمنعهم سلطانا- فكيف نعذب؟ إنما يعذب هؤلاء الضعفاء، الذين لا يملكون ما يدفعون به عن أنفسهم الأيدى التي تمتد إليهم بأذى! .. ذلك ظن من غرهم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 146 ما أنعم الله به عليهم من نعم، فاستكبروا، وعتوا، وقالوا ما قال صاحب الجنتين لصاحبه: «ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً» (35- 36: الكهف) الآيات: (141- 159) [سورة الشعراء (26) : الآيات 141 الى 159] كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) التفسير: وتلك آية أخرى.. فى هذا الموقف الذي كان بين نبي الله صالح عليه السلام، وبين قومه «ثمود» ..! «وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» (101: يونس) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 147 «وفي سورة هود» عرض لهذه القصة، فى معرض قصص الأنبياء.. نوح، وهود، وإبراهيم، ولوط، وشعيب، وموسى. والعرض الذي جاء هنا، هو مماثل في مضمونه للعرض الذي جاء في سورة هود، كما هو مماثل للمعارض التي جاءت في مواضع أخرى من القرآن، والتي تختلف بسطا وقبضا- ومع هذا، فإن في كل معرض دلالة جديدة، هى في معرضها روح يسرى في كيان الحدث كله، فإذا انضمت إلى غيرها، امتزجت بالروح الساري هناك، كما ينضم النور إلى النور، فتتسع رقعة الضوء، ولا تتغير صفته، أو كما تجتمع قطرات المطر بعضها إلى بعض، فيكثر كمها، والماء، هو الماء، صفاء، ونقاء، وطهرا. وقد عرضنا لهذا في مبحثنا: «التكرار في القصص القرآنى» وعرضنا نموذجا للتكرار الذي جاء في قصة موسى: ورأينا كيف كان هذا التكرار مجسّما للأحداث، محركا لها، كاشفا عن ظاهرها وباطنها جميعا.. وهذا ما نجده في كل تكرار جاء في القصص القرآنى، أو في غيره من الموضوعات التي عنى القرآن الكريم بإبرازها، فى جميع وجوهها.. وهذا ما سنراه في قصة صالح، إذا نحن جمعنا للواضع التي ورد فيها ذكر من هذه القصة.. هذا، ويلاحظ التشابه القوى بين مواقف الأقوام من رسلهم، على اختلاف أزمانهم وأوطانهم.. إن رسلهم عندهم بموضع تهمة.. فهذا ساحر، أو مسحور، وهذا شاعر أو مجنون، وذك دعى يتلقى من غيره ما يحدّث الناس به.. إلى غير ذلك، مما يرمونهم به، من بذيء القول، وسفيه الحديث.. كما يلاحظ الشبه الكبير بين قوم عاد، وقوم ثمود.. من حيث فراهة الأجسام وقوة البناء. وذلك مما يقوم شاهدا على أنهم كانوا على قرابة قريبة فى النسب والجوار. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 148 ومن مفردات هذه الآيات: قوله تعالى: «وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ» : أي داخل بعضه في بعض، كأنما شدخ، والطلع من النخلة أول ما يبدو من ثمرها، وهو حين تزهر، فيخرج منها الطلع على هيئة كيزان، تتشقق جوانبه، وتتفتق كما يتفتق الزهر عن أكمامه.. وقوله سبحانه: «بُيُوتاً فارِهِينَ» أي حاذقين في صناعتها ونحتها وقوله سبحانه: «مِنَ الْمُسَحَّرِينَ» أي ممن أصابهم السحر، ومسمم أثره.. وقوله جل شأن: «هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ» : أي مورد، تشرب منه في يوم معين لها.. وقوله تعالى: «فَعَقَرُوها» أي ذبحوها.. الآيات: (160- 175) [سورة الشعراء (26) : الآيات 160 الى 175] كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 149 التفسير: ولا تختلف قصة لوط مع قومه، عن قصة كل نبى سبقه، أو جاء بعده مع قومه.. إنه داعية يدعو باسم ربه إلى خير، وإلى هدى، وقومه- إلا قليلا منهم- يتصدون له، ويقفون في وجه دعوته، مهددين، متوعدين، بالهلاك، أو الطرد من الديار.. وإذا كان ثمة اختلاف بين قوم وقوم، فهو في نوع الداء المتمكن منهم، والذي يتسط عليهم، ويحكم تصرفاتهم في الحياة.. فهم- أي الأقوام جميعا يحملون في كيانهم عللا نفسية، وأمراضا روحية، وعقلية، ولكنّ لكل قوم داءهم الغالب عليهم، وعلتهم المتمكنة منهم، إلى جانب العلة الغليظة المشتركة بينهم، وهي الكفر أو الشرك بالله. والداء المتمكن من قوم «لوط» إلى جانب الكفر بالله، هو هذا المنكر الذي كانوا يعيشون فيه، ويأتونه جهرة من غير حياء أو خجل، وكانوا في ذلك أول من حمل هذا الداء، الذي تفشّى في الناس فيما بعد، كما تتفشى الأمراض الجسدية، التي تظهر في الناس زمنا بعد زمن.. وفي هذا يقول الله تعالى على لسان لوط، مخاطبا إيّاهم بهذا القول: «أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ» (80: الأعراف) ومن مفردات هذه الآيات: قوله تعالى: «أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ» أي أتتصلون بالذكور، من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 150 بين العالمين، وبهذا تكونون أول من يذيع هذه الفاحشة في المجتمع الإنسانى! وقوله تعالى: «بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ» .. عادون: جمع عاد، وفعله: عدا يعدو عدوانا، والعدوان: مجاوزة الحد، والخروج عن الطريق القويم. وقوله سبحانه: «قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ» .. القالي: المجانب للشىء الكاره له.. وقوله تعالى: «إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ» .! العجوز: هى امرأة لوط، فقد كانت من المخالفين للوط، فأهلكها الله بما أهلك به القوم.. وفي هذا يقول الله تعالى: «إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ. كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ» (33: العنكبوت) . والغابرون: أي الماضون، الذي هلكوا. وقوله تعالى: «وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً» المطر هنا، هو ما رماهم الله سبحانه وتعالى به من حجارة. أتت على القوم، وعلى ديارهم جميعا.. كما يقول سبحانه «فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ» (82- 83: هود) .. ولهذا وصفه الله سبحانه وتعالى بقوله: «فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ» .. أي أنه مطر يسوء من يحلّ به، ويقع عليه، وليس هو المطر الذي ينزل بالخصب والخير.. ونسبة السوء إلى المطر.. لأنه هكذا كان مطلعه عليهم، وأثره فيهم.. الآيات: (176- 191) [سورة الشعراء (26) : الآيات 176 الى 191] كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 151 التفسير: والداء الذي تمكّن من قوم شعيب، وتسلط على سلوكهم في الحياة، إلى جانب الداء الغليظ، وهو الكفر- هذا الداء، هو التلاعب بالمكاييل والموازين، والتعدّى على حقوق الغير بهذه السرقة الخفية، وخيانة الأمانة في الكيل والوزن.. ومع من هذا العدوان؟ إنه مع بعضهم.. فكل منهم يخون صاحبه.. فهذا يخسر الكيل وينقص الميزان مع غيره إذا كال له، أو وزن.. ثم هو يلقى نفس العمل إذا كيل له أو وزن له.. إنه يسرق، ويسرق.. وتلك حال لا ينتظم بها أمر مجتمع، ولا تقوم عليها صلة مودة، وإخاء، بين الناس والناس.. فكل منهم على اتهام لكل الناس، وعلى عداوة لكل من يتعامل معه.. آخذا أو معطيا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 152 ولا يلقى شعيب من قومه- إذ يدعوهم إلى التي هي أحسن- لا يلقى منهم إلا التهديد والتكذيب، وإلا السّفه والتطاول، وإلا التحدي بنزول العذاب عليهم، إن كان صادقا.. «فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» . وقد سقط عليهم العذاب الذي طلبوه.. فهلكوا به! ومن مفردات هذه الآيات: قوله تعالى: «أَصْحابُ الْأَيْكَةِ» الأيكة: الأرض ذات الشجر الكثير الكثيف، وكان أصحابها من أرض مدين بالشام. وقوله تعالى: «بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ» : الميزان المعتدل، القائم على الحق.. وقوله سبحانه: «وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ» : الخلق الذين كانوا قبلهم.. وقوله تعالى: «كِسَفاً مِنَ السَّماءِ» : أي قطعا تنزل من السماء، من حجارة أو نحوها. وقوله سبحانه «عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ» .. الظلة ما أظلهم وأطبق عليهم في هذا اليوم من عذاب الله. هذا، ويلاحظ أنه لم يقترن «شعيب» بالوصف الذي وصف به الأنبياء، بأنه أخو القوم، فقد جاء النظم القرآنى هكذا: «إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ» .. ولم يحىء على هذا النظم: «إذ قال لهم أخوهم شعيب» . وليس هناك من سبب- والله أعلم- إلا البعد عن الرتابة، والتكرار، الذي يخلو من الفائدة، التي تلازم دائما كل تكرار جاء في النظم القرآنى.. فقد ذكر في غير موضع أن شعيبا، هو من القوم وهو بهذا أخ لهم، كما جاء فى قوله تعالى: «وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً» (84: هود) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 153 وفي قوله سبحانه: «وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً» (85: الأعراف) . وملاحظة أخرى في التعقيب الذي لزم كل قصة من هذه القصص جميعا، بلا استثناء، وهو قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» .. ففى كل قصة من هذه القصص، آية، فيها مزدجر لمن سيقت فيهم القصة ولمن يأتى بعدهم.. ولكن لم يكن في هذه الآية ولا في الآيات التي تلتها، ما يفتح هذه العقول المغلقة، ولا ما يهدى هذه العيون العمى.. فأبى أكثر الناس إلا كفورا.. وقليل هم أولئك الذين نفعتهم هذه الآيات، وأغنتهم تلك النذر، فآمنوا، واهتدوا، ونجوا من بلاء الدنيا، وعذاب الآخرة.. أما التعقيب على القصص بقوله تعالى: «وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» . فإن وصف الله سبحانه وتعالى بالعزة، يكشف عما لله سبحانه وتعالى من سلطان قاهر عزيز، بحيث يأخذ بناصية كل من يخرج عن سلطانه، ويكذب رسله.. ولكن مع هذه العزة القاهرة، رحمة الرحيم، الذي أمهل الظالمين، ومدّ لهم في العمر، وبسط لهم في الرزق، ولو أخذهم بذنوبهم لحرمهم شربة الماء، ونفس الهواء.. الآيات: (192- 209) [سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 209] وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 154 التفسير: قوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ» .. الضمير فى «إنه» يعود إلى هذا القصص الذي قصه الله سبحانه وتعالى على نبيه الكريم، فى هذه الآيات، كما يقول سبحانه وتعالى: «إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ» (62: آل عمران) . وكما يقول جل شأنه: «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ» (13: الكهف) وكما يقول سبحانه وتعالى «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ» (3: يوسف) . فالتعقيب على هذا القصص الذي اشتمل على أخبار سبعة أنبياء، مع أقوامهم، ومن أرسلوا إليهم، وهم حسب ترتيب ذكرهم: موسى، وإبراهيم، ونوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب- التعقيب على هذا القصص بهذه الآيات، وهو رد على ما يدور في خواطر المشركين، وما يتهامسون به حينا، ويجهرون به حينا، من أن هذا القصص، إنما هو من أساطير الأولين، ومن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 155 وإرادات هذا المورد الذي ينبع من الأوهام والخيالات.. وقوله تعالى: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» . هو بيان لمتنزل هذا القصص، والمصدر الذي جاءت منه أخباره.. وأن متنزل هذا القصص، هو السماء، وأن مصدره، هو الله رب العالمين، وأن حامله إلى الرسول، هو الروح الأمين، وهو جبريل عليه السلام.. الذي هو أمين على أداء ما اؤتمن على أدائه، من كلمات الله، إلى رسول الله.. وفي قوله تعالى: «عَلى قَلْبِكَ» إشارة تمكن وصول كلمات الله إلى الرسول، وأنها لم تلق على سمعه وحسب، بل إنها نفذت إلى أعماقه، وخالطت مشاعره، واستقرت في قلبه.. [كلمات الله.. وكيف تلقاها النبي؟] كان أكبر همّ الذين صوبوا سهامهم إلى سيرة النبي، وإلى الرسالة الكريمة التي تلقاها من ربه، وقام بتبليغها للعالمين- كان أكبر همهم، أن يقطعوا صلة النبي بالسماء، وأن ينفوا عن القرآن أنه كلام الله، وأنه كتاب سماوى لشريعة الإسلام.. ثم لا حرج عندهم بعد هذا أن يسلّموا «لمحمد» بكل شىء.. فليكن مشرّعا عظيما، وليكن مصلحا عبقريا.. ليكن كما يشاء ويشاء له أتباعه، إلا أن يكون نبيا ورسولا، وإلا أن يكون صاحب رسالة سماوية، منزلة من رب العالمين.. فذلك ما يكثر شغبهم عليه، وتشرع سهامهم له، ولو كان في ذلك مصرعهم! وغاية هذا المكر الخبيث، هو أن ينفوا عن شريعة الإسلام صفة القداسة، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 156 وأن ينزلوها منزلة الشرائع والمذاهب الوضعية، ليكون ذلك داعية إلى الجرأة على العبث بها، وجعلها في معرض التجريح والتعديل، والتبديل، حسب مقتضيات الأهواء والنوازع.. ومن عجب أن يعوّل الطاعنون في نبوة النبي من المستشرقين، والملحدين- من عجب أن يقولوا في دراستهم لأحوال النبي مع الوحى، على الأحاديث والأخبار التي رواها الثقات من المسلمين، عن رسول الله، - صلوات الله وسلامه عليه- أو شاهدوها من أحواله عند الوحى، ثم يجعلوا هذه الأخبار، والأحاديث دليلا على نفى الوحى، الذي كانت تلك الحالات أعراضا له، وشواهد عليه.. وقد يكون من المستساغ أن يحلى هؤلاء الطاعنون أيديهم من الأحاديث والأخبار، التي تحدّث عن الوحى، وعن الأحوال التي كانت تعرض للنبى منه، ثم لينسجوا من مقولاتهم ومفترياتهم ما يشاءون، للطعن في حقيقة الوحى، وفي صحة ما يوحى إلى النبي.. فذلك على ما فيه من تلفيق وتزييف، أقرب إلى المنطق، من معالجة الحقائق الثابتة، وتحويلها إلى مخلوقات من الباطل الصريح.. إن خلق الشيء ابتداء أيسر من إقامته من أنقاض شىء آخر.. إنه بناء من أول الأمر، ولو كان هذا البناء على شفا جرف هار.. أما الخلق من شىء آخر.. فهو هدم وبناء.. يهدم الشيء ثم يبنيه من أنقاض ما هدم.. إنه أشبه بالثوب الجديد، يمزق قطعا ثم يعاد جمعه من تلك الأمزاق.. ولثوب بال مهلهل، خير من هذا الثوب المرقع.. كذلك فعل الملحدون الطاعنون في رسالة الرسول، وفيما تلقاه وحيا من ربه.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 157 جاءوا إلى هذا النسج المتين المتلاحم، فجعلوه أمزاقا، ثم وصلوا تلك الأمزاق بعضها ببعض، فكشف ذلك عن جنايتهم، وفضح مكرهم وسوء تدبيرهم.. إنهم ينقلون الأخبار الصحيحة، ويعمدون إلى الحقائق الثابتة من أوثق المصادر الإسلامية، ثم يتناولونها كما يتناول الحيوان فريسته، بمخالبه وأنيابه حتى إذا أسالوا دمها، وأخمدوا أنفاسها، ومزقوا أشلاءها- حاولوا أن يجمعوا من أشلاء هذه الحقائق الممزقة المتناثرة كائنا آخر، هو هذا الباطل، الذي يريدون أن يقيموه مقام الحق.. وهم- هنا- فى حقيقة الوحى، يعمدون إلى الأحاديث المروية عن الرسول، والأخبار المشاهدة من أحواله مع الوحى ثم يصوّبون إلى هذه الأحاديث وتلك الأخبار، سهاما مسمومة، يحرفون بها الكلم عن مواضعه، ليفسحوا لباطلهم، مكانا يشوّه الحق، ويشوش عليه.. فمن الأحاديث المروية عن الوحى وكيف كان ينزل على النبي، ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما عن السيدة عائشة، أن الحارث بن هشام، سأل النبي صلّى الله عليه وآله: كيف يأتيك الوحى؟ فقال: «أحيانا يأتينى في مثل صلصلة الجرس، وهو أشدّه على، ثم يفصم عنى وقد وعيته.. وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا، فيكلمنى، فأعى ما يقول» ومن ذلك ما يروى عن السيدة عائشة أيضا أنها كانت تقول: «إن كان لينزل- أي الوحى- على رسول الله صلّى الله عليه وآله، فى الغداة الباردة ثم تفيض جبهته عرقا» ومن ذلك ما يروى عن عبادة بن الصامت، أنه قال: «كان نبى الله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 158 صلى الله عليه وآله- إذا نزل عليه الوحى كرب لذلك، وتربّد وجهه» .. أي تغير. وهذا يعنى- كما هو ظاهر- أن اتصال النبي بالوحى، كان يستدعى منه مجاهدة روحية، ونفسية، وجسدية، كى تتيح له هذه المجاهدة، حالا مناسبة للعالم الروحي، الذي يتصل به.. إنه لقاء بين طبيعتين مختلفتين.. طبيعة بشرية، وطبيعة ملكية.. ولا بد أن يحدث هذا اللقاء احتكاكا، وتفاعلا، وفورانا.. فى الطبيعتين على السواء، حتى يلتقيا لقاء، يتم به التجاوب، والتفاهم! يقول «ابن خلدون» ، فيما يعرض للأنبياء عامة عند تلقى الوحى: «وعلامة هذا الصنف- أي الأنبياء- من البشر، أن توجد لهم في حال الوحى غيبة عن الحاضرين معهم.. مع غطيط، كأنها- أي الحال- غشى أو إغماء في رأى العين، وليست منهما في شىء، وإنما هي في الحقيقة، استغراق في لقاء الملك الروحاني، بإدراكهم المناسب لهم، الخارج عن مدارك البشر بالكلية.، ثم يتنزل إلى المدارك البشرية، بسماع دويّ من الكلام، فيتفهمه، أو يتمثل له صورة شخص يخاطبه بما جاء به من عند الله.. تنجلى عنه تلك الحال، وقد وعى ما ألقى إليه.. ويدركه- النبي- أثناء ذلك من الشدة والغطّ ما لا يعبر عنه: ففى الحديث: «كان مما يعالج من التنزيل شدة» .. وقالت عائشة: «كان ينزل عليه الوحى في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصّد عرقا» وقال تعالى: «إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا» (5: المزمل) ثم يقول ابن خلدون: «ولأجل هذه الحالة في تنزل الوحى، كان المشركون يرمون الأنبياء بالجنون، ويقولون: «له رئىّ» أي تابع من الجن.. وإنما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 159 لبّس عليهم بما شاهدوه من ظاهر تلك الأحوال «1» » . ثم يمضى ابن خلدون، فى تقدير هذا الرأى، فيقول: «وهؤلاء الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم- قد جعل الله لهم الانسلاخ من البشرية في تلك اللمحة، فطرة فطرهم الله عليها، وجبلّة صورهم فيها، ونزههم عن موانع البدن وعوائقه، ماداموا ملابسين لها- أي الموانع- بالبشرية، بما ركب في غرائزهم من القصد والاستقامة، التي يحازون بها تلك الوجهة- أي الوجهة الملكية- ووكز في طباعهم رغبة في العبادة، تكلف بتلك الوجهة، وتسيح «2» نحوها.. فهم يتوجهون إلى ذلك الأفق بذلك النوع من الانسلاخ، متى جاءوا- بتلك الفطرة التي فطروا عليها، لا باكتساب ولا صناعة.. فلهذا توجهوا وانسلخوا عن بشريتهم، وتلقوا في ذلك الملأ الأعلى ما يتلقونه، وعاجوا- أي مالوا- به على المدارك البشرية، منزلا في قواها، لحكمة التبليغ للعباد.. فتارة يسمع دويا، كأنه رمز من الكلام، يأخذ منه المعنى الذي ألقى إليه، فلا ينقضى الدويّ، إلا وقد وعاه وفهمه، وتارة يمثل له الملك الذي يلقى إليه، رجلا، فيكلمه، ويعى ما يقوله. ثم يقول: «واعلم أن الأولى- وهي رتبة الأنبياء غير المرسلين، على ما حققوه- أي العلماء- والثانية- وهي حالة تمثل الملك رجلا يخاطب النبي- هى رتبة الأنبياء المرسلين، ولذلك كانت أكمل من الأول.. «إنما كانت الأولى أشد، لأنها مبدأ الخروج، فى ذلك الاتصال من القوة   (1) مقدمة ابن خلدون صفحة 88. (2) فى الأصل، تكشف، وتسبغ.. وهو تجويف. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 160 إلى الفعل، فيعسر بعض العسر.. ولذلك كان يحدث عنه في تلك الحالة من الغيبة والغطيط، ما هو معروف. «وسبب ذلك، أن الوحى، كما قررناه، مفارقة البشرية، إلى المدارك الملكية، وتلقّى كلام الملك، فيحدث عنه شدة، من مفارقة الذات ذاتها، وانسلاخها عنها، من أفقها، إلى الأفق الآخر، وهذا معنى الغلط الذي عبر عنه النبي في مبدأ الوحى في قوله: «فغطنى حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى، فقال: اقرأ، فقلت ما أنا بقارئ، وكذا ثانية، وثالثة.. كما في الحديث» . ثم يقول ابن خلدون: «وقد يفضى الاعتياد بالتدريج فيه شيئا فشيئا، إلى السهولة، بالقياس إلى ما قبله.. ولذلك كانت تنزل نجوم القرآن، وسوره، وآيه- حين كان بمكة- أقصر منها، وهو بالمدينة.. «وانظر إلى ما نقل- أي روى- فى نزول سورة «براءة» فى غزوة «تبوك» وأنها نزلت كلها، أو أكثرها، عليه- أي على النبي- وهو يسير على ناقة، بعد أن كان بمكة ينزل عليه بعض السورة من قصار المفصّل: فى وقت، وينزل عليه الباقي، فى حين آخر.. وكذلك كان آخر ما نزل بالمدينة آية الدّين، وهي ما هي في الطول، بعد أن كانت الآية تنزل بمكة، مثل آيات الرحمن، والذاريات، والمدثر، والضحى، والفلق، وأمثالها ... » «1» هذه بعض الأحاديث والأخبار، التي روتها كتب الحديث والسيرة، فى شأن الوحى، واتصال النبي به.. وقد عرضنا رأى عالم مفكر من علماء المسلمين، ومفكريهم، فى هذه الأحاديث، وفهمه لها، وتصوره للوحى،   (1) مقدمة ابن خلدون ص: 94 الجزء: 10 ¦ الصفحة: 161 وللصلة التي بين النبي، وبين الملك المبلّغ له كلمات ربه، على نحو ما يفهمه المسلمون من هذه الأحاديث، وما يتفق ومقررات الشريعة الإسلامية.. وقد اتخذ الملحدون- كما قلنا- من هذه الأحاديث، وتلك الأخبار، مادة لخلق المفتريات، والأكاذيب، للطعن في رسالة الرسول، والتشكيك في صدق ما جاء به.. إذ كان عندهم، أن ذلك الذي نطق به النبي، وسماه قرآنا، ليس إلا هذيان محموم، وأخلاط مصروع، لا يعى ما يقول.. وشاهدهم على هذا، تلك الأحوال الجسدية، التي كانت تعرض للنبى، حين ينزل عليه الوحى، ويلقى إليه بما أمر الله أن يبلغه إياه.. وأعجب ما في هذا الموقف من أولئك الملحدين، الذين يقولون هذه المقولات، أنهم يلتقطون من الآيات، والأحاديث، والأخبار، كلمات، يتخيرونها، ويقتطعونها من الكيان الكلى للحقيقة، ويعزلونها عن السياق الذي تجرى فيه، ثم يقيمون عليها ما يقيمون من دعاوى ومفتريات.. والذي كان يقتضيه الأسلوب العلمي، فى البحث عن الحقيقة هنا، هو التثبت أولا من هذه الآثار، والوصول إلى حكم قاطع فيها، وفي مصادرها.. أهى صادقة، أم كاذبة؟ ثم يأتى بعد ذلك دور التطبيق لها، والتعامل بها.. فإما أن تقبل جميعا، أو تردّ جميعا، - أما أن يؤخذ من الخبر بعضه، ويترك بعضه، فذلك هو التلفيق، الذي لا تقوم به حقيقة أبدا! ونسأل أولا: ما رأى هؤلاء الملحدين في هذه الأحاديث وتلك الأخبار- ما رأيهم فيها؟ وما مقدار اطمئنانهم إليها؟ أهي من الوثائق الصادقة في نظرهم؟ أم هي أحاديث موضوعة مكذوبة؟ فإن كانت الأولى، كان من المنطق والعدل، أن يأخذوا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 162 بها، وبكل ما جاء فيها.. وإن كانت الثانية، طرحوها، وبحثوا عن وثائق أخرى، يجدون فيها الصدق الذي يطمئنون إليه..! ولو أننا تركنا هذه المفتريات جانبا، وضربنا صفحا عنها، لما وقع عندنا أن أحدا يعقل- مجرد العقل- أو يفهم- أدنى الفهم- يأخذ بهذه المقولات، ويضيف شيئا منها إلى سيرة الرسول، يمس جانب النبوة فيه، أو يغمز الصلة القائمة بينه وبين السماء، ورسول السماء! فليس يصح في عقل عاقل أن تجىء المصادر الإسلامية، بما يتهم الرسول بالصرع والجنون.. إذ كيف يسوغ لمؤمن، أن يروى حديثا عن رسول الله، أو ينقله عنه إمام من أئمة الحديث، ويكون في هذا الحديث، ما يعزل النبي عن النبوة.. ثم يصدّق بنبوته، ويدين بشريعته، ويتعبّد بالقرآن الذي نزل عليه؟. هذه واحدة، تفضح فهم الملحدين لهذه الأخبار، وتخريجهم الملتوى السقيم لها.. وأخرى.. يسجلها الواقع، ويشهد لها التاريخ شهادة ناطقة بلسان بيّن على مدى أربعة عشر قرنا من الزمان- وهي أنه ما كان لمصروع أو مجنون أن يقيم مجتمعا يدين لرسالته بالولاء، تلك الأجيال المتعاقبة عبر القرون، وتزداد مع الأيام اتساعا وامتدادا.. لا بعصبيّة أهله، ولا بقوة أتباعه، وإنما بما في الرسالة ذاتها من قوى ذاتية، تلقى الناس في كل أفق من آفاق حياتهم، وتلتقى مع كل طريق يتجهون فيه إلى الحق والخير، والعدل، والإحسان! ويكفى هذا وحده، فى فضح هذا الزور، وإلباس أهله الخزي والصغار! أمجنون، مصروع، يبنى دولة، وينشىء نظاما، ويقيم دينا يعيش في الناس الجزء: 10 ¦ الصفحة: 163 منذ قام إلى اليوم، دون أن يصاب بنكسة أو خلل؟ ثم أمجنون، مصروع، ثبت لهذه العواصف العاتية المزمجرة، وحيدا في وجه أمة صحراوية النفوس صخرية الطباع، ثم لا يكون منه في حال من الأحوال، تخاذل أو ضعف، حتى تخصب هذه النفوس، وتلين تلك الطباع، وتخرج من أحشاء هذه الصحراء قادة الإنسانية، وأساتها، ومطلع شموس العلم والمدنية فيها؟ ثم! ثم أمجنون مصروع، مختلط العقل، هذا الذي يأسر قلوب معاشريه، ويملك أنفسهم، فإذا القلوب خافقة بحبه، وإذا النفوس لا تعرف لها غذاء إلا من ينابيع الحبّ له، ولولاء لشخصه، والتفانى في سبيل مرضاته؟ إن التاريخ، لا يذكر في سجله يوما، أن إنسانا كان له في الناس رصيد من الحب والولاء، ما كان لمحمد في هذه الدنيا من حب وولاء..! ولا نسوق لهذا كثيرا من الأمثال، ففى كل خطوة من خطوات النبي، على مسيرة دعوته، شواهد تقوم من كل جانب، تنطق بما كان لمحمد- صلوات الله وسلامه عليه- من سلطان على النفوس، ملكها بالإعجاب، والحب والولاء.. ففى بيعة الرضوان، ومعسكر الرسول بالحديبية، يريد دخول مكة، زائرا للبيت الحرام، وقريش تقف له، وتصده عن بيت الله.. وكادت تكون الحرب.. ثم بعثت قريش عروة بن مسعود، ليجد مع النبي سبيلا للخروج من هذا الموقف.. وقد التقى عروة بالنبي، وتحدث إليه، ورأى عن قرب ما للرسول الكريم عند أصحابه. من حب، يعلو كل حب عرفه الناس بين محب ومحبوب.. فلا يتوضأ النبي إلا ابتدر أصحابه وضوءه، وتسابقوا إليه، ولا يبصق بصاقا إلا تلقّوه، ولا يسقط من شعره شىء إلا تهافتوا عليه- رأى عروة هذا، رأى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 164 العين، فلما عاد إلى قريش، حدثهم بما رأى، وما وقع في نفسه من هذا الذي رآه، فقال: «يا معشر قريش.. إنى قد جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشيّ في ملكه.. وإنى والله ما رأيت ملكا في قوم قط، مثل «محمد» فى أصحابه.. ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشىء أبدا، فروا رأيكم» «1» وخذ مثلا آخر وقع خبّاب بن عديّ- رضى الله عنه- فى يد قوم من المشركين قبل الفتح، وأراد القوم أن يتقربوا به إلى قريش، ليكون في ذلك بعض الشفاء لهم مما في قلوبهم من موقعة بدر.. وحين قدّم خباب للقتل، قال له أبو سفيان، فى شماتة واستخفاف: «أيسرّك أن محمدا هنا تضرب عنقه، وأنك في أهلك؟» فقال خبّاب في ثبات جنان، وقوة إيمان: لا، والله ما يسرنى أنى في أهلى وأن «محمدا» فى مكانه الذي هو فيه، تصيبه شوكة تؤذيه.» «2» فانظر إلى هذا الحب، وإلى تلك المشاعر القوية الصادقة المنبعثة منه، والتي تعلو بصاحبها فوق كل ما يحرص عليه الناس في دنياهم من نفس، وأهل، ومال.. رجل بين النطع والسيف، يهيج فيه أبو سفيان غريزة الحب للأهل والولد، فى تلك الساعة، والموت منه بمرصد، ويعرض عليه أمنية يكون فيها خباب بين أهله، ومحمد في هذا الموقف الذي فيه خباب.. فيندفع خباب يهدر في غيظ وحنق.. لا والله لا أرضى أن أكون في أهلى، على أن تصيب «محمدا» شوكة وهو في أهله!!   (1) السيرة لابن هشام: جزء/ 3 ص 56 (2) زاد المعاد، من هدى خير العباد/ جزء/ 2 ص 27 الجزء: 10 ¦ الصفحة: 165 ومثل ثالث.. «أم حبيبة» زوج النبي، وبنت أبى سفيان، يدخل عليها أبوها في منزلها بالمدينة، قبل أن يدخل في الإسلام، وكانت قريش قد بعثته، ليوثّق الهدنة التي كانت بينها وبين المسلمين وليزيد في مدتها.. وليس هذا، هو المهم.. وإنما المهم هو الآنى: عند ما دخل أبو سفيان على ابنته أم حبيبة، أراد أن يجلس، ولم يكن فى البيت غير فراش الرسول شىء يمكن أن يصلح للجلوس.. فهمّ أن يجلس على هذا الفراش، ولكن ابنته ردته عنه، وطوته دونه.. فعجب لذلك، وقال: يا بنية.. ما أدرى أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عنى؟ قالت بل هو فراش رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأنت رجل مشرك.. نجس.. ولا أحب أن تجلس على فراش رسول الله! فقال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر «1» !!» . والصورة في غنى عن كل تعليق. وحسبنا أن ننظر فنرى أبا سفيان سيد قريش، يدفع عن أن يلمس فراش رسول الله، ثم أن تكون اليد التي تدفعه، هى يد ابنته.! وليس هذا الحب والتقدير للنبى، وقفا على أتباعه، بل إن كثيرا من أحرار العقول والقلوب، من مفكرى الغرب، قد انتصروا للحق، فرأوا «محمدا» على صورة أقرب إلى تلك الصورة التي يراها عليه أكثر أتباعه معرفة به، وحبا وإكبارا له..   (1) زاد المعاد. جزء 1 ص 56. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 166 يقول «برنارد شو» فيلسوف الغرب في القرن العشرين الميلادى: «لقد كان دين محمد موضع تقديرى السامي، دائما.. لما ينطوى عليه من حيوية مدهشة.. لأنه- على ما يلوح لى- هو الدين الوحيد الذي له ملكة الهضم لأطوار الحياة المختلفة.. ولذلك فإنه يستطيع أن يجلب إليه كل جيل من الناس.. ثم يقول: لقد عمد رجال «الا كليروس» فى العصور الوسطى، إلى تصوير الإسلام في أحلك الألوان، وذلك بسبب الجهل أو التعصب الذميم.. والواقع أنهم كانوا يسرفون في كراهية محمد، وكراهية دينه، ويعدّونه خصما للمسيح.. أما أنا، فأرى واجبا أن يدعى محمد منقذ الإنسانية.. وأعتقد أن رجلا مثله، لو تولى زعامة العالم الحديث، فإنه سينجح في حل مشكلاته، وإحلال السلام والسعادة، فى العالم، وما أشد حاجة العالم إليها اليوم» .. وحسبنا هذه الشهادة، من رجل لا يدين بالإسلام، ولا يتهم بتعصب لنبى الإسلام، تحت مشاعر الولاء الديني له.. بل إنه ليقول هذه الحقيقة عن منطق العقل الحر، البعيد عن كل تأثير عاطفى.. بقيت هنا مسألة، هى في الواقع كانت مبعث هذا البحث، وهي صورة الوحى الذي كان ينزل على النبي: أهو القرآن الكريم بكلماته ومعانيه؟ أم هو معانى القرآن، ثم يصوغها النبي في قوالب لفظية؟ أو بمعنى آخر.. هل القرآن لفظا ومعنى، كان وحيا من السماء، وليس للنبى إلا تلقى هذا الوحى وتبليغه.. أم أن المعنى من الله، واللفظ من محمد؟. وقد أثار هذه المسألة، ما جاء في قوله تعالى: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 167 «قَلْبِكَ، لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ» «193: الشعراء» .. فكان من مقولات بعض المفسرين في هذه الآية، أن النبي صلوات الله وسلامه عليه، كان يتلقى من الوحى معانى القرآن، ثم ينقل هذه المعاني إلى كلمات.. وهذا يعنى أن القرآن سماوى المعنى، أرضى اللفظ!. وهذه المقولة من بعض المفسرين، هى ضمن مقولات كثيرة، ينقلونها حكاية عن بعض الرواة ونقلة الأخبار، وهم يريدون بهذا أن يضعوا كل ما بلغهم من مقولات، دون أن يتحملوا تبعة تجريحها أو تعديلها، تاركين لغيرهم مهمة القبول أو الرد، والتعديل أو التجريح.. ونسوا أن هناك متربصين بكتاب الله وبرسول الله، مهمتهم هي اصطياد هذه المقولات المريضة، ثم محاجّة المسلمين بها، لأنها أبلغ حجة، إذ كانت مما قاله المسلمون فى كتابهم.. وندع هذا، لنقول: إن معنى الآية واضح صريح، فى أن القلب هو وعاء الإدراك السليم، والفهم الصحيح، وهو موطن المعتقدات القائمة على الفهم والإدراك.. فنزول كلمات الله على قلب النبي، معناه تمكن هذه الكلمات من القلب، ونفاذها إليه مباشرة، من غير معوّقات.. فليس كل كلام ينفذ من السمع إلى القلب. وليس كل مستمع بأذنه مصغيا بقلبه.. فهناك كلام هو مجرد ألفاظ جوفاء، تطنّ في الأذن، دون أن تجد طريقها إلى القلوب.. ومن هذا ما يروى عن الحسن البصري- رضى الله عنه- أنه سمع واعظا يعظ في مسجد البصرة، فوقف مليا يستمع إليه، فلما لم يجد ما ينفذ إلى قلبه منه، انصرف عنه قائلا: «يا هذا.. بقلبك شىء أو بقلبي» ! وكم من كلام طيب، لا يجد الآذان التي تسمع، وإن وجد الآذان السامعة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 168 لم يجد القلوب الواعية الفاقهة.. وفي هذا يقول الغزالي: غزلت لهم غزلا رفيعا فلم أجد ... لغزلى نسّاجا فكسّرت مغزلى وقد كانت قلوب كثير من المشركين من هذه القلوب المغلقة، التي لا تقبل الهدى، ولا تطمئن إليه.. فكانوا يستمعون إلى كلمات الله دون أن ينفذ إلى قلوبهم شىء من شعاعها السنىّ الوضيء.. وفي هذا يقول الله تعالى: «إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً» (57: الكهف) إن بين الأذن والقلب ما بين الماء والأرض.. فإذا نزل الماء بالأرض الصلد، زال عنها، وأخذ طريقه إلى غيرها، وإذا نزل بالأرض الطيبة، سكن إليها، فاهتزت به، وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج.. وكذلك كلمات الله، إذا مرت بالقلوب القاسية المظلمة، لم تترك فيها أثرا، ولم تثر منها إلا ما كمن فيها من ظلم وظلام، كما يقول سبحانه: «كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» «200: الشعراء» أما إذا نزلت هذه الآيات في القلوب السليمة، الطيبة، هشّت لها، وغردت بلابل أيكها لهذا الحيا الذي يحيى موات القلوب! «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ.. أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (28: الرعد) . فالقلوب، هى مستودع المعتقدات، وموطن المعقولات، من كل طيب وفاسد، وصحيح، وسقيم.. ولهذا كان نطق الأعراب بكلمة الإسلام، دون أن تسكن هذه الكلمة إلى مكانها من قلوبهم- كان هذا مجرد مدخل يدخلون به إلى الإسلام، فتعصم به دماؤهم وأموالهم، أما الإيمان، فليس لهم بعد نصيب منه، حتى يدخل الإيمان في قلوبهم.. وفي هذا يقول الله تعالى: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 169 «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ» (14: الحجرات) .. ومنه قوله تعالى في المنافقين: «يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ» (11: الفتح) .. أما المؤمنون، فالإيمان ملء قلوبهم، يعمرها باليقين والسكينة، والرضا.. كما يقول سبحانه: «أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ» (22: المجادلة) .. أي مكنه من قلوبهم، وثبته فيها كما يثبت الشيء بالكتابة..! وأصله من الكتب، وهو ضم الشيء إلى الشيء، ووصله به. وعلى هذا، يكون معنى قوله تعالى: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ» أنه ثبّت ما نزل به الوحى في قلبه، ومكن له فيه- فكان قلبه- صلوات الله وسلامه عليه- مستودع كلمات الله، تجد فيه مستقرها ومستودعها، حيث تعطى أكثر ما فيها من ثمر مبارك طيب، وحيث تنزل الكلمة الطيبة، فى هذا القلب الطيب المصفى من كل دخل، فتكون كما وصفها الله في قوله تعالى: «كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ.. تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها» (24- 25: إبراهيم) ومن هنا تتحول كلمات الله في قلب الرسول إلى معان شريفة كريمة، وإلى سلوك شريف كريم.. فكان الرسول بهذا الأدب الرّبانى، كما يقول عن نفسه، صلوات الله وسلامه عليه: «أدبنى ربى فأحسن تأديبي» . وكما تقول السيدة عائشة، رضى الله عنها، عنه: «كان خلقه القرآن» هذه واحدة.. وأخرى.. هى أن إعجاز القرآن، ليس في معانيه، وإن كانت تلك المعاني معجزة في سموها، واستوائها على ميزان، الحق، والعدل، والإحسان.. ولكن المعجزة المتحدية في القرآن هي نظمه الذي جاء عليه، وبلاغة هذا النظم هو الذي أعجز منطق العرب، وأخرس ألسنتهم.. ولهذا فقد تحداهم القرآن أن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 170 يأتوا بعشر سور من مثله، فى أي معنى يرد على خواطرهم، ولو كان من صيد الوهم والخيال.. «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ» (13: هود) . وثالثة.. وهي أن النبي، صلوات الله وسلامه عليه، كان يتلقى من جبريل كلمات ربه، فيحمله الحرص على الإمساك بها أن يبادر بترديدها على لسانه، قبل أن يفرغ جبريل من إلقاء ما أمر بإلقائه إليه، وفي هذا يقول الله تعالى له: «وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ» (114: طه) ويقول: «لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ.. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ» (16- 18: القيامة) فأى شىء كان يقرؤه جبريل على النبي، حتى يتّبع ما يقرؤه عليه؟ أكان معانى مجردة من ألفاظ؟ ثم هل يمكن أن يقوم المعنى مجردا من اللفظ الدال عليه، الكاشف عن حقيقته؟.، كيف؟ كيف؟ ورابعة.. وهي أن هذا القرآن وصف بأنه كلام الله، وذلك في أكثر من موضع فى القرآن نفسه. فقال تعالى: «وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ» (6: التوبة) . ويقول سبحانه: «سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ» (15: الفتح) ويقول سبحانه: «أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (75: البقرة) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 171 فكيف يصحّ مع هذا أن ينسب القرآن إلى الله، بهذا الوصف، فيقال عنه إنه كلام الله، إذا كان المعنى من عند الله، واللفظ من عمل محمد؟ وهل الكلام إلا هذه الألفاظ التي صيغت فيها هذه المعاني، وصبّت في قوالبها؟ إننا نأسف كثيرا، إذ نرى مثل هذه المقولات، تأخذ مكانها في كتب التفسير، ولو كانت على سبيل الحكاية لمقولات غير المؤمنين.. فكيف وهي تنسب إلى أئمة أعلام، وتدس عليهم من أعداء الإسلام. ثم تؤخذ هكذا على علاتها، دون أن تؤد في مهدها، وترد على المفترين والمروجين لها؟ قوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ؟» . الضمير فى «إنه» يعود أيضا إلى القصص القرآنى، كما عاد إليه الضمير فى قوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ» . وقد خالفنا في هذا أكثر المفسرين، الذين جعلوا الضمير في الموضعين عائدا على القرآن الكريم.. وجعلناه نحن عائدا على القصص القرآنى وحده.. وقد رجح عندنا هذا الرأى لأمرين: أولا: أن أكثر ما كان يتهم به النبي عند المشركين في شأن القرآن، هو ما جاء فيه من أخبار وحوادث، من القرون الغابرة، والعصور السحيقة.. ولهذا، فقد كان الأمر في تقديرهم لا يعدو أن يكون استماعا من النبي لهذه الأخبار، ثم تشكيلها، وتلوينها بألوان الخيال، وإخراجها على الصورة التي يتصورها.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 172 ومن أجل هذا حسبوا أنهم قادرون على أن يفعلوا فعله هذا، فقالوا ما حكاه القرآن الكريم عنهم: «لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا، إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» (31: الأنفال) .. ثم كان من هذا، أيضا أنهم كانوا يهاجمون النبي من هذا الجانب ويمتحنون صدقه من هذا الباب.. فكانوا يسألون اليهود عن أخبار ماضية، ثم يأتون النبي يسألونه عنها، ويطلبون ما عنده من علم بها، إن كان على صلة بالسماء، كما يدعى.. فقد سألوا الرسول عن ذى القرنين، كما سألوه عن الساعة، وعن الروح، وغيرها من الغيبيات.. وثانيا: ما جاء في قوله تعالى بعد ذلك: «وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ» .. وفي قوله: «أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ» .. ففى هذا إشارة إلى أن هذه الأخبار، ليست من واردات الوهم والخيال، وأنها ليست من أساطير الأولين، كما يقولون.. فهى من الأخبار التي دونت، وسجلت في زبر الأولين. والزبر، جمع زبور. والزبور القطعة من الكتاب.! ومعنى هذا، أن هذه الأخبار، هى من بعض ما ضمت عليه الكتب السابقة، وليست هي كل ما في هذه الكتب، إذ أن الكتب المنزلة على أهل الكتاب، كانت تحوى كثيرا من الشرائع والأحكام، والآداب، إلى جانب هذه الأخبار، فالأخبار، جزء من هذه الكتب، وزير- أي قطع- منها. ومن جهة أخرى، فإن هذه الأخبار التي جاء بها القصص القرآنى، كانت معلومة عند علماء بني إسرائيل، الذين يلجأ إليهم المشركون في اصطياد الأخبار، التي يختبرون بها النبي. فإذا كانت هذه الأخبار التي جاء بها القرآن لا تخرج في مضمونها عما عند علماء أهل الكتاب، الذين هم موضع ثقتهم.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 173 فكيف تكون من جهة النبي أكاذيب وأساطير، ثم تكون هي ذاتها عند أهل الكتاب حقّا وصدقا؟ فالذى يدافع عنه القرآن الكريم هنا، هو دفع التهمة عن هذا القصص القرآنى، وقول المشركين عنه: «إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» .. وفي هذا الموقف ينكشف تعنّت المشركين، وضلالهم، وأنهم يقولون في الخبر يتلقونه من النبيّ بأنه كذب واختلاق، على حين أنهم يأخذونه من أهل الكتاب على أنه الصدق الذي لا جدال لهم فيه؟ أفليس هذا جورا في القضاء، واعوجاجا فى الحكم؟ وإذا كان هذا شأنهم في هذا القصص، فإن هذا هو شأنهم في كلّ موقف لهم مع آيات الله وكلماته.. والسؤال هنا، هو: ماذا للنبيّ في هذا القصص، وما حجته على المشركين وغيرهم به، إذا كان مدوّنا في الكتب السابقة، وكان معلوما لعلماء بني إسرائيل؟ إنه- والأمر كذلك- ليس للنبى فضل يبين به على القوم، حتى يأخذ مكان القيادة، فى الدعوة إلى الله، ويدّعى فيهم هذه الدعوى بأنه رسول ربّ العالمين؟ إن الأمر لا يعجز أيّا منهم أن ينقل هذا الأخبار من الكتب السابقة، أو أن يتلقّاها عن أحد علماء بني إسرائيل.. فما حجة النبيّ على القوم بهذا القصص، وهو سلعة معروضة لمن يشترى بأقل ثمن، وأقل جهد؟ والجواب- والله أعلم- هو أن حجة النبيّ- صلوات الله وسلامه عليه- بهذا القصص، ليس في مجرد الأخبار التي ضمّ عليها.. فهذه الأخبار- وإن كانت ذات دلالة عظيمة، على صدق النبيّ، من حيث صدقها الخالص، المصفّى من المفتريات، والأباطيل، التي عند أهل الكتاب- قد جاءت على هذا النظم المعجز من الكلام، الأمر الذي قام به التحدي، والذي استخزى أمامه القوم، وعجزوا عن أن يأتوا بشىء من مثله.. وهذا ما يشير إليه وقوله تعالى: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 174 «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ/ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» (13- 14: هود) .. ثم تحدّاهم- سبحانه- بسورة واحدة، فقال تعالى: «وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (23: البقرة) . وإذ عجز القوم أن يقفوا هذا الموقف، وأن ينزلوا إلى هذا الميدان، إذ رأوا أن ما ينسجونه من تلك الأخبار، لا يعدو أن يكون رقعا مهلهلة، وخرقا بالية، لا يلتفت إليها أحد، وهي في مواجهة هذا النسج الإلهى، المعجب، المعجز- نقول إذ عجز القوم عن هذا، فإنهم لجأوا إلى أسلوب آخر، يروّجون به لهذا الزيف، ويغرون الناس بالإقبال عليه، بهذا الأسلوب الذي يقدمونه به، ويعرضونه فيه.. فجلبوا القيان، وعقدوا لهنّ مجالس السّمر والغناء، حيث يغنون ويرقصون، ثم يحىء في أثناء ذلك من يقصّ عليهم ضروبا من القصص الخرافيّ، لا تجد لها مساغا في الآذان إلا في هذا الجوّ الذي دارت فيه الرءوس، وغايت العقول، بين الكأس، والرقص! .. حتى إذا صحا القوم من خمارهم، طارت هذه الخرافات، كما تطير أضغاث الأحلام.. وإلى هذا يشير قوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» (6: لقمان) . قوله تعالى: «وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ» . والضمير فى «نزلناه» يعود أيضا إلى هذا القصص، الذي جاء في الآيات السابقة.. كما يمكن أن يعود إلى القرآن الكريم كلّه، إذ كان هذا القصص الجزء: 10 ¦ الصفحة: 175 بعضا منه.. وما يصدق على بعضه يصدق عليه كلّه.. والمعنى: أن هذا القصص، أو هذا القرآن، لو نزل على بعض الأعجمين، ممن لا يعرفون العربية، ولا ينطقون باللسان العربي، فقرأ على القوم هذا القصص أو هذا القرآن، بلسان عربيّ مبين، ما صدّقوه، وما كان لهم من ذلك آية، على أن هذا الكلام ليس من عند هذا الأعجمى، وإنما هو آية من آيات الله، تجلّت فيه.. وإلا فمن أين له هذا البيان المبين باللسان العربي، وهو الأعجمى الذي لا يحسن أن ينطق بكلمة عربية؟ ولكن القوم قد استبدّ الضلال بعقولهم، واستولى العناد على منطقهم..! وفي الآية إشارة إلى أن النبيّ- صلوات الله وسلامه عليه- هو بالنسبة إلى هذا القرآن أشبه بالأعجمى.. إذ أنه لا يعرف من ذاته شيئا من تلك الأخبار، التي يحدّث بها هذا القصص الذي يتلوه على القوم.. تماما كما لا يحسن أن ينطق باللسان العربي من لم يتعلم هذا اللسان ويتقنه.. ومن جهة أخرى، فإن النبيّ لو عرف هذه الأخبار، ما أمكنه نسجها، وإخراجها على هذا النظم البديع المعجز.. فهو بالنسبة إلى هذا البيان القرآنى، أشبه بالأعجميّ كذلك حين يكلّف أن ينطق باللسان العربي! قوله تعالى: «كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» سلك الشيء في الشيء، أو معه.. نظمه معه، وضمه إليه.. ومنه قوله تعالى: «اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ» أي أدخلها إلى جيبك، وأسقطها إسقاطا، كما تسقط الحبة على الحبّة في نظم العقد.. والإشارة في قوله تعالى: «كَذلِكَ سَلَكْناهُ» - يشار بها إلى تلك الصورة المتمثلة للمشركين، وهم يستمعون إلى رجل أعجميّ خالص العجمة، لم ينطق أبدا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 176 بكلمة عربية، ثم يطلع عليهم فجأة، دون أن يبرح مكانه، وقد نطق بهذا اللسان العربي المبين، من آيات الله وكلماته- ثم هم مع هذا لا يجدون في هذا آية، لهم تدلّ على صدقه، وأن هذا الكلام ليس من عنده! فهذا القرآن يقع من قلوبهم، ويسلك فيها هذا المسلك، حين يسمعونه من رجل منهم، لم يكن يتلو من قبله من كتاب، ولا يخطه بيمينه.. إنه أشبه بأعجمى ينطق بلسان عربى مبين، كأنما ولد بهذا اللسان، وعاش بين أهله.. ومع هذا فإنهم لا يجدون فيما يتلوه عليهم النبي الأمى آية، كما لا يجدون فيما يسمعهم إياه الأعجمى من لسانهم العربي المبين آية.. وهكذا تنتظم هذه الصورة الواقعة إلى تلك الصورة المفترضة وتسلك معها في خيط واحد.. النبي الذي يحدث بهذه الآيات، والأعجمى الذي ينطق بها لسانه.. إنهم لا يؤمنون بهذا أو ذاك، ولا يجدون آية في حديث النبي، أو منطق الأعجمى! ولهذا جاء قوله تعالى: «لا يُؤْمِنُونَ بِهِ» أي لا يؤمنون بهذا الحديث، سواء أكان من أمي، أو أعجمى.. وهذا لا يكون إلا من قلوب قد ضمت على داء خبيث، يغتال كل خير يمر بها، ويدفع كل هدى يطرق بابها، ولذا وصفوا بالإجرام.. «فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ» وقوله تعالى: «يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» - إشارة إلى أنهم لن يؤمنوا أبدا، ولو جاءتهم كل آية.. وذلك حتى يروا بأعينهم ما أنذروا به من عذاب أليم، وعندئذ يؤمنون إيمان المضطر المكره، والذي لا حيلة من النجاة من هذا العذاب، إلا بأن يتعلق بحبل الإيمان، الذي كان ممدودا له من قبل.. ولكن قد فات الأوان، وحيل بينهم وبين ما يشتهون! قوله تعالى: «فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ» (م 12 التفسير القرآنى ج 19) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 177 أي أن هذا العذاب الأليم سيقع بهم فجاءة، على غير توقع، أو انتظار.. وعندها يكربهم الكرب، ويأخذهم الفزع، فيسألون، الإمهال والانتظار، حتى يؤمنوا، ويصلحوا ما أفسدوا.. ولكن ذلك لن يكون.. «إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ.. لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (4: نوح) والمنظر: هو من يؤخّر الوقت الموقوت له، لقاء دين أو نحوه.. ومنه قوله تعالى: «فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ» (280: البقرة) قوله تعالى: «أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ؟» هو استفهام تهديد للمشركين، الذين يستخفون بعذاب الله، أو ينكرون وقوعه.. فهم لا يؤمنون به حتى يقع بهم ويروه عيانا.. وإن لهذا العذاب وقتا موقوتا يقع فيه.. وإنه إذا كان إيمانهم لا يقع حتى يقع بهم العذاب- أفنعجل لهم هذا العذاب حتى يؤمنوا؟ إننا قد فعلنا ذلك بكثير من الأمم قبلهم، فعجلنا لهم العذاب في هذه الدنيا، وأخذناهم بما كذبوا، فآمنوا حين رأوا هذا العذاب الواقع بهم، ولكن لم ينفعهم إيمانهم بما كذبوا به من قبل.. أما هؤلاء المشركون، فإن الله سبحانه- قد وعد نبيه الكريم ألا يعذب قومه، وهو فيهم، كما يقول سبحانه: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» (33: الأنفال) حتى لا يسوءه ما يراه من مصارعهم، وخراب ديارهم، وهو الذي قد جاء ليحيى مواتهم، وليرفع خسيستهم، ويكشف الجهل والظلام المطبق عليهم.. ولكن هذا الإمهال، إلى حين.. فإنهم إن أفلتوا من عذاب الدنيا، فإن هناك العذاب العظيم الذي ينتظرهم في الآخرة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في الآيات التالية.. «أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ» أي إننا إذا أمهلناهم في هذه الدنيا، ولم نرسل عليهم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 178 المهلكات، التي أرسلناها على المكذبين قبلهم.. ثم هم إذا تركوا، حتى آخر يوم من أيام حياتهم- أليس بعد هذه السنين التي يقضونها في هذه الدنيا، موت؟ ثم إذا هم ماتوا، وجاءهم العذاب الذي أعدّ لهم في الآخرة، أينفعهم شىء مما كانوا فيه في دنياهم، من مال وبنين، وجاه وسلطان، وأهل وعشير؟ إنه لن يغنى عنهم من عذاب شىء مما كانوا فيه.. وقد نسب الاستعجال بالعذاب إليهم، لأنهم بكفرهم وعنادهم، قد أوجبوا وقوع العذاب عليهم، وتعجيله لهم.. لأن هذا المعجل هو انتقام منهم لتكذيبهم بآيات الله، وتحديهم لرسول الله، والله سبحانه وتعالى يقول في فرعون وآله: «فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ» (55: الزخرف) ويقول في ثمود، قوم صالح: «فَعَقَرُوها.. فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ.. فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ» (157- 158: الشعراء) ويجوز أن تكون نسبة تعجيل العذاب إليهم، على سبيل الحقيقة، لأنهم كانوا يستعجلون العذاب فعلا على سبيل التحدّى، كما يقول الله سبحانه وتعالى: «وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (32: الأنفال) قوله تعالى: «وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ» هو تعقيب على التهديد الذي حملته الآيات السابقة إلى المشركين، فى قوله تعالى: «أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ.. الآيات» .. أي أن هذا العذاب المرصود لمن يكذب برسل الله، ويمكر بآياته، إنما يقع في أعقاب ما يحمل الرسول إلى قومه من نذر بين يدى دعوته إياهم، إلى الإيمان بالله، حتى إذا بلغهم ما أنذروا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 179 به، ولم يتحولوا عن موقفهم الضال الذي هم عليه- أخذهم الله بالعذاب المقدر لهم.. وقد رأى المشركون في القصص الذي قصه الله عليهم، لسبعة أنبياء كرام، ما حل بالمخالفين لكل نبى، من بلاء ونكال، كما يقول سبحانه: «فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ.. فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً.. وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ.. وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا.. وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (40: العنكبوت) وهؤلاء المشركون، قد أنذروا، كما أنذر هؤلاء المكذبون المهلكون قبلهم.. وإنهم بهذا الإنذار ليقفون على حافة الهوة التي تردّى منها المكذبون إلى العذاب، ويردون المورد الذي ذاقوا منه البلاء، وكانوا في الهالكين!! فماذا ينتظر هؤلاء المشركون بعد هذا؟ إنه لا شىء غير العذاب.. فإذا لم يحل بهم في مصبحهم أو ممساهم، فذلك من إكرام الله سبحانه لنبيه الكريم، ومنزلته عنده.. أما إذا أهلكوا فإنما يهلكون بذنوبهم..َ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» .. وقوله تعالى: «ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ» هو خبر لمبتدأ محذوف، تقديره، هو ذكرى.. أي هذا الذي نقدمه بين يدى الإهلاك من نذر، هو ذكرى، لما في الناس من فطرة تدعوهم إلى الإيمان بالله.. فهذا الإنذار بالرسل، هو إيقاظ لهذه الفطرة الغافية، أو الغافلة، وتنبيه لها، وتذكير! وقوله تعالى: «وَما كُنَّا ظالِمِينَ» هو جملة حالية، لبيان فضل الله على الناس، وأنه سبحانه، قد أقام في كيانهم رسلا تهديهم إلى الله، وتكشف لهم الطريق إليه، وهي هذه الفطر، وتلك العقول.. وأنه سبحانه لو أهلك الكافرين منهم، لكان ذلك جزاءا وفاقا لهم، على هذا الانحراف، الذي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 180 خرجوا به عن داعى الفطرة، ومنطق العقل.. ولكنه سبحانه، عزز هذه الرّسل المودعة في كيان الناس، برسل من عنده، يحملون إلى الناس آياته، ويذكرونهم بما عهد الله به إليهم في النشأة الأولى، فى قوله سبحانه: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ.. أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا بَلى.. شَهِدْنا!» (172: الأعراف) .. وهذا ما يشير إليه بعض المتصوفة في تفسيرهم لقوله تعالى: «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ» (13- 14 يس) .. فهم- أي الصوفية- يقولون: إن الاثنين، هما العقل والقلب، والقرية، هى الجسد.. والرسول الثالث هو رسول الله.. وهذا المعنى، وإن كان بعيدا، إلا أنه يشير إلى أن في الإنسان فطرة هي أشبه برسول من رسل الله إليه.. الآيات: (210- 220) [سورة الشعراء (26) : الآيات 210 الى 220] وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 181 التفسير: قوله تعالى: «وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ» . مناسبة هذه الآية لما قبلها، من أكثر من جهة.. فأولا: أنه جاء في آيات سابقة قوله تعالى: «إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ» .. ثم أعقب هذه الآيات تعقيب على موقف المشركين من هذا الكتاب، المنزل من ربّ العالمين، ومقولاتهم المفتراة عليه.. فكان قوله تعالى: «وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ» توكيدا لقوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ» . وثانيا: فى قوله تعالى: «ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ» - إشارة إلى أن المشركين قد جاءهم ما جاء المنذرين قبلهم، من آيات الله.. ليكون لهم منها موعظة وذكرى.. وأن هذا الذي جاء إلى المشركين، هو كتاب الله، الذي تلقاه محمد وحيا من ربه.. وأنه ليس مما تنزلت به الشياطين، كما يتنزّل على الكهان والسحرة.. قوله تعالى: «وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ» . أي أنه ما ينبغى للشياطين، أن يأخذوا هذا الموقف، وأن يكونوا سفراء بين الله وبين من يتخيرهم من عباده لرسالته.. إن الشياطين يعرفون قدرهم، والحدّ الذي ينبغى أن يقفوا عنده.. ومن جهة أخرى، فإنهم إذا أرادوا أن يخرجوا عن طورهم، ويتجاوزوا حدودهم، فإنهم لن يستطيعوا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 182 أن يرتقوا هذا المرتقى، وأن يبلغوا تلك المنزلة.. إنهم معزولون عن أن يسمعوا شيئا مما في الملأ الأعلى.. إذا أن بينهم وبين ملائكة الرحمن حجازا، كما أن بين الناس وبين الشياطين حجابا.. فكلّ يعيش في عالم، دون أن ينفذ الى العالم والآخر.. قوله تعالى: «فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ» . هو تهديد للمشركين، بهذا الوعيد الموجّه إلى النبيّ في مواجهتهم.. فالنبيّ الذي يعرف المشركون- كما يقول لهم- هذه الصلة التي بينه وبين ربه، يتلقى هذا التهديد، إذا هو دعا مع الله إلها آخر، كما يفعل هؤلاء المشركون- فكيف يكون حال غيره ممن ليس لهم عند الله هذا المقام الذي له؟ فليس المراد بهذا النهى، وبهذا الوعيد، النبيّ- صلوات الله وسلامه عليه- إذ كان أبعد الناس من أن يطوف به طائف من الشرك بالله.. ولكن ذلك للتعريض، بالمشركين، والتلويح لهم بهذا العذاب الراصد لكل من يشرك بالله، ولو كان من أقرب المقرّبين إلى الله..! قوله تعالى: «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» . هو دعوة إلى هؤلاء المشركين، الذين انكشف لهم حالهم، وهم في مواجهة هذا العذاب، الذي يتهدّد به الله كلّ من يشرك به.. فهذه الدعوة إلى إنذارهم وتخويفهم من عذاب الله، تلقاهم وهم يتحسّسون أنفسهم، ليجلوا عنها هذا الشرك، الذي يوقعهم في العذاب الأليم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 183 ثم إنّ في قوله تعالى: «عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» داعية أخرى تدعوهم إلى الاستجابة للرسول، وفتح عقولهم وقلوبهم لما يدعوهم إليه.. إنهم عشيرته، وهم أقرب الناس إليه من عشيرته، وهو- بحكم هذه الصلة- لا يريد لهم إلا الخير، ولا يرتاد بهم إلا مواقع الرشاد.. وبخاصة في تلك البينة التي يعيش كل فرد فيها من أجل أهله وعشيرته، لأن حياته مرتبطة بها، وإن أي خطر يتهدّدها هو خطر عليه، وعلى كل فرد فيها.. قوله تعالى: «وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» . هو أمر بما يقضى به العدل، فى التسوية بين عباد الله، فيما ينزل عليهم من آيات الله، وفيما يفيضه رسول الله على الناس من بر ورحمة.. فالرسول- صلوات الله وسلامه عليه- وإن بدأ بدعوة أهله إليه، فلأن ذلك الذي يدعوهم إليه هو برّ وضعه الله بين يديه، والأهل والأقربون هم أولى الناس بهذا البرّ، بعد نفسه، كما في الحديث الشريف: «ابدا بنفسك ثم بمن تعول» ثم إنه إذ كان هذا الخير هو مما لا ينفد أبدا بالعطاء، والإنفاق، بل إنه يزيد على الإنفاق، ويحلو طعمه كلّما كثرت الأيدى الممدودة إليه- فقد كان على النبيّ أن يسع بهذا الخير الذي بين يديه الناس جميعا، قريبهم، وبعيدهم.. وأنه إذا بدأ بدعوة أهله إلى هذا الخير، فإن ذلك لا يجعله يقف عند أهله، ولا أن ينتظر حتى يجتمع أهله على هذا الخير، بل إن عليه أن يحتفى بهؤلاء الضيوف الذي سبقوا أهله إلى هذه المائدة التي أعدّها، ودعا الناس إليها.. فمن سبق كان أولى الناس بأن يأخذ مكان الصدارة منها، وأن يكون بموضع لحفاوة والتكريم من ربّ الدعوة، وصاحب المائدة.. سواء أكانوا من الأقربين، أو الأبعدين..! «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 184 قوله تعالى: «فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ» . هذا هو الموقف الذي ينبغى أن يأخذه النبي من أهله الذين لا يستجيبون له، ولا يقبلون على دعوته.. إنهم حينئذ لا أهل ولا أقارب، وإن عليه أن يتبرأ مما هم فيه من ضلال، وألا يمد بصره إليهم، بل ينبغى أن يكون نظره قائما على هؤلاء الذين استجابوا له، واتبعوا سبيله! قوله تعالى: «وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» . أي دع هؤلاء المتأبّين عليك من أهلك وعشيرتك، وما هم فيه من شرك، وتوكل على الله وحده، فهو الذي يشد أزرك، ويمدك بأمداد القوة والعزة، فهو «العزيز» الذي من اعتز به عزّ «الرحيم» الذي يلقاك برحمته، ولا يدعك لأيدى الباغين والسفهاء من قومك.. وفي قوله تعالى: «الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ» - تأكيد لرعاية الله سبحانه وتعالى للنبى، وإحاطته بعزته ورحمته.. فالله سبحانه وتعالى يراه، ويطلع على كل حال منه، فى سر وجهر، وفي نوم ويقظة.. وخصّت الرؤية بحال القيام، لأنها أشرف الأحوال، التي يحبّ النبي أن يراه الله عليها، وهو حال قيامه بين يدى ربه للصلاة. وقوله تعالى: «وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ» - معطوف على الكاف في «يراك» أي يراك في قيامك، ويرى تقلبك في الساجدين.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 185 وتقلّب النبي في الساجدين، هو لقاء المؤمنين في الصلاة. وترديد نظره فيهم، وملاحظة كل منهم، وإعطاؤه حظّه من عنايته ورعايته.. وخصت حال السجود من أحوال المؤمنين، لأنها الحال التي تقربهم من الرسول، هذا القرب، وتنزلهم منه تلك المنزلة.. هذا ما نحب أن نفهم الآية الكريمة عليه.. أما ما يذهب إليه كثير من المفسرين من أن المراد بتقلّب النبي في الساجدين، هو تنقله من الأصلاب الزّاكية إلى الأرحام الطاهرة، منذ آدم، إلى مولده، صلوات الله وسلامه عليه.. فهذا لا يزيد من شرف النبي، إن صحّ، ولا ينقص من قدره، إن لم يصح.. فإن شرفه- صلوات الله وسلامه عليه- فى ذاته، وفيما اختصه الله به من فضله وإحسانه. وقد تحدث القرآن، عن إبراهيم، خليل الرحمن، وأبى الأنبياء، بما يدمغ أباه بالكفر، وبعداوته لله.. كما تحدث عن ابن نوح عليه السلام، بأنه من الذين حق عليهم العذاب! وفي هذا ما يقطع بأن الأنساب لا شأن لها فيما يريد الله بعباده من خير وإحسان، أو ما يرميهم به من بلاء وهلاك..! وفي قوله تعالى: «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» - تأكيد لرعاية الله سبحانه وتعالى، للنبى، وملاحظته له، وأنه في ضمان ربّ عزيز رحيم، سميع عليم.. الآيات: (221- 227) [سورة الشعراء (26) : الآيات 221 الى 227] هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 186 التفسير: قوله تعالى: «هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ» . هو توكيد للنفى الوارد في قوله تعالى: «وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ» .. فهذا النفي كان ردا على التهم التي يرمى بها المشركون النبي صلّى الله عليه وآله من مخالطة الشياطين له، وتآخيهم معه، وأن معه رئيّا منهم يلقى إليه بهذه المقولات التي يحدثهم بها.. فقد كان من تصورات الجاهليين، أن الشياطين والجن يخالطون بعض الناس، ويعيشون معهم، وأن الشعراء خاصة هم أقرب الناس إلى هذا العالم الخفي، وأكثرهم اتصالا به، وأن مع كل شاعر فحل، شيطانا، ينظم له الشعر.. وفي تاريخ الأدب العربي كثير من الشعر الذي ينسب إلى الجن، إذ لم يعلم له قائل.. ومن هذا ما يروى من الشعر في حديث الهجرة وما كان من نزول الرسول- صلى الله عليه وآله- وصاحبه أبى بكر، بأمّ معبد.. ومما يروى من هذا الشعر، قولهم: جزى الله ربّ الناس خير جزائه ... رفيقين حلّا خيمتى أم معبد هما نزلا بالبرّ ثم ترحلا ... فأفلح من أمسى رفيق محمد ليهن بنى كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 187 ومن هذا أيضا، ذلك الشعر الذي قيل إن الجن رثت به أبا بكر.. ومثله هذا الشعر الذي ينسب إلى الجن في رثاء عمر.. وغير ذلك كثير، يمكن أن يجتمع منه ديوان كامل.. فقوله تعالى: «وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ» هو عزل للقرآن الكريم، عن أن يكون من تلك المصادر التي يتلقى منها الشعراء شعرهم، كما يزعم العرب.. ثم إن قوله تعالى: «هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ» - هو عزل للرسول الكريم، عن أن يكون على شاكلة هؤلاء الشعراء الذين يأخذون شعرهم عن الشياطين، كما يزعمون. فالقرآن الكريم، فى علوه الذي لا ينال، أبعد من أن يدخل في وهم الشياطين أن يتطلعوا إليه، وأن يطوفوا بحرمه.. ثم على فرض أنهم أرادوا ذلك- تطاولا وسفها- فإنهم لن يبلغوا من هذا مأربا.. وقد تحدى القرآن الإنس والجن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فقال تعالى: «قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً» (88: الإسراء) فما لهم لا يتصلون بالجن، ويأخذون عنهم مثل ما أخذ النبي؟ وشأن الرسول في هذا شأن القرآن، فهو في مقام عال، وفي حراسة من طهره، وسموه، من أن تلمّ به الأرواح الخبيثة، أو تتعامل معه.. لبعد ما بينها وبينه، وللاختلاف الشديد الذي بين طبيعتها وطبيعته.. إن الشياطين، إنما تتنزل، وتتعامل مع أقرب الناس شبها بها، وأكثرهم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 188 تجاوبا معها، فى الاتجاه إلى غايات الشر، ومواقع الضلال.. «تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ» .. فهذا هو متنزل الشياطين ومهبط وحيهم.. أن يتنزّلوا على أهل الإفك والإثم، وعلى من يتعامل بالإفك والإثم، الذي هو كل بضاعتهم.. وفي هذا يقول الله تعالى: «وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ» (121: الأنعام) والأفّاك: كثير الإفك، وهو افتراء الأحاديث واختلاقها ونسجها من خيوط الباطل والبهتان.. والأثيم: كثير الإثم، وهو المقرف للآثام والمنكرات، دون تحرّج أو تأثّم.. وإذن، فالقرآن- فى ذاته- بمعزل عن الشياطين، لا يدنون منه، ولا يطوفون بحرمه. والنبيّ- فى ذاته- على طبيعة من الصفاء والنّقاء والطهر، لا يقترب منها الشيطان، الذي هو طبيعة خبيثة قذرة، لا تميل إلا إلى الخبث والقذر.. شأن الذباب الذي يتهافت على الأقذار، ويتجنب كل نظيف طاهر! وإذن، فإن ما يتحدث به الرسول لن يكون من تلقيات الشياطين أبدا، سواء أكان ما يتحدث به منسوبا إلى السماء، أو منسوبا إليه. قوله تعالى: «يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ» . الضمير فى «يلقون» يعود إلى الشياطين.. والمراد بإلقائهم السّمع، أنهم يتجهون بأسماعهم إلى الملأ الأعلى، ليسترقوا السّمع، ويتحسّسوا ما يكون من أنباء عن العالم الأرضى هناك.. حتى إذا وقع لهم شىء من ذلك ألقوا به إلى أوليائهم من الإنس، ليضلّوهم، ويجعلوا منهم صنائع لهم.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 189 وقد كان الشياطين يفعلون ذلك قبل نزول القرآن، فيقع لهم شىء من بعض أخبار السماء، فيحدّثون به أولياءهم، حديثا مختلطا، يجمع بين الصدق والكذب، والحق، والباطل، وفي هذا يقول الله تعالى على لسان الجنّ، «وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً» (9: الجن) . وقوله تعالى: «وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ» جملة حالية من الضمير فى «يلقون» أي أن أكثر هؤلاء الشياطين الذين يتسمعون إلى أخبار السماء، كاذبون فيما يلقون إلى أوليائهم من الناس من أخبار، فالمستمع إليهم، والمتلقى عنهم ضالّ، ومضلّ لغيره، إذ يقع في يقينه أن ما سمعه هو الصدق كلّه، فيأخذ به جميعه، فتسوء العاقبة، وينكشف الحال عما يجلب الحسرة والندم.. والسؤال هنا: إذا كان أكثر الذين يتسمعون إلى أخبار السماء كاذبين، فهل هناك قلّة منهم لا تتصف بهذه الصفة؟ والجواب: نعم، فإنّ من الجن، مؤمنين صادقى الإيمان، يتحرّون الصّدق، ويلزمون أنفسهم به، شأنهم في هذا شأن المؤمنين الصادقين من الناس.. قوله تعالى: «وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ» . هو تأكيد لبعد النبيّ صلوات الله وسلامه عليه، عن أن يكون على أية صلة قريبة أو بعيدة من الشياطين، وما يتنزلون به على أوليائهم- إنهم لا يتنزلون إلا على كل أفّاك أثيم.. وقد عرفت قريش فى «محمد» ما لم تعرفه في إنسان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 190 قط، من صدق الحديث، واستقامة السلوك، وطهارة النفس، حتى لقد كانت تلقّبه قبل البعثة بالصادق الأمين. وإذا كانت قريش، وكان الجاهليون عموما، يزعمون أن الشعراء، يتلقون أشعارهم مما يوحيه إليهم شياطينهم، فإن محمدا ليس شاعرا، لا بالقوة ولا بالفعل. فمحمد لم يقل شعرا في حياته أبدا.. لا قبل البعثة ولا بعدها. ومحمد ليس من طبيعته أن يكون شاعرا، كما عرفت قريش من حياته معها، ومعاشرتها له، واطلاعها على كل شأن من شئونه.. إذ كان في بيئة عارية، لا يختفى فيها شىء عن أبصار الناس وسمعهم.. فمحمد أبعد الناس عن أن يكون شاعرا، بطبعه، أو بلسانه.. وهذا الكلام الذي يحدّث الناس به، ليس من واردات الشعر، سواء أكانت نسبته إلى السماء. أم إلى محمد نفسه.. فالقول، الذي تقوله قريش على محمد بأنه شاعر، كما يقول الله سبحانه وتعالى عنهم: «أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» (30: الطور) وكما يقول جلّ شأنه: «بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ.. بَلْ هُوَ شاعِرٌ.. فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ» (5: الأنبياء) - هذا القول الذي تقوله قريش- ساقط، يكذّبه الواقع الذي تعرفه قريش، وتستيقنه من أمر محمد.. وفي هذا يقول الحق جلّ وعلا: «وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ، وَما يَنْبَغِي لَهُ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ» (69: يس) وفي قول تعالى: «وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ» .. إلفات لقريش، إلى هؤلاء الذين اتبعوا محمدا وآمنوا به، وأنهم جميعا كانوا على حال من الاستقامة والقصد، بحيث لا تميل بهم أنفسهم إلى جانب الشعراء، ولا تهفو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 191 طباعهم إلى أن يكونوا في موكبهم، ومن بطانتهم، أو شيعتهم.. وفي هذا دليل مادى آخر، على أن محمدا ليس بشاعر، وأن ما يحدّث به ليس من قبيل الشعر، وإلا لكان أتباعه من الشعراء.. لسانا، وطبيعة.. فالشعراء إنما ينضوى إليهم من كان على شاكلتهم، من أهل الغواية، والبطالة.. وقوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ» .. هو بيان للصفة الغالبة على الشعراء، وأنهم لا يلتزمون الواقع، ولا يتحرّون الصدق، وذلك لما في طبيعة الشاعر من توفّز الشعور، وجموح الخيال، وتقلّب العاطفة.. فيخرج به ذلك كله عن أن يرى الأمور على حقيقتها، بل يلونها بخياله، ويصفيها بمشاعره، ويتعامل معها كما تقع في وجدانه.. ومن هنا جاء القول المشهور: «أعذب الشعر أكذبه» .. كاشفا عن الصفة الغالبة على الشعر، وهو الخيال لذى يلوّن الحقيقة، ويضع عليها من الأصباغ ما يغير وجهها، فيبدو القبيح جميلا، والجميل قبيحا، كما تفعل الأصباغ والألوان التي تلوّن بها وجوه الممثلين، والثياب التي يلبسونها، والشّعر المستعار لرءوسهم، ولحياهم- كما يفعل ذلك كله في إخفاء شخصية الممثل، وإظهاره في الصورة التي يقتضيها الدور الذي يقوم به على مسرح التمثيل.. قوله تعالى: «وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ» .. هو بيان لحال من تلك الأحوال التي تلبس الشعراء التي أشارت التي إليها الآية السابقة: «أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ» .. إذا أن من مقتضى هيامهم في كل واد، أنهم لا يستقرون على حال، ولا يثبتون على رأى، ولا يتقيدون بأى قيد.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 192 ومن القيود التي يتقيد بها الناس- غير الشعراء- قيد الكلمة، وإخراجها من حيّز الكلام إلى عالم الواقع.. أما أن يرسل المرء الكلام هكذا، من غير أن يكون هذا الكلام صادرا عن إحساس به، وتصور له فى صورة عمل يعمله الإنسان، وسلوك يعيش به في الناس، فهو من غير الشعراء، كذب ونفاق، ثم هو من الشعراء خيال، هو من مستلزمات هذا الضرب من الكلام، الذي لا يطلب منه الناس الحقيقة عارية، وإنما يروقهم أن يروها في هذا الجوّ الشاعريّ الحالم!! يروى أن عبد الملك بن مروان سمع الفرزدق الشاعر، وهو ينشد بين يديه هذه الأبيات، من قصيدة له: ثلاث واثنتان فهنّ خمس ... وواحدة تميل إلى شمام فبتن بجانبيّ مصرّعات ... وبتّ أفض أغلاق الختام فقال عبد الملك، يا فرزدق، قد أوجبت عليك حدّ الزنا، ولا بدّ من رجمك، فقال وبم أوجبت عليّ الحدّ يا أمير المؤمنين؟ قال بكتاب الله.. قال فإن كتاب الله يدرأ عنى الحدّ! قال وكيف؟ قال فإن الله سبحانه وتعالى يقول في الشعراء: «وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ» وأنا هنا شاعر، وقد قلت ما لم أفعله! هكذا يرى الشاعر نفسه، وكهذا ينبغى أن يراه الناس! قوله تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» - هو استثناء من الحكم العام الذي أوقعته الآيات الثلاث السابقة، على الشعراء.. ووصفتهم بتلك الصفة الغالبة عليهم، وهي أنهم غواة يتبعهم الغاوون لأنهم يهيمون فى كل واد من أودية الخيال، والضلال، وأنهم يقولون ولا يلتزمون بما يقولون. (م 13- التفسير القرآنى- ج 19) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 193 فهذه هي الصفات الغالبة على أكثر الشعراء، ولكن من الشعراء من غلبت طبيعتهم شياطين الشعر، وقهرت النوازع التي تحركها فيهم هذه الشياطين، فكان لهم من خلقهم، عاصم يعصمهم من الانزلاق في مهاترات الشعراء، ولهوهم ومجونهم، قولا، وفعلا.. وليس هنا عاصم يعصم الإنسان من المزالق والعثرات، مثل الإيمان بالله، والتمسك بآداب الدين وأحكامه.. حيث يجد الإنسان من دينه وازعا يزعه عن الشر، ويمسك لسانه عن الفحش والهجر.. فالذين آمنوا بالله، وذكروا الله كثيرا، أي استحضروا دائما جلاله وعظمته.. هم- وإن كانوا شعراء- مستثنون من تلك الأوصاف التي وصف بها عامة الشعراء، لأنهم ليسوا غواة ولا دعاة إلى غواية. ولأنهم لا يقولون إلا ما يفعلون.. فلا كذب. ولا نفاق.. حيث لا يجتمع الإيمان وذكر الله كثيرا، مع شىء من هذا الضلال.. وفي قوله تعالى: «وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا» .. إشارة إلى ما يكون من الشعراء المسلمين، إذا حاربهم المشركون بالشعر، وسلقوهم منه بألسنة حداد.. فماذا يكون عليه موقف الشعراء المسلمين هنا؟ أيسكتون على هؤلاء الذين يرمونهم بهذه الطعنات المسمومة القاتلة من شعر الهجاء، الذي يشيع على ألسنة الناس، ويصبح حديث المحافل، وسمر السمار، وحداء الحداة، ونشيد الرعاة والصبيان؟ وكيف وفي أيديهم السلاح الذي يفلّ هذه الأسلحة، ويخرس تلك الأفواه التي تنفث هذه السموم؟ ومن أجل هذا فقد أذن الله سبحانه للشعراء المسلمين أن يدفعوا عن أنفسهم هذا الشرّ بالشرّ، وأن يضربوا الشعر بالشعر.. انتصارا من ظلم، وردعا للظالمين.. والله سبحانه وتعالى يقول: «لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ» (148: النساء) ويقول الجزء: 10 ¦ الصفحة: 194 سبحانه: «وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ، فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ» (41: الشورى) . وفي قوله تعالى: «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» .. تهديد لهؤلاء الشعراء من المشركين، الذين يعتدون بشعرهم الآثم على الناس، ويمزّقون الحرمات، ويهتكون الأعراض.. ثم هو من جهة أخرى- تحذير لشعراء المسلمين من أن يعتدوا ويظلموا، وأن يجاوزوا الحدّ الذي يأخذون فيه بحقّهم، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» (190: البقرة) وقد فهم كثير من الناس- ومن المسلمين- نظرة الإسلام إلى الشعر، وإلى الفنون عامة، فهما خاطئا، إذ أخذوا بظاهر النصّ القرآنى، ولم ينفذوا إلى شىء من وراء هذا الظاهر، الأمر الذي يدعونا إلى أن نقف وقفة قصيرة عند هذه القضية، قضية الشعر، وموقف الإسلام منه. (الشعر.. ونظرة الإسلام إليه) الشعر طبيعة في الإنسان، وهو فن من الفنون الإنسانية الجميلة، وليس هناك أمة من الأمم أو جماعة من الجماعات، لم يكن الشعر أداة من أدوات التعبير الجارية على لسانها.. والأمة العربية، بخاصة- كان الشعر إدام حياتها في هذه الحياة القاسية المجدبة، التي كانت تعيش فيها قبل الإسلام..- كما سنعرض لذلك بعد قليل- وإذا كان الشعر على تلك الصفة في حياة الناس، وفي حياة العرب بخاصة، فإن الإسلام بسماحته وإنسانيته، لا يمكن أن يقيم حظرا على هذا المتنفّس، الذي تنطلق منه مشاعر الناس، وتغرد على أوتار ألسنتهم بلا بله..! والذي كان من الإسلام هنا، فى هذا الوصف الذي وصف به الشعراء، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 195 هو تخليص هذا الفن الجميل، مما دخل عليه من تلك الألوان الصارخة من الفحش، والهذر واللغو، حتى تصفو موارده، ويكون للكلمة الصادقة فيه، وزنها وقدرها، فى تربية النفوس، وتقويم الأخلاق، إذ كان للثوب الذي تلبسه الكلمة فى القالب الشعرى، تأثير عظيم في كشف مضمونها، وتجسيد محتواها، حتى لتكاد تتمثل كائنا حيا، يعيش في وجدان السامع، ويتحرك في كيانه.. ومن هنا كان موقف الإسلام من الشعر، قائما على تقديره له، ووزن خطره وأثره في النفوس، وسلطانه على العقول والقلوب.. فإذا لم يقم على هذا الفن حارس من خلق أو دين، كان قوة من قوى الشر المدمرة، التي تأنى على كل صالحة في المجتمع، الذي تتحرك فيه شياطين هذا الفن! وهناك كلمة مضلّلة، وبما أغرت كثيرا من الشعراء- أعنى صغار الرجال من الشعراء- أن يأخذوا بها، وأن يتلقوا الدرس الأول عنها، تلك الكلمة، هى قولهم: «أعذب الشعر أكذبه» يعنون بهذا أن أجمل الشعر وأرقه، ما اصطاد بشباك الخيال، الغرائب والعجائب، وموّه الحق والواقع، بألوان وأصباغ، تغير صورته، وتطمس معالمه، فيرى على غير ما هو.. ومن هنا كان التعامل بالصور التي يرسمها مثل هذا الشعر، مزلقة إلى الضلال، والانحراف عن قصد السبيل! والحق، أن الكذب هو الكذب.. أيا كان الزي الذي يتزيا به.. فى الفنون والعلوم على السواء. وفي المأثور: «ما كان الصدق فى شىء إلّا زانه، وما كان الكذب في شىء إلا شانه» . فكيف يزدان قول أو عمل، يكون الزور لحمته والباطل سداه؟ وإذن فأحق ما ينبغى أن يقال في الشعر- من حيث هو فن رفيع من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 196 الفنون الجميلة- أن يقال: «أعذب الشعر أصدقه» .. فبقدر ما يحمل الشعر من الصدق، بقدر ما تكون عذوبته وحلاوته، وبقدر ما يكون بهاؤه وجلاله.. إن الحق- فى ذاته- مستغن عن الزيف والبهرج، وفي غير حاجة إلى هذا الطلاء المموه، من الزور والبهتان. إن الفنون الرخيصة المبتذلة، هى التي يتستر ضعفها وهزالها، وراء هذا الطلاء الزائف، من الزور والبهتان.. أما الفنون الرفيعة العالية، فهى لا تكون على هذا الوصف من العلوّ والرفعة، إلا إذا كانت حقا خالصا، وصدقا مصفّى وفي الأعمال الفنية المصوغة من الكلمة، أو الحجر، أو الوتر، أو اللون- شاهد لهذا.. فما لبس ثوب الحقيقة منها، فهو الخالد الذي يعيش في الإنسانية، ويطلّ عليها من عليائه، كما يطل شعاع الشمس في يوم قارس البرد، لافح الزمهرير، فينعش النفوس، ويثير المشاعر، ويحرك الهمم، ويشد العزائم.. وعلى عكس هذا، ما تزيا بالكذب والخداع من الفنون، فإنما هو سراب خادع، يلوح في العين ببريقه، فيحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. فصدق الشاعر مع نفسه، وإلزامها طريق الحق- أيا كان وقعه عليه، وأثره فيه- يجعله يصدق مع الناس، ومع الأشياء.. فإذا قال شعرا جاء شعره ممسكا بالصميم من الحق، كاشفا عن أسرار هذا الوجود، فى عوالمه الحية والجامدة، على السواء.. فيحدّث عن دخائل النفس الإنسانية، كما يحدث عن أحلام هذا الحجر الملقى في عرض الطريق! والصدق لا ينزل إلا حيث النفوس العظيمة، التي، تتسع له، وتحتمل تبعاته، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 197 وتقدر على الوفاء به، على المنشط والمكره.. أمّا صغار النفوس فإنها تضيق بكلمة الصدق، وتضعف عن أن تحتملها.. إن طريقها لا تستقيم أبدا مع الطريق المستقيم.. تماما كالجبان يتحرك نحو ساحة القتال، ولقاء الأبطال.. إنه يتقدم ويتأخر، ويستقيم ويلتوى.. وهيهات أن يكون الثعلب والأسد على سواء.. فى مواجهة الواقع وتحديه! وهكذا نجد شاعرا من أصحاب النفوس الكبيرة، كالمتنبى، مثلا، تحمله نفسه الكبيرة على أن يقف موقف النّدّ مع ممدوحه سيف الدولة، أمير الدولة الحمدانية، ولا يرضى أن يكون حاشية من حواشيه.. حتى إذا التقى بكافور صاحب مصر، نظر إليه من سماء عالية، ولم يستطع أن يكتم ما بنفسه، من مشاعر العظمة لذاته، والإحقار لكافور، فيظهر ذلك في كل شعر قاله فيه.. ومن هنا لم يلتقيا على طريق، فافترقا من أول لقاء! وأكثر من هذا.. فإن المتنبي، أبى عليه صدقه مع نفسه، أن يلتزم ما التزمه الشعر العربي من مطالع الغزل في كل قصيدة، مدحا كانت، أو ذما، أو رثاء.. فصرخ من أعماقه تلك الصرخة المدوية، التي رمى بها في وجه هذا الغزل المصطنع، وقال: إذا كان مدح فالنسيب المقدم؟ ... أكل فصيح قال شعرا متيّم؟ بل إنه ليذهب إلى أبعد من هذا، فلم يرتض من أسلوب الحياة إلّا ما كان صميم الحياة ذاتها، ومن واقعها البعيد عن الصنعة والدّخل، حتى إنه ليعيب المرأة المتجمّلة بغير جمال الفطرة، الأمر الذي يكاد يكون طبيعة فى بنات حواء.. فيقول: أفدى ظباء فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب حسن الحضارة مجلوب بتطرية ... وفي البداوة حسن غير مجلوب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 198 والمتنبي في هذا، لا يقول ما لا يفعل، كما هو الشأن الغالب في الشعراء الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم: «وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ» .. بل إنه ليأخذ نفسه بالصدق قولا وعملا، وإنه ليأبى- مثلا- أن يغيّر لون شعره، حين نسخ الشيب سواده.. فيقول: ومن هوى الصّدق في قولى وعادته ... رغبت عن شعر في الرأس مكذوب وقل مثل هذا، فى «أبى العلاء المعرّى» الذي وقف أمّة وحده من الناس، ومن الدهر، موقف التحدّى، قولا، وعملا، فأعلنها حربا مشبوبة الأوار، على كل ما لم يقبله عقله، أو تستسغه نفسه، من آراء ومعتقدات، وعادات، حتى إذا وجد الحياة كلها حربا عليه، انسحب إلى بيته، أو محبسه، وأغلق عليه بابه، وأخذ يرمى الناس والحياة برجوم وصواعق، لا تزال منطلقة إلى اليوم، تدور في كل مدار، وتصدم أو تصطدم بكل ما يعوقها، أو يعترض طريقها. نقول هذا، لنصحح هذا الخطأ الذي وقع فيه كثير من الدارسين للأدب العربي، الذين نسبوا إلى الدعوة الإسلامية، أنها أصابت الشعر العربي في الصميم من حياته، وأنها دمغت الشعراء بهذا الوصف الذي يخرجهم من دائرة الإسلام، وينأى بهم بعيدا عن المثل الفاضلة، التي يتمثلها الإسلام في أهله.! أليس القرآن الكريم يقول في الشعراء: «وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ؟» فأى مسلم حريص على سلامة دينه يرضى لنفسه أن يكون من زمرة الشعراء؟ وعلى هذا فقد حبس كثير من المسلمين في صدر الإسلام، ملكة الشعر التي كانت تغرد في صدورهم، ومن كان منهم شاعرا في الجاهلية، أمسك عن قول الشعر جملة في الإسلام، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 199 ويضربون لهذا مثلا، بالشاعر لبيد، أحد أصحاب المعلقات، ويحكون أنه لم يقل بيتا من الشعر، منذ أن دخل في الإسلام.. هذا وكثير غيره مما يقال، فى موقف الإسلام من الشعر والشعراء.. وهو- فى رأينا- قول يخالف الحقيقة ويظلم الإسلام بتلك التهمة!. فالقرآن الكريم. بأسلوبه المبين المعجز، هو الذي رفع قدر الكلمة العربية، وجعل للبيان العربي هذه المكانة العالية الرفيعة، حتى ليكاد يكون معجزة، لا يلقاه في ميدان الإعجاز، إلا كلمات الله، متحدية، قاهرة.. والشعر العربي، هو مجلى اللغة العربية، ومظهر بيانها، وشاهد بلاغتها.. فكيف يجىء القرآن الكريم، ليقتل هذا الشاهد الوحيد، الذي ينطق بإعجازه، ويحكى عن وجه الإعجاز فيه؟ وإذا مات هذا الشعر العربي، أو اختفى من الميدان، فمن أين يعرف للقرآن الكريم، إعجازه، ومن أين يؤخذ الدليل على مواقع الإعجاز فيه؟ إن القرآن الكريم، إذا وقف وحده في الميدان، فكيف يستدلّ على إعجازه؟ وبم يبين فضله على غيره من الكلام، وليس ثمة كلام غيره؟. وندع هذا، لنقول: إن الإسلام لم يكن له موقف من الشعر العربي، من حيث هو شعر، وإنما كان موقفه هذا، من الشعر الذي غلب عليه الكذب، والذي اتخذ منه أصحابه أسلحة لنهش الأعراض، وفضح الحرائر، وبهت الشرفاء والأمجاد من الناس، وإلباسهم لباس الخزي والمذلة.. ببيت من الشعر، يصير. مثلا في الناس- ويصبح المقول فيه أمثولة.. فلا تقوم له بعد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 200 ذلك قائمة!! فهذا هو الشعر الذي عابه الإسلام، وأبى على المسلم أن يتخذ منه زادا له، لأنه زاد خبيث، تجتمع على مائدته الخبائث.. من كذب، وبهتان، وبغى وعدوان.. وكلها أطعمة يحرّمها الدين، كما تأباها النفوس الطيبة، التي لا تدين بدين!. أما ما طاب من الشعر، وخلص من هذه الخبائث، فإن الإسلام حفيّ به، مكرم له، احتفاءه بالكلمة الطيبة، وإكرامه للقول الطيب. ولقد سجل التاريخ الإسلامى، للصحابة رضوان الله عليهم، مواقف من الشعر الجاهلى، تدل على تقديرهم له، وحرصهم عليه، بل وتعلقهم به!. فعمر بن الخطاب رضى الله عنه، كان يحفظ كثيرا من الشعر الجاهلى، ينشره حينا، ويستمع إليه أحيانا، ويسأل الوفود القادمة عليه، من قبائل العرب، عن شعرائهم، وعن أحسن ما عندهم من شعرهم.. بل وأكثر من هذا، فإن عمر رضى الله عنه- كان إذا حضره موقف من المواقف، وهو يخطب على منبر رسول الله- صلى الله عليه وآله- واستدعى هذا الموقف شاهدا لمعنى من معانى القرآن الكريم، فى بيت من الشعر- استمع إليه، ووعاه، وأخذ به!. روى أنه- رضى الله- قرأ.. وهو على المنبر- قول الله تعالى: «أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ» (47: النحل) - فسئل عن معنى التخوف، فقال، وقيل له.. فقام رجل من هذيل، فقال: التخوف عندنا: النقص.. ثم أنشد: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 201 تخوف الرحل منها تامكا قردا ... كما تخوف عود النبعة السّفن «1» فقال عمر: «أيها الناس.. تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم، فإن فيه تفسير كتابكم» . وأمر ابن العباس- رضى الله عنه- فى موقفه من الشعر الجاهلى، وحفظه له، وإنشاده إياه في مسجد الرسول- أظهر من أن ينبه عليه، فلقد كان صدره- رضوان الله عليه- خزانة هذا الشعر، كما كان قلبه، مستودع القرآن الكريم، حفظا، وعلما. ونشكّ كثيرا في أن أحدا من الصحابة، لم يلتفت إلى هذا الشعر، ويتمثل به في موقف أو أكثر من موقف!. وكيف بعقل أن يكون الأمر في شأن الشعر على غير هذا، وقد كان الصحابة- رضوان الله عليهم- يرون الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- يلتفت إلى الشعر، ويلفت إليه، وإن لم يكن شاعرا، وما ينبغى له أن يكون، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ» (69: يس) . ذلك لأن في الشعر- كما قلنا- خيالا، وفيه شطحات بعيدة مغربة عن الواقع.. وهذا ما لا يطوف منه طائف بآيات الله وكلماته.. ولهذا جاء قوله تعالى تعقيبا على هذه الآية: «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ» . ولكن- مع هذا، فإن في الشعر عيونا متخيرة من الحكمة.. ومن أجل هذا، كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه- يلتفت إلى الشعر، ويلفت إليه   (1) هذا الشعر في وصف ناقة، طالت بها الأسفار، فنحل وبرها، وهزل جسمها.. والتامك: السنام.. والقرد: الذي تجعد شعره من الهزال والضعف والنبع: شجر القسي، والسفن: أداة تنحت بها العصى ونحوها حتى تسوى وتصقل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 202 لغلتقط منه هذه الحكم، وتؤخذ منه تلك الدرر، من بين هذا الغثاء الكثير، الذي كان يحمله هذا السيل المتدفق من الشعر! يروى عن أم المؤمنين عائشة- رضى الله عنها- أنها كانت تقول: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله، كثيرا ما يقول لى: «أبياتك» ! (أي أنشدى أبياتك المعهودة) . تقول السيدة عائشة.. فأقول: ارفع ضعيفك لا يحربنّك ضعفه ... يوما فتدركه العواقب قد نما يجزيك، أو يثنى عليك، وإنّ من ... أثنى عليك بما فعلت فقد جزى ففى هذا الشعر الذي كان يستمع إليه الرسول الكريم، دعوة كريمة من من دعوات البرّ، التي دعا إليها الإسلام.. فلا غرابة في أن يهش الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- لسماعه، والإصغاء إليه. وروى الزبير بن بكار، قال: مر رسول الله صلّى الله عليه وآله، ومعه أبو بكر رضى الله عنه، برجل، ينشد في بعض طرق مكة، هذا البيت: يا أيها الرجل المحول رحله ... هلّا نزلت بآل عبد الدار؟ فقال- صلوات الله وسلامه عليه- يا أبا بكر.. أهكذا قال الشاعر؟ قال لا، يا رسول الله، ولكنه قال: يا أيها الرجل المحول رحله ... هلّا نزلت بآل عبد مناف فقال صلوات الله وسلامه عليه: «هكذا كنا نسمعها «1» » .   (1) أي القصيدة التي فيها هذا البيت، ورويها حرف الفاء.. وبعد هذا البيت: ثكلتك أمك لو نزلت بحيهم ... منعوك من عدم ومن إقراف الجزء: 10 ¦ الصفحة: 203 وأكثر من هذا، فقد كان صلوات الله وسلامه عليه، يستمع إلى الشعر، ويجيز على الطيب العفيف منه، كما استمع إلى قصيدة كعب بن زهير، وكان- صلوات الله وسلامه عليه- قد أهدر دمه.. فلما جاءه مستخفيا وأنشده قصيدته التي مطلعها: بانت سعاد فقلبى اليوم متبول ... متيّم إثرها، لم يفد، مكبول والتي يقول فيها: نبئت أن رسول الله أوعدنى ... والعذر عند رسول الله مقبول هشّ النبي- صلوات الله وسلامه عليه- له، وعفا عنه، وخلع عليه بردته التي كان يلبسها.. وأكثر من هذا فقد كان للنبى صلوات الله وسلامه عليه شعراء، على رأسهم حسان ابن ثابت، يردّون بشعرهم على شعراء المشركين، ويلقونهم في ميدان القول، كما كانوا يلقونهم في ميدان الحرب، وكان- صلوات الله وسلامه عليه- يقول لحسان: «اهجهم وروح القدس معك» !! فكيف يكون روح القدس (وهو جبريل عليه السلام) مع شاعر يقول هذا الشعر الهجائى، ويطعن به في وجوه القوم وأعراضهم؟ أليس ذلك لأنه سلاح من أسلحة الحرب، وأنه بهذا السلاح إنما يقاتل المشركين بمثل أسلحتهم؟ ولهذا جاء قوله تعالى معقبا على آية الشعراء.. «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا» . إن لكل مقام مقالا.. وإذا كان هذا المقام- فى حرب المشركين- يقتضى أن يكون لشعر الهجاء مكانه، فإن للشعر في مقام الخير، والإحسان، مكانا أوسع وأرحب! الجزء: 10 ¦ الصفحة: 204 27- سورة النّمل نزولها: مكية.. نزلت بعد الشعراء.. عدد آياتها: ثلاث وتسعون آية، وقيل أربع وتسعون، وقيل خمس وتسعون. عدد كلماتها: ألف ومائة وتسع وأربعون كلمة. عدد حروفها: أربعة آلاف وسبعمائة وتسعة وتسعون حرفا. مناسبتها لما قبلها كانت الآيات التي ختمت بها سورة الشعراء، دفاعا عن القرآن الكريم، من أن يكون من واردات الشعر، كما كانت دفاعا عن النبيّ، أن يكون من زمرة الشعراء.. فمعدن القرآن، غير هذا المعدن الذي يصاغ منه الشعر، ونسيج القرآن، غير نسيج الشعر.. نظما ومعنى.. والنبيّ على طبيعة تخالف كل المخالفة طبيعة الشعراء.. قولا وفعلا.. سلوكا وخلقا!. وكان بدء سورة «النّمل» .. حديثا عن هذا القرآن، الذي هو منقطع عن كل سبيل يصله بالشعر، حيث أنه هدى وبشرى للمؤمنين الذين يؤمنون به، يتعاملون بأحكامه وآدابه، على حين أن الشعر يقوم عموده على غير هذا الطريق الجادّ المستقيم.. كما كان هذا البدء حديثا عن النبيّ، بأنه بمعزل عن الموارد التي يردها الشعراء، ويملئون دلاءهم منها.. إنهم يأخذون ما توحيه إليهم شياطينهم، على حين أن النبيّ- صلوات الله وسلامه عليه- يتلقى هذا القرآن وحيا من لدن حكيم عليم.. «وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ» . فالمناسبة بين بدء سورة النمل، وختام سورة الشعراء، ظاهرة، والالتحام بينهما. قويّ، كما ترى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 205 بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 6) [سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) التفسير: يلفتنا هذا البدء الذي بدئت به هذه السورة إلى ما بدئت به سورة «الحجر» فقد كان بدء سورة «الحجر» هكذا: «الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ» على حين جاء بدء النمل كما ترى. «طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ» . فقد اختلفت صورة النظم فيهما، بالمغايرة بين وضع الألفاظ المشتركة بينهما، هنا وهناك.. فالكلمات في الآيتين واحدة، هى آيات، والكتاب، وقرآن، ومبين. ولكن نظم هذه الكلمات في السورتين قد اختلف، فقدم هنا ما أخر هناك. وإنه لا بد من سرّ وراء هذه المغايرة بين وضع الألفاظ، فى الآيتين. تلك آيات القرآن وكتاب مبين (النمل) . تلك آيات الكتاب وقرآن مبين (الحجر) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 206 أذلك لأن اختلاف الحروف المقطعة التي بدئت بهما السورتان، اقتضى هذه المغايرة في نظم الكلمات المشتركة بينهما..؟ فكان من المناسب للحرفين: الطاء والسين، أن يجىء بعدهما.. «تلك آيات وقرآن وكتاب مبين» كما كان من المناسب للأحرف: ألف، لام، راء، أن يجىء بعدها.. «تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ» ؟ قد يكون هذا، ولكن لا مفهوم له عندنا، مادمنا عاجزين عن فهم الدلالة القاطعة لهذه الحروف المقطعة.! والذي يبدو لنا وراء هذا السر المختفى، الذي لا سبيل إليه، والذي ندع تأويله للراسخين في العلم- هو أن الآيتين تصوران صورة واحدة- للقران الكريم.. فالقرآن، والكتاب، آيات.. مقروءة، أو مكتوبة.. والقرآن.. هو كتاب مبين.. وقرآن مبين.. وهذا يعنى أن القرآن يجب أن يدوّن، ويكتب في صحف، احتفاء به، وحرصا عليه.. وهذا يعنى أيضا، أن هذا الكتاب الذي تدوّن فيه آيات الله، ينبغى أن يقرأ، ويتعبد بقراءته.. وأنه ليس الغرض من كتابته مجرد الكتابة للصيانة والحفظ، وإنما ليكون بموضع أنظار المسلمين في كل وقت. وهذا يعنى مرة ثالثة.. ألا يقف القارئون لآيات القرآن، أو المرتلون لها، عند حدود القراءة أو الترتيل، بل يجب أن يفقهوا آياته، وأن يتدبروا كلماته، وأن يلتسموا عندها البيان لكل ما خفى عنهم، سواء كانوا قارئين أو مرتلين.. فآياته بينة لمن يقرأ أو يرتل.. إنه قرآن مبين، وكتاب مبين.. فمن لم يجد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 207 البيان فيما يقرأ أو يرتل منه فما أعطى القرآن أو الكتاب حقّه. قوله تعالى: «هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ» هو بيان لما في القرآن من هدى وبشرى، لمن يؤمن بهذا القرآن، ويتدبر آياته، حيث يجد في آياته البينة ما يكشف له معالم الطريق إلى كل ما هو حق، وخير، وإحسان، وحيث يصله القرآن بالملأ الأعلى، ويصل حياته الدنيا، بالحياة الآخرة، وما أعد الله من جنات النعيم للمؤمنين، الذين سكن الإيمان قلوبهم، فامتثلوا ما أمرهم الله به، واستقاموا على طريقه المستقيم، فأقاموا الصلاة على وجهها، وأدوا الزكاة على ما أمر الله أن تؤدّى عليه، واستيقنوا أن هناك حياة آخرة، وأن فيها حسابا وجزاء، وجنة ونارا.. فعملوا لهذا اليوم العظيم بما ينجيهم من هوله، وبدنيهم من رحمة الله ورضوانه.. قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ» العمه: الضلال، وعمى البصيرة.. والآية هنا تكشف عن الوجه الآخر، المعتم الضال، من وجهى الإنسانية، للقابل للمؤمنين بالله واليوم الآخر.. وهو وجه الذين لا يؤمنون بالآخرة.. وأنه إذا كان فى القرآن الكريم هدى وبشرى للمؤمنين، فإن هذا القرآن لا يزيد الكافرين الضالين إلا كفرا وضلالا.. وقوله تعالى: «زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ» - إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى قد أحلاهم لأنفسهم، وما توسوس لهم به أهواؤهم، فرأوا السيّء حسنا، والقبيح الجزء: 10 ¦ الصفحة: 208 جميلا، والشرّ خيرا» والله سبحانه وتعالى يقول: «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً» (8: فاطر) . - وقوله تعالى: «فَهُمْ يَعْمَهُونَ» أي يعشون عن طريق الهدى، فلا يقيمون وجوههم عليه، بل يتخبطون في ظلمات الجهل والضلال. وفي قصر عدم إيمانهم، على الآخرة، ما يشير إلى أن الإيمان بالآخرة لا يكون إلا بعد الإيمان بالله.. فمن لم يؤمن بالله، وبقدرته على البعث، فلن يؤمن أبدا يبعث أو حساب وجزاء، أو جنة ونار.. قوله تعالى: «أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ» . هو الجزاء الذي يلقاه المكذّبون بالآخرة، الكافرون بالله، الذين أعمتهم أهواؤهم وشهواتهم عن أن يفكّروا، ويتدبروا في خلق السموات والأرض، وأن يستمعوا إلى آيات الله التي تتلى عليهم.. قوله تعالى: «وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ» . هو بيان لمتنزّل القرآن، وأن هذا المتنزّل هو مقام عال لا ينال.. فالله سبحانه وتعالى، هو الذي ينزّل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده.. وهذا القرآن هو منزّل من ربّ العالمين.. وإذن فالقول بأن القرآن شعر، هو باطل الأباطيل، حيث لا وجه للشبّه بينه وبين الشعر، من حيث نظم الكلام، ومحتوى هذا الكلام،، وما يحمل من معان. وفي وصف الله سبحانه وتعالى في هذا المقام، بهاتين الصفتين: حكيم، وعليم.. إشارة إلى ما في القرآن من حكمة وعلم.. حكمة، فى تقرير الحقائق، وفي وزن التكاليف، ورسم الحدود الشرعية، وضبط ذلك كله بميزان دقيق، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 209 يضع الإنسان بموضعه الصحيح، فيعطى منه للجسد حقه، وللروح مطلبه.. وعلم، يحيط بكل شىء، ويمسك بأسباب كل شىء.. فلا يرى الأمر- مهما صغر- إلّا في مواجهة الوجود كلّه، حيث يأخذ مكانه فيه، وبهذا تكون الرؤية موصولة بماضى هذا الأمر، وحاضره، ومستقبله، جميعا..! الآيات: (7- 14) [سورة النمل (27) : الآيات 7 الى 14] إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) التفسير: قوله تعالى: «إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 210 بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» الظرف «إذ» متعلق بمحذوف يدل عليه قوله تعالى: «وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ» أي مما يلقيه عليك الحكيم العليم، ما كان من أخبار الرسل،، وها نحن أولاء نلقى عليك خبرا من أخبار موسى.. «إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً» . آنس النار أحسّها، ووجد من إحساسه بها أنسا، وهو في وحشة مطبقة من صمت الصحراء، وظلام الليل.. فلما رأى النار استشعر الأنيس عندها، وأحسّ الأنس من جهتها، إذ لا توقد نار إلا وعندها من أوقدها، ليستدفئ بها، أو يهيىء لنفسه طعاما عليها.. وفي قول موسى لأهله: «سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» ما يشير إلى أنّ موسى لم يكن على بيّنه من أمر هذه النار، وهل سيجد عندها أحدا أم لا.. فقد تكون بقية نار أشعلها قوم أول الليل ثم ارتحلوا عنها.. ولهذا فهو يتردد فيما سيجيئ به إلى أهله منها.. فهو إن لم يجد عندها أحدا، فلا أقلّ من أن يجىء بجذوة.. أي قطعة من النار.. لعلهم يصطلون بها، أي يستدفئون. وقد جاء ذكر هذا الحدث في غير هذا الموضع هكذا: «إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا.. إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً» (10: طه) . وجاء في موضع ثالث هكذا: «آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا.. إِنِّي آنَسْتُ ناراً.. لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» (29: القصص) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 211 والصور الثلاث التي صور بها هذا الحدث، هى صورة واحدة، وإن استقلّت كل صورة بملامحها ومشخّصاتها.. فعناصر هذا الحديث هى: موسى، والنار، وأهله، وما قال لأهله، وما عوّل على النتاسه من النار.. أما موسى.. فإنه قد رأى نارا.. وقد ذكرت هذه الرؤية في هذين الموضعين حكاية عن موسى ولم تذكر في الموضع الثالث، اكتفاء بالإشارة إليها فى الموضعين المذكورين.. فجاء في سورة طه: «إِذْ رَأى ناراً» . وجاء في سورة القصص: «آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً» . وهاتان الصورتان تمثلان الواقع أدق تمثيل، وأكمله.. فأول ما كان من موسى أنه رأى نارا.. مجرد رؤية.. ثم دخل عليه من هذه الرؤية أنس واطمئنان.. ثم كان بيان المكان الذي رأى فيه النار، وهو «جانب الطور» مما تتم به الصورة، التي سيكون لها شأن في نسيج الحدث كله.. وكان من تدبير موسى إذ رأى النار، أن ينطلق إليها وحده، وأن يدع أهله حيث هم، لأنه لا يدرى من يكون عند النار، وهل هم ركب مسافر، أم قطّاع طريق؟ .. إن من الحكمة أن يذهب وحده، ويتحسس الأمر، من غير أن يقحم أهله، ويدفع بهم إلى هذا المصير المجهول.. فينطلق وحده، بعد أن يعلن أهله بهذا.. ويصور القرآن الكريم، هذه الجزئية، من هذا المشهد في ثلاثة مواضع.. فى سورة النمل هكذا: «إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ.. إِنِّي آنَسْتُ ناراً» . وفي سورة طه: «إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا.. إِنِّي آنَسْتُ ناراً» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 212 وفي سورة القصص: «آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً.. قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً» وهذه المقولات الثلاث هي من مقولات موسى، وليست من قبيل التكرار لقولة واحدة.. فهذا ما لا يكون في القرآن الكريم.. فهو إذ يرى النار، فى هذا المكان القفر، المظلم الموحش- تعروه حال من النشوة، وتأخذه الفرحة.. فيلقى إلى أهله بهذا الخبر المسعد.. إنى آنست نارا.. امكثوا.. إنى آنست نارا.. امكثوا.. إنى آنست نارا.. إنها فرحة من جاءه الخير على يأس.. أشبه بالطالب يدخل الامتحان، ويخرج منه، وهو على يأس من النجاح، ثم إذا به يرى نفسه في الناجحين، فينطلق بلا شعور، يحدث كلّ من يلقاه: نجحت! أنا نجحت.. أنا نجحت!! كأنه يريد أن يمسك بهذا النجاح أن يفلت منه، بعد أن ظفر به على يأس! وفي قوله لأهله: «امكثوا» «امكثوا» - هو تأكيد لهم بأن يظلوا مكانهم، وألا يتحولوا عنه، بحال.. يقول هذا، وهو منطلق إلى حيث رأى النار.. وفي تحرك موسى نحو هذه النار.. يلقى إلى أهله، الذين أمرهم بالانتظار، بما يريد من انطلاقه هذا.. إنه منطلق، وإنه لعائد إليهم.. «سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ..» (النمل) «لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ.. أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً..» (طه) «لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ..» (القصص) إن هذه المقولات جميعها، هى مما ألقى به موسى إلى أهله.. مما كان يجرى فى خاطره، وهو يتجه نحو هذه النار.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 213 وإذا أخذنا هذه المقولات بترتيبها هذا- الذي لم يقم على حساب عندنا، إذ لا سبيل إلى تحقيق هذا الترتيب- نقول إذا أخذناها بهذا الترتيب، وجدنا أن موسى كان أول أمره عند رؤية النار، فى حال من الدّهش، والنشوة، لم يتبين معها الموقف على وجهه، فوقع في نفسه ما كان في شوق إليه، وهو العثور على من يؤنسه في هذا المكان الموحش، فلما رأى النار أمسك بهذا الأمل الذي طلع عليه منها، ورآه شيئا محققا، فقال لأهله على سبيل القطع.. «سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» .. ثم ماهى إلا لحظة حتى يطرقه الشعور المضادّ لهذا الأمل المحبوب أن يفلت من يده، فقال لأهله: «لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ.. أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً» .. على سبيل الرجاء، لا القطع.. ثم هو لا يجيئهم بشهاب قبس، بل سيجيئهم بقبس!! لقد تضاءل هذا الشهاب الساطع من الأمل، فصار مجرد قبس.. ثم يعاوده الأمل مرة أخرى، ولكن بصورة تجمع بين الرجاء والقطع بهذا الرجاء: «لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» ! هذا، وإن لك أن تغير من أوضاع هذه المقولات الثلاث، فتقدم وتؤخر، وإذا هي في كل حال، تصوير دقيق لمشاعر الإنسان، فى مثل هذا الموقف، الذي يحوطه القلق والاضطراب، وتغمره الوحشة، ويحتويه الظلام.. وهذا التصوير الدقيق لأحوال النفس، ومسارب الخاطر، لا يمكن أن يكون في صورة كلامية، إلا في كلمات القرآن، ولا يمكن أن يحتمله نظم غير نظم القرآن! ثم إنه- فى القرآن- لا يكون على صورة مقبولة مع هذا التكرار، إلا إذا جاء موزعا، كما هو واقع في هذه المعارض الثلاثة، وإلا تراكمت ألوان الصورة وتدافعت، وغطى بعضها وجه بعض! الجزء: 10 ¦ الصفحة: 214 قوله تعالى: «فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. أي وحين اقترب موسى من النار، سمع نداء، لا يعرف مصدره، ولهذا جاء الفعل مبنيا للمجهول: «نودى» والنداء الذي سمعه هو أن هذه النار نار مباركة، قد بورك فيها، ويورك فيمن حولها من عوالم، جامدة، أو حية، وهذا يعنى أن موسى، قد مسّته هذه البركة، إذ كان فيمن حول النار. وقد جاء في سورة طه: «نُودِيَ يا مُوسى.. إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً» وجاء في سورة القصص: «نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ..» (30) وواضح أن هذه النداءات الأربع قد تلقاها موسى في هذا الموقف. فأولا: نودى هذا النداء المجهول، ومن غير أن يذكر اسمه.. وإنما سمع نشيدا علويّا، يحدث عن هذه النار بأنها نار قد بورك فيها وفيمن حولها.. «أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها..» وثانيا: أتبع هذا النداء بنداء آخر أكثر وضوحا وتحديدا: «يا مُوسى.. إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ثم أتبع ذلك بناء ثالث.. «يا مُوسى، إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» . ولا شك أن هذه النداءات تثير كثيرا من الاضطراب والفزع، فى هذا الجوّ الرهيب.. فكان النداء الرابع والأخير: «يا مُوسى.. إِنِّي أَنَا رَبُّكَ.. فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ.. إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى» فهذا النداء، يدعى به موسى إلى ربه، ويضاف إليه، ثم يؤمر بما ينبغى أن يكون من أدب، فى لقاء ربه، والاستماع إلى خطابه!. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 215 وواضح أن هذه النداءات المتكررة، مصحوبة بذكر الله.. «يا موسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ.. إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي» «يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» «يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. واضح أن هذه النداءات المتكررة في سرعة وانطلاق.. على أي ترتيب تكون عليه.. إنما اقتضاها هذا الموقف الذي اهتزّ له موسى من أقطاره، فكان صوت الحق سبحانه وتعالى في هذه النداءات المتكررة، سكنا لقلب موسى، وإمساكا لنفسه التي تكاد تذهب شعاعا. وفي كل نداء كان يذكر «موسى» باسمه، وفي هذا تطمين له، وأنه إنما ينادى ممن يعرفه، ويعرف أحواله.. وإذن، فلا خوف عليه.. الأمر إذن جدّ ليس بالهزل، وما يسمعه موسى هو حقيقة، وليس وهما، ولا حلما.. وإذن فعلى موسى أن يستيقظ، وأن يصحو صحوة مشرقة لاستقبال هذا العطاء العظيم.. قوله تعالى: «وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ.. يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ» . الجانّ: فرخ الحيات، وهو أخفها حركة، وأسرعها انطلاقا على الأرض.. وقد جاء في سورة طه: «فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى» .. وهذا يعنى، أن العصا صارت حيّة في ضخامتها، وجانّا في سرعتها، وخفّتها، ولهذا وصفت بأنها «تسعى» فالحيات حين تكبر وتضخم: لا تكاد تتحرك من مكانها، فضلا عن أن تسعى. وقوله تعالى: «وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ» أي انطلق مسرعا، فأعطاها ظهره، وأطلق ساقيه للريح.. فرارا من هذا الهول الذي طلع عليه من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 216 تلك العصا التي كانت خشبة جامدة في يده منذ لحظات.. وفي قوله تعالى: «وَلَمْ يُعَقِّبْ» .. إشارة إلى أنه لم يتراجع إلى الوراء قليلا، على عقبه، حتى ينكشف له الأمر، ويتبين إن كان سيقبل أم يدبر.. بل إنه اتخذ هذا القرار دون شعور، إذ لم يكن له أمام هذا الهول وقت يفكر فيه.. ثم هل هناك ما يحتاج إلى تفكير؟ إنه رأى واحد، وهو الفرار من الهول العظيم! وقوله تعالى: «يا مُوسى لا تَخَفْ.. إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» . هو صوت الحقّ، الذي تبع موسى في منطلقه هذا، وأمسك به على طريق الفرار، وأنزل على قلبه الطمأنينة والسكينة.. إنه ليس وحده مع هذا الثعبان العظيم.. وهذا هو صوت الحق يملأ هذه الوحشة أنسا، ويحيل هذا الفزع والهلع طمأنينة وأمنا.. «يا مُوسى.. لا تَخَفْ» .. وإنّ كلمة «موسى» لتفعل فعلها في هذا الموقف، إذ أن المنادى يعرف موسى. وإذن فلا يخاف منه، لأنه في حضرة من يعرفه، ومن كان من شأن هذه المعرفة لا يجىء منها ما يسوء.. إن الإنسان في مثل هذا العالم الموحش ليتلمس أي وجه كان له به معرفة، من قريب أو بعيد. من إنسان، أو حيوان أو جماد.. إن أي شىء من هذا، يبعث الأنس، ويذهب بكثير من وحشة الغربة..! ويفىء موسى، إلى شىء من الطمأنينة، ويذهب عنه كثير مما استولى عليه من الخوف.. «يا مُوسى.. لا تَخَفْ» ..! ثم لا تكاد نوازع الخوف تعود إلى موسى مرة أخرى. بعد أن سكت هذا النداء المؤنس، حتى يجئ النداء مرة أخرى يملأ الوجود كله من حوله: «إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ» .. وهنا يعلم موسى أنه قد اختير لرسالة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 217 سماوية من رب العالمين، وأنه سيدخل مدخل الرسل، منذ ذلك الوقت.. والمرسلون لا ينالهم من الله ما يخيفهم، ولا يطلع عليهم في حضرته إلا ما يؤنسهم، ويملأ كيانهم رضا وأمنا.. ثم لا يكاد موسى، يسعد بهذه البشرى، التي يجد بها نفسه في حضرة الله سبحانه وتعالى، حتى يعود فيسمع من قبل الحق جل وعلا: «إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» ..!! وهنا تدور في رأسه الظنون، وتتحرك في صدره الوساوس المتسائلة: ما هذا الاستثناء الذي يزعجه عن هذا المكان الذي اطمأن فيه إلى جوار ربه، وإلى ما وجد من أنس وروح في ظلال فضله وإحسانه؟ أهو من الظالمين، الذين لا يستحقّون أن ينزلوا هذا المنزل؟ أهو مطالب بأن يبدّل حسنا بعد ما كان منه سوء، حتى ينال عفو الله ومغفرته؟ إن الاستثناء لا شك واقع على المرسلين.. فهل من المرسلين من يظلم؟ وهل كان موسى- وهو من المرسلين- ممن ظلم؟ نذكر هنا حادثة موسى، مع المصري الذي قتله..! فقد قتل موسى، المصري خطأ، حين وجده يعتدى على إسرائيلى.. كما يقول الله سبحانه وتعالى: «وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ» (15- القصص) وقد استشعر موسى الندم على هذه الفعلة.. فقال: «هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ» .. ثم طلب المغفرة من ربه لهذا الذنب الذي ارتكبه.. «قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي.. فَغَفَرَ لَهُ.. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» (16: القصص) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 218 فهذا الاستثناء يذكّر موسى بهذه الحادثة التي كانت منه، كما يذكّره بأن الله قد غفر له..! وأكثر من هذا، فإن موسى سيدعى من ربه في هذا الموقف إلى لقاء فرعون، وما زالت نفسه تفيض بمشاعر الخوف التي وقع فيها من قتل المصري، وأنه مطلوب من فرعون ليقتله، بهذا المصري، وهو من أجل هذا قد فر من وجه فرعون، كما يقول الله تعالى: «فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ» (18: القصص) أي يترقب القصاص منه.. ثم جاء من ينصح له بأن يخرج من المدينة، ويطلب النجاة لنفسه بالفرار منها.. «فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ» (21: القصص) .. فهذا هو شعور موسى، وهذا ما يطلع عليه من مخاوف، إذا هو دعى إلى لقاء فرعون.. وقد كان من تدبير الله سبحانه وتعالى، أن يصفّى هذه المشاعر من نفسه، قبل أن يحمّله رسالته إلى فرعون.. فقد ظلم موسى نفسه فعلا بهذا الذي كان منه من قتل المصري.. ولكنه ندم، ورجع إلى الله تائبا مستغفرا، وقد غفر الله له..! وإذن فلا خوف عليه، لأنه من المرسلين، والمرسلون فى رعاية الله وحراسته.. إن موسى سيدخل في تجربة قاسية مع فرعون، إذ يحمل إليه دعوة من الله، بأن يؤمن بالله، وبأن يطلق بني إسرائيل من يده، ويرسلهم مع موسى، إلى حيث يخرج بهم من سلطان فرعون! وإن الخوف من فرعون ليكاد يكون كائنا يعيش مع موسى.. حتى إنه، مع هذا الأنس الذي وجده فى حضرة به، ومع هذا الوعد بأنه من المرسلين الذين يحرسهم الله، ويدفع عنهم ما يخيفهم- مع هذا كله، فإنه ما يكاد يتلقى أمر ربه: «اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى» (24: طه) حتى تطل عليه وجوه الخوف من كل جهة، فيقول الجزء: 10 ¦ الصفحة: 219 «رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ» (33: القصص) . وإذن فقد كانت هذه المواجهة لموسى بفعلته، وبمغفرة الله له، وبذهاب كل أثر لهذه الحادثة- كانت هذه المواجهة من تدبير الحكيم العليم، لانتزاع هذا الخوف، الذي غاصت جذوره في أعماق موسى وخالطت وجوده. قوله تعالى: «وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» . وتجربة أخرى، يجريها موسى، بعد تجربة العصا، وهي يده، التي كانت تمسك بهذه العصا.. إن يده هذه نفسها، يمكن أن تكون شيئا آخر، كما كان ذلك شأن العصا. العصا يلقيها على الأرض.. فإذا هي جانّ، وإذا هي ثعبان مبين، وإذا هى حية تسعى.. ويده.. ماذا يفعل بها؟ إنه يدخلها في جيبه، أي يدسها في صدره، تحت ثوبه، إذ يدخلها من جيبه- أي الفتحة التي يلبس منها الثوب- ثم يخرجها، فإذا هي بيضاء بياضا ناصعا، مشرقا، «من غير سوء» أي ليس هذا البياض عن داء كداء البرص مثلا، وإنما هو بياض يشّع نورا، ويتلألأ صفاء.. كما تتلألأ اللائي. وقدّمت تجربة العصا، على تجربة اليد، لأن العصا- مهما كان التحول الذي يحدث لها- لا تثير في نفس موسى من رعب ما تثيره يده، وقد تغيرت صفتها على هذه الصورة التي تحولت إليها.. إنه مع العصا، قد استطاع أن يجد لمخاوفه مهربا.. فولى مدبرا، يبتعد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 220 عن موطن الخطر الذي تمثله منها.. أما مع يده، فكيف السبيل إلى مهرب منها؟ ولكنها إذ جاءت بعد تجربة العصا، وبعد أن ذهبت مخاوفه، فإن أمرها يكون هينا محتملا! وقوله تعالى: «فِي تِسْعِ آياتٍ» .. أي أن هذه الآية، آية اليد، واحدة من تسع آيات، أو في اطار من تسع آيات، هى جميعا أشبه بآية واحدة.. فى إعجازها، وتحديها لقوى البشر جميعا.. وهذا هو السر في حرف الجر «فى» الذي يفيد الظرفية. وقوله تعالى: «إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ» .. الجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: هذه اليد آية، تدخل في تسع آيات تحملها إلى فرعون وقومه. وقد كانت الدعوة هنا موجهة إلى فرعون وقومه: «فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ» على حين جاء الأمر في بعض القصص بلقاء فرعون وملائه: «فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ.. إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» .. (32: القصص) أما في سورة طه، فقد كانت الدعوة إلى فرعون وحده: «اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى» . والسرّ في هذا والله أعلم، أن موسى، حين لقى فرعون لأول مرة، لقيه فى حاشيته ثم مع سحر له، وما حشد من جموع ليوم المعركة، بين موسى، والسحرة.. ولم يظهر موسى من الآيات التي بين يديه، إلا العصا، ويده.. ولهذا كان الذين شهدوا هاتين الآيتين، هم أعداد قليلة.. هم فرعون وحاشيته، وخاصة أتباعه، فناسب أن يكون فرعون وحده، أو فرعون والملأ حوله هم الذين يذكرون في مواجهة هاتين المعجزتين. أما الآيات التسع، وفيها العصا واليد، فقد شهدها القوم جميعا، ووقع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 221 أثرها، على الشعب كله، وشمل ملك فرعون جميعه، فناسب أن يذكر القوم، مع فرعون، لأن هذه الآيات التسع موجهة إلى فرعون وقومه جميعا. والآيات التسع، هى العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، والجدب، والعقم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ.. آياتٍ مُفَصَّلاتٍ» (133: الأعراف) وقوله سبحانه: «وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» (130: الأعراف) .. فالسنون هي سنو الجدب، التي تغيض فيها مياه النيل، وتجف مياه الآبار والعيون.. ونقص الثمرات، هو العقم، الذي أصاب الزروع، والحيوان، والإنسان.. وكان هذا وذاك آية من آيات الله..! وقد شملت هذه الآيات فرعون وقومه جميعا. وقوله تعالى: «إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» - إشارة إلى كان عليه القوم من ضلال، وفسق، أي خروج عن جادة الطريق، إذ كانوا جميعا متابعين لفرعون، وعلى إيمان بألوهيته.. «وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى» . (79: طه) . قوله تعالى: «فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ» . وصف الآيات بأنها مبصرة، إشارة إلى ما فيها من هدى مشرق واضح، وأنها تكاد تكون عيونا شاخصة تبصر، وتقود العمى إلى الحق، وإلى طريق مستقيم.. قوله تعالى: «وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا.. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 222 عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ» .. الجحد، والجحود: الإنكار، القائم على المكابرة، والتحدّى للحق والواقع. والاستيقاز: التثبت من الشيء، ورؤيته رؤية كاشفة محققة.. فالقوم، قد أنكروا هذه الآيات، وتنكروا لها، ورموها بالسحر والخديعة، مع أنهم في قرارة أنفسهم على غير هذا الذي تنطق بهم ألسنتهم في شأنها.. إنهم يرونها أبعد ما تكون عن السحر، وأنها مما لا تطوله يد بشر.. ولكن لما عندهم من جرأة على العدوان، واستكبار على الخضوع للحق، والولاء له.. أنكروا هذا الذي يجدونه في دخيلة أنفسهم لهذه الآيات. وقوله تعالى: «فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ» .. الأمر هنا هو إلفات للنبى، ولكل من عنده استعداد للنظر السليم في وجه الحق وتقبله.. فالذى ينظر، بعين مبصرة، إلى ما حل بهؤلاء القوم، يرى العبرة فيما أخذهم الله به، وأن مصرعهم كان حتما مقضيا به، على كل من يذهب مذهبهم، ويأخذ طريقهم، الذي لا يصلح عليه أمر من يسير عليه، لأنه طريق فاسد، لا يرى عليه إلا المفسدون.. الآيات: (15- 19) [سورة النمل (27) : الآيات 15 الى 19] وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 223 التفسير: [سليمان.. والنملة.. والهدهد] مناسبة هذه القصة، لقصة فرعون، هى أن الله سبحانه وتعالى، يبتلى بنعمه من يشاء من عباده، فمنهم من يكفر بهذه النعم، ويتخذ منها أسلحة يحارب بها في مواقع الحق، والخير، ويضرب بها في وجه المحقين والأخيار من عباد الله.. ومنهم من يتلقى هذه النعم بالشكران لله، والولاء لطريق الله، ولمن يسلك هذا الطريق من عباده.. فهذا فرعون يمكّن الله له في الأرض، ويبسط له الرزق، فيتحول من إنسان إلى شيطان مريد، وإلى إعصار عاصف، يأتى على كل ما يزرع في منابت الحق والخير.. ثم يبعث الله إليه نبيا كريما، يحمل إليه دعوة كريمة، فى رفق ولين، حتى إن الله سبحانه وتعالى- كرما منه، وفضلا- يوصى رسوله أن يتلطف، ويترفق بهذا الإنسان، الذي ملأء الغرور، واستبد به الكفر، فيقول له الحق جل وعلا: «اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى؟ وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى؟» (17- 19: النازعات) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 224 فيلقى هذا النداء الكريم، وهذا اللطف اللطيف بهذا العناد اللئيم، الذي وصفه الله تعالى في قوله: «فَكَذَّبَ وَعَصى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» (21- 24 النازعات) . وعلى غير هذا تماما، كان موقف عباد الله المؤمنين، الذين يعرفون لله قدره، ويذكرون له فضله.. ومن هؤلاء داود وسليمان.. عليهما السلام.. لقد آتاهما الله خير ما يؤتى الإنسان من فضل وإحسان، وهو العلم، الذي من ملكه، ملك أقوى ما على هذه الأرض من قوة، يستطيع بها أن يستولى على سلطان هذا العالم كله.. ومع هذا، فإنهما استقبلا هذه النعمة الجليلة العظيمة، بالحمد، والشكر، والولاء لله، وخفض الجناح لعباد الله، ولكل ما خلق الله.. حتى إن سليمان عليه السلام، وهو في أروع مظاهر سلطانه، وفي أعظم مجالى قدرته وقوته، يقف بين يدى أضعف مخلوقات الله، وهي النملة.. فيأخذ منها العبرة والعظة، وينظر من خلال ملكها إلى ملكه العريض، فيرى أن لها سلطانا كسلطانه، وملكا كملكه، وسياسة رفيقة رحيمة، أروع وأعظم من سياسته، فلا يملك إلا أن يخشع لسلطان الله بين يديها، ويسبح بحمده وجلاله. فيقول في محراب ملكها الذي تسبح فيه بحمد الله: «رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ» ! فأين موقف فرعون، من هذا الموقف؟ وأين الأرض من السماء؟ وأين الباطل من الحق، والعمى من الهدى؟ وأين أعداء الله من أولياء الله؟. وفي قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً» إشارة إلى أن الذي أعطاهما الله إياه من العلم، هو- على عظمته وجلاله- شىء قليل، لا يكاد يذكر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 225 إلى مالله سبحانه وتعالى من علم، وهذا ما يدل عليه تنكير كلمة «علم» .. فهو علم قليل قليل، مما عند الله من علم.. وفي قوله تعالى: «وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ» - إشارة أخرى إلى أن العلم الذي كان عندهما، هو وإن علوا به عن كثير من عباد الله، فإن في عباد الله من أوتى علما أكثر من علمهما.. فهما أكثر من كثير من الناس علما، وأقل من بعض الناس علما.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ» (76: يوسف) وبهذه النظرة كانا ينظران إلى علمهما، وأنهما لم يستوليا على غاية العلم، مما هو متاح للناس، وإنما أخذا حظا كبيرا من هذا العلم. قوله تعالى: «وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ، وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ» . ميراث سليمان لداود، هو وراثة الملك من بعده، دون إخوته.. ثم اختياره للنبوة، فى قومه، كما كان أبوه نبيا فيهم.. فالملك وراثة، والنبوة اصطفاء، لا ميراث. وقد جمعهما الله سبحانه لسليمان، كما جمعهما لداود.. فتلقى سليمان من الله ما كان لداود من ملك ونبوة، وكان بهذا قد ورث أباه فى كل ما كان له من ملك ونبوة. وقوله تعالى: «وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ» .. هو تحدث بنعمة الله عليه، واستعراض لهذه النعم التي أسبغها الله عليه، ليكون في ذلك داعية له إلى القيام بشكرها، ورعايتها حق الرعاية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 226 وفي الحديث عن نفسه «بنا» الدالة على الجمع، فى قوله «علمنا» .. «وأوتينا» .. هو دعوة إلى الناس، أن يشاركوا معه في هذا التحدث بنعمة الله، والاستعراض لأفضاله، فما هو إلا واحد من هؤلاء الناس، وما الفضل الذي فضل الله به عليه، إلا فضل يأخذ منه الناس حظهم، فلا يختص به نفسه، وإنما هم شركاء له، فيما يعود عليه من هذا العلم لمنطق الطير، ولهذه النعم التي أوتى منها كل شىء! .. وهكذا شأن أهل العلم، وأرباب الجاه والسلطان من عباد الله.. إن ما يفتح الله عليهم به من علم، وما يمكّن لهم به من جاه وسلطان في هذا الوجود، هو خير متاح للناس جميعا، وتمكين لخلافتهم على هذه الأرض.. - وقوله تعالى: «وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» أي أوتينا من كل شىء من أشياء هذه الدنيا مما ينصلح به أمرنا، ويقوم عليه وجودنا، وسلطاننا.. فهو لم يؤت كل شىء، وإنما أوتى شيئا من كل شىء هو في حاجة إليه.. قوله تعالى: «وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ.. فَهُمْ يُوزَعُونَ» الحشر: الجمع والحشد.. يوزعون: من الوزع، وهو السوق، والدفع، بفعل قوة خارجة، أو طبيعة غالبة.. وقد ذكر من جنود سليمان هنا: الجن، والإنس، والطير.. إذ كانت هى القوى العاملة معه في دولته.. فالجن كانوا مسخرين له، فى عمل ما يريد منهم.. «يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ» (13: سبأ) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 227 والإنس: هم من تضمهم دولته من رعيته. والطير: هى أجناس من الطيور، التي تعيش في جو مملكته، ويسخرها لخدمته.. وبهذا يكون له ملك ما على أرض مملكته، وما في جوها.. وطبيعى، أنه ليس كلّ الجنّ قد سخروا لسليمان، وإنما بعضهم، شأنهم فى هذا شأن الناس.. فليس كل الناس، كانوا في سلطان سليمان.. وإنما هم الذين كانوا يعيشون في دائرة مملكته.. وكذلك الطير.. فليس كلّ الطير كان مسخرا له.. وإنما هي بعض الطيور التي كانت تعيش في هذه الملكة.. وكان سليمان يستعرض وجوه مملكته.. من الجنّ، والإنس، والطير، ويحشدهم بين يديه، بسلطانه، الذي مكن الله سبحانه وتعالى له به، فى هذه الرعايا، فلا يقدر أحد على أن يخرج عن هذا السلطان، الذي يزع هذه الرعايا، ويأخذ من يخالف منها بالعقاب الذي يستحقه! وفي ثمان كلمات صوّر هذا العرض العظيم، الذي جمع عوالم الجن والإنسان، والطير، وحشرها في موقف واحد، وجىء بها من كل صوب، فى حركة هادفة منتظمة، أشبه بحركات الأفلاك في مداراتها، يمسكها نظام، وتظلها سكينة وجلال.. «وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ» .. ثمانى كلمات لا غير، يقوم بها هذا المشهد، الذي تعجز أدوات البيان والتصوير كلها عن أن تأتى له بنظير، وأن تمسك بهذه الروعة وهذا الجلال. فهذه الكلمات الثمان، قد استدعيت بها كل هذه الحشود الحاشدة، من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 228 الجن، والإنس، والطير، وقد أمسكتها يد القوة القادرة بكلمة واحدة.. هى «يوزعون» التي قامت على هذه الأمم مقام الحرس والقادة، فى أحدث ما عرفت الجيوش من حراسة، وضبط، وقيادة! قوله تعالى: «حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» . «حتى» إشارة إلى غاية من غايات للسيرة التي يسير إليها سليمان، بهذه الحشود التي احتشدت له، من الجنّ والإنس والطير.. وقد انتهت به هذه الغاية هو وجنوده إلى «واد النّمل» أي قرية من قراه، حيث يعيش النّمل جماعات، وفي نظام أشبه بنظام المجتمع الإنسانى! وقد أراد سبحانه وتعالى، أن يصغّر في عينى سليمان هذا الملك العريض الذي بين يديه، وأن يكسر من حدّة هذا السلطان المندفع كالشهاب، لا يمسكه شىء، ولا يعترض سبيله معترض، وذلك كى لا يدخل على نفسه شىء من العجب والزهو.. فتقف له النملة هذا الموقف الذي يرى منه سليمان عجبا عاجبا.. فيرى سليمان من النّملة ما لم ير أحد من جنده، ويسمع منها، ما لم يسمعه أحد غير النمل الذي يعيش معها.. «يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» .. هذا هو صوت النذير، الذي أنذرت به النملة جماعتها.. إن الهلاك مقبل على جماعة النمل، من هذه الحشود الحاشدة، التي تسير في ركب سليمان.. فلتأخذ الجماعة حذرها، ولتدخل مساكنها، وتنجحر في مساربها، وإلا فالهلاك المحقق! وممن هذا الهلاك؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 229 من جماعة عالية، لا تنظر إلى ما تحتها، ولا تلتفت إلى مواطىء أقدامها، ولا تشعر بما تصيب أو تقتل، من تلك الكائنات الضعيفة! وهل يشعر من يسكن القصر، بما يعانى ساكن الكوخ؟ وكم في دنيا الناس من المستضعفين من تطؤهم أقدم الأقوياء، دون أن يشعروا بهم، وهم في طريقهم إلى التمكين لسلطانهم، والاستزادة من جاههم وقوتهم؟ وكم من مجتمعات بشرية بأسرها جرفها تيار عات من تيارات الطغاة والمستبدّين؟ وكم من مدن عامرة دمّرتها رحى الحروب التي يوقد نارها من يملكون الحطب والوقود؟ وكم؟ وكم؟ إنها حكمة بالغة، ودرس عظيم، تلقيه «النملة» - أضأل مخلوقات الله، وأقلها شأنا- على الإنسانية، فى أحسن أحوالها، وأعدل أزمانها، وأقوى سلطانها!. ولكن أين من يتعظ ويعتبر؟ ولقد أخذ سليمان العبرة والعظة..! فحاد بركبه عن وادي النّمل، وهو يضع ابتسامة على فمه، ويرسل ضحكة رقيقة واعية من صدره، ويحرك لسانه بكلمات شاكرة، ذاكرة فضل الله، ونعمته.. فيقول: «رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ» .. ومن شكر النعمة، حراستها من أن تكون سلاح بغى وقهر. ومن العمل الصالح، إرسال هذه النعم في وجوه الخير والإحسان. إن للنملة سلطانا كسلطان سليمان، ودولة كدولته، وجندا كجنده.. ثم إنها تقوم على هذه الدولة وترعاها رعاية الأم لأبنائها، وإنها لتضع عينها دائما على مواقع الخير، ترتاده لرعيتها، وإلى مواطن الشر، فتدفعها عنها، وتحذرها منها.. فهل تجد رعايا سليمان في ظله، مثل هذه الرعاية التي تجدها جماعة النمل في ظل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 230 هذا السلطان الحكيم؟ وهل تنال رعيته مثل هذا العطف والحنو الذي تناله جماعة النمل من ملكتها؟ إن مقاييس الحكمة والرشاد لا تقاس بالكم ولا تحسب بالعدد.. ومتى كانت المعاني كمّا وعددا؟ والعجب أن مشيخة المفسّرين يدعون مثل هذه المعاني الدقيقة، التي جاءت هذه القصة وأمثالها لها، من حيث الوقوف على مواقع العبرة والعظة فيها، ثم يشغلون أنفسهم، ويشغلون الناس معهم، بالبحث عن النملة، وهل هي ذكر أم أنثى، وعن الموضع الذي كانت فيه مملكتها، واسم الوادي الذي قامت فيه تلك المملكة.. ثم اسم النملة!! إي والله اسم النملة!! حتى لكأنها لا تكون نملة إلا إذا حملت اسما لها، وحتى لا يكون منها هذا التدبير لمملكتها إلا إذا كانت من ذوات الأسماء!! ثم ما أكثر الأسماء التي تجلب لها من كل واد من أودية الخيال.. فمن أسمائها «حرس» وأنها من قبيلة بنى الشّيصان، وأنها كانت عرجاء، وكانت في حجم الذئب.. وقد لسب هذا القول إلى الحسن البصري! ومن أسمائها «طاخية» و «منذرة» ! وهكذا تكثر لها الأسماء والصفات، حتى لتخرج عن أن تكون نملة من هذه النّمال التي يعرفها النّاس، وحتى ليخرج بها ذلك عن أن تكون موضعا للعبرة والعظة!! الآيات: (20- 27) [سورة النمل (27) : الآيات 20 الى 27] وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 231 التفسير: وما يكاد سليمان يخرج من هذا الموقف الذي وقفه مع النملة، حتى يلقاه موقف آخر، مع طائر، وديع لطيف، أقرب إلى النملة في لطفها، وحسن مدخلها للأمور التي تعالجها.. وهو «الهدهد» . وكأن سليمان قد نسى هذا الموقف الذي كان فيه مع جماعة النمل منذ قليل، وزايلته تلك المشاعر التي وقعت في نفسه هناك.. وها هو ذا يلبس سلطان الجلال، ويمسك بصولجان الملك، ويضرب بسيفه! «وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» . الهدهد.. هذا الطائر الوديع المسكين.. يتخلّف عن هذا الحشد، ولا يحضر هذا الحفل، فيتوعّده، صاحب السلطان بأشدّ العذاب والنقمة! «لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً.. أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ.. أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» !! أما للهدهد عذر يمكن أن يقوم لتخلفه هذا، ويدفع عنه هذا العذاب؟ ألا يجوز أن يكون مريضا؟ ألا يصح أن يكون قد وقع في شباك صائد؟ ألا يعرض للهدهد ما يعرض للناس من أمور تعطل إرادتهم، أو تدفع بهم إلى غير الجزء: 10 ¦ الصفحة: 232 ما يريدون؟ ألا سأل سليمان عن الهدهد أولا، وطلب إلى بعض جنده أن يأتوه بالخبر اليقين عنه؟ ألا اطمأن إلى سلامته قبل أن يسأل عن تأخره عن أخذ مكانه في هذا الحشد؟ وماذا يغنى الهدهد في هذا الجمع العظيم؟ وماذا يجدى أو يضير إذا هو حضر أو تخلف، وبين يدى سليمان من الحشود والقوى مالا حصر له؟. إنه سلطة السلطان، وناموس الملك.. الطاعة والولاء، لحساب الطاعة والولاء، ولسلطان الهيبة والجلال..! وفي قول سليمان: «ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ» - هو علم من علم سليمان الذي آتاه الله.. فهو حين ينظر فلا يرى الهدهد، يتهم نفسه أولا، ويتشكك في أن تكون حواسه قد خدعته: «مالى لا أرى الهدهد؟» ولم يقل: «أين الهدهد؟» ولم يقل: «إن الهدهد غائب!» .. وهذا هو شأن أصحاب العلم، إذا التمسوا حقيقة من الحقائق، فلم يجدوها بين أيديهم، تشككوا في أسلوب تفكيرهم الذي لم يصل بهم إلى الحقيقة، ثم أعادوا البحث والنظر.. حتى يجدوا ما يطلبون.. أما إذا التمس المرء الحقيقة ثم لم يجدها، ثم كان ذلك مدعاة له إلى إنكارها، فذلك ليس من أسلوب العلماء، ولا من طرق تحصيل العلم. فسليمان، إذ لم ير الهدهد.. وقف موقف الشك. حتى ينجلى الموقف.. إنه لم يره، وقد يكون موجودا، وقد يكون غائبا! ثم استبان له بعد هذا، أن الهدهد غائب! .. ومن هنا كان هذا الوعيد بالعقاب الأليم له! ويطلع «الهدهد» على سليمان بما لم يكن يحتسب، ويهجم عليه، وهو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 233 الأعزل الضعيف، بسلطان أقوى من سلطانه، وجيش أعز وأقوى من جيشه، وعلم أكثر وأشمل من علمه.. «فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ.. فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ. وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ» !! لقد انقلبت الآية، وانعكس الوضع. وها هو ذا «الهدهد» الضعيف الأعزل، الذي تنتظر هذه الحشود الحاشدة من الجن والإنس والطير، مصيره، ومصرعه، بين مشفق، وشامت، ولاه- هذا الهدهد، يحاكم سليمان، وينتقص قدرته، ويتهمه بالقصور عن أن يرى ما حوله، وأن يدير هذه القوى التي بين يديه الدعوة إلى الله، وهداية الضالين من عباده، لا في هذه المظاهر الاستعراضية، التي لا ثمرة لها.. لقد حاكم، هذا المخلوق الضعيف الأعزل، ملك الملوك في عصره.. حاكمه، ووضعه موضع الاتهام، وهو في أبهة ملكه.. وعلى أعين الملأ من جنده.. من الجن والإنس والطير!! «إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ، فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» ! فلم يكن هذا الطائر الضعيف الصغير، مجرد مكتشف، وعالم، بما لم يعلم به سليمان وحسب، بل إنه كان داعية إلى الله، وإلى الإيمان به.. فهو ينكر على المشركين شركهم، ويسفه أحلامهم، ويحقر آلهتهم وما يعبدون من دون الله!. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 234 إنه يدين سليمان في هذه الإنسانية الضالة، التي ينتمى إليها سليمان، باعتباره واحدا من عالم الناس! ثم ماذا بقي لسليمان من فضل على هذا المخلوق الضعيف؟ إن سلطان سليمان- كملك- قصر عن أن يمتد إلى ما وصل إليه سلطان الهدهد، وأحاط به علمه!. وإن دعوته كنبيّ.. لا تقوم على أكثر من هذه الدعوة التي يدعو بها الهدهد.. وإن حجته على دعوته، ليست بأقوى من حجة هذا الهدهد! فماذا بقي للإنسان في أكمل صوره، وأحسن أحواله، وأعلى منازله.؟ ماذا بقي له من فضل، على أضعف مخلوقات الله وأقلها شأنا.. كالنملة والهدهد؟ إن جهل الإنسان بأسرار هذا الوجود، هو الذي يخيل إليه أنه سيّد هذا العالم، وأنه قد علم مالم يعلمه غيره من مخلوقات الله.. وهذا- لا شك- رحمة من رحمة الله بالإنسان.. إذ لو انكشف له الغطاء عن أسرار هذا الوجود، وما أودع الخالق في مخلوقاته من عجائب وأسرار- لمات الإنسان حسرة وكمدا، على ضآلة شأنه، وكثافة جهله، ولانطفأت في نفسه شعلة الأمل التي تدفىء صدره، وتغريه بالاندفاع وراء المجهول، لكشف الستر المحجّب وراءها، ولوقف من هذا الوجود موقف الذليل المهين أمام سلطان جليل مهيب.. وصدق الله العظيم: «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» . (85: الإسراء) ولعل خير شاهد لهذا الذي نقول، ما يعانيه الغرب اليوم من قلق نفسى، وحيرة فكرية، واضطراب سلوكيّ.. ومرّد هذا كله- فيما نرى- إلى هذا القدر الضئيل، الذي انكشف للعقل من أسرار الوجود، دون أن يرتبط ذلك بالإيمان بالله، وإضافة هذا إلى علمه وقدرته، وإبداعه في خلقه.. فكان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 235 الأثر المباشر لهذا، هو ضمور شخصية الإنسان، وصغاره، وضآلة شأنه بين عوالم الوجود.. وليست هذه النظرات المتشائمة، التي قامت عليها هذه المذاهب المادية السوداء، التي يعيش فيها الغرب اليوم- ليست إلا أثرا من آثار هذه الكشوف العلمية، التي ألقت أضواء خافتة على أسرار هذا الوجود، فظهر الإنسان فى شعاعاتها المضطربة المتراقصة، كأنه حشرة حقيرة، أو دودة هزيلة، أو قرد خلقه الله ليتسلى به في أبديته الطويلة المملة، كما يقول كبير الفلاسفة «نيتشه» !. ونعود إلى القصة! فهذا سليمان، يلقى الهدهد، بعد أن تلقى منه هذا الدرس القاسي- يلقاه بشىء من اللطف والموادعة، فيقول له: «سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين» . وسليمان يعلم أن الهدهد صادق فيما جاء به من ألباء! ومن أين تعرف الطيور الكذب، وليس بينها وبين الإنسان قرابة أو نسب؟ «سليمان» ، يعلم أن الهدهد شهد بما علم، وتحدث بما رأى، ولكن سلطان الملك تخرج كبرياؤه إن هو تعرّى أمام الرعية.. فكان من السياسة أن يلقاه بهذا القول الذي ينبىء عن أن سليمان ما زال هو صاحب الدولة والسلطان.. «سننظر!!» .. إنها كلمة صاحب الأمر، وقاموس أرباب السلطان! وفيم سينظر؟ إنه سينظر في أمر هذا «الهدهد» .. أصدق فيما يقول.. أم كان من الكاذبين؟! إنها كلمة جارحة، تكلم فؤاد هذا «المخلوق» .. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 236 وتجرح كرامته.. إنه في معرض الاتهام بالكذب!! وإنه لا يزال واقعا تحت سيف العقاب الراصد له!! وأكثر من هذا، فإن سليمان لم يقل له: أصدقت أم كذبت، فيكون اتهامه واقعا على تلك الحادثة، وإنما رماه بهذه الكلمة «أم كنت من الكاذبين» أي ممن شأنهم الكذب في كل حال.. إنه إحقار للهدهد، وإلقاء به إلى التراب، بعد أن ارتفع في عين هذه الحشود الحاشدة بسبب ما جاء به من أنباء الآيات: (28- 44) [سورة النمل (27) : الآيات 28 الى 44] اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 237 التفسير: ولا ينظر سليمان شاهدا يجىء به الهدهد، ليشهد له بصدق ما يقول، ولا يسمح له بمزيد من الوقت، يعرض فيه مزيدا من علمه، وبيانه، وحكمته، أمام هذه الرعية، التي تفف كلها في ولاء وخشوع بين يديه.. فكيف لهذا المخلوق الضعيف أن يصول ويجول، ويعرض من علمه ما لم يكن لسليمان به علم؟ وأين إذن صولة الملك وصولجانه؟ وأين هيبته وأين سلطانه؟ لقد قطع سليمان على الهدهد السبيل إلى هذا المرتقى الذي ارتقاه.. وبكلمة واحدة آمرة، أنزله من هذا المكان، وأزاله عنه.. وسرعان ما أصبح الهدهد، فى هذا الوضع الذي كان له بين أبناء جنسه.. جنديا من جنود سليمان، وخادما من خدمه.. وها هو ذا يتلقى من سليمان أمرا بالذهاب إلى حيث يريد منه أن يذهب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 238 «اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ» . وإلى هنا ينتهى دور الهدهد في القصة، ويغرب وجهه الذي كان منذ لحظات، الوجه الذي تعلقت به أنظار مملكة سليمان كلها، فلا يرى له أحد وجها، بعد هذا!! ولا تتعرض القصة لشىء من رحلة الهدهد إلى سبأ، يحمل كتاب سليمان إلى القوم، كما لا تذكر شيئا عن ملكة سبأ، وهي تجد كتاب سليمان بين يديها، وما وقع في روعها من هذا الأمر العجيب، الذي طلع عليها من حيث لا تدرى! كما لم يذكر القرآن ما كان بينها وبين أهل سرها من حديث في هذا الحدث العظيم.. كل ذلك لم تعرض له القصة القرآنية، فتلك أمور مقدر لها أن تقع حتما، على صورة أو أكثر من صورة.. وفي هذا الفراغ يتحرك ذهن القارئ، وتستيقظ مشاعره، حيث يرى لزاما عليه أن يملأ هذا الفراغ بأية صورة يجدها مناسبة لهذا المكان، وبهذا يتاح للناس- فى كل زمان ومكان- أن يتصوروا ويتخيلوا، وأن يشاركوا بهذا التصور والتخيل، فى بناء القصة، وألا يظلوا في عزلة عنها، غرباء عن مجريات أحداثها.. وبهذا تتقيد الخواطر بالقصة، وتتفتح لها المشاعر، ويستيقظ لها الوجدان، الأمر الذي تتكشف به مواقع العبرة والعظة منها.. وتنتقل القصة إلى مشهد جديد.. فهذه ملكة سبأ، قد دعت إليها وجوه القوم في مملكتها، ثم ها هي ذى تطلع عليهم بهذا الكتاب الذي ألقى إليها، وتفضى إليهم بما فيه!. «قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 239 ولأول مرة نعرف- نحن النظارة- مضمون هذا الكتاب الذي حمله الهدهد.. إنه رسالة من ملك إلى ملكة.. والهدهد، وهو حامل هذه الرسالة، ليس من شأنه أن يسأل عن مضمونها، وليس من وضعه في القصة أن يعرف محتواها.. وبهذا ظلت الرسالة سرا محجبا، حتى بلغت الجهة الموجهة إليها.. وهذا تدبير تقضى به الحكمة والكياسة، وتفرضه أصول الحكم ومقتضيات السياسة. ومن جهة أخرى.. فإن الملكة كذلك، لم تفصح لقومها عن الأسلوب الذي بلغتها به هذه الرسالة، ولم تكشف عن وجه الرسول الذي حملها إليها.. بل ألقت إليهم الخبر مجهّلا هكذا: «إنى ألقى إلى كتاب كريم» وفي هذا التجهيل للمصدر الذي جاء بالكتاب، ما فيه من إيحاءات كثيرة بأنها الملكة الساهرة على رعيتها، الحافظة لأمن دولتها، وأنها تملك من القوى الخفية التي لا يراها قومها- ما يعينها على ضبط أمورها وحياطة شعبها.. وهكذا يضفى على الملكة بهذه الحركة البليغة البارعة، جلال فوق جلالها، وروعة فوق روعة سلطانها.. وفي وصف الرسالة بأنها كتاب كريم، أدب من أدب الملوك، تقابل به الملكة ما في الرسالة من أدب النبوة والملك معا.. فقد كانت الرسالة موجزة العبارة، وضحة المعنى، بيّنة القصد، لا تحمل وعيدا، ولا تهديدا، وإنما تحمل دعوة إلى السلام والإسلام.. وحين يستمع القوم إلى هذا الخبر الذي ألقت به الملكة إليهم، تدور الرءوس، ويكثر الهمس، واللغط وتتقلب العيون، تتفرس في الوجوه، وما انطبع عليها من آثار لهذا الخبر المثير!. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 240 ويجىء صوت الملكة حازما محكما، يقطع مسارب الخواطر، ومجريات الأفكار: «يا أَيُّهَا الْمَلَأُ.. أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ» .. إنها لم تدعهم إليها لتلقى إليهم بهذا الخبر لمجرد العلم به، وإنما ليشاركوها الرأى فيه، وليشيروا عليها بما ينبغى أن تواجه به هذا الموقف.. صورة كريمة، للحاكم الحكيم.. الذي يتوخى الخير، والأصلح لرعيته.. فلا يبرم أمرا إلا عن رأى ومشورة، يشارك فيها أهل الرأى والمشورة.. «ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ» أي حتى تشهدوا معى هذا الأمر، وتروا فيه رأيكم.. «قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ» .؟ وصورة كريمة نبيلة للمحكومين، الذين يبادلون الحاكم إخلاصا بإخلاص، وحبا، بطاعة وحب معا!. ومع هذا، فإنها لم تشأ أن تقطع برأى، بعد أن فوض إليها القوم الرأى والأمر.. بل جاءت تعرض عليهم وجهة نظرها.. «قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ» . وهنا فراغ كبير تتركه القصة ليملأه القوم بهمساتهم وهمهماتهم، ومحاوراتهم.. وإذ لم يرتفع صوت يعارض هذا الرأى الذي تراه الملكة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 241 فى الملوك، وتعنى بالملوك هنا، الملوك الذين كانوا على دولة سليمان.. مثل طالوت، وداود، وسليمان.. وهذا يعنى أن الملكة كانت على علم بأحوال سليمان ودولته، وما بين يديه من سلطان، على حين لم يكن لسليمان علم بها، وبما عليه سلطانها!!. - نقول إن الملكة إذ لم تر صوتا يرتفع بمعارضة رأيها هذا، صرّحت بما اعتزمت أن ترد به على تلك الرسالة.. «وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ» . إنها حركة تريد بها اختبار ما عند سليمان، وتستطلع النية التي ينتوبها معها.. وتنتقل أحداث القصة من سبأ إلى بيت المقدس، فى لحظة خاطفة.. وها نحن أولاء نرى الرسول وما معه من هدايا بين يدى سليمان.. «فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ.. قالَ: أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ.. فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ» . لقد وقع ما كانت تقدره الملكة، وما كانت تحذّر قومها منه: «إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً» .. وقد رجع مبعوثهم الذي بعثوا به إلى سليمان لينقل إليهم ما تهددهم به: «فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ» .. ثم تجرى الأحداث لاهثة متلاحقة.. فما كاد رسول الملكة يبرح مجلس سليمان، حتى يسبقه سليمان إلى تنفيذ وعيده الذي توعدهم به.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 242 «قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ، فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ» . انظر كيف تجرى الأحداث منطلقة كأنها ومضات برق خاطف؟ فهذه القوى الهائلة المسخرة لسليمان، تتسابق إلى تلبية ندائه، وتحقيق رغباته.. وأنت ترى هنا عظمة هذا السلطان وروعته، حيث يطلب سليمان الشيء، فتتزاحم بين يديه القوى القادرة على تنفيذه، وتتخاضع وتتخاشع بين يديه، ثم لا يحوجه الأمر- مع هذا- أن يتكلف له كلمة واحدة يقولها، أو إشارة يشير بها.. وإنما هو يأمر، فيجد ما أمر به حاضرا عتيدا بين يديه! «قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ» . ولم يفعل سليمان شيئا، وإنما وجد العرش الذي طلبه مستقرّا عنده! والعفريت من الجن، هو أقوى جماعة الجن وأشدهم بأسا.. والذي عنده علم من الكتاب. قد يكون أحد رعايا سليمان، من الذين أخلصوا دينهم لله، فأتاهم الله من العلم ما يقدرون به على ما لا يقدر عليه الجن.. وقد يكون سليمان نفسه، وهو الأرجح عندنا، وذلك لأمور منها: أولا: أن سليمان أراد بقوله «يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 243 مُسْلِمِينَ» .. أراد أن يلفت الملأ إلى تلك المعجزة القاهرة التي سيظهرها الله على يديه.. فدعا من عنده قوة منهم، أن يتصدى لهذا الامتحان، وأن يأتيه بالعرش.. وكان العفريت من الجن، هو الذي ندب نفسه لامتثال هذا الأمر، فقال: «أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ» .. وكان هذا آخر ما في جهد الملأ من إنس وجن وطير أن تفعله.. وهنا واجه سليمان هذه القوة التي أذهلت الجمع بما مكن الله له من قوة، وما آتاه من علم، فقال مخاطبا صاحب القوة الخارقة: «أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ» .، فهذا الخطاب للعفريت، هو خطاب للجماعة كلها في شخصه، إذ كان هو ممثل أقوى قوة بين يديها. وثانيا: أن الله سبحانه وتعالى ذكر في آية سابقة أنه آتى داود وسليمان علما، فقال تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً..» فبهذا العلم فعل سليمان ما فعل، وبهذا العلم اتصل سليمان بالعوالم الأخرى، فعرف لغة الطير، وسمع همس النملة، واطلع على ما يجرى في محيطها. وثالثا: قوله تعالى على لسان سليمان: «فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ» ، هو إقرار بفضل الله عليه، أن آتاه هذا العلم، الذي صنع به هذه المعجزة! أما الكتاب، فهو كتاب الله، وهو ما في اللوح المحفوظ من خزائن علمه.. فمن هذا العلم يتلقى أهل العلم علمهم: «وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» .. وفي هذه الحادثة يتجلى فضل العلم، وما يبلغ به أهله من مقامات عالية، تتخاضع بين يديها كل قوة، يذل لها كل سلطان. إذا كان هذا العلم من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 244 موارد الحق، وجرى في قلوب سليمة ونفوس طيبة.! وإن الإنسان بهذا العلم يقهر أعتى قوة خفية، هى الجن. والذين يستكثرون على العلم أن ينقل عرش ملكة سبأ من اليمن إلى الشام فى غمضة عين، والذين يقفون من هذا الخبر القرآنى موقف التوقف، أو التشكك أو الاتهام، حسبهم أن ينظروا في آيات العلم الحديث، وما حقق من معجزات في عالم المادة، حيث ينقل صور الأشياء من سطح القمر إلى الأرض في لحظة خاطفة على لوح «التليفزيون» .. فإذا كان هذا هو سلطان العلم المادي على المادة، فهل ينكر أن يكون سلطان العلم الروحي على المادة أضعاف ما للعلم المادي عليها؟ إن العلم المادي ما هو إلا إشارة خافتة من إشارات العلم الروحي، وليس إلا ومضة خاطفة من سناه المتألق! أما كيف يتم هذا، فإن تصوره ممكن- فى ضوء العلم المادي-! فالمادة كما نعرف- وكما أشرنا إلى ذلك من قبل، هى نور، تجسد من اجتماع الذرات، وتركيبها على وجه خاص، وإذا كان ذلك كذلك، فإنه من اليسير على العلم الروحي أنه ينفخ في أية صورة من صور المادة، فتتحول إلى ضوء، ثم يستقبل هذا الضوء في أي مكان يريده، فينفخ فيه مرة أخرى فإذا هو على صورته الأولى. ومن يدرى! فلعل العلم المادي يبلغ يوما، شيئا من هذا الذي في مجال العلم الروحي!. ونعود إلى القصة: وها هي ذى ملكة سبأ بين يدى سليمان.. وقد دبر لها سليمان امتحانا، يختبر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 245 به عقلها وذكاءها.. «قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ» .. لقد أجرى سليمان بعض التغيير في عرشها، دون أن يمس الصميم منه.. وحين ترى الملكة هذا العرش، ويسألها سليمان: «أَهكَذا عَرْشُكِ» ؟ لم تشأ أن تقطع برأى، فهو أشبه شىء بعرشها فعلا.. ولكن كيف انتقل عرشها، وقد خلفته وراءها في مسيرتها إلى سليمان؟. ثم هي من جهة أخرى تعلم ما مع سليمان من قوى تفعل الأعاجيب، وتأنى بالمذهلات.. ألم تأتها رسالته على يد جند من جنوده، هو الهدهد؟. فكان جوابها هذا الجواب الحكيم، الذي توسط الأمر، فلم تنف ولم تثبت، بل قالت: «كَأَنَّهُ هُوَ» ! وقد أعجب سليمان بهذا الرد الذكي الحصيف، وعدّه من آيات العلم، وثمرة من ثمراته.. فذكر بذلك، العلم الذي آتاه الله فقال، فيما بينه وبين نفسه. «وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ» ! ولم يقف بسليمان العجب من ذكاء الملكة، وعقلها عند هذا الحد.. بل إنه رأى أن هذا العقل الكبير، وما وعى من علم، كان جديرا به أن يهدى صاحبته إلى الإيمان بالله، وأن يقيم وجهها للدين القيم.. فكيف لم تؤمن بالله؟ وكيف تسجد للشمس من دون الله؟ أهذا ما يقضى به هذا العقل الكبير ويقبله؟ ويطمئن إليه؟ لا بد أن في الأمر شيئا! وينظر سليمان، فيرى الآفة التي تسلطت على هذا العقل، فاغتالت منطقه، وأفسدت عليه وجوه الرأى، حتى ضلت صاحبته هذا الضلال، وركبت هذا السفه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 246 إن موروثات الآباء والأجداد، من الضلال، هى التي غلبت على هذا العقل وما فيه من ذكاء، وما اجتمع له من علم..! «وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ» . أي حجبها عن الإيمان بالله، ما نشأت على عبادته من دون الله، لأنها ولدت في قوم كافرين، فورثت الكفر عنهم، ونشأت عليه منذ طفولتها، فخالط عقلها، وسكن في مشاعرها! .. وتلك هي الآفة التي تسلطت على عقول كثير من ذى العقول، فأفسدتها، وأضلتها عن سواء السبيل.. وهذا من شأنه أن يدعو الإنسان إلى طلب التحرر من موروثات الآباء والأجداد، وأن يعيد بناء عقله- متى بلغ الرشد- على البحث والنظر، فما رآه صالحا، قبله، وما وجده فاسدا، دفعه وتخلى عنه.. وحين وجد سليمان نفسه أمام هذا العقل الذكي، لم يشأ أن يدخلها في دين الله بسلطانه عليها، وامتلاكه لأمرها، بل رأى أن يقودها إلى الإيمان بعقلها، لتتعرف إلى الله سبحانه وتعالى بنفسها، فيكون هذا أقوم لدينها، وأثبت لإيمانها.. ِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» .. والصرح هو البناء العالي المزخرف، وسمى بذلك لأنه صريح خالص من الشوائب والعيوب.. والممرد: الأملس، ومنه الأمرد، وهو الذي لم ينبت شعر عارضيه.. إن هذا الصرح الذي دعاها سليمان إلى دخوله، والذي حسبته- لصفائه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 247 ونقاء جوهره- لجة ماء رقراق- هذا الصرح لا يمكن أن يقوم بيد بشرية، ولا يمكن أن يكون من صنع بشر.. إنه من قوة فوق قوة الإنسان، ومن تدبير فوق تدبيره.. وإذن فهى أمام معجزة قاهرة.. لا يستطيع العقل السليم إلا أن يسلم بها.. وإذن فلا بد من التسليم.. وقد سلّمت.. وإذن فلا بد من أن تؤمن بمن آمن به سليمان، وأن تعبده.. وقد آمنت! فقالت: َبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» . وانظر كيف كانت ثقتها بسليمان، بعد أن أراها من آيات الله التي بين يديه، ما جعلها تطمئن إليه، وتصدق دعوته بأنه نبى.. ولهذا فإنها تبادر إلى الإيمان بالله من قبل أن يدعوها إليه، لأنها قد عرفت أن سليمان على الحق، ومع الحق.. ولهذا قالت: َ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» ! إنها مع سليمان، لأن سليمان مع الحق! وهكذا تنتهى أحداث القصة بهذه النتيجة، التي يحصلها العقل من مجريات هذه الأحداث.. وإذا كان مساق القصة إلى قريش، وإلى العرب، ثم إلى الناس جميعا- فإنها بهذا الأسلوب الذي يجىء بالموعظة في رقائق من المعاني، تخطر في براعة، وخفة، وتتحرك في وداعة ولطف، حيث تصيد الخواطر، وتملك المشاعر، وتأسر القلوب، دون أن تثير حربا، أو تريق دما- إنها- أي القصة- بهذا الأسلوب، هى رسالة قائمة بنفسها، لتدخل إلى مواقع الإفناع من العقول السليمة، فتسكن إليها، وتجد برد الطمأنينة والسلام في ظلها.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 248 الآيات: (45- 55) [سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 55] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) التفسير: قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ» . هنا أمران، نود أن نقف عندهما، وهما: أولا: مناسبة هذه القصة لما قبلها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 249 وثانيا: إفراد هذه القصة بالذكر وحدها، من غير أن تتصل بها قصة عاد، حيث يجرى دائما ذكرهما معا، فى كل موضع ذكرت فيه إحداهما في القرآن الكريم.. فما مناسبة هذه القصة لما قبلها؟ المناسبة- والله أعلم- هى أن ملكة سبأ، مع ما كانت عليه من كفر موروث، حين رأت الصرح الممرد، عرفت صدق سليمان، وأنه على صلة بالسماء، فآمنت بما آمن به هو، واتبعت سبيله.. وأن «ثمود» قد طلع عليهم نبيّهم بآية من آيات الله، هى «الناقة» ، فلم يروا فيها ما رأت ملكة سبأ في الصرح الممرد، بل كذبوا صالحا، ورموه بالسفه. فهذا موقف، وذاك موقف.. وكلا الموقفين بين يدى آية من آيات الله.. فيكون في تلك الآية عبرة وعظة لقوم، وضلال ومهلكة لآخرين. ولعل هذا هو السر أيضا في ذكر قوم صالح، دون قوم هود، إذ لم يكن مع هود آية كهذه الآية التي جاء بها صالح. وقوله تعالى: «فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ» . «إذا» فجائية، وفيها إشارة إلى مبادرة القوم بالتكذيب، وإعلان الحرب على «صالح» بمجرد سماعهم لدعوة الحق التي يدعوهم إليها بقوله: «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ» .. والفريقان المختصمان، هما صالح ومن اتبعه، وقومه الذين وقفوا منه موقف العناد والتحدي.. فكان بين الفريقين خصام وشقاق. قوله تعالى: «قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 250 هو مما كان يراجع به صالح قومه، ليكشف لهم عن موقفهم الضال، الذي يرد بهم موارد التهلكة.. فقد استعجلوا العذاب الذي كان يتوعدهم به، إداهم ظلوا على ما هم عليه من كفر وضلال.. وهذا ما ذكره الله سبحانه وتعالى، عنهم في قوله سبحانه: «فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» (77: الأعراف) وقد كان الأولى بهم أن يطلبوا جانب الأمن والسلامة، وأن يدخلوا في هذه الدعوة التي يدعوهم إليها نبيهم، فإن وجدوا خيرا، عاشوا فيه، واطمأنوا إليه، وإلا كان في يدهم أن يخرجوا من هذا الدين الذي دخلوا فيه.. أما أن يبدءوا بجانب الوعيد من الدعوة، فذلك هو الضلال، والسفه جميعا.. قوله تعالى: «قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ» .. هذا هو جواب الحمقى السفهاء على دعوة الخير والهدى.. إنهم يستولدون من دعوة الخير التي يدعوهم إليها نبيهم، مواليد شؤم، تنعق في ديارهم، وتنعب فوق رءوسهم، بالويل والبلاء.. وهكذا تتغاير حقائق الأشياء في النفوس المريضة، تماما كما تتغاير طعوم المطعومات في الفم السقيم، كما يقول الشاعر: ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرا به الماء الزلالا ويلقى «صالح» - عليه السلام- هذا الرد الغبي السفيه، بإلفاتهم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 251 إلى الله الذي يدعوهم إليه وأنه- سبحانه- هو الذي بيده كل شىء يساق للناس، من نفع أو ضر، ثم بإلفاتهم إلى أنفسهم الغارقة في الفتنة والضلال، حيث لم يروا هذه الحقيقة من قدرة الله، وسلطان الله.. فقال: «طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ» أي أن حظكم المقسوم لكم من الخير والشر، هو عند الله تعالى، وفى خزائن علمه.. فى كتاب مبين، ولكنكم فى فتنة وعمى عن هذا الذي أقوله لكم.. وفي ذكر كلمة «قوم» - إشارة إلى أنهم كتلة واحدة متضخمة من الفساد وأنهم كيان واحد، تحتويه فتنة، لا مخرج له منها. ويستدل من هذا على أن القوم كانوا يزجرون الطير، ويتعرفون منه على ما سيقع لهم من خير أو شر، حسب تصورهم الفاسد.. وذلك أنهم كانوا إذا أراد أحدهم أمرا، ترصد لطير واقع على الأرض، ثم زجره، أي أشار إليه بيده أو بعصا، حتى يطير.. فإذا طار إلى يمينه، تفاءل به، ومضى لغايته، وإن طار إلى يساره تشاءم منه، وأمسك عن الغاية التي يريد!. كما يستدل من هذا أيضا على أن قوم صالح كانوا عربا، وأن- صالحا عليه السلام- كان نبيا عربيا، وذلك قبل إبراهيم وإسماعيل عليه السلام.. أيام العرب العاربة.. قوله تعالى: «وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ» . وكما في كل جماعة رأس أو رءوس، تقودها، وتتولى تدبير أمرها، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 252 فكذلك كان في هذه الجماعة أكثر من رأس، لقد كان فيها تسعة رءوس، كلها فاسد، لا يدعو إلا إلى الشر، ولا يعمل إلا فيما هو شر.. والرهط، من الثلاثة إلى العشرة.. وليس المراد بالرهط هنا العدد، وإنما المراد به «النفر» أي الواحد، الذي يطلق على الجماعة أيضا.. وإنما ذكّر الرهط، للإشارة إلى أن الواحد من هؤلاء التسعة كان رأسا في القوم، وأنه أشبه برهط، من حيث أثره فى الجماعة، وفي الشر الذي يخرج من بين يديه. قوله تعالى: «قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ» . قرىء: «لتبيتنه» ثم «لتقولنّ» بضمير الخطاب.. والتقاسم: تفاعل من القسم، وهو الحلف.. وذلك بأن يحلف كل واحد منهم للجماعة بما يحلفون عليه.. والبيات: الهجوم ليلا.. والولي: هو الناصر والقريب، والمراد به هنا وليّ الدم. والمعنى، أن هؤلاء النفر، قد ائتمروا فيما بينهم، على أن يهلكوا صالحا وأهله، فأقسموا على ذلك، وجعلوا لتنفيذ هذه المؤامرة وقتا، هو الليل.. ثم اتفقوا كذلك على الموقف الذي يلقون به ولى الدم، لصالح وأهله، وذلك بأن ينكروا أنهم شهدوا مصرع صالح ومن معه.. وقوله: «ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ» .. والضمير في أهله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 253 يعود على الولي، أي أنهم يقولون لهذا الولي، المطالب بالدم ما شهدنا مهلك أهله هؤلاء الذين تطالب بدمهم، ومنهم صالح.. وهذا أولى- فى تقديرنا- من عود الضمير على صالح، وأنهم يقولون لولى الدم ما شهدنا مهلك أهل صالح، كما يقول بذلك المفسرون- وذلك ليتحقق قولهم: «وَإِنَّا لَصادِقُونَ» على تقدير أنهم لم يشهدوا فعلا مهلك أهله وحدهم، وإنما شهدوا مهلكه ومهلك أهله معه.. وإذن فهم صادقون بهذا التلبيس الذي لبسوا به شهادتهم!! هكذا يقول المفسرون، كأن القوم يتحرون الصدق في شهادتهم، فيخرجونها على هذا الوجه الذي هو الكذب في صميمه، وإن طلى بهذا الزيف المفضوح.. والقوم في قولهم: «وَإِنَّا لَصادِقُونَ» إنما يؤكدون الكذب الذي جاءوا به في قولهم لولى الدم ما شهدنا مهلك أهلك هؤلاء- وفيهم صالح وأهله «وَإِنَّا لَصادِقُونَ» فيما نقول.. فهكذا الكاذب دائما يحرص أشد الحرص على أن يزكى كذبه بمثل هذه الادعاءات، وأنه إنما يقول الصدق ويقسم عليه، كما يقول تعالى في شأن اليهود: «وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (14: المجادلة) . والسؤال هنا: كيف يتقاسمون بالله، ويحلفون به وهم كافرون؟ والجواب على هذا أنهم كانوا يعرفون الله، ولكن معرفتهم تلك قد اختلطت بالضلال، فلم يعرفوا الله حق معرفته، بل عبدوا معه آلهة أخرى، وجعلوه إلها من آلهتهم، أو كبيرا لهذه الآلهة التي يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى، كما كان ذلك شأن مشركى العرب، ولهذا كانت دعوة صالح إليهم هى: «اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» (61: هود) ، أي أخلصوا العبادة له وحده، فما لكم إله غير الله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 254 قوله تعالى: «وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» .. المكر: التدبير للأمر، والإعداد له قبل الأخذ في تنفيذه. أي أنهم دبروا تدبيرا، ودبر الله تدبيرا.. والله سبحانه يعلم ما دبروا من أمر، وما أحكموا من خطط، وهم لا يعلمون ما قد دبر الله، وما أعد لهم من نكال وبلاء. قوله تعالى: «فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ» . الخطاب هنا للنبى، صلوات الله وسلامه عليه، ولكل من كان أهلا للنظر والاعتبار.. وفي هذا النظر إلى مكر هؤلاء الرهط، وإلى ما أعقب هذا المكر، يرى ما نزل بهم من نقم الله، وما حل بهم وبقومهم جميعا من هلاك لهم، وتدمير لديارهم! وهكذا يصيب الشرّ أهله، ثم يمتد فيشمل من كان معهم، ممن لم يشاركوا في هذا الشرّ، ولكنهم لم يتصدّوا للأشرار، ولم يأخذوا على أيديهم.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» (25: الأنفال) ويقول سبحانه: «وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً» (16: الإسراء) . وهكذا أرادوا الهلاك لصالح وأهله، فأهلكهم الله، وأهلك أهلهم جميعا.. قوله تعالى: «فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 255 «خاوِيَةً» أي ساقطة متهدّمة، لا أثر لحياة فيها.. وهي منصوبة على الحال من «بُيُوتُهُمْ» . والإشارة هنا، لفت للأنظار، إلى هذه الديار الخاوية، حيث ينظر المشركون إلى حيث متجه الإشارة، فلا يرون إلا أطلالا، يرى فيها أولو العلم وأهل النظر، آية من آيات الله، فيما يحل بالظالمين من بأسه، وما يرميهم به من عذابه! قوله تعالى: «وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ» - هو أشبه بالاستثناء من تلك الصورة التي تتمثل لعين الناظر.. مما حلّ بهؤلاء الظالمين المفسدين.. فهناك إلى جانب هذه الصورة للدّمار والهلاك، صورة أخرى لأهل السلامة والعافية، الذي نجوا من هذا البلاء، وخلصوا من هذا العذاب، وذلك بإيمانهم بالله، وباتّقائهم بأسه وعذابه، بالأعمال الطيبة الصالحة.. فإلى جانب الشر دائما خير، وفي مجتمع الأشرار.. دائما أخيار.. وهذا الخير وإن صغر حجمه، هو الرّوح الذي يحفظ الحياة في هذا الوجود.. وهؤلاء الأخيار- وإن قلّ عددهم- هم الشعاع الذي يسرى في وسط هذا الظلام الكثيف. قوله تعالى: «وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ» .؟ أي واذكر لوطا إذ قال لقومه. «أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ» وهي هذا المنكر الذي عرفوا به، والذي سيكشف عنه في الآية التالية.. وسمى هذا المنكر «فاحشة» و «فحشاء» لشفاعته وقبحه، ظاهرا وباطنا.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 256 وفي قوله: «وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ» .. إشارة إلى ما بلغ من استهتار القوم، واستخفافهم بهذا المنكر، حتى إنهم ليأنونه عيانا وجهرة بحيث يرى بعضهم بعضا وهم عاكفون على هذا الفحش، دون حياء أو خجل.. وإن بعض الحيوانات، لتدعوها طبيعتها إلى أن تتخفى وتستتر، فلا تطلع عليها عين، حين تتصل ذكورها بإناثها.. أما هذه الحيوانات الآدمية، فقد نزلت إلى هذا المستوي الخسيس، الذي لا ينزله إلا أدنى الحيوانات وأخسّها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» (29: العنكبوت) أي يأتون هذا المنكر علنا في مجتمعاتهم وأنديتهم، كأنهم يأتون مكرمة من المكرمات.. قوله تعالى: «أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ» هذه هي الفاحشة التي يأتيها القوم جهرة على أعين الناس، وهي «اللواط» واتصال الرجل بالرجل، كما يتصل الرجل بالمرأة، والذكر بالأنثى في عالم الحيوان.. وفي قوله «بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ» .. إشارة إلى أن هذا الضلال الذي هم فيه، وهذه الحيوانية الطاغية التي لبستهم، إنما هي من واردات الجهل.. وليس بين الإنسان والحيوان من فرق، إلا العلم، وأنه بقدر ما يحصّل الإنسان من العلم، بقدر ما تكون منزلته في الإنسانية، وبقدر ما يكون بعده عن عالم الحيوان..! الجزء: 10 ¦ الصفحة: 257 الآيات: (56- 58) [سورة النمل (27) : الآيات 56 الى 58] فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) التفسير: قوله تعالى: «فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ» هذا هو الجواب الذي أجاب به القوم لوطا، حين أنكر عليهم هذا المنكر الذي يعيشون فيه، ويتعاملون به جهرة، وهو جواب ينطوى على استخفاف واستهزاء، فوق ما يحتوى عليه من بغى وعدوان.. إنهم لم يجيبوا على ما أنكره عليهم لوط، ولم يقبلوا ما دعاهم إليه، وإنما كان فعلهم الذي أرادوه به وبمن معه، هو الردّ العمليّ على هذا النصح الذي نصح لهم به. - «أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ» . فلقد تنادوا فيما بينهم إلى أن يخرجوا آل لوط من القرية، واعتبروا لوطا ومن معه كائنات غريبة تعيش في هذا المجتمع.. - «إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ» أي يدّعون التّطهر والتعفف، ويكرهون أن يعيشوا في هذا الجوّ الذي نعيش فيه.. وإذن فليخرجوا من بيننا، وإذا لم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 258 يخرجوا أخرجناهم.. فهذه القرية هي قريتنا، وليس لهم مقام فيها ما داموا لا يحيون حياتنا!! هكذا كان منطق القوم.. إنهم كثرة، وآل لوط قلة.. وما كان للقلة أن تتحكم في الكثرة.. وإذا كانت القرية لا تحتملنا وتحتملهم على هذا الخلاف الذي بيننا وبينهم، فليخرجوا منها مكرهين، غير مأسوف عليهم. وليس هذا وحده هو جواب القوم.. فقد كان للقوم أجوبة كثيرة، أجابوا بها على دعوة لوط، كما ذكر القرآن عنهم ذلك في أكثر من موضع، كقولهم. «ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ» (79: هود) .. وقولهم له أيضا: «أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ» (70: الحجر) وقولهم: «لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ» (167: الشعراء) . فهذه أجوبة كثيرة كان يلقى بها القوم لوطا. ولكن هذا الجواب، الذي جاء في قوله تعالى: «فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ» .. هو تلخيص جامع لهذه الأجوبة كلها، وهو النهاية التي انتهت إليها كل هذه الأجوبة، فكان هذا الجواب هو جوابهم القاطع، الذي لا جواب لهم غيره، ولهذا جاء به النظم القرآنى على هذه الصورة التي تفيد القصر.. «فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ» أي ما كان لهم إلا هذا الجواب.. قوله تعالى: «فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ» . لقد أرادوا إخراج لوط والمؤمنين معه من القرية، ودبّروا لهذا الأمر ومكروا مكرهم له، فكان أن أخرجهم الله سبحانه من هذه الدنيا كلها، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 259 لا من القرية وحدها، فأمطر عليهم حجارة من سجيل، أتت على قريتهم، وعلى كلّ نسمة حياة فيها، على حين نجا لوط ومن معه، إلا امرأته، فقد كانت حربا عليه، وعلى المؤمنين، فأخذها الله بما أخذ به القوم، فكانت من الهالكين. الآيات: (59- 64) [سورة النمل (27) : الآيات 59 الى 64] قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64) التفسير: بعد هذا العرض الكاشف، الذي عرضت فيه السّورة مواقف المشركين والكافرين، من دعوة الحقّ التي يحملها إليهم رسل الله، ويقدّمون بين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 260 يديها الآيات المحسوسة التي تنطق بقدرة الله وعظمته، وتشهد لرسله بأنهم مؤيدون من عند الله، وأن ما على ألسنتهم هو من كلمات الله، وأن ما بأيديهم هو من آيات الله- مع هذا، فقد عميت من الضالين الأبصار، وزاغت القلوب، فكان العناد والتحدّى، ثم التطاول والتعدّى.. وكان ذلك هو الجواب المحمّل بألوان التكذيب، والتهديد، الذي تلقاه الرسل من أقوامهم، إلا قليلا ممن شرح الله صدره للإيمان منهم، فنجا بنفسه، وكان من المفلحين في الدنيا والآخرة جميعا. - بعد هذا العرض، جاءت آيات الله، لتعقب على هذه الأحداث، ولتلفت الأنظار إلى الله وعظمته، وإلى ماله في عباده من آيات.. ففى هذا التعقيب يرى المؤمنون والمشركون جميعا ما تحمل كلمات الله، من بيان، تتجلّى فيه نعم الله عليهم، ويبين منها فضله الذي أفاضه على هذا الوجود!. وقوله تعالى: «قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ» هو خطاب خاص للنبى، ثم هو عام إلى كل مؤمن بالله.. وفي هذا الخطاب دعوة إلى ذكر الله بالحمد على نعمه التي لا تحصى، والتي أجلّها وأعظمها، هو الإيمان الذي عمرت به قلوب المؤمنين.. - وفي قوله تعالى: «وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى» ذكر يقترن مع ذكر الله، بالتسليم على عباد الله الذين اصطفاهم، واختصهم بالمزيد من فضله، وهم رسله الكرام، كما يقول سبحانه: «سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» (180- 182 الصافات) وفي اقتران ذكر الله بالحمد والثناء عليه، بذكر المرسلين، والدعاء بالسّلام الجزء: 10 ¦ الصفحة: 261 عليهم- فى هذا تكريم لرسل الله، واعتراف بفضلهم على الناس، إذ كانوا مصابيح هدى، ودعاة أمن وسلام للعباد.. وهذا من شأنه أن يجعلهم موضع إعزاز، وحبّ، وإكرام، من أقوامهم خاصة، ومن الإنسانية كلها عامة، لا أن ترجمهم الأيدى الأئمة، وتسلقهم الألسنة الفاجرة، وتزدريهم العيون البلهاء، كما يفعل السفهاء، والحمقى، من أهل الشرك والضلال..! - وقوله تعالى: «آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ» - هو استفهام تقريرى، يراد به أخذ الجواب من كل لسان، على هذا السؤال.. وأصل الاستفهام «أالله» قلبت همزة الوصل في لفظ الجلالة ألفا، للتسهيل، فصارت مع همزة الاستفهام مدّة.. و «أمّا» أصلها «أم» حرف العطف الذي يقع بعد همزة التسوية، «ما» الموصولة.. فأدغمت الميم في الميم.. وجىء باسم الموصول «ما» بدل «من» للإشارة إلى ما يعبد المشركون من معبودات، لا تعقل، من الحيوان، والجماد، وغيرها، وذلك أكثر ما يشرك به المشركون. قوله تعالى: «أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ» . فى الجواب على الآية السابقة جوابان: جواب لأهل البصائر وأصحاب العقول.. وهو أن الله هو وحده المستحقّ للعبادة.. وجواب لأهل الشرك، الذين ران الضلال على قلوبهم.. وهو أنهم يؤثرون آلهتهم التي يعبدونها، ولا يلتفتون إلى غيرها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 262 - وقد جاءت هذه الآية: «أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ... » والآيات التي بعدها، لتلقى هؤلاء المشركين مع آلهتهم، ولتضع أمام أعينهم موازنة بينهم، وبين الله سبحانه وتعالى، لينظروا فيروا إن كان هناك من آلهتهم من يشارك الله في هذه الصفات التي لله سبحانه وتعالى.. فإن كان يقع لأيديهم أو لأبصاهم، أو لعقولهم شىء من هذا، فليمسكوا بآلهتهم، وإلّا فليروا رأيهم فيها، إن كان لهم- مع أهوائهم المتسلطة عليهم- رأى.. - فقوله تعالى: «أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً..» - هو معادل لمستفهم عنه محذوف، وهو الآلهة التي يمسك بها هؤلاء المشركون، والتقدير: أآلهتهم هذه، أم من خلق السموات والأرض وأنزل لهم من السماء ماء ... ؟. - وفي قوله تعالى: «فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ» - هو إلفات إلى ما أودع الله سبحانه وتعالى من أسرار في هذا الماء، الذي ينزله من السماء، فيحيى به الأرض بعد موتها، ويكسو عريها حللا زاهية رائعة، ذات ألوان وأصباغ، تبهج النفس، وتشرح الصّدر. وفي العدول عن ضمير الغائب المفرد فى «أنزل» إلى ضمير المتكلم المعظم ذاته فى «فأنبتنا» - إشارة إلى أمرين: أولهما: أن إنزال المطر عملية، قد لا يشهدها كثير من الناس، وإذا شهدوها فإن كثيرا منهم قد لا يلتفتون إليها.. أما هذه الزروع، وتلك الجنات التي تزين وجه الأرض، فإنه قل في الناس من لا يشهد هذه الظاهرة، ويملأ عينيه، ومشاعره منها، ومما فيها من حسن وروعة.. فكان من المناسب هنا أن يرى الناس يد القدرة القادرة، وهي تنسج هذه الحلل الجميلة الرائعة التي تنكسو الأرض، وتجلوها كما تجلى العروس في ليل زفافها.. ففى قوله تعالى: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 263 «أنبتنا» حضور لله سبحانه، فى هذه الزروع والجنات التي تزين وجه الأرض، وتقع لعينى كل إنسان.. وثانيهما: أن هذه الزروع وتلك الجنات.. ليست على صورة واحدة، فهى مختلفة الألوان والأشكال، متعددة الأنواع والأجناس،. كما يقول الله سبحانه «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا» (24- 31 عبس) فهذه الصور التي لا تكاد تحصى من الزروع والأشجار، فى مسرح العين، تبدو وكأن آلافا من الأيدى، عملت على إخراجها من الأرض، واستيلادها من بطنها، وصبغها بهذه الأصباغ.. وإن الأمر لعلى خلاف هذا الظاهر، فهى يد واحدة قادرة، هى يد الحكيم العليم، التي تفردت بكل هذا.. ومن هنا حسن أن يذكر الله سبحانه وتعالى بضمير الحضور، وبصيغة الجمع، حيث ترى قدرة الله قائمة على كل نبتة، وكل شجرة.. وليس كذلك الشأن في المطر، ونزوله.. إنه صورة واحدة في كل أحواله..! - وقوله تعالى: «ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها» الضمير «فى شجرها» يعود إلى الحدائق.. والمعنى، أن هذه الحدائق ذات الروعة والبهجة، ليس في مقدور الناس جميعا أن ينبتوا شجرها، وأن يخرجوه من الأرض، فضلا عن أن يمسكوا عليه حياته، ويبلغوا به هذا المدى من النماء، والإزهار، والإثمار، وتنوع الألوان والأشكال.. - وفي قوله تعالى: «أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟» سؤال تقريرى، يراد الجواب عليه، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 264 بعد النظر إلى هذه المعارض التي عرضتها الآية الكريمة لبعض قدرة الله، وآثار رحمته! وجواب أهل العناد والضلال، هو جواب كل معاند ضال.. وهو العمى عن الحق، والتشبث بالباطل.. ولهذا جاء قوله تعالى: «بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ» مسجلا عليهم هذا الضلال، آخذا من أفواههم جوابهم على هذا السؤال.. وهو أنهم قوم يعدلون عن الحق إلى الباطل، ويولون وجوههم إلى معبوداتهم التي يعكفون عليها.. قوله تعالى: «أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً.. أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ!» وهذه معادلة أخرى، يوازن فيها المشركون بين الله، وبين آلهتهم.. أيّ أحق بالألوهة، وأولى بالعبادة؟. أآلهتكم تلك الخرساء الصماء، أم الله الذي جعل الأرض قرارا؟ أي موضعا صالحا لحياة الإنسان، واستقراره عليها، «وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً» أي وأجرى بين شعاب الأرض أنهارا، تخلل أجزاءها، بحيث يأخذ كل جزء منها حظه من هذه الأنهار «وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ» أي جبالا راسية، تمسك بها أن تميد أو تضطرب.. «وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً» أي فصل بين ماء البحار، وماء الأنهار، حيث يلتقيان، فلا يطغى أحدهما على الآخر.. بل يبقى ماء الأنهار عذبا سائغا، ويظل ماء البحار ملحا أجاجا.. هذا هو صنع الله، وتلك آيات قدرته، وسوابغ رحمته.. فأين ما للآلهة التي تعبدونها، أيها المشركون الضالون؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 265 «أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟» .. أجيبوا! وقد أجابوا جواب الأغبياء الجاهلين، الذين لا حظّ لهم من علم.. فهم والحيوان على سواء.. ولو أنهم كانوا على شىء من العلم، لأنار لهم علمهم الطريق إلى الحق، ولنطقوا بما ينبغى أن ينطق به أهل العلم، وهو أنه «لا إله إلا الله» .. ولكن أتى لهم هذا، وهم في هذا الجهل المظلم؟: «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» . وفي الآية الكريمة إعجاز من إعجاز النظم القرآنى.. فقد تكررت كلمة «جعل» أربع مرات، تخللت عشر كلمات، دون أن يشعر أحد بهذا التكرار، أو يجد له أي أثر في النطق بهذه الكلمات، التي تناغم لحنها، وتوازن نظمها، فكانت لحنا علوى النغم، يأسر الآذان بوقعه، ويملك المشاعر، بسرّه وجهره..! أقرأ الآية الكريمة ورتلها ترتيلا! «أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً.. وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً.. وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ.. وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً؟ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ..» .. ثم ألا تسجد بعد هذا لهذا الإعجاز من كلام رب العالمين؟ قوله تعالى: «أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ» .. ومعادلة ثالثة.. بين ما لله، وبين ما يكون لهذه المعبودات من دون الله.. أفهذه الآلهة، التي لا تملك ضرّا ولا نفعا، أم الإله الواحد، القادر، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 266 السميع، البصير، الذي تفزعون إليه- أيها الضالون المكذبون- عند كل كرب، وتدعونه عند كل شدّة، فيستجيب لكم، ويكشف الضرّ عنكم.؟ كما يقول سبحانه: «قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.. تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ» (63- 64: الأنعام) أآلهتكم هذه؟ أم الله ربّ العالمين، الذي أعطاكم هذه الصورة البشرية السويّة، ومنحكم العقل، والمنطق، وأقامكم على هذه الأرض خلفاء لله فيها؟ ألا تذكرون فضل الله عليكم، ولا تنظرون إلى نعمه إليكم؟ ألا تشكرون له أن أخرجكم من العدم إلى الوجود، ثم أعطاكم من الوجود الأرضى أحسن وأكرم ما خلق فيه؟ أجيبوا.. أيها الضالون المكذّبون، الجاحدون؟ وقد أجابوا بما يجيب به كل جاحد لنعمة الله.. لا يذكر الله إلا عند الشدّة، فإذا انجلى الكرب، وذهبت الشدّة «نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ» (8: الزمر) . ولهذا جاءت فاصلة الآية: «قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ» لتسجل عليهم هذا التنكر لنعمة الله عليهم، وإحسانه إليهم.. فهم لا يذكرون لله هذه النعمة، ولا يتذكرون هذا الإحسان.. قوله تعالى: «أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ؟ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» . ومعادلة أو موازنة رابعة.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 267 أآلهتكم هذه الجاثمة الجامدة، أم الله الذي يهديكم في ظلمات البر والبحر، بما أقام لكم من معالم في السماء والأرض، تتعرفون بها وجهتكم، فى تنقلكم على ظهر الأرض أو البحر؟ أآلهتكم هذه المستخزية العاجزة.. أم الإله الذي يرسل الرياح فتثير السحاب، وتدفعه إلى حيث ينزل ماء من السماء، فيحيى الأرض ومن عليها؟ ماذا تقولون؟ أجيبوا.. أيها اللّاهون الغافلون! ويجيبون بهذا الصمت الغبي.. ويجيب الوجود كله من حولهم، بهذا الجواب، الناطق بوحدانية الله، المنزه لله عن الشريك، والصاحبة والولد.. «تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» قوله تعالى: «أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ؟ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ؟ وهذه معادلة أو موازنة خامسة.. أآلهتكم هذه العجماء، الصماء.. أم الله الذي يبدأ الخلق، وينشئه ابتداء على غير مثال، ثم يعيده خلقا آخر كما بدأه، بعد أن يبلى، وتذهب معالمه؟ ماذا تقولون؟ أتقولون بعد هذا.. إن مع الله إلها، يصنع ما يصنع الله، ويتصرف معه فى هذا الوجود، أو يشاطره بعضا منه؟ «قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ.. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 268 فأين الحجة على ما بين أيديكم؟ وأين البرهان على ما تقولون من أن مع الله إلها أو آلهة أخرى؟ إن القول بلا حجة يستند إليها، وبلا دليل يقوم عليه- هو كلام، لا معقول له، ولا حياة فيه، ولا نفع لمن يتعلق به: «وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ.. إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» (117: المؤمنون) . وفي هذا العرض الممتد، المختلف الصور والألوان، لآيات الله في الأرض وفي السماء، وفي البر والبحر، لا يجد المكابرون والمعاندون، سبيلا إلى الإفلات والهروب من الإقرار بوحدانية الله.. إذ كانوا كلما أخذوا وجها من وجوه الضلال، لقيهم معرض من معارض قدرة الله.. حتى إذا كان آخر المطاف كانت كل ظنونهم وأوهامهم في آلهتهم قد ضلت عنهم، وفرت من بين أيديهم، فوقفوا في حيرة، بين الاتجاه إلى الله الذي يحجبهم عنه كبرهم وعنادهم، وبين الجري وراء آلهتهم بعد أن انكشف لهم أمرها.. وهنا لا يطالبهم القرآن بأكثر من أن يستعملوا شيئا من العقل والمنطق، وأن يحترموا إنسانيتهم، فلا يؤمنوا إلا بما يقبله العقل، ويطمئن إليه القلب، وإلا بما يقوم للعقل منه برهان على أنه الحق! لقد أقامهم القرآن في هذا العرض مقام الشك، والشك- كما يقولون- أول مراتب اليقين، الآيات: (65- 78) [سورة النمل (27) : الآيات 65 الى 78] قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 269 التفسير: قوله تعالى: «قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» . هو تعقيب على هذه المعارض، التي عرضت فيها الآيات السابقة للمشركين وغباءهم وضلالهم، وآلهتهم وما هي عليه من عجز وضعف، أمام جلال الله وعظمته وقدرته.. وفي هذه الآية عرض للمخلوقات جميعا، أمام علم الخالق، المحيط بكل شىء، وأن من في السموات والأرض من مخلوقات لا تعلم مما استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه شيئا.. فأهل الأرض مهما علموا من علم فإن علمهم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 270 بهذا الكوكب الذي يعيشون فيه، لا يعدو أن يكون قطرة من محيط الأسرار المودعة في هذا الكوكب، فكيف علمهم بما في هذا الوجود الذي هم قطرة في محيطه الذي لا حدود له؟ وكذلك مخلوقات العوالم الأخرى، علمها كعلم أهل الأرض، هو محدود محصور في دائرة وجودها.. وقوله تعالى: «إِلَّا اللَّهُ» إلا هنا ملغاة.. والمعنى أنه لا يعلم الغيب إلا الله وحده.. أما من في السموات والأرض فمنفى عنهم هذا العلم.. وإن علموا شيئا فهو بالاضافة إلى علم الله، وإلى ما جهلوه من هذا العلم- لا وزن له، ولا اعتداد به.. - وقوله تعالى: «وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» - تأكيد لنفى علم الغيب عن أهل السموات والأرض.. وذلك أن الناس وهم أكثر خلق الله ادعاء للعلم، لا يعلمون متى يبعثون من قبورهم إذا ماتوا، وهذا البعث هو أمر يتصل بهم، ويعنى كلّ واحد منهم. فإذا جهلوا ما هو من شأنهم فهم لغيره أجهل، وإذا جهل الناس فغيرهم من المخلوقات أشد جهلا. ويجوز أن يكون المراد هنا هم الناس وحدهم، ويكون نفى العلم عنهم بميقات بعثهم حجة قائمة على أنهم لا يعلمون الغيب.. فليؤمنوا إذن بعالم الغيب والشهادة إيمانهم بكل غيب، وليدعوا هذه الآلهة التي يجسدونها، ويتعاملون معها، كما يتعاملون مع أموالهم وأمتعتهم.. فالله سبحانه وتعالى، وإن لم يروه، فإن كثيرا من الحقائق التي بين أيديهم لم يروها، ولم يقع في علمهم شىء منها.. إن الإنسان ليستبين كثيرا من الأمور التي لا تقع لحواسة، بما يلوح الجزء: 10 ¦ الصفحة: 271 للعقل من شواهد عليها.. فلم لا يؤمن المشركون بالله، وهذا الوجود كله شاهد لله؟ قوله تعالى: «بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ.. بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها.. بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ» . هذا تعقيب على قوله تعالى: «وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» .. وذلك أن البعث وإن لم يعلم يومه فإنه آت لا ريب فيه، وعدم العلم بيومه، لا يستدعى إنكاره وجحوده.. ولكن ذلك هو الذي فتن كثيرا من الناس، وأضلهم، فكفروا بهذا اليوم، إذ لم يعلموه علما واقعا محققا.. وهذا غيب من الغيوب التي استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمها.. فالذين ينكرون يوم البعث، إنما ينكرون أمرا قامت عليه الأدلة، وتظاهرت له البراهين، وإن كان لا يشعر بها الغافلون الضالون، ولهذا جاء قوله تعالى في الآية السابقة «وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» منبها إلى هذه الغفلة التي عليها هؤلاء المشركون المنكرون ليوم البعث.. إنهم لا يشعرون به، مع أن كثيرا من الإشارات الدالة عليه تمر بهم، ولكنهم في غمرة ساهون! - وقوله تعالى: «بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ» إضراب على الصفة التي وصفوا بها من قبل، وهي عدم شعورهم بالبعث، وإلقاء صفة أخرى عليهم فوق هذه الصفة، وهي أن ما لديهم من علم في شأن الساعة، كثير، والشواهد عليه بين أيديهم لا تحصى، ولكن هذا العلم، وتلك الشواهد لم تحقق لهم علما بها.. وهذا هو بعض السر- والله أعلم- فى تعدية المصدر «علمهم» بحرف الجر فى، بدلا من الباء.. فى النظم القرآنى «بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 272 «فِي الْآخِرَةِ» ولم يجىء هكذا: بل إدراك علمهم بالآخرة.. فالعلم الذي عندهم بالاخرة كثير، ولكنهم يمارون في هذا العلم، ويجادلون فيه.. وقوله تعالى: «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها» هو وصف آخر يضاف إلى أوصافهم التي تكشف عن موقفهم من أمر الآخرة.. «إنهم في شك منها» لا يقيم لهم العلم الذي بين أيديهم عنها، إلا أوهاما وظنونا. ومعنى ادّارك علمهم، أي كثر، وتتابع، وجاءهم داركا، أي متلاحقا.. تختلف وجوهه في تصورهم، وتتغاير صوره في عقولهم، وتتوارد عليهم الخواطر فيه بين الشك واليقين. وقوله تعالى «بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ» - وصف ثالث يلحق بالوصفين السابقين، وهو أنهم في عمى وضلال عن الآخرة، فلا يرون لها وجودا، ولا يحسون لها أثرا.. والصورة التي تتمثل من هؤلاء المنكرين ليوم البعث، هى صورة مائجة مضطربة، كما يموج السراب في الصحراء.. فهناك شواهد قائمة على البعث والحساب والجزاء.. ولكن المشركين لا يشعرون بها، ولا يلتفتون إليها. وهناك علم كثير، تحدثهم به آيات الله التي يتلوها عليهم رسول الله، فى أمر البعث والحساب والجزاء.. «بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ» وهذا العلم لا يستقبله المشركون إلا بقلوب مريضة، وعقول ضالة.. فلا تقع منه إلا على ظنون.. «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها» . وهذه الظنون التي تقع لهم من هذا العلم، سرعان ما يطغى عليها الضلال والجهل، فتختفى، ويختفى معها كل شىء عن هذا اليوم، وإذا هم في عمى، فلا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 273 يرون للآخرة ظلا، أو خيالا، فى أنفسهم.. «بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ» . وفي تعدية المصدر «عم» ، بمعنى أعمى- بحرف الجر «من» بدلا من «عن» الذي هو للفعل، إذ يقال: عمى عن الشيء: ولا يقال عمى منه، إلا إذا كان الشيء هو السبب في العمى، الذي جاء من جهته.. وهذا- والله أعلم- ما أريد هنا، وهو أن الآخرة، كانت سببا في عمى الضالين والمشركين.. وذلك أن أمر البعث، والحساب والجزاء، هو مضلة الضالين، وغواية الغاوين. وليس الإيمان بالله هو السبب في تردد المشركين وتوقفهم عن الإيمان.. وإنما كان ترددهم وتوقفهم عن الإيمان بالله، لأن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بالبعث والحساب والجزاء.. وهذا هو الذي يتردد إزاءه المترددون، ويتوقف عنده المتوقفون.. وإنه ليسير غاية اليسر على المشركين أن يستبدلوا إلها بإله، وربا برب.. وليس من اليسير أبدا أن يقبلوا ربّا لا يقبلهم إلا إذا آمنوا بالبعث بعد الموت، ثم الحساب والجزاء.. فذلك هو الذي لا تقبله عقولهم ولا تتصوره مدركاتهم.. ولقد كان أكثر جدلهم واقعا على البعث بعد الموت، وفي هذا ما حكاه القرآن عن المشركين والمكذبين بيوم البعث: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ؟» (7- 8 سبأ) إنهم يعرفون الله، وإن كانت معرفة سقيمة معتمة، وإنهم ليقرون بوجوده، ويتهمون النبي بالافتراء على الله، ولكنهم ينكرون أشد الإنكار أن يبعث الناس، بعد أن يصيروا عظاما ورفاتا. وفي الآية الكريمة إعجاز من إعجاز القرآن الكريم، يحتاج الوقوف عليه إلى شىء من النظر الخاشع بين يدى هذا الجلال المشرق من سماوات الحق.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 274 ففى الآية الكريمة ثلاثة مفاهيم لموقف واحد.. هو موقف المشركين من يوم القيامة.. فالمشركون وإن كانوا على موقف واحد من إنكارهم للبعث، فإنهم في إنكارهم ليسوا على صورة واحدة.. إذ يكاد يكون لكل منكر للبعث تصور خاص به، ومفهوم استقلّ به، وأقام إنكاره للبعث عليه. ولتصوير هذه التصورات، وتلك المفاهيم في جميع مستوياتها، وعلى اختلاف منازلها، ينبغى أن يكون لكل إنسان صورة خاصة به، ووصف محدّد له.. ولكن هذا أمر لا يضبط، بل يقع موقع الاستحالة المطلقة.. ولو أنه ضبط، لما كان له كبير قيمة في كشف الموقف العام للمشركين المكذبين بهذا اليوم، إذ ما أكثر الصور المتشابهة المتكررة، التي لا يكاد يلمح فيما بينها فرق، إلا تحت النظر «الميكرسكوبى» . وإذن، فالعمل الذي يجدى في هذه الحال، هو ضبط هؤلاء المكذبين فى مجاميع، كل مجموعة تمثل اتجاها معينا له صفته، وله وجهه في هذا المقام.. وهذا هو الذي فعله القرآن في هذه الآية. فقد قسم المكذبين بيوم البعث، حسب مشاعرهم له- إلى ثلاث مجموعات، كما نرى في الآية الكريمة: «بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ» . فالمجموعة الأولى، تأخذ علمها عن الساعة من مدلول النظر العقلي المجرد، دون التفات إلى عالم الغيب، الذي تحتجب وراء ستره أمور كثيرة.. منها البعث، والقيامة.. فمن لا يؤمن بعالم الغيب، لا يهديه عقله وعلمه إلى الإيمان بيوم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 275 القيامة.. وهؤلاء هم العلماء الذين يحتكمون إلى العقل وحده، وعلى الحجج الاستدلالية التي ينقض بعضها بعضا. والمجموعة الثانية، هى التي تخرج من المجموعة الأولى- بعد تضارب الحجج في عقولها- إلى التوقف والشك. والمجموعة الثالثة، هى التي لم ترفع رأسها للبحث والنظر، ولم تفتح قلبها للإيمان والتسليم، بل هي في شغل وغفلة بما هي فيه، من حياة مادية، لا ترتفع كثيرا عن حياة الأنعام. قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ؟. لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» . هذا هو موقف المشركين من البعث وما وراءه.. إنه الإنكار الغليظ له، وإنه الجدل العنيف فيه.. ولم يجادل المشركون في الله، ولم ينكروا ألوهيته.. ولكنهم ينكرون أشد الإنكار أن يبعثوا.. والاستفهام هنا إنكارى، إذ يرون استحالة عودتهم إلى الحياة مرة أخرى، بعد أن يصيروا عظاما نخرة، ورفاتا بالية.. ثم يستدلون على مقولتهم تلك، بما هو واقع مشاهد.. فهؤلاء آباؤهم وأسلافهم الذي مضوا من قرون طويلة- قد وعدوا بالبعث.. فأين هم الآن؟ وأين البعث الذي وعدوا به!. «إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» .. أي ما هذا القول إلا من خرافات قديمة، وأساطير بالية! الجزء: 10 ¦ الصفحة: 276 قوله تعالى: «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ» . هو تهديد لهؤلاء المشركين المكذبين بيوم الدين، وأنهم بتكذيبهم هذا قد انتظموا في سلك المجرمين، وحق عليهم ما حق على المجرمين من بلاء وعذاب! .. قوله تعالى: «وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ» . هو عزاء للنبى الكريم، فى قومه هؤلاء الذين أجرموا، والذين حق عليهم العذاب.. فليدعهم النبيّ لمصيرهم المشئوم هذا، وليخل نفسه من لذعات الأسى والحزن عليهم.. فإنهم ليسوا من أهله.. إنهم عمل غير صالح. وفي هذا العزاء تهديد آخر للمشركين، وتحقيق للعذاب الواقع بهم، واستحضار له، حتى لكأنه وقع بهم فعلا، وإن النبي ليجد الأسى عليهم، ويتقبل العزاء فيهم!! وقوله تعالى: «وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ» - هو تسرية عن نفس النبي، لما كان يجد من ضيق، لما يرميه به قومه من أذى، وما يدبرون له من كيد.. فالله سبحانه وتعالى ناظر إليه، ومؤيد له، وآخذ بيده إلى طريق النصر والعزة.. ولله ولرسوله وللمؤمنين قوله تعالى: «وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 277 وهذا الاستفهام إنكارى، يقوله المشركون في استهزاء وسخرية واستنكار: «متى هذا الوعد؟» أي متى يوم البعث الذي تعدنا به، وتهددنا بما نلقى من عذاب فيه؟ .. فقد استبعدوا أولا أن يكون في الإمكان بعث الأموات من القبور بعد أن تتحلل أجسادهم وتضيع في التراب.. فقالوا ما حكاه القرآن عنهم في الآيات السابقة: «لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» ثم هم ثانيا يؤكدون هذا الإنكار بمنطق سقيم، وهو أنه لو كان فى الإمكان بعث الموتى، فما الضرورة لبعثهم؟ إنهم كانوا أحياء في هذه الدنيا، فلم يموتون ثم يبعثون، إذا كان من بعثهم حكمة؟ ألا كان خيرا من هذا أن يظلوا أحياء إلى ما شاء الله، بدلا من أن يميتهم الله ثم يحييهم؟ فلم الموت ثم الحياة، إذا كانت نهاية الإنسان هي الحياة؟ ثم يسلمهم هذا المنطق السقيم إلى القول، بأنه لو كان البعث ممكنا، وكان لهذا البعث حكمة- فلم لم يقع هذا البعث ولو مرة واحدة في حياة الإنسانية، منذ آلاف السنين؟ .. إنه لو كانت البعث أمرا سيقع- مع التسليم بإمكان وقوعه- لما قطعت الإنسانية هذه الآماد الطويلة من حياتها على هذه الأرض، ولما غيب الثرى هذه الأعداد التي لا حصر لها من أجيال الناس!! فمتى يأتى هذا اليوم؟ .. إنه وعد كاذب، وسلاح خادع يتهددنا به محمد!! وفي هذا يقول شاعرهم: حياة ثم موت ثم بعث ... حديث خرافة يا أم عمرو!! وفي قولهم «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» - مواجهة للنبى والمؤمنين، بهذا الإنكار المتحدّى.. فهم لا يلقون النبي وحده بهذا التحدي الساخر، وإنما يلقون به الجزء: 10 ¦ الصفحة: 278 النبي، وكل من آمن به، ودان بيوم البعث وعمل له.. إنهم يبشرون في الناس بأن لا بعث، وينشرون فيهم هذا المعتقد الفاسد، حتى يكثر الواردون معهم على مراتع الحياة الدنيا.. «يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» (12: محمد) قوله تعالى: «قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ» هو ردّ على هؤلاء المشركين المنكرين ليوم البعث، الساخرين بالمؤمنين به.. وقد أعطى الله سبحانه نبيه الكريم هذا الجواب الذي يجيب به على سؤالهم المتهكم المنكر.. وهو جواب يحمل إليهم نذر هذا اليوم، ويذيقهم جرعات من بعض العذاب المعدّ لهم فيه.. وقوله تعالى: «عَسى» هو يقين واقع، لا رجاء متوقع.. فما يعد الله سبحانه وتعالى به فهو واقع لا شك فيه، على أية صورة جاء عليها الوعد.. وإنما جاء هذا الوعد في صورة الرجاء، استهزاء بالمشركين المكذّبين، ليقابل استهزاءهم الذي جاء في هذا الاستفهام الإنكارى في قولهم: «مَتى هذَا الْوَعْدُ» ؟ .. ثم هو مطاولة لهم في طغيانهم، وإملاء لهم فيما هم فيه من تكذيب. وقوله تعالى.. «رَدِفَ لَكُمْ» أي وقع لكم، وعلق بكم، بعض هذا العذاب الذي تنكرونه وتستعجلونه.. ولكنكم لا تشعرون به، لأنكم فى غمرة من جهلكم وضلالكم.. وأصل الرّدف: ما يجىء في عقب غيره.. ومنه الرديف، وهو من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 279 يركب خلف الراكب.. ومنه سمى الرّدف، وهو مؤخّرة الإنسان، وجمعه أرداف.. وفي التعبير بالفعل «ردف» دون غيره من الأفعال التي بمعناه.. ما يشير إلى أمور.. منها: أولا: أن هذا العذاب سيجيئ من وراء ظنونهم، ويقع من حيث لا يتوقعون.. كما يجىء الرديف من الخلف، وكما يقع الرّدف من وراء.. وثانيا: أن الرّدف، أو الرديف، يلتصق بصاحبه.. وأن هذا العذاب هو ملتصق بهم، وممسك بكيانهم، لا يفلتون منه أبدا. وثالثا: أن الردف، أو الرديف، هو عبء ثقيل، قد يبهظ المتعلق به.. وهذا العذاب المعجّل لهم في الدنيا، سيلاقون منه بلاء وشدّة.. وقوله تعالى: «بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ» .. هو إشارة إلى ما سيحل بالمشركين من خزى في الدنيا، ومن خذلان في مواقع القتال بينهم وبين المسلمين، حتى تضيق عليهم الأرض بما رحبت، ويدخل عليهم الرسول والمؤمنون مكة فاتحين.. إنه بعض العذاب الملتصق بهم.. وهو قليل من كثير.. مما يلقاه أهل الضلال في الآخرة. وقوله تعالى: «وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ» . هو إشارة إلى ما يسوق الله سبحانه وتعالى إلى الناس من فضل وما يمدّهم به من نعم.. وإن من أجلّ هذه النّعم، رسوله المبعوث إليهم، وآياته التي يتلوها عليهم، ولكنّ أكثرهم يلقون هذه النعم بالجحود والكفران.. وفي إضافة النبي الكريم إلى ربّه، بهذا الخطاب الذي يفرده فيه وحده الجزء: 10 ¦ الصفحة: 280 فى هذا تكريم للنبى، واحتفاء به، والتفات إليه بعين العناية والرعاية. قوله تعالى: «وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ» . هو تهديد للمشركين، وأنهم لن يفلتوا من يد الله، ولن يخلصوا من عذابه لما هم فيه من كفر وضلال، يمتلىء به صدورهم، وتنطق به ألسنتهم، وتتشكل منه أعمالهم.. والله سبحانه يعلم ما يخفون وما يعلنون.. فأين يذهبون؟ وفي تكرار الإضافة للنبى إلى ربه وبضمير الخطاب لله لا بضمير الغيبة- فى هذا توكيد لهذا التكريم للنبيّ وإيناس له في حضرة ربّه.. قوله تعالى، «وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» ذلك هو بعض علم الله، الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.. فما من غائبة تغيب عن علم كل عالم في الأرض أو في السماء، إلا ويعلمها الله، لأنها مودعة في كتاب مبين من قبل أن توجد.. كما يقول سبحانه: «ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» (22: الحديد) . قوله تعالى: «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» . مناسبة هذه الآية لما قبلها وما بعدها من هذه الآيات، هى أن بنى إسرائيل كانوا في نظر المشركين أصحاب علم، وأهل كتاب، وكانوا يسمعون منهم، ويتلقون عنهم كثيرا من الأخبار.. فلما جاء القرآن الكريم، وحمل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 281 إليهم كثيرا من أخبار الأولين، وعرض عليهم صورا من الحياة الآخرة. والحساب، والجنة والنار، ورأوا فيما سمعوا من آيات الله كثيرا من وجوه الاختلاف مع ما كانوا قد سمعوه من اليهود- لمّا كان هذا، وقع في نفوس المشركين أن النبيّ إنما يأخذ من تلك الأخبار التي عند اليهود، وينقلها نقلا مضطربا، يخالف فيه الأصل الذي أخذ منه، ولهذا جاء قوله تعالى: «وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» ثم جاء قوله تعالى: «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» ليلفت هؤلاء المشركين إلى علوّ هذا القرآن، وإلى أنه هو الذي يصحح لبني إسرائيل ما أحدثوا في الكتاب الذي بين أيديهم، من تحريف وتبديل، حتى وقع بينهم هذا الاضطراب والاختلاف، لأنه من علم الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.. هذا، ولم يكن القرآن الكريم قد اتّجه إلى أهل الكتاب بعد، فى هذا الدور من الرسالة الإسلامية، ولم يكن لقى اليهود لقاء مباشرا.. فكانت هذه الآية إشارة إلى أن القرآن لم يجىء للمشركين وحدهم، وإنما جاء كذلك إلى أهل الكتاب، ليصحح ما دخل على هؤلاء وهؤلاء من أباطيل، أفسدت العقيدة، وغيّرت معالم الحق فيها.. وأكثر ما اختلف فيه بنو إسرائيل مقولاتهم في المسيح، وأنه ابن زنا، وأنه ابن يوسف النجار، وأنهم صلبوه.. فجاء القرآن الكريم يقرر أن المسيح عبد الله ورسوله، وأنه نفخة من روح الحق، وأنهم ما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم.. ومما اختلف فيه اليهود والنصارى قولهم: «نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ» فجاء القرآن يكذب هذا الادعاء. فقال تعالى لنبيه: «قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ؟ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ» (18: المائدة) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 282 ومن ذلك أيضا قولهم في الأطعمة التي حرمها الله عليهم، نكالا بهم، وإصرا عليهم، وادعاؤهم أن هذه الأطعمة إنما حرمت على آبائهم الأولين، قبل أن تنزل التوراة، وأنها شريعة، وليست عقوبة.. وقد كذبهم القرآن فى هذا، فقال تعالى: «كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ.. مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ.. فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (93- 95: آل عمران) . ففى قوله تعالى: «فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» - هو دعوة إلى اليهود أن يخرجوا.. هذا الإصر المضروب عليهم، وذلك بأن يدينوا بالإسلام الذي هو ملة إبراهيم، وبغير هذا فيكون ما حرم عليهم من طعام، هو نكال بهم، لا يرفع عنهم أبدا.. والطعام الذي حرمه الله على اليهود خاصة، عقابا لهم، هو ما أشار إليه سبحانه وتعالى في قوله: «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ» (146- 147: الأنعام) . ومن ذلك افتراؤهم على الله، بأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات، وأنهم مهما فعلوا من منكرات وآثام، فلن يمسهم من عذاب الله إلا هذا العذاب الهين، الذي لا يتجاوز مداه أياما معدودات، فكذبهم الله بقوله: «وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً الجزء: 10 ¦ الصفحة: 283 فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (80- 81: البقرة) . وهكذا جاء القرآن يقصّ على بني إسرائيل، ويكشف لهم مفترياتهم على الله، وما خالفوا فيه شريعته، وكان موضع خلاف بين أهل العلم، فيهم.. قوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» . إشارة إلى هذا القرآن، وما تحمل آياته من الحق والهدى.. وأن الذين يؤمنون به من المشركين، ومن أهل الكتاب، سيجدون الهدى مما هم فيه، من زيغ وضلال، واختلاف. قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ» . وإذ كان القرآن الكريم هو الحق، فإن من ينحرف عنه سيضل، ومن ضل فإنما يضل على نفسه، وسيقضى الله سبحانه وتعالى فيه بحكمه، ويأخذه بعد له: «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ» العزيز الذي لا يخرج عن سلطانه أحد، العليم، الذي لا يغيب عن علمه ما يعمل الظالمون.. الآيات: (79- 85) [سورة النمل (27) : الآيات 79 الى 85] فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 284 التفسير: قوله تعالى: «فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ» . هو تثبيت لقلب النبيّ صلّى الله عليه وآله، وتوثيق للصلة التي بينه وبين الكتاب المنزل عليه، وأن ما يلقى به اليهود إلى المشركين من تلبيسات، يحاجّون بها النبيّ، ويدخلون بها الشك في قلوب الضعفاء- لا ينبغى أن يلتفت إليه النبيّ، ولا أن يعطيه شيئا من التوقير والاحترام- على اعتبار أن ذلك من واردات الكتاب السماويّ الذي في أيدى اليهود.. فهذا الكتاب قد عبث به اليهود، وغيّروا معالمه، وقد جاء القرآن الكريم بالحق المبين، الذي يكشف مفتريات القوم، ويفضح أكاذيبهم: «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» . وإذن فليمض النبيّ في طريقه، متوكّلا على ربّه، غير ملتفت إلى تلك المقولات التي في أيدى اليهود، أو على ألسنة المشركين الذين أخذوها عنهم.. فهو على هدى وبصيرة من ربّه، وعلى صراط مستقيم بهذا الكتاب الذي بين يديه.. وليس عليه من أمر هؤلاء المعاندين المخالفين شىء.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 285 قوله تعالى: «إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ» . هو تحريض للنبيّ على المضيّ في طريقه، غير ملتفت إلى أهل آراء والخلاف.. وغير آسف على ما يوردهم به هذا المراء والخلاف من موارد الهلاك والبلاء.. فإنهم موتى، إذا نودوا لا يسمعون، وإنهم صمّ، لا تقع الكلمات على آذانهم إلا كما تقع على الحجر الأصمّ.. وفي تشبيه القوم بالأموات، وفي وصفهم بعد ذلك بالصمم- إشارة إلى أنهم درجات في الإعراض عن آيات الله. فمنهم من لا يستمع إلى آيات الله أبدا، ولا يدنو من صوت يرتل كلمات الله، خوفا على نفسه أن يقع تحت تأثيرها، فهو يهرب منها، ويقيم على نفسه حجابا بينه وبينها.. وهذا هو والميت سواء بالنسبة لما يتلو الرسول من قرآن.. ومنهم من يسمع القرآن، لا ليتدبّر آياته، ولا ليعرض ما يسمع على عقله، وإنما ليقع على كلمة، يدبرها على غير وجهها، ويتخذ منها مادة للهزء والسخرية.. فهو بهذا أصمّ، وإن كان ذا أذنين يسمعان! وقوله تعالى: «إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ» - هو شرط لإفادة الحكم بعدم سماعهم، وهو- فى معناه- قيد وارد على هذا الحكم، أشبه بالحال.. أي أنهم لا يسمعون ما يلقى إليهم وهم يولّون مدبرين.. والسؤال هنا: كيف يكون عدم سماعهم مقيدا بهذا القيد، وهم صمّ، والأصمّ لا يسمع مطلقا، سواء أقبل أو أدبر؟ والجواب على هذا- والله أعلم- أن الأصم وإن كان لا يسمع بأذنيه، فإنه إذا أقبل على محدثه، ربما فهم عنه بالإشارة، وربما قرأ على حركة شفتيه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 286 بعض الكلمات، فوقع له من هذا وذاك شىء من الإدراك والفهم.. وهؤلاء القوم قد ولوا على أدبارهم، وأعطوا ظهورهم لما يتلى عليهم، فلم يسمعوا شيئا، وهذا فى آذانهم من وقر، ولم يروا شيئا وقد أعطوا ظهورهم لما يلقى إليهم! قوله تعالى: «وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ» . فقوله تعالى: «وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ» - هو استكمال للوصف الذي عليه هؤلاء المشركون وأمثالهم.. فهم أموات، وإن كانوا في الأحياء، وهم صم وإن كانوا في السامعين، وهم عمى وإن كانوا في المبصرين.. «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» (46: الحج) وفي تعديه اسم الفاعل: «يهادى» بحرف الجرّ «عن» بدلا من حرف الحجر «من» الذي يتعدى به الفعل، فيقال هداه من ضلاله- فى هذا إشارة إلى أن هدى القوم لا يكون بأضواء الحق، وأنوار المعرفة، فهذه معنويات تهتدى بها العقول السليمة، وتستضىء بها البصائر المبصرة.. أما هؤلاء القوم، فقد غابت عقولهم، فانطمست بصائرهم، وأصبحوا في عداد الحيوان، الذي يقاد من مقوده، حتى يستقيم إلى الطريق.. ومن هنا ضمّن اسم الفاعل «هاد» معنى «حاجز» أو «مبعد» - الأمر الذي يكون بمعالجة حية، وبقهر مادى.. وهذا ما ليس من رسالة الرسول. الذي تقوم دعوته على الحكمة، والموعظة الحسنة، كما يقول له الحق جل وعلا: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (125: النحل) وفي قوله تعالى: «إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ» تحديد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 287 لهمة الرسول، وبيان لمنهج دعوته، وهو أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه، وأن يسمع الذين إذا سمعوا ودعوا واستجابوا.. و «إن» هنا نافية بمعنى «ما» .. أي ما يبلغ تبليغك إلا أسماع أهل السلامة والعافية في عقولهم وقلوبهم- فهؤلاء إذا سمعوا وجدوا لما يسمعون جوابا حاضرا، فى أنفسهم.. وهو التسليم، والإسلام.. وقوله تعالى: «إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا» أي لا يسمع هذه الآيات إلا من كان عنده استعداد لتقبل الحق، والاهتداء بالهدى إذا التقى به. وقوله تعالى: «فَهُمْ مُسْلِمُونَ» جملة من مبتدأ وخبر، والفاء للسببية، أي أنهم يسمعون كلام الله، ويملئون به عقولهم وقلوبهم، لأنهم مسلمون بالفطرة، وبما عندهم من استعداد للإيمان.. أما من فسدت فطرته، فإنه لن يسمع، وإن سمع لا يعقل! قوله تعالى: «وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ» . (الدابة التي تكلم الناس.. ما هى؟) اضطرب المفسرون في تفسير هذه الآية، وأكثروا من المقولات في هذه الدابة، وفي أوصافها العجيبة، وفي كيفية نطقها، وفيما نطقت به.. وهل يكون ذلك في الدنيا أم في الآخرة.. فهم يقولون إنها من أشراط الساعة، ويذكرون لذلك أحاديث تنسب إلى النبي صلّى الله عليه وآله.. ويقولون إنه يخرج في كل بلدة دابة، مما هو مبثوث من نوعها في الأرض.. وفي أوصافها.. يقولون: إنها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 288 من الإنس، وينسبون إلى على كرم الله وجهه أنه سئل عنها فقال: «أما والله إنها ليست بدابة لها ذنب، ولكن لها لحية «1» » ! ويقولون: إنها الحية التي كانت في جوف الكعبة وخطفتها العقاب حين أرادت قريش بناء البيت الحرام.. ويقولون رأسها رأس ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن أيل «2» ، وعنقها عنق نعامة، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هرة، وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير.. بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعا.. ويزيد ابن جرير على ذلك، أنها بذراع آدم عليه السلام..!! وهكذا تجمع في الدابة جميع الحيوانات، ومختلف الدواب! ويروى عن أبى هريرة أن فيها من كل لون، وما بين قرنيها فرسخ للراكب.. ويروى عن ابن عباس أن لها عنقا مشرفا، يراها من بالشرق، كما يراها من بالغرب! .. وعشرات من الأخبار، والأحاديث، غير هذا، بحيث يجتمع منها متحف، يضم أروع وأعجب ما وقع عليه الخيال. وهذه المقولات في كثرتها، وتناقضها، توقع الحيرة والبلبال، فما يدرى المرء ماذا يأخذ منها، وماذا يدع؟ ولو أنه اقتصر منها على مقولة واحدة، مهما كانت غرابتها، وإغراقها في الخيال- لكان ذلك- على ما فيه- أقرب   (1) أي أنها إنسان.. إذ أن من شأن الإنسان أن تكون له لحية. (2) الأيل: بفتح الهمزة، وضمها، وتشديد الياء، حيوان من ذوات الظلف أشبه بالثور وله قرون طويلة متشعبة، وجمعه أيايل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 289 إلى السلامة من التخبط بين هذه المقولات التي يلطم بعضها وجه بعض. ولو أننا نظرنا إلى الآية الكريمة، نظرا مقاربا، دون شدها إلى أودية الغرائب والعجائب، لرأينا أنها لا تحمل شيئا تستخرج منه هذه المقولات، ولا تحتمل شيئا يساق إليها مما قيل.. فالآية الكريمة ترسم مع الآيات التي قبلها، صورة واضحة الألوان والظلال لأولئك المشركين، الضالين، الذين ماتت مشاعرهم، وعميت أبصارهم وصمّت آذانهم.. فلا يعقلون، ولا يبصرون، ولا يسمعون شيئا مما يتلى عليهم من آيات الله.. فهكذا صورتهم الآيتان في قوله تعالى لنبيه الكريم: «فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا.. فَهُمْ مُسْلِمُونَ» «52- 53: الروم» وهنا في هذه الآية تكتمل الصورة، حين تصل حياتهم الجارية في ريح الأمن والسلامة، بحياتهم التي يطرقهم فيها طارق الموت.. وفي هذه الحالة ينكشف لهم كل شىء.. وإذا عقولهم عاقلة، وآذانهم سامعة، وعيونهم مبصرة.. كما يقول الله تعالى: «لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا، فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» . «22: ق» ففى هذا الوقت ينكشف الغطاء عن الحق الذي ضلوا عنه، وإذا دواب الأرض تنطق، وإذا هم يفقهون حديثها، ويفهمون نطقها، وكانوا في دنياهم قد عجزوا عن أن يفقهوا أو يفهموا ما تحدثهم به آيات الله بلسان عربى مبين.. وفي هذا يقول الله تعالى: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» (53: فصلت) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 290 ففى هذا العرض يرى المشركون أنهم في وضع مقلوب، حيث لا يفهمون حديث الناس، حتى لكأنهم لا يعيشون بين الناس، وأنهم- وهم كما يزعمون أصحاب عقول- لا يعرفون الحق الذي تعرفه دواب الأرض التي تعيش معهم.. فهذه الدواب، تعرف ما لله سبحانه وتعالى من جلال وعظمة، وهي تدين لله سبحانه بالولاء، وتسبح بحمده، كما يقول جل شأنه: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ.. وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ» (18: الحج) . فهذه الدواب، سيفجؤهم أمرها، عند ما تطلع عليهم بهذا الحديث الذي تحدثهم به في العالم الآخر، والذي هو منطق كل موجود بأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه الباطل. فقوله تعالى: «وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ» إشارة إلى نزول الموت بهم.. فوقوع الشيء: مجيئه. من جهة عالية، حيث لا يملك أحد رده، كقوله تعالى: «إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ» .. والمراد بالقول هنا، هو حكم الله، وأمره فيهم، كما يقول سبحانه: «لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» (7: يس) وكقوله تعالى: «فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ» (31: الصافات) .. وقوله تعالى: «تُكَلِّمُهُمْ» أي توحى إليهم، بما يفهمون منه هذه الحقيقة التي ضلوا عنها، وهم أحياء، والتي كانت مستقرة في كيان كل كائن، حاضرة في حياة كل موجود.. إلا هؤلاء الضالين المكذبين! وقد جاء في قراءة: «تُكَلِّمُهُمْ» .. وهو من الكلم، والجرح.. أي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 291 أن ما يفهمونه يومئذ من الدابة فيه كلم وأذى لهم، بما ينكشف لهم من سوء حالهم، وأنهم دون هذه الدواب العجماء فهما، وأقصر منها إدراكا.. وليس المراد بالدابة، دابة واحدة، وإنما المراد جنسها، وهي كل ما يدب على الأرض من حيوان.. من حشرات، وأنعام، وطيور.. وغيرها.. وقوله تعالى: «أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ» - هو تعليل لقوله تعالى: «أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ» - أي تكلمهم الداية لأنهم كانوا لا يوقنون بآيات الله، ولا يؤمنون بها.. والمراد بالناس هناهم هؤلاء المشركون والضالون، وكل من كفر بالله وأعرض عن آياته.. هذا هو المفهوم الذي نستريح إليه من معنى الآية الكريمة، وهو مفهوم كما ترى يعطى دلالة تعين على تأكيد المعنى الذي قصدت إليه الآيات التي سبقتها، والآيات التي لحقتها، كما سنرى.. ومما يستأنس به لهذا الفهم الذي فهمنا عليه الآية الكريمة، هو أن هذه الآية قد جاءت في تلك السورة «سورة النمل» التي كان من آياتها، حديث النملة، وحديث الهدهد، مع سليمان عليه السلام، فقد وقف هذان الحيوانان الضعيفان وهما دابتان من دواب الأرض- وقفا من سليمان هذا الموقف، الذي صغر فيه لعينى سليمان ملكه وما حشد له فيه من الجن والإنس والطير، أمام هذين المخلوقين الضعيفين، وما أودع فيهما الخالق العظيم.. من علم، وحكمة، وبصيرة! وقد نطق الهدهد، بوحدانية الله، وأنكر على الناس كفرهم وضلالهم، وسجودهم للشمس والقمر، شأنهم في هذا شأن هؤلاء المشركين، الذين يعبدون من دون الله أصناما، فقال: «أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ..» ؟ (25: النمل) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 292 وهذا يشير من بعيد إلى أنه إذا كان سليمان قد تلقى علما وحكمة، إلى ما آتاه الله من علم وحكمة، من هذين المخلوقين الضعيفين- فإن معنى هذا أن هناك علما كثيرا مستقى من موارد الحق الذي لا يشوبه شىء من الباطل، تعلمه دواب الأرض، ولا يعلمه كثير من الناس، وأنه من الممكن أن يتلقى الإنسان من هذه الدواب علما، بدلالة الإشارة أو العبارة، كما وقع ذلك لسليمان، وكما يقع ذلك للناس، يوم يكشف الغطاء، وترفع الحجب التي بين الناس وبين عالم الحق.. فينطق كل شىء، شاهدا بأن الله هو الحقّ! قوله تعالى: «وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» . الفوج: الجماعة المتحركة في سرعة. يوزعون: أي يساقون، ومن ورائهم وازع يزعهم، ويدفع بهم دفعا إلى موقف المساءلة والحساب.. وينقل المشركون هنا في هذه الآية من حال الموت، وما يرون فيه من الحق الذي كانوا عنه معرضين، حين يتحدث إليهم الوجود كله، حتى دواب الأرض، تنطق بألوهية الإله الواحد القهار- ينقلون إلى المحشر، حيث يبعثون من قبورهم، ويساقون سوقا عنيفا إلى موقف الحساب والجزاء.. حتى إذا جاءوا، سألهم الحق جل وعلا: «أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ؟ .. إنهم يسألون ممن كانوا ينكرونه، أو يشركون به، ويكذبون بآياته، ويمكرون برسله.. وهذا السؤال من الله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 293 سبحانه- هو مواجهة لهم بالحق الذي أنكروه، وعموا عنه.. وفي هذا بلاء عظيم لهم، حيث يسقط في أيديهم، ولا يجدون قولا يقولونه للذى اعتدوا عليه، وقد جاء بهم ليأخذ بحقه منهم! وفي الاستفهام: «أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً» تقريع لهم، وتقطيع لأكبادهم أسى وحسرة على ما كان منهم.. وفي قوله تعالى: «وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً» - إشارة إلى أنهم لم ينظروا في آيات الله، ولم يعرضوها على عقولهم، بل واجهوها بالبهت والتكذيب، ورموها بالسخرية والاستهزاء، من قبل أن ينظروا فيها.. وقوله تعالى: «أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» - أي ماذا كان عملكم في هذه الدنيا، إذا كنتم لم تستعملوا عقولكم، ولم تؤمنوا بي وبرسلى؟ أللإنسان عمل آخر غير هذا؟ أم أنكم لستم من عالم الإنسان؟ واختصاص المكذبين بآيات الله، بالحشر، وإن كان الحشر للناس جميعا، هو عرض لهذا القطيع الضال من الإنسانية، فى كل أمة من الأمم، حيث تبدو منهم العبرة لكل معتبر! «وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا» قوله تعالى: «وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ» . لقد وجم القوم، وتبلدت مشاعرهم، وطارت عقولهم، وانعقدت ألسنتهم، فى هذا الموقف الرهيب، الذي وقفوا فيه موقف الحساب بين يدى رب العالمين، فلم ينطقوا بكلمة.. «وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا» أي وجب عليهم العقاب، وحق عليهم العذاب، بما كان منهم من ظلم وعدوان على الله، وعلى آيات الله، وعلى رسل الله.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 294 الآيات: (86- 93) [سورة النمل (27) : الآيات 86 الى 93] أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93) التفسير: قوله تعالى: «أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» . هذه الآية تعقيب على تلك المشاهد، التي رأى فيها المشركون والذين يكذبون بآيات الله، ما رأوا من معالم الحق، وهم على طريقهم إلى الدار الآخرة، وإلى موقف الحساب والجزاء.. وفي هذا التعقيب نخسة توقظهم من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 295 هذا الحلم المزعج، وإذا هم مع شركهم الذي أوردهم هذا المورد الوبيل، وإذا كانوا قد عموا عن كلمات الله التي تعرض عليهم آيات الله، تسطع هدى ونورا لمن أراد الهدى والنور.. فهذا الليل الذي جعله الله سكنا لهم، وهذا النهار الذي جعله الله ضياء يكشف ظلام الليل.. أليس في هذا شاهد يشهد بالحق، وينطق بوجود إله متفرد بالقيام على هذا الوجود؟ بلى.. إن في ذلك لآيات- لا آية واحدة- لقوم يؤمنون.. أي قد تهيأت نفوسهم للإيمان.. أما من فسدت فطرتهم، وعميت بصيرتهم، فلن تغنى عنهم الآيات شيئا. «وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» (101: يونس) .. وفي تخير هذه الآية- آية الليل والنهار- من بين الآيات كلها، وقصر العرض عليها وحدها- لأنها تجمع الآيات المحسوسة والمعقولة، من جهة، ولأنها واقع مشترك بين الناس جميعا.. حيث يحتويهم جميعا.. الليل والنهار.. من جهة أخرى.. قوله تعالى: «وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ.. وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ» . وفي هذه الآية يردّ المشركون مرة أخرى إلى الدار الآخرة، وإلى ما كانوا فيه من هول وفزع، مستصحبين معهم ما سمعوا لتوّهم من قوله تعالى: «أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً» .. فإذا كانوا قد نسوا، ما رأوا من مشاهد القيامة التي عرضت عليهم من قبل، فهذا مشهد من مشاهدها.. وهذه آية من آيات الله، الدالة على قدرته، ورحمته، وحكمته.. فليأخذوا طريقهم إلى الإيمان» ولا يمسكوا بما هم عليه من شرك، ولا عذر لهم بعد هذا البلاغ المبين.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 296 والصّور: هو القرن، الذي يؤخذ من الحيوان، ثم يخرق من أعلاء، وينفخ فيه.. والنفخ في الصور يوم القيامة، هو دعوة الحق سبحانه وتعالى للأموات، أن يبعثوا من قبورهم.. - وقوله تعالى: «إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ» هو استثناء لبعض خلق الله من الفزع الذي يستولى على أهل السموات والأرض، حين يدعو داعى الحق إلى البعث والنشور.. وهؤلاء المستثنون هم عباد الله الذين آمنوا به واستقاموا على طريقه المستقيم.. كما يقول سبحانه فيهم: «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» (103: الأنبياء) وكما يقول سبحانه في هذه الآيات: «وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ» . - وقوله تعالى: «وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ» أي أذلاء، صاغرين.. قوله تعالى: «وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ» . هو استعراض لبعض مظاهر قدرة الله. وحكمته، وتدبيره في خلقه.. فهذه الجبال التي يراها الرائي فيحسبها هامدة جامدة لا حراك بها، هى في الواقع على غير هذا الظاهر الذي يبدو للعين منها.. إنها تتحرك حركة حرة منطلقة، فى يسر وفي انتظام، كما يمر السحاب! .. فما تراه العين منها شىء، وما هو واقعها شىء آخر.. وإذن ففى الجبال حقيقة لا ترى بالعين، ولا تحسّ بالنظر والمشاهدة.. وتلك الحقيقة أنها متحركة، وأنها تمر مر السحاب! الجزء: 10 ¦ الصفحة: 297 وهنا سؤال: إذا كنا نحن في هذا العصر نرى بعين العلم أن الجبال تمر مر السحاب، وأنها متحركة بحركة الأرض، وأن الذي ينظر إليها من الجو، يرى أنها تسير كما يسير السحاب فعلا.. فكيف كان مفهوم العرب الذين خوطبوا بهذه الآية، وهم لم يكونوا قد عرفوا أن الأرض متحركة تدور حول نفسها مرة كل يوم؟ ألم يكن في إعلان هذه الحقيقة ما يدخل اللبس على قلوب المؤمنين، فوق ما يحرك ألسنة المشركين بالبهت والتكذيب! والجواب- والله أعلم- أن النظم القرآنى، قد جاء على صورة تدفع هذا الاحتمال من جانبيه جميعا! فأولا: يقرر القرآن صراحة أن الجبال ثابتة في مرأى العين.. وهذا لا يجادل فيه أحد، وهذا هو السرّ في قوله تعالى: «تَحْسَبُها جامِدَةً» .. وكما يقول سبحانه: «وَالْجِبالَ أَرْساها» (32: النازعات) ، وكما يقول جل شأنه: «وَالْجِبالَ أَوْتاداً» (7: النبأ) . وثانيا: إن هذه الجبال الثابتة في مرأى العين، هى في حقيقتها متحركة، وهذه الحركة حقيقة لا تنكشف إلا بالعلم والبحث، لأنها قائمة وراء هذا الظاهر.. فمن كان في استطاعته أن يبحث ويدرس، فليفعل، وسيجد مصداق ذلك.. ومن لم يكن عنده هذا الاستعداد، فهو بين رجلين: مؤمن بالله، وبآياته، مصدق بكل ما نزل على الرسول من ربه.. وهذا لا يمارى في هذه الحقيقة، ولا يشك فيها، وإنما هو مؤمن بها، مسلّم بما تحدث به القرآن عنها، ناظرا إلى اليوم الذي يقع له من العلم ما يكشف له عن وجه هذه الحقيقة. ومشرك، أو كافر بالله، فهو مكذب بآيات الله كلها.. جليها وخفيها.. فلا يدخل عليه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 298 من هذه الآية إلا ما امتلأ به قلبه من جحود وإنكار.. وقوله تعالى: «صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ» .. «صُنْعَ اللَّهِ» منصوب على الإغراء بفعل محذوف تقديره: انظر، أو تأمل، أو نحو هذا. وفي هذا دعوة إلى البحث عن هذه الحقيقة التي أشارت إليها الآية الكريمة من أمر الجبال، وتحركها مع تحرك الأرض في دورتها اليومية.. فالذين يؤمنون بالله، ويصدقون بكلماته، يستيقنون أن هنا حقيقة كامنة، تشير إليها الآية الكريمة، ولا تكشف عن وجهها، وأن على المؤمن أن يطلب هذه الحقيقة، وأن يشهد بعض جلال الله منها.. والمفسرون مجمعون على أن ذلك الذي تحدث عنه الآية في شأن الجبال، إنما يقع يوم القيامة، حين تتبدل الأرض غير الأرض والسموات، وكما يقول الله تعالى: «وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً» (20: النبأ) . على أن الذي حملنا على مخالفة هذا الإجماع، هو ما جاء في قوله تعالى: «صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ» فإن ذلك إلفسات إلى روعة الصنعة وإحكامها، وهذا لا يكون واقعا في نظر الإنسان يوم القيامة وهو يرى الجبال وقد تناثرت أشلاء!. وإنما يرى ذلك، وهي قائمة ثابتة، ثم هي في نفس الوقت متحركة تدور مع الأرض في دورانها، دون أن تسقط وتهوى! وفي هذا يتجلى إحكام الصنع وإتقانه.. وهنا سؤال أيضا وهو: إذا كان ذلك كذلك، فلم لم تنكشف هذه الحقيقة للمسلمين الأولين؟ ولم لم يطلبها الصحابة، ولم يكلفوا أنفسهم البحث عنها. وهم أعرف الناس بكتاب الله، وأقربهم من مواقع الحق فيه؟ وتقول: إن صحابة رسول الله- رضوان الله عليهم- كان متعلّقتهم بآيات الله، هو الجانب الروحي منها، ولم يكن يعنيهم من هذا الوجود الجزء: 10 ¦ الصفحة: 299 ظواهره، وإنما كان همهم حقيقته، ولبابه، وما انطوى عليه من علم، وحكمة، وتقدير.. إنهم كانوا في مستوى روحى رفيع، بحيث يصغر في أعينهم كل ما هو مادىّ، وإن بهر العيون، وخلب الألباب! وإذن فلا نسأل إذا كان صحابة رسول الله قد اطلعوا على هذه الحقيقة من أمر الجبال أم لم يطلعوا، لأنها كانت أقل الحقائق التي اطلعوا عليها، وشغلوا بها، من عالم الحق. ومن جهة أخرى.. فإن من كان يعرف هذه الحقيقة لم يكن يرى من الحكمة التحدثّ بها، وإذاعتها في المجتمع، إذ كانت مما لا تصدّقه العقول يومئذ، فالحديث به فتنة، تشغل الناس، وتثير دخانا كثيفا من الشكوك والريب.. ذلك في الوقت الذي كانت فيه وجهة الدعوة الإسلامية، هى محاربة الشرك والإلحاد، وتوجيه العقول والقلوب إلى وحدانية الإله الواحد، المتفرد بالخلق والأمر، رب العالمين.. فكل ما من شأنه أن يشغل عن هذه الغاية، هو في الواقع حركة مضادة لدعوة الإسلام، وحرب خفية عليها.. ولعلّ هذا هو السر في أن المرحلة الأولى من الدعوة الإسلامية، قد خلت تماما من التعرض للحقائق العلمية، التي تشغل العقول عن النظر المباشر إلى جلال الله سبحانه وتعالى، فى صفحة هذا الوجود، نظرا يملأ القلوب روعة وخشوعا، ورهبة لهذا الإبداع الذي يتمثل في كل كائن من تلك الكائنات المبثوثة في الأرض أو في السماء.. فإن زهرة واحدة.. مثلا، فى جمال ألوانها، وتناسق أصباغها، وتماثل أجزائها.. جديرة بأن تفتح للإنسان طريقا إلى الله، وإلى الإيمان به، إيمانا وثيقا، مبرّا من كل شرك، وشك! .. ومن أجل هذا، لم يلق القرآن الكريم أولئك الذين كانوا يريدون أن يدخلوا معه في ميدان المماحكة والجدل- لم يلقهم محاجا أو مجادلا، بل صرف وجهه عنهم، ودعاهم إلى أن يلتمسوا الطهر لقلوبهم من داء الشرك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 300 أولا، فإذا فعلوا ذلك، كان كل شىء يقع لهم من علم- وإن قل- مبارك العطاء، طيب الثمر.. وفي هذا يقول الله تعالى ردّا على من سألوا هذا السؤال المتعنّت عن الأهلّة: ما بالها تبدو صغيرة، ثم تكبر، ثم تعود فتصغر؟: «قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ» (189: البقرة) ومن أجل هذا أيضا أمسك كثير من صحابة رسول الله، بما كشف لهم الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- من أسرار هذا الوجود، فى العالم الأرضى والسماوي، لأنها كانت فوق أن يحتملها غيرهم.. ولو أنها ذاعت فى الناس يومئذ لكانت فتنة لهم.. وكذلك فعل كثير من أهل العلم، الذين حلّقت أرواحهم في سماوات عالمية، فرأوا بشفافية أرواحهم مالا يراه غيرهم، وفي هذا يقول قائلهم: يا ربّ جوهر علم لو أبوح به ... لقيل لى أنت ممن يعبد الوثنا ولاستباح رجال مسلمون دمى ... يرون أكثر ما يأتونه حسنا قوله تعالى: «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» . فى هاتين الآيتين عرض لمحصول الدعوة الإسلامية في المجتمع الإنسانى.. فالناس مؤمنون، أو كافرون.. محسنون، أو مسيئون. أما المؤمنون المحسنون، الذين يعملون الصالحات، فلهم جزاء ما عملوا، أضعافا مضاعفة، من رحمة الله ورضوانه.. وأما أهل الزيغ والضلال والفساد، فجزاؤهم جهنم، حيث يساقون إليها سوقا عنيفا، فيسقطون على وجوههم فى النار.. وهذا جزاء ما كانوا يعملون.. وفي إفراد الضمير لأهل الإحسان وأهل السوء أولا، ثم عوده جمعا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 301 عليهما ثانيا- فى هذا إشارة إلى أن لكل إنسان حسابه وجزاءه.. فهم- محسنون ومسيئون- محاسبون، فردا فردا.. ثم يلتقى أهل الإحسان بأهل الإحسان، ويلتقى أهل السوء بأهل السوء.. قوله تعالى: «إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ.. فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» . بهذه الآيات الثلاث تختم سورة النمل، فيلتقى ختامها مع بدئها.. حيث بدئت بعرض كتاب الله الكريم، وما فيه من هدى وبشرى للمؤمنين، ومن خزى ووعيد للمشركين الضالين. ثم عرضت السورة بعد هذا معارض للدعوة إلى الله على لسان هذا الطائر الضئيل الضعيف «الهدهد» ليرى في هذا العرض ما في الإنسان من سفاهة وحمق، حين يضل طريقه إلى الله، فيعبد الشمس والقمر، ويأبى أن يعبد ربّ الشمس والقمر..! ثم تختم السورة بهذا الموقف الذي ينهى به النبي- صلوات الله وسلامه عليه- ما بينه وبين قومه.. إنه قد دعاهم إلى الله، وبلغهم رسالة ربه، وأسمعهم آياته، فليس لهم بعد هذا على الله حجة.. وإنه- وهو رسول الله- مدعوّ مثلهم، إلى ما يدعوهم إليه من عبادة الله، والولاء له.. «فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ» لا سلطان لى على أحد، حتى أحمله به حملا على الإيمان بالله. وفي قوله تعالى: «رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها» إشارة إلى أن هذه البلدة، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 302 وهي مكة- معلم من معالم الحق على هذه الأرض، وأنها أكرم وأعظم ما يشار إليه منسوبا إلى الله سبحانه مما على هذه الأرض.. إذ كان فيها أول بيت وضع للناس.. وإذ هي قبلة كل من يؤمن بالله، لا قبلة لأهل الإيمان غيرها.. وقد أشار القرآن الكريم إشارة أخرى في قوله تعالى: َلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ» (3: قريش) . وقوله تعالى: «الَّذِي حَرَّمَها» - الاسم الموصول يعود إلى ربّ البلدة، لا البلدة. وفي قوله تعالى: «وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ» إضافة لكل موجود في هذا الوجود إلى الله سبحانه وتعالى.. فكل شىء هو ملك لله، لا شريك له فيما ملك. وقد أضاف الله سبحانه، البلدة (مكة) إلى ربوبيته، وأضاف الوجود كله إلى ملكه، وفي هذا تشريف عظيم لهذه البلدة، ورفع لقدرها، وأنها مختصة منه سبحانه بمزيد من الفضل والإحسان، حيث تربى في نعم الله، وتستظل بظل ربوبيته.. وإذا كان كل شىء مربوبا لله، فإن لله سبحانه ما يشاء من اختصاص بالفضل والإحسان.. «وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» . (105: البقرة) وقوله تعالى: «وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» - إشارة إلى أن الدين الذي بدين به النبي ليس دينا خاصا به وحده، ولا مقصورا عليه وحده، وإنما هو دين كل من يؤمن بالله.. فهو واحد من المسلمين، وإن كان سيد المسلمين وإمامهم.. وقوله تعالى: «وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ» - معطوف على قوله تعالى: «وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» أي وأمرت أن أتلو القرآن، على الناس وأبلغهم إياه.. هذه هي رسالتى: «فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ» .. أي لا سلطان لى على أحد، وإنما أنا نذير لكم بين يدى عذاب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 303 شديد.. فمن استمع لهذا النذير، وأخذ لنفسه طريق النجاة من عذاب الله، فقد أدى حق نفسه عليه.. ومن أقام على طريق الضلال حتى يأخذه العذاب فلا يلومن أحدا..! قوله تعالى: «وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» . هو لسان الوجود كله، يسبح بحمد الله.. ينطق به الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- وينطق معه كل مخلوق.. فإن لم ينطق به المشركون والكافرون في هذه الدنيا، لما ران على قلوبهم من زيغ، وما غشى على أبصارهم من ضلال، فإنهم سيحمدون الله سبحانه، حين ينكشف لهم الغطاء بعد الموت، ويرون آيات الله، ويعلمون أنها الحق من ربهم.. فقوله تعالى: «سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها» - هو جواب عن سؤال يرد على خواطر المشركين والكافرين في هذه الدنيا، حيث ينكرون الله، وينكرون ما يحمد عليه.. فيقولون: من نحمد؟ وعلام نحمد؟ فيلقاهم الجواب: «سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها» أي إذا جهلتم الله الآن وأنكرتموه، وأنكرتم نعمه عليكم، فإنكم في الدار الآخرة، سترون آياته، وترون الحق الذي جهلتموه، ويومئذ تعرفون قدر الله، وجلاله، وعظمته، وما أفاض عليكم من نعم، فلا تملكون غير الحمد لله رب العالمين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» (75: الزمر) وفي قوله تعالى: «سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها» وعيد لهؤلاء الضالين، يوم ينكشف لهم وجه الحق ويرون ما كانوا فيه من ضلال وعمى.. ومن تلك الآيات الجزء: 10 ¦ الصفحة: 304 التي سيرونها، ويعرفونها ويتلقون منها الحق الذي أنكروه- هذه الدابة التي تكلمهم عند موتهم. وقوله تعالى: «وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» وعيد بعد وعيد للمشركين والضّالّين، وأن ما عملوا من سوء هو مسجّل عليهم، فى علم الله، وسيحاسبون عليه.. فليس ما يعملونه بغائب على الله، وليس الله سبحانه وتعالى بغافل عنهم.. بل سيأخذهم بما كسبوا.. ليجزى الذين أسلموا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 305 28- سورة القصص نزولها: مكية، باتفاق. عدد آياتها: ثمان وثمانون.. بلا خلاف. عدد كلماتها: ألف وأربعمائة، وواحدة. عدد حروفها: خمسة آلاف، وثمانمائة حرف. مناسبة السورة لما قبلها جاء في سورة الشعراء، ثم في سورة النمل، السابقتين على هذه السورة- حديث موجز عن موسى وفرعون.. فقد جاء فى «الشعراء» قول فرعون لموسى: «أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ» (18- 19: الشعراء) وجاء في هذه السورة- القصص- بيان مفصّل لهذه الفترة من حياة موسى، تحدّثت عن مولده، وإلقائه في اليم، والنقاط آل فرعون له، ونشأته فى بيت فرعون تمنّى له.. ثم قتله المصري، ثم فراره إلى مدين.. وهذه الأحداث كلّها قد طويت طيّا في الآيتين السابقتين من (سورة الشعراء) وجاء في سورة (النمل) : «إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» (7) ولم يذكر فيها من هم أهله؟ ومن أين جاءوا؟ وما وجهتهم معه؟. فجاء في سورة (القصص) .. فرار موسى إلى أرض مدين، ولقاؤه شعيبا، وتزوّجه بإحدى ابنتيه اللتين لقيهما على ماء مدين، وسقى لهما ... كما سنرى ذلك مفصلا في هذه السورة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 306 بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 8) [سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) التفسير «طسم» مبتدأ، وخبره «تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» . فهذه الآيات البينة التي ضم عليها هذا الكتاب المبين، هى هدى ورحمة للمؤمنين، يرون فيها، وعلى أضوائها، وجه الحق، فتتجه عقولهم إليه، وتتفتح قلوبهم له.. أما من ختم الله على قلوبهم وسمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة من أهل الشّقوة- فإن آيات الله البينة الواضحة، تستغلق عليهم، فلا تقع في آذانهم، ولا تمر على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 307 عقولهم وقلوبهم إلا كما تمر هذه الحروف «طسم» وأمثالها، مما هو أصوات، لا ينتظم منها معنى، إلا عند الراسخين في العلم. قوله تعالى: «نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» . أي من آيات هذا الكتاب المبين، نتلو عليك هذه الأنباء، مما كان بين موسى وفرعون، منزّلة من عالم الحق، بالحق.. «لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» أي مستعدون بفطرتهم للإيمان، متقبلون للحق، إذا بانت لهم دلائله، ووضحت لهم سبيله. - وفي قوله تعالى: «نَتْلُوا عَلَيْكَ» بإسناد الفعل إلى الله سبحانه وتعالى، مع أن الذي يتلو هذه الآيات على النبي، هو جبريل- فى هذا تكريم للنبى، وإدناء له من ربه، الذي يتلو عليه هذه الآيات.. قوله تعالى: «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» . هو ابتداء بما يتلى من نبأ موسى وفرعون. وقد بدىء بالحديث عن فرعون، فكشف عن شخصه الذي يكشف عن إنسان يلبس ثوب الجبروت والطغيان.. فقد علا في الأرض، وجعل الناس شيعا، وهم أمة واحدة، من طينة واحدة.. فهو بعلوّه واستكباره قد انعزل عن الناس، فكان رأسا، وكان الناس جميعا أرجلا!! كان سيدا، وأصبح الناس كلهم في سلطانه عبيدا.. كان إلها، وصار الناس له مألوهين.. ثم إنه بعمله هذا قد صنف الناس أصنافا، ورتبهم طبقات.. وبذلك تسلطت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 308 كل طبقة على من هي تحتها.. وبذلك أغرى الناس بالناس، وشغل بعضهم ببعض!. وقوله تعالى: «يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ» المراد بالطائفة هنا هم بنو إسرائيل.. وإذا كان فرعون قد استضعف الناس جميعا ممن هم تحت سلطانه، فإنه بالغ في استضعاف هذه الجماعة، وأخذها بالبأساء والضراء.. فهو يذبح أبناءهم، حتى يقطع نسلهم، ويستحيى نساءهم، أي يمتهنهن، ويفضح سرهن، فلا يرعى لهن حرمة، ولا يبقى لهن على حياء!. - وقوله تعالى: «إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» - هو الوصف الجامع لمساوىء فرعون- إنه لا يفعل إلا ما كان من واردات الفساد.. فهو كيان فاسد، لا يصدر عنه إلا ما هو فاسد.. قوله تعالى: «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ» . هو معطوف على إرادة لفرعون، التي كان يقصد إليها من وراء هذا الإدلال للناس، وما يأخذهم به من ذبح الأبناء، واستحياء النساء، وهو التمكين لسلطانه، وازدياد هذا السلطان علوا، بازدياد الناس من تحته نزولا وانحدارا.. فهو يريد هذا، والله سبحانه يريد أن يمن على هؤلاء المستضعفين.. وإرادة الله هي الغالبة.. وهذا هو بعض السر في قوله تعالى: «وَنُرِيدُ» يتعلق الفعل بالمستقبل، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 309 مع أن إرادة الله قديمة أزلية.. ولكنهاهنا إرادة خالقة، قد جاء أوان إمضائها على الوجه الذي أراده سبحانه.. إنها تصدم إرادة فرعون الذي يريد بها إذلال تلك الجماعة، والله يريد خلاصها من يده، والمنّ عليها بالتحرر من هذا الأسر. والمنّ: التفضل والإحسان ابتداء من غير مقابل.. والأئمة: القادة، الذين يكونون أمام غيرهم.. - وقوله تعالى: «وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ» أي نثبت لهم مكانا فيها. - وقوله تعالى: «وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ» - أي نفسد على فرعون تدبيره، ونبطل كيده، فيما قصد إليه من وراء بغيه وعدوانه.. فمن هذه الجهة التي كان يعمل على القضاء عليها، خوفا على سلطانه- من هذه الجهة سيطلع عليه ما يذهب بسلطانه، ويقضى عليه هو ومن معه.! حتى لكأنما يريد إهلاك نفسه عمدا!. و «هامان» هو اليد العاملة لفرعون، فيما يشاء.. وقد يكون وزيرا لفرعون، أو مستشارا له، أو كبير جنده.. وهو الذي دعاه فرعون إلى أن يبنى له صرحا يطلع منه إلى إله موسى.. وفي هذا يقول الله تعالى: «وَقالَ فِرْعَوْنُ.. يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى» «36- 37: غافر» قوله تعالى: «وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 310 فى هذه الآية والآيات التي بعدها، يكشف الله سبحانه وتعالى عن الأسباب التي يقيمها سبحانه، لتمضى بها إرادته، وتتحقق مشيئته.. وإذا كان الله سبحانه وتعالى في غنى عن هذه الأسباب التي تتصل بالمسببات، حيث يقول للشىء «كن» فيكون- فإنه سبحانه، يرينا بهذا التدبير أن هناك أسبابا يتوسل بها إلى المسببات، وأن علينا أن نأخذ كل أمر بأسبابه التي تقع في حسابنا وتقديرنا.. وأول سبب من تلك الأسباب التي تقع بها إرادة الله في فرعون، هو ميلاد موسى، الذي سيكون على يده هلاك فرعون.! فهذا هو السبب الأول الذي ستدور عليه الأسباب المؤدية إلى هلاك فرعون!. وحين ولد موسى، كان فرعون يمضى حكمه في أبناء بني إسرائيل، فيترصد جنوده لكل مولود ذكر ليذبحوه.. وقد أوحى الله سبحانه إلى أم موسى أن تمسك وليدها، وأن ترضعه، أي تتولى إرضاعه من لبنها، لا أن تدعه لمرضع غيرها، وذلك لأمر سيتضح فيما بعد، حين يقع الوليد في يد امرأة فرعون، فتلتمس له المراضع، فلا يقبل غير الثدي الذي رضع منه، أول رضعات، وهو ثدى أمه.. وبذلك يجتمع الوليد وأمه، لنمضى الأسباب إلى غاياتها.. وقد يكون الوحى المشار إليه هنا، هو إلهام من الله سبحانه وتعالى، فوقع فى تفكير أم موسى أن تصنع هذا الصنيع. وأن تحتال هذه الحيلة، وأن تغامر تلك المغامرة، فهى على ما بها من خطر يتهدد الوليد، فإنها فرارا بهذا الوليد من هلاك محقق، تدبر له هذا التدبير.. وقد ينجو الوليد وقد يهلك بهذا التدبير الذي دبرته، فإن نجا، فهذا ما ترجوه، وإن هلك فموته غرقا بعيدا عنها، أهون عليها من أن يذبح بين يديها!. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 311 - وقوله تعالى: «فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ» - أي أمسكيه عندك، وأرضعيه، حتى إذا استشعرت خوفا من فرعون أن يصل إليه فألقيه في اليم، أي النهر، وهو نهر النيل.. - وقوله تعالى: «وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» تطمين لأم الوليد، وتسكين لمخاوفها التي تطل عليها من إلقائه في اليم.. فهى إذ تستمع إلى هذا الوعد من رب العالمين، تدفع بابنها إلى اليم، فى غير تردد، هذا إذا كان الأمر وحيا مباشرا، أما إذا كان إلهاما، فتكون هذه الأوامر الموجهة إليها، خواطر قد جرت في تفكيرها، ثم ألزمت نفسها بها، وأقامت أمرها عليها.. فكأنها أوامر صادرة إليها من جهة عليا، لا تستطيع لها خلافا. إنها القدر الذي يسير الإنسان، ويحدد خطواته، ويقيم وجهه على هذا الأمر أو ذاك.. وقد هداها إيمانها بالله إلى هذا الاطمئنان. قوله تعالى: «فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ» . وتتحرك الأسباب إلى غايتها، خطوة خطوة.. فهذا موسى «الوليد» ينتقل من يد أمه إلى صدر النهر، ثم ينتقل من صدر النهر إلى بيت فرعون.. وهكذا يمضى القدر فى طريقه، لا يدرى الناس من أمره شيئا، حتى ليربّى فرعون في حجره، العدوّ الذي كان يطلبه! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً» . فهو لم يلتقط حين التقط ليكون لفرعون عدوا وحزنا، وإنما التقطه آل فرعون ليكون لهم قرة عين، كما تقول امرأة فرعون: «لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» ولكنّ للقدر طريقا غير هذا الطريق.. لقد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 312 أراد فرعون أمرا، وأراد الله أمرا، ولا مرد لما أراد الله.. - وقوله تعالى: «إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ» .. يجوز أن يكون وصفهم بالخاطئين، من الخطأ وهو ضد الصواب.. بمعنى أنهم كانوا فى جهل وعمى عما ينكشف عن هذا الأمر الذي فعلوه بأيديهم.. وفي هذا ما يكذب ادعاء فرعون للألوهية، ويكشف زيف هذا الادعاء.. فلو أنه كان إلها، لما اختار من بين المواليد كلها هذا الوليد الذي يكون على يديه هلاكه، وموته على تلك الميتة الشنعاء! وإما أن يكون هذا الوصف من الخطء والخطيئة- ويكون هذا الوصف تعليلا لما أخذهم الله به من هذا التدبير الذي يوردهم موارد الهلاك. الآيات: (9- 14) [سورة القصص (28) : الآيات 9 الى 14] وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 313 التفسير: قوله تعالى: «وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ.. لا تَقْتُلُوهُ.. عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» . وتتحرك أحداث القدر إلى غاياتها، وها هو ذا الوليد بين يدى فرعون.. إنه الوليد الذي يطلبه ذبحا ممن يذبح من أبناء إسرائيل.. فالطفل إسرائيلى بلا ريب.. إذ ما من أم تلقى بابنها في اليم، إلا أن تكون من الإسرائيليات، فرارا به من موت محقق إلى موت محتمل.. إذ ربما يلتقطه رجل أو امرأة ممن لا يعنيهم أمر فرعون، من الصيادين، أو الفلاحين، فيجد الطفل من يربّيه ابنا، أو عبدا!! هكذا كانت نظرة فرعون والملأ حوله إلى هذا الوليد.. إنه إسرائيلى.. وإذن فليذبح كما ذبح ويذبح أبناء جنسه.. ولكن القدر يحرك سببا، فيفسد على فرعون وملائه هذا الرأى، حيث تتطلع امرأة فرعون إلى الوليد- وكانت غير ولود- فتتحرك فيها غريزة الأمومة، وتصرخ في أعماقها عواطف الأم نحو هذا الطفل، وإذا هو لعينيها الطفل الذي ولدته، لساعتها فتتشبث به، وتصرخ في الأيدى الممتدة لذبحه: - ولدي!! كبدى وقرة عينى!! «لا تقتلوه» . وترتفع الأيدى عن مهد الوليد، ويتطلع فرعون إلى امرأته عجبا دهشا..! ولا تمهله حتى ينطق بالأمر القاطع في هذا الوليد.. فتلقاه متوددة متعطفة، مسترحمة لنفسها- وقد حرمت الولد- أن يدع لها فرعون هذا الولد، من بين آلاف الأولاد الذين أراق دماءهم، وأزهق أرواحهم.. وإن ولدا واحدا، لا يقدم ولا يؤخر في الأمر الذي يتغياه فرعون، من قتل هؤلاء الأطفال- الجزء: 10 ¦ الصفحة: 314 فتقول لفرعون في نودد وتلطف واسترحام: «عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا» ! وتقع هذه الكلمات من قلب فرعون موقعا، فيجيب امرأته إلى ما طلبت، ويترك لها الوليد، تترضى به أنوثتها، وتشبع به جوع أمومتها! - وقوله تعالى: «وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» جملة حالية، من فاعل فعل محذوف، دل عليه سياق الكلام.. والتقدير.. تركوا الوليد، واستثنوه من الذبح، وهم لا يشعرون بما سيأتيهم من هذا الوليد، مما كانوا يحذرون.. قوله تعالى: «وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» . فى الآية لفتة جانبية إلى أم موسى، وإلى ما تعانى من آلام نفسية، بعد أن ألقت بوليدها في اليم.. وفي هذه اللفتة تتصل خيوط الأحداث التي ينسج منها القدر هذا الحدث الكبير، الذي سيولد بعد قليل.. وأم موسى لها دورهام في الأحداث المقبلة.. سينكشف فيما بعد! - وفي قوله تعالى: «وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً» - إشارة إلى ما ترك ضياع الولد من يدها، من فراغ كبير، فى مشاعرها، وأحاسيسها.. فلقد تعطلت بذهابه عنها كل العواطف التي تغذى بها الأم طفلها، من سهر عليه، ومناغاة له، واشتغال به في نومه، ويقظته، وفي بكائه، وصمته، وفي حركته وسكونه. إن جوارحها كلها التي ترصدها الأم لطفلها، قد أصبحت أدوات معطلة لا تعمل، وهذا بدوره قد جعل قلبها- وهو مركز العواطف والمشاعر- كيانا فارغا، لا يستقبل من الطفل ما يصل الأم به، من مشاعر وعواطف، إلا تلك العواطف السلبية.. من قلق، وأسى، ولوعة.. وهذا هو السر في هذا التعبير الجزء: 10 ¦ الصفحة: 315 المعجز: «وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً» ! .. - وفي قوله تعالى: «أُمِّ مُوسى» - إشارة إلى أن هذا الوليد، قد أصبح- فى رعاية الله، وفي ضمان وعده بحفظه- قد أصبح ذا وجود معترف به في هذا المحيط الذي ضاعت فيه معالم الأطفال، وأهدرت فيه دماؤهم.. إنه الآن شخصية معروفة، وعلم ظاهر، يأخذ مكانه في هذه الأحداث، تماما كما يأخذ فرعون مكانه فيها.. - وقوله تعالى: «إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ» .. أي أنها- وقد فرغ قلبها من هذا المهد الذي كان لوليدها في سويداء القلب- أو شكت أن تصرخ وتندب هذا الوليد، وتنادى في الناس: إن هذا الطفل الذي وجد ملقى في اليمّ والذي التقطه آل فرعون هو وليدها.. وإنها لتود أن تلقى عليه ولو نظرة واحدة، قبل أن يصير إلى هذا المصير المجهول! - وقوله تعالى: «لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها» - أي أمسكنا على قلبها ما فيه من نوازع تريد الانطلاق إلى الكشف عن وجه الوليد، وفضح أمره.. - وقوله تعالى: «لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» - تعليل لهذا لربط الذي ربط الله سبحانه، به على قلبها، وهو أنها بعد أن تتكشف لها الأمور، ستعلم أن ما وعدها الله حقّ، وبهذا يتأكد إيمانها بالله، ويقوى يقينها به وفي هذا إشارة إلى أن ما يبتلى به المؤمنون الصابرون من أرزاء ومحن، هو تثبيت لإيمانهم، وترسيخ لقواعد هذا الإيمان في قلوبهم، حيث ينكشف لهم وراء كل رزء، وعقب كل محنة، أن ذلك لم يكن إلا عن تدبير الحكيم العليم، وأنهم لو استقبلوا من أمورهم ما استدبروا، لما أقاموها إلا على هذا الوجه الذي أقامه الله ربّ العالمين، وبهذا ينتقلون من حال القلق، والجزع في مواجهة المصائب والمحن، إلى حال التسليم، والرضا.. وهذا هو الإيمان في أرفع مقاماته، وأعلى منازله.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 316 قوله تعالى: «وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ.. فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» . وبدلا من أن كانت أم موسى على وشك أن تطرق باب فرعون، وتستصرخ هناك، فإنها- وقد ربط الله على قلبها- قد رجعت إلى صوابها، وأخذت تنظر إلى الأمور بعين الحكمة والروية، فطلبت إلى ابنتها أن تتحسس أخباره من بعيد، وأن تتسمع ما يتحدث به المتحدثون من حاشية فرعون من أمر هذا الوليد الذي التقطوه.. ما شأنه؟ وماذا حل به؟ وهل هو حيّ أم ميت؟ .. وتسللت الأخت في خفّة ولطف، تحوم حول بيت فرعون، ولا تلمّ به، وتلتقط الأخبار المتساقطة من أفواه القوم، ولا تستخبرهم عنها.. حتى لا يفتضح أمرها، وأمر الوليد معها.. - وفي قوله تعالى: «فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» - إعجاز من من إعجاز النظم القرآنى، الذي تشخّص فيه الكلمة ألطف المعاني وأرقها، فإذا شعاعات هذا النور، كيان شاخص، يمسك باليد، ويصور بالعين!. ففى كلمة «بصرت» نرى أن قلب تلك الأخت كان أمام عينيها، فلم تبحث عن أخيها، بعينيها، ولم تتسمع أخباره بأذنيها، وإنما كانت كيانا من الحذر والحيطة، بحيث تقرأ الحركات والإشارات، وتتأول الرموز والألغاز.. فالبصر هنا، بصر علم، أقرب ما يكون إلى الإلهام.. كما يقول سبحانه وتعالى: «قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ.. قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ» (94- 96 طه) وفي كلمة: «عَنْ جُنُبٍ» - إشارة إلى الموقف الذي كانت تأخذه هذه الأخت من موقع الحدث.. إنها لم تكن تلقى الأمر لقاء مواجها، وإنما كانت تلقاه عرضا، كأنه من غير قصد! وفي قوله: «وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» تصفية هذا الموقف، المحاذر، المجانب، من أن يدخل عليه ما يدخل على موقف كثير من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 317 المحاذرين المجانيين من أخطاء، لا يلتفتون إليها، ولا يعملون حسابا لها، فتكون سببا في كشف أمرهم، وفضح سترهم..! فانظر إلى هذه الكلمات النابضة بهذه الأسرار التي لا تنتهى.. إنها كلمات الله.. وكفى! قوله تعالى: «وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ» ؟. وتتحرك الأحداث مرة أخرى إلى «الوليد» وقد أصبح في آل فرعون، تلتمس له المراضع، ويعرض عليه واحدة واحدة، فلا يقبل ثديا منهن!! وكيف؟. لقد كان من تدبير الله سبحانه وتعالى أن ألهم أمه أن ترضعه من ثديها، كما يقول سبحانه: «وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ» .. وبهذا التدبير ألف الوليد ثدى أمه، وألف اللبن الذي رضعه من هذا الثدي.. فلما عرض عليه ثدى غير الذي رضع منه، ردّه، وأبى أن يطعم من لبنه.. وهذا أمر طبيعى، فكثير من الأطفال لا يتحولون عن الثدي الذي رضعوا منه الرضعات الأولى.. وهنا يبدو تأبى الوليد على المراضع، أمرا جاريا على المألوف.. وهنا أيضا تلتمس له المراضع، فى صور وأشكال شتّى.. إنه ابن فرعون.. وإن الدولة كلّها فى خدمته.. فيكثر لذلك البحث عن المرضع، التي يستجيب لها ويقبل عليها، وتعمل أجهزة الدولة كلها لتحقيق هذا الأمر. وعندئذ لا ترى أخت موسى بأسا من أن تعرض ما عندها من بضاعة لعلها تروق لأعين القوم، ولعلها تحقق لهم ما يريدون.. «هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ.. وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ» «ولا يتردد القوم في قبول هذا العرض.. ويتم اللقاء بين موسى وأمه، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 318 ويعرض عليه ثديها، فيقبله.. وتصبح الأم في حاشيته فرعون، مرضعا لهذا الوليد.. وفي قوله تعالى: «وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ» - إشارة إلى امتناع الطفل عن الرضاعة من مرضع غير أمه.. وفي التعبير عن هذا بالتحريم، تأكيد لهذا الامتناع، كما يمتنع المؤمن عن تناول ما حرم الله.. وفي قوله تعالى: «مِنْ قَبْلُ» إشارة إلى هذا التدبير الذي كان من إلهام الله سبحانه وتعالى أمّ موسى، بإرضاع وليدها.. فهو بهذه الرضاعة قد عاف كل لبن غير لبن أمه.. قوله تعالى: «فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» . وتنتهى الأحداث بهذا إلى موقف من مواقف الحدث الكبير.. فيعود الطفل إلى أمه، ويتحقق ما وعدها الله سبحانه وتعالى به قوله: «إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ» وبهذا تعلم أن وعد الله حق.. وكثير من الناس لا يعلمون هذا، ولا يقدرون الله حق قدره.. قوله تعالى: «وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» . وهذا تحقيق للجانب الآخر من وعد الله، وهو قوله تعالى: «وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» وإذا كان هذا الموعد لم يكن قد تحقق، والأحداث لا تزال جارية إلى غاياتها، فإنه قد تحق، بعد أن بلغت الأحداث الغاية المنطقة إليها، كما يعلم ذلك من عاصروا نضج الأحداث، كما علمها من جاء بعدهم.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 319 وفي قوله تعالى: «وَاسْتَوى» إشارة إلى الحال التي كان عليها موسى وهو يتلقى رسالة ربه. وهو أنه لم يتناول هذه الرسالة إلا بعد أن صار رجلا كاملا، وذلك في حدود الأربعين سنة من عمره، وحيث يستكمل فيها الإنسان كل أسباب الرجولة، فى جسده، وفي عقله، كما يقول تعالى: «حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً» (15: الأحقاف) . وقوله تعالى: «آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً» والحكم: السلطان، سواء أكان روحيّا أو ماديّا، وقد كان لموسى، السلطان الروحيّ والماديّ معا على بني إسرائيل.. «والعلم» هو ما مع هذا السلطان من علم من الله سبحانه وتعالى، فبهذا العلم الذي قام إلى جانب هذا السلطان، كمل الأمر، وتمت النعمة.. الآيات: (15- 21) [سورة القصص (28) : الآيات 15 الى 21] وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 320 التفسير: قوله تعالى: «وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ.. إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ» . هنا تنقلنا الآيات نقلة بعيدة، بين موسى وقد احتواه صدر أمه مرة أخرى بعد أن ضمّ إلى بيت فرعون، وبين موسى وقد أصبح رجلا مكتمل الرجولة، يأخذ مكانه بين الرجال.. وقد تركتنا الآيات السابقة مع وعد من الله سبحانه وتعالى، قد حققه لموسى، بعد أن بلغ أشدّه واستوى.. ولكن الإخبار بتحقيق هذا الوعد، كان أشبه بختام القصة، وإذا بنا هنا نجده خيطا مشدودا من خيوط هذه القصة، قد طويت له الأحداث ليبرز في هذا الموقف الذي رأينا فيه موسى، الطفل، وقد عاد إلى أمه بعد أن ألقت به في اليمّ، ولكنّا لا نراه يعود إليها وحده، وإنما يعود ملففا برداء هذا الوعد الكريم، الذي وعدت به أمه من الله سبحانه وتعالى، فى قوله جل شأنه: «إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ» .. وها هو ذا يعود إلى أمه وهو يحمل في كيانه، الحكم والعلم.. قلنا إن أحداثا كثيرة طويت، منذ التقى الطفل بأمه إلى أن رأيناه هنا يدخل المدينة، ثم يدخل في صراع ينتهى بقتل إنسان! الجزء: 10 ¦ الصفحة: 321 وما أغرب تصاريف القدر.. ينجو موسى من القتل.. ثم ها هو ذا يمد يده بالقتل! ومن يدرى؟ فلعل هذا القتيل كان هو الذي انتشل موسى من اليم!! قوله تعالى: «وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها» .. اختلف المفسرون في هذه المدينة، ما هي بين مدن مصر القديمة؟ على أن هذا الخلاف لا يعنينا، وحسبنا أنها مدينة فرعونية، وفي تعريفها، إشارة إلى أنها مدينة المدن، أي العاصمة.. أما كيف دخلها موسى.. وهل كان خارجها حتى يدخلها؟ وإذن فأين كان؟ هل كان قد ترك فرعون، وعاش بعيدا عن عاصمة ملكه؟ قد يكون! كما قد يحتمل أن فرعون كان يعيش في قصره، بعيدا عن المدينة، منعزلا به عن عامة الناس! وعلى أيّ فإن «موسى» قد دخل المدينة دخول من كان بعيدا عنها فترة من الزمن.. وهنا سؤال: لماذا يدخل موسى المدينة في غفلة من أهلها؟ هل كان هناك ما يحول بينه وبين دخولها؟ وهل كان مطلوبا لفرعون أو غيره لجناية جناها؟ يذهب المفسرون في هذا مذاهب شتى، ويلقون بكل ما يمكن أن يفترضه العقل في طلب علة لهذا الدخول المتخفى، تحت غفلة الأعين عنه.. والرأى عندنا- والله أعلم- أن المراد بغفلة أهل المدينة، هو غفلتهم عن موسى، وعن أنه الابن المتبنى لفرعون.. ولعله كان متخفيا ليدارى صفته تلك، حتى لا يلفت إليه الأنظار، التي تتعلق دائما، بالسلطان، وبحاشية السلطان! الجزء: 10 ¦ الصفحة: 322 وفي أثناء سير موسى في المدينة، وجد فيها رجلين يقتتلان.. أحدهما إسرائيلى «من شيعته» والآخر مصرى «من عدوه» .. إذ لا شك أن موسى كان يعرف أنه إسرائيلى، كما لا شك في أنه كان يعرف الإسرائيليين، بسماتهم وبزيهم الذي فرضه فرعون عليهم.. وقد استثار موسى هذا المشهد الذي كان بين المصري والإسرائيلى.. فالإسرائيلى كان تحت يد قاهرة، لعلها كانت يد أحد أصحاب السلطان، التي تلهبه بالسياط.. ولم يطق موسى صبرا على هذا الذي يراه بعينيه، من إنسان يضرب إنسانا في غير مبالاة.. فدخل بين الرجلين، ليدفع عن الإسرائيلى هذه اليد التي تسومه سوء العذاب.. وطبيعى أن يتصدى المصري لموسى، وأن يعدّ ذلك فضولا منه بالتدخل فيما لا يعنيه.. فكان بين الرجلين- موسى والمصري- شدّ وجذب، بل ربما مد المصري يده إلى موسى، «فَوَكَزَهُ مُوسى» أي دفعه بقبضة يده- وهو لا يريد قتله- وإذا الرجل يسقط على الأرض ميتا!! ويتحرك موسى سريعا، ويخلص بنفسه، دون أن يعرف أحد من جنى هذه الجناية ويرجع موسى على نفسه، يلومها أن قتل نفسا يغير نفس، ويرى أن ما فعله لم يكن إلا عملا ما كان له أن يفعله.. إنه «مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ.. إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ» .. ولا يجد موسى غير الله، يبرأ إليه من نفسه، ويطلب الغفران مما جنت يداه.. «قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي، فَغَفَرَ لَهُ.. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» إنه وإن يكن قتل «خطأ» ، فهو على كل حال ذنب، وذنب عظيم في حق من هو مرشح للنبوة.. ولكن مغفرة الله فوق كل ذنب وإن عظم، لمن تاب، وأخلص التوبة وطلب المغفرة: «وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 323 نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً» (110: النساء) قوله تعالى: «قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ» يرى المفسرون أن النعمة التي يشير إليها موسى، والتي يرتب عليها هذا العهد الذي قطعه على نفسه، هو قبول توبته، ومغفرة ذنبه.. وهذا بعيد.. لأن موسى لم يكن قد أوحى إليه بعد.. فمن أين يعلم أن الله قد غفر له؟ ولعل الأولى من هذا، أن يقال إن النعمة التي يشير إليها موسى، هى ما وجده في نفسه من هذه القوة الجسدية، التي استطاع بها أن يقتل رجلا بدفعة يده.. فهو بهذه النعمة التي أنعم الله بها عليه يملك قوة خارقة، وإنه ينبغى- لكى يرعى هذه النعمة، ويؤدى حق شكرها لله- ألا يستخدمها إلا في الخير، وألا يظاهر بها الأشرار المعتدين، وهذا ما يشير إليه قوله: «فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ» ! هذا، وفي مجريات الأحداث إلى غايتها التي ستنتهى إليها، نرى أن قتل المصري هنا، هو قوة دافعة إلى تلك الغاية، وأنها ستدفع بموسى للخروج من مصر إلى أرض مدين، حيث يقضى هناك عشر سنين أو نحوها، فى كنف نبى كريم من أنبياء الله، هو شعيب عليه السلام، فتكون تلك السنون إعدادا روحيا له، حتى يؤهل لحمل الرسالة السماوية التي تنتظره! قوله تعالى: «فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ.. فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ.. قالَ لَهُ مُوسى.. إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 324 خرج موسى يسير في طرقات المدينة، يتحسس أخبار الفعلة التي فعلها بالأمس، ويتسمع حديث الناس عنها، وعمن فعلها، وذلك ليستوثق أنه غير مطالب بما حدث.. وتلك غريزة تدفع بمرتكب الجريمة أن يحوم حولها، كما يقرر ذلك علماء الإجرام.. وإلا فماذا كان يحمل موسى على البقاء في المدينة؟ ألا يخرج منها كما دخل إليها، دون أن يشعر به أحد؟. - وقوله تعالى: «خائِفاً يَتَرَقَّبُ» - تصوير لما كان يلبس موسى من خوف واضطراب.. - وفي قوله تعالى: «يَتَرَقَّبُ» - إشارة إلى أنه كان يتطلع إلى وجوه الناس، ويستقرىء ما قد تكون تركت عليها الحادثة من آثار!. ومع هذا الهمّ الذي يعالجه موسى، تفجؤه الأحداث بما لم يكن يقع فى الحسبان.. لقد رأى الإسرائيلى، الذي حمله هذا الوزر، وساقه إلى هذا الموقف- رآه في حال كتلك الحال التي رآه عليها بالأمس.. رآه مشتبكا مع مصرى في صراع غير متكافىء.. ثم ما إن رأى الإسرائيلى موسى حتى علا صراخه، طالبا الغوث والنجدة.. «فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ» أي يستغيث به.. وينظر موسى إلى الإسرائيلى بعين المغيظ المحنق، ويتمثل فيه الشيطان الذي رأى أنه هو الذي أوقعه فيما وقع فيه بالأمس، وقال عنه: «هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ» وهنا يلقى الإسرائيلى بقوله: «إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ» .. وهكذا يضع القدر بين يدى موسى صورة مصغرة لما سيكون بينه وبين بني إسرائيل، تنعكس على مرآة ما كان بينه وبين هذا الإسرائيلى.. لقد خلّص موسى «الإسرائيلى» من يد القوة الباغية التي كان يئن تحت ضرباتها.. ثم ها هو ذا الإسرائيلى، يلتحم من جديد في معركة، ويريد أن يدفع موسى إلى مثل ما دفعه إليه بالأمس، فيقتل مصريا آخر كما قتل مصريا بالأمس.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 325 ثم بعد سنوات سيخلّص موسى بني إسرائيل جميعا من يد فرعون، ويخلع عنهم ثوب الذّلة والهوان الذي ألبسهم إياه فرعون.. ولكنهم لا يكادون يخرجون من هذا البلاء، وينسمون أنسام العافية، حتى يديروا ظهورهم إلى موسى، وحتى يرجموه بكل ما انطوت عليه نفوسهم من خبث ومكر، فيرميهم الله سبحانه بالتّيه أربعين سنة في الصحراء، ويضربهم بالذلة والمسكنة.. هكذا القوم، يفسدهم الإحسان، وتبطرهم النعمة، فيلدغون اليد التي تطعمهم، وينفثون سمومهم فيمن يحسن إليهم! ومن يدرى؟ فلعل الإسرائيلى تبع موسى بالأمس بعد أن تخلّص من المصري القتيل، وعرف من هو.. ثم ظل يتبع خطاه، حتى كان صباح اليوم الثاني، فلما رأى موسى اصطنع اشتباكا بينه وبين أحد المصريين، وذلك عن نية مبيتة، وتدبير مقصود، كما سنرى. قوله تعالى: «فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ.. إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ» . لم نجد عند المفسّرين مفهوما لهذه الآية، نطمئن إليه، ونجد فيه هذا التجاوب والانسجام بين آيات القرآن الكريم وكلماته.. والمقولة التي تكاد تلتقى عندها الآراء، هى أن الإسرائيلى، حين استصرخ موسى، ثم سمع من موسى قوله له: «إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ» توقع الشر من موسى.. ثم إن موسى لما اتجه إليهما، يريد أن يبطش بالمصري، ظن الإسرائيلى أنه يريد البطش به هو بعد أن رماه بقوله: «إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ» - وهنا صرخ في وجه موسى: «يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ؟ ..» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 326 وهذا قول يمكن أن يقال، لو أن أحداث القصة كانت تجرى على المستوي البشرى المحدود، ولكن- وكما رأينا، وما نرى- تجرى الأحداث في آفاق عالية، بعيدة عن المستوي الإنسانى، تقديرا، وتدبيرا.. ونحن بهذا النظر إلى وضع القصة، فى هذا المستوي العالي، ننظر إلى أحداثها.. وهنا نرى التلاحم والتجاوب بين مجريات الأحداث، فلا تخلخل، ولا تفاوت ولا تصادم، بين حدث وحدث.. فى اجتماعها، وافتراقها.. على السواء. (موسى.. والقتيل الذي قتله) وهنا نعرض مفهومنا للآية الكريمة، وهو رأى ننفرد به، ونسأل الله أن يكون صوابا.. فنقول: رأينا في الآيات السابقة، أن حدثا عارضا عرض لموسى، وهو يدخل المدينة متخفيا، ولا يعرف أحد شخصه.. حيث لقى إسرائيليا ومصريا يقتتلان.. ثم كان أن وكز المصري فقضى عليه.. وهنا ينطلق موسى ناجيا بنفسه.. أما الإسرائيلى فهو بين ثلاثة أمور: إما أن يكون فرّ، ثم أمسك به، ليسأل عن هذا القتيل، الذي كان لا بد أن تصله به صلة ما.. كأن يكون أجيرا عند المصري، أو عاملا تحت يده.. وإما أن يكون قد خاف على نفسه أن يعرف ويتهم بالقتل، فأسرع بالإخبار عن هذا الحدث وبأن مجهولا قبل هذا القتيل. وإما أن يكون قد سعى متطوعا، ليدل على من قتل هذا القتيل.. وعلى أي فقد تبع الإسرائيلى موسى، وعرف مأواه الذي أوى إليه.. ثم كشف لرجال فرعون عن شخصية القاتل، وأنه موسى.. وهذه دعوى تحتاج إلى دليل عليها.. ثم إنه لكى يقوم هذا الدليل، كان بين الإسرائيلى، وبين رجال فرعون الجزء: 10 ¦ الصفحة: 327 هذا التدبير، الذي اصطنعت له هذه المعركة بين الإسرائيلى، وبين مصرى آخر، على نحو ما وقعت عليه حادثة الأمس.. وذلك ليرى ما يكون من موسى حين يرى هذا المشهد، أيخف لنجدة الإسرائيلى، ويعتدى على المصري؟ إنه إن فعل فإن ذلك قرينة قوية على أنه هو الذي فعل فعلة الأمس! وقد كان.. فما أن خرج موسى من مأواه الذي قضى فيه ليلته، حتى وجد الإسرائيلى مشتبكا مع مصرى، وحتى هتف به الإسرائيلى مستصرخا! .. هذا، وعيون رجال فرعون ترقب من بعيد هذه التمثيلية، دون أن يدرى موسى ما يدير له.. فإنه لم يستطع أن يسكت على هذا العدوان الذي يسوم به الأقوياء الضعفاء سوء العذاب.. وأنه إذا كان الإسرائيلى رجل سوء، فإن ذلك لا يسوغ هذا الظلم الواقع تحته، حتى ليغادى ويصبّح بهذا الضرب المبرح! وإنه إذ يقول للإسرائيلى: «إنك لغوى مبين» يخف لنجدته وخلاصه من يد هذا المستبد به..! وهنا يقع الصيد في الشبكة! فيلقى المصري موسى بهذه الجريمة التي كان يبحث لها عن متّهم.. فقال: «يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ.. إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ» .. ويفاجأ موسى بهذه التهمة، ويسقط في يده.. وهنا يخرج جنود فرعون.. وقد كشف الإسرائيلى عن شخصية «موسى» ربيب فرعون ومتبناه.. ويكثر الهرج والمرج.. وتصل الأخبار في سرعة خاطفة إلى بيت فرعون.. ويخفّ من بيت فرعون من يحضر هذا المشهد، فيعمل بأسلوب سياسى حكيم، يطفىء به هذه الفتنة، التي تمس فرعون، وتحرج موقفه في رعيته ... إن إسرائيليا يقتل مصريا، هو فوق أنه جريمة قتل، هو جرم غليظ، وسابقة تنذر بالخطر.. ولكن هذا الإسرائيلى هو محسوب على فرعون، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 328 وفي العدوان عليه حطة بقدر حاشية فرعون، ورجال فرعون.. إن الأمر في غاية الحرج، والمخرج منه على أي وجه إن أرضى طرفا أساء إلى الطرف الآخر.. وإذن فلا بد من معالجته بالحكمة والرفق.. فكان هذا الأسلوب السياسى الحكيم، الذي خرج من قصر فرعون، فى صورة هذا الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى.. إنه كبير من كبار رجال القصر، وقد خلا بموسى، وأسر إليه، أنه سيعمل على إطلاق سراحه، ولكن على أن يفر موسى من مصر، فلا يقع له أحد على أثر.. حتى إذا طلب للمحاكمة كان في عداد المفقودين.. ولا يعجز رجل القصر عن وسيلة يطلق بها موسى من يد الجند، دون أن يعلم أحد.. فهذا أمر من اليسير أن يدبره مع الجند، بعد أن يذهبوا بموسى على أعين الناس، وهو- كما يرون- فى يد الجند، إلى حيث يساق إلى المحاكمة والقصاص..! واستمع إلى قوله تعالى، عن هذا الرجل، الذي جاء من أقصى المدينة، وقام بهذا الدور الذي رأيناه يقوم به على مسرح الحدث: «وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى.. قالَ يا مُوسى: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ.. فَاخْرُجْ.. إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ» . وفي هذه الآية تنكشف لنا أمور: فأولا: أن هذا الرجل جاء من أقصى المدينة.. أي من أطرافها البعيدة.. وهذا يعنى أنه جاء من بيت فرعون، حيث كان فرعون يقيم في ظاهر المدينة، منعزلا بقصره عن الرعية، وهذا يؤيد الرأى الذي ذهبنا إليه في تفسير قوله تعالى: «وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها» .. وقلنا إن التعبير عن وجود الجزء: 10 ¦ الصفحة: 329 موسى في المدينة بالدخول، يشير إلى أنه كان يعيش خارجا عنها.. وقلنا إن ذلك كان في قصر فرعون، الذي كان في أطراف المدينة، أو ظاهرها.. وثانيا: أن هذا الرجل جاء «يسعى» أي في عجلة ولهفة، يستبق الأحداث قبل أن تفلت من يده، وتتجه اتجاها غير الذي يراد لها أن تتجه إليه، ثم لا يستطيع التصرف فيها من غير أن تثير دخانا، أو تؤجج نارا.. وثالثا: ما أسرّ به الرجل إلى موسى في قوله تعالى: «إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ» ، ففى هذا القول، الذي يملأ قلب موسى خوفا وفزعا، تهيّأ المطيّة الذلول التي يطير بها موسى، إلى حيث يختفى من مصر، دون تمهل أو توقف. ورابعا: فى قول الرجل لموسى: «فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ» تحريض قوى لموسى على الفرار.. وأنه إنما تلقى نصيحة ناصح أمين، يشفق عليه، ويود الخلاص له مما تورّط فيه.. إنها كلمة رجل السياسة دائما.. إنه ناصح أبدا لكل من يتحدث إليه، ولو ألقى به في التهلكة!! أرأيت كيف يقيم لنا هذا الفهم الذي فهمنا عليه الآية منطقا سليما، تستقيم عليه مجريات الأحداث، وتتشكل منها وحدة متكاملة متجانسة، فى حركتها إلى الغاية المقدورة لها؟. تلك هي آيات الله، وذلك هو بعض ما يرى من وجوه إعجازها المبين. أما أن يقال إن هذا الرجل الذي جاء يسعى ناصحا لموسى- هو مؤمن آل فرعون، الذي أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله: «وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ» .. فهو قول مردود، لأن موسى لم يكن قد حمل الرسالة بعد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 330 قوله تعالى: «فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» . وهكذا يتم هذا التدبير البارع الحكيم.. ويخرج موسى من مصر هاربا. ولعله كان من تمام التدبير أن يذاع أنه هرب، وأن جنود الملك يجدّون في طلبه، وربما يذاع في الناس أنه قتل بيد الجند على حدود مصر، أو وراء الحدود.. وعلى أيّ فإن الأمر قد سوّى على هذا الوجه، دون أن يثير بلبلة في الخواطر، أو يحرك الألسنة بكلمة تقال في سر أو جهر، فى الملك أو حاشية الملك. الآيات: (22- 28) [سورة القصص (28) : الآيات 22 الى 28] وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 331 التفسير: قوله تعالى: «وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ» . هنا تنتقل الأحداث نقلة بعيدة، حيث نرى موسى فى «مدين» وهي على أطراف الجزيرة العربية من جهة الشام، وتقع على خليج العقبة في مقابل تبوك.. ذلك، بينما كنا معه منذ لحظة في مصر، وفي أحشاء عاصفة هو جاء، لم يكن أحد يقدّر له الخلاص منها.. وتلقاء مدين، هو اتجاهها، حيث كان وجهه مقبلا إليها.. وفي قوله: «قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ» .. ما يشير إلى أن هذا القول كان مقيدا بالوقت الذي أخذ فيه وجهته إلى مدين.. وهذا يعنى أن موسى لم يدع ربه بهدايته سواء السبيل إلا في هذه الحالة.. وكيف يكون هذا، وموسى- وإن لم يكن نبيا بعد، فإنه كان على دين آبائه، إبراهيم، وإسحق، ويعقوب؟ والجواب، أن موسى كان على ذكر دائم لربه.. وذكر العبد لربه ليس على صورة واحدة.. فتارة يسبح ربه، وتارة يحمده، وتارة يستجير به، أو يستهديه.. أو يستغفره.. إلى غير ذلك من أحوال الإنسان مع خالقه.. فموسى حين قتل المصري: «قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي» .. وسليمان حين رأى عظمة ملكه، وعرض له ملك النملة، قال: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 332 «رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ» . وهنا يجد موسى نفسه على طريق غربة، موحشة، لا يدرى إلى أين تسوقه قدماه، ولا ما يلقاه على طريقه من أحداث. إنه في حيرة من أمره، بعد أن خرج من مصر، كما يخرج راكب سفينة غرقت، فألقت براكبيها في الماء، وكان أسعدهم حظا من وضع رجله على اليابسة، ولو كان في مورد الوحوش. إن موسى لم يكن يعرف أن وجهته مدين، وإنما اتخذ الوجهة التي تؤدى به إليها.. وهنا كان دعاؤه إلى ربه أن يهديه سواء السبيل، ويقيم خطوه على طريق الأمن، ويدفع به إلى شاطئ السلامة.. قوله تعالى: «وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ.. قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ» .. ماء مدين: هو العين التي يستقى منها أهل مدين.. الأمة: الجماعة من كل حيّ.. من الإنسان أو الحيوان.. وفي هذا يقول الله تعالى: «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ» (38: الأنعام) وقد غلب استعمال هذا اللفظ على بنى الإنسان.. تذودان: أي تسوقان ماشيتهما، بعيدا عن الماء، حتى يفرغ الناس، وتخلو لهما البئر. وأصله من الذود، وهو الدفع، والذود ما يذاد من الحيوان أي يدفع.. والخطب: الشأن، وغلب استعماله للأمر العظيم المكروه. يصدر الرعاء: أي يرجعون من وردهم.. والورد. ورود الماء، والصدر. الرجوع بعد الورد.. والرعاء: جمع الراعي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 333 وهنا نجد موسى قد بلغ في مسيرته «مدين» التي كان وجهه إليها- بقصد أو بغير قصد- بعد أن خرج من مصر! وعلى مقربة من المدينة وجد العين التي يستقى منها أهلها.. وهناك كانت جماعات الرعاة ترد الماء، وتستقى منه، وتسقى ماشيتها.. وهذا هو السر في حذف مفعول الفعل «يسقون» ليكون شاملا لكل ما يحتاج إلى سقى من إنسان أو حيوان.. وعلى الماء، لفت نظر موسى، منظر فتاتين، قد انحازتا بماشيتهما مكانا قصيا عن الماء.. وقد عجب لهذا، وبدا له أن يسأل الفتاتين: «ما خَطْبُكُما» ؟ ولم أنتما هكذا بعيدتين عن الماء؟ ألا تسقيان كما يسقى القوم؟. وليس الأمر على ما قدّر موسى، وإن الخطب لأهون من هذا، فما بين الفتاتين وبين القوم ما يدعو إلى هذه القطيعة البادية لعينيه.. ولكن هكذا كانت الحياة في هذه الجماعة التي يعيش فيها شعيب.. لقد وقفوا من هذا الرجل الصالح، الذي يحمل إليهم دعوة السماء، بتوحيد الله، وبالعدل في الكيل والميزان- وقفوا منه موقف الخصومة، والقطيعة.. فلم يكن لفتاتيه من يمدّ إليهما يدا.. وأبوهما شيخ كبير.. «قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ» ألم تقف قريش من النبي ومن رهطه بنى هاشم وبنى المطلب موقفا كهذا؟ لقد عقد القوم فيما بينهم عقدا على مقاطعة بنى هاشم وبنى المطلب، كما هو معروف في السيرة النبوية.. قوله تعالى: «فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ، فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 334 وكرجل ذى مروءة، لم يجد بدا من أن يسقى للفتاتين، وقد شهدتا منه قوة، وعفة.. فلم يعلق نظره بهما، ولم يتبعهما نفسه، بلى سقى لهما.. ثم تولى إلى الظل، حيث كان يجلس من قبل.. وهناك رفع وجهه إلى السماء، يحمد الله أن ساق إليه هذا الرزق الذي وجده فيما أسدى إلى هاتين الفتاتين الضعيفتين من عون، وإحسان.. وإنه لفقير إلى مثل هذه الأعمال الطيبة، ليكفر بها ما كان منه من قتل المصري!! قوله تعالى: «فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ.. قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» . هنا أمور جزئية، لم يذكرها القرآن، لدلالة الحال عليها، وأنها، لا بد أن تحدث على صورة ما حسب تصور الذي يتلو آيات الله، أو يستمع إليها.. وهذا من شأنه أن يوقظ شعور المتتبع لأحداث القصة، حتى يملأ هذا الفراغ كما يتصوره. فمثلا ما كان من حديث ابنتي شعيب إلى أبيهما عن هذا الغريب الذي سقى لهما، وعن حاله التي هو عليها، وعن القوة التي شهدتاها منه، وعن المكان الذي أوى إليه.. ثم ما كان من مداورة الرأى حول الصنيع الذي يصنعونه مع هذا الغريب.. وهل يبعثون إليه بطعام أو يدعونه إلى البيت، ليرى الأب حقيقة ما سمع؟ وعلى أيّ، فقد انتهى الرأى إلى استدعاء موسى، وأن يندب لهذا الأمر إحدى الفتاتين، لا كلتاهما.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 335 - «فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ» أي في خفر، وحياء، شأن الحصان العفيفة.. وحسبها أنها ربيبة بيت النبوة. وانظر في قوله تعالى: «تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ» .. يا لله، ويا لروعة كلامه المعجز المبين.. لقد تجسد الحياء، فكان بساطا ممدودا على طريقها إلى موسى.. إنها لا تمشى على الأرض، ولكنها تمشى على حياء، تتعثر فيه قدماها، وتقصر به خطاها، ويضطرب له كيانها.. - «قالَتْ: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا» إنها رسول أبيها، الذي عرف موسى من أمره أنه «شيخ كبير» ولو كان في استطاعته أن يسعى إلى موسى لما بعث بابنته إليه، ولجاء إليه بنفسه، يدعوه إلى النزول عنده.. وهو الغريب، الذي لا مأوى له في هذا البلد.. والمراد بالأجر هنا، ليس مجرد الأجر المادي، وإنما هو جزاء إحسان بإحسان، ولقاء معروف بمعروف.. - «فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» . لقد التقى الرجلان.. موسى وشعيب.. وكان بينهما حديث، أفضى به موسى إلى مضيفه، وعرف المضيف بهذا الحديث من يكون ضيفه، ومن اى بلاد جاء، وما سبب مجيئه.. فلما عرف شعيب ما وقع لموسى من أحداث، آواه إليه، وأمّنه، قائلا: «لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» . فإنك هنا بحيث لا تنالك بد فرعون. وهنا تظهر الأنثى التي تطلب الرجل الذي تطمع في أن يكون رجلها الذي تحلم به، وتنتظر الأيام تجئ به، ليطرق بابها! «قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 336 إنه- والله أعلم- ليغلب على الظن، أنها تلك التي بعث بها أبوها لتدعو هذا الغريب إليه.. وها هو ذا قد جاء.. وربما يرحل غدا أو بعد غد.. فلا تدع الفرصة تفلت من يدها، وقد رأت بعين الأنثى في موسى، الرجل الذي هو أهل لها.. «يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ» أي أمسك به عندنا، ولا تدعه يفلت من يديك، وذلك بأن تصله بك بعمل.. فهو خير من يعمل لك، حيث عجزت عن العمل.. «إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ» .. هكذا تكشف لأبيها عن معدن الرجل الذي يستأجره، وأنه في الرجال يتزين بأجمل صفتين: القوة، والأمانة.. وقد رأت قوته فيما كان منه من السقي لهما، كما رأت أمانته في غض بصره عنها، وقد جاءته وحدها تدعوه إلى أبيها. ويستجيب شعيب لهذا الطلب في غير تردد، ويستشعر بمشاعر الأب ما بنفس ابنته نحو هذا الغريب. «قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» . وهكذا يجئ شعيب إلى موسى صريحا واضحا، كما يجئ إلى ابنته أبا حانيا عاطفا، لا يري حرجا في أن يتخير لابنته الرجل الذي تتتمناه زوجا لها، ويردها حياؤها عن أن تعرض نفسها عليه. وما كان أبرع شعيبا وأحكمه، وأعدله، فيما بينه وبين موسى من جهة، ثم فيما بينه وبين ابنته من جهة أخرى. إنه لم يشأ أن يفرض على موسى واحدة بعينها من ابنتيه هاتين.. فلموسى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 337 أن يختار من يشاء منهما.. فلقد رآهما من قبل، كما رآهما في بيت أبيهما، وليس من الحكمة ولا من المصلحة أن تفرض عليه واحدة بعينها، حتى ولو كان لموسى رغبة فيها، وكان لها رغبة فيه.. إن هذا الفرض من شأنه أن يزعج موسى، وأن يصدم إرادته، ويصادر رأيه.. ثم إن موسى سيعيش في بيت شعيب، فإذا لم يكن قد اختار هو بنفسه من تزوجها، كان في ذلك تنغيص له، واضطراب لحياته الزوجية، ومعادلة وموازنة دائما بين الأختين في كل وقت. الأمر الذي يجعل هواه دائما مع من لم يكن له خيار فيها.. هكذا الإنسان! ثم إنه بهذا التدبير الحكيم، قد سوّى الأب في القسمة بين ابنتيه، فى هذا الذي ساقه الله إليهما، فى صورة رجل، هو نادرة في الرجال.. فالأب لا يؤثر بهذا الخير إحدى ابنتيه على الأخرى، ولو كانت الكبرى.. إنه لو فعل هذا لكان في نفس الأخرى أسى ومرارة.. وليس الشأن كذلك إذا كان الخيار لموسى، أو كان بالتراضي بين الأختين، حيث تبدو كل منهما، وكأنها تؤثر أختها عليها.. ومن جهة أخرى، فإنه واضح من قول شعيب: «إنى أريد أن أنكحك إحدى ابنتيّ هاتين» أنه لم يفصح عمن يكون له الخيار فيهما.. أهو شعيب أم موسى.. وهذا أمر، إن قام على هذا الوجه، فى هذا الموقف وفي مواجهة البنتين، فإنه قد ترك البتّ فيه لمجلس خاصّ بين الرجلين، فإذا انكشف الأمر بعد ذلك عمن وقع عليها الاختيار- لم يكن من اليسير لدى البنتين القطع بأن هذا الاختيار، كان من موسى، أو من شعيب، أو منهما معا.. وهكذا تتوزع الصدمة- إن كان هناك صدمة- التي ربما تصيب من لا يقع عليها الاختيار، بين هذه الاحتمالات، فتخفّ وتهون. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 338 «قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ.. وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ» . وهكذا تتم الصفقة بين النبيين الكريمين، فيظفر شعيب بالقويّ الأمين الذي يبذل في خدمته كل ما عنده من قوة وأمانة، ويظفر موسى بابنة هذا النبيّ، التي كان حسن تدبيرها، ولمعة ذكائها، وصدق فراستها، خير سفارة تجمع بين الرجلين، وتفتح قلب كل منهما لصاحبه قبل أن يلتقيا. والاتفاق، على أن يخدم موسى شعيبا ثمانى سنين في مقابل زواج ابنته.. فإن جعل موسى الثماني عشرا فذلك فضل منه، وإلا فهى ثمان لا أكثر.. ولا شك أن هذا تدبير حكيم من شعيب- عليه السلام-، إذ لم يشأ أن يضع موسى أمام حكم لازم لا خيار له فيه، بل جعل له أمرين، يختار أيهما شاء.. وفي هذا المجال الذي تتحرك فيه إرادة الإنسان شىء غير قليل من الرضا النفسي، حيث يجد المرء لإرادته مكانا في كيان، ويستشعر لها حضورا فى هذا المقام، فيقبل على هذا الأمر أو ذاك، وهو شاعر بأنه حرّ في اختياره، غير واقع تحت قوة قاهرة ملزمة.. وهذا عين ما فعله شعيب، حين أراد أن يزوّج موسى إحدى ابنتيه.. إنه لم يفرض عليه واحدة بعينها، بل جعل الأمر بينهما، حتى يفسح المجال للنظر والاختيار، له، ولموسى، ولابنتيه.. أما موسى.. عليه السلام.. فلم يكن أقلّ براعة وحكمة من شعيب.. فقد أجاب هذه الإجابة الحكيمة، التي ترضى شعيبا، ولا تقيد موسى: «ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ» أي هذا الذي قلته أنا موافق عليه، وهو عقد بينى وبينك.. وهذا فيما يختص بإحدى الابنتين التي سيقع الاختيار عليها.. أما الأجل، فهو محتمل للأجلين معا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 339 «أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ» .. فهو بالخيار، بين الثماني سنوات أو العشر.. والمراد بالعدوان في قوله: «فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ» الحرج.. أي لا حرج عليّ إذا أنا أخذت بالثماني سنوات، ولم آخذ بالعشر.. ومن ثمّ فلا يكون عليّ عدوان منك. وطبيعى أن موسى، قد أخذ بما هو أولى بالمروءة، والكمال، فعمل بالأكثر دون الأقل.. الآيات: (29- 35) [سورة القصص (28) : الآيات 29 الى 35] فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 340 التفسير: قوله تعالى: «فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» . فى هذه الآية والآيات التي بعدها، تبدأ مرحلة جديدة من مراحل المسيرة التي تتحرك فيها الأحداث إلى غايتها.. فها هو ذا موسى، قد وفى بالعهد الذي بينه وبين شعيب، وقضى الأجل.. ثم تحركت أشواقه إلى أهله، وقومه بمصر، فأخذ زوجه، وسار عائدا على الطريق الذي جاء منه.. وفي الطريق، آنس من جانب الطور، (وهو طور سيناء) نارا، فى ظلمة الليل، ووحشة الصحراء، فأحسّ في هذه النّار ريح الأنس، فانطلق إليها، تاركا أهله في مكانهم، قائلا لهم: «امْكُثُوا.. إِنِّي آنَسْتُ ناراً.. لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» . وقد جاءت هذه الآية في غير موضع على نظم يختلف مع هذا النظم، وقد عرضنا لذلك في دراسة خاصة، تحت عنوان: «التكرار.. فى القصص القرآنى» «1» وكشفنا عن بعض الأسرار الكامنة وراء هذا الاختلاف.   (1) انظر ص 96: من الكتاب العاشر (الجزء التاسع عشر) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 341 قوله تعالى: «فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» . هنا في هذه الآية يتحدّد المكان الذي نودى منه موسى، وإنه الشاطئ الأيمن من الوادي.. وأن ذلك النداء كان عند البقعة المباركة من الشجرة القائمة على هذا الشاطئ الأيمن ومن هذا يعرف أن وجهة موسى كانت مصر، وأنه في الطريق إليها من مدين، حيث كان الشاطئ الغربيّ من طور «سيناء» واقعا على يمينه.. وقد تحدّد هذا المكان تحديدا تاما بقوله تعالى في آية أخرى: «وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ» (44: القصص) . قوله تعالى: «وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ» .. وقد وصفت الحيّة هنا بأنها «جانّ» كما وصفت في آيات أخر بأنها «حَيَّةٌ تَسْعى» .. (20: طه) .. وبأنها «ثُعْبانٌ مُبِينٌ» (32: الشعراء) . ومن هذه الأوصاف جميعها، تلبس الحيّة صورة كاملة للحية، فى ضخامتها وحيويتها، وخفّة حركتها.. فهى حيّة في ضخامة جسمها، وهي ثعبان عظيم، فى الحياة التي تلبس هذا الكيان الضخم، وهى «جان» فى سبحها على الأرض في خفة كأنها سهم منطلق! قوله تعالى: «اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 342 جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» الرّهب: الخوف.. والجناح: اليد، كلها، بالكفّ والساعد، والعضد. والمراد بضم الجناح، إلصاقه بالجنب.. كما يفعل الخائف فيشد من عزمه، ويمسك نفسه.. والمراد بهذا أن يأخذ موسى هذا الوضع حين يخرج يده من جيبه في موقفه مع فرعون.. وفي هذا ما يدفع الخوف عن موسى، وهو يواجه فرعون في هذا الموقف الرهيب! قوله تعالى: «فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ.. إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» . ذان: مثنى ذا، أي هذان برهانان من ربك إلى فرعون وملائه، وهذا البرهانان هما: العصا، واليد.. وقد كان مع موسى غير هذين البرهانين، سبع آيات أخرى، هى الجراد والقمّل، والضفادع، والدم، والجدب، والطوفان، ونقص الأموال والأنفس والثمرات.. وخصّ البرهانان هنا- وهما العصا واليد- خصا بالذكر، لأنهما الآيتان اللتان يلقى بهما موسى فرعون وحاشيته أول الأمر، ويتحدّى بهما تكذيب فرعون له.. ولهذا كانت المعركة المتحدية بين موسى وفرعون في لقاء العصا بالسحرة الذين جمعهم فرعون لموسى.. أما الآيات الأخرى فقد كانت بلاء متحدّيا لفرعون وقومه جميعا.. ولعلّ هذا- والله أعلم- هو السرّ في اختلاف النظم هنا في قوله تعالى: «فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ «إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ» وما جاء في سورة النمل في قوله تعالى: «فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ» .. (12) فالملأ هم الحاشية، والقوم هم المجتمع كله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 343 قوله تعالى: «قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ، وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ» إن شبح القتيل ما زال يطارد موسى، بعد هذا الزمن الطويل، وإن لقاءه فرعون سيحرك هذا الحدث الذي كاد ينسى.. ولهذا أظهر موسى ما بنفسه من خوف، وأن لقاءه فرعون، وعرض ما يعرض عليه من آيات- قد يقع عند فرعون أنه حيلة يريد أن يشغله بها عن فعلته التي فعلها، ولهذا طلب أن يكون معه أخوه هرون، الذي لا تهمة له عند فرعون، ليكون قوله بعيدا عن هذا الظن الذي يظنه فرعون في موسى.. وهنا سؤال: هل كان موسى ألكن أو عييّا، على لسانه حبسة، حتى يطلب إلى الله أن يرسل معه هرون الذي هو أفصح منه لسانا؟ هذا ما يقول به المفسّرون، ويأتون على ذلك بأخبار تحدث بأن موسى قد أخذ بيده جمرة، وهو طفل في بيت فرعون.. ورفعها إلى فمه فمسّت لسانه، وتركت عليه هذه الحبسة! وهذا خبر لا يصدق.. إذ كيف يستطيع الطفل أن يمسك الجمرة بيده، ثم يصبر عليها حتى يحملها إلى فمه، ثم يلقى بها في فيه؟ ومن جهة أخرى، فإن اللسان، هو الأداة العاملة في رسالة الرسول.. فكيف تعطل هذه الأداة، أو تصاب بعطب؟ ذلك بعيد.. وماذا يبقى من الرسول بعد أن يؤخذ لسانه؟ والذي نراه، هو أن الخوف الذي كان يملأ كيان موسى من فرعون، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 344 هو الذي كان يمسك لسانه عن الانطلاق، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي» (13: الشعراء) فضيق الصدر من الخوف والرهبة، هو الذي يحبس اللسان عن الانطلاق في الحديث- ولهذا جاء قوله تعالى إلى موسى: «وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ» أي اضمم إليك جناحك، تسكينا لك من الرهب، أي الخوف، الذي يجئ من الرهبة. وقد يردّ على هذا، بما جاء في قوله تعالى على لسان فرعون في موسى: «أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ» (52: الزخرف) فهذا الذي نطق به فرعون، يكشف عن عجز موسى عن البيان في منطقه.. وردّنا على هذا، هو ما أشرنا إليه، من أن الخوف الذي كان يعترى موسى في أول لقاء أنه مع هذا الجبار العنيد، الذي يسلط عليه سيف التهديد بالقتل، قصاصا للقتيل الذي قتله موسى- هذا الخوف، هو الذي كان يجعل موسى غير قادر على الانطلاق في الكلام.. أما ما قاله موسى: «وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً» فهو لما لم يكن لهرون ذنب يطالبه به فرعون، فهرون فى هذا الموقف أقدر على الكلام من موسى، ولهذا قدم قوله: «قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ» على قوله: «وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً» ..! قوله تعالى: «قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ» . «بِآياتِنا» متعلق بقوله تعالى: «الْغالِبُونَ» . والمعنى: أنكما أنتما، ومن اتبعكما، الغالبون بآياتنا التي في أيديكما. وشد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 345 العضد، تقويته بضمّ قوة أخرى إليه، والعضد، أعلى الذراع من المرفق إلى الكتف، وهو مركز القوة في اليد، واليد هي مظهر القوة في الإنسان. الآيات: (36- 42) [سورة القصص (28) : الآيات 36 الى 42] فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) التفسير: قوله تعالى: «فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ» : بهذا التكذيب، تلقى فرعون آيات الله، ونسبها إلى السحر، بل وجعلها سحرا مفترى، أي مختلقا، مدسوسا على السحر الذي عرف به سحرة فرعون..!! الجزء: 10 ¦ الصفحة: 346 وأما ما يقول فرعون عنه إنه لم يسمعه في آبائه الأولين، فهو دعوة موسى له، إلى الإيمان بالله رب العالمين، الذي له ملك السموات والأرض.. فهذه الدعوة لم يسمعها فرعون من قبل، فقد كانت الآلهة تملأ أرض مصر، وتحوم فوق سمائها، من آدميين، وحيوانات وطيور، وكواكب، ونجوم! .. وهذا ما ملأ شعوره بأنه الإله المتفرد، فقال قولته الآثمة: «يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» . قوله تعالى: «وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» . قد يكون هذا القول الذي قاله موسى مقولا في مواجهة فرعون.. وقد يكون حديثا تحدّث به إلى نفسه، مواساة وتعزية، فى مواجهة هذا الاتهام الذي يرمى به فرعون بين يدى آيات الله التي يعرضها عليه.. فالله سبحانه- أعلم بمن جاء بالهدى.. موسى، أو فرعون؟ ومن تكون له عاقبة الدار منهما.. فماداما على هذا الخلاف البعيد بينهما، فلا بد أن أحدهما محقّ والآخر مبطل، أحدهما مظلوم، والآخر ظالم.. فهذا أشبه بالمباهلة، وقد تحدّى بها النبي- صلوات الله وسلامه عليه وفد نجران، وقد جاءوا يجادلونه في آيات الله، فقطع عليهم الطريق، حين دعاهم إلى المباهلة، كما في قوله تعالى: «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ» (61: آل عمران) .. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 347 قوله تعالى: «وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ» .. وهذا الأمر الذي يصدره فرعون إلى «هامان» إنما هو على سبيل الاستهزاء والسخرية، والإمعان في تكذيب موسى.. فهو يقرر لقومه الواقع الذي يعيشون فيه معه، وهو أنه الإله ابن الآلهة: «ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» ! فهو الذي يفكر للقوم، ويولى وجوههم إلى الإله الذي يعبدونه، وقد فكر وبحث، ونظر في كل متجه فلم يجد لهم إلها غيره، «ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» ! .. وها هو ذا موسى يقول عن إله آخر.. فأين هو هذا الإله؟ لو كان في الأرض، فأى أرض هى؟ إنه لا آلهة على الأرض غير فرعون! أم ترى هو في السماء؟ السماء ليست بعيدة!! وإذن «فأوقد لى يا هامان على الطين فاجعل لى صرحا لعلى أطلع إلى إله موسى» .. إنه لا يبحث عن إله يدين له هو وقومه، فهو إله لا يدين لآلهة غيره، وقومه لا يعرفون لهم إلها سواه.. وإنما يبحث عن إله موسى، الذي يأبى أن يتخذ فرعون إلها له، وفي هذا يقول سبحانه على لسان فرعون إلى موسى: «لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ» !. وفي قوله: «وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ» تأكيد لما قرره من قبل، وهو أنه لا إله غيره، والمراد بالظن هنا اليقين، وقد جاء به مؤكدا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 348 قوله تعالى: «وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ» . هو وصف كاشف لحال فرعون وجنوده، قبل أن تأتيهم آيات الله، وبعدها.. والمراد بالاستكبار هنا، التعالي على العباد، واستعباد الناس وإذلالهم، والعدوان عليهم بغير حق.. ظانين أنهم لا يرجعون إلى الله، ولا يحاسبون على ما قدمت أيديهم.. قوله تعالى: «فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ» . المراد بالأخذ هنا، الإحاطة، والتمكن من الإمساك بفرعون وجنوده، إذ وقعوا تحت قضاء الله النافذ فيهم، وهو الموت غرقا.. وكأن يد الله سبحانه وتعالى هي التي أخذتهم من دورهم فألقت بهم في اليم، وكأنهم ليسوا هم الذين سعوا بأقدامهم إلى حتفهم! وقوله تعالى: «وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ» . أي أن فرعون وجنوده سيكونون أئمة وقادة يوم القيامة، يقودون قومهم إلى النار، كما كانوا قادة لهم في الدنيا.. فهم يدعون قومهم إلى جهنم، كما كانوا يدعونهم في الدنيا إلى الشرك والضلال.. وفي هذا يقول الله تعالى في فرعون: «يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 349 (98: هود) ويقول سبحانه: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ» (71: الإسراء) . وقوله تعالى: «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ» - جملة حالية أي وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار يوم القيامة، ويوم القيامة لا ينصرون، أي وجعلناهم أئمة يقودون الناس إلى النار، ويتقدمونهم، ولا ناصر لهم ينصرهم من بأس الله في هذا اليوم. قوله تعالى: «وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ» . أي جعل الله سبحانه وتعالى حديث الناس بعدهم لعنة تلحقهم من كل لسان، إذ كانوا مثلا سيئا للبغى والعدوان، فلا يذكرهم أهل الإيمان والتقوى إلا اقترن ذكرهم باللعنة عليهم.. وكذلك شأنهم يوم القيامة، تلقاهم اللعنات من كل لسان في المحشر. الآيات: (43- 50) [سورة القصص (28) : الآيات 43 الى 50] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 350 التفسير: قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» . هذه الآية والآيات التي بعدها، تمهيد لذكر رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، والكتاب الذي تلقاه وحيا من ربه، وتبليغ قومه إياه، وما كان منهم من تحدّ له، وخلاف عليه.. فالكتاب الذي آتاه الله سبحانه وتعالى موسى، إنما كان على فترة من الرسل، وبعد هلاك كثير من القرون التي بعث الله فيهم رسله، فاندثروا واندثرت آثارهم.. والبصائر: جمع بصيرة وهي ما يستبصر بها إلى طريق الحق والهدى.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 351 وقوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» - الضمير في لعلهم، يعود إلى الناس في قوله تعالى: «بَصائِرَ لِلنَّاسِ» .. وفي هذا إشارة من بعيد إلى المشركين من قريش، وأنه كما أرسل الله موسى على فترة من الرسل، بالكتاب الذي فيه بصائر وهدى ورحمة، أرسل الله «محمدا» على فترة من الرسل، بكتاب فيه بصائر للناس وهدى ورحمة.. قوله تعالى: «وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ» .. الخطاب للنبى- صلوات الله وسلامه عليه- وهو أنه لم يكن على علم بهذه الأخبار التي يقصها على قومه فيما أوحى الله إليه به، مما كان بين موسى وربه إذ ناداه ربه من جانب الطور الأيمن، وهو الجانب الغربي من سيناء، وأعلمه بأنه رسول الله، اختاره لرسالة كريمة إلى الناس.. قوله تعالى: «وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» . تكشف هذه الآية عن الحكمة في إرسال محمد صلوات الله وسلامه عليه، وهو أنه قد سبقته فترة لم يكن فيها رسل، فشاءت إرادة الله أن يختار رسولا يكشف للناس معالم الطريق إلى الحق، وقد ضلوا وانحرفوا عن سواء السبيل.. وفي هذا يقول الله تعالى: «قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ» (19: المائدة) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 352 - وقوله تعالى: «وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ» .. هنا كلام محذوف، دل عليه السياق.. والتقدير: «وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ» فكان من رحمتنا أن نبعث في الناس رسولا، بعد هذا الزمن الطويل.. - وقوله تعالى: «وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ» - هو خطاب للنبى الكريم، صلوات الله وسلامه عليه، وأنه لم يكن مقيما في أهل مدين، حتى يعلم هذه الأخبار التي يقصها على قومه، فيما كان بين موسى وشعيب. - وقوله تعالى: «تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا» .. الضمير فى «عليهم» يراد به المشركون من قريش.. وهم وإن لم يجر لهم ذكر، فهم مذكورون بذكر الرسول صلوات الله وسلامه عليه.. وجملة «تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا» صلة لموصول منادى أي يأمن تتلو عليهم آياتنا.. فالنبى- صلوات الله وسلامه عليه- هو هنا في مقام الخطاب من ربه.. والخطاب يطوى في كيانه نداء خفيا، لا يجرى له ذكر في مقام القرب من ربه.. - وقوله تعالى: «وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» أي ولكن هذا القصص الذي تقصه على قومك- أيها النبي- هو وحي أوحى إليك من ربك، الذي أرسلك هدى ورحمة، إذ كان من حكمتنا ورحمتنا أن نرسلك إلى الناس رسولا، على فترة من الرسل.. قوله تعالى: «وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» . هو تأكيد لرسالة الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- وأنه إنما تلقى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 353 هذا القرآن الذي بين يديه وحيا من ربه.. فهو- صلوات الله وسلامه عليه- لم يكن حاضرا مناداة الحق سبحانه وتعالى لموسى وهو بجانب الطور، حتى ينقل إلى الناس هذا الحديث الذي يحدثهم به، ويقصه عليهم من أمر موسى.. ولكن هذا الذي بين يديه هو رحمة من الله سبحانه وتعالى إلى هؤلاء المشركين، الذين بعثه الله نبيا فيهم، إذ لم يأتهم رسول من قبله، كما أتى غيرهم من الأمم.. فليذكروا هذه النعمة، وليأخذوا حظهمم منها، وليكن لهم فيها موعظة وذكرى.. قوله تعالى: «وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» . أي أنه لولا أن يكون لهؤلاء المشركين علة يتعللون بها في عدم إيمانهم بالله واليوم الآخر، وهو أن الله سبحانه لم يبعث فيهم رسولا، ولم يدعهم إليه على يد رسول منهم كما فعل ذلك بغيرهم من الأمم، كاليهود، والنصارى- لولا هذا ما أرسل الله إليهم رسولا، إذ كان مع كل منهم فطرة مؤمنة.. ومن وراء هذه الفطرة عقل، هو الرسول الذي يفتح مغالق الإيمان فيها.. ولكن رحمة الله اقتضت أن يبعث في الناس رسولا منهم يوقظ عقولهم، وينبه فطرتهم.. وبذلك لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.. فما حجة هؤلاء المشركين بعد هذا وقد جاءهم رسول الله؟ وما العلة التي يتعللون بها في شركهم بالله، وكفرهم باليوم الآخر؟ إنه لا شىء إلا الكبر والعناد، وإلا الغفلة والهوى!. قوله تعالى: «فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 354 يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ» . وهذا مذهب من مذاهب الضلال والعناد، الذي غطى على عقول المشركين.. إنهم كانوا يتمنون على الله أن يبعث فيهم رسولا، وأن يكون لهم كتاب كما لأهل الكتاب من اليهود والنصارى، وهذا ما يحكيه القرآن عنهم في قوله تعالى: «أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ» (157: الأنعام) . وها هو ذا رسول الله قد بعث فيهم، وها هو ذا الكتاب من الله، يتلى عليهم.. فماذا كان منهم؟ لقد ذهبوا يطلبون التعلات والمعاذير، يلقونها بين يدى رسول الله، وكتاب الله. إن الرسول الذي جاءهم لم يؤت من الآيات المادية مثل ما أوتى موسى.. إنه ليس معه عصا كعصا موسى، ولا بد كيده.. وإن موسى قد نزّل على بني إسرائيل المنّ والسلوى.. فأين ما مع محمد من هذا؟ وأين الخير المادي الذي جاءهم به؟ فليجر لهم في هذه الصحارى أنهارا، وليفجّر لهم فيها عيونا.. وإلا فأين الرسول وأين رسالته؟ أرسول بغير هذه الآيات التي يجنون من ثمرها ما يملأ أيديهم من مال ومتاع؟ أرسول كل بضاعته إليهم كلام في كلام؟ إن ذلك أمر هين، يستطيع كل واحد منا أن يصبح رسولا، لو كانت محامل الرسالة كلاما، وكانت بضاعة الرسول حديثا وقصصا.. «لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا.. إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» (31: الأنفال) .. هكذا كانت نظرة المشركين إلى رسالات السماء.. وما دروا أن الله سبحانه، قد خصهم بأعظم رسالة.. تتجه إلى أكرم ما في الإنسان من روح وعقل.. إنها الرسالة التي تغذى العقل وتهذيب النفس، وتسموا بالروح إلى الملأ الأعلى.. وإنها المائدة التي لا تزهد فيها النفوس، ولا تنقطع عن وردها العقول، بل إنه كلما أخذ الإنسان منها، اشتد طلبه، وقويت رغبته- وليس كذلك ما كان طعاما للبطون، فإن المرء إذا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 355 أخذ حاجته منه زهد فيه، ثم إذا عاوده مرة ومرة عافه، كما عاف بنو إسرائيل ما أنزل الله عليهم من المنّ والسلوى!. ومن هنا كانت هذه المعجزة «الكلامية» هى المعجزة الخالدة على الزمن لأنها تصحب العقل دائما، وتلتقى به في كل زمان ومكان.. حيث تجد فيها العقول على اختلاف مستوياتها، وعلى امتداد أزمانها وأمكنتها- النور الذي يكشف لها معالم الطريق، إلى الحق والخير، فلا تضلّ، ولا تزيغ. - وقوله تعالى: «أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ» هو كشف عما بين هؤلاء المشركين من أهل مكة، وبين فرعون وآل فرعون، حيث يجمعهم الضلال، والعناد، والاستكبار.. فإذا كان فرعون قد كفر بما أوتى موسى، وقال لموسى حين أراه آيات ربه الكبرى: «ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً» .. «36: القصص» فلن يكون من هؤلاء المشركين إلا الكفر بكل آية.. إنهم وفرعون على سواء.. فهم وإن لم يكونوا قد التقوا بموسى وكفروا بما معه من آيات، فقد التقوا به في شخص فرعون، الذين هم من طينته، وعلى شاكلته!! فلم يطلبون إذن أن يأتيهم النبيّ بمثل تلك الآيات التي كانت مع موسى، وقد كفروا بها على لسان فرعون، الذي هو واحد منهم، وإمام من أئمتهم؟ - قوله تعالى: «قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ» .. هو مزج المشركين بفرعون، مزجا كاملا، وجمعهم وإياه في كيان واحد، بحيث يكون لهم موقف واحد، ومنطق واحد، وإن بعد المدى بينهم وبينه، زمانا، ومكانا، ولسانا، ومجتمعا.. فهذه الفواصل كلها فواصل مادية.. لا تقوم حجازا بين ائتلاف الأهواء، والتقاء المشارب.. إن هواهم جميعا واحد، وإن مشربهم على سواء.. وهنا ترى فرعون يبعث من مرقده بعد آلاف السنين، ويحضر مجلس الجزء: 10 ¦ الصفحة: 356 المشركين في مكة، وبين يديهم جميعا آيات موسى، وآيات محمد، فيرى فرعون فى آيات محمد ما رآه من قبل في آيات موسى، ويرى المشركون في آيات موسى ما رأوه في آيات محمد، وإذا هم جميعا ينطقون بلسان واحد في آيات موسى، وآيات محمد: «سِحْرانِ تَظاهَرا» .. أي تساندا، وتعاونا، فهذا سحر، وذاك سحر.. وإذن فهى مؤامرة يأتمر بها هذا الساحران علينا.. قديما وحديثا «وقالوا: إنا بكل كافرون» .. فلو أن فرعون بعث من قبره، واستمع إلى كلمات الله التي يتلوها محمد لكفر بها، ولقال إنها سحر، كما يقول بذلك المشركون.. ولو أن المشركين ردّوا إلى عهد موسى، ورأوا من الآيات ما رأى فرعون لقالوا ما قال فرعون فيها: «ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً» ! وهكذا يلتقى أهل الضلال والفساد على طريق واحد، ينتظم السابقين منهم واللاحقين، ويجمع الماضين والحاضرين.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ.. تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ» (118: البقرة) . قوله تعالى: «قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» . هو ردّ على مجتمع الضالين الغاوين، الذين كفروا بآيات موسى، وآيات محمد، وقالوا إنها سحر، يظاهر بعضه بعضا، وإنا بهذا وبهذا كافرون. وإذن فبم يؤمنون؟ وبأى كتاب يصدّقون؟ فليأتوا بكتاب يحمل من معالم الحق، أكثر وأضوأ مما يحمل موسى، ومحمد، من آيات الله، حتى تكون الجزء: 10 ¦ الصفحة: 357 لهم حجة يقضون بها على هذه الآيات، ولا يكون لمحمد إلّا أن يتّبع هذا النور الذي يغطى على نور هذه الآيات! وفي قوله «من عند الله» . إشارة إلى أن هذه الآيات التي مع موسى، ومع محمد، هى من عند الله، وليس في هذا قيد يتقيد به المشركون المطالبون بالإتيان بما هو أهدى من آيات موسى ومحمد، بل إن لهم أن يأتوا بالكتاب المقترح عليهم، من أي مورد يردونه، على شريطة أن يكون أهدى مما هو معروض عليهم من آيات الله تلك! وإنما قوله «من عند الله» هو تقرير لحقيقة واقعة، وهي أن ما يأتى به الرسل، هو من عند الله، فتلك هي الحقيقة، وهو ما يصرح به الرسل أنفسهم، فى مواجهة أقوامهم.. فهو تحد لهم بأن يتصلوا بالله، ويتلقوا منه كتابا سماويا.. فهذا هو الوجه الذي يطلب منه الكتاب، الذي يناظر هذين الكتابين! والسؤال هنا، هو: إذا كان مفهوم ما أوتيه موسى هو تلك الآيات المادية، التي عرضها على فرعون، فكيف يستقيم النظم القرآنى، على هذا الفهم، وقد جاء قوله تعالى: «فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما» ؟ ألا يدلّ الضمير في «منهما» على أن المراد بآيات موسى هي كتابه، وهو التوراة؟ ونقول- والله أعلم- إن آيات موسى المادية هي بعض رسالته، وهي مكملة للكتاب الذي تلقاه من ربه.. فهى بهذا صحف من كتاب موسى.. وعلى هذا، فإن هذه الآيات المادية، إذا اجتمعت إلى الآيات القرآنية، كان منهما كتابان، كتاب مادى، وكتاب كلامى.. وقد كذب المشركون قديما وحديثا بالكتابين معا، ما اشتمل منهما على آيات مادية، وما اشتمل على آيات كلامية.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 358 قوله تعالى: «فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» . الاستجابة هنا مرادة لأمرين: أن يأتى المشركون بكتاب من عند الله، هو أهدى من الكتابين المنزلين من الله، فيتبعهم النبيّ، أو أن يظهر عجزهم، فيؤمنوا بهذا الكتاب الذي يتلوه الرسول عليهم، ويدخلوا في دين الله.. فإن لم يستجيبوا، ولم يؤمنوا بالله وبرسوله، وبكتاب الله، فليس لهم وجهة إلا أن يضلّوا، ويتبعوا أهواءهم الفاسدة.. فليعلم الرسول هذا، وليقم موقفه منهم على هذا التقدير. - وقوله تعالى: «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ» هو تأكيد لضلال هؤلاء المشركين، وأنهم إنما ينقادون لأهوائهم، انقياد الكلب لصاحبه.. وأهواؤهم ضالة فاسدة، لا تقود إلا إلى ضلال وفساد! والاستفهام هنا بمعنى النفي.. والتقدير: أنه لا أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله والسؤال هنا: ما السرّ في تقييد الهوى المضلّ بهذا الوصف، وهو أنه بغير هدى من الله؟ وهل يكون هناك هوى معه هدى من الله؟ والجواب على هذا- والله أعلم- أن الهوى مضلّة أبدا، وأن الإنسان حيث يتبع هواه، فهو على ضلال، كما يقول سبحانه في ذمّ المشركين: «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ» (23: النجم) . وكما يقول سبحانه: «أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» (14: محمد) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 359 والإنسان- من حيث هو إنسان- لا يخلو من الهوى.. فإذا كان مع الهوى هدى من الله، غلب الإنسان هواه وقهره.. وإذا لم يكن معه من هدى الله شىء، يمسك زمام هواه- كان على طريق الهوى أبدا، لا يعدل عنه إلى طريق الحق والهدى أبدا.. ولهذا جاء الوصف لأصحاب الهوى الذين لا يلقاهم هدى الله، مقرّرا، أنهم أضلّ الضالين.. «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ؟» . فقد يضلّ الإنسان، وينحرف، متّبعا هواه، ولكن حين يلقاه هدى الله على طريق غوايته، يستقيم، ويهتدى.. أما إذا لم يلقه هدى الله، فلن يهتدى أبدا! وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» حكم من الله سبحانه وتعالى على هؤلاء الضالين، الذين اتبعوا أهواءهم أنهم لن يهتدوا أبدا، لأن هدى الله لا يلقاهم على طريق، لأنهم ظالمون، والله لا يهدى القوم الظالمين.. الآيات: (51- 57) [سورة القصص (28) : الآيات 51 الى 57] وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 360 التفسير: قوله تعالى: «وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» . كانت الآيات السابقة تمهيدا للقاء المشركين وعرضهم على كتاب الله رضا مباشرا، بعد أن رأوا ما هم فيه من ضلال وعناد، ومكابرة في الحق، وأنهم وفرعون في هذا المقام على سواء، حتى لكأنهم أبناؤه الوارثون لكل ما عرف عنه من جور وجبروت.. والمراد بالقول هنا، القرآن الكريم، وتوصيل القول، وصل بعضه ببعض.. وهذا ما يشير إلى الأسلوب الذي نزل عليه القرآن الكريم، وإلى الحكمة المرادة من هذا الأسلوب.. فقد نزل القرآن الكريم منجما، آيات آيات، وسورة سورة، ولم ينزل مرة واحدة، كما نزلت الكتب السابقة، فكان نزوله- مكيا ومدنيا- فى نحو ثلاث وعشرين سنة.. أما الحكمة المرادة من هذا الأسلوب الذي نزل عليه القرآن الكريم، فهى ما كشف عنه قوله تعالى في هذه الآية: «لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» وما كشف عنه قوله تعالى أيضا: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً؟ كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً» (32- 23: الفرقان) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 361 فنزول القرآن على هذا الأسلوب، يثير أشواق المؤمنين، الذين كانوا ينتظرون كل يوم خيرا جديدا، ينزل من السماء فيلقونه، بوجودهم كله، حتى لكأن الذي نزل عليهم ليومهم هو كل القرآن الكريم.. وهكذا كانت الآية أو الآيات المنزلة، تمثل القرآن الكريم كله، حيث يرون فيها دعوة الإسلام، ورسالته.. عقيدة وشريعة، وبهذا يرون مع كل وحي بتلقاه الرسول دعوة مجددة إلى الله، وإلى دين الله، فيزدادون إيمانا ويقينا، ويترشفون ما يروى ظمأهم من هذا المورد العذب.. قطرة قطرة، فيكون ذلك أنقع وأنفع.. أما المشركون فإن لهم فى نزول القرآن- منجما- واعظا يطلع عليهم من آيات الله مع كلّ وحي يوحى إلى الرسول، وإن لهم من كل آيات تتنزل، نذيرا، يختلف وجهه، وتختلف طلائع نذره عن سابقه.. وهكذا يدخلون مع كل وحي يوحى، فى صراع جديد، وفي تجربة جديدة، وفي هذا ما يقيمهم دائما على اتصال بالدعوة، طوال هذه المدة التي نزل فيها القرآن.. وهذا من شأنه أن يصفى ما بالنفوس من شر وخير، يوما بعد يوم، وفي كل يوم يزداد أهل الخير قربا من الإسلام، على حين يزداد أهل الشرّ بعدا ونفورا.. قوله تعالى: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ» المراد بالذين أوتوا الكتاب هنا، هم بعض اليهود والنصارى، الذين دخلوا فى الإسلام، وقد عرفوا أنه الحق من ربهم، وأنه الدين الذي كانوا ينتظرون الرسول المبلغ له، والذي بشرت به التوراة والإنجيل. - وقوله تعالى: «مِنْ قَبْلِهِ» متعلق بآتيناهم، أي آتيناهم الكتاب من قبل هذا الكتاب الذي نزل على محمد- صلوات الله وسلامه عليه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 362 وفي الآية تحريض للمشركين من قريش، ومن العرب عامة، إلى المبادرة يأخذ حظهم من الكتاب الذي نزل عليهم. من قبل أن يسبقهم إليه أهل الكتاب، وينتزعوا منهم هذا الشرف الذي ساقه الله إليهم، وندبهم له.. - وقوله تعالى «هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ» - إشارة إلى أن أهل الكتاب، عندهم عن هذا الكتاب الدلائل والشواهد التي تدعوهم إلى الإيمان به، وأنهم ما إن يلقونه حتى يؤمنوا به، إذا لم يحجبهم عن هذا الإيمان ما يثور في صدورهم من دخان العصبية، والحسد.. وهذا هو بعض السر في قوله تعالى: «يُؤْمِنُونَ» الذي يدل على توقع حدوث الفعل بدلا من «مؤمنون الذي يدل على وقوع الحدث فعلا. قوله تعالى: «وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ» . فى هذا إشارة إلى أن أهل الكتاب بما عندهم من دلائل وشواهد على صدق القرآن الكريم- مهيئون للإيمان بكتاب الله، والتصديق به.. وإنهم إذا تتلى عليهم آياته، لم يتلبثوا ولم يترددوا، بل أسرعوا بالاستجابة له: قائلين آمنا به.. إنه الحق من ربنا.. وإنه الدين الحق الذي دان به النبيون وأتباعهم من قبل.. ولهذا فنحن إذ نؤمن بهذا القرآن لم نتبدل دينا بدين، وإنما نحن بديننا الذي ندين به، ندخل في الإسلام الذي دعينا إليه.. فديننا من الإسلام، والدين الذي ندعى إليه هو الإسلام، فإذا التقينا بالأصل كان لزاما علينا أن ندخل فيه بما معنا من فرع.. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ، وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ.. بَغْياً بَيْنَهُمْ» (19: آل عمران) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 363 وليس كل أهل الكتاب- كما قلنا- هم على هذه الشاكلة، وإنما قلة قليلة منهم، هى التي عرفت الحق وآثرت اتّباعه، وكثرتهم الكثيرة، عرفت الحق، ولكنها آثرت الهوى، وفي هذا يقول الله تعالى: «مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ» (110: آل عمران) «وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» «213: البقرة» . قوله تعالى: «أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» الإشارة هنا إلى الذين يؤمنون من أهل الكتاب بكتاب الله.. فهؤلاء يؤتيهم الله أجرهم وثوابهم مضاعفا، لأنهم جمعوا بين الحسنيين، الدّين الذين كانوا يدينون به، ولم يخلطوه بزيف أو ضلال، والدين الجديد الذي استجابوا له، ولأنهم صبروا على المكاره التي تأتيهم من قومهم، من أهل الكتاب وقد خرجوا على إجماعهم، واتبعوا الطريق الذي هداهم الله إليه.. ولأنهم لا يلقون إساءة المسيئين إليهم من قومهم بالإساءة، بل يلقون الإساءة بالإحسان «وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ» .. ولأنهم لا يكنزون الذهب والفضة، كما يفعل كثير من الأحبار والرهبان، بل ينفقون في وجوه الخير مما رزقهم الله.. قوله تعالى: «وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ» هو بيان لأسلوب من أساليب درء السيئة بالحسنة.. فهؤلاء الذين آمنوا من أهل الكتاب، إذا لقيهم قومهم بالسفاهة، لم يقفوا معهم في هذا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 364 الموقف، بل أعرضوا، قائلين: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم، لا نجالس الجاهلين، ولا نتجه إليهم، وإنما نحن طلاب هدى وحق.. نطلب أهل الهدى والحق، ونرتاد مجالس أهل العلم والمعرفة! هذا، ويلاحظ أن هذه الآيات مكية، أي أنها نزلت ولم يكن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- قد لقى أهل الكتاب بدعوته لقاء مباشرا ولهذا جاء أسلوب النظم معلقا بالمستقبل.. مثل قوله تعالى: «هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ» وقوله: «وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا» .. وقوله: «وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ» .. فهذا إرهاص بما سيطلع به المستقبل من موقف أهل الكتاب من رسول الله، ومن الكتاب الذي معه.. وهذا العرض المسبّق لأحداث المستقبل، فوق أنه تلويح لأهل الكتاب بما لهم من شأن في الدعوة الإسلامية- هو- كما قلنا- تحريض للمشركين من العرب، أن يبادروا بالدخول في هذه الدعوة، وأن يسبقوا إلى الإيمان بها، فهم أحق بها وأهلها.. ثم هو تثبيت لقلوب المؤمنين، بعرض ما يلقاه المؤمنون على طريق الإيمان من مكاره، وما يساق إليهم من أذى.. وأنهم يقابلون ذلك بالصبر، ودفع السيئة بالحسنة، والإعراض عن السفاهة.. قوله تعالى: «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» هو تعقيب على هذا الموقف الجانبى، الذي عرض فيه القرآن الكريم على أنظار المشركين، ما سيكون من أهل الكتاب مع الدعوة التي يدعوهم إليها رسول الله، وأن كثيرا منهم سيدخلون في هذا الدّين.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 365 وفي هذا التعقيب إشارة إلى أن كثيرا من المشركين من قوم الرسول، وذوى قرابته لا يدخلون في هذا الدّين، ولن يكونوا في المؤمنين، ولو حرص الرسول على هداهم، وأحبّ أن يراهم في المهتدين المؤمنين.. فليس للرسول أن يهدى من أحبّ، وإنما هو يهدى من أراد الله له الهداية. وغير قليل من حرص الرسول الكريم على هداهم، لم يرد الله لهم الهدى، وإذن فلن يهتدوا أبدا.. «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» (56: القصص) . وفي هذا ما يكشف عن صميم الدعوة الإسلامية، وعن عظمة هذه الدعوة، وعن شمولها وعمومها، وأنها تقوم على مبدأ إنسانى عام، لا يخالطه شىء من قرابة أو عصبية، حتى ولو كانت قرابة صاحب الدعوة، وعصبيته.. فهذه دعوة من الله إلى عباده، ومائدة سماوية ممدودة إلى كل من تهفو نفسه إليها، وتمتد يده لها.. فمن جاء فلا يردّ، ومن أبى فلا يحمل إليه الزاد، ولا يحمل هو عليه.. وها نحن أولاء نرى على مائدة السماء تلك، أيديا غريبة متمكنة، تنال من كل شىء منها، على حين نرى أيديا من أهل بيت النبيّ الذي تمدّ المائدة في رحابه- ليس لهم مكان على هذه المائدة.. فترى على المائدة رجالا كبلال الحبشي، وسلمان الفارسيّ وصهيب الرومي، ولا نرى أبا طالب عم النبي! .. ومن عجب أن يكون هذا في مجتمع يقوم أمره كله على العصبية، وتجرى حياته كلها على اقتسام الخير والشر بين أبناء البيت الواحد، أو القبيلة الواحدة.. وهذا أبلغ شاهد، من شواهد كثيرة لا تحصى على أن دعوة الإسلام من وحي السماء، وليس للبشر صفة فيها أو تدبير لها.. إنها من عند الله، لعباد الله. قوله تعالى: «وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا.. أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا.. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 366 من تعلّات المشركين، الذين أبوا أن يستجيبوا لرسول الله، وأن يدخلوا فى دين الله- هذا القول لذى يقولونه زورا وبهتانا: «إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا» !. وهذا القول منهم، هو شهادة عليهم بألسنتهم، بأنهم أهل سفه وضلال، وليسوا أصحاب مبادئ وأخلاقيات.. إذ كيف يعلمون أن هذا الذي يدعون إليه هو الهدى، ثم لا يتبعونه، ويؤثرون أن يعيشوا في ضلال، خوفا من ضرّ يلقاهم، أو أذى يصيبهم؟ ومتى كان أصحاب المبادئ والمثل، يخشون ضرا، أو يرهبون أذى؟ ألا ينظرون إلى بلال وإلى أبيه وأمه، وإلى غيرهم وغيرهم، وهم يطعمون من أيديهم هذا العذاب الأليم، فى سبيل المبدأ والعقيدة، دون أن يزحزحهم عنه هذا البلاء الذي مات بعضهم تحت سطوة سياطه، وهو يقول: «أحد أحد» ! ألم يكن لهم في هذه المواقف البطولية عبرة وعظة؟ ألا يدعوهم الشرف والمروءة- وهم السادة الأشراف- أن يرتفعوا إلى هذا المستوي الذي ارتفع إليه عبيدهم وإماؤهم؟ ولكنها العقول حين تضل، والبصائر حين تعمى..!! ثم من قال لهؤلاء الضالين، إنهم لو اتبعوا الهدى ستخطفون من أرضهم؟ ألا يرون ما لله عليهم من فضل وإحسان، وقد جعل لهم- وهم في الشرك والضلال- حرما آمنا، حيث يتخطف الناس من حولهم، وهم في حرم الله آمنون، وحيث تحج إلى هذا الحرم قبائل العرب جميعا، تحمل إليهم مما في أيديها من ثمرات وخيرات، كما تحمل إليهم مما في قلوبها من توقير وتكريم، لما لهذا البيت من توقير وتكريم؟ فإذا كان ذلك هو شأن الناس معهم وهم على الشرك والضلال، أفلا يكون لهم مثل هذا الشأن، وهم على الهدى والإيمان؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 367 ألا إنه العناد الذي يهلك أهله.. «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» (41: المائدة) . الآيات: (58- 70) [سورة القصص (28) : الآيات 58 الى 70] وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 368 التفسير: قوله تعالى: «وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ» . ذكرت الآية السابقة على هذه الآية، ما لله سبحانه وتعالى من فضل على البلد الحرام وأهله، إذ جعله بلدا آمنا! تهوى إليه الأفئدة، وتعظمه القلوب، وجعل لأهله حرمة في الناس، فأمنوا ما كان ينزل بالناس حولهم من بغى وعدوان.. وقد كشفت الآية كذلك عن كذب هذا الادعاء الذي يدعيه المشركون، وهو أنهم إذا اتبعوا الهدى، زال عنهم وعن بلدهم، هذا الأمن الذي هم فيه، وتخطّفهم الناس! وفي هذه الآية، يهدد الله سبحانه وتعالى هؤلاء المشركين بالنقم التي حلت بكثير من القرى قبلهم، فقد كانت تلك القرى آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، فلما كفرت بأنعم الله، وبطرت معيشتها، أي استخفت بالنعمة وكفرت بها- أذاقها الله لباس الجوع والخوف.. وكذلك هؤلاء المشركون، هم في قرية آمنة مطمئنة، يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، ويجبى إليها ثمرات كل شىء، وقد بطروا وأشروا، فأشرف بهم هذا البطر والأشر، على مواقع الهلاك والبلاء، ليلحقوا بمن كانوا على شاكلتهم من أهل تلك القرى التي كفرت بأنعم الله.. قوله تعالى: «وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 369 فى هذه الآية إشارة إلى أن أهل هذا البلد الحرام، قد بطروا معيشتهم، وكفروا بأنعم الله، واستوجبوا العذاب والبلاء.. ولكن الله سبحانه وتعالى- رحمة بعباده، وإقامة للحجة عليهم- لم يشأ أن يأخذهم بذنوبهم قبل أن يعذر إليهم، وينذرهم على يد رسوله.. فما أهلك سبحانه وتعالى قرية من القرى إلا بعد أن بعث إليها رسولا مبشرا ومنذرا، كما يقول سبحانه: «وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ» (208: الشعراء) . وها هي ذى القرية، البلد الحرام، قد كفر أهلها بالله، وها هو ذا رسول الله فيهم، قد جاء لينذرهم بين يدى عذاب شديد.. فإن هم استجابوا له، ورجعوا عما هم فيه نجوا، وسلموا من بأس الله في الدنيا، ومن عذابه في الآخرة، وإن أبوا إلا ضلالا وعنادا، فهم في الهالكين.. «لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ» (41: المائدة) . والأمّ: الرأس من كل شىء.. وأم القرى رأسها، ومجتمع قراها.. وهي هنا مكة.. وفي هذا يقول الله تعالى: «وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها» (92: الأنعام) . قوله تعالى: «وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ» . هو نذير من تلك النذر، التي ينذر بها القوم على لسان رسول الله صلّى الله عليه وآله، وذلك أن أكثر ما يصرفهم عن الدعوة الإسلامية، ويصمّ آذانهم عنها، هو خوفهم على ما في أيديهم من جاه وسلطان، وما يجلبه عليهم جاههم وسلطانهم من مال ومتاع.. فكان قوله تعالى: «وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 370 فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها» - تهوينا لشأن ما في أيديهم من مال ومتاع يحرصون عليه، ويضحون بكل شىء من أجله.. فهذا الذي أوتوه، هو من متاع الدنيا وزخرفها، والدنيا زائلة، ونعيمها زائل، وما عند الله من أعمال صالحة، يقدّمها المؤمنون ليوم الجزاء- هو الذي يبقى، وهو الذي يدوم خيره، ويتصل نعيمه.. - وفي قوله تعالى: «أَفَلا تَعْقِلُونَ» نخسة لهؤلاء الضالين، الذين حرصوا على أموالهم، وزهدوا في عقولهم، فلم ينظروا بها إلى أكثر مما وراء المال والمتاع!. قوله تعالى: «أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ» . الوعد الحسن: هو الجزاء الطيب الكريم، الذي وعد الله عباده المؤمنين فى الآخرة، من جنات ونعيم.. والموازنة هنا، بين المؤمنين والمشركين، حيث يتضح بعد ما بينهما.. فالمؤمنون على وعد من ربهم بالجنة، وهم سيلاقون هذا الوعد: «وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ» (6: الروم) والكافرون يمتعون في هذه الدنيا متاعا قليلا، ثم يحضرون يوم القيامة إلى الحساب والجزاء وليس لهم في الآخرة إلا النار..! - وفي قوله تعالى: «مِنَ الْمُحْضَرِينَ» - إشارة إلى أن الكافر إنما يساق سوقا إلى الحشر، ويدفع دفعا إلى موقف الحساب، ويدعّ دعا إلى النار.. فمن ورائه سائق عنيف يسوقه إلى تلك المكاره، التي يودّ لو أن له طريقا يعدل به الجزء: 10 ¦ الصفحة: 371 عنها.. «وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ» (21: ق) فهذه هي نفوس الضالين المكذبين، الذين لم يعملوا لهذا اليوم، ولم يكونوا على وعد بما وعد به المؤمنون، من لقاء ربهم، ومن الجزاء الحسن الكريم عنده.. فالمؤمنون: «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» (103: الأنبياء) . قوله تعالى: «وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» ؟ الضمير فى «يناديهم» يعود للمشركين جميعا، على اختلاف معبوداتهم.. والسؤال هنا، سؤال تعجيز للمشركين، حيث يتبرأ بعضهم من بعض، ويفر بعضهم من وجه بعض، ويتلفت كل مجرم، فلا يرى إلا آثامه، تحيط به وتنادى بمخازيه.. قوله تعالى: «قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ» . للذين حق عليهم القول، أي وجب عليهم العذاب، فكانوا من أهل النار.. وقد كان السؤال موجها إلى المشركين جميعا، ليحضروا آلهتهم التي عبدوها من دون الله.. وهنا يبادر أهل الرياسة والسلطان ممن كانوا سدنة هذه الآلهة، والدعاة لها بين الناس- ليدفعوا عن أنفسهم هذا البلاء العظيم، إذ يرون أنهم هم الذين زينوا للناس الشرك، وساقوهم إلى هذا الضلال.. فيقدمون هذا العذر: «رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا» ... أي هذه هي جريمتنا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 372 ممثلة في هؤلاء الأتباع الذين أغويناهم، ولكنا أغويناهم كما غوينا نحن، فنحن غوينا، ثم أغويناهم بما كنا فيه من غواية، وإذن فنحن وهم على سواء.. «تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ» من كل شرك، وتبرأنا إليك من تعلق هؤلاء الضالين بنا.. «ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ» وإنما كانوا يعبدون ما نعبد من ضلال!! وهكذا يجرّ هؤلاء الرؤساء أتباعهم معهم إلى هذا المصير المشئوم، ليشاركوهم البلاء والعذاب.. وذلك أنهم ظنوا حين وجه السؤال في قوله تعالى: «أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» أنه لو سبقهم أتباعهم إلى الإجابة على هذا السؤال، وقالوا: هؤلاء هم الذين دعونا إلى عبادة ما عبدنا من الهة- لعلقت التهمة بهم وحدهم، ولنجا أتباعهم، وفي هذا ما يضاعف بلواهم، ويزيد في حسراتهم.. أما حين يؤخذ الجميع، ويعمهم البلاء، فإن البلاء- وإن عظم- يهون، وإن الحسرة- وإن اشتدت- تخفّ..! هكذا فكروا وقدّروا.. قوله تعالى: «وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ» . الشركاء: هم من أشركوا بعبادتهم، واتخذوهم آلهة من دون الله.. والأمر بدعاء الشركاء، تيئيس لهم، وتنديم لما كانوا فيه من ضلال، حيث كانوا يتعلقون بهؤلاء المعبودين في الدنيا، ويرجون منهم ما يرجو المؤمنون من ربهم- وحين جاء وقت الامتحان ووقف المشركون على النار، قيل لهم: ادعو شركاءكم، ليدفعوا عنكم هذا البلاء.. «فَدَعَوْهُمْ.. فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ» ولم يسمعوا إلا فحيح جهنم، وشهيقها.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 373 - قوله تعالى: «وَرَأَوُا الْعَذابَ» هو معطوف على قوله تعالى «فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا» أي أنهم حين دعوا شركاءهم الذين عبدوهم من دون الله، وهتفوا بهم أن أغيثونا، لم يروا لهم ظلا، ورأوا العذاب في الموقع الذي كانوا ينتظرون أن تطلع عليهم منه آلهتهم تلك.. وفي ذلك ما يضاعف من بلائهم ويزيد فى حسرتهم. - وقوله تعالى: «لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ» .. هو صوت منطلق من وراء هذا المشهد، الذي عرض فيه المشركون وهم في الدنيا، هذا العرض الذي رأوا فيه المصير الذي هم صائرون إليه، إذا هم ظلوا على ما هم فيه من عمى وضلال.. وهذا الصوت هو صوت العبرة والعظة، المندسة في كيان هذا العرض، الذي شهده المشركون، وإذ لم يجدوه في أنفسهم، جاء إليهم من خارج، فى دعوة مجددة تدعوهم إلى الإيمان بالله، والانخلاع عن هذا الشرك الذي هم فيه. وجواب لو مخدوف، دل عليه مضمون الكلام السابق.. والتقدير: إن فى هذا العرض لعبرة وعظة لهم، لو كانوا يهتدون.. أي لو كانوا ممن يقبل الهدى، ويستجيب له، لكان لهم من هذا الموقف عبرة وعظة. قوله تعالى: «وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ» هو من سياق قوله تعالى فى الآية السابقة: «لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ» .. فقد قلنا إن هذا صوت يستحثهم على الهدى، ويدعوهم إلى ترك ما هم فيه من شرك.. فإذا وقع هذا الصوت موقعا من قلوبهم، وأرادوا أن يطلبوا الهدى، لقهم الرسول الكريم، الذي يدعوهم إلى الله، وهم يصمّون آذانهم عنه.. وتلك جناية أخرى من جناياتهم على أنفسهم، حيث يدعون في يوم القيامة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 374 ويسألون. «ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ؟» أي بماذا أجبتموهم لما دعوكم إليهم؟ ولا جواب لهم إلا الإقرار بالجريمة، وأنهم قد صدوا عن سبيل الله، وكفروا بالله وبرسوله.. قوله تعالى: «فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ» أي أنهم في هذا اليوم يستولى عليهم حال من الذهول، تتبلد به حواسهم، ويطير معه صوابهم، وتنعقد منه ألسنتهم، فلا يدرون شيئا، ولا ينطقون بشىء..!! قوله تعالى: «فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ» . هو لقاء من جديد، بدعوة محددة، إلى هؤلاء المشركين، وقد عادوا التوهّم من يوم القيامة، ليتوبوا، ويرجعوا عما هم فيه من ضلال وشرك، ويؤمنوا بالله ويعملوا صالحا، فإن فعلوا ذلك، كانوا على الطريق الذي يعدل بهم عن جهنم إلى الجنة، وينقلهم من الخسران إلى الفلاح.. وفي قوله تعالى: «فَعَسى» - إشارة إلى أن فلاح المؤمن، إنما يكون بفضل من عند الله، وأن على المؤمن أن يعلّق رجاءه بالله، لا بما يعمل من صالحات! قوله تعالى: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 375 هو بيان لما جاء في قوله تعالى: «فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ» فالإيمان بالله، والعمل الصالح، فضل من أفضال الله على عبده، وإذن فليكن نظر العبد متجها دائما إلى ربه، وإلى الطمع في رحمته، وليعلم أن الأعمال الصالحة- وإن كانت مطلوبة من المؤمن لأنها سبيل إلى مرضاة الله- فإنها لا تدخله الجنة، وإنما الذي يدخله الجنة، هو رحمة الله، التي تحرس إيمانه وتيسر له السبيل إلى الأعمال الصالحة.. - وقوله تعالى: «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ» .. أي أنه سبحانه، يخلق ما يشاء من مخلوقات، ويختار لكل مخلوق طريقه الذي يأخذه، إلى الهدى أو الضلال، وإلى الجنة أو النار.. - وقوله: «ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ» - هو نفى لأن يكون لأحد مع إرادة الله إرادة، ومع اختياره اختيار ... وقد عرضنا لهذه القضية من قبل تحت عنوان: «مشيئة الله ومشيئة العباد» «1» - وقوله تعالى: «سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» تنزيه لله عما يشرك به المشركون من آلهة، ويدّعون أن لهم في هذا الوجود تصريفا ينفع أو يضر.. قوله تعالى: «وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ» هو بيان لقدرة الله القادرة، وعلمه الشامل، المحيط بكل شىء..   (1) انظر التفسير القرآنى للقرآن، وكذلك كتابينا: «قضية الألوهية» «والقضاء والقدر» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 376 قوله تعالى: «وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» هو الوصف اللائق لله سبحانه وتعالى، الذي يتفرد به، لا يشاركه فيه أحد.. فهو سبحانه. «الله» المتفرد بالألوهية، «لا إله إلا هو» تفرد وحده سبحانه بألوهيته.. «لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى» أي في الدنيا «والآخرة» يوم القيامة، حيث يحمده. كل مخلوق على ما هو عليه من خلق أقامه الله فيه، كما يقول سبحانه: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» (44: الإسراء) «وله الحكم» أي التصريف والسلطان، فى كل ما في الوجود، يدبره كيف شاء علمه، وقضت إرادته، لا معقب لحكمه.. «وإليه ترجعون» أي إليه يرجع الناس بعد الموت، ليروا أعمالهم، ويجزوا عليها.. «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» . (7- 8: الزلزلة) . الآيات: (71- 75) [سورة القصص (28) : الآيات 71 الى 75] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 377 التفسير: قوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ» السرمد: الدائم، والنسبة إليه سرمدى.. والآية وما بعدها، استعراض لقدرة الله سبحانه وتعالى، وإحسانه إلى خلقه، وفضله عليهم، ورحمته بهم.. فلو شاء سبحانه أن يجعل الليل قائما على هذه الأرض، لا يعقبه نهار أبدا، لاستولى الظلام على هذا الكوكب، وعلى من فيه وما فيه، ولما كان لأحد أن يغير هذا الوضع القائم أبدا.. - وفي قوله تعالى: «أَفَلا تَسْمَعُونَ» إشارة إلى أن الحاسة العاملة في الإنسان، عند الظلام، هى حاسة السمع، حيث يبطل عمل البصر، ويتحول المجال الحسى للإنسان كله، إلى أذن تسمع! .. فالناس في عالم الظلام، تتجمع حواسهم في سمعهم.. ومع هذا، فإن هؤلاء المشركين لا يسمعون، حتى حين يكون السمع هو الوسيلة الوحيدة للإنسان في اتصاله بالحياة..! قوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 378 وكما في قدرة الله سبحانه، أن يحبس الليل، فلا يتحول عن مكانه من الأرض، كذلك في قدرته جل شأنه أن يجعل من النهار سلطانا قائما على الأرض لا يتحول عنها أبدا، ولا يجد الناس- ولا الكائنات الحية- هذا الليل الذي يلف الوجود بردائه، ويريح الكائنات على صدره.. - وقوله تعالى: «أَفَلا تُبْصِرُونَ» - إشارة إلى أن حاسة البصر في هذا النور الدائم الذي لا ينقطع أبدا، تكون هي الأداة العاملة في الإنسان.. ومع هذا، فإن المشركين، لا يبصرون في هذا النور الغامر، الساطع، الدائم.. قوله تعالى: «وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» هو تعقيب على الآيتين السابقتين، ورد على ما سئل عنه المشركون، وأعياهم الجواب عنه.. فالله سبحانه وتعالى لم يشأ أن يجعل الليل سرمدا، أو النهار سرمدا، بل جعل الليل والنهار، ووصل بعضهما ببعض، ولم يجعل لأحدهما وجودا بغير الآخر.. وجعل ذلك رحمة منه سبحانه، بعباده، وإحسانا إليهم.. - وقوله تعالى: «لِتَسْكُنُوا فِيهِ» الضمير فى «فيه» يعود إلى الليل. وفي ذلك إشارة إلى أن الليل- وإن كان ظلاما- فإنه يحمل معه السكن، والهدوء والاستقرار، ولراحة، بعد عمل النهار.. والضمير في قوله تعالى: «مِنْ فَضْلِهِ» يعود إلى لفظ الجلالة، أي من فضل الله.. والابتغاء من فضل الله، يكون في كل وقت، فى النهار، وفي الليل. ولهذا لم يقيّد بظرف، كما قيّد السّكن. قوله تعالى: «وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» هو تذكير الجزء: 10 ¦ الصفحة: 379 بقوله تعالى في مطلع الآيات السابقة: «وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» (الآية: 62) .. وبهذا يكون ما بين هاتين الآيتين واقعا في حيز التهديد للمشركين، وسؤالهم يوم القيامة عن آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله.. وهو سؤال تعجيز، يراد به وضعهم موضع الاتهام، وما يلقون فيه من تعنيف وتأنيب.. وفي تصدير الآيات بهذا السؤال التعجيزي، ثم ختامها به- فى هذا ما يشير إلى أهمية هذه القضية، التي جاءت الآيات للفصل فيها، وهي قضية التوحيد بالله! قوله تعالى: «وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» نزعنا: أي أخرجنا من كل أمة شهيدا، وهو الرسول المرسل إليهم.. كما يقول سبحانه: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» «41: النساء» . - وقوله تعالى: «فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ» أي هاتوا حجتكم، ودليكم على دينكم الذي تدينون به.. - وقوله تعالى: «فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» - أي فجاء كل إنسان ببرهانه وحجته، على دينه الذي يدين به، والإله الذي يعبده،: وهنا ظهر الحق، وزهق الباطل.. فأما من كانوا يعبدون الله، ويؤمنون برسل الله وكتبه، فقد جاءوا بالبرهان المبين، على أنهم على الدين الحق، فقبلهم الله سبحانه في ملكوته، وتقبل أعمالهم الطيبة، وتجاوز عن سيئاتهم. وأما من كانوا يعبدون غير الله، فقد ضل عنهم آلهتهم، وتركوهم ليلقوا مصيرهم الشئوم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 380 الآيات: (76- 83) [سورة القصص (28) : الآيات 76 الى 83] إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 381 التفسير: قوله تعالى: «إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ» . مناسبة قصة قارون هنا، هى أن الآيات السابقة كانت تعرض مواقف المشركين من رسول الله، ومن الكتاب الذي بين يديه، وقد جمعت بينهم وبين فرعون، وجعلت منه ومنهم جبهة واحدة، تمثل الكفر، والعناد، والعتوّ، والفساد في الأرض.. وقصة «قارون» تطلع على هؤلاء المشركين من الماضي البعيد بصورة يرون في بيئتهم من يمشى بينهم في إهابها، وكأنما هو «قارون» بعث من قبره! وذلك فيمن كان يعيش في مجتمعهم من أغنياء اليهود، مثل حيى بن أحطب وغيره.. فالمشركون في صورتهم العامة، فراعين، فى عتوهم وضلالهم، تتحرك فى كيانهم أجسام غريبة، من اليهود، الذين جمعوا أموالا كثيرة، بأساليب لا يحسنها غيرهم.. وبهذا تكتمل المشابهة بين مجتمع المشركين، ومجتمع فرعون.. فكلا المجتمعين يتشكل من عنصر أصيل، وعنصر دخيل عليه.. وفي العنصر الأصيل كبر، وعناد، واستعلاء، وفي العنصر الدخيل انحلال، وفساد، وعفن.. وكلا المجتمعين، بعنصريه- الأصيل والدخيل- حرب على الحق والخير.. - وقوله تعالى: «إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 382 الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ» هو استحضار لأهل الكتاب في شخص اليهود، ثم استدعاء لليهود في شخص أغنيائهم، وأصحاب الثراء فيهم، ممن هم على شاكلة أبيهم قارون.. وهذا الاستدعاء هو نذير لليهود من قبل أن يلقاهم الرسول لقاء مباشرا، حتى يأخذوا حذرهم لأنفسهم من أن يقفوا من قومهم موقف قارون في أجدادهم، حين يدعوهم الرسول إلى الله، فيتصدّى منهم «قارون» أو أكثر من «قارون» لهذه الدعوة.. فإنهم إن فعلوا أخذهم الله كما أخذ قارون من قبل.. ففى قوله تعالى: «فَبَغى عَلَيْهِمْ» أي خرج من محيطهم، وانحاز إلى فرعون، ونسى أنه على دين يلتقى مع هذا الدين الذي جاء به موسى.. وقد جاءت الأيام بصدق هذه الصورة، فيما كان بين أغنياء اليهود من تحالف بينهم وبين المشركين على محاربة الدعوة إلى الإسلام، سرا وجهرا.. فكان أن أخذهم الله بما أخذ به المشركين، كما أخذ الله قارون بما أخذ به فرعون، وفي هذا يقول الله تعالى: «وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها.. وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً» (26- 27: الأحزاب) - وقوله تعالى: «وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ» : الفاء هنا للتعقيب، بمعنى أن هذا الذي آتاه الله قارون من كنوز، قد كان بعد أن بغى على قومه، وانحاز إلى فرعون، وفي ذلك استدراج من الله سبحانه وتعالى له، حتى يغرق في الغى والبغي، كما يقول سبحانه: «أَيَحْسَبُونَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 383 أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ.. بَلْ لا يَشْعُرُونَ» (55- 56 المؤمنون) .. و «ما» فى قوله تعالى: «ما إِنَّ» اسم موصول، وهو وصلته صفة للكنوز.. أي أن الله سبحانه وتعالى آتاه من المال الذي مفاتحه تنوء بالعصبة أولى القوة. والمفاتح، جمع مفتح، مثل كوكب.. والمراد بالمفاتح هنا: المداخل التي يدخل منها على هذا المال.. وهو لكثرته ونفاسته قد شددت الحراسة عليه. وفي إسناد، الفعل إلى المفاتح، وهي المداخل إلى هذه الأموال، وجعلها هى التي تدوء بالعصبة أولى القوة- إشارة إلى ما قام على هذه الكنوز من قوى شديدة ذات بأس من الخزنة والحرس، حتى إنها لتنوء، وتضعف عن حمل هذه القوى القائمة عليها.. يقال: ناء بالحمل: إذا ضعف عن حمله، لثقله عليه.. وكذلك المداخل التي يدخل منها على هذا المال الكثير، تنوء بما عليها من حراس أقوياء.. - وقوله تعالى: «إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ» .. المراد بالفرح هنا: فرح الزهو والعجب والخيلاء.. فهو فرح متولد من تلك المشاعر التي تحرك في صاحبها دوافع البغي والتسلط.. أما الفرح، على إطلاقه، فليس بالمكروه، إذا كان عن قلب يجد لفضل الله وإحسانه موقعا منه، كما يقول سبحانه: «وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ» (4- 5: الروم) . - وفي قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ» - إشارة إلى أن الفرح الجزء: 10 ¦ الصفحة: 384 المكروه، هو الفرح المبالغ فيه، والذي يخلى نفس صاحبه من كل شعور بقدرة الله، وبما لهذه القدرة من تصريف في شئون العباد، وتقلّب أحوالهم.. فلو ذكر المرء هذا في حال من أحوال فرحه، لتخفف كثيرا مما هو فيه من فرح، ولعلم أنها حال لا تدوم، وأنه إذا لم يكن في مجريات الأحداث ما يقطع هذه الفرحة، قطعها الموت، وما وراء الموت من حساب وجزاء.. «والفرح» صبغة مبالغة من فرح.. قوله تعالى: «وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» .. هذا مما وصّى به أهل الصلاح والتقوى من قوم موسى، «قارون» ، هذا الذي استبد به العجب بماله، واستغواه الغى، بما ضمت عليه يده من سلطان بهذا المال.. فهم يدعونه إلى أن يسلك بهذا المال، الطريق الذي تحمد عواقبه، وتتم به تلك النعمة. وقد نصحوا له ألا يستبد به الفرح بما ملك، وفي ذلك إيقاظ له من سكرة هذا المال، حتى إذا صحا، دعوه إلى ما ينبغى أن يسوس به ماله هذا، فيطلب به رضا الله، ويقدم منه ما ينفعه في الآخرة، ويأخذ منه ما يصلح به شئون دنياه، فيجمع بذلك خير الدنيا والآخرة جميعا.. وأن يحسن وينفق في وجوه الخير، مثل ما أحسن الله إليه، فيلقى إحسان الله بالإحسان إلى عباد لله، فذلك هو زكاة هذه النعمة، وألا يتخذ من هذا المال أداة للفساد والإفساد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 385 فى الأرض، والإضرار بالناس، وهضم مالهم من حقوق.. إن الله لا يحب المفسدين.. قوله تعالى: «قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي.. أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ» وقد استقبل «قارون» هذه الدعوة الحكيمة الرشيدة بالاستخفاف والتحدي، شأنه في هذا شأن من غطى على بصره ما امتلأ به كيانه من أشر وبطر، فجعل كل نصح يلقى إليه، دبر أذنه، ومن وراء ظهره. - وقوله تعالى: «قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي» .. إنه ينكر أن يكون لله شىء فيما بين يديه من هذا المال الغمر.. إنه قد توصل إليه بحسن تدبيره، وجمعه بجهده وكده.. والعلم الذي أوتيه «قارون» ليس العلم الذي تحصله العقول، أو تستشفه البصائر، وإنما هو علم تنضح به الطبائع الخبيثة، والنفوس المريضة، من نفاق، ومداهنة، وانّجار بالذمم والضمائر، مما يحسنه اليهود، ويأخذون به مكان الأستاذية للناس جميعا.. وقد كان «قارون» فى هذا العلم أستاذا لهؤلاء الأساتذة.. فجمع هذا المال الوفير الذي كان موضع حسد من كثير من قومه، كما كان آفة مهلكة له.. وليس يعترض على هذا بقوله تعالى: «وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ» إذ قد يفهم من هذا أن الله سبحانه وقد آتاه هذا المال، إنما آتاه إياه هبة، وابتدأه به إحسانا، فهو- والأمر كذلك- لم يحصّل هذا المال بشىء من تلك الوسائل الخسيسة الفاسدة، خاصة، وأن القرآن الكريم قد استعمل هذا الفعل مسندا إلى الله في مواضع كثيرة، وكلّها في مقام الفضل والإحسان، وأجلّها ما كان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 386 من إيتاء الله سبحانه وتعالى الكتاب والحكم والنبوة، للكثير ممن اصطفى من عباده.. وردّنا على هذا: أولا: أن هذا لا يدفع أن يكون الله سبحانه وتعالى قد ابتدأ قارون بهذه النعمة، وأولاه هذا الإحسان.. ثم كان منه هذا الكفران بالله، والجحود لفضله عليه، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ» (175- 176: الأعراف) . وثانيا: أن قول قارون: «إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي» - هو دعوى يدّعيها، ويبرر بها إضافة هذا المال إلى كسبه بوسائله، تلك الوسائل التي أشرنا إليها.. فهو- فى تقديره- كان يحسب أن هذه الوسائل هي التي جلبت له هذا الثراء العريض، وهذه الوسائل- فى تقديره- هى علم يحسنه وحده، ولا يحسنه غيره.. وهذا لا يمنع من أن تكون تلك الوسائل في ذاتها غير فاعلة، وإن بدا في الظاهر أنها هي التي يردّ إليها هذا الذي اجتمع في يديه من مال.. وأن هناك أسبابا خفية، هى التي جلبت له هذا الثراء، على غير تقدير منه. وثالثا: قد يسند الإيتاء إلى الله سبحانه وتعالى للنقمة في ثوب النعمة، كما قال تعالى: «وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها» (59: الإسراء) .. فالذى آتاه الله ثمود هنا- وهو الناقة- كان بلاء وهلاكا. ورابعا: أن إسناد هذا الفعل لله، إنما هو من مقولة القوم، الذين ينظرون إلى هذا المال الذي اجتمع ليد «قارون» كما ينظرون إلى كل شىء يناله الإنسان في هذه الدنيا، وهو أنه من عند الله.. إذ كان القوم مؤمنين بالله، وقولهم هذا هو على ما جرت به عادة المؤمنين، من إضافة كل شىء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 387 إلى الله، سواء أكان خيرا أو شرّا.. أما النعم الخالصة التي يسوقها الله إلى المصطفين من عباده، فإنها تحمل مع هذا الفعل مسندا إلى الله، بإخبار منه سبحانه، كما يقول سبحانه: «وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً» «55: الإسراء» .. «وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ» . «87: البقرة» .. أمّا «قارون» فقد أتاه الله هذا المال الوفير، جزاء بغيه، فكان نقمة في صورة نعمة. - وقوله تعالى: «أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً» هو رد على هذا الادعاء العريض الكاذب الذي يدعيه قارون.. وأنه لو كانت له قوة ذاتية، وكان له من العلم الذاتي ما جمع به هذا المال، لكان لهذه القوة وهذا العلم أن يحفظا عليه ما جمع، فلا يذهب من يده، بل كان لهذه القوة وهذا العلم أن يحفظا عليه ما جمع، فلا يذهب من يده، بل كان لهذه القوة وهذا العلم، أن يحفظا عليه وجوده هو نفسه!! فهل تنفعه هذه القوة، وهل يجديه هذا العلم، إذا جاءه بأس الله؟ ألا فلينظر إلى من كان قبله من الأمم السابقة، ممن هم أشد منه قوة وأكثر جمعا.. أين هم الآن؟ وأين ما جمعوا من مال وما اجتمع لهم من قوة؟ هل أغنى ذلك عنهم من بأس الله من شىء لقد؟ هلكوا، وهلك ما كان لهم. - وفي قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَعْلَمْ» رد على هذا العلم الذي يدعيه، وأنه علم هو الجهل بعينه، وأنه لو كان علما حقا، لعلم به ما حل بالظالمين المفسدين في كل أمة وكل جيل ولما سار على دربهم، وسلك طريقهم..! - وقوله تعالى: «وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ» .. أي أن الله سبحانه إذا أخذ المجرمين بجرمهم في الدنيا، وأنزل بهم البلاء، وسلط عليهم النقم- أخذهم بغتة، على غير توقع منهم، حيث لا يسألون عما هم فيه من ضلال، ولا يدعون إلى موقف المحاسبة في هذه الدنيا.. فهذا موقف له يومه، يوم يقوم الناس لرب العالمين.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 388 قوله تعالى: «فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» . إنها الفتنة تتحرك في هذا الموكب، الذي تحتشد فيه زخارف الحياة، حيث يخرج قارون في موكبه الحاشد، وقد ظهر فيه سيدا عظيما في زى أصحاب الملك والسلطان، وبين يديه ومن خلفه الجنود والأعوان.. فتحركت مع هذا الموكب أهواء النفوس وشهواتها، وتطايرت من العيون قطرات الاشتهاء والتمني، فقال الذين همهم هذه الدنيا وحدها، وليس للآخرة نصيب يشغل به تفكيرهم، ويصرف إليه همهم- قالوا: «يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ.. إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» .. وهكذا تعظم الدنيا في عين طلابها، فإن فاتهم شىء منها مما وقع لغيرهم، تقطعت نفوسهم أسى وحسرة على حظهم المنكود، ذلك، ولو لم يكن ينقصهم شىء مما يحتاجون إليه لحفظ حياتهم، من طعام، وكساء، ومأوى.. وإنما هو الغيرة والتنافس في متاع الدنيا.. قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ» . وهذه نظرة أهل الحق والعلم إلى الدنيا.. إنها نظرة قائمة على حساب سليم مع الحياة الدنيا ومتاعها.. فهى عندهم ظل زائل، ومتاع قليل، وحسب الإنسان منها أن يأخذ في حمد ورضى، ما قسم الله له، وأن يطلب الرزق من وجوه سليمة مستقيمة، وأن يؤدى حق الله والعباد فيما آتاه الله.. ثم لا يصرفه شىء من هذا عن طلب الآخرة، والإعداد لها، وابتغاء مرضاة الله بالأعمال الصالحة.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 389 فذلك هو خير مما لو اجتمعت الدنيا كلها للإنسان، ثم لم يكن له نصيب فى الآخرة.. - وقوله تعالى: «وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ» أي لا يلقيّ هذه المقولة، ولا يتقبل هذه الدعوة الطيبة إلى ابتغاء ثواب الله- إلا الصابرون، الذين يصبرون على بأساء الحياة الدنيا وضرائها، ابتغاء ما يلقون من جزاء حسن في الآخرة.. فمن لم يكن من الصابرين، فإنه لا يؤدى حقا، ولا يصبر على حق، بل يستعمل كل ماله في هذه الدنيا، ويستهلكه في يومه، غير ملتفت إلى غده.. إن الطاعات تكاليف وأعباء، لا تقع موقع القبول والرضا إلا من نفوس صابرة، تغرس اليوم، لتجنى ثمار غرسها غدا.. قوله تعالى: «فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ» . وهكذا يدور الزمن دورته، وينخرم حساب قارون مع دنياه هذه، وما جمع فيها، وإذا هو وما جمع في حفرة عميقة في الأرض، قد فغرت فاها، وابتلعته في غمضة عين، كما يبتلع الحيوان فريسته.. وهكذا تطوى صفحة هذا الضلال المتحرك، وتذهب معالمه، دون أن يكون له من ينصره من بأس الله ويدفع عنه هذا المصير، فقد ذهب عنه سلطانه، ولم يغن عنه ماله! قوله تعالى: «وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» . وينتقل المشهد من قارون وموكبه، وداره وحشمه وماله، إلى تلك العيون الجزء: 10 ¦ الصفحة: 390 التي كانت متعلقة بهذا الموكب وما يجر وراءه، وإذا بها شاخصة في ذهول مما حدث؟ أين قارون الذي تعلقت بأذيال موكبه أمانيّ القوم؟ وأين كنوزه وأمواله، وقصوره؟ لا شىء من هذا.. لقد اختفى كل شىء في لحظة خاطفة، كما يختفى السابح في الماء وقد احتوته دوامة عاتية، فغرق، وهوى إلى القاع!! أهكذا الدنيا إذن؟ وأ هكذا تصاريف القدر فيها؟ «وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ» ؟ إذن، فالأمر لله وحده، يبسط الرزق لمن يشاء، ويقدره ويقبضه عمن يشاء، بعلم، وحكمة وتدبير.. وإذن، فقد كان من فضل الله علينا أنه لم يستجب لأمنياتنا، ولم يؤتنا مثل ما أوتى قارون.. إنه لو فعل لكان مصيرنا كمصيره، ولخسف بنا وبدورنا الأرض، كما خسف به وبداره الأرض.. «لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا» . إن أشد الناس فقرا فينا، لهو خير من قارون وكنوزه.. وهل يرضى أحد من هؤلاء الذين شهدوا هذا المشهد اليوم أن يكونوا قارون الذي كان بالأمس؟ «وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» .. وإذن، فالحكم القاطع الذي يمليه علينا هذا المشهد، هو أنه لا فلاح للكافرين أبدا، وإن كثرت أموالهم، وملكوا الدنيا في أيديهم.. إنهم هم الخاسرون خسرانا مبينا، فى الدنيا والآخرة جميعا. وكلمة «وى» أداة تعجب وانبهار، يلقى بها المرء مواقف العجب والدهش.. قوله تعالى: «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 391 هو تعقيب على هذه القصة، التي كان مدار حركتها قائما على هذه الدنيا، وقد انتهى المشهد، وقد تحطم هذا الدولاب، وتحطم كل ما احتواه.. وإذن فلا التفات إلى هذا الحطام، ولا اشتغال به.. وإذن فإلام تتلفت النفوس؟ وبم تشتغل القلوب؟ هذه هي الدار الآخرة.. الدار الباقية التي ينبغى أن يلتفت إليها، ويشتغل بها.. ولكن لمن هذه الدار؟ ومن يصلح للاتجاه إليها، والتعامل معها؟ «لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً» - فهؤلاء هم أهلها، حيث لا تنصرف إرادتهم إلى الدنيا، وإلى طلب العلو والإفساد فيها.. إن إرادتهم متجهة إلى الآخرة، وإن كانت الدنيا معبرهم إليها، وطريقهم عليها.. - «وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» أي العاقبة الحسنة الطيبة لأهل التقوى، الذين يريدون الله والدار الآخرة.. الآيات: (84- 88) [سورة القصص (28) : الآيات 84 الى 88] مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 392 قوله تعالى: «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ» . هو إعلان عام للمؤمنين والكافرين.. للمصلحين والمفسدين.. للذين يعلمون الصالحات، والذين يقترفون السيئات.. إن لكل حسابه وجزاءه.. أما أهل الإحسان، فيجزون بإحسانهم إحسانا مضاعفا.. فضلا من الله وكرما.. وأما أهل السوء، فيجزون بسوئهم سواء مثله، حقا من الله وعدلا.. وقد أفرد الضمير في مقام الإحسان، حيث تختلف منازل المحسنين، فيما يجزون به على إحسانهم.. الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة، والله يضاعف لمن يشاء.. فهذا مقام الفضل، ينزل فيه الله عباده منازلهم من فضله ورحمته.. أما أهل السوء، فهم على حال واحدة.. السيئة بالسيئة ولا زيادة.. فهم فى مقام العدل. الذي يقتضى المساواة.. ولهذا جمع ضمير أهل السوء.. «فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ» . قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .. فرض القرآن على الرسول، هو حمله عليه حملا كاملا.. حيث يتلقاه من ربه، ويستقيم على كل آية منه، ويبلغه إلى الناس، ويجاهدهم به.. والمعاد الذي يرد إليه الرسول، هو لقاء ربه، وتلقى ما وعده الله به من رضا ورضوان.. وإذن فهذا القرآن المفروض على الرسول الكريم، هو الرفيق الذي يعيش الجزء: 10 ¦ الصفحة: 393 مع الرسول في الدنيا، ويلقى الله به في الآخرة، حيث يجىء ومعه المحصول الوفير، من مغارس الإيمان التي غرسها القرآن في الأرض، فكان منها هذه الأمة المسلمة، التي تأخذ مكانها في المحشر، وقد رفع على رأسها علم التوحيد! وفي هذا يقول الله تعالى: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ» (71: الإسراء) ويقول سبحانه: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» (41: النساء) . - وقوله تعالى: «قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» - هو إلفات إلى هذا القرآن الذي فرض على الرسول، وهو الهدى، الذي من اتبعه اهتدى ورشد، ومن خالفه ضل وغوى.. قوله تعالى: «وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ» . أي أن هذا القرآن الذي فرضه الله عليك- أيها النبي- لم يكن عن أمنية تمنيتها، ولا عن سعى سعيت له.. فذلك مما لا يحصل بالسعي، ولا يستدعى بالأمانى.. وإنما هو رحمة خالصة من عند الله، يختص بها من يشاء من عباده، ويضعها حسب ما يقضى به علمه في خلقه: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ» (124: الأنعام) . وقوله تعالى: «إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ» هو بدل من «أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ» وهو في تأويل مصدر مفعول به لترجو.. والمعنى: ما كنت ترجو كتابا يلقى إليك من ربك، ولكن كنت نرجو رحمة منه.. وها قد جاءتك الرحمة عامة شاملة من ربك في اصطفائك للرسالة، ولكتابها الكريم.. «إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً» (87: الإسراء) . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 394 - وقوله تعالى: «فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ» .. هو تعقيب على هذه؟؟؟ العظيمة، وتلك النعمة الكبرى، وهذه الرحمة العامة الشاملة، التي ينبغى أن يأخذ كل إنسان حظه منها، إذا هو التمسها، ودخل في حماها.. وهؤلاء هم المؤمنون.. أما الكافرون فلا نصيب لهم منها.. وإذن، فالذى ينبغى أن يكون عليه شأن الرسول مع هذه الرحمة الشاملة التي وضعها الله سبحانه وتعالى بين يديه- هو أن يجعلها قوة تظاهر المؤمنين، وتقوّى جبهتهم، إزاء الكافرين والمشركين وأهل الضلال جميعا، لأنها قوة من قوى الحق، ومن شأنها أن تخلص لأهل الحق وحدهم.. والنهى الموجه للنبى في قوله تعالى: «فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ» - هو دعوة للنبى إلى اليأس من هؤلاء المشركين من قومه، الذين قال الله فيهم: «أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ» (41: المائدة) وقال سبحانه: «إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» (37: النحل) ذلك أن وقوف النبي- صلوات الله وسلامه عليه- هذا الوقوف الطويل مع المشركين المعاندين من قومه، طمعا في إيمانهم، هو على حساب المؤمنين، أو الذين يستجيبون للإيمان، حيث تلك هي المواطن الصالحة للغرس، والإنبات والإثمار، وهي المواطن التي ينبغى أن يوجه الرسول إليها كلّ جهده.. وقد عاتب الله سبحانه وتعالى النبي الكريم في ابن أم مكتوم الأعمى، المؤمن، الذي جاء يستزيد من الرسول إيمانا، ويطلب هدى، والرسول في لقاء مع بعض وجوه القوم، من المشركين، وفي جدل حاد، يرجو الرسول من ورائه أن تلين قلوب الجماعة، وتدخل في دين الله- فقال تعالى: معاتبا لرسوله: «عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَما عَلَيْكَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 395 أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ» . (1- 11. عبس) وقد دخل موسى عليه السلام في تجربة كتلك التجربة، حين أخذته عاطفة العصبية لقومه، وما كانوا يلقون من ظلم على يد فرعون وقومه.. وقد تمثل له ذلك فيما وقع بين المصري والإسرائيلى، وقد انتصر موسى للإسرائيلى، على المصري.. فلما خرج من تلك التجربة، استشعر الندم، واستغفر ربه، ونذر نعمة القوة التي في كيانه، أن تكون دائما للحق، ومع الحق حيث كان، فقال: «رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ» .. ولعل هذا هو بعض السر في الجمع بين هاتين الآيتين في هذه السورة.. قوله تعالى: «وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» . هو تحذير للنبى من هؤلاء المشركين من قومه، وذوى قرابته، الذين يدعونه إلى أن يدع ما هو فيه، حتى لا يكون بموقفه هذا سببا في تمزيق وحدة قومه، وإلقاء العداوة بينهم، حتى يقتل بعضهم بعضا.. فهذه قريش لا تريد الدخول في دينه، وهؤلاء أهله الأدنون يأبون أن يتخلّوا عنه، ويتركوه لقريش ترميه بالأذى.. وهذا عمه أبو طالب يدعوه إلى أن يرفق به وبأهله، وألا يحملهم على مواجهة قريش، فيقول له لرسول الكريم قولته الخالدة تلك: «والله يا عم لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في شمالى على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أهلك دونه» - وقوله: «وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 396 هذا فوق أنه تحذير للنبيّ من أن تغلبه عاطفة الحرص على أهله أن يصيبهم سوء من أجل انتصارهم لعصبيتهم فيه- هو تثبيت لقلب النبيّ، وترسيخ لقدمه فى القيام على دعوته، وألا يلفته شىء عنها.. فلتذهب الدنيا كلها، ولتبق راية الحقّ قائمة في يده. - وفي قوله تعالى: «وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» دعوة إلى قطع كل رابطة من قرابة أو نسب، وإلى التضحية بكل عاطفة بينه وبين أهله، إذا كان في ذلك جور على دعوته، وتحيّف على شىء من عزمه وإرادته في القيام بتبليغها، والجهاد بها. فهو في تلك الحال ليس من أهله هؤلاء المشركين.. إن أهله وقرابته هم المؤمنون: «إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» (91: النمل) فالمؤمنون هم أهل الرسول، وهم قرابته. قوله تعالى: «وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ.. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» . بهذه الآية تختم سورة «القصص» .. وهي تعزل النبيّ عزلا تاما عن قومه المشركين، الذين يدعون مع الله آلهة أخرى.. فهو على طريق، وهم على طريق.. هو له دينه، وهم لهم دينهم، فلا جاممة تجمع بينه وبينهم إن لم يجمعهم الاجتماع على دين الله، وعلى إخلاص العبودية له وحده، لا إله إلا هو.. فإذا سلم للمرء دينه، وخسر كل شىء، فهو الذي ربح كل شىء ولم يخسر شيئا.. لأن كلّ شىء هالك وإلى زوال، ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 397 وإذن فلا حساب لأهل، أو مال، أو ولد، مع الدّين الذي يشد الإنسان إلى الله، ويقيمه على ولاء له.. فالأهل والمال، والولد، وكل شىء هالك، فيصبح الإنسان أو يمسى ولا شىء له، أو معه من هذا، ثم يلتفت فلا يجد إلا ما ادخر عند الله من إيمان وتقوى.. «وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا» (46: الكهف) - وفي قوله تعالى: «لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» هو إلفات إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى أنه جلّ شأنه المتفرّد بالبقاء، وبالحكم بين العباد، يوم يرجعون إليه.. فالذين كانوا على ولاء مع الله، يدخلون في ظلّ هذا الولاء، فيجدون الأمن والسلام، والذين عادوا الله وحادّوه، وكفروا به وبرسله، يظلمون في العراء، بعيدين عن هذا الظل الكريم الرحيم، «أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 398 29- سورة العنكبوت نزولها: مكية.. عدد آياتها: تسع وستون آية. عدد كلماتها: تسع مئة وثمانون آية عدد حروفها: أربعة آلاف ومئة وخمسة وتسعون مناسبتها لما قبلها كان ختام سورة القصص دعوة إلى النبيّ الكريم، وإلى المؤمنين جميعا، أن يكون ولاؤهم كلّه لله، ولدين الله، وأن يكون ما بينهم وبين أهليهم وذوى قرابتهم، من وراء هذا، وأنه لا بأس إذا قطع الإنسان، رحمه، وعادى أهله في سبيل دينه، إذا كان في صلة الرحم، وموادّة الأهل، ما يجور على الدين. وقد كان.. ثم كان بدء سورة «العنكبوت» إعلانا صريحا للمؤمنين، بما انطوى عليه ختام سورة «القصص» وهو أن الإيمان له تبعاته وأعباؤه التي يجب أن يتحملها المؤمنون في رضا، وأن يتقبلوها في صبر واحتساب لما وعدهم به الله سبحانه وتعالى، من ثواب عظيم، وأجر كريم. فالمؤمن في وجه فتن كثيرة، ترد عليه من أكثر من جهة.. من نزعات نفسه، ومن وساوس شياطين الإنس والجنّ، ومن دفاع عن دين الله، الذي يكيد له الكائدون، ويبغى عليه الباغون.. كما سنرى ذلك في شرح الآيات التي بدئت بها هذه السورة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 399 بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 7) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7) التفسير: فى هذه الآيات التي بدئت بها السورة، تقرير لما ختمت به سورة «القصص» قبلها، وهو أن الإيمان بالله، ليس مجرّد كلمة ينطق بها اللسان، وإنما هو عقيدة تسكن القلب، وعمل تقوم به الجوارح، وجهاد شاق متصل.. وبهذا يكون للإيمان وزنه واعتباره، ويكون للمؤمنين شأنهم ومقامهم.. فالمؤمنون، الذين لقيتهم هذه الآيات في أول الدعوة الإسلامية- كانوا فى وجه محنة قاسية، حيث انخلعوا عن أهليهم، وانعزلوا عن مجتمعهم، وكانوا قلة قليلة في مواجهة عاصفة عاتية، تسوق إليهم البلاء بغير حساب، حتى هاجروا من ديارهم، وخرجوا من أموالهم.. فلما اجتمع لهم في موطنهم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 400 الجديد، شىء من القوة، وأذن الله لهم في القتال- كان أول لقاء لهم، مع آبائهم، وأبنائهم، وإخوتهم، فعملت سيوفهم في رقاب المشركين من أهليهم وذوى رحمهم، فما نكل أحد منهم عن أن يضرب بسيفه من كان- قبل الإسلام- يفديه بنفسه، ويلقى الموت دونه.. وقد حدّث التاريخ أن أبا بكر لقى ابنه فى معركة بدر، وقد عرفه ابنه ولم يعرفه.. فلما كان بعد زمن، ودخل ابنه فى الإسلام، قال لأبيه: لقد عرضت لى يوم بدر، فأعرضت عنك، فقال له أبو بكر، لو عرضت لى يومئذ، وأمكننى الله منك، لما رددت سيفى عنك!! ولا شك أن هذه كانت تجربة ثقيلة على نفوس المؤمنين، وقد احتملوها صابرين، وكانت آيات الله تتنزل عليهم، فتبعث في نفوسهم المضطربة، سكنا، وتسوق إلى قلوبهم الملتهبة، بردا وسلاما. ونجد في قوله تعالى: «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ» تصحيحا لما يقع في بعض النفوس المؤمنة من انزعاج أو استثقال لهذا العبء الذي حملوه من الإيمان بالله.. كما نجد في الآية والآيات التي بعدها إجابات قاطعة على تلك التساؤلات التي كانت تتردد في الخواطر: لم يكون الإيمان هكذا غالى الثمن، باهظ التكاليف؟ ولم يحملنا إيماننا بالله على هذا المركب الوعر؟ ألسنا على الهدى، وعلى الصراط المستقيم؟ وهل هذا الطريق هكذا وعر المسالك، مزدحم العقبات؟ ونعم.. إن الإيمان هكذا غالى الثمن، باهظ التكاليف، وإن طريقه وعر المسالك جمّ العقبات!! إنه الطريق إلى الجنة، وإن طريق الجنة محفوف بالمكاره! وإن هذا البلاء الذي يلقاه المؤمن على طريق إيمانه، هو ابتلاء له، وتمحيص لما عنده من صبر ومصابرة.. وهل يصفّى الذهب من الغثاء الذي علق به، إلا إذا صهر بالنار؟ «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 401 وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ» (31: محمد) . «ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» (179: آل عمران) . وهل انكشف وجه النفاق، وعرف المنافقون إلا في بوتقة الابتلاء، وفي مقام التضحية والبذل؟ إن الناس جميعا على سواء في حال الأمن والعافية.. فإذا كانت المحن والشدائد، فهم أنماط وأشكال، وهم معادن مختلفة، بين غث وثمين! والاستفهام في الآية الكريمة، للإنكار، والنفي.. أي ليس الأمر على ما يظن الناس وما يقدرون، من أنهم إذا قالوا آمنا كانوا مؤمنين.. كلّا، إن ذلك لا يكون حتى يفتنوا، وحتى يبتلوا.. وعندئذ ينكشف ما عندهم من إيمان.. قوله تعالى: «وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ» هكذا حكم الله في عباده.. فكما امتحن الله المؤمنين في الأمم السابقة، يمتحن سبحانه الذين أسلموا، بما يفتنهم، فى دينهم مما يلقاهم من شدائد ومحن.. فمن كان صادق الإيمان، سليم العقيدة، خالص النية، أمسك إيمانه في قلبه، وثبت عليه، ومن كان على غير تلك الصفة انخلع عن دينه، وألقى به لأول مسة تمسه من بلاء، وباعه بأبخس ثمن!. - وفي قوله تعالى: «فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ» - بهذا الأمر المؤكد- إعلان للمؤمنين بأنهم في وجه ابتلاء، وفي مواجهة فتن، لا بد لهم منها.. إن لم تكن واقعة بهم فعلا، فإنها ستقع حتما.. هكذا يجب أن يتقرر في نفوسهم من أول الطريق.. فمن شاء أن يكون في المؤمنين، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 402 فليوطن نفسه على هذا، وليستعد لحمل أفدح الضربات.. وإلا فليأخذ طريقا غير هذا الطريق، وأمامه أكثر من طريق فسيح.! والمؤمنون الأولون الذين دخلوا في الإسلام، ورسخت أقدامهم فيه، هم- كما شهد التاريخ- أصفى الناس جوهرا، وأكرمهم معدنا.. فقد كانوا خلاصة مجتمعهم، وثاقة عزم، وقوة يقين.. فاحتملوا من الشدائد والمحن ما تتصدع به الجبال الراسيات.. «فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا.. وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ» «146: آل عمران» ومن أجل هذا، فقد شهد القرآن الكريم لهذه الصفوة المتخيرة من عباد الله أكرم شهادة، وجعل ميزان الواحد منهم يعدل عشرة من غير المؤمنين، فقال تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» (65: الأنفال) .. وأنت ترى أن الصفة التي فرق بها القرآن بين هؤلاء المؤمنين، والمشركين، هى «الفقه» .. وهو ليس ذلك العلم النظري، وإنما هو الحق الذي يملأ القلوب نورا، فيكشف لصاحبه من آيات الله، ودلائل قدرته، وعلمه، وحكمته، ما يصغر به كل شىء، إزاء عظمة الخالق وجلاله.. قوله تعالى: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ» . هو لفتة تلفت المؤمنين، الذين يعانون ما يعانون من أعباء الإيمان وتبعاته- إلى هؤلاء المشركين، الذين خلت دنياهم من هذا البلاء، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 403 وفرغوا لما هم فيه من متع الحياة.. فهؤلاء المشركون لهم يومهم الذي يوعدون، حيث يلقون ما يعلمه المؤمنون من سوء العذاب، الذي أعدّه الله للمشركين والمنافقين والكافرين.. إنهم لن يسبقوا يد القدرة المتمكنة منهم، وإنهم لن يفلتوا من بأس الله إذا جاءهم.. وإنهم إن ظنوا ذلك، فذلك الظن هو الذي يحملهم إلى الردى، ويسوقهم إلى الهلاك. «ساءَ ما يَحْكُمُونَ» . قوله تعالى: «مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» . هو دعوة للمؤمنين إلى ما أعد الله لهم من نعيم، وتطمين لقلوبهم بما وعدهم به من مغفرة ورضوان، فهم لهذا الوعد يعملون، وعلى رجاء لقاء ربهم يجاهدون، ويصبرون على ما يلقون من أذى وبلاء.. - وقوله تعالى: «فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ» توكيد لتحقيق وعد الله، وأنه آت لا شك فيه، ولكن في الوقت الموقوت له.. ولهذا جاء النظم بلفظ «أجل» بدلا من اللفظ الذي يقتضيه سياق النظم وهو «اللقاء» .. وذلك للإشعار بأن هذا الوعد له أجل محدود، عند الله، وأنه متى جاء الأجل، التقى المؤمنون بما وعدهم الله به. - وقوله تعالى: «وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» السميع لما يقول المؤمنون بألسنتهم، العليم بما انعقد في القلوب من إيمان، يصدّقه العمل.. قوله تعالى: «وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ» . وهذا البلاء الذي يحتمله المؤمنون، وهذا الجهاد الذي يجاهدونه فى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 404 سبيل الله، إنما هو تزكية لأنفسهم، وتطهير لقلوبهم، وإعلاء لذواتهم.. وإنه ليس لله من أعمال عباده ما ينفعه أو يضره.. فلا ينفعه طاعة المطيعين، ولا يضره عصيان العاصين.. وكيف، وهو سبحانه الذي يقوم على وجودهم ويحفظ عليهم حياتهم، ويمدّهم بكل نفس يتنفسونه في هذه الحياة؟ «إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ» . إن هذا الجهاد، وهذا الصراع القائم بين الحق والباطل، وبين المؤمنين والكافرين، هو ضريبة الحياة، وهو الثمن الذي يقدمه المؤمنون المجاهدون في سبيل حياة أفضل.. فهم أصحاب الحياة بحق، وغيرهم دخيل عليها، لا يستحق أن يأخذ مكانا كريما فيها.. فجهاد المجاهدين، هو فى الواقع، جهاد في سبيل وجودهم، وجودا كريما في هذه الحياة الدنيا، وإلّا فالموت في مجال الصراع خير لهم، حيث ينقلون إلى دار خير من دارهم، وإلى حياة أفضل من حياتهم.. إن النبتة لا ترى النور، ولا تصافح النسيم، حتى تدفع برأسها الواهي الضعيف هذا التراب الذي قام فوقها، وحجب النور عنها..!! وفي الإنسان- كل إنسان- أشواق إلى عالم الحق والنور، وتقوم بينه وبين هذا العالم سدود من الباطل والضلال، وإنه لكى يصافح معالم الحق والنور، ينبغى أن يزيل هذه السدود، وأن يحطمها بكل ما أوتى من قوة، وألا يتحول عن موقفه منها حتى يبلغ غايته، أو يموت دونها. قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 405 هو احتراس مما تقرر في الآية السابقة من أن جهاد المجاهدين، وما يصيبهم على طريق الجهاد، هو لهم، وليس لله منه شىء.. وهذا الاحتراس يدفع ما يقع في النفوس من أن الجهاد والبلاء لا أجر له عند الله.. وكلا، فإنه مع أن أجر الجهاد فيه، وأن ثمرة كل عمل صالح يجنبها صاحب العمل من العمل نفسه- مع هذا فإنه الله سبحانه وتعالى، قد جعل للعمل الصالح جزاء حسنا من عنده، كما توعد أصحاب السيئات والمنكر بالعذاب الأليم.. فالذين آمنوا وعملوا الصالحات قد وعدهم الله بأن يكفر عنهم سيئاتهم، بما عملوا من حسنات، كما يقول سبحانه: «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» . «114: هود» كما وعدهم بأن يجزيهم بإحسانهم إحسانا مضافا، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف. وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» الآيات: (8- 13) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 8 الى 13] وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 406 التفسير: قوله تعالى: «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» قلنا إن المؤمنين قد ابتلوا أول الإسلام بلاء عظيما، حيث فرق الإسلام بين ذوى الأرحام، وقطّع ما بينهم من صلات المودة.. وقد أشرنا إلى ذلك فى آخر سورة القصص، وفي أول هذه السورة.. وهذه الآية تعرض قضية من قضايا هذا الصراع النفسي الذي أوجده الخلاف في الدين بين الآباء والأبناء.. فالآباء الذين دعوا إلى الإسلام، قد وقفوا موقف العناد، وأبوا أن يتحولوا عما ألقوه من عادات ومعتقدات، وقليل منهم من آمن الله.. والأبناء، كانوا أقرب إلى الإسلام، إذ لم تكن فطرتهم قد انطمست معالمها بعد، بموروثات آبائهم وأجدادهم، فحين دعوا إلى الدين الجديد، استجابوا له.. وقليل منهم من حزن وأبى! والأمثلة هنا كثيرة.. فقد سبق أبو بكر إلى الإسلام، وتأخر أبوه إلى يوم الفتح.. وعلى بن أبى طالب، سبق إلى الإسلام ولم يسلم أبوه.. وهكذا. فماذا يكون الموقف بين أبناء مؤمنين وآباء مشركين؟ إن الإسلام يوصى ببر الوالدين، وطاعتهما، والإحسان إليهما.. فماذا يكون الموقف لو أن الوالدين المشركين أرادا ابنهما على أن يرتد عن دينه الذي دخل فيه، ويعود إلى دينهم مشركا؟ أيطيعهما، ويرتد مشركا، أم لا يلتفت إليهما، ولا يسمع لقولهما؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 407 وجواب الإسلام على هذا هو أنه لا ينكر حق الوالدين، والطاعة المفروضة على الأبناء لهما، ولكن هذا، حق إذا تعارض مع حق هو أولى منه، قدّم الحق الأولى عليه.. وهنا حق أول، لزم الابن، ووجب عليه، هو الإيمان بالله.. وإن أي حق يتعرض هذا الحق لا يلتفت إليه.. وإذن، فالذى يقتضيه الموقف الذي يقفه الابن المؤمن من والديه المشركين، هو أن يلزم جانب الإيمان بالله، وألا يجعل من طاعته لهما عصيانه لله، وكفره به، على أن يلتزم الابن- ما استطاع- حدود الأدب معها، وألا يعنف بهما، وألا يسوق شيئا من الأذى إليهما، وحسبه أن يظل ممسكا بدينه، حريصا عليه، لا تنال منه أية قوة، مهما كان بأسها، وسلطانها.. وفي قوله تعالى: «وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما» دعوة إلى التمسك بالدين، على الرغم من مجاهدة الوالدين للابن، وقسوتهما عليه، وأخذه بكل ما لهما عليه، من سلطان مادى أو أدبى. وقوله تعالى: «ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» - إشارة إلى أن المعتقد الدسني السليم، يجب أن يقوم على أساس من العلم، الذي يقيم لصاحبه تصوّرا واضحا، وإدراكا سليما للإله الذي يعبده.. أما أن يدين الإنسان بما دان به آباؤه وأجداده، من غير أن يكون له نظر وفهم، ومن غير أن يجد بين يديه الحجة والبرهان على أحقية معبوده بالعبادة، فذلك معتقد لا ينتفع به صاحبه، وإن كان في ذاته معتقدا سليما، لأنه لم ينبع عن إرادته، ولم يتصل بمشاعره. فهو كائن غريب في كيانه، وهذا يعنى أن الأبوين- أحدهما أو كليهما- إذا كانت منهما دعوة إلى ابنهما أن يعبد إلها غير الله، وأن يدين بدين غير الإسلام، الذي آمن به عن نظر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 408 واقتناع- فليس ذلك بالذي يمنع الابن من أن ينظر في هذه الدعوة الجديدة التي يدعى إليها من أبويه، وأن يتعرف على هذا الإله الذي يراد منه أن يعبده.. فليس الإسلام بالذي يحجر على العقل أن ينظر في كل دين، وأن يبحث في كل معتقد، وأن يتفرس وجوه الآلهة التي يعبدها العابدون.. فهذا النظر وذلك البحث والتفرس، سينتهى آخر الأمر إلى حقيقتين: أولاهما: أنه سيسقط من الحساب كلّ ما يقع عليه النظر من آلهة غير الله سبحانه وتعالى.. وأنه كلما تفرس المرء في وجه من وجوه هذه الآلهة التي تعبد من دون الله، أنكره، وارتفع بإنسانيته عن أن يعفر وجهه فى معبد لحجر، أو صنم، أو حيوان.. أو إنسان.. وبهذا النظر يفيد الإنسان علما، وهو أن المعبود الحق، هو الله جل وعلا، وأن أي معبود آخر، لا يجد العقل من جهته علما يمسك منه بحجة أو برهان على ألوهيته- هو معبود باطل.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» .. وما يشير إليه قوله سبحانه في آية أخرى: «وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» (117: المؤمنون) وثانيتهما: أن هذا النظر المتفحص، الذي يطلب علما، ويرتاد حقيقة، من شأنه أن يثبت إيمان المؤمن بالله، ويكشف له من جلال الله وعظمته، وعلمه، وقدرته- ما يملأ قلبه يقينا بربه، وطمأنينة إلى الدين الذي يدين به، فيعبد الله مخلصا له الدين، غير متعرض لما يتعرض له غيره من اهتزاز في إيمانه، واضطراب فى عقيدته، كلما مرت به محنة، أو أصابته فتنة.. فيكون ممن قال الله فيهم: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ» (11: الحج) ولهذا كان من تدبير الإسلام دعوة المؤمنين إلى النظر في ملكوت السموات والأرض، وإعمال العقل في كل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 409 ما يعرض للمؤمن من أمر، ولقد جعل الإسلام النظر والتدبر، عبادة يتقرب بها المؤمن إلى ربه، ويبغى بها المثوبة والرضوان. قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ» هو دعوة للوالدين المشركين، أن يأخذا طريقهما إلى الإيمان والعمل الصالح، ليكونا في عباد الله الصالحين، وليفوزا بما أعد الله سبحانه وتعالى لهما من رضا ورضوان.. ثم هو دعوة للأبناء المؤمنين أن يستمسكوا بدينهم، وأن يحتملوا فى صبر ورضا ما يلقون من آلام مادية ونفسية، ليظلوا في عباد الله المؤمنين الصالحين.. ثم هو دعوة عامة للناس جميعا، إلى الإيمان بالله، والعمل الصالح.. فالمؤمنون مدعوون ليتمسكوا بإيمانهم، ثم ليؤدوا لهذا الإيمان مطلوبه من الأعمال الصالحة.. وغير المؤمنين مدعوون ليؤمنوا بالله أولا، ثم ليعملوا صالحا.. فهذا هو طريق النجاة والفلاح.. قوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ، وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ» . هو مثل شارح لقوله تعالى في أول السورة: «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ» ولقوله تعالى: «وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما» .. ففى هذا المثل عرض لصورة من صور الذين يقولون آمنا بأفواههم، ولم تطمئن قلوبهم بالإيمان.. فمثل هؤلاء المؤمنين، إذا أصابهم على طريق الجزء: 10 ¦ الصفحة: 410 الإيمان شىء من الضر أو الأذى المادي أو النفسي، خلعوا ثوب الإيمان، وتجردوا منه، وارتدّوا على أدبارهم خاسرين.. - وقوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ» أي من بعض الناس من يجرى كلمة الإيمان على لسانه، ويحسب بهذا أنه من أهل الإيمان حقا.. والإيمان- كما قلنا- ليس مجرد هذه القولة التي ينطق بها اللسان، وإنما للإيمان تبعاته، وله أعباؤه وتكاليفه، من امتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه.. فمن لم يؤد للإيمان حقه الذي له، فليس من الإيمان في شىء!. - وقوله تعالى: «فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ» - إشارة إلى أن هذا الذي يؤمن بلسانه، ولا ينعقد الإيمان في قلبه- إذا أصيب بأذى في سبيل الإيمان، أسرع بالتحول عنه، ونسى أنه بهذا وإن يكن قد خلص من أيدى الناس، وسلّم من أذاهم، فقد وقع ليد الله، ولبأسه وعذابه.. وشتان بين عذاب الله، وعذاب الناس وقوله تعالى: «وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ» أي أن ضعاف الإيمان هؤلاء، يلبسون الإيمان ظاهرا، فإذا مسهم الأذى تجردوا منه، وإذا ساق الله إلى المؤمنين خيرا، ومنحهم نصرا، جاء هؤلاء المتلصصون، ليأخذوا نصيبهم مع المؤمنين، فيما أفاء الله عليهم من خير. - وقوله تعالى: «أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ» - هو تهديد لهؤلاء المنافقين الذين لم يظهروا بعد، على مسرح الحياة الإسلامية، وإن كانوا سيظهرون، وشيكا حين يلتحم القتال بين المؤمنين والمشركين.. وأنه إذا كان المؤمنون لا يعلمون من هؤلاء المنافقين إلا هذا الظاهر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 411 الذي يدخلون به مدخل المؤمنين، فإن الله سبحانه وتعالى يعلم ما يسرون وما يعلنون. والآية الكريمة إرهاص بما ستكشف عنه الأيام، من إيمان المؤمنين، ونفاق المنافقين، حين يبتلى المؤمنون بالجهاد في سبيل الله، ويدعون إلى تقديم أنفسهم وأموالهم دفاعا عن دينهم الذي دانوا لله به.. فالآية مكية، ولكنها تشير إلى ما سيكتب الله للمؤمنين من نصر، وما يسوق إليهم من رزق كما يقول سبحانه: «وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ» .. وهذا من أنباء الغيب، التي حمل القرآن الكريم كثيرا منها.. قوله تعالى: «وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ» . هو توكيد، لما سيلقى المؤمنون على طريق الجهاد من امتحان وابتلاء.. وأن هذا من شأنه أن يكشف عن حقيقة ما عند كلّ منهم من إيمان.. وعندئذ يعرف من المؤمنون، ومن المنافقون.. فالعلم هنا في قوله تعالى: «وَلَيَعْلَمَنَّ» ليس مرادا به العلم في حقيقته، وإنما المراد به ما يلزم عنه العلم، وهو الابتلاء والاختبار.. وهذا يعنى أن الابتلاء أمر لازم لا بد منه، قد أوجبه الله سبحانه وتعالى على نفسه، وأقام المؤمنين على الامتحان به!. قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 412 أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ» ومما يبتلى به المؤمنون على طريق الإيمان، هذه الفتن التي تطلع عليهم من إخوان السوء، وأهل الضلال والكفر، من الآباء والأهل والأصدقاء، حيث يزينون لهم الضلال، ويدعونهم إليه، فإذا حدثوهم عن الآخرة، وعن الحساب والجزاء، هوّنوا عليهم الأمر، وقالوا لهم: لا تخشوا شيئا إن كان هناك آخرة، وكان حساب وجزاء، فنحن الذين دعوناكم إلى ما نحن فيه، ونحن نحمل تبعة هذا عنكم، فما أنتم إلا تبع لنا في هذا المقام..! وقد كذبهم الله سبحانه وتعالى في دعواهم تلك، فقال سبحانه «وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» .. إذ كل نفس بما كسبت رهينة، وليس لإنسان أن يتولى أمر إنسان، ويحمل تبعته.. فكل إنسان له ذاتيته، وعليه مسئولية ما يعمل.. هكذا الإنسان، أو هكذا يجب أن يكون!. وقوله تعالى: «وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ» أي أن هؤلاء الضالين، الذين يعملون على إضلال غيرهم، سيحملون فعلا ذنوبهم هم، وذنوب الذين أضلوهم، على حين لا يرفع عن كاهل الذين أضلوهم ما حملوا من ذنوب، فهذه الذنوب هي من كسبهم، لا تحسب على أحد غيرهم.. ثم إنها- من جهة أخرى من غرس الذين دعوهم إليها وأصلّوهم بها. فلا بد أن يطعموا من ثمرها الفاسد المشئوم!. الآيات: (14- 18) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 الى 18] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 413 التفسير: مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أنها تعرض في إيجاز معجز، صورتين من صور الصراع بين الحق والباطل، فتواجه بهاتين الصورتين، هذا الصراع القائم بين المؤمنين والمشركين.. بين النبي- صلوات الله وسلامه عليه- والمؤمنين معه، وبين المشركين ومن اجتمع إليهم.. وفي الصورة الأولى، يرى المشركون أنفسهم في قوم نوح، الذي طول مقامه فيهم حتى بلغ ألف سنة إلا خمسين عاما، فلم ينفعهم هذا الزمن الطويل، الذي وقفوا فيه إزاء دعوة الحق. ولم تلتق طريقهم مع طريقه.. فكان أن أخذهم الطوفان، وهم متلبسون بكفرهم، يحملونه معهم إلى يوم الجزاء.. أما نوح ومن آمن معه، فقد نجاهم الله، وكان في نجاته آية للعالمين.. وفي الصورة الثانية: يرى المشركون أيضا رسولا من رسل الله، هو جدهم الأعلى، إبراهيم، عليه السلام، يقوم في قومه مقام محمد فيهم. فكل من النبيين الكريمين- إبراهيم ومحمد- عليهما السلام يدعو قومه إلى عبادة الله وحده، وإلى الانخلاع عن عبادة الأوثان التي يخلقونها بأيديهم وإن عبادة تلك الأوثان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 414 ضلال، وامتهان لكرامة الإنسان.. إنها لا تملك لهم رزقا.. وإنما لذى يبتغى عنده الرزق، هو الله رب العالمين.. هذه هي دعوة كلا النبيين الكريمين، وقد بلغها كل منهما إلى قومه، كما أمره ربه «وما على الرسول إلا البلاغ المبين» .. ويلاحظ هنا، أن قصة نوح تحمل إنذارا بالهلاك العام الشامل للكافرين جميعا، على حين أن قصة إبراهيم لم تحمل نذيرا بالعذاب الذي سيحلّ بالمشركين فما سر هذا. نقول- والله أعلم- إن قصة نوح تمثل الدور الأول من الدعوة الإسلامية وذلك في مكة قبل الهجرة.. وأن هجرة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، إلى المدينة مع أصحابه، كانت أشبه بسفينة نوح، حيث وجد المسلمون في المدينة أمنا وسلاما، وحيث غرق المشركون في موقعة بدر، ومن لم يغرق منهم في ميدان القتال، مات غرقا في بحر الكفر والضلال، قبل أن يدركه الإسلام يوم الفتح، أما من ظل منهم على الحياة، يتخبط في أمواج الضلال، فقد انتشله الرسول الكريم يوم الفتح، وألقى به في سفينة النجاة، يوم ألقت مراسيها على المرفأ الذي أقلعت منه..! أما قصة إبراهيم فإنها تصافح قصة نوح، وتلتقى بسفينة النجاة التي حملت النبي ومن معه إلى المدينة، ثم عادت بهم يوم الفتح إلى مكة.. وهناك يقف الرسول صلوات الله وسلامه عليه، موقف إبراهيم يوم أقبل على الأصنام فحطمها، وجعلها جذاذا.. فقد أقبل النبي يوم الفتح على جماعات الأصنام التي كانت منصوبة حول الكعبة، فقلبها على وجوهها محطّمة، وهو يتلو قوله تعالى: «وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً» .. «81: الإسراء» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 415 ولعل هذا، هو السر في اختيار هاتين القصتين هنا، من بين قصص الأنبياء التي جاء بها القرآن الكريم، إذ كان في قصة نوح هلاك ونجاة معا، هلاك للكافرين ونجاة للمؤمنين.. ثم كان قصة في إبراهيم بلاغ مبين، هو غاية ما يطلب من رسول الله إلى عباد الله.. وقد رأينا أنه في الدور الأول للدعوة الإسلامية، قد نجا النبي ومن معه، وهلك مشركو قريش ومن معهم.. ثم رأينا يوم الفتح، ثم في حجة الوداع، كيف حطم النبي الأصنام، وبلغ رسالة ربه، بلاغا مبينا، وأشهد على ذلك المؤمنين جميعا، قائلا بعد كل مقطع من مقاطع خطبته: «هل بلغت؟ اللهم فاشهد..» .. ثم دعا الشاهدين أن يبلغوا من لم يشهد: «ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب» .. ألا خرست ألسنة تقول في هذا القصص: «إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» وألا خسىء وخسر المبطلون..، «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ..» «77- 80: الواقعة» الآيات: (19- 25) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 19 الى 25] أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 416 التفسير: إن قصة إبراهيم لم تتم بعد، وستأتى بقيتها، بعد تلك الآيات التي جاءت فى مساق القصّة، لتكشف لهؤلاء المشركين، قديما وحديثا، عن ضلالهم، وسفاهتهم، وضعف أحلامهم، إذ ينحتون أحجارا ثم يعبدونها، ويجعلونها مشاركة لله سبحانه وتعالى، فى الملك والتدبير، وفي النفع والضر.. قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» هو إلفات لهؤلاء المشركين، إلى مالله سبحانه وتعالى من قدرة مطلقة لا حدود لها، وأنه سبحانه هو الذي أوجد هذا الوجود، وأنشأ هذه المخلوقات، وهو سبحانه الذي سيعيدها كما بدأها.. إن ذلك البدء، والإعادة، أمر يسير على الله، لا يتكلف له جهدا، وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.. والمراد بالرؤية هنا، رؤية العلم، الذي يكشف للإنسان حقائق الأشياء، كما يكشف البصر صور المرئيات.. والاستفهام معطوف على محذوف، تقديره: أعموا ولم يروا كيف يبدىء الله الخلق ثم يعيده؟ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 417 قوله تعالى: «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» وهذا الأمر مترتب على ما سبق في الآية السابقة، التي نخست هؤلاء الغافلين، تلك النخسة الموجعة، لما هم فيه من عمى وضلال عن آيات الله.. وأنهم إذا كانوا لم يعلموا، فليطلبوا العلم.. وها هي ذى سبل العلم ميسرة، فليسيروا فى الأرض، وليقلبوا وجوه النظر فيها.. وهذا أسلوب من أساليب تحصيل العلم بالتجربة الحسية، والانتقال من المحسوس إلى المعقول، على حين كان أسلوب تحصيل العلم في الآية السابقة عن طريق التأمل والتدبر.. وهذا الأسلوب التجريبي في تحصيل العلم، وإن كان له جلاله وخطره في لمس الحقيقة، إلا أنه دون الأسلوب الأول الذي يحصّل فيه العلم بتوجيه العقل مباشرة إلى الحقيقة، مستهديا في ذلك بحدسه، وبصيرته.. وذلك في مجال البحث عما وراء الطبيعة من الغيبيات، التي تتعلق بالبعث والقيامة، والحساب والجزاء.. فهذه الأمور وأمثالها لا يمكن إدراكها عن طريق الحسّ، ولا بتقليب النظر في المدركات الحسية.. وإن كان المدركات الحسية شأن هنا، فإنما هو فيما يبدو منها من إشارات خافتة، وما يندّ منها من شرارات متطايرة، فإذا وجدت هذه الإشارات بصيرة نافذة، وعقلا متفتحا، كانت منطلقا للمدارك الإنسانية العليا نحو الحقيقة، وإذا وجدت هذه الشرارات المتطايرة قلبا يجمعها إليه اتقدت منها جذوة تضىء جوانب النفس وتكشف للعقل معالم الطريق إلى الحق والهدى.. قوله تعالى: «يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ» .. أي كما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 418 أن من قدرة الله أنه يبدأ الخلق ثم يعيده، فإن من قدرته كذلك أن يعذّب من يشاء ويرحم من يشاء.. لا معقّب لحكمه، ولا رادّ لقضائه في عباده.. وقدّم العذاب على الرحمة هنا، لأن الموقف في مواجهة المشركين الضّالّين الذين أنذروا، فلم تغنهم النذر، فكان من البلاغ والبلاغة في آن- عند دعوتهم إلى الله- أن يروا العذاب الذي أنذروا به، وأن يستشعروا أنهم أهله، فإذا كان لذلك العذاب وقع كريه في نفوسهم، فهذه أبواب الرحمة مفتحة لمن يطرقها إلى الله، والإيمان به. وفي قوله تعالى: «وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ» - إشارة إلى أن مسيرة الإنسان بدأت من عند الله سبحانه وتعالى، وانطلقت من يد قدرته.. وأن مسيرة الناس في الحياة، لها نهاية تنتهى عندها، ثم تنقلب راجعة إلى الله من حيث بدأت.. فمن يد القدرة انطلقت، وإلى يد القدرة تعود.. كما يقول سبحانه: «إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى» (8: العلق) والرجوع إنما يكون بالعودة إلى مكان البدء، والانطلاق.. قوله تعالى: «وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» .. هو توكيد لقدرة الله المطلقة، وأن هذه القدرة لا يعجزها الإنسان، فى أي منطلق ينطق إليه، سواء أكان منطلقه في الأرض أم في السماء.. فالله سبحانه، له ما في الأرض وله ما في السماء.. وإذا كان ذلك كذلك، فإنه لا ملجأ للإنسان من الله إلا إليه، وأنه إذا طلب معينا يعينه، فلن يجد العون إلا عند الله، ومن الله.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 419 قوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» . فى الآية حكمان واقعان على الذين كفروا بآيات الله واليوم الآخر.. الحكم الأول: أنهم في يأس من رحمة الله.. إنهم لا يرجون رحمة الله، لأنهم لا يؤمنون به.. ولو كانوا يؤمنون بالله لآمنوا باليوم الآخر، ولعملوا في هذه الدنيا أعمالا صالحة، يرجون بها رحمة الله، ويبتغون ثوابه.. والحكم الآخر: أن لهم في الآخرة عذابا أليما، إذ لم يكن لهم نصيب من رحمة الله.. لأنهم لم يرجوها ولم يعملوا لها. قوله تعالى: «فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» تجىء هذه الآية فتصل أحداث قصة إبراهيم، التي فصلت بينها الآيات السابقة، التي جاءت في سياق القصة- تجىء والنفوس متشوقة إلى متابعة أحداثها، والأبصار شاخصة إلى ما يطلع عليها من وجوه الأحداث المتوقعة، فكان ذلك القطع لمجريات الأحداث، أشبه بصدمة قوية، تتنبّه لها حواسّ الإنسان وتستيقظ لها مشاعره ومدركاته، لينظر ماذا جرى، وماذا هناك من أمر قطع تيار الأحداث التي تجرى فيها القصة.. وهنا تلقاه هذه الآيات التي تلفت الأنظار- فى قوة- إلى قدرة الله، وإلى ماله من تدبير وتصريف، فى هذا الوجود، وأنه سبحانه يبدأ الخلق ثم يعيده، وأنه يعذّب من يشاء ويغفر لمن يشاء، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 420 وأنه- سبحانه- لن يعجزه هارب في السماء أو في الأرض. فإذا وعى الإنسان ذلك كلّه، لقيته أحداث القصة من جديد، وطلعت عليه بالجواب الذي كان يريد أن يعرف مضمونه من فم القوم، بعد أن دعاهم إبراهيم- عليه السلام- إلى الله، وإلى ترك ما يعكفون عليه من أصنام.. فلقد وقفت أحداث القصة عند مقولات إبراهيم لقومه، وحين تهيأت النفوس لاستقبال جوابهم الذي يحدّد موقفهم من هذه المقولات- انتقلت بهم الآيات إلى موقف آخر غير هذا الموقف، وكادت تعزلهم عنه عزلا تاما، حتى إذا كادوا ينسون أحداث القصة، طلع عليهم الوجه الغائب عنهم منها.. وهو جواب القوم وردّهم على مقولات إبراهيم.. فانظر في وجه هذا الإعجاز، واسجد لله في محراب عظمة آيات الله وجلالها.. وإنك لترى الكلمات أحداثا متحركة، وشخوصا حية عاقلة، تتبادل فيما بينها المواقف، كما يتبادل المجاهدون مواقفهم في ميدان الجهاد، حيث يتحرف المجاهد للقتال، أو ينحار إلى فئة، حسب ما يرى ويقدر، لسلامة الموقف، وتحقيق النصر، دون أن يولى ظهره، أو يستسلم لعدوّه.. هكذا نرى آيات الله، فى مقام الدعوة إلى الله.. إنها جنود سماوية في ميدان الجهاد لإزاحة الضلال من العقول، وكشف العمى عن القلوب..! «فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» . هذا هو الجواب لمن كان ينتظر الجواب.. وإنه لجواب أهل السّفه والضلال لكل قول كريم يقال لهم، وإنه لردّ أهل الزّيغ والفسوق على كل دعوة رشيدة يدعون إليها.. فماذا يكون جواب هؤلاء المشركين من أهل مكة لمقولات النبيّ التي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 421 قالها لهم، وماذا يكون ردّهم على دعوته التي يدعوهم إليها؟ لقد قالوا أسوأ القول، وردوا أفحش الردّ.. قالوا إنه ساحر، وقالوا إنه مجنون، وقالوا إنه كاذب مفتر.. وقالوا: «نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» .. «30: الطور» وقالوا: اعتزلوه وأهله.. وقالوا اقتلوه ضربة رجل واحد، فيذهب دمه في قبائلكم بددا..! فماذا كانت خاتمة هذا الصراع؟ لقد أنجاه الله منهم وخلصه من كيدهم، وأطفأ لهيب هذه الأفواه التي كانت ترمى بالشرر من نار العداوة البغضاء.. تماما كما نجى الله إبراهيم من النار، وجعلها بردا وسلاما عليه.. «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» يراها ذوو العقول الرشيدة، ويشهدها أصحاب البصائر المبصرة، فى تلك القوى الغيبية التي تطلع من حيث لا يراها أحد، فتحيل الضعف قوة والقوة ضعفا، وتجعل النار بردا وسلاما! قوله تعالى: «وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ» هذه هي قوله الحق، ينطق بها إبراهيم، وينطق بها محمد، وينطق بها الوجود كله، ردّا على هذا الرد السفيه الأحمق، الذي ردّ به هؤلاء السفهاء الحمقى، على ما دعوا إليه من حق وهدى وخير.. - وفي قوله: «إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً» تقرير لأمر واقع.. فهم إنما اتخذوا فعلا أوثانا، يعبدونها من دون الله.. ولكنّ في إعلامهم بها، وكشف وجوهها لهم، تسفيها لهم، ووضعا لجسم الجريمة بين أيديهم، تماما كما يوقف الجزء: 10 ¦ الصفحة: 422 القاتل على جنة قاتله في مواجهة الاتهام والمساءلة! - وقوله سبحانه: «مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» .. هو بدل من قوله تعالى: «أَوْثاناً» .. وهذا يعنى أن الأوثان، والمودة مثلان متعادلان.. فالأوثان في هذا التقدير ليست إلا هوى من أهوائهم، وإلا كئوسا من الإثم، يتعاطونها، ويجتمعون عليها، فنقيم بينهم من التآلف والتوافق، ما تقيم مجالس الشراب بين الشّرب من اختلاط وامتزاج.. ثم إذا كانت لأحدهم صحوة بعد هذا، ونظر نظرة سليمة إلى حاله تلك، أنكر هذه المجالس الآثمة، وأنكر أهلها، ولعن كل وجه كان يلقاه فيها.. وعلى هذا نجد وضع الآية الكريمة هكذا: وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا، فجعلتم هذه المودة القائمة على الهرى، هى الرباط الذي ربط بينكم، وجمعكم على هذا الضلال الذي أنتم عليه.. ولكن أين هذا من نظم القرآن وإعجازه؟ وأين الأرض من السماء؟ - قوله تعالى: «يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ» أي ويوم القيامة ينكشف لكم الأمر، وتنقلب هذه المودة بغضة وعداوة، فيكفر بعضكم ببعض، وينكر بعضكم بعضا، ويلعن بعضكم بعضا، كما يقول سبحانه: «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» (67: الزخرف) .. فالمودة التي تقوم بين المؤمنين مودة قائمة على التقوى والخير، يلتقى عليها المؤمنون في الدنيا والآخرة، كما يقول سبحانه في أهل الجنة: «إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ» (47: الحجر) والمودة القائمة على الهوى والضلال، لا يلتقى أهلها يوم القيامة إلا على العداوة والمقت والبغضاء، وفي هذا يقول الله تعالى: «قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 423 فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ» (27- 28 ق) الآيات: (26- 35) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 26 الى 35] فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) التفسير: قوله تعالى: «فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 424 تتصل قصة «لوط،» بقصة «إبراهيم» - عليهما السلام- لأن لوطا كان من قوم إبراهيم، وقد اختلف في قرابته لإبراهيم، ودرجة هذه القرابة، وليس لهذه القرابة كبير وزن هنا، إذ كانت بين لوط وإبراهيم تلك القرابة الموثقة التي لا تنقصم أبدا، وهي النسب الذي جمعهما على الإيمان بالله، فكان لوط من الذين استجابوا لإبراهيم وآمنوا بالله.. فهذا الإيمان هو جامعة النسب بينهما. وقوله تعالى: «فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ» أي استجاب له، ولهذا عدى الفعل بحرف الجر اللام.. فإن الإيمان بكذا، غير الإيمان لكذا. إذ أن الإيمان بالشيء، هو اعتقاده، وتيقنه كالإيمان بالله، والإيمان بالبعث، والجزاء، والجنة والنار.. أما الإيمان للشىء، فهو الإقبال عليه، والاستجابة له.. قال تعالى: «وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» (186: البقرة) فالاستجابة إقبال على الله، والإيمان ثقة بالله، واستيقان من صفات الكمال المتصف بها سبحانه. وفي قول لوط: «إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي» - إشارة إلى ما يقتضيه الإيمان بالله من ابتلاء بضروب من الشدائد والمحن.. والهجرة إلى الله، هى الاتجاه إليه سبحانه، والانخلاع عن كل ما يعوّق مسيرة المؤمن على طريق الإيمان، حيث يتخطى المؤمن المهاجر إلى الله كلّ ما يعترض طريقه، من أهل، ومال، ووطن، وحيث لا يلتفت إلى ما يصيبه في نفسه من ضر وأذى، ولو كان الموت راصدا له. وفي هذا إشارة للمؤمنين، الذين كانوا تحت يد قريش، يسامون الخسف، ويتجرعون كئوس البلاء مترسة.. إنهم في هجرة إلى الله، وإن لم يهاجروا من بلدهم، ولم يخرجوا من ديارهم.. وإنهم لفى هجرة إلى الله، إن هم خرجوا من ديارهم، وهاجروا من بلدهم.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 425 فالمؤمن بالله إيمانا حقّا، فى هجرة إلى الله دائما، ما دام قائما على طريق الحق، والخير.. يهجر كل منكر، ويجتنب كل فاحشة، وفي الحديث: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه..» وقد كانت هجرة «لوط» إلى ربه هجرة مباركة، إذ التقى على طريقه إلى الله، بالنبوّة، فكان من المصطفين الأخيار من عباد الله المكرمين. قوله تعالى: «وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» . هو معطوف على قوله تعالى: «فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ» .. وهو تتمة لقصة إبراهيم، وفي عطف هبة الله سبحانه تعالى لإبراهيم إسحق ويعقوب- على إيمان لوط له- إشارة إلى أن إيمان لوط لإبراهيم واستجابته له، هو من كسب إبراهيم، ومن النعم الجليلة التي أنعم الله بها عليه. كما أنعم عليه بالولد بعد الكبر.. وفي تأخير الإنعام بالولد، على إيمان «لوط» مراعاة للترتيب الزمنى من جهة، إذ كان إيمان لوط واستجابته لإبراهيم أسبق زمنا من البشرى بإسحاق.. ثم هو من جهة أخرى جزاء حسن، على هذا الفعل الحسن الذي كان من نتاجه ميلاد لوط في الإسلام، بدعوة إبراهيم.. فقد ولد إبراهيم لله ولدا، هو «لوط» .. فأخرج الله من صلب إبراهيم ولدا في الإسلام! وهذا ما يشير إليه- قوله تعالى: «وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا» .. فهذا الولد هو بعض أجره في الدنيا. - وفي قوله تعالى: «وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ» - إشارة إلى حصر النبوّة في ذرّية إبراهيم، من بعده، بمعنى أن الأنبياء الذي استقبلتهم الحياة من بعد إبراهيم كانوا جميعا من ذريته.. أما الأنبياء الذين سبقوه فكانوا من ذرية نوح، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 426 وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ» (26: الحديد) .. فمن ذرية هذين النبيين الكريمين كان أنبياء الله جميعا.. وأما «الكتاب» - فهو الرسالة السماوية التي يتلقّاها النبيّ من ربّه، وبهذا يكون نبيّا ورسولا.. وهذا يعنى أن الأنبياء والرسل من بعد إبراهيم كانوا من ذرّية هذا النبيّ الكريم.. قوله تعالى: «وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» . الفهم الذي أستريح إليه في قوله تعالى: «وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ» .. أنه معطوف على قوله تعالى: «وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ» .. وفي هذا ما يشير إلى أن لوطا هو من بعض الهبات الجليلة التي وهبها الله إبراهيم عليه السلام، على ما أشرنا إليه من قبل. وعلى هذا، يكون الظرف في قوله تعالى: «إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ» متعلّقا بالفعل «ووهبنا» وهذا يعنى أن هذه الهبة لم تظهر على وجهها الصحيح إلا بعد أن تلقّى «لوط» النبوّة من ربّه، وحمل الرسالة إلى قومه..! ولعل فى هذا ما يكشف عن السرّ في عروج الملائكة المرسلين من عند الله إلى لوط- على إبراهيم، وإخبارهم إياه بما أرسلوا به إلى قوم لوط من مهلكات، وما كان من تلهف إبراهيم على لوط، وخوفه أن يناله من سوء إذا دمّرت القرية التي هو فيها، فيقول إبراهيم في لهفة: «إِنَّ فِيها لُوطاً!!» .. فكان جواب الملائكة: «نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها.. لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 427 وقوله تعالى: «وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ» هو من قبيل قوله تعالى: «وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ» (27: البقرة) . وقد قلنا في تفسير قوله تعالى: «وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ» . إن الذي أمر الله به أن يوصل، هو إيمان الفطرة، مع إيمان الدعوة، وأن الكافرين بكفرهم وتأبّيهم على الاستجابة لدعوة الرسول، قطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وهو الإيمان المركوز في الفطرة، بالإيمان الذي يدعو إليه الرسول.. وهنا في قوله تعالى: «وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ» . إشارة إلى ما يرتكبه قوم لوط من قطع سبيل الفطرة السليمة، التي تدعو إلى اتصال الذكر بالأنثى، والرجل بالمرأة، وذلك باعتزالهم النساء، وإتيانهم الذكران.. وذلك قطع منهم للسبيل المستقيم، الذي تسير عليه الكائنات جميعا، حيث يأخذون هم سبيلا غير هذه السبيل! - وقوله تعالى: «وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ» . إشارة إلى أن القوم كانوا من الفجور وجفاف ماء الحياء من وجوههم، بحيث لا يجدون حرجا في أن يأتوا هذا المنكر علانية، وهم في مجتمعهم الذي يجتمعون فيه.. وهذا غاية ما يتردّى فيه الإنسان، فى طريق الانحدار إلى عالم الحيوان.. هذا وقد عرضنا من قبل لتفسير قصة لوط مع قومه في أكثر من موضع، فلا داعى لإعادة ذلك هنا.. الآيات: (36- 40) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 الى 40] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 428 التفسير: فى هذه الآيات عرض موجز معجز، لقصص بعض الأنبياء، الذين كذّبوا من أقوامهم، وما أخذ الله به هؤلاء المكذبين من نكال وعذاب.. وفي هذا العرض الموجز ترتسم الأحداث في أعين المشركين، وتتجسد في خواطرهم، بحيث تبدو كأنها حدث واحد، يعرض عرضا كاشفا لجميع وجوهه. قوله تعالى: «وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ» . إنه في نظرة واحدة نطوى صفحة مجتمع فاسد.. ففى هذا العرض يختصر الزمان، وتجتمع أطرافه كلها في البؤرة التي كانت تدور حولها الأحداث سنين طويلة. فهذا شعيب، يلقى كلمته الأخيرة إلى قومه.. وهؤلاء القوم قد أعطوه جوابهم الأخير أيضا.. وهذا هو حكم الله فيما بين الطرفين.. «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 429 قوله تعالى: «وَعاداً وَثَمُودَ.. وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ.. وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ» . وهذان مجتمعان كبيران، من مجتمعات الضلال.. بينا تراهم العين في دورهم العامرة، ودنياهم المزهرة، ثم يرتد الطرف إليهم، فلا يجد إلا خرابا شاملا، وإلا قفرا موحشا.. إنه لم يذكر عن عاد وثمود ما كان من دعوة الرسولين الكريمين إليهما، وما كان من القوم من رد فاجر آثم على هذه الدعوة.. كما أنه لم يذكر ما حل بهما من نقم الله.. إذ كان الأمر ماثلا للعيان.. فهذه هي مساكن القوم، يراها المشركون، وقد صارت أثرا بعد عين «وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ» .. أي انظروا ماذا بقي من دنيا القوم الظالمين.. ثم احكموا.. «وما راء كمن سمعا» !. - قوله تعالى: «وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ» . الفهم الذي أستريح إليه في هذا المقطع من الآية الكريمة، أنه تعقيب على هذا الخطاب الموجه إلى المخاطبين بهذه الآية، فى قوله: «وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ» . وفي هذا التعقيب، اتهام للمشركين بما بينهم وبين الشيطان من تفاهم، وتوافق، وأنهم أتباع مخلصون له، مطيعون ما يشير به.. فهم مع ما تبين لهم من هذا البلاء الذي رمى به الله عادا وثمود، وما ترك هذا البلاء وراءهم من خراب ودمار- هم مع هذا لا يعدلون عن طريقهم الضال الذي ركبوه، ولا يلقون السمع إلى ما يتلو عليهم الرسول من آيات.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 430 وفي عطف «وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ» على قوله تعالى: «وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ» - أمران: أولهما: الإشارة إلى التقاء الهدى والضلال في نفوس المشركين، لقاء موافقة وائتلاف، إذ لا فرق بين الهدى والضلال عندهم، وأن النور الذي يساق إليهم من الآيات سرعان ما يشتمل عليه الظلام، ويمتزج به.. فما تبين للقوم من مساكن القوم، وما في ذلك من دلائل تدعو إلى الإيمان واتباع سبيل المؤمنين- قد اختلط بما وسوس لهم به الشيطان، ثم سرعان ما اختفى هذا البيان، الذي استبان لهم، واستولى الشيطان عليهم، فصدهم عن سبيل الله.. وثانيهما: العدول عن الخطاب إلى الغيبة في قوله تعالى: «وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ» .. هو لعزلهم عن مقام الخطاب، وما فيه من تشريف، ووضعهم بالمكان الذي يشار إليهم منه، حيث يسمع المؤمنون حكم الله، تعالى فيهم بقوله: «وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ» .. فالخطاب كان عاما للمؤمنين والمشركين، فى قوله تعالى: «وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ» .. ثم كان خطابا خاصا بعد ذلك للمشركين «وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ» فلم ينتفعوا بما رأوا من آثار القوم الهالكين، فصدهم عن سبيل الله، فى حال استبصارهم، ووضعهم أمام تلك الآيات المبصرة. كما يقول سبحانه: «هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» (20: الجاثية) . ولو أنه قد جاء النظم على أسلوب الخطاب، لكان المؤمنون داخلين في- قوله تعالى: «وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ» إذ لو جاء النظم هكذا. «وزين لكم الشيطان أعمالكم» لكان الحكم عاما، يشمل المؤمنين وغير المؤمنين.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 431 كما في قوله تعالى: «وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ» حيث كان هذا البيان واقعا للمؤمنين وغير لمؤمنين.. أما لمؤمنون فقد انتفعوا به وكان لهم منه عبرة وعظة.. وأما المشركون، فقد أفسد عليهم الشيطان أمرهم، وأطفأ بنفثاته في صدورهم، ما قبسوا من عبرة وعظة، وجدوها في هذه الدور الخاوية على عروشها.. قوله تعالى: «وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ» .. فى الآية دليل، على أن قرون قد هلك قبل هلاك فرعون، وهذا يعنى أنه هلك وموسى وبنو إسرائيل لم يخرجوا من مصر بعد- وهذا ما أشرنا إليه في سورة القصص في شرح قوله تعالى: «إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى، فَبَغى عَلَيْهِمْ» - وقوله تعالى: «وَما كانُوا سابِقِينَ» أي أنهم بما كان لهم من قوة وسلطان، لم؟؟؟ لتوا من عقاب الله الراصد لهم. ولم يجدوا وجها للفرار من العذاب الذي أرسله الله عليهم. قوله تعالى: «فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا» . هذا بيان لصور العذاب، وألوانه التي حلت بالقوم الظالمين.. فهم وإن وقع بهم العذاب جميعا، إلا أن كل قوم قد شربوا من هذا العذاب، بكأس غير الكأس التي شرب بها غيرهم.. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 432 والحاصب، وهو ما يحصب به، أي يرمى به من حصى وغيره.. ومنه الحصباء، وهو صغار الحصى. ومنه قوله تعالى: «حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ» «98: الأنبياء» أي أنهم يلقون فيها كما يلقى الحصى!. وهذا الضرب من العذاب، هو ما أخذ به قوم لوط، إذ رماهم الله بحجارة من سجيل، وهو الذي أخذ به من قبل، قوم صالح، إذ أهلكوا بريح صرصر عاتية، فكانت كأنها رجوم. والصيحة، وهي الرجفة، هى العذاب الذي أهلك به قوم عاد، إذ صلح فيهم صائح، فزلزل بهم الأرض، وهدم عليهم دورهم. والخسف، هو ما حل بقارون.. والغرق، هو ما هلك به فرعون وهامان.. الآيات: (41- 45) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 الى 45] مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45) التفسير: قوله تعالى: «مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» . (م 28 التفسير القرآنى ج 20) الجزء: 10 ¦ الصفحة: 433 مناسبة هذا المثل هنا، هو أنه لما ذكر الله سبحانه وتعالى بعضا من تلك الأقوام الضالة، التي كذبت برسل الله، واستمسكت بما كانت عليه من شرك- كان هذا المثل مرآة يرى عليها الناس- وخاصة أولئك الذين غلظت طباعهم، وتبلدت مشاعرهم- صورة مجسدة لهؤلاء المشركين وما عبدوا من دون الله.. إن هؤلاء المشركين، كالعنكبوت.. فى ضعفها وصغر شأنها.. فهؤلاء المشركون، هم في يد القدرة القادرة، وإزاء سلطان الله الغالب القاهر- أقل من العنكبوت شأنا، وأضعف منها حيلة وحولا.. ثم إن هؤلاء المشركين في ضعفهم وصغر شأنهم، قد اتخذوا من الأصنام، وغير الأصنام، آلهة يعبدونها من دون الله، ليكون لهم منها قوة وسندا- كما يقول سبحانه: «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا» (81: مريم) فكان مثلهم في ذلك مثل العنكبوت، حين تتخذ لها بيتا، تقيمه حولها، وتسكن إليه، وتحتمى به.. إنه لا يثبت لأية لمسة من ربح عابرة، أو حشرة طائرة.. وإن هذه الآلهة التي دخل القوم في حماها، لهى أو هي من بيت العنكبوت، لا تدفع عن الداخلين في حماها أذى، ولا ترد شرا.. - وفي قوله تعالى: «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» . وصف للقوم بالصفة الغالبة عليهم، وهي الجهل، لأنهم لو كانوا على أي قدر من العلم، لما ارتضوا أن ينسجوا من هذا الضلال دروعا يحتمون بها من رميات القدر.. وفي تشبيه آلهة القوم بنسيج العنكبوت، إعجاز من إعجاز القرآن، إذ أن العنكبوت إنما تتخذ بيتها من خيوط رفيعة هي لعابها الذي إذا لامس الهواء تماسك في صورة خيوط دقيقة واهية.. وهؤلاء المشركون إنما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 434 أقاموا معتقدهم الفاسد الذي يعتقدونه، ويلتمسون الطمأنينة والأمن في ظله- إنما أقاموا من تلك الأبخرة العفنة التي تتصاعد من مشاعرهم، فتتشكل منها تلك الأوهام الخادعة، ويقوم عليها هذا البناء المتداعى!! قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. هو بيان لعلم الله بهم وبما يعبدون من أباطيل، لا وزن لها، مع عزة الله، ولا تدبير لها، مع تدبيره المحكم. ويمكن أن يكون للآية مفهوم آخر، وهو أن تكون «ما» نافية.. ويكون مفعول العلم مطلقا، بمعنى أن الله يعلم كل شىء.. وقوله تعالى: «ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ» نفى لوجود هذه المعبودات، أي أنها لضالتها، وعدم جداوها لهم، لا تعدّ شيئا.. أما الله سبحانه، الذي أعرضوا عنه، فهو العزيز الحكيم.. قوله تعالى: «وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ» الإشارة هنا، هى إلى هذا المثل المضروب، وإلى تلك الأمثال التي يضربها الله للناس، ليروا فيها مواقع العبرة والعظة، وليكون لهم منها طريق إلى الحق والهدى.. ولكن هذه الأمثال لا يعقلها، ولا ينتفع بما يعقل منها إلا أهل العلم.. «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا» (26: البقرة) قوله تعالى: «خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ» - هو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 435 بيان لما أبدع الله «الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» وما أقام في هذا الوجود من عوالم، وما بث فى هذه العوالم من مخلوقات.. وفي هذا الوجود، وعوالمه ومخلوقاته، صحف يتلو فيها المؤمنون آيات الله، ويسبحون بحمده، فى كل نظرة ينظرون بها، وفي كل نفس يتنفسونه، وفي كل خاطر يخطر لهم: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.. رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا.. سُبْحانَكَ.. فَقِنا عَذابَ النَّارِ» (190: 191: آل عمران) قوله تعالى: «اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ» ومن آيات الله، تلك الآيات المتلوة، التي هي كلماته، التي أوحاها سبحانه إلى نبيه الكريم.. إنها تناظر تلك الآيات المبثوثة في السموات والأرض.. فى كل منها شاهد يشهد لجلال الله وقدرته، وعلمه وحكمته.. وفي أمر النبي بتلاوة ما أوحى إليه من الكتاب- إلفات للعقول إلى هذه الآيات القرآنية، بعد إلفات الأبصار إلى الآيات الكونية، فيكون من هذه وتلك لقاء بين المحسوس والمعقول، وبهذا تكتمل المعرفة، وتثبت قضايا العلم فيقع للإنسان من ذلك علم يقينى، يقوم عليه إيمانه بالله رب العالمين.. - وفي قوله تعالى: «وَأَقِمِ الصَّلاةَ» إشارة إلى ما للصلاة من شأن في وصل العبد بربه، وفي قيادته نحو الطريق القاصد إلى الله.. إذ كانت تسبيحا بحمده، وتمجيدا لجلاله.. - وفي قوله تعالى: «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ» - إشارة إلى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 436 الأثر الذي تتركه الصلاة في المصلين: من إيقاظ المشاعر الطيبة في الإنسان، تلك المشاعر التي تعاف الفحشاء، وتنفر من المنكر.. - وقوله تعالى: «وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ» . المراد بالذكر هنا، استحضار عظمة الله، وجلاله في الصلاة، حيث يكون الإنسان في صلاته في حال من الخشوع، والتخاضع بين يدى الله، لما يملأ قلبه من جلال الله وعظمته، وهذا هو الذي يجعل للصلاة ثمرا طيبا مباركا، يذوق الإنسان منه حلاوة الإيمان، ويستروح منه أنسام التقوى، وبذلك يدخل في عباد الله المفلحين المكرمين.. كما يقول سبحانه: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ» (1: المؤمنون) فالصلاة التي لا يحضرها ذكر الله، ولا يغشاها الخشوع والرهب، ولا تظللها سكينة النفس، وطمأنينة القلب- هى صلاة قليلة الثمر، ضثيلة الأثر.. يقول الله سبحانه لموسى عليه السلام: «وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي» «14: طه» أي لتذكرنى بها.. وإذا كان ذكر الله مطلوبا في كل حال، فى الصلاة وفي غير الصلاة، فإن ذكره سبحانه في الصلاة، أولى وأوجب.. إذ كانت الصلاة في ذاتها ذكر الله.. فالذكر في مقام الذكر أولى، وأوجب، وأنفع. هذا، وقد يصغر شأن الصلاة عند من ينظرون إلى كثير من المصلين، فلا يجدون للصلاة أثرا عليهم في سلوكهم، حيث لم تنههم صلاتهم عن فحشاء أو منكر.. ففى المصلين من يكذب، وفي المصلين من يشهد الزور، وفي المصلين من يبخس الكيل والميزان، وفي المصلين من يشرب الخمر، وفي المصلين من يزنى، ومن يسرق ... ومن، ومن.. ونعم، فى المصلين، من هم على هذا الوصف الذميم.. وليس ذلك لعلة فى الصلاة، وإنما العلة كامنة في المصلّى نفسه، لأنه يصلى بجسمه، ولا يصلى بعقله، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 437 وقلبه، وروحه، فلا يذكر الله في صلاته ذكرا يملأ كيانه خشوعا، وجلالا.. ومع هذا، فإن مداومة الصلاة، والحرص على أدائها في أوقاتها، ستصل بالمصلّي يوما وإن طال به الطريق، إلى الثمرة الطبية التي وعد الله المصلين بها، وهي الانتهاء عن الفحشاء والمنكر.. وفي هذا يقول الرسول الكريم فيمن بلغه عنه أنه يصلى، ولا ينتهى عن الفحشاء والمنكر- يقول صلوات الله وسلامه عليه.. «دعوه.. فإن صلاته ستنهاه يوما ما» والله يقول الحق، وهو يهدى السبيل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 438 فهرس الموضوعات الموضوع الصفحة. الماء والماء ... والناس للناس 43. التكرار ... والقصص القرآنى 96. كلمات الله ... وكيف تلقاها النبي 156. الشعر ... ونظرة الإسلام إليه 195. سليمان ... والنملة ... والهدهد 224. الدابة التي تكلم الناس ... ما هى؟ 288. موسى ... والقتيل الذي قتله 327 الجزء: 10 ¦ الصفحة: 439 [الجزء الحادي عشر] [تتمة سورة العنكبوت] الآيات: (46- 51) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 46 الى 51] وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) التفسير: قوله تعالى: «وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» . مناسبة هذه الآية لما قبلها هى أن الآية السابقة عليها، جاءت داعية النبىّ الكريم أن يتلو ما يوحى إليه من ربه، وأن يقيم الصلاة قياما يحدث فى القلب ذكرا لله، وبهذا يكون للصلاة ثمرتها في نهى المصلى عن الفحشاء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 441 والمنكر، إذ كان ذكر الله حاضرا فى قلبه مستوليا على مشاعره، يملأ كيانه خشية، وخوفا، من العدوان على حدود رب العالمين. وهذا الأمر الذي حملته الآية: «اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ» - وإن كان دعوة للنبى الكريم، فهو أمر للمؤمنين بالله، الذين اتبعوا النبي، ودانوا بالشريعة التي جاءهم بها من ربه. ومن محامل هذه الدعوة تلاوة ما أوحى إلى النبي من آيات الله، على أهل الكتاب، وتبليغهم رسالة الإسلام، إذ ليس المراد من التلاوة، مجرد التلاوة، وإنما المراد هنا، إعلان الناس بها، وإسماعهم آيات الله وكلماته ... وأهل الكتاب حين يسمعون كلمات الله التي يتلوها النبي والمؤمنون، لا يلقونها على وجه واحد.. فكثير منهم يلقونها بالبهت والتكذيب، وقليل منهم أولئك الذين يلقونها بالقبول والتسليم.. وإذ كانت الدعوة الإسلامية قائمة على الحجة والإقناع، وبين يديها الحجة القاطعة والبرهان المبين- فإن أي عقل سلم من آفات الهوى، وخلص من أسر الضلال، لا يجد سبيلا إلى المماحكة والمجادلة في آيات الله، بل يستجيب لها، ويسلم زمامه إليها ... أما من كان فى عقله سقم، وفى قلبه مرض فلن يذعن للحق، ولن يأخذ طريقه أبدا ... شأنه في هذا شأن أصحاب العلل والآفات، التي تصيب العيون بالعمى، والآذان بالصمم، والأنوف بالزكام، والأفواه بالبخر ... ! ومن هنا كان الذين يجادلون في آيات الله من أهل الكتاب، إنما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 442 يجادلون في حق يعرفونه، ويمارون في آيات يعلمون صدقها.. ومن كان هذا شأنه فخير موقف يتخذ معه، هو الإعراض عنه، وترك الجدل معه، لأن الجدل في هذا المقام، عقبم، وإن ولد شيئا، فإنما يلد دخانا ينعقد في سماء الحق، ويشغل القائمين على رسالته عما هو أنفع وأجدى ... ولهذا كان من دعوة السماء إلى النبي الكريم قوله تعالى: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» (199: الأعراف) . - فقوله تعالى: «وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» - هو بيان للموقف الذي يأخذه المؤمنون من أهل الكتاب فيما يكون بينهم من مواقف، تثار فيها بينهم قضايا، تتصل بالدين، عقيدة أو شريعة ... وهو أن يعرض المسلمون حقائق الإسلام كما حملتها آيات الله، بمنطق الناصح المرشد، لا المملى ولا المسيطر ... «فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها» .. إنه خير يدعى إليه الناس، ولا يحملون عليه حملا ... ومتى كان المحسن يأخذ المحتاج إلى إحسانه، بالقهر والقسر؟ وحسبه أن يمد إليه يده بما تحمل من إحسان، فإن تجاوز ذلك إلى ما يثير عداوة وبغضاء، انقلب الإحسان إساءة، والخير شرا ... والجدل، والمجادلة تكون باللسان، ومقارعة الحجة بالحجة، والأصل فيها القوة، يقال حبل مجدول، إذا كان مفتولا من حبلين، ولهذا سمى الصقر أجدل، لقوته وشدته ... - وقوله تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ» - هذا استثناء من الحكم العام، فى الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وذلك الاستثناء في شأن الذين يلقون تلك الدعوة بالشغب عليها، والتطاول على أهلها، والكيد لها ولهم ... الجزء: 11 ¦ الصفحة: 443 إن الأمر حينئذ يخرج عن هذا المجال، إلى رد عدوان، ودفع ظلم، وردع بغى ... والله سبحانه وتعالى يقول: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ» (125- 126: النحل) . والذين ظلموا من أهل الكتاب، هم أولئك الذين امتلأت قلوبهم ضغينة على الإسلام، وحقدا عليه، فكانوا حربا على المسلمين والإسلام، بالكيد والفتنة، وإشعال نار الحرب الظاهرة والخفية على رسول الله وعلى المؤمنين ... ولهذا كان وصفهم بالظلم، كاشفا عن عدوانهم وبغيهم، إنهم معتدون لا معتدى عليهم، وظالمون غير مظلومين، فإذا أخذوا بعدوانهم، وبظلمهم، فذلك بما جنته أيديهم: «فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ» (193: البقرة) . أما الأسلوب الذي تجرى عليه معاملة هؤلاء الظالمين، فهو على حسب ما كان منهم من ظلم، بلا بغى أو عدوان.. وفي الآية الكريمة- وهى مكية- إشارة إلى مستقبل الإسلام، وإلى ما سيكون بينه وبين أهل الكتاب من تلاحم، بالقول، وبالفعل ... بالجدل بالتي هى أحسن أولا، فإن كان عدوان فبالعدوان: «وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ» (41: الشورى) . - قوله تعالى: «وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» - هو بيان لمقولة المسلمين، في مقام الجدل بالتي هى أحسن مع أهل الكتاب، وفي مواجهة غير الظالمين المعتدين منهم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 444 فالمسلمون يؤمنون بالكتب السماوية إيمانا مجملا، باعتبار أنها من عند الله، وأنه إذا كان أهل الكتاب قد غيّروا وبدلوا فيما بين أيديهم من كتب الله، من التوراة والإنجيل، فإن هذه الكتب في أصلها حق من عند الله، فما كان منها متفقا مع كتاب الله آمن المسلمون بأنه من عند الله، وما خالف كتاب الله، فما على المسلمين شىء منه، وإنما إثمه على الذين بدلوا وحرفوا ... على أنه مهما كان من اختلاف بين أهل الكتاب وبين المسلمين، فإن هناك قضية لا يجوز الاختلاف فيها، وهى الإيمان بإله واحد، هو القائم على هذا الوجود، وهو الذي أرسل الرسل، وأنزل الكتب ... فإذا كان من أهل الكتاب من يختلف في هذه القضية، فقد ناقض دعواه بأنه من أهل الكتاب، وقطع السبب الذي يصله بالله، وبرسول الله الذي حمل هذا الكتاب ... «فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ» (137: البقرة) . قوله تعالى: «وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ» . الخطاب للنبى الكريم، من الله سبحانه وتعالى، وأنه سبحانه قد أنزل عليه الكتاب، كما أنزله على المرسلين من قبله ... فهو- صلوات الله وسلامه عليه- كما يدعى إلى الإيمان بما أنزل على رسل الله، فقد دعى المرسلون قبله إلى الإيمان بالكتاب الذي أنزل عليه ... وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ» ... فالذين آتاهم الله الكتاب، هم الرسل من أصحاب الكتب المنزلة، وفي هذا يقول الله تعالى: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 445 «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا.. قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» (81: آل عمران) .. والضمير في قوله تعالى: «يُؤْمِنُونَ بِهِ» يعود إلى القرآن، وهو «الكتاب» فى قوله تعالى «وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ» . والمشار إليه في قوله تعالى «وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ» هم أهل الكتاب المعاصرون للدعوة الإسلامية، و «من» للتبعيض ... أي ومن بعض هؤلاء من اليهود والنصارى، من يؤمن بالكتاب، وهو القرآن كما آمن به موسى، وعيسى، والنبيون من قبل ... أما القول، بأن المراد من قوله تعالى: «فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ» هم اليهود والنصارى المعاصرون للدعوة الإسلامية، وأن قوله تعالى: «وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ» مراد به المشركون من قريش، كما يذهب إلى ذلك المفسرون، قديما، وحديثا، فهذا ما لا نراه، ولا نأخذ به ... فالموقف هنا، فى مواجهة أهل الكتاب، ودعوتهم إلى الإيمان بالله، وبالكتب المنزلة من عند الله، كما آمن النبي والمؤمنون، بالله، ورسله، وكتبه. هذا، من جهة، ومن جهة أخرى، فإن إيمان النبيين الكريمين موسى وعيسى بالقرآن، هو حجة على أهل الكتاب، وإلزام لهم بمتابعة الرسول الذي حمل إليهم الكتاب الذي يؤمنون به ... من التوراة أو الإنجيل، وإلا فهم حارجون على رسولهم، وعلى الكتاب الذي بين أيديهم.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 446 ومن جهة ثالثة، فإن الإشارة إلى مشركى العرب بأنهم آمنوا بالقرآن- لا محصل له في هذا المقام، ولا حجة منه على أهل الكتاب، وحسب القائل منهم أن يدفع هذا بقوله: بأن هؤلاء المشركين أمّيّون، فكيف يكون إيمانهم حجة عليهم.؟ فإن لم يقل قائلهم هذا القول، كان له أن يقول: إن محمدا هو- إن صح أنه رسول- فهو رسول إلى قومه هؤلاء، وهو حجة عليهم لا علينا!! وهذا قول- وإن كان باطلا- فإن الجدل يتسع له، وخاصة في أول الدعوة الإسلامية، التي كانت دعوتها متجهة أول الأمر إلى العرب، كما يقول سبحانه وتعالى: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (2: الجمعة) . ومن جهة رابعة، فإن قوله تعالى: «فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ» إذا فهم على ما قرره المفسرون من أنه مراد به أهل الكتاب المعاصرون للدعوة، فإنه يصادم الواقع، إذ أن أهل الكتاب لم يؤمنوا بالقرآن، لا في عصر النبوة، ولا بعده، وإن الذي آمن منهم به نفر قليل بالإضافة إلى الكثرة الكثيرة التي ظلّت على ما وجدها القرآن عليه ... وليس يشفع لهذا القول، ويدفع عنه هذا التناقض، ما سيق له من تخريجات، كما قيل بأن المراد بقوله تعالى «يُؤْمِنُونَ بِهِ» هو أن من شأنهم أن يؤمنوا، لو أنهم أخلوا أنفسهم من الحسد، والغيرة، لما يلقاهم به القرآن من آيات بينات، تنكشف في أضوائها معالم الطريق إلى الحق، لكل ناظر فيها، ملتمس الهدى منها ... وكما قيل أيضا، من أن المراد بالذين يؤمنون به من أهل الكتاب، هم الذين آمنوا فعلا، وهؤلاء وإن كانوا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 447 قلة، فإنهم هم كل أهل الكتاب، الذين انتفعوا بالكتاب الذي في أيديهم.. أما غيرهم من أهل الكتاب، فلا حساب لهم..؟! وهذه لا شك مما حكات، متهافتة، ودعاوى واهية، تتداعى لأية لمسة من نظرة عقل، أو لمحة منطق. ثم من جهة خامسة، أن قوله تعالى: «وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ» لا يصدق على العرب إلا في مرحلة من مراحل الدعوة، وفي بدئها، أما بعد ذلك فقد دخل العرب جميعا في دين الله، وآمنوا جميعا بالله، لا أفرادا معدودين منهم، كما هو منطوق النظم القرآنى: «وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ» ! هذا- والله أعلم- هو الرأى الذي يستقيم على طريق الآية الكريمة، ويسير في أضواء نظمها المشرق المعجز. وسنرى، فى الآيات التالية ما يزيد هذا الرأى وضوحا وتمكينا. قوله تعالى: «وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ» . هذا الخطاب للنبى الكريم من ربه سبحانه وتعالى، يكشف لأهل الكتاب، الذين كانوا في هذه البيئة الأمية جامعة العلم، وأساتذة طالبيه- هذا الخطاب يكشف لهم عن حقيقة جهلوها وتجاهلوها، وهى أن هذا الأمىّ فى الأمة الأمية، لم يكن ممن ألمّوا بشىء من القراءة والكتابة، حتى على هذا المستوي المتواضع الذي كان لبعض نفر قليل من قومه، ممن عرفوا القراءة والكتابة، ومع هذا فهو يحمل في صدره، وعلى لسانه، وبين يديه، كتابا عجبا، يعلو بسلطانه على كل كتاب، ويستولى بعلمه على كل علم، ويقطع بحجته كل حجة، ويقهر بمنطقه كل منطق، ويفحم ببيانه كل بيان!! الجزء: 11 ¦ الصفحة: 448 فمن أين لهذا الأمى بهذا كله؟. وإذا كان للأميين المشركين أن يقولوا- جهلا- «إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ» وإذا كان لهم أن يقولوا- استبعادا أو استعظاما- إنه أخذ هذا العلم عن بعض العلماء من أهل الكتاب- فماذا يقول أهل الكتاب في هذا الكتاب؟ وإلى أي نسب ينسبونه، وإلى أي عالم منهم يسندونه؟. إنه لم يجرؤ أحد من أهل الكتاب أن يقول كلمة واحدة في نسب هذا الكتاب إلى علمهم، أو إضافته إلى أحد من علمائهم.. وقد كان لهم- وهم أصحاب العلم- أن يقولوا شيئا من هذا الذي كان يقوله الأميون، لو أنهم وجدوا لهذا القول مكانا- أىّ مكان- ولو من قبيل التلبيس والتشكيك ... فلقد كان المدى بعيدا بين هذه الشمس المتألقة في كبد السماء، وبين الأيدى التي تحاول الإمساك بها، وعقد سحب من الظلام في وجه أضوائها المتدفقة!. ومن هنا، فإنه لا سبيل لأهل الكتاب أن يرتابوا في نسبة هذا الكتاب إلى الله، وأن يقولوا بأن إنسانا أمّيّا، فى أمة أمية، يمكن أن يكون هذا الكتاب، أو شىء منه، من عمله ... وأنه إذا كان يمكن أن يرد عليهم شىء من الشك في أن إنسانا، قارئا، كاتبا، دارسا، يمكن أن يأتى بمثل هذا الكتاب، فإن مثل هذا الشك يكون مستحيلا، إذا جاء الكتاب على يد أمي، ما عرف القراءة والكتابة، ولا حضر مجالس الدرس والتحصيل. وقد أثار المفسرون جدلا طويلا حول ما إذا كان الرسول قد عرف القراءة والكتابة بعد البعثة أم لا ... وقال كثير منهم إنه- صلوات الله وسلامه عليه- قد عرف القراءة والكتابة بعد بعثته.. وهذا أمر ما كان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 449 يصحّ أن يكون موضع بحث أو خلاف، فقد جاء القرآن ناطقا صريحا بأمية النبىّ، وجعل هذه الأمية صفة دالة عليه، يجده عليها أهل الكتاب في كل حال يلقونه عليها. وفي كل زمن يوجهون وجوههم إليه.. فالله سبحانه وتعالى يقول: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ، الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ ... يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ» (157: الأعراف) .. والأميّة هنا لا شك هى أمية القراءة والكتابة، أما أمية العلم، فقد كان صلوات الله وسلامه عليه- بما علّمه ربّه- عالم العلماء، وحكيم الحكماء، كما يقول سبحانه وتعالى مخاطبا له: «وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً» (113: النساء) . فكيف إذن يكون النبىّ قد خرج عن صفة الأمية بعد البعثة، وعرف القراءة والكتابة، ثم يكون بهذا حجة على أهل الكتاب الذي يجدون وصفه فى التوراة والإنجيل، نبيّا أمّيّا فى الأميين؟ ثم ما حاجة النبىّ إلى أن يعرف القراءة والكتابة بعد النبوة؟ أكان ينقل الكتاب الذي بين يديه عن كتب أخرى حتّى يضطره ذلك إلى معرفة القراءة والكتابة؟ أم ماذا؟ لا نجد جوابا!! قوله تعالى: «بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ» . الضمير «هو» يعود إلى الكتاب. فى قوله تعالى: «وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ» . والذين أوتوا العلم، هم العلماء من أهل الكتاب ... أي أن هذا الكتاب يقع في صدور العلماء من أهل الكتاب موقع الجزء: 11 ¦ الصفحة: 450 المعجزات البينات، حيث تنطق آياته بالحقّ المبين، يتلقاه منها كلّ من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ... وفي هذا يقول الله تعالى كاشفا للمشركين عن عنادهم وضلالهم: «أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ» (197: الشعراء) . أي أنه إذا لم يكن عند المشركين علم يعلمون يعرفون به قدر هذا الكتاب، ويفرّقون به بين ما هو سماوى وما هو أرضى ... أفلا كان لهم في علم العلماء من أهل الكتاب، بهذا الكتاب، وإيمانهم به، عبرة يعتبرون بها، ومعلّم من معالم الهدى، يهتدون به إلى هذا الكتاب؟. وقوله تعالى: «وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ» ... إشارة إلى علماء أهل الكتاب، الذين يعرفون الحق في كتاب ثم ينكرونه، من بعد ما عرفوه. وفي هذا يقول الله تعالى: «فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» (89: البقرة) ووصفهم بالظلم، هو الوصف الحق لهم، إذ كتموا شهادة الحق الذي عرفوه ... والله سبحانه وتعالى يقول: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ» (140: البقرة) . قوله تعالى: «وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ» . بعد هذه اللفتة العارضة إلى أهل الكتاب، وأسلوب مجادلة المؤمنين لهم، وما عند علمائهم من علم بهذا القرآن- بعد هذا عادت الآيات لتصل الحديث مع المشركين، وتكشف عن مقولة من مقولاتهم الفاسدة الحمقاء في مواجهة الدعوة الإسلامية، ومدعياتهم عليها، وعلى المرسل إليهم بها ... فهم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 451 يرتابون في أن يكون «محمد» على صلة بالسماء، وأن يكون هذا الكتاب الذي بين يديه من عند الله، وقد أقاموا منطقهم هذا على أنه لو كان هذا شأن محمد، لجاءهم بآية محسوسة، كما جاء الرسل قبله إلى أقوامهم بآيات محسوسة، وفي هذا يقول الله على لسانهم: «فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ» (5: الأنبياء) وقد ردّ الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله: «قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ» أي أننى بشر مثلكم، لا أملك من أمر الله شيئا، وإنما أنا نذير مبين أبلغكم ما أرسلت به إليكم ... وقوله تعالى: «أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ ... إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» . هو ردّ آخر، على ما يقترحه المشركون على النبىّ من آيات، وفي هذا الردّ إنكار عليهم أن يطلبوا آيات مع هذه الآيات التي تتلى عليهم.. إنها آيات لا تغرب شمسها، ولا يخبو ضوءها أبد الدهر ... - وفي قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً» إشارة إلى أن هذه الآيات لا تحمل معها نذر الهلاك الذي تحمله الآيات التي يقترحونها، فإنه لو جاءتهم آية من تلك الآيات لكفروا بها، ثم كان مصيرهم مصير الكافرين المكذبين، كعاد، وثمود، وفرعون! فهذه الآيات القرآنية رحمة من رحمة الله بهم. - وفي قوله تعالى: «وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» إشارة أخرى إلى أن آيات الكتاب في معرض البحث والنظر، وفي مجال التعقل والتأمل، يعيش معها الإنسان ما يشاء، ناظرا فيها، متأملا مواقع الإعجاز منها، فيجد بهذا طريقه إلى الحق والهدى، إذا كان صالحا لقبول الخير، مستعدا للتجاوب مع الحق! الجزء: 11 ¦ الصفحة: 452 الآيات: (52- 55) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 52 الى 55] قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) التفسير: قوله تعالى: «قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» . هذا هو نهاية الموقف الذي يقفه النبي من المشركين ... إنه يشهد الله عليهم، أنه بلّغهم رسالة ربّه، وأنهم في عناد وتكذيب ... والله سبحانه وتعالى يعلم ما في السموات والأرض، ويعلم ما يسرّ هؤلاء المشركون وما يعلنون ... وعند الله سبحانه عذاب شديد للضالين المكذبين، الذين يؤمنون بالباطل، ويقيمون في رحابه آلهة يعبدونها من دون الله.. إنهم هم الخاسرون.. «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» . قوله تعالى: «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 453 هو ردّ على هؤلاء المشركين الذين يتحدّون النبىّ باستعجال العذاب الذي ينذرهم به، إذا هم لم يؤمنوا بالله، ولم يصدّقوا رسوله، وفي هذا يقول سبحانه وتعالى عنهم: «وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (32: الأنفال) . - وقوله تعالى: «وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ» ... والأجل المسمّى هو ما قدّره الله تعالى في علمه، ووقّت له وقته الذي يقع فيه، بما قضى به في عباده ... وإن أي أمر لا يقع إلا في وقته الموقوت له.. وإنه لولا هذا الأجل الموقوت للعذاب المرصود لهؤلاء المشركين، لوقع بهم عند طلبهم له ... فلم يستعجلون هذا البلاء؟ إنه لواقع بهم لا محالة، ولكنه سيأتيهم من حيث «لا يشعرون ... لأنهم لا يتوقعونه، ولا يعملون على توقّيه بالإيمان والعمل الصالح، فإذا وقع بهم دهشوا له، وبغتوا به! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» ... والعذاب هنا، هو العذاب الأخروى، كما يفهم من الآية التالية ... والبغتة: المباغت المفاجئ. قوله تعالى: «يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ» . هنا استفهام إنكارى، أي أيستعجلونك بالعذاب؟ وكيف يستعجلون به، وهو واقع بهم فعلا؟ إنهم سائرون على الطريق الذي يهوى بهم في جهنم ... فهم بما هم عليه من كفر وضلال، واقعون في دائرة العذاب، ولن يخلصوا من العذاب إلا إذا تخلصوا من كفرهم، وتطهروا من شركهم، ودخلوا في حظيرة الإيمان ... قوله تعالى: «يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 454 وإذا لم يكن هؤلاء الضالون يستشعرون الخطر الذي هم فيه، ولا يرون جهنم المحيطة بهم في الدنيا، فإنهم سيرون ذلك عيانا، ويذوقونه نكالا وبلاء، يوم القيامة، يوم يأخذهم العذاب، ويشتمل عليهم، من رءوسهم إلى أقدامهم، ويوم يقول لهم الحق سبحانه وتعالى: «ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. فهذا هو عملكم الذي كنتم تعملونه في الدنيا ... لقد عملتم شرا فطعموا من هذا الشر!. الآيات: (56- 60) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 56 الى 60] يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) التفسير: قوله تعالى: «يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ» . مناسبة هذه الآية والآيات التي بعدها للآيات السابقة، أن الآيات السابقة كانت حديثا إلى المشركين من قريش، وما يتحدون به رسول الله من إنزال آية مادية عليهم، ومن استعجال العذاب الذي يتهددهم به- فجاءت الجزء: 11 ¦ الصفحة: 455 الآيات بعد هذا حديثا إلى المسلمين الذين كانوا قلة مستضعفة في مكة، يلقاهم المشركون بالضر والأذى، ويأخذون عليهم كل سبيل إلى الاجتماع بالرسول، أو الصلاة في المسجد الحرام، أو الجهر بتلاوة القرآن ... إلى غير ذلك مما كانت تضيق به صدور المسلمين، وتختنق به مشاعر الإيمان في كيانهم، وتختفى به مظاهره على ألسنتهم وجوارحهم- جاءت هذه الآيات لتفتح للمسلمين طريقا رحبا إلى النجاة من هذا الضيق، والخلاص من هذا البلاء.. إن أرض الله واسعة، وإذا ضاقت أرض بإنسان فإن من الخير له أن يتحول عنها إلى غيرها، حيث يجد في الأرض مراغما كثيرة وسعة.. - وفي قوله تعالى: «يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا» وفي إضافة الذين آمنوا إلى الله سبحانه وتعالى، وندائهم إليه من ذاته جل وعلا- فى هذا احتفاء بهم، واستضافة لهم في رحاب رحمة الله وفضله وإحسانه.. وذلك لأنهم مدعوون إلى الهجرة من ديارهم، والانفصال عن أهلهم وإخوانهم، وذلك أمر شاق على النفس، ثقيل الوطأة على المشاعر، التي ارتبطت بالموطن ارتباط العضو بالجسد.. فكان من لطف الله سبحانه بعباده هؤلاء المؤمنين، الذين دعاهم إلى الهجرة من ديارهم- أن استضافهم في رحابه، وأنزلهم منازل رحمته وإحسانه، بهذا الدعاء الرحيم، الذي دعاهم به سبحانه، إليه ... «يا عبادى» .. فمن استجاب منهم لهذا النداء، وأقبل على الله مهاجرا إليه بدينه، تلقّاه الله سبحانه بالفضل والإحسان، وأنزله منزلا خيرا من منزله، وبدّله أهلا خيرا من أهله!. وقد استجاب المسلمون لهذا النداء، فخرجوا مهاجرين إلى الله، أفرادا وجماعات، وكانت الحبشة أول متجه اتجه إليه المسلمون المهاجرون، فأنزلهم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 456 الله أكرم منزل، هناك.. ثم كانت الهجرة إلى المدينة، التي أصبحت مهاجر المسلمين من كل مكان، بعد أن هاجر الرسول الكريم إليها.. وهناك وجد المهاجرون إخوانا، شاطروهم دورهم وأموالهم، وآثروهم على أنفسهم بالطيب من كل شىء. وأكثر من هذا، فإن مجتمع المهاجرين هؤلاء الذين ضمتهم مدينة الرسول، كانوا الوجه الذي تجلى فيه دين الله، وعزت به شريعته.. ومن هؤلاء المهاجرين، كان صحابة رسول الله، وخلفاء رسول الله.. وأكثر من هذا أيضا، فإن القرآن الكريم، قد أجرى ذكرا خالدا لهؤلاء المهاجرين، وأشار إلى منزلتهم العليا عند الله، وما أعد لهم من أجر عظيم، وثواب كريم، لم يشاركهم في هذا أحد من المسلمين، إلا الأنصار، الذين نزل المهاجرون ديارهم، ووجدوا ما وجدوا من برهم وإحسانهم ... وهكذا، استظل المهاجرون بظل هذا النداء الكريم ... «يا عبادى» فكانوا منه في نعمة سابغة، وفضل عظيم، فى الدنيا والآخرة جميعا. وفي قوله تعالى: «إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ» .. توجيه لأنظار المسلمين إلى سعة ملك الله سبحانه وتعالى، وإلى أن يمدوا أبصارهم إلى أبعد من هذا الأفق الضيق المحدود، الذي يعيشون فيه، والذي يحسب كثير منهم أن الأرض كلها محصورة في هذه الرقعة التي يتحركون عليها، ويضطربون فيها.. وكلا فإن أرض الله واسعة، أكثر مما يتصورون ... فليخرجوا من محبسهم هذا، ولينطلقوا في فجاج الأرض، الطويلة العريضة، وسيجدون في منطلقهم هذا، سعة من ضيق، وعافية من بلاء.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً» (100: النساء) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 457 - وقوله تعالى: «فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ» ... أي فاجعلوا عبادتكم لى وحدي، لا تشركون بعبادتي أحدا ... والفاء في قوله تعالى: «فَإِيَّايَ» تفيد السببية.. حيث كشف قوله تعالى: «إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ» عن إضافة هذه الأرض إلى الله سبحانه، كما كشف عن سعة هذه الأرض، وأن أي مكان ينزل منها الإنسان فيه، هو في ملك الله ... وإذ كان ذلك كذلك، وجب أن يفرد وحده سبحانه بالعبادة، كما أفرد جل شأنه بالملك ... هذا، والآية الكريمة دعوة سماوية إلى تحرير الإنسان، جسدا، وعقلا، وقلبا، وروحا، من كل قيد مادى، أو معنوى، يعطل حركته، أو يعوق انطلاقه، أو يكبت مشاعره، أو يصدم مشيئته، أو يقهر إرادته ... ففى أي موقع من مواقع الحياة، وعلى أي حال من أحوالها، لا يجد فيه الإنسان وجوده كاملا محررا من أي قيد، ثم لا يعمل جاهدا على امتلاك جريته كاملة- يكون ظالما لنفسه، معتديا على وجوده ... وإذا كانت دعوة الإسلام قد جاءت لتحرير الإنسانية من ضلالها، وفرضت على المؤمنين أن يجاهدوا الضلال والضالين، وأن يبذلوا في سبيل ذلك دماءهم وأموالهم، فإن الجهاد الحق في أكرم منازله، وأعلى درجاته، هو الجهاد في تحرير المؤمن نفسه أولا، وفي تخليصها من كل قيد يمسك بها على مربط الذل والهوان، ويحملها على أن تطعم من مطاعم الذلة والمهانة، وفي هذا يقول الله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ؟ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ!! قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً» (97: النساء) .. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 458 فلقد توعدهم الله سبحانه وتعالى بالعذاب الأليم في الآخرة، لأنهم باستخزائهم وضعفهم، قد باعوا دينهم، واسترخصوا مروءتهم، فكانوا سلعة فى يد الأقوياء، لا يملكون معهم كلمة حق يقولونها، ولا يجدون من أنفسهم القدرة على دعوة خير يدعون بها ... وإنه هيهات أن يسلم لإنسان دين أو خلق، إلا إذا تحرر من كل ضعف واستعلى على كل خوف.. ومن هنا كانت دعوة الإسلام متجهة كلها إلى تحرير الإنسان، عقلا وقلبا وروحا، كما كانت دعوته إلى تحرير الإنسان وجودا وجسدا.. وقد يكون الإنسان حرا طليقا في المجتمع الذي يعيش فيه، لا يرد عليه من الجماعة وارد من ضيم أو ظلم، ومع هذا فهو أسير شهواته، وعبد نزواته، وتبيع هواه ... لا يملك من أمر وجوده شيئا ... ومن هنا كان أول ما يجاهد الإنسان هو جهاد النفس، والأهواء المتسلطة عليه منها، وهذا ما قصد إليه الرسول الكريم من قوله، وقد عاد من إحدى غزواته: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» قالوا يا رسول الله: وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس» . قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ» . هو تهوين من شأن الدنيا في عين المؤمنين الذين يتهيّئون للهجرة.. فقد يحضر كثيرا منهم- وهو يأخذ عدته للهجرة- وارد من واردات الإشفاق على الأهل والولد، وما يلقى من لهفة وحنين لفراقهم، وما يجدون هم من أسى وحسرة لبعده عنهم.. إلى غير ذلك مما يقع للمرء من تصورات وخواطر فى مثل هذا الموقف- فجاء قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» مهوّنا من شأن هذه الحياة الدنيا، فإن نهاية كل حىّ فيها هو الموت.. وإذ كان ذلك الجزء: 11 ¦ الصفحة: 459 هو شأنها، فإنّ التعلق بها وبأهلها، وبأشيائها، هو متاع إلى حين، ثم ينصرم الحبل بين الإنسان وبين كل ما يمسك به من هذه الدنيا، طال الزمن أو قصر- فإذا كان ما يمسك الإنسان من هذه الدنيا شىء يحول بينه وبين الطريق إلى الله، وإلى ما عند الله من ثواب عظيم وأجر كريم- فإن هذا الشيء مهما غلا، هو عرض زائل، وظل حائل، لا حساب له إلى جانب الباقيات الصالحات، وما وعد الله سبحانه عليها، من رضوان وجنّات فيها نعيم مقيم. قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» . فهذه هى الحياة الباقية، التي ينبغى للإنسان أن يعمل لها، ويحرص الحرص كلّه على ألّا يعوّقه شىء- أيّا كان- عن السعى في تحصيل كل ما هو مطلوب لها ... فالذين آمنوا بالله، وعملوا الصالحات، موعودون من الله سبحانه وتعالى أن ينزلهم من الجنة أكرم منازلها، وأن يحلّهم منها في غرفات يجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها، لا يتحولون عنها ... وذلك هو جزاء العاملين، وإنه لنعم الجزاء. وإن أبرز صفات العالمين، الذين يداومون على العمل ويحسنونه، هو الصبر، والتوكل على الله، فبالصبر يقهر الإنسان كل دواعى الضعف والتخاذل، وبالتوكل على الله والتسليم له، وتفويض الأمور إليه، يحلو المرّ، ويستساغ الضرّ ... وبهذا يظل العامل آخذا مكانه في موقع العمل، فيما يرضى الله، لا يتحول عنه أبدا. وفي قوله تعالى: «لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً» وعد مؤكد، بالقسم، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 460 ونون التوكيد ... وليس وعده سبحانه في حاجة إلى توكيد، فهو محقق لا شك فيه ... ولكن لتطمئن قلوب المؤمنين، ولتثبت أقدامهم على الطريق الشاق الذين يأخذونه إلى الهجرة، وما يعترضهم عليه من دواعى الإشفاق من فراق الأهل والولد. قوله تعالى: «وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» . هو تطمين لقلوب المسلمين المدعوين إلى الهجرة، والذين استجابوا لها، وأعدّوا العدة لإمضائها، أو للذين هم قد هاجروا فعلا، وانقطعت موارد رزقهم التي كانت في أيديهم، بين أهلهم وفي ديارهم ... وإنه لن يأسى المسلمون على ما تركوا وراءهم من مال ومتاع، ولن يهتمّوا كثيرا لأمر المعاش، ولن يشغلوا به ... فالله سبحانه الذي يرزق الدواب في القفار، والطيور في السماء، هو الذي يتكفل بأرزاق الناس، وأن سعيهم في وجوه الأرض، وما يبذلون من حول وحيلة، إنما هو أسباب موصلة إلى ما قدّر الله لهم من رزق ... ولن ينال أحد مهما جدّ وسعى غير ما هو مقدور له. وقوله تعالى: «وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا» إشارة إلى أن كثيرا من الدواب لا تستطيع أن تحمل رزقها، أي تحصّله بنفسها، وتصل إليه بسعيها.. وأقرب مثل لهذا مواليد الحيوان، حيث سخّر الله لها الأمهات والآباء لتعمل على إطعامها، بل وتزقّه في فمها، وتلقيه في جوفها.. وإذا بدا لنا أن بعض الدواب كالأسود والذئاب ونحوها قادرة على انتزاع غذائها من الحياة، فإن ذلك لا يعدو في حقيقته أن يكون رضاعة من ثدي الطبيعة التي خلقها الله على هذا النظام البديع المعجز، الذي يجد فيه كل كائن رزقه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 461 الذي يحفظ عليه وجوده.. وكذلك الناس بين أقوياء وضعفاء، وبين ذوى حيلة ومن لا حيلة لهم ... كلهم جميعا يرزقون من فضل الله، ويحصلون على ما قدّر لكل منهم من رزق ... وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ» .. أي فكما ترزق هذه الدوابّ التي لا حيلة لها في تحصيل قوتها، كذلك ترزقون أنتم أيها المهاجرون، وقد بدا لكم أنه قد انقطعت عنكم أسباب معيشتكم.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ» (6: هود) . وقوله تعالى: «وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» أي سميع لما تدعون به من حاجاتكم، عليم، بما تحتاجون إليه، وإن لم تسألوا شيئا. الآيات: (61- 69) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 61 الى 69] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) الجزء: 11 ¦ الصفحة: 462 التفسير: قوله تعالى: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ» . بعد هذه الوقفة مع هؤلاء المؤمنين الذين حملهم المشركون على الهجرة من أوطانهم، بما أخذوهم به من بأساء وضراء- عادت الآيات لتلقى المشركين بقدائفها المدمّرة، التي تدكّ بها حصون الشرك، وتهدم قلاعه، بحجتها الدامغة، وبيانها المبين ... فالمشركون هنا، في مواجهة سؤال، هو: «مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ» ؟ وإنه لا يجرؤ أحد منهم أن يجيب بأن آلتهم تلك الجاثمة على الأرض، هى التي حلقت السموات والأرض، وأنها هى التي سخرت الشمس والقمر ... فمن إذن الذي خلق؟ ومن الذي سخّر؟ جواب واحد، هو الله الذي خلق السموات والأرض وسخّر الشمس والقمر ... إنهم لا ينكرون هذا، ولا سبيل لهم إلى إنكاره.. وإذن فكيف يصرفون وجوههم عن الله، ويقبلون على هده الدّمى يعبدونها من دونه؟ أليس هذا سفها وضلالا؟ وبلى إنه السّفه والضلال والضّياع أيضا. وقوله تعالى: «فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ» هو تعقيب على هذا السؤال، وعلى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 463 الجواب الذي أجابوا به نطقا، أو إلجاء، وإلزاما، إذ لا جواب لهم غيره! «لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» . وأنّى، بمعنى كيف، ويؤفكون، من الإفك، وهو الانصراف عن وجه الحق إلى الضلال ... قوله تعالى: «اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» . «هذه الآية تعقيب على ما تقرر في الآية السابقة من استسلام المشركين لما ألزمتهم به من حجة، لم يجدوا معها سبيلا إلا الإذعان والإقرار، بأن الله سبحانه هو الذي خلق السموات والأرض وسخّر الشمس والقمر.. وإذا كان ذلك كذلك على ما أقروا به، فليعلموا إذن أن الله هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده، ويقدر له، فيوسع الرزق لمن يشاء، ويقدره أي يضيقه على من يشاء، حسب علمه، وحكمته.. «إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» فلا يفعل ما يفعل إلا عن علم، وما كان فعلا عن علم، فهو أصلح الأفعال، وأنسبها، وأعدلها، وأحكمها.. قوله تعالى: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» . وهذا سؤال آخر يسأله المشركون: «مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها؟» فما جوابهم على هذا؟. لقد أقروا- طوعا أو كرها- أن الله هو الذي خلق السموات والأرض وسخّر الشمس والقمر.. إذ كان ذلك أمرا لا يمكن المجادلة فيه، ولا يجد معه أي عقل- مهما لج في الضلال والعناد- سبيلا إلى المماراة، والتمحك.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 464 وعلى هذا، فإنه وقد سلّم بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض وسخّر الشمس والقمر، لا بد أن يسلّم بأنه سبحانه هو الذي يملك كل ما فى السموات وما فى الأرض، وأنه هو سبحانه الذي يصرّف كل شىء فيهما.. فما ينزل من السماء من ماء، فهو من أمر الله، ومن قدرته، وتدبيره.. وما يحدث هذا الماء من آثار فى الأرض، فهو من أمر الله، ومن قدرته، وتدبيره.. وإذن، فلا جواب لهؤلاء المشركين إلا الإقرار، بأن الله هو الذي نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها.. فهذا من ذاك، أو من بعض ذاك.. - وقوله تعالى: «قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» هو تعقيب على هذا الإقرار، الذي ألجأ المشركين إليه، ما طلع عليهم من آيات الله، فأنوا إليه مذعنين.. وهذا مما يجدد للمؤمن نظرا إلى نعم الله، حيث قهر جلالها المشركين الضالين، فاعترفوا برب هذه النعم، وأضافوها إليه.. وإن الحمد والولاء لله، هو ما ينبغى أن يسبّح به المؤمن فى هذا المقام، مقام تلك النعمة الجليلة، وهى نزول الماء من السماء، وما لهذا الماء من آثار فى بعث الحياة فى الحياة!. والأمر هنا فى قوله تعالى: «قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» هو للنبى صلى الله عليه وسلم، ولكل مؤمن، يتلقى هذا الجواب، على هذا السؤال: من نزل من السماء ماء فأحيا به على الأرض من بعد موتها؟ سواء أكان الجواب على هذا السؤال واردا عليه من ذات نفسه، وهو يدير نظره فى هذا الوجود، أو تلقاه من غيره، جوابا على سؤال! وفى قوله تعالى: «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» إشارة إلى ما ركب كثيرا من هؤلاء المشركين من جهل، وما تغشّاهم من ضلال ... وأنهم لا يرون الجزء: 11 ¦ الصفحة: 465 الحق الذي تلوح أماراته لأعينهم، ثم إنهم إذا بصّروا به، وأبصروه، لم يتقبلوه، واتهموا أنفسهم، وارتابوا فى معطيات أبصارهم، وقالوا كما ذكر القرآن: «إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ» (15: الحجر) . فهذا الحمد الذي ينطق به الوجود كله، تسبيحا، وولاء لله، لا يدرك المشركون دلالته، لأنهم لا يعقلون ما ينبغى لله من تنزيه عن الشريك والولد. قوله تعالى: «وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» . إن الذي يغطّى على أبصار هؤلاء المشركين، ويعمّى عليهم الطريق إلى الحق، هو اشتغالهم بهذه الدنيا، وتنافسهم على متاعها، واستهلاك أنفسهم فى الجري اللاهث وراء لذاذاتها وشهواتها. ولو أنهم تخففوا قليلا من تعلقهم بالحياة، ونظروا إليها على أنها طريق إلى حياة أخرى، أخلد وأبقى- لو أنهم فعلوا هذا لكان شأنهم مع آيات الله وكلماته، غير شأنهم هذا، ولوجدوا لدعوة لرسول آذانا تسمع، وعقولا تعقل، وقلوبا تتقبل ما تعقله العقول.. ولهذا جاء قوله تعالى: فى هذه الآية، كاشفا عن حقيقة دنيا المشركين هذه، التي فتنوا بها، وسكروا من خمرها. فما هى فى حقيقتها إلا لهو ولعب، لا يشغل نفسه بها إلا لاعب لاه، شأنه فى هذا شأن الصغار، الذين يعيشون لساعتهم، فى مرح معربد، ولهو صاحب، غير ملتفتين إلى أي شىء وراء هذا. وقوله تعالى: «وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ» - هو عرض للجانب الآخر من حياة الإنسان، وهو الجانب الحق، الجدير بأن يلتفت الإنسان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 466 إليه، ويعمل له.. إنه المستقبل الذي ينتظره، والذي يأخذ فيه مكانه بين الناس وينزل منه منزلته، حسب ما قدم لهذا المستقبل من جهد، وما بذل من عمل.. تماما كما هو الشأن فى حياة الإنسان فى هذه الدنيا، فإن مكانه فى الرجال، ومنزلته فى الناس إنما تتحدد بما كان منه من سعى وعمل فى دور الصبا والشباب ... فإذا لها المرء فى صباه، وعبث فى شبابه، أسلمه ذلك إلى حياة ضائعة وإلى مستقبل أسود كئيب! إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا ... ندمت على التفريط فى زمن البذر وفى قوله تعالى: «لَهِيَ الْحَيَوانُ» بدلا من «لهى الحياة» - إشارة إلى أن الحياة الآخرة هى الحياة، بل هى أصل الحياة، وما سواها من حيوات، ظل لها، أو فرع منها.. وقوله تعالى: «لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» .. اتهام لهؤلاء المشركين بالجهل والغباء، وأنهم لو كانوا على شىء من العلم لما عموا عن هذه الحقيقة، ولما آثروا الفانية على الباقية، ولما اشتروا الضلالة بالهدى ... فإن العاقل العالم، من شأنه أن يميز الخبيث من الطيب، ويفرق بين الغث والثمين. قوله تعالى: «فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ» أي أن هؤلاء المشركين اللاهين الغافلين، الذين أعماهم الضلال عن الآخرة، وعن العمل لها، وعن ذكر الله ذكرا خالصا- هؤلاء يظلون سادرين فى لهوهم وشركهم، حتى إذا ركبوا فى الفلك، واستشعروا الخطر، ذكروا الله، وفزعوا إليه، وأسلموا وجوههم له، مخلصين له الدين، لا يذكرون وجها من وجوه آلهتهم، ولا يهتفون باسم معبود من معبوداتهم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 467 فإذا خلصوا من البلاء، ونجوا من الهلاك، ولبستهم الطمأنينة- عادوا إلى ما كانوا فيه من شرك، ونسوا ما كان منهم لله من دعاء ومواثيق!! وهكذا المشركون فى الآخرة، يوم يلقاهم العذاب، وتفتح لهم أبواب جهنم.. هناك لا يجرون لآلهتهم ذكرا على ألسنتهم، بل يذكرون الله وحده، طالبين الغوث من هذا البلاء العظيم، قائلين: «رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ» .. وأنّى لهم الخروج وقد دانهم الديّان بما كانوا يعملون؟: «قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ» (108: المؤمنون) . قوله تعالى: «لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» . اللام فى «ليكفروا» وفى «ليتمتعوا» هى لام التعليل.. وهو تعليل لسؤال يرد على قوله تعالى: «فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ!» والسؤال الوارد هنا هو: لم لم يهلكهم الله فى هذه الدنيا؟ ولم لم يعجّل لهم العذاب بشركهم هذا؟ ولم نجاهم الله سبحانه من الغرق، ولم يدع يد الغرق التي امتدت إلى سفينتهم تدفع بها وبهم إلى لجة الماء، فيبتلعهم اليمّ؟. والجواب: «لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا» أي ليأخذوا فرصتهم كاملة فى الكفر بهذه الآيات التي تطلع عليهم من آثار قدرتنا، وليتمتعوا بما بقي فى آجالهم المقدورة لهم، من أيام. - وقوله تعالى: «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين الذين لم تزدهم آيات الله إلا ضلالا، ولم تزدهم نعمه وآلاؤه إلا كفرا.. وأنهم إذا كانوا اليوم فى غفلة عن مصيرهم الذي هم صائرون إليه، فسوف يعلمون علم اليقين، هذا المصير، وسيصلون عما قليل إلى ما أعد الله لهم من عذاب أليم. هذا وقد قرىء قوله تعالى: «لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا» يسكون اللام فى «وليتمتّعوا» وهذا يعنى أن الأسلوب أمر، يراد به التهديد والوعيد. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 468 قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ» . هو استفهام إنكارىّ، ينكر فيه على هؤلاء المشركين كفرهم بآيات الله، وجحودهم النعم التي يعيشون فيها من فضله وإحسانه ... فقد اختصهم الله سبحانه من بين العرب جميعا، بهذا البلد الحرام، الذي ألقى فى قلوب العرب جميعا توقيره، وتوقير ساكنيه.. وبهذا عاش هؤلاء المشركون فى ظل هذا البلد الحرام، آمنين لا ينالهم أحد بسوء، على حين يعيش الناس من حولهم، فى خوف وفزع، وفى بغى وعدوان، لا يأمن أحد على نفسه، وأهله وماله، من أن تطلع عليه فى أية لحظة، عاصفة تأتى على كل شىء!. هكذا الحياة فى هذه الغابة التي لا يتعامل فيها ساكنوها إلا بالظفر والنّاب، ما عدا هذه البقعة المباركة منها، فقد حماها الله، وحمى أهلها من كل عادية.. «الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ» (4: قريش) . أفلا يرى هؤلاء المشركون تلك النعمة الجليلة؟ ألا يذكرون فضل الله عليهم بها؟ ألا يخلصون له العبادة؟ ألا يتركون عبادة هذه الدّمى التي شوّهوا بها وجه هذا الحرم، وجعلوها أندادا لله؟ «أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ» ؟ ألا ما أسخف عقولهم، وما أخفّ أحلامهم! قوله تعالى: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ» . وإن هؤلاء المشركين لظالمون معتدون، بل إنهم لأشد الناس ظلما وأكثرهم عدوانا.. إنّهم افتروا على الله الكذب، فخلقوا هذه الدّمى، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 469 وأعطوها ما شاءوا لها من أسماء، وجعلوها آلهة يعبدونها من دون الله، وقالوا: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» .. ثم إنهم حين جاءهم رسول الله، يكشف لهم وجه هذا الباطل، ويفضح هذا الزّور، ويقيم لهم طريقا إلى الله، قائما على الحق- كذّبوه، ولم يقبلوا الهدى الذي معه.. إن ذلك جرم غليظ، لا تتسع له أية عقوبة فى هذه الدنيا، وإنه ليس إلا جهنّم ونكالها، وبلاؤها، جزاء يجزى به هؤلاء الكافرون.. «أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ» ؟ وبلى.. إن فيها لمكانا لكل من كفر بالله، وكذّب بآيات الله. قوله تعالى: «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» . بهذه الآية الكريمة تختم السورة ... فيلتقى ختامها مع بدئها، ولقد بدئت السورة بإيذان المؤمنين بالابتلاء، وملاقاة الفتن على طريق الإيمان، وأن استمساك المؤمن بإيمانه يقتضيه جهادا وتضحية، بالنفس والمال، والأهل والولد، والوطن، وكما يقول سبحانه: «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ» كما يقول سبحانه فى آية أخرى: «لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً» (186: آل عمران) . وهذا الختام الذي ختمت به السورة، هو وعد كريم من الله سبحانه وتعالى المؤمنين الذين يجاهدون فى سبيل الله، ويحتملون ما يلقاهم على طريق الجهاد من ضرّ وأذى- أن يهديهم الله، ويثبّت أقدامهم على سبيله ... لأنهم سعوا إلى الله، فتلقاهم الله بإمداد عونه، وتأييده، ونصره، فكان لهم الغلب، وكانت لهم العزّة فى الدنيا، وجنات النعيم فى الآخرة. وفى قوله تعالى: «جاهَدُوا فِينا» ... إشارة إلى هذا الجهاد الذي يجاهده الجزء: 11 ¦ الصفحة: 470 المؤمن، وأنه جهاد لله، وفى سبيل الله، وإعزاز دينه، ونصر كلمته.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ» (40: الحج) .. ومعنى الجهاد فى الله، الجهاد فى كل ما هو لله- مما جعله حمى له، جل شأنه. وفى توكيد الفعل «لنهدينّهم» توكيد لوعد الله، وأنه وعد أوجبه الله سبحانه على نفسه، كما يقول سبحانه: َ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ» (47: الروم) وفى قوله سبحانه: «وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» تطمين لقلوب المؤمنين، وإشعار لهم بأن الله معهم، بعزته وقوته، وسلطانه.. ومن كان الله معه، فهو فى أمان من أن يذلّ أو يهون: «أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (22: المجادلة) وفى وصف المجاهدين فى سبيل الله بأنهم محسنون، إشارة إلى أن الجهاد فى جميع صوره، هو إحسان، وأن المجاهد محسن، لأنه يأخذ طريق الإحسان، ويسلك مسالكه، على حين أن غير المجاهد مسىء، لأنه يركب مراكب الضلال، ويهيم فى أودية الباطل ... فحيثما كان الإنسان مع الله سبحانه وتعالى، فهو فى جهاد.. فإذا قهر المرء أهواء نفسه، ووساوس شيطانه، فهو مع الله، وفى جهاد فى الله ... وإذا انتصر الإنسان لمظلوم، فهو مع الله وعلى جهاد فى سبيل الله ... وإذا قال المرء كلمة الحقّ، وردّ بها باطلا، وسفّه بها ضلالا، فهو مع الله، وفى جهاد فى الله.. وإذا حمل المرء سلاحه، ودخل الحرب تحت راية المجاهدين فهو مع الله، وفى جهاد فى الله. إن سبل الجهاد كثيرة، وميادينه متعددة ... بالقول، وبالعمل، باللسان وبالسيف، ولعلّ هذا هو السرّ فى جمع السبيل فى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا» .. فهناك أكثر من سبيل يصل به المؤمن إلى الله ... لأنها جميعها قائمة على الحق، والعدل، والإحسان. وصدق الله العظيم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 471 30- سورة الرّوم نزولها: مكية عدد آياتها: ستون آية.. عدد كلماتها: ثمانمائة وسبع.. عدد حروفها: ثلاثة آلاف وخمسمائة وثلاثون ... مناسبتها لما قبلها حملت سورة «العنكبوت» - التي سبقت هذه السورة- دعوة للمسلمين إلى أن يوطّنوا أنفسهم على ما يلقاهم من بلاء وفتن على طريق الإيمان، وآذنتهم بأنهم مبتلون بكثير من الشدائد والمحن، وأن فيما يبتلؤن به، الهجرة، وفراق الأهل والديار ... تم كان ختامها هذا الوعد الذي تلقّوه من الله سبحانه وتعالى، بأن الله سيهديهم السبيل المستقيم، سبيل الله، وأنه معهم، يمدّهم بأمداد نصره وتأييده. ثم تجىء بعد هذا سورة «الروم» هذه، فتعرض مشهدا من الواقع، ونخبر عن حدث مشهود، يراه المسلمون والمشركون، يومئذ، وهو تلك الحرب التي وقعت بين الروم والفرس، والتي انتصر فيها الفرس، وهم عبدة أوثان، على الروم وهم أهل كتاب، كان ذلك، والحرب على أشدّها بين المشركين والمسلمين فى مكة، وقد كانت الدولة للمشركين، حيث كانوا هم الكثرة، وأصحاب القوة والجاه، على حين كان المسلمون قلّة قليلة، أغلبها من المستضعفين، من الإماء والعبيد، وكان أقوى المسلمين قوة، وأعزّهم نفرا، من يستطيع أن يفلت من يد القوم، ويخرج فارّا بدينه، تاركا كل شىء وراءه!! الجزء: 11 ¦ الصفحة: 472 فى هذا الوقت جاءت الأنباء إلى أهل مكة تحدّث بتلك الحرب الدائرة بين الفرس والروم، وبأن الغلبة كانت للفرس، وكان لذلك فرحة فى نفوس المشركين، لم يستطيعوا أن يمسكوا بها فى كيانهم، بل انطلقوا يردّدونها فيما بينهم، ويديرون أحاديثها على أسماع المسلمين، استهزاء وسخرية وشماتة، إذ كان المسلمون يمثلون الروم، الذين يؤمنون بكتاب سماوى، على حين كان المشركون يمثلون الفرس، عبدة النار.. وأما وقد غلب عبدة النار أهل الكتاب، فإن عبدة الأصنام المشركين ستكون لهم الغلبة دائما على الذين اتبعوا محمدا، وآمنوا بالكتاب الذي معه، وأن ما يعدهم به الكتاب الذي فى أيديهم من نصر وعزّة، ليس إلا خداعا ووهما كاذبا، وأن فيما وقع بين الفرس والروم، وما كان من انتصار الفرس على الروم لهو شاهد بيّن، لا تدفع شهادته ... وإذن فإن ما يدّعى بأنه كتب سماوية من عند الله- قديما وحديثا- هو مجرد كذب وافتراء.. إذ لو كانت هذه الكتب من عند الله لما خذل أتباعها أبدا ... وإلا فأين الله وقد خذل أتباع كتبه؟ هكذا كان تفكير المشركين وتقديرهم. وقد وجد المسلمون فى أنفسهم شيئا من الأسى لتلك الهزيمة التي حلّت بالروم، ثم ضاعف ذلك الأسى، وزاد فى مرارته ما كان يلقاهم به المشركون من كلمات ساخرة، ونظرات شامتة.. ذلك والمسلمون قد كانت تنزف جراحاتهم دما، من طعنات المشركين لهم، فى أجسامهم، ومشاعرهم ... على السواء. وفى كل موقف يشتد فيه البلاء على المؤمنين، وتضيق فيه عليهم الأرض بما رحبت، تطلع عليهم آية من آيات الله، فتمسك بسفينتهم المضطربة، وتنتزعها من يد العاصفة المجنونة المشتملة عليها، وإذا الأمن والسلامة يحفّان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 473 بهم، وإذا هم وقد ظفروا، وغنموا، وانقلبوا بنعمة من الله وفضل، لم يمسسهم سوء!! ومن هذه الآيات الأولى التي تنزلت بها سورة «الرّوم» وجد المسلمون ربح رحمة الله، فى هذا الوعد الكريم، وفى تلك البشرى المسعدة التي ساقنها إليهم بين يديها. وحفّا قد غلبت الرّوم فى هذه المعركة، وليس بالمستبعد أن يغلب المؤمنون فى معركة أو أكثر من معاركهم مع المشركين، ولكن العاقبة أبدا للمؤمنين.. ولقد غلبت الروم فى هذه المعركة، ولكن الصراع لم ينته بعد. فهناك معركة غير منظورة، يعلمها الله، وستقع بعد بضع سنين، وفيها يكون النصر للروم، وبهذا النصر يحسم الأمر بينهم وبين الفرس، فلن تقوم للفرس قائمة بعد هذا اليوم، بل ولن تكون لهم دولة، حيث يستولى المسلمون على هذه الدولة، وتصبح بعضا من دولة الإسلام. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الآيات: (1- 10) [سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10) الجزء: 11 ¦ الصفحة: 474 [من أنباء الغيب] التفسير: قوله تعالى: «الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ» . قلنا إنه فى هذا الجو الخانق الكئيب، الذي كان يتنفس فيه المسلمون سموم الشماتة من أفواه المشركين، لهذه الهزيمة التي لحقت بالروم على يد الفرس- فى هذا الجو تلقى المسلمون فى مكة هذه الآيات من مطلع سورة الروم، فوجدوا فى أنفاسها المطهرة، أرواحا طيبة، سرت فى كيانهم، فتفتحت لها قلوبهم، وانتعشت بها مشاعرهم، وزغردت لها أرواحهم.! إنهم تلقوا من الله سبحانه وعدا كريما بنصر الروم، وإنهم ليجدون هذا الوعد واقعا محققا، قبل أن يقع.. إنهم مؤمنون بربهم، مستيقنون بما يعدهم به.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 475 وحين يرى المشركون هذه الحال، التي لبست المسلمين من الرضا والطمأنينة، يتساءلون فيما بينهم. ماذا جرى؟ وأي شىء بدّل حال المسلمين، فأصبحوا على غير ما أمسوا عليه؟ وتجيئهم الأنباء، بأن «محمدا» تحدث إليهم بما اعتاد أن يلقاهم به من حديث يقول إنه تلقاه من ربه، وأن ما حدثهم به اليوم، هو أن الروم وإن غلبوا فى تلك المعركة التي دارت بينهم وبين الفرس منذ قليل، فإنهم سيغلبون، وأن ذلك سيكون بعد بضع سنين!!. أهكذا الأمر إذن؟ وأ لهذا كانت تلك الفرحة التي تعلو وجوه المسلمين؟ ألا ما أخف أحلامهم، وما أضل عقولهم؟! ألمثل هذا الكلام ينخدعون؟ وعلى مثل هذا الكلام يبنون قصورا من الأمانى والآمال؟ ألا يزالون على ضلالهم القديم، ينخدعون بما يحدثهم محمد به، من أحاديث لا تعدو أن تكون وعودا معلقة بالمستقبل البعيد أو القريب، لا يمسك المرء منها بشىء، فى يومه أو غده؟ فأين البعث؟ وأين الحساب؟ وأين الجنة والنار؟ لقد أكثر محمد من تلك الأحاديث إلينا، وصدّع بها رءوسنا، وما نرى لذلك ظلا، وما نشهد له أثرا! ثم ها هى ذى تبلغ الجرأة بمحمد، فينتقل من الرجم بالغيب فى أحشاء الزمن البعيد، المضاف إلى ما بعد موت الناس جميعا، إلى أن يرجم بالغيب فى واقع حياتنا، مما لا يجاوز مداه بضع سنين؟ إنها عثرة قائلة، ولن نقيل «محمدا» منها.. فهيا أمسكوا به، متلبسا بهذا الكذب المفضوح، واضربوه الضربة القاضية، وقد سنحت لكم الفرصة فيه!! هكذا أدار المشركون الحديث حول هذه الآيات، ووجدوا- حسب زعمهم- أن فيها فرصتهم، للنيل من محمد، وبضربته ضربة فى الصميم من دعوته ... إنها لسنوات معدودة، «بضع سنين» تنحصر فيما بين ثلاث وعشر، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 476 وبعدها ينكشف الأمر، فماذا لو ظلت الحال على ما هى عليه، فلم تقع حرب بين الروم والفرس خلال هذه السنوات المعدودات؟ وماذا لو وقعت حرب بينهما ثم دارت الدائرة فيها على الروم مرة أخرى؟ أيكون لمحمد وجه يلقى به الناس بعد هذا؟ أو يجد محمد بعد هذا أذنا تسمع له، أو إنسانا يصدق له قولا؟ والحق أن هذا صحيح.. فلو أنه لم تقع حرب بين الفرس والروم خلال هذه المدة المحدودة، المحصورة في بضع سنين، ثم لو وقعت هذه الحرب ولم يكن النصر والغلب للروم على الفرس فيها- لو أنه لم يحدث هذا، لما كان لمحمد ولا لدعوة محمد مكان في هذه الدنيا، ولذهب كل شىء، ولا ختفى كل أثر لمحمد، ولدعوة محمد إلى الأبد!. إنها دعوة قائمة على أنها من عند الله، وأن محمدا، يتلقى آياتها وكلماتها من ربه ... وهذا يعنى أنها الصدق الذي لا تعلق به شائبة من كذب، وأنها الحق الذي لا يلم به الباطل أبدا.. فإذا طاف بهذا الكلام طائف من الكذب، أو علق به ولو ذرّة من شك وارتياب- كان ذلك واقعا بين أمرين، لا ثالث لهما: إما أن يكون هذا الكلام من عمل محمد، ومن مقولاته التي يتصيدها من هنا وهناك.. وإذن فهو كاذب فيما يدعيه من أنه رسول الله، وأنه يتلقى هذا القرآن، وحيا من ربه.. وإذن فقد بطلت دعواه بأنه رسول من عند الله ... وإما أن يكون هذا الكلام، وحيا كما يقول محمد، ولكنه ليس وحيا من عند الله، وإنما هو مما تلقيه الشياطين، على بعض الناس، كالعرافين، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 477 والشعراء.. وإذن فقد بطلت دعواه أيضا بأن ما يحدثهم به هو وحي من عند الله ... لأن الله لا يكذب، ولا يفترى!. والحق أيضا أن هذه الآيات، وما حملت من هذا الغيب، الذي أذاعته في الناس جميعا، والذي ترددت أنباؤه على أسماع الناس في الجزيرة العربية، وما فيها من مشركين وأهل كتاب، بل وربما جاوزت الجزيرة العربية إلى فارس والروم. الحق أن هذا كان تحديا للناس جميعا، بهذه المعجزة المادية المحسوسة ... وقد كان ذلك فيما يبدو- فى ظاهر الأمر- مغامرة انتحارية من محمد، كما كان فرصة للذين يرصدون دعوة محمد، ويريدون أن يعرفوا على وجه اليقين، مبلغ صدقها أو كذبها. وكعادة المشركين الضالين، الذين استقبلوا الدعوة الإسلامية من أول يومها بإعلان الحرب عليها، من قبل أن ينظروا في وجهها، وأن يتبينوا دلائل الحق التي بين يديها- كعادتهم في مواجهة الدعوة الإسلامية بالكفر والعناد، استقبلوا هذه الآيات بالهزء والسخرية، وأقبلوا إلى المسلمين يسلقونهم بألسنة حداد، بما عرف فيهم من لجاج ولدد في الخصومة.. فما هذا الخبر الذي حملته الآيات، إلا وعدا كتلك الوعود الكثيرة التي أوسع لها محمد في الأجل، فجعلها في عالم آخر، نصب فيه موازين الحساب والجزاء، وأقام في ساحاته الجنة والنار ... وإذا كان في هذا الوعد الجديد شىء، فهو في قرب الأجل المضروب له ... وهذا القرب هو في ذاته دليل على كذبه، وأنه ليس من عند الله ... إذ لو كان عن إرادة نصر من عنده لأهل الكتاب على المجوس- لكان ذلك أمرا منجزا، ولما كان لله أن يؤخره بضع سنين ... إذ لا داعية لهذا التأخير، ما دامت قدرة الله حاضرة قادرة أبدا.. بل وأكثر من هذا، فإن هذا النصر لو كان إرادة لله لما وقعت الهزيمة أصلا بالروم، ولكان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 478 نصرهم قبل هزيمتهم أوقع وأقرب من نصرهم بعد الهزيمة!. هكذا، لقى المشركون المسلمين بهذه المقولات وأمثالها، حتى لقد أدّى الأمر إلى أن تقوم مخاطرات بين المسلمين والمشركين، على وقوع هذا الخبر أو عدم وقوعه، وحتى لقد قيل إن أبا بكر- رضى عنه- خاطر أبىّ بن خلف، على عدد من الإبل، يؤديها إلى أبى بكر، إذا غلبت الروم الفرس خلال سبع سنوات، ويؤديها أبو بكر إلى أبىّ، إذا غلبت الفرس الروم، أو لم تقع بينهما حرب أصلا، خلال هذه السنوات السبع!. وتمضى الأيام، وتتحرك الأحداث، ويهاجر النبي والمسلمون إلى المدينة، ويلتقى المسلمون والمشركون في موقعة بدر في السابع عشر من رمضان، للسنة الثانية من الهجرة، وينتصر المسلمون نصرا كاملا مؤزرا، ويهزم المشركون هزيمة نكراء، فيقتل منهم سبعون رأسا من رءوسهم، ويؤسر سبعون..! وفي هذا الوقت الذي كانت تدور فيه معركة بدر بين المسلمين والمشركين، وتدور فيها الدائرة على الشرك وأهله، كانت هناك معارك دائرة بين الروم والفرس، وفيها ينهزم الفرس هزيمة إلى الأبد، فلا تقوم لهم بعدها دولة ... فما هى إلا سنوات بعد هذه الهزيمة التي حلّت بهم، حتى تدخل جيوش المسلمين بلاد فارس، وتستولى عليها، وتضمها إلى الدولة الإسلامية. وليس هذا رجما بالغيب، ولا استملاء من أساطير الأولين، كما يتخرص المتخرصون عن القصص القرآنى. وهذه صحف التاريخ التي سجّلت هذه الأحداث في وقتها، لا تزال بين يدى أهلها، الذين ليس لهم مصلحة في أن يقيموا تاريخهم على ما يطابق أخبار القرآن، ويجىء مصدّقا له. والثابت في هذا التاريخ، أنه في سنة 614 من الميلاد كانت تدور معركة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 479 بين القرس والروم، وقد بدأت طلائع الهزيمة تنزل بالروم، فاستولى الفرس على أنطاكية، وهى من كبريات المدن الشرقية للدولة الرومانية، ثم استولوا بعد ذلك على دمشق، ثم على بيت المقدس ذاتها، وأشعلوا فيها النيران، وأحرقوا كنيسة القيامة.. وعام 614 من الميلاد واقع بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وسابق لهجرته صلوات الله وسلامه عليه. وطبيعى أن أنباء هذه المعركة، لم تصل إلى مكة في يومها، وربّما يكون ذلك بعد عام أو أقل من عام، وإن لنا أن نفترض أنه في عام 615 من الميلاد كان نزول هذه الآيات التي نزلت بها أول سورة الروم، لتلتقى مع هذا الحدث، ووقعه على المسلمين والمشركين في مكة ... وقد حدّدت الآيات أنه بعد بضع سنين سيكون الغلب للروم.. وإذا كان البضع بين ثلاث إلى عشر.. فاسمع ما جرى، وما تحدث به صحف التاريخ الرومانىّ. تقول تلك الصحيفة: إنه في سنة 622 من الميلاد- أي بعد سبع أو ثمانى سنين من حرب الروم والفرس، بدأت المعارك بين الروم والفرس مرة أخرى، وكان هذا إرهاصا- عند من يرقب الأحداث- بأن ما تحدّث به القرآن عن هاتين الدولتين يمكن أن يقع على ما أخبر به!. ومع هذا، فإن المشركين حين بلغتهم أنباء هذه المعارك، كانوا يتوقعون النصر للفرس، ولهذا، فإن أبىّ بن خلف حين علم بهجرة أبى بكر طلب إلى عبد الله بن أبى بكر أن يكون كفيلا لأبيه في أداء ما خاطره به، إذا غلبت الفرس، وقد قبل عبد الله بن أبى بكر هذا. وفي عام 624 من الميلاد، كانت معركة بدر، وحين خرج أمية بن خلف الجزء: 11 ¦ الصفحة: 480 فيمن خرج من المشركين لحرب النبي والمسلمين، أمسك به عبد الله بن أبى بكر عن الخروج، إلا أن يقيم كفيلا يؤدى عنه ما خاطر عليه أبا بكر إذا انهزمت الفرس، وغلبت الروم، فأقام كفيلا له. وهذا يعنى أن الحرب التي بدأت بين الدولتين في سنة 622، كانت ما تزال قائمة لم تنته بعد إلى نتيجة حاسمة، أو أنها قد تكون قد انتهت، ولكن أخبارها لم تكن قد وصلت إلى أهل مكة. وعلى أىّ فإنه لم يكد المسلمون يفرغون من المشركين في معركة بدر، ويأخذون طريقهم إلى المدينة، وفي قلوبهم فرحة النصر، وفي أيديهم ما وقع لهم من مغانم- حتى يلقاهم على طريق المدينة من يخبرهم بما انتهى إليه أمر القتال الذي كان دائرا بين الفرس والروم، وأن الروم قد هزموا الفرس، وأخرجوهم من بيت المقدس، وما استولوا عليه من بلاد الروم، كما استولوا على كثير من مدن فارس وأقاليمها.. وبهذا جاءت فرحة المسلمين بهذا النصر الذي مكن لهم من رقاب المشركين يوم بدر- جاءت هذه الفرحة موقوتة بالوقت الذي نطقت به الآيات في قوله تعالى: «وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ» أي أن يوم غلبة الروم للفرس، سيكون في هذا اليوم الذي ينتصر فيه المسلمون على المشركين، وتمتلىء قلوبهم فرحة بهذا النصر العظيم.. فالنصر الذي يفرح به المؤمنون حقّا، هو نصرهم على المشركين من أهل مكة، الذين سخروا منهم، وصبّوا عليهم ألوان البلاء، وأخرجوهم من ديارهم.. وهذا هو نصر الله الذي وعدهم به، ووقّت له غلبة الروم للفرس! وهذا هو السرّ- والله أعلم- فى هذا الذي جاء عليه النظم القرآنى، من التعبير عن الصراع بين الفرس والروم بالغلب والتغالب، على حين جاء التعبير عن غلبة المسلمين للمشركين، بكلمة «النصر» .. فهو نصر لدين الله، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 481 ونصر للحق في أعلى منازله.. إنه صراع بين إيمان خالص وشرك صريح. فإذا غلب لإيمان الشرك، فهو نصر للحياة، وللإنسانية كلها، وحقّ له أن يضاف إلى الله: «وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ» .. أما الصراع الذي كان دائرا بين الروم والفرس، فلم يكن قتالا في سبيل الله، ولا انتصارا لدين الله، وإنما كان قتالا على سلطان، وتقاتلا على سلطة، تتنازعها لدولتان منذ قرون طويلة.. أما التفات الدعوة الإسلامية إلى هذا الصراع، فلم يكن إلا ردّا على ما تنادى به المشركون في مكة، وما استقبلوا به أخبار انتصار الفرس وهزيمة الروم، فاتخذوا من الفرس جبهة لهم، على حين عدّوا جبهة الروم المهزومة جبهة للمسلمين.. ولهذا جاء قوله تعالى: «غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ» - جاء خبرا حياديّا، يحدث عن الواقع الذي سيقع بعد بضع سنين، ليقطع على المشركين فرحتهم التي اصطنعوها من هذا الخبر الذي جاهم بنصر الفرس، وليقول لهم: لا تفرحوا لأمر تستقبلون أوله، ولا تدرون ما يقع في آخره.. فهذا الغلب الذي تفرحون به، هو غلب موقوت ستعقبه هزيمة خلال بضع سنين! ولهذا جاه قوله تعالى بعد ذلك: «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا» فهذا للقول وإن كان تعقيبا واقعا على قوله تعالى: «وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ» فإنه يشير من طرف خفىّ إلى قصر أنظار المشركين، وأنهم لا تمدون أبصارهم إلى أبعد من مواقع أقدامهم، ولو أنهم أحسنوا النظر إلى هذا النبأ الذي جاءهم بغلبة الفرس، لما استبدّ بهم الفرح، ولعلموا أن الغلب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 482 قد تعقبه هزيمة، وأن الهزيمة قد يتلوها غلب ... هكذا تجرى أمور الناس فى هذه الحياة: «وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ» .. ولكن القوم- لجهلهم، وعمى بصائرهم- لا يقفون من الأمور إلا عند ظواهرها، ولا يأخذون منها إلا ما يلقاهم على يومهم.. وهذا شأنهم في دينهم الذي يدينون به.. إنهم أحلوا أنفسهم من كلّ شىء يشغلهم عن حياتهم الدنيا، فهى يومهم الذي لا يوم لهم بعده.. أما الآخرة، فلا شأن لهم بها.. إنهم في غفلة عن كلّ أمر يصلهم بها، وفي صمم عن كل حديث يلقى إليهم عنها.. قوله تعالى: «غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ» . المراد بأدنى الأرض، أقربها، وهى أقرب البلاد من مملكة الروم الشاسعة، إلى جزيرة العرب، وهى تلك البلاد الواقعة في المناطق الشرقية من مملكة الروم.. كدمشق وبيت المقدس وغيرها.. «فِي بِضْعِ سِنِينَ» .. هو تحديد للوقت الذي يقع فيه هذا الخبر.. والبضع من السنين ما بين الثلاث إلى العشر.. «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ» أي أن الأمر كله لله، من قبل الغلب ومن بعده.. فما غلب الغالبون إلا بأمر الله، وعن إرادته ومشيئته.. وما سيغلب المنهزمون إلا بأمر الله، وعن إرادته ومشيئته «قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» (78: النساء) . «وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ» . أي في هذا الوقت الذي يقع فيه هذا الخبر، وهو غلبة الروم للفرس، سيقع أمر أهمّ وأعظم، وهو انتصار المسلمين على المشركين، حيث يمدهم الله بنصره، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 483 ويمنحهم عونه وتأييده، فتمتلىء بالفرحة صدورهم، وتخفق بالرضا والسرور قلوبهم.. «يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ.. وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» .. فالنصر بيد الله وحده، ليس لأحد شركة مع الله فيه، فهو العزيز ذو القوة والبأس، الرحيم الذي يوسع من رحمته لعباده المؤمنين، فيعزهم بعزته. «وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ.. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» . «وَعْدَ اللَّهِ» مفعول به لفعل محذوف، تقديره: صدّقوا وعد الله، أو استيقنوا وعد الله. ونحو هذا. وقوله تعالى: «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» أي لا يعلمون هذه الحقيقة، وهى أن الله لا يخلف وعده.. والمراد بأكثر الناس هنا هم المشركون والضالون، الذين لا يؤمنون بالله.. فهؤلاء هم أكثرية الناس.. وهم لا يصدقون ما تتحدث به إليهم آيات الله، عن الله، لأنهم لا يقدرون الله حق قدرة، ولا يعلمون ما ينبغى أن يكون له سبحانه من صفات الكمال والجلال.. «يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ» . هذا هو علم المشركين، والضالين المكذبين بالله.. إن علمهم محصور فيما يتعلق بأمور الدنيا، وما هم فيه من لهو ومتاع بها.. وفي قوله تعالى: «ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا» - إشارة إلى أن العلم في ذاته مطلوب، لكل أمر يعالجه الإنسان.. وأن العلم- حيث كان- نور يهدى صاحبه، ويكشف له معالم الطريق إلى الخير والحق.. هذا إذا كان العلم قائما على نظر سليم، وإدراك صحيح، وإلا فهو سراب يخدع صاحبه، ويضله عن سواء السبيل.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 484 وعلم هؤلاء المشركين، الضالين، المكذبين بالله- مع أنه مقصور على هذه الحياة الدنيا- هو علم يقف عند ظاهر الأمور فيها، ولا ينفذ إلى الصميم منها.. ومن هنا ينخدع هؤلاء الضالون بهذا العلم الذي لا يمسك من الأشياء إلا ببريقها، ولمعانها، فيندفعون به إلى مواقع الهلاك، كما يندفع الفراش إلى النار، مأخوذا بضوئها، مبهورا بألسنة لهيبها.. أما العلم الحقيقي بالحياة الدنيا، وبما فيها من آيات الله المبثوثة في كل ذرة من ذراتها، وما أودع الله سبحانه في الكائنات من أسرار، فذلك علم من شأنه أن يفتح مغالق العقول، ويضىء جوانب البصيرة، ويهدى صاحبه إلى كل ما هو حق وخير.. وبهذا العلم، يرى العالم قدرة الله، ويتعرف إلى بعض ماله- سبحانه- من علم وحكمة، فيؤمن بالله، ويؤمن بما أرسل الله من رسل، وما أنزل من كتب.. وبهذا العلم يصل العالم بين الدنيا والآخرة، فيعمل لهما معا.. إذ لا تعارض بين الدنيا والآخرة، عند من يعلم حقيقة الدنيا، ومكانها من الآخرة.. قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ» . هو دعوة إلى هؤلاء المشركين الغافلين عن الحياة الآخرة، أن يتفكروا فى أنفسهم وما قام عليه خلقهم.. وكيف كان الإنسان ترابا، ثم نطفة، ثم صار رجلا.. فإن أقرب شىء إلى الإنسان هو ذاته، وهذا يوجب عليه أن يتعرف إلى أقرب قريب إليه، قبل أن يمد بصره إلى ما وراءه، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ» . فإذا نظر الإنسان إلى نفسه، نظرا سليما واعيا، عرف بعض ما للخالق سبحانه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 485 وتعالى، من عظمة، وجلال، وعلم، وقدرة.. حتى يخرج من هذا التراب الهامد، هذا الإنسان العاقل، المدرك، المتكلم! وبهذا يعلم الإنسان أن هذا الوجود في أرضه وسمائه، وفيما بين أرضه وسمائه- لم يخلق إلا بالحق، ولم يخلق لهوا وعبثا ... وأن كل مخلوق في هذا الوجود هو بعض منه، وأنه لن تنتقض لبنة من بناء هذا الوجود أبدا.. فكل كائن فيه- وإن صغر- دوره الذي يقوم به في وحدة هذا النظام الممسك بالوجود، وله فلكه الذي يدور فيه، كما تدور النجوم في أفلاكها ... تشرق، وتغرب.. ولكنها لا تفنى، ولا تندثر! والإنسان كائن من الكائنات ذات الشأن العظيم في هذا الوجود، فكيف يقع لعقل عاقل أن تنتهى حياة هذا الإنسان بتلك الدورة القصيرة التي يدورها في فلك الوجود، والتي هى سنوات معدودة يقضيها في هذه الدنيا؟ ألهذا خلق الإنسان؟ ولهذا كان خلقه على تلك الصورة العجيبة التي استحق بها أن يكون خليفة لله في هذه الأرض؟. كلا، إن الإنسان لن تنتهى حياته بهذه الدورة القصيرة على الكوكب الأرضى، وإن له لحياة أخرى، أعظم، وأبقى ... ولكن كثيرا من الناس بلقاء ربهم كافرون.. لا يصدقون بأنهم مبعوثون بعد الموت، وأنهم ملاقون ربهم، يوم يقوم الناس لرب العالمين ... قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 486 هؤلاء المشركون الضالون، إذا لم يكن لهم نظر في أنفسهم، أو كان لهم نظر ولكنه لم يكشف لهم مواقع الحق فيما رأوا منها- أفما كان لهم نظر إلى ما بين أيديهم، وتحت أبصارهم، من بقايا هذه الأمم التي كانت تعمر تلك الأطلال البالية، وهذه القرى الغارقة في أحضان البلى؟ ثم ألا رأوا في هذه المخلفات ما كان عليه أهلها من حياة عامرة، زاخرة، وما كان لهم من قوة وبأس شديد ... ؟ ثم ألا أعادوا النظر مرة أخرى، فرأوا كيف تبدلت الحال، وكيف ساء المصير؟ لقد كفروا بآيات الله، وكذبوا رسله، فأوقع الله بهم عقابه، وأخذهم ببأسه، فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهمَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» لقد ظلموا هم أنفسهم، فحادوا بها عن طريق الهدى، وأوردوها موارد الهلاك. - وفي قوله تعالى: «أَثارُوا الْأَرْضَ» إشارة إلى أنهم قلّبوا وجوهها، واستخرجوا خبأها. قوله تعالى: «ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ» . السّوءى: أي العاقبة السيئة، وهى ضد الحسنى.. كما يقول الشاعر: أنّى جزوا عامرا سوءا بفعلهم ... أم كيف يجزوننى السوءى من الحسن؟ وهى اسم كان مرفوع، وخبرها «عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا» والتقدير: ثم كانت السوءى عاقبة الذين أساءوا.. أي جزاهم الله سوءا لفعلهم السيّء.. كما يقول سبحانه: «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» ، وهو من باب المقابلة، وذلك لأن ما يجزون به، إنما هو سوء بالنسبة لهم، لأنه يسوءهم ويؤذيهم.. أما الجهة التي توجهت به إليهم، فهو ليس منها، وإنما هو فعلهم، عاد إليهم، فالأمر لا يعدو أن يكون فعلا وردّ فعل!. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 487 وقدم الخبر على الاسم، وأخر الاسم، لإثارة حب الاستطلاع إليه، بحجبه قليلا وراء الخبر، فإذا طلع على أهله لم يجدوا فيه إلا ما يسوء!! وقوله تعالى: «أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ» - هو تعليل لهذا الجزاء السيّء الذي جوزوا به، أي لأنهم كذبوا بآيات الله ولم يقفوا عند حد التكذيب بها، بل اتخذوها هزءا وسخرية، ومادة للعبث والبذاءة- كان هذا جزاؤهم السيّء. الآيات: (11- 19) [سورة الروم (30) : الآيات 11 الى 19] اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19) التفسير: قوله تعالى: «اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» . هو تعقيب على ما دعت إليه الآيات السابقة، من التفكر في النفس، أي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 488 فى الذات الإنسانية، وما أودع الخالق العظيم في الإنسان من قوى وملكات ثم النظر في خلق السموات والأرض.. ثم السير في الأرض، والوقوف على أطلال الأمم الغابرة ليروا ما حلّ بالظالمين من بأس الله وعذابه. فهذا التفكر والنظر والتدبر، فى داخل النفس وخارجها، من شأنه أن يفتح للإنسان طريقا إلى الحق، وأن يدلّه على الله سبحانه وتعالى، وما له جلّ شأنه من قدرة لا يعجزها شىء ... فكان قوله تعالى: «اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» - هو الحكم الذي يقضى به النظر فى هذا الوجود، والذي إن لم يستدل إليه الإنسان بنظره، ثم جاءه من يحدثه به، كان جديرا بأن يقبله، إذ كان على امتداد النظر، وفي مواجهة الفكر. فإن أنكر الإنسان معطيات حواسه، ومدركات عقله، ثم كذّب ما يحدّثه به أهل الصدق والعلم، فلن يهتدى إلى حق أبدا، ولن يحصل على خير أبدا، ولن يصير إلا إلى أسوأ مصير. قوله تعالى: «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ» . هو تهديد وإزعاج لهؤلاء المشركين، الذين أنكروا البعث، ولم يتلقوا قوله تعالى: «اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» - لم يتلقوه بالقبول، والإيمان ... إنهم مجرمون.. والمجرمون وإن رضوا بالحياة الدنيا، واطمأنوا بها، فإنهم سيلقون يوم القيامة هوانا وبلاء، حيث يشتمل عليهم الهول، مما يرون من عذاب الله، فيبلسون، أي يحمدون في أماكنهم، وتجمد حواستهم، مما يطلع عليهم من أهوال ومفزعات. قوله تعالى: «وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 489 أي لم يكن لهؤلاء المجرمين من شافع يشفع لهم، ويجيرهم من عذاب الله، وأن معبوداتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله، قد ضلّت عنهم، وقد كانوا من قبل على يقين بأنهم سيشفعون لهم عند الله، كما يقول الله تعالى عنهم: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» (18: يونس) - وقوله تعالى: «وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ» .. أي وكان هؤلاء المشركون، من أهل الكفر والضلال، بسبب شركائهم هؤلاء الذين عبدوهم من دون الله ... فهم بعبادة هذه المعبودات لبسوا ثوب الكفر، وكانوا من الكافرين ... وللكافرين عذاب مهين. قوله تعالى: «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ» .. أي أنه إذا كان بين هؤلاء المشركين وبين معبوداتهم ولاء، هو ولاء التابع للمتبوع- ثم كان بين بعضهم وبعض، اجتماع وائتلاف، على عبادة هذه المعبودات، والدفاع عنها، ودفع كل يد أو لسان يمتد إليها بسوء- فإنه في يوم القيامة، ستتقطع بينهم جميعا الأسباب، فلا يلتفت المعبودون إلى عابديهم، ولا ينظر عابد في وجه عابد أو معبود.. «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» .. «وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً» . قوله تعالى: «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ» . الحبر، والحبور: السّرور والغبطة، والرضوان.. والروضة: الجنة. أي أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، لا يحزنهم هذا اليوم، ولا يضرّهم التفرّق، إذ كان مع كل مؤمن عمله، الذي يؤنسه، ويذهب وحشته، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 490 ويملأ قلبه طمأنينة وأمنا، بما يرى من بشريات الإيمان والأعمال الصالحة، التي بين يديه. إن المؤمنين الذين عملوا الصالحات سينزلون في هذا اليوم أكرم منزل.. إنهم في روضات الجنات، ينعمون بما أعد الله لهم فيها من موائد فضله وإحسانه.. قوله تعالى: «وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ» . هؤلاء هم الفريق الآخر، الشقىّ التعس يوم القيامة ... إنهم هم الذين كفروا وكذّبوا بآيات الله، وأنكروا البعث والحساب والجزاء، فلم يقدّموا ليومهم هذا شيئا.. فليس لهم في الآخرة إلا النار.. وفي قوله تعالى: «فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ» .. إشارة إلى أنهم يساقون إلى العذاب سوقا، ويدفعون إلى البلاء دفعا.. إنهم يودّون أن يفرّوا من هذا البلاء الذي بين أيديهم، ولكن هناك من يمسك بهم على هذا البلاء، ويدفعهم إليه، فى قوة قاهرة مدلة، لا يملكون لها دفعا. قوله تعالى: «فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ» . هو خبر، يراد به الأمر.. أي سبّحوا الله، وعظّموه، وأقيموا وجوهكم إليه بالدعاء والعبادة.. والخطاب دعوة للناس جميعا.. مؤمنين، وكافرين ... أما المؤمنون، فقد رأوا الجنة ونعيمها- وأما الكافرون، فقد عاينوا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 491 النار ولظاها.. فالمؤمنون يسبّحون الله، ليبقى عليهم ما أراهم من رحمته ... والكافرون يسبّحون الله، ليدفع عنهم ما أراهم من عذابه. - وقوله تعالى: «حِينَ تُمْسُونَ» أي تدخلون في المساء «وَحِينَ تُصْبِحُونَ» أي تدخلون في الصباح ... - وقوله تعالى: «وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» اعتراض بين مطلوب الدعوة بالتسبيح لله سبحانه، من الناس، وذلك ليرى الناس أنهم ليسوا وحدهم الذين يسبّحون الله، فالسموات والأرض ومن فيهن تسبّح بحمد الله، كما يقول سبحانه: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» . وقوله تعالى: «وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ» معطوف على قوله تعالى: «فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ» لأنه بمعنى: سبّحوا الله مساء وصبحا، وعشيّا، وحين تظهرون. وفي هذه الآيات إشارة إلى الصلوات الخمس المفروضة، وأوقاتها.. ففى المساء.. صلاة المغرب والعشاء. وفي الإصباح.. صلاة الصبح، وفي العشى، صلاة العصر.. وفي الظهيرة.. صلاة الظهر.. قوله تعالى: «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ» . فى هذه الآية استعراض عام، كاشف، لبعض قدرة الله، الذي يدعى العباد إلى تسبيحه، وعبادته ... فالذى يسبّح الله مجرد تسبيح، ويعبده عبادة منقطعة عن التعرف على ما لله سبحانه من جلال وعظمة، لا يحدث له هذا التسبيح، ولا تلك العبادة، حالا من اللقاء بربّه، لقاء تشرق به الروح، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 492 ويأنس به القلب، وتصفو به النفس، الأمر الذي من شأن العبادات أن تترك آثاره في العابدين. - وفي قوله تعالى: «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» دعوة إلى القراءة الواعية في صحف الطبيعة، وما فيها من آيات الخلاق العظيم.. ففى كل نظرة يلقيها الإنسان على أي موقع من مواقع الحياة، يرى حياة تخرج من موات، ومواتا يخرج من حياة.. الشيء وضدّه، يتبادلان موقفهما.. فالميت يأخذ مكان الحىّ، والحىّ يحل مكان الميت، حتى لكأنهما كائن واحد لا فرق بينهما، فى حالى الحياة والموت.. وهذا من عجيب قدرة الله، وبسط سلطانه على المخلوقات. وفي قوله تعالى: «وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ» إشارة إلى أن خروج الموتى من القبور، لا يخرج عن أن يكون صورة من تلك الصور، التي تخرج فيها الحياة من عالم الموات ... وأقرب مثل لهذا، الأرض الجرداء الجديب، ينزل عليها الماء، فتهتزّ وتربو وتنبت من كل زوج بهيج.. فهل تعجز قدرة الله أن تنفخ في هذا التراب الهامد، الذي احتوى أجساد الآدميين، فإذا هم بشر ينتشرون؟ والله سبحانه وتعالى يقول: «وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً» (17- 18: نوح) .. فلم ينكر المنكرون البعث؟ ولم يجادلون فيه؟ إنه ليس عن إنكار لقدرة الله، فما ينكر عاقل على هذه القدرة أي شىء.. ولكنه هروب من المسئولية، وفرار من مواجهة الحساب يوم القيامة، وإخلاء النفس من مشاعر الإيمان بالحياة الآخرة، لتنطلق كما تشاء، لاهية عابثة، تنفق كل شىء في سبيل حظوظها الدنيوية، لا تستبقى للآخرة شيئا! .. وهكذا يغرر المرء بنفسه، ويخدع عقله، ويستجيب لداعى هواه، فلا يرى من حقائق الأمور إلا ما يتفق وهواه.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 493 الآيات: (20- 27) [سورة الروم (30) : الآيات 20 الى 27] وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) التفسير قوله تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ» . هذه الآية معطوفة على الآية قبلها: «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ» . فهذا من آيات الله ... أي ومن آياته كذلك أن خلق الناس من تراب، ثم إذا هم بشر ينتشرون.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 494 وقضية خلق الإنسان، كما جاء بها القرآن، تلتقى مع العقل، فى كل طور من أطواره، صعودا، أو نزولا.. ففى القرآن الكريم عشرات من الصور التي خرج بها الإنسان إلى هذا العالم.. وهذه الصور وإن اختلفت مظهرا، فإنها تلتقى جميعا في مضمونها ومحتواها. فالعقل في أدنى مستوياته يلتقى مثلا مع قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا» (13: الحجرات) وتلك حقيقة لا يستعلى عليها العقل في أعلى منازله، ولا يستغنى عن الأخذ بها.. فإذا ترقى العقل شيئا كان له لقاء آخر مع قوله تعالى: «الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً» (1: النساء) . ثم ما يزال العقل يلتقى مع آيات الله، آية آية.. فيجد في كل آية منها لونا جديدا، تزداد به الصورة وضوحا، وعمقا.. ومن هذه الآيات: - «أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ» (20- 21 المرسلات) . - «وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً» (17: نوح) . - «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ» (12: المؤمنون) . - «خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ» (14: الرحمن) . - «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ» (26: الحجر) . - «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ» (45: النور) . فهذه الآيات، وكثير غيرها مما جاء في خلق الإنسان، تضع العقل أمام قضايا، ومقررات، كلها تحدث عن خلق الإنسان، وبعضها واضح جلى، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 495 يعرف بأدنى نظر، وبعضها دقيق خفى، لا ينال إلا بنظر دقيق، وإدراك سليم، مع قدر كبير من العلم والمعرفة.. ومع هذا، فإن التقاء هذه الآيات في أي عقل مؤمن لا يحدث صداما بينها، ولا يدعو إلى انفصال في وحدتها، وذلك بحمل الخفي عليه منها، على الجلىّ، والمتشابه- عنده- على المحكم.. ثم يبقى مع هذا للعقل- على امتداد الزمن- مكانه من الآيات الخفية، ينظر في وجهها، ويدور باحثا عن أسرارها.. وفي كل يوم يجد العقل من هذه الآيات جديدا من العلم، ومزيدا من المعرفة، وكثيرا من الأسرار.. وإذا التراب، والطين والصلصال، والحمأ المسنون، والماء، والنبات.. وكل هذه المواد التي تحدث عنها القرآن في خلق آدم- هى العناصر التي شكلت هذا المخلوق العجيب، والتي أقام منها الخالق العظيم، هذا البناء، فى أحسن تقويم..! وحتى ليجىء العلم الحديث متخاضعا بين يدى القرآن الكريم، مستسلما ومسلما لما ضمت عليه آيات الله من أسرار، لم ير هذا العلم بكل وسائله إلا لمحات منها، فيما قررته علوم الحياة من تلك الصلة الوثيقة التي تصل الإنسان بالأحياء، وتجعله حلقة من حلقات سلسلتها الممتدة، الضاربة في أعماق الطبيعة «1» . قوله تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» . الخطاب هنا للناس عموما، رجالا، ونساء.. وليس للرجال، كما فهم ذلك كثير من المفسدين.. فكما خلق الله سبحانه للرجال من أنفسهم   (1) انظر في هذا، المبحث الخاص الذي عرضنا فيه قصة خلق آدم، فى الكتاب الأول من هذا التفسير. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 496 أزواجا، خلق سبحانه للنساء من أنفسهن أزواجا.. فكان الوفاق وكان الائتلاف بين المتزاوجين.. والمراد بقوله سبحانه: «مِنْ أَنْفُسِكُمْ» أي من جنسكم، وطبيعتكم.. وهذا من شأنه أن يؤلف بين الزوجين، وأن يجمع بينهما على الأنس، والمودة.. إذ أن الكائن الحي، ينجذب بطبيعته إلى ما يشاكله من الأحياء.. فكل جنس يجتمع إلى جنسه، ويجد الطمأنينة، والأمن، والسكينة في جواره. سواء في هذا، الإنسان، والطير، والوحش، والذر.. حتى النبات.. فإنه يزكو، وبنضر، ويزهو في المغارس التي نجمع الجنس منه إلى الجنس. وفي قوله تعالى: «لِتَسْكُنُوا إِلَيْها» بيان لهذه النعمة، وكشف عن وجه الحكمة فيها، وهى أنه باجتماع الإنسان إلى الإنسان، والذكر إلى الأنثى، تستريح النفس، وتسكن المشاعر، وتطمئن القلوب.. وإنه لا نعمة أجل ولا أعظم من نعمة تفيض على الإنسان الأمن والسكينة. وفي قوله تعالى: «وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» - إشارة إلى أن المودة والرحمة أمران يتولدان من الألفة والسكن، وأنه لولا السكن والائتلاف، ما قامت مودة ورحمة.. لهذا جاء النظم القرآنى مفرقا بين الأمرين، فجعل المشاكلة في الطبيعة البشرية بين الناس، ذكورا وإناثا- خلقا، أي في أصل الخلقة، على حين جعل المودة والرحمة، عرضا من أعراض هذه الطبيعة، وثمرة من ثمراتها، فعبر عنها بلفظ «الجعل» . «وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» .. وهذا إعجاز من إعجاز القرآن، الذي يتجلى في روعة أسلوبه، وجلال صدقه.. إذ ليس كل لقاء بين طبيعتين متماثلتين يحدث الرحمة والمودة، وإن كان من شأنه أن يجمع، ويقرب.. فإن المودة والرحمة ثمرة احتكاك، وتجاوب، بين النفوس، وجهد مبذول، ومعاناة معطاة من كل نفس، وعلى قدر هذا الجهد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 497 وتلك المعاناة تكون الثمرة.. وما أكثر الأشجار التي لا تعطى ثمرا!! وفي قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» دعوة إلى الزوجين أن يدبرا تفكيرهما إلى هذه الآية من آيات الله، وأن يحققا الثمر المرجو منها. فإن لم يتحقق لهما هذا، كان عليهما أن يرجعا إلى نفسهما، وأن يصححا الوضع الذي هما عليه، حتى يحىء الثمر المطلوب من الزواج، وهو السكن، والمودة، والرحمة. قوله تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ» . فى الجمع بين خلق السموات والأرض، واختلاف الألسنة والألوان، إشارة إلى هذه الظاهرة التي لا يكاد يلتفت إليها الناس، من اختلاف ألسنتهم وألوانهم. إنها- وهى التي لا يكاد يلتفت إليها أحد- لا تقل عن خلق السموات والأرض، وما فيهما من أجرام وعوالم، فى الدلالة على قدرة الخالق، وجلاله، وعظمته، وعلمه، وحكمته. إن كل إنسان من الناس هو عالم قائم بذاته، فى ظاهره، وباطنه، جميعا. ففى كل إنسان آية متفردة من آيات الخلق، وقدرة الخالق. فعلى حين يبدو الناس وكأنهم ثمار شجرة واحدة، إذ هم ثمار مختلفة الطعوم، ولألوان، والأشكال.. كل ثمرة لها طعمها، ولونها، وريحها. إن العين لتأخذ الناس جميعا، وكأنهم كائن واحد. فإذا عاد النظر إليهم، فردا فردا، كان كل واحد كائنا قائما بذاته، بماله من سمات، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 498 وخصائص.. فلكل إنسان نبرات صوته، ومخارج كلماته، وطبقات أنغامه، التي تميزه عن غيره، فلا تختلط نبرة بنبرة، ولا يشتبه مخرج بمخرج، ولا تتماثل طبقة مع طبقة، وإن بدا في ظاهر الأمر أن هناك تماثلا وتشابها، بين صوت وصوت، ونغم ونغم، فإن الحقيقة غير هذا، حيث توجد فروق دقيقة، وخطوط هندسية غاية في الدقة، تفصل بين صوت وصوت، وتحجز بين نغم، ونغم. وكذلك الشأن في الألوان والأشكال، والصور.. إن يد القدرة القادرة المحكمة، قد أقامت كلا منها في موضعه، وجعلت بينها حاجزا، فلا يبغى بعضها على بعض.. تماما كما حجزت بين البحرين: «هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ، وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ» هذا، فى ظاهر الإنسان.. أماما في باطنه، فالأمر أعجب وأغرب.. فمنازع التفكير، ومناحى العواطف، ومسارب المشاعر، وخلجات الضمائر، ووسوسات الأهواء- إنها أمواج متدافعة على صدر محيط لا حدود له.. ومع هذا فلا تختلط موجة بموجة، ولا يضيع تيار في عباب تيار..! - وفي قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ» - إشارة إلى أن عين العلم هنا، هى التي تكشف هذه الأسرار، وتطّلع على هذه الآيات.. [الليل.. وما وسق] قوله تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ ... إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» . ومن دلائل قدرة الله، أن أليس الإنسان لباس النوم، ليجد فيه الجسم سكنه وراحته، مما يعالج في يقظته من أعمال، وما يحمل من أعباء.. فكان النوم واليقظة خلفة، يدوران في فلك الإنسان، كما يدور الليل والنهار في فلك الجزء: 11 ¦ الصفحة: 499 الوجود.. وبهذا التوارد للإنسان على موارد النوم واليقظة، يعرف نعمة الله عليه، وإحسانه إليه، ويجد للنوم طعمه الهنيء في كيانه، كما يجد لليقظة مساغها العذب في كل جارحة من جوارحه. - وفي قوله تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ» وفي تقديم النوم، على اليقظة التي يدل عليها قوله تعالى: «وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ» - فى هذا إلفات إلى نعمة النّوم، التي قلّ أن يلتفت إليها كثير من الناس، إذ كان في النوم عزل للإنسان عن الحياة، وقطع للصلة بينه وبين ذاته، حتى لكأنه قد فقد وجوده.. ومن هنا كانت نظرة كثير من الناس إلى النوم على أنه عارض دخيل على الإنسان، أشبه بالآفات التي تعرض للجسد.. وهذا فهم خاطئ هذه النعمة العظيمة التي تضيفها يد الرحمة الإلهية على الإنسان! .. وندع النظر إلى النوم- كظاهرة جسدية- وإلى وظيفته العضوية في كيان الجسد الإنسانى وتنظر إلى ما يقع للإنسان في رحلة النوم، وما يصادفه على طريقه من رؤى وأحلام، حيث تنطق قوى الإنسان الخفية، وتسبح في عوالمها، وتحقق قليلا أو كثيرا من مطالبها التي أمسكتها عنها يقظة الجسد، وقيدتها دونها جوارحه. ففى رحلة النوم، وفيما بين اليقظة والنوم، يسبح الإنسان بعقله وروحه، فيما وراء هذا العالم المادي.. حيث لا قيود ولا سدود.. وحيث يحقق الإنسان فى هذا العالم ما عجز عن تحقيقه في عالمه المادىّ، فيجد في هذا ما يجد الجوعان بعد الشبع، والظمآن بعد الرىّ! فكم من محروم، طعم في نومه من كل طيّب كانت تشتهيه نفسه، وتقصر عنه يده؟ وكم من مظلوم، اكتوى بنار الظلم من يد ظالمه، ثم جاء إليه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 500 فى عالم الأحلام، صاغرا ذليلا، فكال له الصاع صاعين، وشفى ما بنفسه من قسوة الظلم ومرارته؟. وكم من محبّ باعد الزمن بينه وبين حبيبه، وانقطع بينهما حبل اللقاء، بغربة نائية في عالم الأحياء، أو عالم الموتى.. وإذا هما في الكرى على لقاء، يتساقيان كئوس الحبّ مترعة، ويرتشفان راح المودة صافية؟. وكم من عالم وقف به علمه أمام معضلة لم يجد لها حلّا، حتى دبّ اليأس فى صدره، وغربت شمس الرجاء من أفقه، وإذا هواتف الرؤى تناديه، وتبوح إليه في نومه بما ضنت به عليه في يقظته.. وإذا الحقيقة بين يديه سافرة، والمعضلة بديهة!! وكم؟ وكم؟ وكم؟ إننا في عالم النوم لنجنى من الثمرات العقلية، والروحية، والنفسية، ما لا نحصل عليه في يقظتنا، بمدركاننا، وحواسنا. ذلك أن النوم إذا قطع صلتنا بعالم الحسّ، وصلنا بعالم الروح.. وكما تأخذ أجسادنا حظّها من طعام وشراب، من عالمها المادي، فإن أرواحنا، ونفوسنا، وعقولنا تتزود في رحلة النوم، من عالم الروح بكل ما تستطيع الوصول إليه منه. فالنوم ليس إلا حبسا للجسد، وإطلاقا للروح. وهو بهذا إنما يعطى الجانب الروحىّ من الإنسان حظه، من التحرر والانطلاق من كثافة المادة، وضغوطها، وظلامها.. وإلّا، فإنه لو ظنّت الروح حبيسة في كيان الجسد، تقوم على حراستها في داخل هذا السجن المظلم- الحواسّ والمدركات- لاختنقت، وانطفأ نورها، ومات شعاعها. وماذا يبقى للإنسان أو من الإنسان إذا عطبت روحه، وانطفأ هذا المصباح الإلهى المشتعل في كيانه؟ إنه لا إنسان بغير روح، وإنه لا وجود لإنسانية الجزء: 11 ¦ الصفحة: 501 فقدت روحها، وإن لم تفقد حياتها.. ومن هنا نستطيع أن نفهم قول الرسول الكريم: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا» .. فهذا يعنى أن الروح قد تخلصت بالموت تخلصا تاما من الجسد، وخرجت بوجودها كلية من سجنه المطبق عليها، وعندئذ بحد الإنسان وجوده كاملا.. فالإنسان في حقيقته روح، وما الجسد إلا منزلا نزلته الروح في مرحلة من مراحل السفر في هذا الوجود! ومن هنا نستطيع أيضا أن نلمح أن البعث بالروح لا بالجسد ... ولهذا مبحث خاص سنعرض له- إن شاء الله! فالذين يستخفون بالنوم، ويمدونه ضرورة من الضرورات الثقيلة المفروضة على الطبيعة البشرية، ويحسبونه داء من تلك الأدواء التي تلحق الإنسان، وتطغى على وجوده، كالطفولة، والشيخوخة- هؤلاء مخطئون أشد الخطأ، إما لجهلهم، الذي يقصر بهم عن إدراك ما لا تلمسه أيديهم، وتذوقه أفواههم، وإما لأنهم ماديون، لا يرون إلا المادة، ولا يتعاملون إلا بها، ولا يجدون في الإنسان إلا أنه حيوان، مخلف بهذا الخلاف المادي من العظم واللحم! وإذا كان «النوم» - على ما رأيت- نعمة جليلة، فإن الله سبحانه وتعالى، قد جعل الليل الذي هو الظرف الطبيعي للنوم- نعمة جليلة أيضا، كما يقول سبحانه: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ.. مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ» (72: القصص) .. فالليل، ستار يغشى الكائنات الحية، ومنها الإنسان، فيسلمها ذلك إلى السكن، ثم النوم!. إن لليل سلطانا قاهرا كسلطان النهار على الأحياء.. هذا النوم، وذاك الجزء: 11 ¦ الصفحة: 502 لليقظة ... ذلك للموت، وهذا للبعث.. «وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى.. ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ» (60: الأنعام) . وقد كان الليل، لسلطانه هذا، إلها، يناظر النهار، ويقاسمه حكم هذا العالم.. فدان كثير من الناس بهذه الديانة المثنوية، فجعلوا الآلهة اثنين، إلها للنور، وآخر للظلمة.. واعتقدوا في إله النور الخير، على حين كان معتقدهم فى إله الظلام أنه شر، وأن الحرب دائرة بينهما، وأن على المؤمنين أن ينتصروا لإله الخير، وأن يرقبوا خلاص العالم، من الظلام، والشر، على يديه ... وإلى هذا المعنى أشار المتنبي بقوله: وكم لظلام الليل عندك من يد ... تحدّث أن المانوية تكذب فهو يجد في الليل طيف محبوبه يلمّ به، ويسعده، فى زورة من زورات الأحلام، وهذا يحدث عن الليل بما يكذب المانوية، التي تعتقد أن الليل شر لا يجىء منه خير! بل إن المتنبي ليجد هذه اليد الكريمة لليل عنده في عالم اليقظة حيث يتخذ من الليل ستارا يخفيه عن أعين الرقباء، فيقول: أزورهم وسواد الليل يشفع لى ... وأنثنى وبياض الصبح يغرى بي وكم تغنى الشعراء بالليل؟ وكم حدا الحداة وهم سائرون في عبابه، مأخوذون بهيبته وجلاله؟. وكم ناجى العبّاد ربهم بالليل، وقطعوا آناءه حمدا وتسبيحا، وركوعا وسجودا؟ إن الليل، وإن لم يستول على الإنسان سلطان النوم فيه، فإن في ظلامه غرصة تحجز الحواس عن الانطلاق، وتمسكها عن العمل، وعندئذ تصحو الجزء: 11 ¦ الصفحة: 503 شاعر الإنسان، وتستيقظ روحه، ومن هنا يكون مهيئا للانصال بالعالم العلوي، والوقوف على موارده، والري من مشاربه..! ولأن الليل هو الظرف الطبيعي للنوم- كما قلنا- فقد أقسم الله سبحانه وتعالى به، وسمى سورة من القرآن الكريم به، تنويها بقدره، وإشارة ترفع تلك الغشاوة التي تنظر إليه نظرة باردة، أو شاردة، أو متهمة.. فقال تعالى: «وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى» (1- 2 الليل) وقال سبحانه: «وَالشَّمْسِ وَضُحاها وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها، وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها» (1- 4: الشمس) وقال سبحانه: «وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ» (17: الانشقاق) . - وفي عطف النهار على الليل في قوله تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ» - تقرير لتلك الحقيقة الواقعة، وهى أن الليل، وإن كان هو الظرف الطبيعي للنوم، فإن ذلك لا يمنع أن يكون النهار ظرفا للنوم أيضا، حيث ينام الناس بالليل، وينامون كذلك بالنهار، وإن كان النوم بالليل أصلا، والنوم بالنهار فرعا ... ولهذا قدم الليل على النهار في هذا المقام.. ومن جهة أخرى، نجد في قوله تعالى: «وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ» وإن جاء مجاورا للنهار، فإنه معطوف على قوله تعالى: «مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ» .. وهذا يعنى أن النهار، وإن كان الظرف الطبيعي للسعى والعمل، فإن ذلك لا يمنع من أن يكون الليل ظرفا للسعى والعمل! كما هو واقع في الحياة. فالناس يعملون بالنهار، ويعملون بالليل، كما ينامون بالليل، وينامون بالنهار.. وعلى هذا يكون مفهوم النظم القرآنى هكذا: ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله، بالليل والنهار. ولكن أين هذا من ذاك؟ هذا كلام، وذاك قرآن..! الجزء: 11 ¦ الصفحة: 504 وفي قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» وفي استدعاء السمع هنا، دون حواس الإنسان وملكاته الأخرى- فى هذا إشارة إلى أن السمع الذي يحقق إدراكا، ويعطى فهما، ثم يعطى لهذا الفهم، وذلك الإدراك، ثمرة- هو السمع الذي يخلى له الإنسان حواسه كلها، ويعطيه وجوده كله، على ما يكون عليه الإنسان في الليل، وقد اشتمل عليه، وأمسك كل حواسه، فلم يبق الإنسان إلا سمعه المرهف، الموجه إلى العالم الخارجي، وما يجىء منه ... وذلك ما يكون عليه الإنسان، حين يقع تحت حكم الآية: «وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ» ، فيحتويه الليل، ويبسط عليه سلطانه. قوله تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» . مناسبة هذه الآية للآية التي قبلها، أنهما جميعا في معرض الدلالة على قدرة الله سبحانه، والكشف عن أنعمه وآلائه.. ثم إن البرق إنما يظهر سلطانه على أئمّه، حين يلمع بالليل الذي جاء ذكره في الآية السابقة. ورؤية البرق، إشارة دالة على الرحمة المرسلة من عند الله، على يد هذا السحاب الذي ينطلق البرق من خلاله.. فإذا لمع البرق توقع الناس الغيث، واختلفت توقعاتهم له بين يأس ورجاء، وخوف وطمع.. وذلك أن البرق وإن كان رسولا من رسل الغيث، إلا أنه قد يحىء بالغيث، وقد لا يجىء.. فهناك برق يسمى برق الخلّب، وهو الذي يبرق ولا يصحبه مطر.. ومن هنا كان قوله تعالى: «خَوْفاً وَطَمَعاً» - إشارة إلى أن لمعان البرق، وإن طلع على الجزء: 11 ¦ الصفحة: 505 الناس بما يبشر بالغيث، فإنّه يضع المشاعر المترقبة للمطر، المتلهفة عليه، فى موضع متأزم، بين الخوف والرجاء.. بل إن الخوف ليغلب على الرجاء، وخاصة إذا كانت الحاجة إلى المطر شديدة، والطلب له ملحا وهذا هو بعض السرّ في تقديم الخوف على الطمع.. إذ كانت الآية الكريمة منجهة أوّلا إلى من يقيمون حياتهم على ماء المطر، مثل سكان الصحارى، ونحوها. فهؤلاء إذا تأخر نزول المطر أياما، وأمسكت السماء رحمتها قليلا عنهم، فزعوا، واضطربوا، وتعلقت أنظارهم بالسماء، يرقبون السحب، ويرصدون مسيرتها. فإذا لمع البرق، بدا لهم منه الوجه الضاحك المبشر بالخير، فقرحوا، واستبشروا.. ولكن سرعان ما يطلع عليهم شعور أسود كالح، يقطع عليهم هذه الفرحة، كأنه يقول لهم: وما يدريكم أن وراء هذا البرق مطرا؟ ألا يجوز أن يكون برفا خلبا؟ وهنا يأخذ الخوف مكان الصدارة على مشاعرهم، شأن الحريص على الشيء، المتلهف إليه ... يغلب عليه الخوف على فقده أكثر من الطمأنينة إلى بقائه!. قوله تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ» قيام السماء والأرض بأمر الله، هو حفظ نظامهما، والإمساك بهما على هذا النظام الذي أوجدهما الله سبحانه وتعالى عليه.. وأمر الله، هو سلطانه وقدرته.، وهذا يعنى أنه إذا ساغ لتفكير إنسان أن يضيف هذا الوجود، فى أرضه وسمائه إلى غير الله سبحانه، كما يقول بذلك الملحدون من الطبيعيين الذين ينسبون الموجودات إلى الطبيعة، ويقولون إن الأشياء وجدت هكذا بطبيعتها- نقول إنه إذا ساغ لتفكير إنسان أن يقول مثل هذا القول، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 506 فكيف يسوغ له أن يقول إن هذا التجاوب بين الموجودات، وهذا النظام الذي يمسك بها، ويولّف منها نغما موسيقيا منسجما- هو من عمل الطبيعة ذاتها؟ إن هذا يعنى أن الطبيعة عاقلة، حكيمة، مدبرة، عالمة، قادرة.. وهذه هى بعض صفات الألوهية.. فلم تسمّى إذن الطبيعة طبيعة، ولا تسمى إلها؟ إن المسافة قريبة جدا هنا بين الطبيعة وبين الإله.. وإنه لأقرب إلى العقل والمنطق أن يقوم على الموجود مدبّر واحد، يولف بين وحداته، ويجمع بين أشتاته، بدلا من قيام مدبرات تقوم في وحدات الطبيعة، وتجعل منها نظاما واحدا! - وفي قوله تعالى: «ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ» . إشارة إلى أن أمر الله وسلطانه، الذي تقوم به السموات والأرض، أن تدعوا من القبور بعد موتكم، دعوة واحدة، فإذا أنتم قيام تنظرون.. وهذا يعنى أن البعث بعد الموت، نظام قائم في هذا الوجود، أشبه بنظام دوران الكواكب في أفلاكها، والليل والنهار في فلكهما. وفي العطف «بثم» إشارة إلى أن هذه الدعوة التي يدعى بها الموتى لم يجى وقتها بعد، وأنها أمر مستقبل، لا يعلم أحد متى يكون.. وإن كان من المعلوم أنها لا تقع إلا بعد أن يموت الناس جميعا.. وفي تصدير الجملة الخبرية «إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ» بأداة المفاجأة «إذا» - إشارة إلى أن البعث من القبور سيعقب الدّعوة مباشرة، بلا مهل ... كما يقول سبحانه: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ» (51: يس) . والفجاءة إنما نقع على أولئك الذين لا يرجون بعثا، ولا يؤمنون بالحياة الآخرة.. ولهذا فهم إذا بعثوا أخذهم الدهش والعجب، وقالوا ما حكاه القرآن الكريم عنهم: «يا وَيْلَنا.. مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟» (52: يس) .. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 507 قوله تعالى: «وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ» . القانت: الخاضع المستجيب لغيره، طوعا. والآية تعقيب، على الآية السابقة، وأن هذا الوجود في سمائه وأرضه، هو خاضع لأمر الله، مستجيب له.. وأن الموتى إذا دعوا من قبورهم لا يملكون إلا أن يستجيبوا لما دعاهم إليه سبحانه وتعالى: «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» (93: مريم) وفي التعبير عما في السموات والأرض من مخلوقات، بلفظ «من» التي للعقلاء- إشارة إلى أن هذه الموجودات، محكومة بنظام، مسيّرة بحكمة وعلم، حتى لكأن في كل كائن منها عقلا مدبّرا، وموجّها.. فهى بهذا الاعتبار، عاقلة، مدركة! .. قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» . وهذه الآية تعقيب كذلك على الآية السابقة، وهى تقرر أن من له من في السموات والأرض، هو الذي بدأ الخلق، وهو الذي يعيده كما بدأه.. والمراد بالخلق هنا، المخلوقات كلها.. وهذا يعنى أن الوجود في حركة دائمة، وفي هدم وبناء مستمرّين.. وأن الوجود في أية لحظة، هو على غير صورته في اللحظة السابقة أو اللاحقة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» .. فمعنى الهلاك هنا هو التحول، والتبدل، وتغاير الصور والأشكال، وليس معنى الهلاك الفناء المطلق ... إذ أن المادة لا تفنى، وإنما تتبدّل وتتحول، وتأخذ قوالب مختلفة! وكذلك ما جاء في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 508 قوله تعالى: «كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ» هو من هذا المعنى، وأن الفناء هو زوال صور الأشياء، وقوالبها وأخذها صورا وقوالب أخرى.. فعملية الخلق مستمرة دأبا، وتقابلها من جهة أخرى عملية الموت، أو البلى، أو الفناء، أو الهلاك.. وكلها هنا بمعنى واحد، وهو التحول والتبدل، لا الفناء المطلق الأبدى، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى، «كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ» (104: الأنبياء) . وقوله تعالى: «وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» . «أهون» صيغة تفضيل، وأصله من هان الأمر، أي خف بعد ثقل، وأمر هين: خفيف الحمل، قليل المئونة، ومنه قوله تعالى: «قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ» . وليس بالإضافة إلى الله سبحانه وتعالى، ما هو هين، وأهون منه.. فكل شىء في قدرة الله، لا يعجزه سبحانه، شىء في الأرض ولا في السماء.. لا يتكلف- سبحانه وتعالى- لأمر جهدا.. «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» .. يستوى في هذا كبير الأمور وصغيرها.. السموات والأرض ومن فيهن، هى في قدرة الله كالذرة أو البعوضة.. «ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ» . فهذا التفضيل «أهون» - منظور فيه إلى قدرة الإنسان، وإلى ما يقوم على صنعه من أشياء.. فاختراع الشيء، لا يتوصل إليه الإنسان إلا بعد جهد، ومعاناة، وتبديل وتغيير، وتسوية، وحذف وإضافة، حتى يستقر الشيء على الصورة التي يرتضيها.، فإذا انتهى الإنسان إلى تلك الصورة، كان حلها وتركيبها، أمرا هينا عنده، لا يتكلف له جهدا.. إن مثال الصورة قائم بين يديه، وحاضر في تفكيره، وما عليه إلا أن يضع الأجزاء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 509 التي تناثرت أشلاؤها، فى هذا القالب، فإذا الصورة قائمة على ما كانت عليه ... - وفي قوله تعالى: «وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» - إشارة إلى أن قوله تعالى: «وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» هو من قبيل التمثيل، بضرب هذا المثل الله، منتزعة صورته من أفعال الخلق، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.. فهو سبحانه: «العزيز» الذي تعنو لعزته وسلطانه كل عزة، وكل سلطان، ويستجيب لقدرته كل موجود في هذا الوجود.. «الحكيم» الذي تقوم عزته، ويعمل سلطانه، ويمضى حكمه- بالحكمة والعدل، والإحسان. الآيات: (28- 32) [سورة الروم (30) : الآيات 28 الى 32] ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) الجزء: 11 ¦ الصفحة: 510 التفسير: قوله تعالى: «ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» . هذا مثل آخر، ضربه الله سبحانه، من واقع الناس، وعلى مستوى وجودهم فيه، ليروا من خلال هذا المثل ما ينبغى لله من كمال. ففى الآية السابقة على هذه الآية، وهى قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ» مثل مضروب من واقع الناس في حياتهم، وهو أن تشكيل الأشياء على صورة معروفة للناس، أهون عليهم من ابتداع هذه الصورة، واختراعها.. وكذلك- مع بعد ما بين قدرة الله وقدرة الناس- يكون بعث الموتى من قبورهم، وإعادتهم إلى الصورة التي كانوا عليها، ليس أمرا مستبعدا، حتى ينكره المنكرون، ويمارى فيه الممارون، إذ كان ذلك البعث إعادة للشىء إلى ما كان عليه، وإعادة الشيء- كما هو معروف عندهم ومسلّم به لديهم- أهون وأيسر من خلقه ابتداء.. وفي هذه الآية مثل للذين يجعلون لله أندادا، ويتخذونهم أربابا، يحبونهم كحب الله، بل ويؤثرونهم بالحب والولاء ... ! وفي هذا المثل يطلب إلى المشركين أن ينظروا إلى أنفسهم، وإلى الوضع الذي بينهم وبين عبيدهم، وما ملكت أيمانهم.. أيرضى هؤلاء السادة أن يسلّموا لعبيدهم- وهم بشر مثلهم- أن يشاركوهم فيما أتاهم لله من مال ومتاع؟ وأن يقفوا منهم موقف الند والشريك؟ وأن يحاسبوهم فيما يجرون عليه من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 511 تصرفات في هذا المال وذلك المتاع؟ أيقبل السيد أن يكون لعبده يد على ما ملكت يده فلا يتصرف في شىء حتى يأخذ رضاه وموافقته؟ ذلك مالا يرضاه ولا يقبله سيد! وإلا فأين السيادة؟ وأين سلطانها المبسوط على ما بين يديها؟. هذا، والأمر يجرى بين مخلوقين لله، من سادة وعبيد، وفي مال الله، وفيما رزق، وأنعم من نعم!. فكيف إذا خرج هؤلاء المشركون عن دائرة أنفسهم، ينقلب هذا المنطق، حتى تنعكس هذه الصورة، وحتى يجعلوا خلقا من خلق الله، وعبيدا من عبيده، شركاء له، فيما ملك ملك خالص له، لم يفده من أحد، ولم يتلقه من مخلوق؟ كيف يقبل هذا الضلال عقل، ويطمئن إليه عاقل؟ .. فهل مع هذا البيان الواضح المبين، ومع هذه الحجة الدامغة القاطعة، يقبل المشركون أن يكون مع الله شريك، يرجون رحمته، أو يخافون عذابه؟ قد يكون! وهو كائن فعلا، فما أكثر المشركين الذين عميت بصائرهم، وزاغت قلوبهم، فلم يروا، فى هذا البيان المبين، ولا في تلك الحجة القاطعة، ما يقيم لهم طريقا إلى الله.. وماذا تجدى الآيات، وماذا تغنى الحجج، إذا لم تجد الآذان المصغية، ولا العقول المدركة المستبصرة؟ «كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» .. فالعقلاء وحدهم، هم الذين ينتفعون بآيات الله، ويهتدون بهديها، يتلقون العبرة والعظة منها ... قوله تعالى: «بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ. فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» ؟. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 512 هو إضراب على ما يتلقاه المشركون من آيات الله المفصلة.. إنهم لا ينتفعون بها، ولا يجنون من ثمرها المبارك الطيب شيئا، بل يظلون على ما هم عليه من ضلال وشرك.. إنهم منقادون لأهواء غالبة عليهم، متسلطة على عقولهم.. ومن كان هذا شأنه، فلن ينقاد إلا بمقود هواه، ولا يستجيب إلا لنداء شيطانه.. وفي قوله تعالى: «بِغَيْرِ عِلْمٍ» .. إشارة إلى أن هذا الهوى المتسلط على المشركين، هو هوى أعمى عمى مطبقا، لا تنفذ إليه شعاعة من ضوء النهار الساطع ... فقد يكون الإنسان متبعا هواه، ثم إذا نبّه تنبّه، وإذا أرشد رشد ... شأن كثير من المشركين، الذين عاشوا في شرك الجاهلية، مستسلمين لأهوائهم، فلما أدركهم الإسلام، وطلعت عليهم شمسه، صحوا من نومهم، واستقبلوا نور الله، فأبصروا من عمى، واهتدوا من ضلال ... وقوله تعالى: «فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ» .. إشارة إلى هؤلاء المشركين الذين جمدوا على شركهم، وأقاموا على ضلالهم، وأنهم لن يتزحزحوا عما هم عليه من ضلال، ولن يخرجوا عما هم فيه من شرك، لأن الله سبحانه وتعالى قد أركسهم في هذا الضلال، وأغرقهم في هذا الشرك، وخلّى بينهم وبين أهوائهم: «مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ» .. إنهم لن يقبلوا هدى، ولن يطبّ لدائهم طبيب.. وهكذا يعيشون في ضلالهم، ويموتون به ... فإذا جاء وعد الله، ووقفوا موقف الحساب والمساءلة، لم يكن لهم من جزاء إلا النار: «وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ» يدفعون عنهم بأس الله. قوله تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها.. لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» :. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 513 هو أمر للنبىّ الكريم، أن يمضى على طريقه، وأن يدع هؤلاء المشركين وما أركسوا فيه.. وإقامة الوجه للدّين هو، اتجاه القاصد إليه، بكل كيانه، من غير التفات إلى شىء غيره.. والخطاب، وإن كان خاصا للنبىّ، فإنه عام، يدخل فيه كل مؤمن. - وقوله تعالى: «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها» هو جملة تفسيرية، للدين الحنيف.. ففطرة الله، منصوب بفعل محذوف تقديره، أعنى، أو أريد، أو نحو هذا.. فالدين الحنيف، وهو الإسلام، هو فطرة الله التي فطر الله الناس عليها، وخلقهم على استعداد فطرى لقبول هذا الدين، كما يقول الرسول الكريم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجّسانه» . وهذا التأويل- والله أعلم- هو أولى من نصب «فطرة الله» على الإغراء، بتقدير لزم فطرة الله، أو نحو هذا.. لأن ذلك يقطع الصلة بين الدين الحنيف وفطرة الله، ويجعل كلا منهما كيانا مستقلا، على حين يجعلهما التأويل الذي تأولناه، شيئا واحدا.. وهو الأولى! وفطرة الله، هى ما أودع الله سبحانه وتعالى في الإنسان من قوى عاقلة، وطبيعة سليمة، فى أصل الخلقة، تقبل الطيب، وتنفر من الخبيث.. وهذا هو ملاك أمر الدين، دين الله، الذي ارتضاه لعباده.. وهذه الفطرة، تعرض لها عوارض كثيرة تشوّه معالمها، أو تفسد طبيعتها، شأنها في هذا شأن حواس الإنسان، من سمع، وبصر، وذوق، ولمس، وشم ... وكما أن لما يعرض للحواس من آفات، دواء تداوى به، كذلك جعل الله سبحانه للفطرة ما تتداوى به، إذا هى أصيبت بآفة من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 514 الآفات، وذلك بما يحمله رسل الله من آيات الله، وما في هذه الآيات من هدى ونور.. - وقوله تعالى: «لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ» .. هو خبر، مراد به الأمر.. والتقدير، لا تبدّلوا خلق الله، وهو الفطرة، ولا تفسدوا هذا الخلق السوىّ، بما تدخلون عليه من أهواء، بل عليكم بحراسة هذه النعمة، وعرضها على هدى الله، إذا طاف بها طائف من الضلال. - وقوله تعالى: «ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ» .. الإشارة هنا إلى الدين، فى قوله تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً» .. والدين القيم، هو الدين المستقيم على فطرة الله التي فطر الناس عليها.. - وقوله تعالى: «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» .. الناس هنا هم المشركون، الذين عموا عن أن يروا هذه الحقيقة، وأن يقع لعلهم أن هذا الدين هو الدين المطلوب للفطرة، المتجاوب معها. قوله تعالى: «مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ- مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» .. المنيب: الراجع إلى الله، المتجه إليه، المقيم وجهه لدينه، مجافيا كلّ دين غيره.. و «منيبين» .. كلام مستأنف، هو إجابة عن سؤال مقدّر، دلّ عليه ما سبق، وهو قوله تعالى: «لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ» .. وذلك أنه لما كان قوله تعالى: «لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ» خبرا يراد به الأمر، أي لا تبدّلوا خلق الله- وقع في نفس الذين سمعوا هذا الأمر، وأرادوا الاستجابة له، سؤال، هو: كيف نتصرف حتى لا نبدّل خلق الله؟ فكان الجواب: أنيبوا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 515 إلى ربكم، واتقوه، وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين» .. فقوله تعالى: «مُنِيبِينَ إِلَيْهِ..» هو في تقدير أنيبوا إلى الله، ولذا عطف عليه فعل الأمر: «وَاتَّقُوهُ» .. هذا، وإذا كانت قواعد النحو لا تتسع لهذا التحريج، فإن أسلوب القرآن لا تحكمه قوالب النحو، على ما انتهى إليه اجتهاد المجتهدين في ضبط قواعده..! وإذا كان لا بد من احترام هذه القواعد، فإن في مجال التخريج متسعا، لقبول كل شارد ووارد.. وبهذا فإن لنا أن نقول: إن «مُنِيبِينَ إِلَيْهِ» منصوب بفعل محذوف تقديره: كونوا «منيبين إليه» أو نحو هذا.. وقوله تعالى: «وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» .. معطوف على «منيبين» الذي هو في قوة فعل الأمر، أو على فعل أمر مقدر.. والإنابة إلى الله، هى الرجوع إليه، وذلك بتصحيح الفطرة، ومعالجة كل ما عرض لها من آفات، ولهذا جاء بعد ذلك، الأمر بتقوى الله، وإقامة الصلاة حيث يلتقى هذا الأمر مع فطرة سليمة، أناب أصحابها إلى الله، ورجعوا إليه، بعد أن بعدت بهم الطريق عنه. وقدّم الأمر بالتقوى على إقامة الصلاة، لان التقوى، وهى خوف الله وخشيته، هى التي تجعل للصلاة ثمرتها.. فالصلاة، وأية عبادة من العبادات، أو قربة من القربات، لا محصّل لها إلا إذا كانت عن إيمان بالله، ومعرفة به، وولاء وخشوع لجلاله وعظمته، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ» وقوله سبحانه: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 516 وقوله تعالى: «مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» .. هو بدل من قوله تعالى: «مِنَ الْمُشْرِكِينَ» .. أي ولا تكونوا من المشركين الذين فرقوا دينهم باختلافهم فيه، حتى تفرقهم شيعا وأحزابا.. لأنهم يدينون بالباطل، والباطل وجوه كثيرة، وطرق متشعبة، فبعضهم يعبد هذا الضم أو ذاك، وبعضهم يعبد النار، وبعضهم يعبد الملائكة، وبعضهم يعبد الشمس والقمر.. ولكل جماعة مع معبودها أسلوب عبادة، وطقوس صلوات وقربات، وهى عند نفسها أنها على الهدى، وأن كل ما سواها في ضلال وخسران.. وليس هكذا الحق، فإنه وجه واحد، وطريق واحد..! الآيات: (33- 40) [سورة الروم (30) : الآيات 33 الى 39] وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) الجزء: 11 ¦ الصفحة: 517 التفسير: قوله تعالى: «وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ» . تشير الآية الكريمة إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها، والتي هى حظ مقسوم في الناس جميعا، يولدون بها كما يولدون على هذه الصورة الإنسانية، وما فيها من جوارح، وما في كيانها من قوى عقلية، ونفسية، وروحية، ثم تمضى بهم الحياة، فيختلفون أشكالا، ويتعددون صورا وأنماطا، فى ألسنتهم، ومدركاتهم، ومشاعرهم.. وهناك حال واحدة، تأخذ فيها الفطرة مكانها في الناس جميعا، حتى أولئك الذين أفسدوا فطرتهم بكفرهم وضلالهم- تلك الحال هى ما يلبس الناس من ضر، وما ينزل بهم من بلاء وكرب.. ففى تلك الحال، يعود الإنسان إلى فطرته، أو تعود إليه فطرته، وإذا هو- من غير حساب أو تقدير، وعلى غير وعى أو إدراك- قد فزع إلى الله، ولاذبه من وجه هذا البلاء المطل عليه.. وفي هذه التجربة التي يمر بها كل إنسان مرات كثيرة في حياته، شاهد يقوم في كيان الإنسان، يشهد بأن الله في ضمير كل إنسان، وفي وجدان كل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 518 كافر، ومشرك، وإن كان هو ينكر ذلك، ولا يعترف به.. ولكن إذا مسه الضر، وكربه الكرب، أخذته صحوة كصحوة الموت، وإذا نفسه قد أشرقت بنور الحق، فعرف الله ومد يده إليه.. ولكن سرعان ما يخبو هذا النور، ويطغى عليه ظلام كثيف، حين تزال عنه هذه الغاشية، وتزايله تلك الصحوة، وإذا هو على ما عهد عليه نفسه من كفر وضلال ... وقوله تعالى: «وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ» تقرير لهذه الحقيقة التي أشرنا إليها، وأن الناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم على سواء في اللّجأ إلى الله، والضراعة إليه، حين ينزل بهم الضر، ويحتويهم البلاء.. ثم تختلف بهم الحال بعد هذا، كما كانت حالهم مختلفة من قبل.. فالمؤمنون على اتصال بالله في السراء والضراء، وعلى إيمان به وولاء له، فى اليسر والعسر. أما غير المؤمنين فإنهم لا يعرفون الله، ولا يؤمنون به، إلا حين تضطرب بهم سفينة الحياة، ويغشاهم الموج من كل مكان.. هنالك يدعون الله مخلصين له الدين، كما دعا فرعون ربه، وآمن به حين أدركه الغرق!. وقوله تعالى: «ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ» . تصوير لحال هؤلاء الكافرين بالله، حين يرفع عنهم البلاء، وتتداركهم رحمة الله.. إنهم لا يكادون يخرجون من يد الهلاك، حتى ينسوا ربهم الذي دعوه من قبل، وكأنهم لم يكن بينهم وبينه شىء! وفي العطف «بثم» بين الفزع إلى الله، وبين الغوث، واستجابة الدعاء، إشارة إلى أنه ليس في كل غوث يغاث المستغيثون.. فذلك مرهون بتقدير الله وحكمته، وفيما قضى به في عباده.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 519 ثم إن الاستجابة، إذا وقعت لا تقع على حسب تقدير الإنسان لحدود زمانها، ولا للصورة التي تقع عليه.. فذلك أيضا، مرهون بتقدير الله، وعلمه، وحكمته.. وهذا مما يبتلى به العباد.. فالمؤمنون يدعون الله تضرعا وخفية، ولا ييأسون من روح الله ورحمته أبدا.. حتى أنه إذا لم يستجب لهم، ووقع ما يكرهون، أصبح هذا المكروه عندهم محبوبا مستساغا، لأنه من عند الله، وبتقدير الله، وبإرادته فيهم.. أما الذين لا يؤمنون بالله، فلا يزيدهم ذلك إلا كفرا بالله، وبعدا عنه.. - وفي قوله تعالى: «إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ» - «إذا» هنا فجائية، وهى ذات دلالتين: أولاهما: مبادرة المشركين والضالين، وإسراعهم إلى ما كانوا عليه من شرك وضلال: وثانيتهما: أن ذلك خروج على غير المنتظر، من قوم كانوا إلى لحظات قليلة يتجهون إلى الله، ثم إذا هم يحولون وجوههم عنه، لا لسبب، إلا ما ساق إليهم الله من خير، وما مسهم به من رحمة!! وهذا أمر يثير العجب، والدهش والاستغراب.. أفهكذا يقابل الإحسان، ويستقبل الفضل؟ ولكن متى كان للعمى أن يبصروا، وللصم أن يسمعوا؟ وفي قوله تعالى: «مِنْهُمْ» أي من الناس، والمراد بالفريق، المشركون الضالون. وفي إضافة المشركين إلى «ربهم» - إشارة إلى فداحة هذا الظلم، الذي ركبه هؤلاء المشركون، فجحدوا نعمة ربهم، الذي استجاب لهم، ودفع البلاء عنهم!. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 520 قوله تعالى: «لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» . اللام في «ليكفروا» هى لام التعليل، فشركهم بالله، هو علّة لكفرهم بما آتاهم الله من نعم، فهم بهذا الشرك. ينكرون نعم الله عليهم، ولا يضيفونها إليه، بل يجعلونها لمعبوداتهم التي يعبدونها من دون الله.. وفي قوله تعالى: «فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» انتقال من الغيبة إلى الخطاب، حيث يواجه هؤلاء المشركون بهذا الوعيد من ربّهم.. فليتمتعوا بما هم فيه، وسوف يعلمون ما يجره عليهم كفرهم وشركهم من بلاء شديد، وعذاب أليم. قوله تعالى: «أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ» . السلطان: الحجة، البرهان.. وفي الآية إضراب عن خطابهم، وعن الحديث إليهم، وإبعادهم من مقام الحضور، بعد أن تلقوا هذا الوعيد الشديد.. ثم التفات إلى من هم أهل للخطاب من المؤمنين، ليحاكم هؤلاء المجرمون أمامهم.. إنهم أشركوا بالله، فما الحجة التي بين أيديهم على هذا الشرك؟ أأنزل الله عليهم كتابا ينطق بهذا الضلال الذي هم فيه؟ أم قام فيهم رسول من عند الله يدعوهم إلى هذا الذي يدينون به؟ ما برهانهم على هذا؟ وما الحجة التي بين أيديهم والتي يعبدون هذه المعبودات عليها؟ إنهم مطالبون بأن يقيموا على هذه المعبودات حجة، من عقل، أو كتاب، أو رسول ... وإلّا فهو الضلال المبين، والمصير المشئوم. «وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» (117 المؤمنون) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 521 قوله تعالى: «وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ» . الناس هنا، هم مطلق الناس.. فإن من شأن الإنسان من حيث هو إنسان، إذا أذاقه الله من رحمته، وأفاض عليه من نعمه.. فرح، ورضى.. وإن أصابه سوء تكرّه، وساء ظنّه، وطاف به طائف اليأس والقنوط! «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ» (19- 23 المعارج) والناس في هذا درجات متفاوتة.. فالمؤمنون، على حال غير حال المشركين والكافرين.. ثم إن المؤمنين ليسوا على حال واحدة.. بل هم درجات.. والدرجة التي يتحقق بها إيمان المؤمن على صورة سويّة محمودة، هى ألا يستبدّ به الفرح إذا لبسته نعمة، وألا يدخل عليه اليأس والقنوط من رحمة الله إذا مسّه ضرّ، وأصابه سوء.. فهو على رجاء أبدا من رحمة الله، وإنه- وهو في البلاء- ليستسيغ طعمه، وينزله منزل الرضا والتسليم من نفسه.. مفوضا أمره إلى الله، راضيا بما قسم الله له.. قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» . الرؤية هنا بصرية، وعلمية معا.. أي أنها رؤية بالنظر في وجوه الحياة وفي أحوال الناس، ومن هذه الرؤية يجىء العلم الذي يرى منه المبصرون أن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 522 الله سبحانه لم يجعل الناس على سواء، فيما قدّر لهم من أرزاق في هذه الدنيا، كما يقول سبحانه: «نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا..» (32: الزخرف) فهذا العلم الذي يجىء به النظر في أحوال الناس، وفي اختلاف أرزاقهم- يدلّ على أن ذلك لم يكن إلا بإرادة عليا، وعن تقدير لمالك الملك، المتصرف فى العباد.. فيبسط الله الرزق ويوسعه لبعض الناس، ويضيّقه ويقدره لآخرين، بحكمة وتقدير.. فالأرزاق بيد الله، يعطى منها ما يشاء لمن يشاء.. ذلك ما يعرفه المؤمنون بالله، ويرضون بما قسم الله لهم، فلا يبطر المؤمن إذا أصابته نعمة، ولا ييأس، أو يحزن، إذا قدر الله عليه رزقه.. «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» .. أما غير المؤمنين فإنهم لا يرون لله في ذلك شيئا.. وإنما هى الدنيا، يقتتل فيها الناس، ويتخاطفون ما عليها، كما تتخاطف الذئاب فريسة وقعت لها.. فمن وقع ليده أو فمه ما يشبعه رضى واطمأن، ومن لم يقع ليده أو لفمه شىء، أغتمّ وحزن، ومات أسى وحسرة! وهذه الآية، هى أشبه بتعقيب على الآية التي قبلها، وهى قوله تعالى: «وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ» .. ذلك أنه لو نظر الإنسان إلى أحوال الدنيا وتقلبات الأيام، وتبدّل الأحوال بالناس، ثم كان له من هذا النظر عبرة وموعظة- لكان له من ذلك موقف رشيد حكيم مع ما يبتلى الله سبحانه، العباد، من نعم ونقم.. فإذا ساق الله تعالى إليه مزيدا من النعم والإحسان، لم يستبدّ به الفرح، ولم يأخذه الغرور، لأنه يعلم أن ذلك إنى تبديل، وتحويل، وزوال.. وأنه إذا مسه سوء، وأصابه ضرّ، لم يقتله الجزع، ولم يخنقه اليأس والقنوط، لأنه يعلم- بإيمانه بالله- أن تلك الحال لن تدوم، وأن مع العسر يسرا، وأن بعد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 523 الضيق فرجا وسعة، كما يقول سبحانه «سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً» وكما يقول جل شأنه «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً» . قوله تعالى: «فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» وهذه الآية كذلك تعقيب على سابقتها، لأنه إذا علم الإنسان علما يقينيا، أن الله هو الذي بيده كلّ شىء، وأنه هو سبحانه الذي يجرى أرزاق العباد كما شاء وقدّر- إذا علم الإنسان هذا العلم، سخت نفسه بالعطاء والبذل، وسمحت يده بالإحسان ببعض ما آتاه الله، وخاصة ما كان متعلقا بذي القربى، واليتامى والمساكين.. فهؤلاء لهم حقوق في أموال ذوى المال، وقد أوجبها الله لهم، فى تلك الأموال وجعل أداءها فرضا واجب الأداء، لا تبرأ الذمة إلا بأدائه. وشتان بين إنسان يعلم أن هذا المال الذي في يده، ليس له فيه شىء، وأن سعيه وكدّه لم يحصّل له إلا ما قدّره الله، وبين من يرى أن هذا المال الذي جمعه هو ثمرة عمله وكدّه، حتى ولو كان وارثا له.. إنه ابن المورّث وكفى!. فالأول لا يحرص كثيرا على هذا المال، ولا يضنّ به على الحقوق الواجبة لله فيما أعطاه الله.. لأنه إنما يعطى مما أعطاه ربّه، ولا يرى هذا المال الذي فى يده إلا وديعة لله عنده، يأكل منه بالمعروف، ويؤدّى ما أمره به الله تعالى فيه.. إنه ينظر إلى هذا المال على ضوء ما يشير إليه قوله تعالى: «وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ» (7: الحديد) فهو خليفة لله» ووكيل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 524 عنه، فى هذا المال الذي أعطاه الله، وليس للخليفة أن يخرج عن أمر من استخلفه، وما كان للوكيل أن يذهب مذهبا غير الذي رسمه له موكّله. وأما الثاني، الذي يرى أن المال الذي معه، هو من جمعه، وكده، فإنه يتصرف في هذا المال تصرف المستبدّ بما يملك ملكا خالصا، لا يرى لأحد شيئا معه.. كذلك فعل قارون، وكان جوابه على من دعاه أن يبتغى بما آتاه الله الدار الآخرة، أن قال: «إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي!» (78: القصص) وقوله تعالى: «ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ» - الإشارة هنا إلى البذل والإنفاق، على ذوى القربى والمساكين وابن السبيل.. أي هذا الإنفاق فى هذا الوجه، هو خير مدخر، للذين يريدون بما أنفقوا وجه الله، ويبتغون مرضاته، بامتثال أمره، وهؤلاء هم المؤمنون بالله.. أما غير المؤمنين، فإنهم إذا أنفقوا في هذا الوجه، فلا ينالون بما أنفقوا خيرا، لأنهم لم ينفقوا ما أنفقوا وهم ناظرون إلى الله، مؤمنون به، ممتثلون أمره، وإنما أنفقوا ما أنفقوا إرضاء لنزعات نفوسهم، ووساوس خواطرهم.. وقوله تعالى: «وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» - الإشارة للمنفقين المؤمنين، الذين يريدون بما أنفقوا وجه الله، فهؤلاء يتقبل الله سبحانه وتعالى منهم ما أنفقوا، ويضاعف لهم الجزاء الطيب عليه.. كما يقول سبحانه: «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» (27: المائدة) وكما يقول جل شأنه: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (26: يونس) وكما يقول سبحانه: «وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ» (37: سبأ) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 525 قوله تعالى: «وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ» . الربا: هو الزيادة والنماء.. يقال ربا الشيء يربو، أي نما وزاد، ومنه الربوة، وهى ما ارتفع على ما حوله من الأرض. والربا، فى لسان الشريعة الإسلامية، هو القرض في مقابل عوض.. وقوله تعالى: «وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ» - معطوف على قوله تعالى: «ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» - فهو في تقدير، ما أنفقتم من خير، وما آتيتم من مال لذوى القربى واليتامى والمساكين تريدون به وجه الله، فهو خير عند الله، تجزون به خيرا وتلقون فوزا وفلاحا.. وما آتيتم من مال تريدون به أن يربو ويزداد في أموال الناس، فلا يقبله الله، ولا يزكيه.. وقد سمى هذا المال المعطى، ربا، لأنه أعطى وهو منظور إليه على أنه يربو ويزيد، ثم يعود إلى صاحبه أضعافا مضاعفة.. - وفي قوله تعالى: «لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ» - إشارة إلى أن ربا هذا المال، إنما يربو ويزداد بما يأكل من أموال الناس.. لأنه إنما يربو ويزداد من أموال من أخذوه، ويرعى في أموالهم، ويلتهمها التهاما.. فهو آفة تدخل على الذين يأخذونه، فيغتالها، ويعيث فسادا فيها، ويرعى كل صالحه منها.. وهذا يعنى أن الذين يقترضون بالربا إنما يجنون على أنفسهم، بهذا الوباء الذي يدخلونه عليهم، ويخلطونه بأموالهم.. - وقوله تعالى: «وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 526 الْمُضْعِفُونَ» - أي أن ما يعطى من مال قرضا حسنا، بلا مقابل وعوض، هو عمل من أعمال البر، يتقبله الله ويضاعفه للمقرضين، فيبارك عليهم هذا المال، فى الدنيا، ويجزيهم الجزاء الحسن عليه في الآخرة.. هذا إذا كان مرادا به وجه الله، ومعطى من يد مؤمنة بالله، تريد بهذا القرض، تفريج كرب المكروبين، وسدّ حاجة المحتاجين.. أما إذا كان القرض لغير هذا الوجه، فلا مكان له في الصالحات من الأعمال عند الله.. الآيات: (40- 45) [سورة الروم (30) : الآيات 40 الى 45] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45) التفسير: قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ.. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 527 عادت الآيات، تتحدث عن المشركين، وتضعهم موضع المساءلة مرة أخرى، لتكشف لهم عما هم فيه من سفه وضلال.. وأنهم وقد طولبوا من قبل أن يأتوا بحجة وبرهان على ما يعبدون من دون الله.. إذ يقول سبحانه.. «أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ» ؟. وأما وقد خلت أيديهم من هذا السلطان المطالبين به، من كتاب سماوى أو رسول إلهى- فقد جاءتهم آيات الله تدعوهم إلى أن يبحثوا عن هذا السلطان في داخل أنفسهم، وأن يدبروا عقولهم- إن كانت لهم عقول- إلى مظاهر الوجود وحقائقه.. فإن في كل مظهر من مظاهره، وفي كل حقيقة من حقائقه، سلطانا، وبرهانا على المعبود الحق الذي يجب أن يعبد.. إنه الله، الذي خلق الخلق ورزقهم، وإنه الله، الذي يميتهم ثم يحييهم.. فهل من معبودات المشركين من يفعل شيئا من ذلك؟ هل من آلهتهم تلك، من له مشاركة في خلقهم؟ وهل من آلهتهم تلك، من له مشاركة في رزقهم؟ وهل تملك آلهتهم تلك، إماتتهم أو بعثهم بعد موتهم؟. هذه أسئلة ينبغى أن يجيبوا عليها.. فإن كان جوابها إيجابا- وهيهات- كان ذلك حجة لهم، وبرهانا مبينا، يعبدون به تلك الآلهة عليه، ويعطون ولاءهم خالصا لها.. وإن كان الجواب سلبا، وهو- الواقع- فقد سقطت الحجة، وضل البرهان، وكان عليهم أن ينفضوا أيديهم من تلك الآلهة، وأن يجلوها عن عقولهم، وأن يلفظوها من مشاعرهم.. وإلا فهو الضلال والعمى، وهو الضياع، والهلاك.. إنها قضية منطقية.. قامت مقدمتها على فرض، هو: هو أن الألوهية لمن يخلق ويرزق، ويميت ويحيى.. والله هو الذي يخلق ويرزق، ويميت ويحيى.. فهل من معبوداتكم من يفعل شيئا من هذا؟ إنها لا تفعل شيئا.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 528 وإذن فلا مدخل لها إلى الألوهية.. وإذن فالله وحده هو المتفرد بها، لا شريك له.. «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» أي تنزه سبحانه، وتعالى علوا كبيرا عن أن يكون له ندّ من هؤلاء المعبودين الذين يعبدونهم من دونه.. قوله تعالى: «ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» . هذا الفساد الذي ظهر على هذه الأرض، وشمل برّها وبحرها، هو من صنع الناس، لأنهم هم الخلفاء عليها، وهم أصحاب الإرادات العاملة، فيها.. إن كل ما على هذه الأرض من كائنات، إنما تتحرك حركة منبعثة من طبيعتها التي أودعها الله سبحانه وتعالى فيها، دون أن تخرج عليها.. ولهذا كان كل نوع من الكائنات على طريق واحد، لا اختلاف فيه بين فرد وفرد.. والإنسان وحده، هو الذي يعيش في الجماعة الإنسانية ذاتا مستقلة، لها تفكيرها، ولها أسلوبها في الحياة.. ومن هنا كان التغيير والتبديل في المجتمعات الإنسانية، وكانت الحروب الدائرة بينها، وكانت هذه الانحرافات والضلالات في العقائد والمعاملات، من كفر بالله، وكذب، وغش، وخداع، ونفاق.. إلى غير ذلك مما تمتلىء به دنيا الناس من مساوئ ومقابح.. وفي قوله تعالى: «ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» - إشارة إلى أن هذا الفساد طارئ على هذه الأرض، لم تكن تعرفه قبل ظهور الإنسان فيها.. فلما ظهر الإنسان، ظهر الفساد.. وليس معنى هذا أن الإنسان هو عنصر الفساد في هذه الأرض، إذ لو كان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 529 ذلك كذلك، لما استحق أن يكون خليفة الله فيها.. ولكن هذا يشير إلى أن أصل الخلقة الموجودات كلها، ومنها الأرض، قائم على الصحة والسلامة، شأنها في هذا شأن الإنسان في أصل خلقه، وما أودع فيه الخالق- جل وعلا- من فطرة سليمة.. وكما أفسد كثير من الناس فطرتهم، أفسد الناس كذلك فطرة الطبيعة، واتخذوا كثيرا من أدواتها الصالحة النافعة أدوات للإفساد، والتدمير.. وإلى هذا المعنى يشير المتنبي بقوله: كلّما أنبت الزمان قناة ... ركّب المرء في القناة سنانا ومع هذا، فإنه لا ينكر فضل الإنسان وآثاره العظيمة في هذه الدنيا، وما أقام على وجه الأرض، من عمران، وما أحدث، من حضارات. وقوله تعالى: «بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ» - إشارة إلى أن هذا الفساد والاعوجاج الذي ظهر على هذه الأرض، هو مما كسبته أيدى الناس، فهو من صنعهم، ومن فعل إرادتهم الحرة.. ولهذا، فهم محاسبون عليه، مؤاخذون به.. فالباء هنا للسببية، أي بسبب ما كسبت أيديهم ... وفي قوله تعالى: «لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا» - تقرير لتلك الحقيقة، وهى أن ما يعمله الناس، هو محسوب عليهم، مجزبّون به، من خير أو شر ... وليس كذلك ما تعمله الكائنات الأخرى التي تعيش مع الناس على هذه الأرض.. إن ما تعمله لا إرادة لها فيه، شأنها في هذا شأن البذرة تدفن في الثرى، فيخرج منها ما في طبيعتها من زهر وثمر.. ومن هنا كانت مسئولية الإنسان عن كل عمل يعمله، ليذوق ثمر ما يعمل، حلوا كان أو مرا.. «وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى» (39: النجم) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 530 والآية هنا، إنما تنبه إلى الأعمال السيئة، التي من شأنها، الإفساد في الأرض، والتي كان من شأن الإنسان العاقل أن يتجنبها، ويعمل ما هو خير، وما هو حسن ... وفي قوله «لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى- فضلا منه وكرما وإحسانا- لم يجز الناس بكل ما عملوا من شر، بل ببعض ما كسبوا منه، حتى يكون، لهم من ذلك زاجر يزجرهم، وأدب سماوى يأخذون منه العبرة والعظة، وليرجعوا إلى الله من قريب، ويستقيموا على طريق الخير والإحسان ... ولو آخذ الله الناس بما كسبوا، لأهلكهم جميعا، بل وأهلك معهم كل دابة تدب على ظهر الأرض، وفي هذا يقول سبحانه: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» (45: فاطر) وإنه ليكفى أن يدين بعض الناس بغير دين الله، وأن يتخذوا من دونه أولياء، وأن يدعوا له ولدا، أو شريكا.. فذلك ذنب عظيم: «تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا» (90: مريم) . قوله تعالى: «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ» . هو تهديد للمشركين من قريش، وأن مصيرهم، هو مصير المشركين من قبلهم، وما أخذهم الله به من عذاب، وما أرسل عليهم من مهلكات. وفي قوله تعالى: «كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ» - إشارة إلى أن الذين ورد عليهم الهلاك في الأمم السابقة كان يغلب عليهم الشرك والضلال، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 531 وقليل منهم من آمنوا بالله، واستجابوا لرسل الله، كقوم نوح، الذين يقول الله فيهم: «وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ» (40: هود) وكقوم إبراهيم، الذي لم يؤمن من قومه إلا نفر قليل، منهم لوط.. وهكذا كان شأن قوم عاد، وصالح، وشعيب، ولوط.. وفي كل مرة، يهلك الله الضالين المكذبين، وينجّى النفر القليل من المؤمنين.. قوله تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ» . هو التفات إلى النبي الكريم، وإلى أن يلتفت إلى نفسه، وإلى المؤمنين معه، وألا يشغله أمر هؤلاء المشركين عن طلب النجاة لنفسه، ولمن معه، بالإقبال على الله، وإخلاص العمل له، وذلك ليكون مستعدا للقاء ربه على ما يرضى ربه، من قبل أن يجىء يوم الجزاء والحساب، وهو يوم لا مردّ له من الله، أي لا يملك أحد ردّ هذا اليوم، أو تأخيره عن وقته الموقوت له.. والدين القيم، هو الإسلام، الذي هو أصل كل دين سماوى، ومنبع كل شريعة إلهية، وبهذا كانت له القوامة على كل دين، والهيمنة على كل شريعة، وعلى كل كتاب.. وقوله تعالى: «يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ» أي في هذا اليوم، وهو يوم الجزاء والحساب، يتصدع الناس، وتتفرق جماعاتهم، فلا يلتفت أحد منهم إلى أحد.. قوله تعالى: «مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ» . هو تعقيب على قوله تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ» .. فمن أقام وجهه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 532 للدين القيم، فقد مهد لنفسه مهادا طيبا، وأعد الدار التي ينزلها في الآخرة.. أما من أعرض وكفر؟ فعليه وزر إعراضه وكفره. قوله تعالى: «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ.. إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ» .. التعليل هنا، هو لقوله تعالى: «وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ» .. أي أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، قد توسّلوا بهذه الوسيلة إلى مرضاة الله، ليجزيهم الجزاء الحسن، من فضله وإحسانه. وجاء التعبير بالظاهر «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا» بدلا من المضمر «ليجزيهم» - للتنويه بهم، بذكر الصفات الطيبة التي اتصفوا بها، والتي كانت سببا فى رضا الله عنهم، وإسباغ فضله وإحسانه عليهم.. وفي قوله تعالى: «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ» إبعاد للكافرين من مواقع إحسان الله وفضله، لأنه لا يحبّهم، ولا يقرّبهم منه، على حين أحبّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وأنزلهم منازل القرب والرضوان. الآيات: (46- 53) [سورة الروم (30) : الآيات 46 الى 53] وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) الجزء: 11 ¦ الصفحة: 533 التفسير: قوله تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» . عادت الآيات بعد هذا العرض الموجز ليوم القيامة، وما يلقى المؤمنون هناك من فضل الله وإحسانه، وما يجد الكافرون من حرمان وطرد من موقع الرحمة- عادت الآيات لتذكّر النّاس- مؤمنين وكافرين- بما لله سبحانه من نعم لا تحصى، يعيشون فيها، ولا يكادون يلتفتون إليها، إذ كانت نعما عامة شاملة، تسع الناس جميعا: كالماء، والهواء، والنور، وغيرها.. فهذه النعم، إذ كانت حظا مشاعا في الناس، لا يتكلفون لها ثمنا، بل تأتيهم عفوا صفوا بلا حساب- إذ كانت كذلك- فإنهم قلّ أن يلتفتوا إليها، وأن يعدوها نعمة من نعم الله عليهم.. إن الإنسان إنما ينظر إلى نفسه خاصة، ويلتفت إلى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 534 الأشياء التي تعنيه وحده، وتقع ليده دون غيره، ويكاد يستأثر بها، أو تلك التي يتمايز فيها الناس، وتختلف حظوظهم منها، والتي هى مجال تنافس بينهم. - وفي قوله تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ» ، إشارة إلى هذه النعمة العظيمة، العامة الشاملة، وهى الرياح التي يرسلها الله مبشرات، تسوق بين يديها السحاب، الذي يحمل الحياة للناس، والدواب، والأنعام، والأرض، بما ينزل منه من ماء.. فهو الرحمة التي ينزلها الله على عباده، ويذيقهم منها طعوم فضله وإحسانه. وفي عطف «لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ» على مبشرات، إشارة إلى أن البشرى التي تحملها الرياح إلى الناس، فيها سعادة، ورضا، وتهيؤ لاستقبال هذا الخير الوافد.. وقوله تعالى: «وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ» آية أخرى من آيات الله، فى هذه الرياح المرسلة من عنده.. إنها تدفع السفن على ظهر البحار والأنهار، وتسيرها حيث يريد الناس، وذلك بأمر الله وقدرته، ولو شاء لأمسك الريح، فظلت السفن رواكد على ظهر الماء، لا تتحرك إلى أي اتجاه، كما يقول سبحانه: «إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ» (33: الشورى) . وقوله تعالى: «وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» آية من آيات الله في هذه الرياح المرسلة، التي تدفع السفن إلى حيث يتجه بها الناس.. فتحركها على ظهر الماء، هو في ذاته آية تدل على قدرة القادر العظيم.. وما يحصله الذين يركبون هذه السفن من منافع، هو آية أخرى من آيات الله، فيما يجرى بين الناس من تبادل المنافع. وقوله تعالى: «وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» .. هو آية أخرى من آيات الله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 535 فى هذه الرياح المرسلة من عنده، التي تحدث هذه الآثار العظيمة في حياة الناس.. وهذه الآية هى تحريك ألسنة العباد بحمد الله والثناء عليه، وإقامة مشاعرهم على الولاء له، وإفراده بالعبودية.. ولكن أكثر الناس لا يقيمون وجوههم إلى الله، ولا يذكرون له هذه النعم.. وهذا هو السرّ في تصدير الشكر بحرف الرجاء «لعلّ» .. الذي يفيد الدعوة إلى هذا الأمر المحبوب، المطلوب، ولكن قليل هم أولئك الذين يقع لهم، أو منهم.. هذا الأمر.. وانظر في وجه الآية الكريمة مرة أخرى، وتأمل هذه «الواوات» التي تقوم على كل مقطع من مقاطعها، وكأنها رسل من رسل الله، يحمل كلّ رسول منها الآية المرسل بها في هذا العرض العظيم لآيات الله، وكأنه يقول لمن يمرّ به: قف، وخذ حظك من النظر فيما أحمل إليك من آيات ربك!. «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ.. وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ.. وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ.. وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ.. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» .. ألا خسىء وخسر من لا يسجد لجلال الله، ويعنو لعظمته، وينقاد لدعوته!! قوله تعالى: َ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ» . هو تعقيب على الآية السابقة، التي حملت بين يديها آيات كثيرة، من دلائل القدرة الإلهية وكمالها، فلم تتفتح لها قلوب كثير من المشركين، كما لم تتفتح لدعوة الحق قلوب كثير من أهل الضلال في الأمم الماضية، الذين كذّبوا رسلهم، واستخفّوا بما حملوا إليهم من آيات الله. وفي هذا التعقيب عزاه للنبىّ الكريم، ومواساة له، فيما يلقى من قومه من جحود وصدود.. إنه ليس وحده هو الذي كذّب من بين رسل الله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 536 جميعا.. بل إن رسل الله جميعا قد كذّبوا من أقوامهم، وأوذوا من سفهائهم. - وفي قوله تعالى: َانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا» تهديد للمشركين، وعرض لهم على المصير الذي هم صائرون إليه.. فكما انتقم الله من الضالّين في الأمم السابقة، سينتقم كذلك من هؤلاء المجرمين.. - وفي قوله تعالى: َ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ» وعد كريم من الله سبحانه للنبىّ، بنصره ونصر المؤمنين معه.. فعلى حين يخزى الله الكافرين، ويكبت الضالين المجرمين- فإنه ينصر المؤمنين، ويعزّهم، ويجعل العاقبة لهم.. فقد أوجب سبحانه على نفسه- فضلا وكرما- أن ينصر المؤمنين، ويجعل لهم الغلب على أعدائهم، كما يقول سبحانه: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» (21: المجادلة) قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ» . وتعود الآيات لاستكمال هذا الغرض الذي تكشف فيه عن آيات الله، ودلائل قدرته، بعد هذه اللفتة الرحمانية من الله سبحانه إلى النبي الكريم في قوله تعالى: َ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ..» والآية هنا، تعرض هذه الظاهرة التي تتشكل من حركة الرياح، وما تثير من أمواج، وبخار، وسحاب، وما ينزل من السحاب من ماء، وما يدخل منه على الناس من بشر وغبطة، بعد يأس ووجوم!. ويلاحظ أنه في آية سابقة، قد جاء ذكر الرياح، وما تسوق من بشريات، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 537 وذلك في قوله تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ، وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» . وقد يبدو لمن لا يحس نقد الكلام، ولا تذوق البلاغة، أن هذا من التكرار، الذي يعاب على أرباب البيان، ويعدّ قصورا في البلاغة، وفقرا فى المعاني التي يملكها الأديب.. ولكن أهكذا- حقا- يكون حساب التكرار إذا ورد في القرآن الكريم؟. لندع المشاعر الدينية، حتى يمكن أن نجيب على هذا السؤال، إجابة قائمة على ميزان النقد البلاغى، وعلى اعتبار أن هذا كلام، لا يقوم وراءه سلطان العقيدة، ولا تزكّيه مشاعر الإيمان.. ونعرض أولا الآيتين في سياق واحد.. هكذا. «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ..» «اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً، فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ، فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» .. وننظر في الآيتين الكريمتين، فنجد: أولا: أنه يمكن أن تتصل تلاوتهما معا، دون أن يحس القارئ أو السامع أن هناك تكرارا في الصورة، وأن الآيتين يحققان معا صورة واحدة، لهذه الظاهرة الرائعة من ظواهر الطبيعة.. ومع هذا، فقد فصل النظم القرآنى بين الآيتين بآية أخرى، ليس فيها لون من ألوان تلك الصورة التي رسمتها الآيتان.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 538 وثانيا: فى الآية الأولى من الآيتين. نرى «الرياح» آية من آيات الله، مندرجة مع تلك الآيات تولدت عنها، فكانت آيات قائمة بذاتها.. فما أن تظهر آية الرياح، حتى تختفى، وتأخذ آية أخرى مكانها.. وإذا الذي كل ما للرياح في هذه الآية هو قوله تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ» . وثالثا: فى الآية الثانية نرى «الرياح» التي لمحناها في الآية السابقة لمحا، وأنها مجرد شىء منطلق- نراها هنا- وقد اهتزت وربت، فكانت منها الآيات الرائعة، المعجبة.. انظر: الرياح.. تثير سحابا، فيبسطه الله في السماء كيف يشاء، ويجعله كسفا، أي قطعا متراكمة، وسرعان ما يتفتق هذا السحاب عن ودق، أي مطر، يدق الأرض، ويترك عليها آثاره، وإذا الذين يستقبلون هذا المطر، قد لبسوا ثوب البشر، ونزعوا ما كانوا قد لبسوا من قبل، من همّ وكرب! «اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ، فَتُثِيرُ سَحاباً، فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ، وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً، فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ.. فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» . إن الرياح هنا، هى التي أثارت السحاب، وهى التي قبل أن تثيره قد أثارت وجه البحار وحركت أمواجها، وحملت ما على وجهها من أبخرة إلى السماء، فإذا هى ضباب، وسحاب.. ثم ضربت هذه السحاب بعضه ببعض، فانقدح منه هذا الشرر الذي ولد الرعد، والبرق، والمطر! هذه هى آية الرياح، التي أشارت إليها الآية الأولى، قد كشفت عن وجهها في الآية الثانية، فكانت هذا العطاء الجزيل من آيات الله، ودلائل قدرته.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 539 وعلى هذا يمكن أن يرجع البصر كرة أخرى، إلى تلك الآيات في قوله تعالى: «وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ.. وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ» .. ففى كلّ آية آيات، لو وجدت النظر الذي ينظر إليها، ويكشف عن بعض معطياتها.. ففى قوله تعالى: «وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ» تتمثل تلك الصورة التي يفعلها المطر حين ينزل الأرض، فيسفر به وجهها، ويهزّ له كيانها، وإذا هى وقد كانت جرداء، ميتة موحشة، قد لبست أثوابا قشيبة مختلفة الألوان والأصباغ، وإذا هى حياة دافقة، وشباب نضير.. وهكذا في جريان الفلك، وفي الابتغاء من فضل الله.. فيهما مجال فسيح للنظر، ومراد واسع للفكر، ومسبح رائع للخاطر.. وفي قوله تعالى: «وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ» - إشارة إلى ما يكون عليه الناس، حين تنقطع عنهم موارد الماء، ويغبّر وجه الأرض، ويتهددهم القحط والموات.. ففى هذه الحال يغشى الناس همّ ثقيل، وينزل بهم كرب كارب، فإذا هم وقد أبلسوا، وجمدوا في أماكنهم، فلا حسّ، ولا حركة.. قد أسلموا أنفسهم ليأس قاتل.. فإذا طلعت عليهم رحمة الله، بعثوا بعثا جديدا، وسرت في أوصالهم ريح العافية، فانتشوا نشوة صاحية، ذاقوا منها حلاوة النعمة، وعرفوا قدرها.. قوله تعالى: «فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها.. إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى.. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .. الأمر هنا، دعوة إلى كل ذى نظر أن ينظر إلى آثار هذه الرحمة المنزلة من الله، مع هذا الماء المنزل من السماء.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 540 وليست الدعوة إلى النظر لمجرد النظر، وإنما هى دعوة إلى نظر متدبّر، متأمل، يأخذ العبرة والعظة مما يقع له.. فمن هذه الرحمة المنزّلة من السماء، تغيّر وجه الأرض، وسرت الحياة في أوصالها الميتة، وإذا هى أمّ ولود، تلد مواليد عجبا من كل جنس، وكل لون.. ثم إذا امتد نظر الإنسان إلى أبعد من هذا وجد أن هذه الحياة التي قامت من هذا التراب الهامد، ليس بالمستغرب ولا المستبعد أن تلبس هذه الأجسام التي ضمها التراب في كيانه، وجعلها بعضا منه.. «إِنَّ الَّذِي أَحْياها.. لَمُحْيِ الْمَوْتى» (39: فصلت) .. فهذا من ذاك سواء بسواء.. - وقوله تعالى: «إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى» - الإشارة هنا إلى الله سبحانه وتعالى، وفي الإشارة إليه سبحانه، إشارة إلى قدرته، وإلى مقامه، وإلى تفرده وحده سبحانه بهذا الأمر، وهو إحياء الموتى. قوله تعالى: «وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ» . إشارة إلى أن هذه الرياح التي أرسلها الله بشرا بين يدى رحمته، وساق بها الحياة إلى عباده، يمكن أن يسوقها إليهم، وقد صفرت يداها من كل خير، بل ربما حملت معها السّموم والغبار.. فهذا وذاك بيد الله، ومن فعل الله.. وقد كان من الإيمان بالله، والرضا بمقدوره، أن يستقبل الناس هذه الريح العقيم بالصبر على قضاء الله، وبالطمع في رحمة الله، التي تعقب هذا البلاء.. ولكن كثيرا من الناس ينكرون الله في هذه الحال ويسخطون على ما أصابهم به! والضمير في قوله تعالى «فَرَأَوْهُ» يعود إلى الناس جميعا، حيث يغلب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 541 عليهم في تلك الحال، اليأس، والقنوط من رحمة الله، وقليل منهم من يعتصم بإيمانه، ويرضى بما أراد الله له.. والريح المصفرة: هى الريح المحملة بالسموم، قد ذهبت حرارتها بكل ما في الهواء من بخار الماء، فاصفرّت كما يصفر الزرع حين يجف ماؤه وتذهب خضرته.. «فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ» . الفاء في قوله تعالى «فَإِنَّكَ» سببية، وما بعدها مسبب عن فعل محذوف تقديره- والخطاب للنبى-: اصرف نظرك عن هؤلاء المشركين، أو دع هؤلاء المشركين وما هم فيه من ضلال.. أو نحو هذا.. «فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى، وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ» وهؤلاء موتى، وإن كانوا أحياء.. إنهم موتى المدركات، والمشاعر.. وإن أردت أن تحسبهم في الأحياء، بما لهم من صور آدمية متحركة- فإنهم صم لا يسمعون، لأن ما يلقى إليهم من كلمات الله لا تصغى إليه آذانهم، ولا تقبله عقولهم.. لقد تعطلت منهم حاسة السمع فلا يسمعون خيرا، ولا يستجيبون لخير.. ثم إنه قد لا يستمع الإنسان لغيره، ولا يتقبل نصح ناصح، ولا هداية هاد، ويكون له مع ذلك، نظر يهديه، ويكشف له معالم الطريق إلى الحق والخير.. ولكن هؤلاء المشركين، عمى لا يبصرون شيئا، ولا يسلمون أيديهم إلى المبصرين، حتى يأخذوا بهم إلى طريق مستقيم، فلا يضلون، ولا يتعثرون.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 542 وفي تعدى اسم الفاعل: «هاد» بحرف المجاوزة «عن» - إشارة إلى أنهم عاكفون على الضلال، لا يتحولون عنه أبدا، ولا يتجاوزون حدوده، ولهذا ضمّن الفعل «هدى» معنى الفعل، صرف، أو أبعد، أو نحو هذا، مما يحتاج إلى مدافعة ومعاناة.. وهذا يعنى أنه ليس من شأن النبي أن يحمل هؤلاء العمى حملا على أن ينقادوا له.. ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك: «إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا» محددا وظيفة النبي، وضابطا منهج دعوته.. وهو أن يعرض دعوته، ويتلو آيات ربه، ويسمع كلمات الله، بإبلاغها إلى الناس، فيسمعها، ويستجيب لها، من هو مستعد للإيمان، لم تفسد فطرته، ولم يختم الله على سمعه وقلبه، ولم يجعل على بصره غشاوة.. ولهذا أيضا جاء قوله تعالى «فَهُمْ مُسْلِمُونَ» تعقيبا على قوله تعالى سبحانه: «إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا» ليكشف عن السبب في استماعهم لآيات الله، وإيمانهم بها. وهو أنهم مسلمون بفطرتهم، واستعدادهم، قبل أن يلتقوا بالدعوة النبوية، وقبل أن يدعوا إلى الإسلام فلما التقوا بالنبي، وبدعوة الإسلام، صافح الإسلام الذي في فطرتهم، الإسلام الذي دعو إليه.. «وإن» فى قوله تعالى: «إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا» نافية، بمعنى «ما» .. أي ما تسمع إلا من يؤمن بآياتنا، أي من هو مستعد بفطرته للإيمان.. المندسّ في كيانه.. أما من فسدت فطرته، فلن تجاوز كلمات الله أذنه. وفي عود الضمير على الاسم الموصول: «من» مفردا وهو فاعل (يؤمن) ، ثم عوده إليه جمعا هكذا: «إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ» - إشارة إلى أن الإيمان شأن من شئون الإنسان خاصة، فهو الذي يحصّل الإيمان بنظره الشخصي وبتقديره الذاتي، وبما يقع له من اقتناع عقلى، واطمئنان قلبى.. فإذا آمن، شارك غيره في صفة الإيمان، وكان واحدا من جماعة المؤمنين الجزء: 11 ¦ الصفحة: 543 يدخل معهم فيما تحمل شريعة الإسلام إلى المسلمين من أوامر ونواه، فيكون واحدا في صفوف المصلّين، أو جنديا في جيش المجاهدين.. إنه منذ دخل فى الإسلام لم يعد كائنا مفردا مستقلا بذاته، منعزلا بدينه، بل هو منذ أول يوم يدخل فيه في الإسلام، يصبح لبنة في بناء الجماعة الإسلامية، وعضوا فى الجسد الاجتماعى، الذي يجمع المسلمين جميعا. فالمسلم إذ يدخل الإسلام، يدخله مفردا، بعد أن ينظر فيه ببصره هو ويدركه بعقله هو، ويستشعره بوجدانه هو، ويفتح باب قلبه بيده هو، من غير أن يكون واقعا تحت إكراه، أو إغراء، ومن غير أن يكون متابعا أو مقلدا.. فإذا دخل الإسلام على تلك الصفة أصبح مسلما، وأصبح بهذا صالحا لأن يكون في جماعة المسلمين.. الآيات: (54- 60) [سورة الروم (30) : الآيات 54 الى 60] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60) الجزء: 11 ¦ الصفحة: 544 التفسير: قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ» . عادت الآيات مرة أخرى، لتصل العرض الذي تجلّى فيه آيات الله، وتعرض فيها دلائل قدرته على الناس، من مؤمنين وكافرين، فيجد فيها المؤمنون نظرا مجدّدا إلى قدرة الله، وإلى علمه، وحكمته، فيزداد إيمانهم تمكينا في قلوبهم، وإشراقا في نفوسهم، على حين تقوم على المشركين والضالين من هذه الآيات حجة أخرى، إلى جانب ما قام عليهم من حجج، بكفرهم وضلالهم. وفي الآية الكريمة صورة من الصّور الحسّية التي يعيش فيها الناس، ويمرّ بها كل فرد من أفرادهم، على اختلاف أجناسهم، وألوانهم، وأوطانهم. فبدء حياة الإنسان تكون صورة باهتة من صور الحياة، لا يكاد يرى ظلّها إلا البصر النافذ، حيث يبدأ خلق الإنسان من نطفة، لا تبدو في مرأى العين أكثر من سائل مختلط، أشبه بالمخلط.. ثم يتدرج الإنسان من نطفة إلى علقة، إلى مضغة، إلى عظام، إلى لحم يكسو هذا العظام.. ثم إلى وليد ينشقّ عنه رحم الأم، وإذا هو إنسان يأخذ مكانه في المجتمع البشرى، وبتدرج في مدارج الحياة، من الطفولة إلى الصبا، إلى الشباب والكهولة، ثم ينحدر إلى الشيخوخة والهرم. هذا هو بعض ما لله في الإنسان.. فلينظر الإنسان ممّ خلق؟ ثم لينظر كيف دار دورته في الحياة، كما يدور القمر في دورته من الهلال إلى المحاق! الجزء: 11 ¦ الصفحة: 545 قوله تعالى: «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ» وهذا الإنسان الذي خلق من ضعف، والذي تعهدته القدرة الإلهية، فأخرجت من هذا الضعف، قوة وعقلا، وبصرا، وسمعا- هذا الإنسان قد كفر بخالقه، وأبى أن يجعل ولاءه له وحده، فاتخذ من دونه شركاء، وإذا حشود كثيرة في جميع الأزمان والأمكنة، تجتمع على الكفر بالله، وتعيش فى هذا الضلال، لا تعمل ليوم الجزاء والحساب، ولا تؤمن به، حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة، وراجعوا حسابهم مع دنياهم التي أفنوا حياتهم فيها، وجدوا أنها لم تكن إلا لحظة عابرة، بل لقد بلغ بهم الأمر أن أيقنوا هذا، وتحققوا منه، فأقسموا أنهم لم يلبثوا غير ساعة.. ولا شك أن هذا غير الواقع، وأن الوهم هو الذي يحيّل لهم قصر الزمن الذي مضى.. فقد عاش كل منهم سنين في الدنيا، لا ساعة، ولا يوما، ولا شهرا.. ولكن هكذا الدنيا، التي اتخذها الضالون المشركون، لهوا ولعبا، فلم يعمروها بالتقوى والأعمال الصالحة.. ولهذا جاء قوله تعالى: «كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ» مكذّبا مقولتهم تلك، وإنها إفك من إفكهم، وضلال من ضلالهم، الذي كانوا عليه في الدنيا.. ذلك أنهم وهم في الدنيا قد رأوا الحق باطلا، والهدى ضلالا، والخير شرّا.. ووقع في وهمهم أنهم على الحق، وأن ما يمسكون به من ضلال هو الهدى.. وقد صحبهم هذا الإفك في حياتهم الآخرة، فأقسموا هذا القسم الكاذب، أنهم ما لبثوا في دنياهم غير ساعة! وقوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 546 هو ردّ على هؤلاء المجرمين، الذين أقسموا هذا القسم، وأنهم ما لبثوا غير ساعة، وفي هذا الرد تصحيح لما وهموه من لبثهم في الدنيا.. وهذا التصحيح إنما يجيئهم من أهل العلم والإيمان الذين يقولون لهم: «لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ» .. وكتاب الله، هو علمه الذي حدّد به آجال الناس، وأزمانهم، وأودع فيه أعمالهم، وما هو كائن في هذا الوجود.. وقوله تعالى: «فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ» - هو خبر يراد به التقريع والنّخس لهؤلاء المجرمين، فهم يعرفون أن هذا اليوم الذي هم فيه هو يوم البعث، وإخبارهم به هو تذكير لهم بما كان منهم من إنكار له، وسخرية واستهزاء بمن كانوا يحدّثونهم به، والذين كانوا يغرسون في الدنيا ليجنوا ثمار ما غرسوا فى الآخرة، وفي ذلك ما يزيد في آلام المكذبين ويضاعف حسرتهم. وفي قوله تعالى: «وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» تقريع بعد تقريع، ونخسة بعد نخسة! وفي قرن العلم بالإيمان، إشارة إلى أن العلم الذي لا يثمر عملا لا قيمة له، وكثير من الذين أوتوا العلم لا يؤمنون بالله، بل تغلب عليهم شقوتهم، ويصبح العلم الذي علموه حجّة عليهم، يضاعف لهم به العقاب، وفي هذا يقول الله تعالى في علماء بنى إسرائيل: «يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (71: آل عمران) ويقول سبحانه «وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» (144: البقرة) ويقول جل شأنه: «أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (75: البقرة) .. فالعلم الذي لا يعمل صاحبه بمقتضى ما علم، هو شؤم على صاحبه، لأنه لا يهتدى معه إلى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 547 خير أبدا. على خلاف الذي لا علم عنده، فإنه قد يطلب العلم، وقد يجد الهدى مما علم. قوله تعالى: «فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» . أي أنه في يوم القيامة، لا يقبل من معتذرين عذر، ولا يطلب منهم أن يقيموا عذرا لما كان منهم من ضلال وكفر.. لقد جلّ الأمر عن العتاب.. إذ أنه إنما يعاتب من يرجى منه إصلاح ما أفسد.. وأما وأنه لا عمل بعد اليوم، فإنه لا عتاب، وإنما حساب وجزاء.. قوله تعالى: «وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ» . هو بيان لانقطاع عذر المعتذرين، وعتاب المستعتبين، الذين يطلبون المعاتبة.. وذلك لما جاءهم في دنياهم من آيات الله، وما حمل إليهم القرآن الكريم من دلائل وبراهين بين يدى دعوتهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وقد ضربت لهم الأمثال على وجوه مختلفة، فما انتفعوا بها، ولا أخذوا العبرة والعظة من مهلك القوم الظالمين في الأمم الغابرة.. وقوله تعالى: «وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ» . إشارة إلى أن هؤلاء المكذبين المشركين، لن تنفعهم الآيات المادية التي كانوا يطالبون النبىّ بها، ويتحدونه بأن يأتى بمعجزة من تلك المعجزات المحسوسة التي كانت بين يدى الرسل من قبله.. ففى كل ما جاء به القرآن من آيات، وما ضرب من أمثال، معجزات قاهرة بيّنة، لمن يطلب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 548 الهدى أو يقبله، إذا عرض عليه.. وهؤلاء المشركون لا يطلبون الهدى، ولا يستجيبون له إذا دعوا، لما ركب في طبيعتهم من فساد. قوله تعالى: «كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» . الإشارة هنا إلى ما تضمنته الآية السابقة، من استغلاق مدارك المشركين عن أن يدخل عليها هدى، وذلك لأن الله قد طبع على قلوبهم.. وإنه مع ما ضرب الله سبحانه من أمثال، وما حملت هذه الأمثال من شواهد واضحة وآيات بينة، فإن أهل الضلالات والأهواء لم ينتفعوا بها، ولم يروا إشارة مضيئة من إشاراتها، تعدل بهم عن طريق الكفر الذي يركبونه، إلى طريق الإيمان الذي يدعون إليه، وهذا شأنهم أبدا مع كل آية من آيات الله.. وهذا لا يكون إلا عن فساد فطرة، وعمى بصيرة، وزيغ قلب، وهذا ما عليه حال أولئك الذين شغلتهم دنياهم عن أن يقفوا على آيات الله، وأن ينظروا فيها، وأن يحصلوا علما منها، فخذلهم الله، وخلّى بينهم وبين أنفسهم كما يقول سبحانه: «فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» (5 الصف) قوله تعالى: «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ» . بهذه الآية تختم السورة الكريمة، وهى تحمل إلى النبي الكريم دعوة من الله سبحانه وتعالى إلى الصبر على ما يلقى من قومه من مكاره، مستعينا على الصبر، واحتمال المكروه، بما وعده ربه من نصر لدين الله الذي يدعو إليه، ومن تمكن له وللمؤمنين معه في هذه الدنيا، ومغفرة من الله ورضوان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 549 فى الآخرة، هذا، إلى ما يلقى هؤلاء المشركون الضالون من خزى وخذلان فى الدنيا، وعذاب شديد في الآخرة. وفي قوله تعالى: «وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ» - إشارة لافتة إلى ما قد يرد على النبي- صلوات الله وسلامه عليه- من تلك الخواطر التي تساور بعض النفوس، من المؤمنين الذين اشتدت عليهم وطأة البلاء، وطال بهم الانتظار لملاقاة ما وعدهم الله من نصر، ففى ساعات الضيق والعسرة، قد يتسرب إلى بعض المؤمنين شىء من القلق، وربما شىء من الشك والريب، ذلك أن للنفس البشرية حدا من الاحتمال والصبر على المكاره، إذا بلغته زايلتها القدرة على الاحتمال، وآذنها الصبر بالرحيل، وعندئذ تنحلّ العزيمة، ويضعف اليقين، وتبرد حرارة الإيمان، وفي هذا يقول الله تعالى: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟» (214: البقرة) .. فهذه حال تعرض المؤمنين، ولن يعصهم منها إلا التحصن بالإيمان، واللّياذ باليقين الذي يدفع كل شك في قدرة الله، وفي تحقيق ما وعد المؤمنين به، من نصر، وعافية مما هم فيه من بلاء. فقوله تعالى: «وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ» دعوة للمؤمنين أن يوثّقوا إيمانهم بالله، وأن يمتحنوا هذا الإيمان على محك الشدائد والمحن، فعلى هذا المحك يظهر معدن الإيمان، وتعرف حقيقته.. والاستخفاف: أصله من الخفة، والمراد به التحول من حال إلى حال، والانتقال من وضع إلى وضع، عند كل خاطرة، ولأية مسة.. فإن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 550 الخفيف من الشيء، هدف سهل لكل عارض يعرض له، ويريد زحزحته عن موضعه الذي هو عليه.. والآية، إذ تدعو المؤمنين إلى أن يكونوا من الموقنين بالله، والمستيقنين بنصره، فإنها تدعو النبي إلى أن يثبت في موقفه من الإيمان بربه، والثقة فيما وعده به، حتى ترتدّ عنه العوارض التي تعرض له داخل نفسه أو خارجها، حين تجده جبلا راسخا، لا تصادف أية خفة في أي جانب منه.. وقد كان صلوات الله وسلامه عليه على هذا اليقين الذي تزول الجبال ولا يزول.. حتى ليقول لعمه أبى طالب، وقد جاء يدعوه إلى مهادنة قومه، على أن يحتكم بما شاء فيهم، من مال أو سلطان، فيقول: «والله يا عم لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في شمالى على أن أترك هذا الأمر، ما تركته، أو أهلك دونه» .. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 551 31- سورة لقمان نزولها: مكية. عدد آياتها: أربع وثلاثون آية.. عدد كلماتها: خمسمائة وثمان وأربعون.. عدد حروفها: ألفان، ومائة، وعشرة.. مناسبتها لما قبلها ختمت سورة الروم، بقوله تعالى: «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ» .. وفي هذا الختام- كما أشرنا إلى ذلك من قبل- دعوة للنبىّ، وللمؤمنين معه إلى الصبر على المكاره، واحتمال الشدائد، على طريق لإيمان، وذلك بما يمتلىء به القلب من إيمان بالله، ومن يقين راسخ في لقاء ما وعد الله النبىّ والمؤمنين من نصر وإعزاز وتمكين، وأنهم إذا كانوا على يقين من الفوز والرضوان في الآخرة، فليكونوا على هذا اليقين من النصر والتمكين في الدنيا، وأنه إذا طال انتظارهم لما وعدوا به في الدنيا، فهو- على أي حال- أقرب مما وعدوا به في الآخرة.. فليصبروا إذن، حتى يلقوا ما وعدهم لله به في الدنيا، ليزداد يقينهم بما وعدهم الله به فى الآخرة. هذا، هو ما ختمت به سورة «الروم» ، وهو يلتقى لقاء تامّا بما بدئت به سورة لقمان.. وهو قوله تعالى: «الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» .. وذلك على ما نرى عند تفسير هذه الآيات. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 552 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الآيات: (1- 11) [سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) التفسير: قوله تعالى: «الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ» قوله تعالى: «تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ» جملة من مبتدأ وخبر، والتقدير: تلك هى آيات الكتاب الحكيم.. والمشار إليه، يمكن أن يكون الجزء: 11 ¦ الصفحة: 553 «الم» بمعنى أن آيات الكتاب الحكيم، مؤلفة من هذه الحروف المقطعة، التي لا مفهوم لها عندكم.. فمن هذه الحروف وأمثالها جاء نظم القرآن على هذا الأسلوب المحكم المعجز.. إن مادة القرآن هى تلك الحروف المقطعة، وهى بين أيديكم أيها الناس عامة، وأيها المشركون الضالون خاصّة، فأقيموا منها آيات كآيات هذا القرآن، إن استطعتم، ولن تستطيعوا.. ويمكن أن يكون المشار إليه ما تقدّم من آيات القرآن في سورة الروم، وفي غيرها مما كان قد نزل من القرآن.. والإشارة إلى الآيات، تنويه بها، وإلفات إلى جلال قدرها، وعلوّ سلطانها.. - قوله تعالى: «هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ» - أي أن هذا الكتاب الحكيم الذي جاءت آياته على هذا النظم المعجز المحكم، قد أنزله الله سبحانه لهداية الناس ورحمتهم.. فقوله تعالى: «هُدىً» مفعول لأجله، وقوله تعالى: «وَرَحْمَةً» معطوف عليه. وخصّ المحسنون بالتزود بما في الكتاب من هدى ورحمة، لأنهم هم الذين يردون موارده، وينتفعون بما يقدرون على تحصيله وحمله من هداه ورحمته.. أما غير المحسنين، وهم الضالون والمكذبون، فإنهم لن ينالوا شيئا من هدى هذا الكتاب ورحمته.. شأن الكتاب في هذا شأن كل خير بين أيدى الناس، لا يناله إلا العاملون، الذين يسعون إليه، وينقّبون عنه، ويأخذون الوسائل التي تمكنهم منه.. فما أكثر الخير المخبوء في كيان الطبيعة، وما أقلّ الذين طرقوا أبوابها، وفتحوا مغالقها، وعرفوا أسرارها. والمحسنون، هم أهل الإحسان في القول والعمل.. وهو إحسان مطلق، يتناول كل شىء.. فكل شىء مهيأ لأن يلبس ثوبا من القبح أو الحسن، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 554 والإنسان هو الذي ينسج له الثوب الذي يلبسه إياه.. وهكذا يتنازع الناس هذين الوجهين من كل شىء، فيذهب بعضهم بالحسن الطيب من الأشياء، على حين يذهب آخرون بالقبيح الرذل منها. والحسن هو الحسن، فى القول والعمل، وفي أمور الدنيا والدين جميعا.. ولهذا كانت دعوة الإسلام إلى الإحسان دعوة مطلقة، غير محصورة في أمر، أو جملة أمور، بل إنها دعوة تتناول الأمور كلّها، وتشمل ظاهر الإنسان وباطنه جميعا، وفي هذا يقول الله تعالى: «وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (195: البقرة) ومن الإحسان، التقوى، وهى تجنّب الإساءة.. وذلك أن من تجنب السيّء من الأمور، فإنه يكون على إحدى منزلتين: إما أن يفعل الحسن، المقابل لهذا السيّء الذي تجنّبه، وهذا هو الأحمد، والأحسن.. وإما ألا يفعل شيئا، وإن كان بتجنّبه القبيح، قد فعل شيئا، وهو تجنب هذا القبيح، وقد كان من الممكن أن يفعله.. وهذا الفعل- وإن كان سلبيا- هو حسن في ذاته وحسب الإنسان منه أن يكون قد احتفظ بفطرته على السلامة والبراءة.. ولا شك أن هذه منزلة دون المنزلة الأولى، منزلة المحسنين العاملين، حتى لقد أنكر بعض الحكماء على أهل زمانه أن يكون حظهم من الإحسان هو ترك القبيح، فيقول: إنّا لفى زمن ترك القبيح به ... من أكثر الناس، إحسان وإجمال قوله تعالى: «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ» . هو بيان للإحسان في منزلته العليا، التي يتجاوز فيها المحسن ترك القبيح، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 555 وتجنب السيّء، إلى مباشرة الإحسان، والتلبس به، فكان من أعمالهم إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة.. وفي قوله تعالى: «وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ» - إشارة إلى أن إقامتهم الصلاة وإيتاءهم الزكاة، ليس عملا تلقائيا، وإنما هو عمل مرتكز إلى عقيدة، هى الإيمان باليوم الآخر، بعد الإيمان بالله، إيمانا محققا، مستيقنا، لا يتلبس به شك أو ارتياب. وبهذا الإيمان الوثيق الذي يقوم في ظله العمل، يجىء العمل على صفة كاملة، حيث يعطيه المرء كل مشاعره، فلا يلحقه ضعف أو فتور. وقصر الإشارة هنا على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة من بين جميع الأعمال الحسنة، للدلالة على أنهما رأس الأعمال الحسنة كلها، والقطب الذي يدور عليه كل حسن.. فالصلاة رياضة للنفس، وإعداد لها لتقبل الأعمال الصالحة، والزكاة تطبيق عملى لكل عمل صالح.. إذ كان المال والتصرفات الدائرة حوله، هو المحك الذي تظهر به أخلاق الناس، لما للمال من سلطان على النفوس، فى جمعه، وفي إنفاقه. قوله تعالى: «أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» . الإشارة هنا إلى هؤلاء المحسنين، الذين ذكرتهم الآية السابقة، ووصفتهم بأنهم هم الذين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويؤمنون باليوم الآخر، إيمانا مستيقنا.. وهؤلاء المحسنون، إنما أحسنوا، لأنهم على هدى من ربهم، إذ أنهم أقبلوا على الله طالبين الهدى، فأقبل الله سبحانه عليهم، وأمدهم بما طلبوا، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 556 وأقامهم على طريق الهدى، وبهذا كان حظهم الفلاح، والفوز برضوان الله. قوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» . «من» هنا للتبعيض، والمراد من هذا، بيان حال أولئك الذين لم يطلبوا الهدى، ولم يلتمسوا الأسباب التي تفتح لهم الطريق إليه.. فالناس فريقان: فريق طلب الهدى، فهداه الله، وكان من الفائزين المفلحين، وفريق لم يرفع إلى الهدى رأسا، بل أقام وجهه على الضلال، وسعى حثيثا إليه، وأمسك بكل ما يحول بينه وبين الاتجاه نحوه.. وبدلا من أن يغشى مجلس الإيمان، ويستمع إلى آيات الله، ويتلقى منها النور الذي يضىء جوانب نفسه المظلمة، ويجلّى عنها غواشى الضلال- بدلا من هذا، شغل نفسه، بتلك الأحاديث اللاهية التافهة، يترضى بها أهواءه، ويشبع بها جوع نزواته، فضلّ بذلك عن سبيل الله، واتخذ آيات الله التي يسمعها هزوا، لأنها ترد على إنسان قد غرق في اللهو، وسكر بما يتعاطاه من كئوس الضلال، فلا يرى فيها إلا ما اعتاد أن يراه، ويتعامل به من لهو وضلال.. فهذا الضال ومن على شاكلته، لا جزاء لهم إلا النار. والضمير في قوله تعالى: «وَيَتَّخِذَها» يمكن أن يعود إلى آيات الكتاب فى قوله تعالى: «تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ» كما يمكن أن يعود إلى سبيل الله في قوله تعالى: «لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» .. إذ كانت سبيل الله هى التي أقامتها آيات الله، وكشفت للناس معالم الطريق إليها.. وفي قوله تعالى: «بِغَيْرِ عِلْمٍ» - إشارة إلى أن ضلال هذا الضال لم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 557 يكن عن نظر، وتدبر، وتقدير، وإنما كان عن جهل، وغباء، وتسلّط أهواء. فقد يطلب الإنسان الهدى، ثم لا يهتدى إليه، لسبب أو لأكثر، ومثل هذا الإنسان لا بد أن يجد الطريق إلى الهدى في يوم من الأيام، ما دام جادّا في الطلب والبحث.. أما من ترك لنفسه الحبل على الغارب، وأخذ بكل ما يلقاه، فإنه لن يجد إلا ما تميل إليه نفسه من أهواء وضلالات.. وفي إفراد الضمير في قوله تعالى: «يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ» ثم جمعه في قوله تعالى: «أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» - إشارة إلى أن تحصيل الهدى، أو الضلال، إنما هو أمر ذاتى، يتعلق بذات الإنسان وحده، ويحاسب عليه وحده.. أما حين يقع الحساب، فإنه يجتمع مع من هم على شاكلته.. فإن كان من أهل الإيمان، والإحسان، اجتمع إليهم، وشاركهم النعيم الذي هم فيه، وإن كان من أهل الهوى والضلال، اجتمع مع أهل الهوى والضلال، وشاركهم ما يلقون من نكال، وعذاب. قوله تعالى: «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً.. فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» . هو بيان كاشف لحال هذا الذي يتخذ لهو الحديث، ليصل عن سبيل الله، ويتخذ آيات الله وسبيل الله هزوا. فهذا الضال إذا تليت عليه آيات الله، أعرض عنها، مستكبرا أن يتلّقى ما يلقى إليه من النبي، ومستنكفا أن يلقاه أحد بنصح أو إرشاد. وفي قوله تعالى: «كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها» - إشارة إلى أنه يمضى في طريقه، حين تتلى عليه آيات الله، كأن شيئا لم يطرق سمعه، فلا يتلفت إلى مصدر هذا الذي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 558 يلقى إليه، ولا يتوقف ليسأل: ماذا هناك؟ وماذا يراد منه؟ .. هكذا شأن الذين استبدّ بهم الكبر، وركبهم الغرور.. وفي قوله تعالى: «كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً» .. الوقر: الصمم.. وفي هذا توكيد للصورة التي صورت بها حال هذا الضال الذي أعرض عن آيات الله، ولم يأبه لما يسمع منها، حتى لكأن في أذنيه صمعا.. إذ هو والأصم على سواء، فى هذا الموقف.. وفي قوله تعالى: «فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» وعيد لهذا المتكبر، العنيد، الأثيم إنه لا يلقى إلا العذاب الأليم، ولا يسمع بعد هذا الإعراض، إلا ما يخرق أذنيه من نذر العذاب والبلاء.. وأنه إذا كان قد أصم أذنيه عن سماع الهدى، فإنه لن يستطيع أن يصمّها عن هذه البشرى التي تزف إليه.. فإن أحدا لا يصمّ أذنيه عن حديث يحمل إليه بشرى مسعدة.. ويا لها من بشرى.. إنها العذاب الأليم! وفي إقامة البشرى مقام النّذير، الذي يفتضيه المقام، إعجاز من إعجاز القرآن.. حيث يستدعى بهذه البشرى، ذلك الذي أصم أذنيه عن سماع آيات الله، ومضى إلى حيث يأخذ مكانه في مجلس اللهو والضلال.. ثم ما إن يتوقف عند سماع كلمة البشرى ويفتح أذنيه لها، حتى تحمل إليه معها ما يسوؤه، فيسمعه مكرها. فقوله تعالى: «فَبَشِّرْهُ» هى اليد القوية التي أمسكت به، وهى المعجزة القاهرة التي فتحت أذنيه، وألقت فيها بهذا النذير: «بِعَذابٍ أَلِيمٍ» ! قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 559 وعلى حين يسمع هذا الضال ما سمع.. مكرها- من هذا النذير الذي أمسك به، وفتح أذنيه، فإنه يسمع- مكرها أيضا، وما زالت أذناه مفتوحتين- هذه البشرى المسعدة حقا، ولكنها ليست له، وإنما هى لأعدائه، الذين يسوءه أن ينالهم خير.. فهؤلاء الأعداء، هم المؤمنون، وقد أعدّ الله لهم جنات النعيم، خالدين فيها.. وذلك ما وعدهم الله به، وهو وعد حق، لا يتخلف أبدا، لأنه من الله العزيز، الذي يعنو لعزته كل شىء، الحكيم الذي يقوم أمره على الحكمة، فلا إفراط، ولا تفريط.. و «وعد» منصوب بفعل مقدر، تقديره: وعد الله وعدا حقا.. وقد جاء النظم القرآنى على تلك الصورة الموجزة المعجزة، فحذف الفعل، وأقيم المصدر مقامه، وأضيف إلى فاعل الفعل. قوله تعالى: «خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ» . فالله العزيز الحكيم، الذي وعد عباده المؤمنين جنات النعيم، لن يخلف وعده، لأنه ذو السلطان الذي يقوم على كل شىء، وأنه لن يعجزه شىء حتى يخلف ما وعد به.. وإن من دلائل عزّته، ونفوذ سلطانه، أنه خلق السموات، وأقامها بغير عمد، وهذا أبلغ في الدلالة على القوة والعزة، والسلطان. وقوله تعالى: «تَرَوْنَها» يمكن أن يكون حالا من السموات.. كما يمكن أن يكون في محل جر صفة لعمد، أي بغير عمد مرئية لنا، ويكون المراد بالعمد، الأسباب التي أقام الله بها السماء، والتي تقوم مقام العمد في تقديرنا. وقوله تعالى: «وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ» .. الرواسي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 560 الجبال، وإلقاؤها: نزولها من أعلى، وأخذها مكانا بارزا فوق الأرض، كما يقول تعالى: «وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها» (10: فصلت) .. والميد، والميدان: الاضطراب.. فكما أن السماء تقوم على عمد غير مرئية، تقوم الأرض كذلك مرتكزة على عمد مرئية هى الجبال.. ولولا ذلك لاضطربت الأرض، وزالت عن مكانها، وضاعت معالمها.. وفي هذا إشارة إلى أن السموات محمولة على أعمدة من قدرة الله، لا تراها الأبصار، وإنما تعرفها البصائر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا» (41: فاطر) . والمراد بالسماوات، هو العالم العلوىّ، الذي يقوم فوق عالمنا الأرضى.. فحيث كان الإنسان من الأرض، فهو واقع تحت العالم العلوىّ.. وفي هذا العالم كواكب ونجوم، لو اقتربت من الأرض، أو اقتربت منها الأرض، لما كانت الأرض إلا نملة في ظلّة من الجبال، قائمة بلا عمد! .. هذا ما تراه عين العلم الحديث فيما بين السماء والأرض.. فإذا حجبت عن العيون هذه الرؤية الكاشفة، فإنها ترى السماء قائمة على الأرض، كأنها السقف المرفوع. وقوله تعالى: «وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ» . فى العدول من الغيبة في قوله تعالى «خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها» إلى الخطاب في قوله تعالى: «وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ» .. فى هذا استدعاء للجاحدين الكافرين أن يشهدوا جلال الله، وأن يروا آياته في هذه الظاهرة التي تطلع عليهم في كل حين، وأنهم إذا كانوا يجدون وجها للمحاولة في خلق السموات والأرض، وأن يقولوا: هكذا قامت السموات والأرض من غير مقيم لهما، فإنهم لا يجدون ما يقولون في إنزال الماء من السماء، وفي إخراج النبات من الأرض.. إن ذلك خلق متجدد يحدث كل لحظة من لحظات الزمن.. فإذا سألوا من أنزل هذا الماء؟ أو من أخرج الجزء: 11 ¦ الصفحة: 561 هذا النبات؟ لم يكن ثمّة إلا جواب واحد، هو الله ذو الحول والطول، الذي خلق السموات والأرض. فإنزال الماء من السماء، وإنبات النبات من الأرض، شاهد قريب حاضر، على وجود الله وقدرته، يستدل به على شاهد بعيد أشبه بالغائب، هو خلق السموات والأرض.. فناسب ذلك أن يكون ضمير الغيبة مع خلق السموات والأرض، وأن يكون ضمير الحضور مع إنزال الماء وإنبات النبات.. وقوله تعالى: «فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ» الضمير في «فيها» يعود إلى الأرض، وفي التعبير عما تخرج الأرض من ثمرات، بالزوج الكريم- إشارة إلى أن كل ما يجىء من ثمرات طيبة كريمة، هو نتيجة لمزواجة بين ذكور النبات وإناثه، كما يتزاوج الناس، والحيوان.. وإن أي ثمر لا يتولد عن لقاح بين الذكر والأنثى، هو ثمر خسيس ردىء، كما تتوالد بعض الحيوانات الدنيا بانقسام الخلية. قوله تعالى: «هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» . الإشارة هنا، إلى ما عرضته الآية السابقة، من آيات صنع الله، وآثار رحمته.. والخطاب المشركين، الذين يعبدون غير الله.. وفي هذا الخطاب، استدعاء للمشركين، أن ينظروا إلى هذا الوجود، الذي قام بقدرة الله، ثم لينظروا ما لمعبوداتهم من خلق.. وهنا يسقط في أيديهم حيث لا يجدون لمبعوداتهم أثرا.. بل إنهم ليجدون معبوداتهم بعضا من خلق الله.. ثم إنهم مع هذا لا يزالون متعلقين، بمعبوداتهم تلك، مقيمين وجوههم إليها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 562 وذلك هو الضلال المبين، الذي لا يرجى لصاحبه أن يجد الهدى أبدا.. وإن الذي يقف هذا الموقف، ويركب هذا الطريق المهلك، لهو ظالم لنفسه، جائر على فطرته.. الآيات: (12- 19) [سورة لقمان (31) : الآيات 12 الى 19] وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) التفسير قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 563 اختلف في «لقمان» هذا، اختلافا تناول الزمان والمكان اللذين عاش فيهما، كما تناول الصفة التي كان عليها، وهل كان نبيا، أم كان حكيما؟ وهل هو من بنى إسرائيل، أم من غير بنى إسرائيل؟. والقرآن الكريم، لم يصرح بأنه كان رسولا، ولم يذكره فيما ذكر من أنبياء ورسل، ولم يصله بنسب إلى إبراهيم، كما وصل أنبياء بنى إسرائيل به.. ومع هذا، فإن ذلك لا يمنع من أن يكون لقمان نبيا، فقد آتاه الله الحكمة، وهى نعمة عظيمة حلّى الله تعالى بها أنبياءه، فقال تعالى في داود عليه السلام: «وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ» (251: البقرة) . وقال تعالى في شأن الحكمة، وجلال قدرها: «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً» (269: البقرة) . ومما يرجّح الرأى عندنا بأن لقمان كان نبيا، أن القرآن الكريم سمى سورة باسمه، كما سمى سورا باسم إبراهيم، ومحمد، ويونس، وهود، ويوسف، ومريم.. وهذه التسمية تشير إلى ما للمسمى من شأن وقدر، سواء في مقام الخير أو في مجال الشر.. كما سميت سورة باسم أبى لهب، إذ كان علما بارزا من أعلام الضلال والكفر.. فهو في مجتمع الضلال إمام الضالين، كما أن النبي فى مجتمع المؤمنين، هو إمام المؤمنين.. ثم إن الحكمة التي أوتيها لقمان، حكمة ربانية، وليست من الحكم المكتسبة، التي يحصلها الحكماء والفلاسفة، بالبحث والنظر، وإنما هى فضل من فضل الله، كالرسالة، والنبوة. اللذين لا تكتسبان بتحصيل واجتهاد.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 564 - وقوله تعالى: «أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ» .. أن هنا تفسيرية، والجملة بعدها مفسرة للحكمة التي آناها الله لقمان، وهى أن يكون عبدا شكورا لله.. فشكر الله هو رأس الحكمة، إذ لا يكون الشكر إلا عن إيمان وثيق بالله، وعن رضا مطلق بكل شىء يصيب الإنسان، ولهذا كان شكر الله من أعظم الصفات التي يخلصها لله سبحانه وتعالى، على المرضىّ عنهم من عباده، كما يقول سبحانه فى إبراهيم: «إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (120- 121: النحل) . كما كان الشكر دعوة من دعوات الله إلى رسله وأنبيائه، كما يقول سبحانه، لداود: «اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً ... وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» (13: سبأ) . فالشكر، ثمرة الإيمان، ومن حرم الشكر، فقد خلا قلبه من الإيمان.. ولهذا قرن القرآن الكريم الشكر بالإيمان، وجعلهما على كفتى ميزان، سواء بسواء.. فقال تعالى: «وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» (172: البقرة) . وقال سبحانه: «وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ» (152: البقرة) .. وهذا ما جاء عليه قوله تعالى في هذه الآية: «وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ» .. أي أن عائد الشكر، إنما يعود إلى الشاكر نفسه، ليس لله منه شىء، فإن الله غنى عن العالمين، لا ينفعه شكر من يشكر، ولا يضره كفر من يكفر، كما يقول سبحانه: «إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ» (7: الزمر) . قوله تعالى: «وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 565 هو معطوف على قوله تعالى: «أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ» .. فإن قوله تعالى: «أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ» يفهم منه أنه شكر لله، بما آتاه الله من حكمة، فكان بهذه الحكمة من المؤمنين بالله، الشاكرين له، وهو إذ كان حكيما إذ آمن بالله وشكر له، فإنه كان حكيما كذلك إذ نفع بهذه الحكمة أقرب الناس إليه، وآثرهم عنده، وهو ابنه، فدعا ابنه إلى الإيمان بالله، وإلى إخلاء قلبه من الشرك، حتى يلحق بأبيه، ويكون من الشاكرين لله، ثم حذّره مغبة الشرك، وما يقع على الإنسان منه من ظلم عظيم، إذ يصيبه في مقاتله، ويورده موارد الهالكين.. قوله تعالى: «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» . جاءت هاتان الآيتان معترضتين وصية لقمان لابنه، وذلك لتكتمل بها الحكمة، التي كان من أولى ثمراتها وأطيبها، شكر الخالق المنعم، ثم تكون الثمرة الثانية، وهى شكر الوالدين، وذلك ببرهما، والإحسان إليهما إذ كان لهما على الولد فضل الولادة، والتربية، والرعاية، ومن حق كل ذى فضل أن يشكر ويحمد ممن أحسن إليه.. وفي المأثور: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس» .. ووصاة الله للإنسان بوالديه، هى أمر، وعزيمة، وتكليف، إذ كثيرا ما ينكر الإنسان هذا الحق الذي لوالديه عليه، كما أن كثيرا من الناس يكفر بالله، ويجحد إحسان الله إليه، وفضله عليه.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 566 - وفي قوله تعالى: «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ» إشارة إلى أخفى لون في الصورة التي نبت منها الولد، ونشأ في حجر والديه، وإلفات للولد إلى هذا الخيط الواهي من الحياة التي كانت له، والتي أمسكت به الأم، نطفة ثم علقة.. ثم ما زالت تمسك بهذا الخيط في حرص وحذر، وتفرز له من عصارة حياتها ما يزيده على الأيام قوة ونماء، حتى تفتق عنه رحمها وليدا، طفلا، ثم ما زالت به تحمله بين يديها، وتضمه إلى صدرها، وترضعه من لبنها، حتى يفطم، ويرفع فمه عن هذا الينبوع الذي يمتص منه رحيق الحياة، ليستقبل بعد هذا ما يمده به والداه من طعام، حتى يشب ويكبر، ويستطيع أن يسعى سعيه في الحياة!. إنها رحلة استمرت نحو عامين، قطعها هذا الإنسان دائرا في فلك أمه، بين حمل ورضاعة. والوهن: الضعف.. ووهنا على وهن: أي ضعفا على ضعف.. وهو حال من الفاعل والمفعول معا في قوله تعالى: «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ» .. فالضعف الذي تبدأ به حياة الجنين، تتلقاه الأم، فيصيبها منه ضعف، هو ضعف معاناة الحمل.. فيجتمع ضعف الجنين، مع ضعف الأم الوارد عليها منه.. والفصال: الفطام، حيث يفصل الطفل عن جسد أمه، الذي يظل ملصقا به نحو عامين، فى بطنها، وعلى صدرها، وبين ذراعيها.. - وفي قوله تعالى: «أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ» تفسير للفعل «وَوَصَّيْنَا» .. إذ الوصاة تحمل دعوة إلى هدى وخير، ومضمون الوصاة هنا هو الشكر لله وللوالدين.. وقدم شكر الله على شكر الوالدين، لأن الله سبحانه هو الخالق وحده، وإذا كان للوالدين شىء هنا فهو لله أيضا، فما هما إلا من خلق الله، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 567 وما هما إلا أداة من الأدوات العاملة بقدرة الله وبأمره.. ومع هذا، فإن ذلك عمل من عملهما، يجزيهما الله عليه، وهو حق لله جعله الله لهما على أبنائهما، فضلا منه- سبحانه- وإحسانا. وقوله تعالى: «إِلَيَّ الْمَصِيرُ» - إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى، له كلّ شىء في هذا الإنسان الذي ولد لهذين الأبوين، وأن هذه المشاركة التي تبدو للوالدين في إيجاد الولد، ليست إلا مشاركة ظاهرية، إن أعطت الوالدين حقّ الإحسان إليهما، والبرّ بهما، فلن تعطيهما حقّ العبادة، على نحو ما كان عليه معتقد أولئك الضالين، الذين يعبدون أصولهم من آباء وأجداد! ومن جهة أخرى، فإن قوله تعالى: «إِلَيَّ الْمَصِيرُ» تنبيه إلى هذا الحق الذي للوالدين على الولد، وأنه إذا قصّر في أدائه لهما، فإنه سيحاسب عليه يوم الحساب، يوم يقوم الناس لرب العالمين، ويعرضون عليه.. لا تخفى منهم خافية. - وفي قوله تعالى: «وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً» - إشارة إلى موقف آخر، مختلف عن الموقف الأول، الذي يكون فيه الابن مؤديا حق والديه، قائما ببرّهما والإحسان إليهما.. وفي هذا الموقف يكون الأبوان على غير الطريق المستقيم، على حين يكون ابنهما على طريق الهدى والإيمان.. إنهما مشركان بالله، وهو مؤمن.. وقد رأيا في إيمان ابنهما بالله خروجا على طاعتهما، واستخفافا بدينهما لذى يدينان به، وخروجا على تقاليدهما الموروثة عن الآباء والأجداد.. وهنا يقع الصدام، ويكثر الشد والجذب.. فالأيوان يؤرّقهما هذا الذي استحدثه ابنهما من دين، والابن على يقين من أمره، وعلى بصيرة من دينه، وإنه لا سبيل إلى أن يجمعه وإياهما طريق، إلا أن يؤمنا بالله، وهيهات..! والابن المؤمن هنا، بين حقين يتنازعانه.. حق الله، وهو الإيمان به، وحق الجزء: 11 ¦ الصفحة: 568 الوالدين، وهو طاعتهما، والامتثال لما يدعوانه إليه من شرك وضلال. وإنه لا خيار.. فإن حق الله أولى وألزم.. إنه يجبّ كل حق، ويعلو على كل واجب.. ولكن مع هذا، فإنه يبقى- مع الاحتفاظ بحق الله، والوفاء به- اللطف، والرفق، والمحاسن.. فإن ذلك لا يجور على حق الله ولا يؤثر في الإيمان الذي عمر به القلب: «وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما.. وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً» .. فهذا هو أعدل موقف يأخذه الإنسان هنا، فيحتفظ فيه بحق الله، ولا يجحد بعض ما لأبويه من حقوق. روى عن سعد بن أبى وقاص- رضى الله عنه- أنه كان يقول «كنت رجلا برّا بأمى، فلما أسلمت قالت يا سعد: وما هذا الذي أراك قد أحدثت؟ لتدعنّ دينك هذا، أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت، فتغيّربى، فيقال: يا قاتل أمه!! قلت لا تفعلى يا أمّه، فإنى لا أدع دينى هذا لشىء.. فمكثت يوما وليلة لا تأكل، فأصبحت قد جهدت، فمكثت يوما وليلة لا تأكل، فأصبحت قد اشتد جهدها.. فلما رأيت ذلك قلت: يا أمه، تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفسا نفسا، ما تركت دينى هذا لشىء.. فإن شئت فكلى، وإن شئت لا تأكلى، فلما رأت ذلك أكلت» ! - وقوله تعالى: «وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ» توكيد لما جاء في قوله تعالى: «فَلا تُطِعْهُما» ومعطوف عليه. وسبيل من أناب إلى الله، هو سبيل المؤمنين، كما يقول سبحانه: «وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً» (115: النساء) . وقوله تعالى: «ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» قطع لهذا الجدل، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 569 وذلك الخلاف حول الإيمان والشرك، فيما يدور بين الابن وأبويه، وإحالة لهذا الخلاف إلى الله سبحانه وتعالى، ليحكم فيه، ويجزى كلّا بما عمل. قوله تعالى: «يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ، أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ» . المثقال: ما يوزن به.. وحبة الخردل: بذرة نبات الخردل.. عادت الآيات، لتصل ما انقطع من عظة لقمان لابنه.. وقد حذرته الآية السابقة من أعظم خطر يتهدد الإنسان، ويقضى عليه، وهو الشرك بالله. وفي هذه الآية، يكشف لقمان لابنه عن علم الله، وبسطة سلطانه، حتى يعبده عن علم به، ومعرفة بما ينبغى له من كمال وجلال. فالله سبحانه، الذي يستحق أن يعبد، وأن يفرد بالعبادة، هو المالك لهذا الوجود، العالم بكل صغيرة وكبيرة فيه. حتى الحبة من الخردل، وهى من الصغر بحيث لا تكاد تمسك بها الأصابع.. هذه الحبة، إن تكن في أي مكان فى هذا الوجود.. إن تكن في صخرة، أىّ صخرة من صخور الأرض، أو تكن في السموات التي لا حدود لها، أو تكن في الأرض، على أي عمق منها، وفي أي مكان فيها- هذه الحبة الضالة الغارقة في بحر هذا الوجود، يأتى بها الله، ويخرجها من هذه الأعماق السحيقة في أحشاء الكون.. «إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ» ينفذ نور لطفه إلى كل شىء، «خبير» متمكن من كل شىء، ويعلم كل شىء علما كاشفا.. قوله تعالى: «يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 570 وبعد أن كشف لقمان لابنه عن قدرة الله، وعلمه، وحكمته، دعاه إلى عبادته، حتى إذا عبده كانت عبادته عن علم ومعرفة بمن يعبد.. وذلك مما يعطى العبادة مفهوما صحيحا، فيخشع لها القلب، وتسكن بها الجوارح، وتنتعش بها المشاعر.. أما العبادة التي لا تقوم على علم، فهى كالزرع الذي لا يقوم على سوق، أو جذور. والصلاة، هى رأس العبادات في كل شريعة، وهى عمود الدين، فى كل دين.. ولهذا كان مقامها هنا هو المقام الأول: «يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ..» .. ثم جاء بعد ذلك، ما تعطيه الصلاة من ثمر، وهو إصلاح كيان الإنسان، وتنقيته من الشوائب والأدران، فيصبح رسولا كريما من رسل الهدى والخير فى الناس، حيث ائتمر بالمعروف، وانتهى عن المنكر، وهذا ما يدعوه إلى أن يكون داعيا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، إن لم يكن بلسانه، فيعمله، وبما يجد الناس فيه، من الأسوة الطيبة والقدوة الصالحة!! فمن ائتمر بالمعروف وانتهى عن المنكر، كان أشبه بالمرآة الصقيلة يرى الناس عليها وجه الخير والإحسان، فيتمثلونه ويتخذونه قدوة لهم. وقوله تعالى: «وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ» .. إلفات إلى هذا الزاد الطيب الذي يتزود به الإنسان في الحياة، ويستعين به على الائتمار بالمعروف والانتهاء عن المنكر، وذلك الزاد، هو الصبر.. فإنه إذا قل حظ الإنسان من الصبر، فلن يجد العزم الذي يمضى به التكاليف ويقضى به الحقوق. ولهذا كانت دعوة الإسلام إلى الصبر دعوة مؤكدة، حيث يستدعى الصبر عند كل عظيمة، ويهتف به عند كل أمر ذى شأن.. ففى ميدان القتال.. لا عدّة للمؤمن أعظم ولا أقوى من الصبر.. «وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 571 الصَّابِرِينَ» .. (46: الأنفال) .. «بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ» (125: آل عمران) «وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» .. إنه لا عاصم للإنسان من الخسران، إلا أن يعتصم بالإيمان، والصبر.. والصبر، مع أنه مطلوب في كل حال، فإن الحاجة إليه أشد، والطلب له أقوى وألزم، حين يواجه المرء ما يكره من عواقب الأمور.. فهنا يكون الإنسان أمام امتحان قاس لإيمانه بربه وتوكله عليه، وتفويض أمره كله إليه.. فإن لم يجد من الصبر ما يمسك عليه إيمانه، ويقيم وجهه على الرضا والتسليم لله، استبدّ به الجزع، وقتله الهمّ، ووقعت بينه وبين ربه غيوم من التهم والظنون.. وهذه أول مزالق الشرك والكفر بالله.. - وفي قوله: «إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» - الإشارة «ذلك» إلى الصبر.. أي إن ذلك الذي تدعى إليه، وهو الصبر، هو من عزم الأمور، أي من جدّها، وصميمها، ولبابها.. وأنه مما ينبغى أن يحصّله الإنسان، ويربّى نفسه عليه، ويروضها على احتمال أعبائه.. إنه لن يرتفع الإنسان عن مستوى هذا التراب، إلا إذا حلّق بهذين الجناحين: الإيمان، والصبر.. قوله تعالى: «وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً.. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ» . الصّعر: ميل الخدّ كبرا وتعاليا.. والمرح: الخفّة عن تيه، وعجب.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 572 وإنه من كمال الإنسان أن يجمّل ظاهره، كما يجمل باطنه.. إذ كان الظاهر هو بعض ما يقرزه الباطن، وينضح به.. وليس صعر الخد، والتبختر في المشي، إلا من مشاعر التعالي، والعجب، وذلك مما يعزل الإنسان عن الناس ويعزل الناس عنه، ولا يكون من هذا إلا الجفاء، ثم العداوة والبغضاء.. - وفي قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ» - إشارة إلى أن صاحب الكبر، والتيه، كما يلقى الكراهية، والنفور من الناس، فإنه يلقى البغض من الله، والبعد عن مواقع رضاه.. لأن الكبر مفتاح كل رذيلة، وباب كل شر وضلال.. وما أوتى المشركون الذين تحدّوا رسالة الإسلام، وعموا عن مواقع الهدى منها- إلا من كبرهم، وعجبهم بأنفسهم، وبما زينت لهم أهواؤهم.. قوله تعالى: «وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ.. إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ» هو من بعض ما يجىء من التيه والكبر من شر.. حيث يخرج الإنسان في مشيه عما اعتاد الناس في مشيهم، فيصرع أو يبطىء لغير داعية، إلا أن يرى الناس أنه على غير شاكلتهم.. كذلك رفع الصوت، وإطلاقه على مداه، من غير سبب، هو استخفاف بالجماعة، وخروج على مألوفها، وإلفات لهم بهذا الصوت المدوى، إلى مصدره!. والقصد في المشي، هو الأخذ بالوسط منه، فلا إسراع ولا إبطاء، ما دام الإنسان على حال لا تقتضى هذا أو ذاك، ولا تستدعيه. - وفي قوله تعالى: «وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ» إشارة إلى كسر حدة الصوت الجزء: 11 ¦ الصفحة: 573 حياء من الناس أن يأتى هذا المنكر- وهو رفع الصوت- أمامهم، تماما، كما يغض الإنسان بصره عن الأمور المنكرة، حياء من الله، وحياء من الناس! - وفي قوله تعالى: «إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ» تنفير من رفع الصوت والخروج به على حدود الحديث المدار بين الجماعة- ولكأن هذا الذي يطلق صوته على مداه في مجلس من المجالس، هو حمار، أطلق صوته، فقطع على الجماعة حديثها.. فليكن مثل هذا الحمار إن شاء!. الآيات: (20- 28) [سورة لقمان (31) : الآيات 20 الى 28] أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) الجزء: 11 ¦ الصفحة: 574 التفسير: قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ» . كانت قصة لقمان، وما آتاه الله من حكمة، عرف بها ربه، وأقام كيانه كله على حمده وشكره، ثم ما كان من وصاته لابنه، ورسم معالم الطريق إلى الخير، والهدى، له- كانت هذه القصة معرضا للمشركين يرون فيه مواقع رحمة الله في عباده، وما يسوق إليهم من نعمة العلم الذي يعرفون به ربّهم فيما جاءهم به رسول الله من آيات الله..، إن ذلك هو خير ما يصيب الإنسان فى حياته، وما يحصّل من رزق في دنياه.. وليس المال، ولا الجاه، بالذي يرفع منازل الرجال، وينزلهم منازل الرضوان عند الله، وإنما العلم- والعلم وحده- هو الذي يحقق إنسانية الإنسان، ويعلى مقامه في الناس. وها هو ذا رسول الله، يحمل الحكمة إلى هؤلاء المشركين، ويكشف لهم بها الطريق إلى الله ولكنهم مع هذا، يأبون أن يقبلوا هذا الخير المساق إليهم، وأن ينتفعوا به.. والآيات هنا تعرض صورا من مظاهر قدرة الله، فيها الحكمة، لمن يعنيه أن يكون من أهلها.. فهؤلاء المشركون، تظلّهم نعم الله، بما سخر في السماء من شمس، وقمر، ونجوم، وتغمرهم آلاؤه بما سخر لهم في الأرض من حيوان، وما أجرى فيها من ماء، وما أخرج منها من نبات- ومع هذا فإنهم لا يلتفتون إلى شىء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 575 من تلك النعم، وإن التفتوا إلى شىء منها لم يكن لهم منه عبرة وعظة.. بل هم على ما هم عليه من ضلال وعمى، لا تزيدهم الآيات إلا كفرا وعنادا، ولا يزيدهم النور إلا عمى وضلالا.. - وقوله تعالى: «وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً» . الإسباغ: الإفاضة والشمول، عن سعة وكثرة.. والنعم السابغة: الكثيرة المتعددة- ودرع سابغة: أي ضافية، كاسية، ومنه قوله تعالى: «أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ» (11: سبأ) . والنعم الظاهرة: ما يعرفها الإنسان، ويلمسها بحواسه، أو يدركها بعقله.. والنعم الباطنة، هى ما لا يعلمه الإنسان من أسرار هذا الوجود الذي يعيش فيه.. والنعم الظاهرة قليلة لا تكاد تذكر إلى جانب النعم الباطنة، التي تغمر الإنسان ولا يشعر بها، ولا يعلم من أمرها شيئا.. وما كشف عنه العلم من أسرار الحياة، لا يعدو أن يكون سطورا من مقدمة كتاب الوجود، وما فيه من أبواب وفصول ... - وفي قوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ» إشارة إلى هؤلاء المشركين، وما هم فيه من لجاج، وعناد، مع ما يتلى عليهم من آيات الله.. إنهم يجادلون ويجادلون، وكل ما معهم من أسلحة في هذا الميدان هو الجهل والعناد.. إذ ليس معهم «علم» حصّلوه بالنظر والتأمل، ولا «هدى» تلقوه من الرسول الذي جاءهم بالبينات من رب العالمين ولا «كتاب منير» تلقوه عن رسول من رسل الله، وانتفعوا بما فيه من علم وهدى.. ومع هذا فهم يجادلون في الله، وفي تصورهم لذاته وصفاته، على هذا النحو من التصور الفاسد، الذي يجعل الله على مستوى بشرى، كشيخ قبيلة، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 576 أو ملك من ملوك فارس أو الروم، أو أمير من أمراء الأمصار على تخوم مملكتى فارس والروم!. - وفي قوله تعالى: «وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ» - إشارة إلى ما بين يدى أهل الكتاب من كتب سماوية، كان من شأنها أن تكون كتبا منيرة لهم، تكشف ظلمات الجهل، وتبدو غياهب الضلال، ولكن أهلها غيّروا معالمها، وأخفوا الحق الذي فيها، وأوقعوا الناس منها في حيرة وعمى!. قوله تعالى: «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ» . هذا موقف من مواقف الضالين في مواجهة الحق، وفي لقاء من يدعوهم إليه.. وهم في هذا الموقف إنما يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.. فإذا دعوا إلى الله، وإلى اتباع ما أنزل الله، «قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا..» .. تلك هى حجتهم، وهذا هو مستندهم.. إنهم أوفياء لآبائهم، حريصون على الاحتفاظ بتراثهم، وليس شأنهم شأن من يتنكر لقومه، ويخرج على تقاليد الآباء والأجداد، فذلك فوق أنه عقوق: هو عدوان على تلك الجامعة العصبية التي تجمع أبناء القبيلة تحت راية واحدة، سواء أكانت راية حق أو باطل.. لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... فى النائبات على ما قال برهانا إنه لا منطق ولا عقل، ولا دليل ولا برهان.. وإنما هى عصبية عمياء، كما يقول سبحانه وتعالى، على لسانهم: «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ» (23: الزخرف) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 577 - وقوله تعالى: «أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ» - هو استفهام توبيخى لهؤلاء المشركين الذين يتلقون معتقدهم عن آبائهم، دون أن يكون لهم نظر أو رأى فيما تلقوه، ودون أن يتعرفوا إلى حقيقة هذا المعتقد، وما فيه من حق أو باطل، ومن خير أو شر، وإنما يأخذونه كما هو، عادة من العادات، وتقليدا من التقاليد.. فلو أن آباءهم هؤلاء جاءوا إليهم على صورة شياطين يدعونهم إلى جهنم ويفتحون لهم أبوابها، لاستجابوا لهم، ولاقتفوا آثارهم، دون وعى، أو التفات إلى النار التي هم مدفوعون إليها، إنه التقليد الأعمى، والمتابعة الحمقاء، التي يسلّم فيها المرء وجوده كله لغيره، دون أن يجعل لعقله حق النظر والاختيار. وإنه لعدوان أثيم على الجانب الروحي في الإنسان، وذلك بحرمانه من أن يذوق بوسائله الإدراكية، والشعورية، والوجدانية، ما يغذّى هذا الجانب ويرضيه تماما كما يفعل الإنسان فيما يتصل بغذائه الجسدى، فهو الذي يتخير طعامه، ويذوقه، ويمضغه، فإن استساغه تركه يأخذ سبيله إلى جوفه، وإن مجّه، أو استخبثه، ألقى به من فيه. وحمى جوفه من سوء ما ينحم منه. فكيف يقبل الإنسان أن يدع لغيره اختيار ما يغذّى روحه ومشاعره، ووجدانه؟ إن ذلك أشبه بالتغذية الصناعية، التي يعيش عليها الأطفال أو المرضى، لا يفيد منها الجسم إلا بالقدر الذي يمسك عليه الحياة.. هذا إذا كان الغذاء الصناعى طيبا سليما.. فكيف به إذا كان خبيثا فاسدا؟. قوله تعالى: «وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ، وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 578 وإذا كان هؤلاء المشركون قد أسلموا وجههم للشيطان، وأعطوه أيديهم، فأخذوا طريقهم معه إلى جهنم، فإن المؤمنين الذين أسلموا وجوههم إلى الله، فآمنوا به ثم أتبعوا إيمانهم بالعمل الصالح، الذي يقتضيه منهم إيمانهم- هؤلاء قد أمسكوا بحبل النجاة، الذي يعصمهم من الغرق، ويسلمهم إلى شاطىء السلامة والأمن.. وفي تعدية الفعل «يسلم» بحرف الجر «إلى» بدلا من اللام، كما في قوله تعالى «فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ» - فى هذا إشارة إلى أن في هذا الإسلام معاناة، وصراعا داخليا في كيان الإنسان، حتى إن المرء ليقود نفسه ويدفعها دفعا إلى الله.. وذلك ما كان في أول الإسلام، حيث كان المسلمون تحت ظروف قاسية قاهرة.. والعروة: ما يناط به الشيء، ويعلق به، ومنه عروة القميص، وهى ما يدخل فيه لزر.. وجمعها عرى.. والوثقى: القوية، المتينة.. مؤنث الأوثق.. ومنها الثقة: وهى الشعور بالاطمئنان للشىء الموثوق به. وقوله تعالى: «وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ» أي إلى الله سبحانه المرجع والمآل، لكل أمر، فما يفعله الناس، وما يتلبسون به، من إيمان أو شرك، ومن خير أو شر، فإن إلى الله مرجعه، وعند الله الجزاء عليه.. قوله تعالى: «وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» . فى هذه الآية مواساة للنبى، وعزاء له في قومه، الذين أبوا أن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 579 يستجيبوا له، وأن يمسكوا بحبل النجاة الممدود لهم.. - وفي قوله تعالى: «وَمَنْ كَفَرَ» - إشارة إلى أن هؤلاء المشركين الذي ظلوا على شركهم، بعد أن جاءتهم دعوة الحق، قد كانوا أهل فترة قبل الدعوة، أي غير واقعين تحت دينونة الحساب والجزاء، فلما بلغتهم الدعوة ولم يستجيبوا لها، لزمهم هذا الوصف، وهو الكفر، ووقعوا تحت دينونة الحساب والجزاء.. فكأنّ هذا الكفر الذي وصفوا بهم طارئ عليهم، مستحدث فيهم! ولهذا جاء الخطاب على أسلوب الشرط، الدال على الاستقبال والتجدد معا.. - وفي قوله تعالى: «إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا» تهديد لهؤلاء المشركين الكافرين، ووعيد لهم بالعذاب الأليم، الذي هو الجزاء لأهل الشرك والكفر.. - وفي قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» .. بالانتقال من الخطاب إلى الغيبة- إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى، وإن كان عند المشركين والكافرين، غائبا عنهم، لا يشهدون جلاله، ولا يستحضرون عظمته وقدرته، فإنه عليم بما توسوس به النفوس، وما تكنّه الصدور.. قوله تعالى: «نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ» .. هو وعيد بعد وعيد لهؤلاء المشركين، وأنهم إذا تركوا وما هم فيه من أمن وسلامة، وعافية في أموالهم وأنفسهم، فذلك ظل زائل، لا يلبث أن يزول،. ثم إنهم بعد هذا ليساقون سوقا، ويؤخذون قهرا إلى المصير المشئوم الذي هم صائرون إليه، وهو العذاب الغليظ يوم القيامة.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 580 ووصف العذاب بالغلظ، كناية عن شدته، وقسوته.. قوله تعالى: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ.. قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ.. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» . أي أن هؤلاء المشركين، لو سئلوا عمن خلق السموات والأرض، لما وجدوا جوابا إلا جوابا واحدا، ولقالوا: - اضطرار أو اختيارا- خلقهن الله! فإنهم لن يستطيعوا أن يضيفوا خلق السموات والأرض إلى غير الله.. فهذه حقيقة أكبر من أن يتسع لها مراء الممترين، وافتراء المفترين.. إن المشركين ليعلمون أن لهذا الوجود خالقا، ولكن علمهم هذا قد تلبس بأوهام وظنون، واختلط بجهالات وضلالات، فلم يكشف لهم هذا العلم الطريق إلى الله، ولم يطلعهم على بعض ما لله سبحانه من كمال وجلال.. ولهذا كان الطريق بينهم وبين الله ضيقا، مظلما، معوجا، تقوم عليه، وعلى جانبه المزالق والمعاثر. - وقوله تعالى: «قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» - هو دعوة إلى النبي، وإلى كل مؤمن، بالتعقيب على هذا الجواب بحمد الله، الذي خلق السموات والأرض، فهذا الخلق- ومنه خلق الإنسان- نعمة تستوجب الحمد والشكر للخالق.. كما يقول سبحانه: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ» (1: الأنعام) وكما يقول سبحانه: «الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» (1: فاطر) .. فبين يدى كل نعمة جليلة يجىء حمد الله، منبها إلى قدر هذه النعمة، ومذكّرا بما ينبغى على العباد إزاءها من حمد وشكران.. «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً» (1: الكهف) . «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» (2: الفاتحة) . - وقوله تعالى: «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» - هو إضراب عن كلام سابق الجزء: 11 ¦ الصفحة: 581 محذوف، دل عليه المقام، وهو لم لم يحمد المشركون الله مع إقرارهم بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض، فكان الجواب: لأنهم مستكبرون، ثم أضرب عن هذا الجواب بقوله: «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» وذلك ليدل على أن استكبارهم هذا كان عن جهل مطبق.. ولو كان معهم شىء من العلم لأسلمهم هذا الاعتراف إلى الإيمان بالله، والانخلاع عن عبادة غير الله، ثم لحمدوا الله مع الحامدين، وشكروا له مع الشاكرين.. وفي إطلاق نفى العلم: «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» إشارة إلى أنهم لا يعلمون شيئا، أي شىء، من أي شىء.. علما نافعا، كاشفا. قوله تعالى: «لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» هو إبعاد للمشركين عن الله، وقطع للظنون التي تدور في رءوسهم، حين يدعون إلى الإيمان بالله، وإلى إفراده- سبحانه- بالعبادة، واختصاصه بالحمد، فيخيل إليهم من ظنونهم الفاسدة تلك، أن ذلك الإلحاح عليهم بالدعوة إلى الله، هو لحاجة الله إليهم، وافتقاره إلى عبادتهم.. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.. فالله «سبحانه» له ما في السموات والأرض.. وإنه ليملك من هؤلاء المشركين ما لا يملكون هم من أنفسهم.. إن كل شىء فيهم، ولهم، ومعهم، هو من عند الله، وإلى الله مصيره.. فكيف يكون الخالق في حاجة إلى المخلوق؟ وكيف يكون المعطى في حاجة إلى من أعطاه؟ «ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ» (27: ص) . - وفي قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» توكيد لاستغناء الله عن خلقه، وأن إيمانهم أو شركهم، وحمدهم أو كفرهم، لا ينفعه ولا يضره.. فهو «الغنى» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 582 غنى مطلقا، وهو «الحميد» المستحق للحمد، حمدا مطلقا، لكل ما كان منه في خلقه، من تقدير وتدبير.. وقوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ.. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» . ومما يكشف عن غنى الله الغنى المطلق، واستحقاقه الحمد، حمدا مطلقا، هو سعة ملكه الذي لا حدود له، وما لله من تصريف في هذا الملك، كيف شاءت إرادته.. لا معقب لحكمه. فلو تصور متصور أن كل ما في الأرض من شجر كان أقلاما، وأن كل مياه البحار قد أصبحت مدادا.. ثم أخذت هذه الأقلام تستملى من هذا المداد، وتكتب- من غير توقف- ما تتلقّى من كلمات الله- لما نفدت كلمات الله! وكلمات الله، هى مقدراته التي يقوم بها الوجود، وينشأ عنها كل موجود. فبالكلمة، خلق الله كل شىء.. «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (82: يس) . - وفي قوله تعالى: «مِنْ شَجَرَةٍ» - إشارة إلى استغراق كل ما في الأرض، شجرة شجرة، من كل جنس، وكل صنف من أصناف الشجر.. ولو جاء النظم القرآنى «من شجر» بالجمع بدلا «من شجرة» بالإفراد، لما دلّ على هذا الاستغراق، الذي يشمل كل شجرة في الأرض ولكان فيه متأول يتناول بعض الشجر دون بعض، أو الشجر الذي تستعمل منه الأقلام دون غيره مثلا.. وفي التعبير بكلمات الله- وهو جمع قلّة- بدلا من «كلام» الذي هو جمع الجزء: 11 ¦ الصفحة: 583 كثرة، إشارة إلى أن القليل من كلام الله، وهو الكلمات، لا ينفذ، ولو فنيت فى كتابتها الأقلام من كل شجر الأرض، وجفّت في مدّ هذه الأقلام بالمداد كلّ بحار العالم..! فكيف بالكثير من كلام الله. هذا، وقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» (109: الكهف) . وفي هذه الصورة، لم تذكر الأقلام التي تستملى من هذا البحر، اكتفاء بما جاء هنا من ذكر الأقلام.. فالصورتان تكمل إحداهما الأخرى، وليست إحداهما تكرارا للأخرى، كما يبدو ذلك في ظاهر الأمر. ويلاحظ أن البحر هنا يمدّه من بعده سبعة أبحر، على حين أنه في سورة الكهف يمدّه بحر مثله.. وقد يبدو أن في هذا تناقضا عند من يأخذ بظاهر الأمور، ولا يتعمق النظر فيها.. إن الأمر قائم على الفرض، وكثير من مادة الفرض وقليلها سواء فى تحقيق المطلوب منه، وهو الدلالة على سعة علم الله، وبسطة سلطانه، وامتداد ملكه، الذي لا ينفد، وأن بحرا واحدا، أو جزءا من هذا البحر ليكفى عند التجربة في الكشف عن سعة هذا العلم، وبسطة ذلك السلطان، وامتداد هذا الملك.. فالبحر الذي يمده من بعده سبعة أبحر، يواجهه الحكم بقوله تعالى: «ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ» مع السكوت عن نفاد ماء البحر. والبحر الذي يمده بحر مثله، يواجهه الحكم بقوله سبحانه: «لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 584 ففى كل صورة من الصورتين احتمال ترفعه الصورة الأخرى. والاحتمال في قوله تعالى في سورة الكهف: «لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» هو أنه يمكن أن تنفد كلمات الله، لو جىء بمثلى هذا البحر، مددا، أو بثلاثة أمثاله.. وقد رفع هذا الاحتمال قوله تعالى فى سورة لقمان: «وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ» . والاحتمال في قوله تعالى في سورة لقمان: «وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ» - هو أن الأبحر لم تنفد، وأن كلمات الله لم تنفد، وأنه لو نفدت الأبحر لنفدت كلمات الله، وقد رفع هذا الاحتمال قوله تعالى في سورة الكهف: «لَنَفِدَ الْبَحْرُ» .. وعد إلى الآيتين مرة أخرى: «وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ.. ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ» .. (لقمان) «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» (الكهف) واجعل من الآيتين آية واحدة، تجد الأبحر قد نفدت، وما نفذت كلمات الله، وتجد كلمات الله لا نفاد لها، ولو مدّ البحر، لا ببحر واحد مثله، بل بسبعة أبحر!. هذا كلام الله، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه.. «وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» . - وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» توكيد لسلطان الله، وتمكنه تمكن العزيز الذي لا يغلب، الحكيم الذي تجرى أحكام عزّته على العدل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 585 والإحسان، لا العسف والجبروت، شأن كل عزّة لا تحكمها الحكمة. قوله تعالى: «ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ» . كانت الآية السابقة معرضا فسيحا لقدرة الله، وإنه لا يحسن النظر فيه، والإفادة منه، إلا من أوتى بصرا نافذا، وبصيرة مشرقة، ثم كان معه- مع هذا- قلب مؤمن.. وفي هذه الآية، معرض محدود من معارض هذا الوجود، وهو معرض الخلق والبعث.. ثم أجمل هذا العرض في وحدة من وحدات الخلق، وهى الإنسان، فى ذات واحدة، ونفس واحدة.. فهذا الإنسان، فى خلقه، وبعثه، يكفى النظر إليه وحده، فى الاستدلال على قدرة الله، وعلى أنه هو الخالق لهذا الوجود الذي لا حدود له.. فمن نظر إلى الإنسان، وإلى أصل نشأته، وكيف تنقل في الخلق، من حال إلى حال، حتى صار هذا الكائن القوىّ، العاقل، الذي يمخر عباب البحر، ويغوص في أعماق المحيط، ويحلق في أجواء السماء، بل ويطأ القمر بقدميه- من نظر إلى هذا الإنسان الذي تخلق من نطفة، تخلقت من من أخلاط مختلفة، ثم نظر إليه في قوته وجبروته، ثم أعاد النظر إليه وقد ردّ إلى الشيخوخة والهرم- رأى كمال قدرة الله، وعلمه، وحكمته، وأنه وحده سبحانه، القادر على كل شىء، قدرة مطلقة لا يعجزها شىء.. وأن الذي خلق الإنسان، قادر على أن يخلق الناس جميعا، وأن الذي خلق الناس، قادر على أن يخلق السموات والأرض.. ففى القليل ما يدل على الكثير، وإن قطرة الماء لتحمل في كيانها خصائص ما في البحار كلها من مياه..! الجزء: 11 ¦ الصفحة: 586 - وفي قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ» . إشارة إلى شمول سمع الله لكل شىء، وإحاطة بصره بكل شىء، يستوى في هذا خفيض الأصوات وجهيرها، وقريب الأشياء وبعيدها.. وأقرب مثل لهذا- ولله المثل الأعلى- السمع والبصر، فى كيان الإنسان.. فالسمع السليم، يستقبل ويسمع جميع الأصوات الواقعة تحت دائرة حسه، لا فرق في ذلك بين كلام الإنسان، وأصوات الحيوان، وحفيف الأشجار، وهدير الرعد، وخرير الماء.. وكذلك البصر السليم، يرى كل المرئيات التي تقع في دائرته، سواء في ذلك الجميل والقبيح، والأبيض والأسود، والمتحرك والثابت. فإذا كان سمع الإنسان وبصره، يتّسعان لأكثر من شىء في وقت واحد، أفلا يكون في قدرة الله أن يسمع كل شىء، ويبصر كل شىء؟ وإذا كان الإنسان قد استطاع أن يتخذ من الوسائل ما يرى بوساطتها الأشياء البعيدة التي لم تكن تراها عينه، ويسمع الأصوات الخفية التي لم تكن تسمعها أذنه- أفلا يكون ذلك مما تطوله القدرة الإلهية وتعمل به؟ وإذا كان الإنسان قد استطاع أن ينقل الأصوات والمرئيات، لسمعه وبصره، من أطراف الأرض كلها في لحظة، أفلا تستطيع القدرة القادرة أن تفعل الكثير الذي لا حدود له في هذا المقام؟ وإذا كان بين العلماء الذين يملكون هذه الوسائل، وبين من يعيشون في حدود حواسهم الطبيعية- هذا المدى البعيد في مدركات السمع والبصر- أفلا يكون بين الله سبحانه وتعالى وبين خلقه، ما لا نهاية له من فروق؟ وإذن فما الفرق بين الخالق وما خلق؟ «أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟» (17: النحل) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 587 الآيات: (29- 34) [سورة لقمان (31) : الآيات 29 الى 34] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) التفسير: قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» . وهذا معرض آخر من المعارض الدالة على قدرة الله، وسعة علمه، ونفوذ سلطانه، إلى جانب تلك المعارض التي عرضتها الآيات السابقة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 588 فهنا- فى هذا المعرض- نشهد تلك الحركة الدائبة التي يدور في فلكها الليل والنهار، على هذا النظام الدقيق البديع، الذي لا يتوقف لحظة، ولا ينحرف قيد أنملة. وولوج الليل في النهار، مغيبه فيه، ودخوله في كيانه، وكذلك ولوج النهار فى الليل، هو مغيبه في الليل، وتواريه في داخله.. ومن هذه الصورة نرى الظلام مستكنّا في أحشاء النور: «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ» ثم نرى النور مطويّا في كيان الظلام: «وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ» .. فمن أحشاء النور يخرج الظلام، ومن أحشاء الظلام يولد النور.. وهذا من دلائل القدرة القادرة، التي تؤلّف بين الأضداد.. «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ.. ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ؟» (95: الأنعام) . ومن آياته سبحانه، أنه سخر الشمس والقمر، وأجراهما على هذا النظام المحكم، فجعل الشمس ضياء والقمر نورا، فتتجلّى آية الشمس في النهار، ونتجلى آية القمر في الليل: «تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً» (61: الفرقان) .. ولكلّ من الشمس والقمر فلكها الذي تدور فيه، من غير أن ينحرف أىّ منها عن مداره: «لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» (40: يس) . وقوله تعالى: «إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» . الأجل المسمى، هو الزمن المحدد لدورة كلّ من الشمس والقمر، أو هو الأمد المحدد لهما الجريان فيه، ثم إذا انتهى هذا الأمد توقّفا، أو أخذا اتجاها آخر.. شأنهما في هذا شأن كل مخلوق.. فلا دوام لحال أبدا.. - وقوله تعالى: «وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» معطوف على قوله تعالى: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 589 «أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ ... » وكأنه تعقيب عليه.. وذلك أن الذي ينظر متأملا في نظام الوجود، وفي قدرة الله الممسكة به، لا بد أن يؤدّيه هذا النظر المتأمل، إلى إدراك هذه الحقيقة، وهو أن الله عليم بكل ما نعمل، فلا تخفى عليه خافية من أعمالنا، دقيقها وعظيمها، خيرها وشرّها.. إنه علم العليم الخبير، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.. قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» . الإشارة هنا، إلى ما عرضته الآيات من مظاهر قدرة لله، وسعة علمه.. والجار والمجرور في قوله تعالى: «بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ» متعلق بمحذوف، يدل عليه السياق وتقديره: يقضى، أو يقطع. ونحو هذا.. أي أن ذلك الذي يراه الراءون في هذا الوجود من آيات القدرة، ومظاهر العلم- يقضى، ويقطع بأن الله هو الحق، أي الإله الحق، الذي يتفرد بالألوهة، من غير شريك، كما يقضى بأن تلك الآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله، هى الباطل كله، لا شىء من حق فيه أبدا.. وذلك من شأنه أن يقضى ويقطع بأن الله هو «العلىّ» ، المنفرد بالعلوّ والسلطان، «الكبير» الذي له الكبرياء وحده، وأن مادونه دون ضئيل، لا وزن له، ولا قدر!. قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 590 وهذه نظرة أخرى، بعد هذه النظرات التي دارت في هذا الوجود، ورأت ما رأت من آيات الله، وكشفت ما كشفت من جلاله، وعظمته، وقدرته. وهذه النظرة تتجه إلى تلك الفلك التي تجرى في البحر.. إن جريانها آية من آيات الله، لا يراها إلا كل «صبار» على ما يلقى من شدائد، فلا ييأس من روح الله، ولا يجحد حكمته فيه، وإحسانه إليه، وابتلاءه بالخير والشر.. فيصبر على البلاء، ويشكر على العافية.. - وفي قوله تعالى: «بِنِعْمَتِ اللَّهِ» - إشارة إلى أن الفلك تجرى مدفوعة بنعمة الله، ومسيّرة بقدرته.. فالباء هنا للاستعانة، كما تقول: استدفأت بالنار، وتطهرت بالماء.. وعلى هذا يكون الجار والمجرور متعلقا بقوله تعالى: «تَجْرِي» وتكون نعمة الله، هى الريح، التي تدفع الفلك.. ويجوز أن يكون الجار والمجرور حالا متعلقا بمحذوف، وتقديره، تجرى محملة بنعمة الله، أي بما تحمل من تجارات، تنقلها من مكان إلى مكان.. - وفي قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» - إشارة إلى أن آيات لله، لا يراها، ولا ينتفع بها إلا أهل الإيمان الوثيق بالله، الذين إذا أصابهم الضرّ صبروا، وإن أصابهم الخير شكروا.. وصبار: صبغة مبالغة: أي كثير الصبر، وذلك في جميع الأحوال، التي يبتلى فيها الإنسان بما يكره.. والشكور: للمبالغة أيضا.. أي كثير الشكر، الذي يستقبل كل نعمة من نعم الله بما تستأهل من حمد وشكران.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 591 قوله تعالى: «وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ» . هو تعقيب على قوله تعالى في الآية السابقة: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» .. والآية هنا تعرض حالا من أحوال الناس، وخاصة أولئك الذين لم يتصفوا بهذا الوصف الذي أشار إليه قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» .. أي إذا مسهم الضر دعوا الله مخلصين له الدين، يوجّهون وجوههم إليه وحده، يطلبون الخلاص والسلامة، فإذا استجاب الله لهم، ونجاهم مما هم فيه، لم يكونوا على حال واحدة، بل كانوا فريقين، فريق منهم «مقتصد» أي غير مسرف على نفسه في الكفر بنعمة الله، والجحود لفضله، وفريق آخر، كافر، جاحد، مسرف في كفره، وجحوده.. - وفي قوله تعالى: «وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ» مقابلة لقوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» .. فالصبار الشكور، هو المؤمن الذي يصبر على البلاء، ويشكر على العافية، و «الختار الكفور» هو الكافر، الذي يلجأ إلى الله في ساعة الشدة، وينكره ويكفر به في أوقات العافية.. والختّار: المخادع، الذي يمكر بآيات الله، فلا يعرف الله إلا وقت المحنة والضيق.. قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 592 وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً.. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ» . يجزى: أي يتحمل الجزاء عن غيره، ويستقلّ به دونه.. الغرور: ما يغرّر الإنسان، ويدفع به إلى مواطن البلاء، والشر.. من شيطان، أو مال، أو سلطان.. وبهذه الآية، والآية التي بعدها تختم السورة.. وفي هذا الختام دعوة عامة للناس جميعا إلى الله، وإلى الإيمان به، والخشية له، واتقاء عذابه يوم القيامة، حيث تجزى كل نفس بما كسبت، ولا يغنى أحد عن أحد شيئا.. فهنالك تتقطع الأنساب، ويشغل كل امرئ بنفسه، «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ.» (34- 37: عبس) .. «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» (88- 89: الشعراء) . - وقوله تعالى: «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» وعد الله هنا هو يوم القيامة، حيث وعد الناس بالبعث من بعد موتهم، ليلقوا جزاء ما عملوا.. وهذا وعد حق.. «وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ» (6: الروم) . - وقوله تعالى: «فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ» تحذير من الغفلة عن هذا اليوم، ومن عدم العمل له، والحذر مما يشغل الإنسان عنه، من متاع الحياة الدنيا وزخارفها، ومن المغربات التي تزين للإنسان الشر، وتدفعه عن مواقع الإحسان، بما يوسوس له به الشيطان، وما تزين له به النفس. قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 593 نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ.. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» .. مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة قد جاءت داعية إلى الإيمان بالله، وإلى خشية عقابه يوم القيامة.. وقد جاء فيها قوله تعالى: «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» ليؤكد وقوع هذا اليوم، وأنه آت لا ريب فيه، إذ كان وعدا من الله.. والله لا يخلف وعده.. وهنا في هذه الآية، تقرير لهذه الحقيقة، وتأكيد لوقوعها كما وعد الله.. وذلك أن أكثر ما أضل الضالين، هو إنكارهم ليوم القيامة، أو تشككهم فى وقوعه، إذ كان أمرا بعيدا عن متناول الحس، والإدراك، بعيدا عن التصور، إذا قيس بمقاييس المادة.. فجاءت هذه الآية لتؤكد هذه الحقيقة، ولترى أن هناك أمورا حاضرة يعمل فيها الإنسان، ثم هى مع هذا محجوبة عنه، إن عرف مبتداها، لم يعرف منتهاها، وإن أمسك بأولها، أفلت منه آخرها، ومن ذلك اتجاه مسيرة الإنسان في الحياة، وما يقرر له من رزق فيها.. إن أحدا لا يستطيع أن يخطّ المصير الذي هو صائر إليه، ولا يدرى ماذا ستطلع به الأيام عليه من خير أو شر.. فإذا كان ذلك كذلك، فلم يجادل الإنسان في أمر الآخرة؟ ولم يشكّ في وقوعها إذا كان علمه قاصرا محدودا، لا يستطيع أن يكشف به ما يلقاه في عده؟ - وفي قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» أسلوب قصر، مؤكد، ويراد به قصر علم الساعة على الله وحده. وعلم الساعة هو كل ما يتصل بها، من اليوم الذي تجىء فيه، وما يقع فيها من أحداث، وما يلقى كل إنسان من جزاء.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 594 - وقوله تعالى: «وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ» معطوف على خبر إنّ، وهو قوله تعالى: «عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» فهو جملة بمعنى يعلم.. أي إن الله يعلم الساعة، وينزل الغيث.. أي أنه سبحانه هو الذي ينزل الغيث بأمره وقدرته.. يسوقه إلى حيث يشاء، وينزله حيث يشاء، ومتى يشاء.. وليس يعترض على هذا بما يصطنعه العلم اليوم من مطر صناعى، فإن هذا المطر إنما يصطاده العلم اصطيادا، من بخار الماء الذي أنزله الله.. وإنه لا يعدو أن يكون أشبه بقطرات الماء التي تتكاثف على سطح إناء مملوء بماء مثلوج، أو قطرات الندى التي تتساقط من الهواء على النبات في الليل!. وإذا كان للعلم أن يقف لهذه الحقيقة، فليصطنع الهواء أولا، ثم ليصطنع الماء ثانيا، ثم ليجمع بين الماء والهواء ثالثا.. وعندئذ يقال إن العلم إنما يعمل فيما هو له.. أما أن يعمل العلم فيما هو لله، فهو لا يعدو أن يكون نفسه مادة من تلك المواد التي يعمل فيها. - وقوله تعالى: «وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ» معطوف على قوله تعالى: «وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ» .. وقد عرضنا لتفسير هذه الآية عند تفسير قوله تعالى: «اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ» (8: الرعد) . وعلم الله تعالى لما في الأرحام، هو علم شامل يكشف عما في الأرحام كلها، فى الإنسان والحيوان، وما في كل رحم من ذكر أو أنثى، وما يكون لهذا المخلوق من حياة، وما يقدّر له من رزق!. وقد وقف أكثر المفسرين بمفهوم هذا العلم على نوعيّة الكائن في الرحم، أهو ذكر أم أنثى؟. وهذا مفهوم قاصر لا يناسب علم الله الواقع على ما في الأرحام.. إن علم الله علم كاشف لكل ما في الأرحام، ما كان منها، وما سيكون، ثم هو علم كاشف لكل مولود يولد منها، والصورة التي سيكون عليها، والمكان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 595 الذي يأخذه في الحياة، والخطّ الذي يسير عليه المولود من مولده إلى مماته.. هذا، وقد انزعج إيمان كثير من المؤمنين حين جاءتهم أنباء العلم، بأن العلماء قد استطاعوا- أو هم على وشك أن يستطيعوا- معرفة ما في رحم الأمّ.. من ذكر أو أنثى! ونقول لهؤلاء المشفقين على إيمانهم من هذا الذي دخل به العلم على الدين متحديا قدرة الله- كما يتصورون- نقول لهم: ليس الأمر على ما تتصورون.. فلا تضيقوا بالعلم ذرعا، ولا تنظروا إليه شزرا، بل دعوا العلم ينطلق إلى أبعد غاياته، وشاركوا في موكبه الفاتح المظفر.. فما هو إلا ضوء من أضواء الحق، تكشف عن بعض آيات الله، وعلمه، وقدرته.. وماذا على الدّين من أن ينظر العلم في آية من آيات الله، كهذه الأجنّة التي أودعها الخالق في الأرحام، فعرف العلم منها ماذا أودع الله فيها؟ وماذا على الدين من أن ينظر العلم إلى البعوضة بالمجهر، فيرى فيها كائنا سوىّ الخلق، ذا فم، وعين، وأجنحة، وأرجل.. ثم أعمل فيها مبضعه تحت المجهر، فرأى لها أجهزة للهضم والتنفس! وجوارح للسمع والبصر، والشم، والذوق؟ وماذا على الدين من العلم، لو نظر إلى الشمس، ووضعها تحت مقاييسه، فرأى فيها أنها ليست هذه الكرة الصغيرة المضيئة، التي نراها، بل رآها كونا عظيما، ملتهبا، يبلغ حجمه مليونا وربع مليون من مثل حجم الأرض؟ وماذا على الدين لو نظر العلم في المجرة فرأى فيها ملايين من الشموس التي تكبر شمسنا حجما وأثرا؟ ماذا على الدين من فتوحات العلم هذه؟ إن العلم هنا هو خير داعية إلى الله، وإلى الإيمان به، وملء القلوب والعيون جلالا وهيبة وإعظاما لله! الجزء: 11 ¦ الصفحة: 596 إن العلم إنما يعمل هنا فيما خلق الله، لا فيما خلق العلم.. فليغرس الماديون الذين يجهلون قدر العلم، كما جهلوا قدر الله.. إن من صفات الله سبحانه أنه العليم، وأن العلم هو أجل نعم الله على عباده، وهو الذي ترجح به موازين الناس، وترتفع به منازل بعضهم على بعض: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ..» (9: الزمر) .. وإنه ليكفى العلم قدرا وجلالا، أن يرفع الله قدر أهله، وينزلهم منازل رضوانه، بقدر ما حصّلوا من علم، وما حققوا من إيمان.. فيقول سبحانه: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ» (11: المجادلة) .. بل يكفى أن نظم الله سبحانه وتعالى العلماء في عداد الملائكة، فقال سبحانه: «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ» (18: آل عمران) . - وقوله تعالى: «وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» هو من بعض علم الله في خلقه، وأنه سبحانه، هو الذي يقدّر الأرزاق، كما يقدّر الأعمار.. فلا يدرى إنسان ماذا قسم الله له من رزق، وماذا كتب الله له من عمر.. كما لا يدرى أحد على أي ميتة يموت، ولا في أي موضع يموت! «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» .. فهو سبحانه الذي يعلم كل هذا علم الخبير بما يعلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 597 32- سورة السجدة نزولها: مكية عدد آياتها: ثلاثون.. آية عدد كلماتها: ثلاثمائة وثلاثون.. كلمة عدد حروفها: ألف وخمسمائة وتسعة وتسعون.. حرفا مناسبتها لما قبلها جاء في آخر السورة السابقة- سورة لقمان- قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» .. وقد تضمنت هذه الآية أمورا خمسة، جعلت علمهن مما استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه وليس لعلم الإنسان سبيل إليهن.. وقد جاء في هذه السورة - سورة السجدة- بيان شارح لهذه الأمور.. ومؤكد لتقريرها.. كما سنرى. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الآيات: (1- 11) [سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9) وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) الجزء: 11 ¦ الصفحة: 598 التفسير: قوله تعالى: «الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» . «الم» مبتدأ. وقوله تعالى: «تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» خبر محذوف، لمبتدأ آخر، دل عليه ما قبله، والجملة من المبتدأ المقدّر وخبره، خبر «الم» .. وتقدير هذا: «الم» ذلك «تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين» - أي على هذا الأسلوب نزل كتاب الله.. مجملا ومفصلا، محكما ومتشابها. فألف، لام، ميم.. حروف مفصلة، و «الم» كلمة واحدة.. وألف، لام، ميم، محكمة، إذ لكل حرف منها دلالته.. و «الم» متشابهة، إذ لا يعلم تأويلها في هذه الصورة المركبة، إلا الله، والراسخون في العلم. ومعنى «تنزيل» أي النزول الذي نزل القرآن على صفته من رب العالمين. - وقوله تعالى: «لا رَيْبَ فِيهِ» جملة حالية، من الكتاب.. وهى بمنزلة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 599 الصفة للكتاب، بمعنى أن الكتاب الذي نزل من عند الله، «لا رَيْبَ فِيهِ» . أي ليس فيه موضع لريبة أو شكّ، لأنه الحق الذي لا شبهة فيه.. ويجوز أن يكون معنى «لا ريب فيه» نفى الريب والشك عن نزوله من الله، أي لا ريب فى أنه نزل من عند الله. - وقوله تعالى: «مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» متعلق بقوله تعالى: «تَنْزِيلُ» أي أن ذلك الكتاب منزل من رب العالمين.. وكفى بإضافته إلى الله سبحانه وتعالى، جلالا وشرفا لهذا الكتاب.. وفي إضافته إلى «رب العالمين» إشارة إلى ما يحمل إلى الناس جميعا من فضل ربهم وإحسانه إليهم، فهو- سبحانه- الرب، وهم المربوبون له، المنشّئون في ظل رعايته.. قوله تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ.. بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» . الضمير في «يقولون» يعود إلى المشركين، وهم وإن لم يجر لهم ذكر، مذكورون في هذا المقام، الذي لا يرى فيه غير أهل الشرك والضلال والعناد، الذين ينكرون الحق، ويمارون فيه.. - وفي قوله تعالى: «افْتَراهُ» عدول من الخطاب إلى الغيبة، وهذا على غير ما يقتضيه النظم، إذ كان قوله تعالى: «تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» خطابا للنبى، لأن القرآن كله خطاب من ربه إليه، ثم ما جاء بعد ذلك فى قوله تعالى: «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ» يقضى بأن يكون مقام النبي هنا مقام حضور، لا مقام غيبة.. والسؤال هنا: ما سر هذا الاختلاف في النظم؟ ولم خوطب النبي- صلوات الله وسلامه عليه- خطاب غيبة في قوله تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 600 افْتَراهُ» ؟ ولم لم يجر الخطاب على هذا النسق في قوله تعالى: «بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ..؟» والجواب على هذا- والله أعلم- هو أنه لما كان الافتراء، مما لا يليق بمقام النبوة، ولا يصح أن يطوف بحماها، فقد كان إكرام الله سبحانه وتعالى لنبيه الكريم، وإحسانه إليه، ورفعه لقدره، أن عزل سمعه عن أن يواجه بهذا المكروه من القول الذي يقوله المشركون فيه، وحتى أنهم وإن أرادوا النبي به، فإنما هو مصروف عنه إلى غيره، ممن يصح أن يكون منه افتراء.. وهذا- فوق أنه تكريم للنبى، وإعلاء لقدره- هو أدب سماوى، وإعجاز قرآنى، فى تصوير الوقع، وضبطه على أحكم ميزان، وأعدله، وأقومه.. أما حين يكون الأمر مما يخص النبي، ويتعلق برسالته، ويحقق صفته، فإنه يكون من مقتضى الحال أن يواجه النبي بالخطاب، وأن يتلقى ما يخاطب به فى مشهد وحضور، فذلك أرضى لنفسه، وأهنأ لقلبه.. ولهذا جاء قوله تعالى: «بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» . - وقوله تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ» هو إنكار لتلك المقولة المنكرة التي يقولها المشركون في كتاب الله.. فهم في هذه القولة، يرتكبون جنايتين: أولاهما: اتهام النبي بالكذب والافتراء.. وهم على علم بأنهم كاذبون مفترون، إذ أنهم يعرفون صدق هذا النبي، الذي لم يعرف الكذب في حياته، ولم يجربوا عليه كذبة منذ عرفوه، صببا، وشابا، وكهلا.. وثانيتهما: أنهم يفترون الكذب على هذا الكتاب، وهم يرون بأعينهم آيات الحق مشرقة في كل كلمة من كلماته، ومع كل آية من آياته! فلو أنهم اتهموا النبي لردّهم عن هذا ما رأوا من صدق الكتاب نفسه، ولو أنهم اتهموا الكتاب لصدّهم عن ذلك ما عرفوا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 601 من صدق النبي.. ولكنه العناد الذي يورد أهله موارد الضلال، ويرمى بهم فى مواطن السوء. - وقوله تعالى: «بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» .. إضراب على مقولتهم تلك، واعتبارها من لغو الكلام، وسقط القول، وإزالة هذا القول المنكر من هذا المقام، وإقامة الحق مقامه.. «بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» . - وقوله تعالى: «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» يتعلق بقوله تعالى: «تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» أي أن هذا الكتاب المنزل من ربك بالحق، إنما أنزل إليك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك.. والقوم هنا هم قوم النبي.. وفي ذكرهم هذا الذكر المنكر «قوما» بدلا من إضافتهم إلى النبي هكذا: «لتنذر قومك» .. إشارة إلى أنهم كانوا على حال من الضلال والضياع، بحيث كادت تذهب معالمهم، وتضيع إنسانيتهم، وفي هذا ما يدعوهم إلى النظر إلى أنفسهم، وإلى البحث عن وجودهم الضائع، حتى يجدوه في ضوء هذا النور المرسل إليهم. - وقوله تعالى: «ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ» .. إشارة إلى أن هؤلاء المشركين لم يأتهم نبى قبل هذا النبي يحمل كتابا من عند الله، يدعوهم به إلى دين الله.. وليس يرد على هذا ما كان من مقام إبراهيم وإسماعيل في هؤلاء القوم، وما كان لآبائهم الأولين من اتصال بهذين النبيين الكريمين، ومن الإيمان بهما، والأخذ عن شريعتهما، وذلك لأمرين: أولهما: أن إبراهيم عليه السلام- لم يلقهم لقاء مباشرا، ولم يكن من شأنه معهم أن يبشر فيهم بشريعته، وإنما أقام البيت الحرام، مع إسماعيل، وترك لإسماعيل مهمة القيام على هذا البيت، ودعوة من يلمّون به، إلى الإيمان بالله، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 602 والأخذ بشريعة أبيه إبراهيم.. وقد كان من هذا أن تابع إسماعيل على شريعة أبيه، كثير من العرب، وعبدوا الله حنفاء مخلصين له الدين. وثانيهما: أنه لما طال العهد بهؤلاء القوم، تفلتوا من شريعة إبراهيم شيئا فشيئا، حتى لم يبق في أيديهم منها إلا ظلال باهتة، وإلّا رسوم دارسة، وحتى لقد زحف الشرك على موطن الإيمان، وأجلاه من مواقعه، وأصبح بيت الله مجمعا لآلهة الضلال التي جلبوها إليه، من أصنام وأنداد. وعلى هذا تكون رسالة إسماعيل إلى العرب، رسالة قاصرة، محدودة الزمن، قد أدت دورها في فترة، لم تتجاوز جيلا أو جيلين، ثم غربت شمسها، إذ لم يكن وراءها كتاب، يقوم في القوم مقام الرسول بعد موته. وبهذا يكون المراد بالقوم في قوله تعالى: «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ» هم هؤلاء المخاطبون من المشركين، ويدخل معهم في هذا الخطاب آباؤهم الأقربون، إذ لو كان قد جاء إلى آبائهم الأقربين رسول، لكانوا محسوبين مع آبائهم هؤلاء، داخلين في دعوة الرسول الذي لقى آباءهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى. «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ» (6: يس) . - وفي قوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» . إطماع لهؤلاء المنذرين في الاهتداء إلى الله، وانتفاع بهذا الكتاب الذي يتلى عليهم، وأنه كتاب يرجى منه الهدى لكثير منهم، الأمر الذي تحقق فيما بعد، فآمن كثير منهم به، ودخلوا فى دين الله أفواجا..! قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 603 عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ» . هذا من بعض ما يحمل الكتاب من نذر ينذر بها الرسول قومه.. ففى هذا النذير إلفات إلى قدرة الله، وإلى سلطانه القائم على هذا الوجود، وأنه سبحانه هو الذي خلق السموات والأرض، وقام بسلطان قدرته عليها، وعلى تصريف كل شىء فيهما.. فليؤمنوا إذن بهذا الإله المتفرد بالألوهة، وليتركوا ما هم عاكفون عليه من أصنام.. فإن لم يفعلوا أخذهم الله بعذابه الذي لا يدفعه عنهم «ولىّ» أي قريب أو حليف، ولا يشفع لهم من بأس الله «شفيع» من تلك المعبودات التي يعبدونها من دونه، ليقربوهم إلى الله زلفى.. - وقوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» . قد عرضنا لتفسيره من قبل، فى غير موضع، وقلنا إنه ليس المراد بالستة الأيام هنا اشتغال الله سبحانه وتعالى بعملية الخلق طوال هذه المدة، كما فهم ذلك كثير من المفسرين، نقلا عن التوراة، وما جاء في أول سفر التكوين منها، من أن الله خلق المخلوقات في ستة أيام، ثم استراح في اليوم السابع.. تقول التوراة: «فى البدء خلق الله السماوات والأرض..» ثم تقول وهى تعرض ما خلق الله في السموات والأرض: «وكان مساء وكان صباح.. يوما واحدا.. وكان مساء وكان صباح يوما ثانيا وكان مساء.. وكان صباح يوما ثالثا.. وهكذا إلى اليوم السادس، ثم تقول: «فأكملت السماوات والأرض وكل جندها، وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل» !! وهذا فهم خاطئ لقدرة الله، وتحديد لتلك القدرة، ومقايسة لها بقدرة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 604 المخلوقين، حتى إنه سبحانه- ليعمل في كل يوم عملا، ثم يستريح بعد أن يعمل، وحتى لكأنّ العمل قد أجهده وأتعبه.. وتعالى الله عما يقول الضالون علوا كبيرا.. «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (82: يس) . وقد قلنا إن هذه الأيام، هى العمر الذي نضج في بوتقته خلق السموات والأرض، تماما كما يتخلّق كل مخلوق في زمن محدد.. من النطفة إلى الوليد، ومن البذرة إلى الثمرة.. فلكل جنين زمن يتم فيه تكوينه، ولكل ثمرة وقت تبلغ به تمامها ونضجها.. وهكذا كل مخلوق مما خلق الله!. أما حصر الخلق في الستة الأيام هذه، فذلك شأن من شئون الله في خلقه، لا يسأل عما يفعل.. «يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ» (68: القصص) . - وفي قوله تعالى: «ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» ما يسأل عنه: ألم يكن الله سبحانه وتعالى عرش يستوى عليه قبل أن يخلق السموات والأرض؟ ألم يكن هناك سلطان لله قبل أن يخلق ما خلق؟. ومع أن هذا التساؤل لا محل له، لأنه مما يتعلق بذات الله، ومما لا تناله العقول، ولا تدركه الأفهام.. فالسؤال شطط، والجواب عنه إمعان في هذا الشطط- مع هذا، فإننا لكى نرضى هذا التطلع والفضول منا، نقول: إن سلطان الله قائم أبدا، وجد هذا الوجود أم لم يوجد.. فالعلم، والقدرة، والحكمة، والسمع، والبصر، وغير ذلك من صفات الله، هى صفات أزلية قائمة بالذات، سواء ظهرت آثارها أو لم تظهر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» (50: طه) .. فهداية الجزء: 11 ¦ الصفحة: 605 الله للمخلوقات قائمة قبل الخلق، ولكنها تتجلى حين يظهر المخلوق، ويأخذ الانجاه الذي توجهه قدرة الله، وعلمه، وحكمته إليه.. ومثله قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» (40: الروم) . فهذا الخلق، ثم الرزق، ثم الإماتة، ثم الإحياء، كلها واقعة في علم الله، مقدورة لقدرته، ولكنها تتجلى في كل مخلوق، حالا بعد حال، وزمنا بعد زمن، حسب علم الله وتقديره. واستواء الله سبحانه وتعالى على العرش، هو تجلّيه سبحانه على هذه المخلوقات التي خلقها، وإجراؤها على النظام الذي قدره لها.. قوله تعالى: «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» . تدبير الأمر، قضاؤه، والأمر بإنفاذه.. والمراد بالسماء هنا، الإشارة إلى متنزل هذا الأمر المدبر، وهو أنه من سلطان عال متمكن.. والمراد بالأرض: الإشارة إلى ما يقضى به الله في شأن الناس، وما يتصل بعالمهم الأرضى، إذ كانوا هم المخاطبين بهذا، والمدعوين إلى النظر فيه، وتلقّى العبرة منه.. وعروج الأمر إلى الله، هو الرجوع إليه، بعد أن يقع على الصورة التي أرادها، فيعلمه سبحانه على الصورة التي وقع عليها، وهذا العلم ليس الجزء: 11 ¦ الصفحة: 606 حادثا، بل هو علم قديم، لأمور حادثة.. فكل الأمور تصدر عن الله، ثم تعود إليه، بعد أن تدور دورتها المقدورة لها، كما يقول سبحانه: «أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ» (53: الشورى) . - وقوله تعالى: «فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» - اختلفت الأقوال في هذا اليوم، وهل هو يوم القيامة، أم هو يوم من أيام الله في هذه الدنيا.. واليوم، هو وحدة من وحدات الزمن عند الناس، فى هذه الدنيا، وهو محدود بأربع وعشرين ساعة، تدور فيها الأرض دورة كاملة حول الشمس، من الغرب إلى الشرق. وقد ورد في القرآن الكريم موازنة بين أيام الدنيا هذه، وأيام أخرى عند الله، فكان من تلك الأيام ما يوازى ألف سنة من أيام دنيانا، كما يقول الله تعالى في هذه الآية، وكما يقول جل شأنه في آية أخرى: «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» (47: الحج) . وجاء في موضع آخر من القرآن الكريم، أن من الأيام عند الله ما يعدل خمسين ألف سنة من أيامنا.. كما يقول سبحانه: «تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» (4: المعارج) .. وهناك أيام تعدل ما لا حصر له من أيامنا في دنيانا تلك.. والذي نطمئن إليه في تأويل هذا اليوم الذي مقداره ألف سنة، واليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة- هو أن هذين اليومين يوقّتان دورتين من دورات الأجرام السماوية في أفلاكها، وأن اليوم الذي مقداره ألف سنة من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 607 أيام الأرض، هو يوم كوكب من الكواكب السماوية، حيث تتم دورته فى فلكه في ألف سنة.. ويمكن أن يكون هذا الكوكب في السماء الدنيا.. ويكون في الحديث عن هذا الكوكب، أو عن يومه وطوله بالنسبة ليوم الأرض- إشارة إلى قصر الحياة على هذه الأرض، ومع هذا، فإن الناس يستعجلون مقامهم فيها، ويستحثون مطاياهم للارتحال عنها: «خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ» . وإذا كان في الكواكب ما يتمّ دورته في يوم. مثل فلك الأرض، وكان فيها ما يتم دورته في ألف سنة، مثل كثير من الكواكب- فإن هناك من الكواكب ما يتم في دورته في خمسين ألف سنة.. وهناك ما يتم دورة في آلاف آلاف من السنين.. فهناك أيام كثيرة في علم الله، لدورات الكواكب والنجوم المبثوثة فى ملك الله.. ولعل هذا هو السرّ في تنكير «يوم» فى المواضع الثلاث التي جاء فيها تحديد الزمن اليومي، بألف سنة، وبخمسين ألف سنة.. فكل يوم منها، هو بعض أيام الله، فلله سبحانه أيام لا تحصى في النظام الذي أقام عليه حركات الكواكب والنجوم، التي لا يعلمها إلا الله. قوله تعالى: «ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» . الإشارة هنا إلى الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ثم يعرج إليه فى يوم كان مقداره ألف سنة من أيام دنيانا وهو الله سبحانه وتعالى.. وقوله تعالى: «عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ» خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو، أي ذلك المشار إلى قدرته في تدبير الأمور، هو عالم الغيب والشهادة، وهو العزيز الرحيم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 608 وقدم علم الغيب على الشهادة، للإشارة إلى أن علم الله علم مطلق، لا تحدّه حدود، فيستوى لديه القريب والبعيد، والظاهر والخفىّ، إذ لا قرب وبعد، ولا خفاء وظهور.. لأن ذلك إنما يكون بالإضافة إلى العلم القاصر المحدود، الذي يتناول شيئا ويقصر عن شىء.. أما العلم الكامل المطلق، فحقائق الأشياء كلها واقعة في دائرة هذا العلم كحقيقة واحدة!. وفي وصف الله سبحانه بالعزة والرحمة، إشارة إلى أن عزته سبحانه وتعالى، عزة رحمة وإحسان، وليست عزة تسلط وقهر، فإن من شأن العزة القهر والجبروت، وفي المثل: «من عزّ بزّ» .. وتعالت عزة العزيز الحكيم عن ذلك علوا كبيرا.. قوله تعالى: «الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ» . أي أن من عزة الله ورحمته قيام هذا الوجود على أحسن نظام، وأكمله.. والمراد بالحسن هنا ليس مجرد حسن السورة، وإنما هو الحسن الذي يتجلى فى إحكام الصنعة، ودقة التنسيق، وروعة التأليف، وتجاوب النغم، ووحدة الغاية، وإن اختلفت الاتجاهات، وتعددت الأنغام.. «ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ» .. فدبيب النملة على مسارها، وجريان الشمس في فلكها، وتدفق النهر في مجراه، وحفيف الأوراق على أشجارها، وكل همسة، وكل حركة في هذا الوجود، فى أرضه وسماواته، تؤلّف جميعها لحنا علوىّ النعم، يروع القلب جلاله، ويأسر الفؤاد حسنه وجماله.. سواء أنظر الإنسان إليها في اجتماعها أو افتراقها، وسواء استعرضها على تفصيلها أو إحمالها. - وفي قوله تعالى: «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ» إلفات إلى وحدة من وحدات هذا الخلق، وإشارة إلى مواطن هذا الحسن منه، وهو خلق الإنسان من طين ... الجزء: 11 ¦ الصفحة: 609 ففى هذا الطين الذي قد تنبو عنه العين، ويتحاشاه النظر حسن رائع، وجلال مهيب، إذا استطاع الناظر أن ينفذ إلى ما وراء هذا الظاهر الذي يراه، وأن يتجاوز هذه القشرة السوداء المعتمة من الطين.. فإن وراء هذه القشرة، عالما يموج بألوان زاخرة، زاهية من الحياة.. فما هذه الأناسىّ التي تتحرك على ظهر الأرض، وتملأ الحياة حركة وعمرانا، إلا بعض هذا الطين الذي نمشى عليه، وننطلق فوقه!! .. وإذا عجز إدراك الإنسان عن أن يرى في مرآة هذا الطين صورته، ويعرف الرّحم الذي تفتق عنه، فلينظر في وجوه الأرض، وما عليها من ألوان الزهر، وأصناف الشجر، وأنواع الثمر.. «وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» (4: الرعد) . فهذا الطين، ليس في عين ذوى البصائر طينا، جامدا، صامتا، كئيبا، وإنما هو الجمال كله، والحسن كله، تفتقت عنه- بقدرة العزيز الرحيم- هذه الحياة المتدفقة من إنسان، وحيوان، ونبات! فبدء خلق الإنسان من طين، هو نقطة الابتداء، التي يبدأ العقل مسيرته منها، إلى حيث يلتقى بالإنسان في أكمل صورته، وأعظم مواقفه.. وعندئذ يرى كيف تدبير الله، وقدرته، وكيف علمه، وإحسانه، ورحمته.. فما أبعد ما بين الطين والإنسان، فى عين من لا يحسن النظر، ويمعن التفكير، وما أقرب ما بين الطين والإنسان، فى عين من ينظر، فيحسن النظر بعقله وبقلبه جميعا.. فمن هذا الطين، كان الأنبياء والرسل، والقادة، والمصلحون، والعباقرة.. ومن هذا الطين كانت تلك الشموس المضيئة التي زينت الأرض كما زينت الكواكب والنجوم وجه السماء! الجزء: 11 ¦ الصفحة: 610 قوله تعالى: «ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ» .. وهذه لفتة أخرى إلى قدرة العزيز الرحيم، يرى فيها الإنسان نفسه، لا في هذا الطين، الذي ربما كانت كثافته حائلا بينه وبين نظره الكليل أن يرى وجوده فيه.. فهناك النطفة، التي يعلم الإنسان- كل إنسان- عن يقين أنه ثمرتها، وأنها البذرة التي جاء منها.. فأين تلك النطفة.. من هذا الإنسان؟ «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ» . (5- 7 الطارق) . وفي وصف النطفة بأنها ماء مهين، إشارة إلى أنها شىء رخيص مبتذل، لا يرى فيها الإنسان شيئا ذابال، فما هى إلا ماء مستقذر.. هكذا يبدو في ظاهر الأمر.. ولكن إذا نظر إليه نظرا متأملا متفحصا، رأى أنه هو هذا الإنسان، قد أجمل في هذه القطرة من الماء! ثم فصّل فكان هذا الخلق السّوىّ، الذي توّج بتاج الخلافة من الله على هذه الأرض! قوله تعالى: «ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» . وهذه أيضا لفتة أخرى، يرى فيها الناظر إلى الإنسان في مسيرته من النطفة إلى الوجود البشرى- يرى كيف تحركت هذه النطفة، وكيف نمت كما ينمو النبات، حتى إذا بلغت في رحم الأمّ مرحلة محددة، نفخ فيها الخالق من روحه، فبعث فيها الحياة، حتى إذا تم نضجها، دفع بها الرحم إلى هذه الدنيا، قطعة من لحم، مصورة في هيئة بشر، لا سمع، ولا بصر، ولا إدراك.. ثم لا يلبث هذا الوليد حتى يكون له السمع والبصر والإدراك.. وإذا هو هذا الإنسان، كما هو في كل موقع من مواقع الحياة.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 611 وقدّم السمع على البصر، لأنه أسبق من البصر ظهورا في الكائن الحي بعد الميلاد، حيث تبدأ وظيفة السمع في كيان الطفل، قبل أن يبدأ البصر في أداء وظيفته- وهذا من إعجاز القرآن، الذي كشف عنه العلم- ثم يجىء بعد هذا دور الوعى والإدراك! وفي إفراد السمع، وجمع البصر، والفؤاد، إشارة إلى أن معطيات السمع تكاد تكون واحدة عند الناس جميعا، وذلك على خلاف البصر، الذي يختلف من إنسان إلى إنسان، حيث يكون النظر عند بعض الناس مجرد عين ترى الأشياء رؤية حيوانية لا تتجاوز ظاهر المرئيات، على حين يكون النظر عند بعض آخر بصيرة نافذة، تبلغ الأعماق، وتصل إلى اللباب.. وكذلك الشأن في الفؤاد، وهو موطن المدركات! وذلك أظهر من أن يكشف عنه. - وقوله تعالى: «قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ» أي قليل منكم من يعرف لله قدره، ويذكر له إحسانه وفضله، فيؤدى الشكر لله، إيمانا به، وإفرادا له بالألوهة، وفي هذا يقول سبحانه وتعالى: «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» (13: سبأ) قوله تعالى: «وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ» . الضلال في الأرض: الضّياع، والفناء في ترابها.. وذلك بما يحدث للأجساد بعد الموت من تحلل وفناء. والحديث هنا عن المشركين، الذين ينكرون البعث، ويرون أن انحلال أجسادهم بعد الموت، وتحولهم إلى تراب من تراب الأرض، يجعل من المستحيل أن يعودوا مرة أخرى إلى ما كانوا عليه، إذ ما أبعد ما بين هذه الأجساد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 612 التي أبلاها البلى، وبين الحال التي ستصبح عليها لو صحّ أنهم سيبعثون.. ولو أنهم نظروا إلى ما دعاهم الله سبحانه وتعالى إليه، من النظر في قوله تعالى: «وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ» .. وفي قوله: «ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ» - لوجدوا أن لا فرق بين هذا التراب الذي جاءوا منه، أو تلك النطفة التي تخلقوا منها، وبين هذا التراب الذي صارت إليه أجسادهم.. بل إن فى أجسادهم الغائبة تحت التراب، إشارات تشير إليهم، وتاريخا يحدث عنهم! إنهم- وهم في التراب- أشبه بغائب ترجى له عودة، وهم لم يكونوا من قبل شيئا! وشىء يعود إلى أصله، أقرب في التصور من توقع وجود شىء من عدم! - وفي قوله تعالى: «بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ» - إشارة إلى أن هؤلاء المشركين على ضلال في حياتهم الدنيا.. قد فتنوا بها، وأذهبوا طيباتهم فيها، وأطلقوا لهواهم العنان يذهب بهم كلّ مذهب.. وهذا ما أوقع في تفكيرهم أن لا حياة بعد الموت، وأن لا حساب ولا جزاء ... لأن ذلك يعنى أن يعملوا حسابا لهذا الحساب، وأن يتخففوا كثيرا مما هم فيه من ضلال، وأن يستبقوا من يومهم شيئا لما بعد هذا اليوم.. وإنه ليس لهم إلى ذلك من سبيل، وقد غلبتهم أهواؤهم، واستولت عليهم دنياهم.. وإذن فلا يوم بعد هذا اليوم، ولا حياة بعد هذه الحياة.. إنهم- والحال كذلك أشبه بالجند في ليلة الحرب.. يقضونها ليلة صاخبة معربدة، حتى الصباح، ينفقون فيها كل ما معهم.. ثم ليكن في الغد ما يكون!! قوله تعالى: «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ» . توفية الشيء: استيفاؤه وأخذه كاملا وافيا، وعبّر عن الموت بالتوفى، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 613 لأنه لا يكون الموت حتى يستوفى الحىّ ما قدر الله له من حياة، دون زيادة أو نقصان. - وفي قوله تعالى: «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ» - إشارة إلى أن الموت الذي يحلّ بهم، ليس أمرا يقع من تلقاء نفسه، اعتباطا، كما يظنون وكما يقول شاعرهم: رأيت المنايا خبط عشواء من تصب ... تمته ومن تخطىء يعمّر فيهرم وكلّا، فإن الموت بيد الله الحكيم العليم، الذي جعل لكل نفس أجلا محدودا، فإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.. ثم إن الموت يقوم به رسول من رسل الله، مهمته هى قبض الأرواح من الأجساد، بعد أن تستوفى أجلها.. وإذا كان ذلك كذلك، فإن الذي إليه الموت، له أيضا الحياة قبل الموت، وبعد الموت.. فمن أعطى الحياة، ثم سلبها، لا يعجز أن يعطى ما سلب! «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ، ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ، ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» (28: البقرة) . الآيات: (12- 21) [سورة السجده (32) : الآيات 12 الى 21] وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) الجزء: 11 ¦ الصفحة: 614 التفسير قوله تعالى: «وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ» . هذا عرض لحال من أحوال المشركين والضالين، يوم القيامة، وما يلقون من ذلة وهوان، وما يذوقون من بلاء وعذاب.. وهم في هذا الموقف، قد سيقوا إلى ساحة الحساب بين يدى الله سبحانه وتعالى، وقد نكست رءوسهم ذلة وخزيا، وخضعت أعناقهم همّا وغمّا، يضرعون إلى الله أن يردوا إلى الحياة الدنيا مرة أخرى، ليصلحوا ما أفسدوا، وليستقيموا على طريق الحق والهدى، بعد أن أبصروا من عمى، وسمعوا من صمم، وشهدوا الحق الذي أنكروه، وعاينوا البعث الذي كفروا به، وأيقنوا أنهم كانوا في ضلال مبين.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 615 وفي هذا الاستفهام فضح لهؤلاء المجرمين، واستدعاء لكل ذى نظر أن يشهدهم وهم على موقف الهوان، وفي ثياب الذلة والصغار، وهم كانوا السادة الذين ورمت أنوفهم كبرا، وصعّرت خدودهم تيها وعجبا! وقوله تعالى: «وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها.. وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» . هو ردّ ضمنى على ما طلب المجرمون من أن يعودوا إلى الحياة الدنيا مرة أخرى.. والمعنى: أن الهدى بيد الله، وفي قيد مشيئته.. وأنه سبحانه لو شاء لهدى الناس جميعا، ولكنه سبحانه جعل للجنة أهلها ولها يعملون، وجعل للنار أهلها ولها يعملون.. وأن مما قضى الله به في خلقه أن يملأ النار ويعمرها بمن جعلهم من أهلها، من الجنة والناس! وأن هؤلاء المجرمين الذين رأوا مشاهد القيامة، وعاينوا أهوالها، وتمنوا العودة إلى الدنيا، ليستقيموا على طريق الحق والهدى- هؤلاء المجرمون، لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه، ولركبوا نفس الطريق الذي كانوا عليه من قبل، ولماتوا على الكفر والضلال، ولكانوا في أصحاب النار، وذلك لأن قضاء الله فيهم قد سبق، وأنهم لن يخرجوا عما قضى الله فيهم! ويسأل سائل: لماذا إذن كانت دعوات الرسل؟ ولماذا إذن كان العمل؟ وكان الإيمان والكفر؟ لم هذا، وقد سبق القضاء، ونزل كل إنسان منزله من الجنة والنار منذ الأزل؟ والجواب على هذا، قد عرضنا له في مبحث خاص من هذا التفسير، تحت عنوان: مشيئة الله ومشيئة العباد «1» .   (1) انظر التفسير القرآنى للقرآن- الكتاب الرابع.. ص 263 [ ..... ] الجزء: 11 ¦ الصفحة: 616 وفي كلمة موجزة نقول: إن لله قضاء سابقا في خلقه- هذا حقّ.. فللجنة أهلها، وللنار أهلها، ولن يتحول إنسان أبدا عما أراد الله له.. ولكن- مع هذا- فإن هذا القضاء محجوب عن الناس، فلا يدرى أحد أهو من هذا من الفريق أو ذاك، وذلك مما قضت به حكمة الله، حتى يظل باب العمل مفتوحا لكل عامل.. فهناك طريقان: طريق الإيمان، والهدى، وطريق الكفر والضلال. والأول موصّل إلى الجنة، والآخر منته إلى النار.. والإنسان مخيّر في اختيار أحد الطريقين.. هكذا يبدو الأمر في ظاهره، فلا قسر ولا قهر، وإن كان لله الأمر كله.. فمن كان من أهل الجنة، يسّره الله لها، ومن كان من أهل النار أخلى الله طريقه إليها.. وكلّ ميسّر لما خلق له! ولا تسأل بعد هذا: لم اختار الله هذا الفريق للجنة، واختار ذاك الفريق للنار؟ إنه خلقهم، لم يشاركه أحد في الخلق، وإنه أقامهم حيث أقامهم، فلا اعتراض على المالك في تصرفه فيما ملك..! والله سبحانه وتعالى يقول: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (2: التغابن) . قوله تعالى: «فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» . هو ردّ مباشر على هؤلاء المجرمين، بعد أن تلقوا الرد الضمنى في الآية السابقة، وأنهم من أصحاب النار، ولن يعدل بهم عنها عودتهم إلى الدنيا مرة ومرة ومرات.. فليخسئوا، وليذوقوا عذاب السعير.. إنهم من أصحاب النار.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 617 - وفي قوله تعالى: «بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا» الباء للسببية، أي ذوقوا هذا العذاب بسبب نسيانكم هذا اليوم، وكفركم به! وقد عبّر عن كفرهم، بيوم القيامة بالنسيان، ليكشف عن مدى استخفافهم به، وإخلاء أنفسهم من كل شعور يصل بينهم وبينه. وقوله تعالى: «إِنَّا نَسِيناكُمْ» هو على سبيل المجازاة.. وأنهم كما استخفّوا بهذا اليوم، فقد استخفّ الله بهم، ولم ينظر إليهم بعين الرحمة.. فهم باقون في هذه النار لا يخرجون منها، حتى لكأنهم قد نسوا فيها.. كما يقول الله سبحانه: «كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى» (126: طه) . قوله تعالى: «إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ» . هو أيضا ردّ على هؤلاء المجرمين، الذين لا يؤمنون بآيات الله أبدا.. لأنهم على غير صفات أهل الإيمان.. فأهل الإيمان إذا ذكّروا بآيات الله، تفتحت لها قلوبهم، واستنارت بها بصائرهم، فعرفوا ربهم، وانقادوا لجلاله وعظمته، وخشعوا لعزته وجبروته، وسجدوا مع الساجدين، وسبحوا بحمده مع المسبحين، فى ولاء لا يطوف به كبر، وفي خضوع لا يخالطه استعلاء! قوله تعالى: «تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» . ومن صفات المؤمنين، أنهم مشغولون بذكر الله، لا ينامون إذا نام الناس، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 618 كما يقول الله: «كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» (17- 19 الذاريات) . - وقوله تعالى: «يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً» هو حال من أحوال هؤلاء المؤمنين، الذين يهجرون مضاجعهم ليذكروا الله، ويدعوه، خائفين من عذابه، طامعين في رحمته. - وقوله تعالى: «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» هو حال من أحوالهم أيضا، وهو أنهم إذ يقومون بحق الله عليهم في أنفسهم، عبادة، وصلاة، ودعاء، فإنهم يقومون بحقه تعالى عليهم في أموالهم، بذلا، وإحسانا في كل وجه من وجوه الخير والبر.. قوله تعالى: «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» .. فى هذا التجهيل لنعيم الجنة الذي أعده الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين- إطلاق له من القيود والحدود، فهو نعيم مطلق، بلا حدود ولا قيود، فيه كل ما تشتهى الأنفس وتلذ الأعين.. كما في الحديث القدسي: «أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بله «1» ما أطلعتكم عليه» . - وفي قوله تعالى: «ما أُخْفِيَ لَهُمْ» - إشارة إلى أن هذا النعيم، لا يخطر   (1) بله: اسم فعل أمر، بمعنى، دع، أو اترك، والمعنى أن الله سبحانه قد أعد لعباده الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وذلك غير ما أطلعهم الله عليه وعرفوه في الدنيا من ألوان النعيم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 619 على بالهم، ولا يقع في تصورهم، لأنه مما لا شبيه له، فيما يعرف الناس من نعيم الدنيا.. فهو- والحال كذلك-.. أشبه بالشيء الخفي، الذي لا تعلم حقيقته.. - وقوله تعالى: «مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» .. أي مما تسر به العين، وترتاح له، وتجد فيه أنسها وحبورها.. وخصّت العيون بهذا، لأنها هى المرآة التي تتجلى على صفحتها مشاعر الإنسان، وترتسم على نظرتها خلجاته وخطراته.. من فرح أو حزن، ومن حب أو بغض، ومن رضا أو سخط.. ولهذا فإنه قد كان للناس نظر بالعيون إلى العيون، وحديث من العيون إلى العيون.. وكان للعيون لغة أبلغ من لغة الكلام، وكان لهذه اللغة علماؤها، وأصحاب القدم الراسخة فيها، عطاء وأخذا، وإرسالا واستقبالا.. وفي الشعر العربي ما يكشف عن هذه الحقيقة من أمر العيون، وما تنفث من سحر البيان والدلال معا.. يقول الشاعر: والعين تعلم من عينى محدّثها ... إن كان من أهلها أو من أعاديها ويقول آخر: إذا كاتمونا الهوى نمّت عيونهم ... والعين تظهر ما في القلب أو تصف ويقول ثالث: ومراقبين تكاتما بهواهما ... جعلا القلوب لما تجنّ قبورا يتلاحظان تلاحظا فكأنما ... يتناسخان من العيون سطورا وهكذا تحدّث العيون عما تطوى النفوس من خير أو شر، يقول السيد المسيح: «سراج الجسد هو العين، فإن كانت عينك بسيطة، فجسدك كله يكون نيّرا، وإن كانت عينك شريرة، فجسدك كله يكون مظلما» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 620 قوله تعالى: «أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً؟ .. لا يَسْتَوُونَ» . هو تعقيب على الآيات السابقة، التي كشفت عن وجوه المجرمين، وساقتهم إلى موارد الهلاك والبلاء، كما كشفت عن وجوه المؤمنين، وأرتهم ما أعدّ لهم من نعيم ورضوان.. ثم هو تمهيد لما ستكشفه الآيات التالية بعد هذا، من موقف الفريقين، ومن الجزاء الذي يلقاه كل فريق.. والاستفهام هنا يراد به النفي.. ولهذا جاء جوابه منفيا. وفي الاستفهام من توضيح الحكم وتأكيده، ما ليس في الخبر التقريرىّ، الذي يجىء بالحكم صريحا مواجها، يلقى به إلقاء، على سبيل الإلزام والتحكم!. ففى الأسلوب الاستفهامى، دعوة إلى العقل أن ينظر في هذه القضية، وأن يشارك في الحكم المناسب لها، وفي البحث عن الحيثيات التي تدعم هذا الحكم وتسنده.. «أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً؟» . هذه هى القضية.. فماذا يؤدّى إليه النظر فيها؟ ولأى طرفى الخصومة فيها يحكم العقل؟ أهما على سواء، فلا فاضل ولا مفضول؟ ذلك بعيد.. إذ لو كانا على حال واحدة من جميع الوجوه، لكانا شيئا واحدا، ولم يكونا شيئين متقابلين.. وإذ كان الأمر كذلك، فهما غير متساويين.. هذه بديهة لا تحتاج إلى كثير من النظر.. ولهذا جاء قوله تعالى: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 621 «لا يَسْتَوُونَ» جوابا مطلقا، على هذه البديهة.. إنهما غير متساويين.. هذا ما لا سبيل إلى المماراة أو الخلاف فيه.. فالمؤمن غير الفاسق.. والفاسق غير المؤمن.. وإذ كانا غيرين، فهما غير متساويين.. ويبقى بعد هذا، الفصل في أىّ من هذين غير المتساويين أرجح كفة، وأثقل ميزانا؟. قد يرى أهل الضلال أن الفاسق أرجح ميزانا، وأهدى سبيلا من المؤمن.. فليكن ذلك حكمهم.. أما الحكم الحق والقضاء الفصل، فهو هذا الذي سمعوه من قبل إن كانوا قد سمعوا وعقلوا، وهو هذا الذي يسمعونه الآن، إن كانوا يسمعون أو يعقلون. «أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» . «وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» . هذا هو الحكم الفصل، فيما بين المؤمن والفاسق.. ويلاحظ أن القرآن لم يأت بالحكم صريحا، ولم يقل إن المؤمن خير من الفاسق.. ولكنه جاء بفحوى هذا الحكم وبالآثار المترتبة عليه.. ثم ليكن الحكم على هذه الآثار، التي هى أظهر من أن تختفى التفرقة بينهما على ذى مسكة من عقل.. فالذين آمنوا وعملوا الصالحات، لهم جنات «المأوى» أي السكن والاستقرار «نزلا» أي منزلا كريما يأوون إليه، وينزلونه، حيث يجدون الجزء: 11 ¦ الصفحة: 622 فيه الحياة الطيبة الهنيئة: «بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» من أعمال طيبة، فى هدى من الإيمان بالله، وعلى نور من شريعة الله.. وأما الذين «فسقوا» أي خرجوا عن طريق الإيمان، وركبوا طرق الضلال، «فَمَأْواهُمُ النَّارُ» .. تلك هى دارهم، وهذا هو نزلهم.. «كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها» فرارا من وطأة العذاب «أُعِيدُوا فِيها» وردّوا إليها، وحيل بينهم وبين ما يشتهون.. «وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» .. فهم لا يردون إلى النار وحسب، بل يلقاهم مع هذا الرد من يسمعهم ما يسوءهم، ويملأ قلوبهم حسرة وكمدا، فيقول لهم: «ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» .. إنما يذوقون عذاب النار فعلا، ولكن الحديث إليهم بما يسوءهم، وقرع أسماعهم بهذا المكروه- هو مضاعفة للبلاء، ومزاوجة بين المكروه والمكروه، كما أن للحديث عن المحبوب لذة في السمع، ووقعا في القلب، إلى ما له من لذة في مرأى العين، ومذاق اللسان.. وقد كشف أبو نواس عن هذا، فيما يجد من لذة وانتشاء، عند سماع كلمة الخمر وهو يشربها، إلى ما يجد لها من مذاقها على لسانه، ومن دبيبها فى مفاصله، حتى يمتع حواسه كلها.. فيقول: ألا فاسقنى خمرا وقل لى هى الخمر ... ولا تسقنى سرّا متى أمكن الجهر! وأبو نواس، وإن كان هنا على إثم، فإنه يلذ طعم اسم هذا الإثم ويستمرئه.. ولو كان في هذا الموقف غيره، ممن يتأثمون هذا الإثم، ثم يكرهون إكراها على تعاطيه، فإن ذكر الخمر باسمها عند صبّها في أفواههم، هو عندهم بلاء إلى بلاء، وعذاب فوق عذاب! الجزء: 11 ¦ الصفحة: 623 قوله تعالى: «وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» العذاب الأدنى: هو العذاب القريب في زمنه، القليل في آثاره، بالنسبة إلى العذاب الأكبر.. والمراد بهذا العذاب الأدنى هو ما يلقاهم في دنياهم من خزى وخذلان، على يد المؤمنين، وذلك بما يصابون به من قتل وأسر في ميدان القتال، وما يجدون في أنفسهم من وقدة الحسد، لما يفتح الله به على المؤمنين من أبواب رحمته، وبما يمكّن لهم في الأرض.. والعذاب الأكبر: هو عذاب يوم القيامة.. وقوله تعالى: «دُونَ» أي قبل. وقوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» إشارة إلى أن هذا العذاب الذي يقع للمشركين، الفاسقين، فى هذه الدنيا، قد يكون لبعضهم فيه عبرة وموعظة، فيرجع عن غيه وضلاله.. وهذا هو بعض السر في تصدير هذا الحكم بحرف الرجاء «لعل» .. الآيات: (22- 30) [سورة السجده (32) : الآيات 22 الى 30] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) الجزء: 11 ¦ الصفحة: 624 التفسير: قوله تعالى: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها.. إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ» . المراد بالاستفهام هنا النفي.. أي أنه لا أحد أكثر ظلما من ذلك الذي تعرض عليه آيات الله ليهتدى بها، ثم يعرض عنها.. وفي قوله تعالى: «ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ» إشارة إلى أن آيات الله التي يتلوها الرسول على الناس إنما هى لتذكرهم بما نسوه من الإيمان الذي كان في فطرتهم.. فلما أهملوا فطرتهم، وأفسدوها بما ساقوا إليها من آفات الهوى والضلال، لم يعودوا يذكرون شيئا من هذا الإيمان، فكانت بعثة الرسول بآيات الله يتلوها عليهم تذكيرا لهم، بأصل فطرتهم، وإيقاظا لهم من غفلتهم.. ومن أجل هذا، فقد كانوا أظلم الظالمين، لأنهم ظلموا أنفسهم مرتين، ظلموها أولا بإطفاء جذوة الإيمان التي أودعها الله فطرتهم، وظلموا أنفسهم ثانيا، إذ أبوا أن يستجيبوا لمن يدعوهم إلى تعاطى الدواء الذي يشفى هذا الداء الذي مكنوه منهم، فأفسد فطرتهم.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 625 - وفي قوله تعالى: «إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ» . هو تهديد ووعيد لهؤلاء المعرضين عن آيات الله، وأنهم في معرض الانتقام من الله، لأنهم مجرمون، ظالمون.. مجرمون في حق أنفسهم، ظالمون بإعراضهم عن الخير الممدود إليهم. قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ» . مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة قد ذكرت- ضمنا- القرآن الكريم، الذي أعرض عنه الظالمون الذين ذكروا به.. فناسب أن يذكر موسى في هذا المقام، إذ كان مع موسى آيات ظاهرة محسوسة، وكانت تلك الآيات مما يشغب بها المشاغبون من المشركين، على النبي، ولا يقبلون منه آيات كلامية يتلوها عليهم، ويقولون مكذبين النبي، ومتحدين له: «لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى؟» .. وقد رد الله عليهم بقوله: «أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ» . (48: القصص) وبقوله سبحانه: «وَكُذِّبَ مُوسى» (44: الحج) . ثم إنه مع هذه الآيات الظاهرة المحسوسة، قد جاء موسى بكتاب من عند الله، هو التوراة، وبهذا الكتاب دان اليهود الذين يعرفهم أولئك المشركون، ويقولون: «لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ» . (157: الأنعام) . وعلى هذا يكون قوله تعالى: «فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ» خطابا للنبىّ، ويكون الضمير في قوله تعالى: «مِنْ لِقائِهِ» مرادا به القرآن الكريم المذكور ضمنا في الآية السابقة.. والخطاب إلى النبىّ، هو إلفات للمشركين إلى القرآن الكريم، وإلى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 626 هذا الشك والافتراء الذي يدور في رءوسهم منه.. إنه كتاب من عند الله، مثل الكتاب الذي جاء به موسى، والذي كانوا يتمنّون أن يكون لهم كتاب مثله. وفي قوله تعالى: «وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ» .. تحريض للمشركين على أن يقبلوا على الكتاب الذي جاءهم من عند الله، ويهتدوا به.. فهذا الكتاب هو كتابهم، وهو الهدى الذي يهتدون به، كما كان كتاب موسى كتابا لبنى إسرائيل، ومعلم الهدى الذي يهتدون به.. قوله تعالى: «وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ» . هو تحريض بعد تحريض للعرب، من مشركين ومؤمنين، أن يلوذوا بحمى هذا الكتاب، الذي أنزله الله بلسانهم، وجعلهم مستفتح دعوتهم إلى دين الله.. فإنهم إن فعلوا، واستجابوا لدعوة الله، وآمنوا به، وصبروا على ما يلقون على طريق الإيمان من ضر وأذى- جعل الله منهم أئمة يدعون إلى الهدى، ويقومون في الناس مقام الأنبياء.. فالحديث هنا خبر عن بنى إسرائيل، يراد به سوق العبرة والعظة إلى المشركين.. قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» . هو إجابة عن سؤال يعرض لمن يستمع إلى قوله تعالى: «وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا» .. وهذا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 627 السؤال هو: وهل اهتدى بنو إسرائيل بهذا الكتاب الذي جاءهم به موسى؟ وهل كان منهم أئمة هداة؟ وكيف يكون هذا وهم على ما يشهد الناس منهم من خلاف فيما بينهم- ثم ما سيشهدون من خلاف بينهم وبين النبي؟ وكيف يصح أن يكون الكتاب الذي جاء به موسى، لا يلتقى مع الكتاب الذي جاء به محمد، وكلا الكتابين من عند الله؟. فكان قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» جوابا على هذه التساؤلات.. ثم هو إعلام بما سيكون من اليهود من كفر وضلال، حين يواجههم النبي بالقرآن الكريم، ويدعوهم إلى تصديقه، والإيمان به. قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ» . الحديث هنا إلى المشركين، حديث مواجه مباشر، بعد أن كان الحديث إليهم في الآيات السابقة حديثا من وراء حجاب، هو اليهود.. وقوله تعالى: «أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ» استفهام إنكارى، ينكر على المشركين أنهم لم يروا فيما بين أيديهم من ديار الأقوام الظالمين قبلهم، وما اشتمل عليها من خراب- ما تحدّث به هذه الديار من عبر، وما تنطق به من عظات! وإنهم لو عقلوا لعلموا أنهم مأخوذون بما أخذ به أصحاب هذه الديار، ماداموا سائرين على طريقهم، آخذين مأخذهم.. وفي قوله تعالى: «يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ» إشارة إلى أنهم قد خلفوا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 628 هؤلاء الظالمين أصحاب تلك الديار، وورثوا ما كانوا عليه من كفر وضلال.. وفي قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ» - إشارة إلى أن السمع طريق من طرق الاهتداء.. سواء كان هذا المسموع من كلمات الله، أو من الأخبار الصحيحة والعظات النافعة.. فالكلمة الطيبة، إذا تلقتها أذن واعية، واستقبلها قلب سليم، أينعت، وأثمرت، كما تينع وتثمر البذرة الطيبة، فى الأرض الطيبة.. قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ» . الأرض الجرز: أي الجديب، التي لا نبات فيها.. وتلك آية من آيات الله، تتملاها العين، فترى فيها قدرة الله، كما ترى فضله وإحسانه.. فهذا الماء الذي يسوقه الله تعالى محمولا على أجنحة السحاب، فينزل في الأرض الجديب، ويحيى مواتها، ويخرج من صدرها حبا ونباتا، وجنات ألفافا، تحيا عليها الأنعام، ويعيش فيها الناس- فى هذا عبرة لمعتبر، وذكرى لمن يتذكر. وقدمت الأنعام على أصحاب الأنعام، دلالة على أنه ليس للناس شىء فى تقدير هذا الرزق الذي يسوقه الله إليهم وإلى أنعامهم.. وإنما هو من عند الله، وأن الأنعام والناس سواء في الاحتياج إلى الله، وأنهم إنما يرزقون الجزء: 11 ¦ الصفحة: 629 كما ترزق الأنعام.. «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها» (6: هود) . قوله تعالى: «وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» . الفتح: الفصل فيما بين النبي وبين المشركين من خلاف، فيما يدعون إليه من حق، وفيما هم فيه من باطل.. والاستفهام من المشركين، استهزاء، وتكذيب واتهام.. إنهم لا يؤمنون بأن هناك حسابا، ولا جزاء.. قوله تعالى: «قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ» وقد جاء الجواب بما لا ينتظره السائلون.. إنهم كانوا لا ينتظرون جوابا.. وإذا كان ثمة جواب فليكن مؤقتا بالوقت الذي يقع فيه ما أنذروا به.. متى هو؟ ولم يجب القرآن على: «متى هو؟» وإنما أجاب على: «كيف هو؟ وعلى أية صورة يقع؟. أما وقوعه فهو أمر لا شك فيه.. وأما الصورة التي يقع عليها، فإنها بلاء على المشركين، يوم يقفون وجها لوجه بين يدى هذا اليوم للحساب والجزاء.. حيث لا يقبل منهم إيمان في هذا اليوم، ولا يؤخر حسابهم ليوم آخر، حتى يصلحوا ما أفسدوا.. «ولا هم ينظرون» فقد انتهى أجلهم، وطويت صحف أعمالهم، على ما ضمّت عليه من كفر وضلال.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 630 قوله تعالى: «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ.. إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ» . بهذه الآية تختم السورة.. وبهذا الأمر القاطع ينحسم الموقف بين النبي وأهل الشرك من قومه.. إنه بلغ رسالة ربه، وبالغ في إبلاغها.. مبشرا ومنذرا، فلم يزدهم ذلك إلا عنادا، وضلالا.. وإذن فليطو النبي كتابه، وليعرض عنهم، فلا يأبه لسفهائهم، ولا يقف عند ما يلقون إليه من أذى، كما يقول سبحانه: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» (199: الأعراف) ثم لينتظر حكم الله، وما يقضى به بينه وبينهم، ولا يعجل، فإنهم منتظرون، لا يملكون التحول عما يريد الله فيهم.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 631 33- سورة الأحزاب نزولها: مدنية.. عدد آياتها: ثلاث وسبعون آية.. عدد كلماتها: ألف ومائتان وثمانون كلمة.. عدد حروفها: خمسة آلاف وسبعمائة وستة وستون حرفا.. مناسبتها لما قبلها مع أن هذه السورة مدنية، ومع أن السورة التي قبلها (السجدة) مكية، ومع الفاصل الزمنى الممتد بينهما، فقد اتصلت السورتان بعضهما ببعض، والتقى ختام السابقة منهما ببدء التالية، حتى لكأنهما سورة واحدة.. وهذا مما يدل على أن ترتيب السّور في المصحف توقيفى كترتيب الآيات في السور.. وهذا يعنى أن الصورة التي نزل عليها القرآن تختلف جمعا وترتيبا- وإن لم تختلف مادة وموضوعا- عن الصورة التي انتظم عليها نظام القرآن، بعد أن تم نزوله، فى العرضة الأخيرة التي كانت بين جبريل وبين النبىّ- صلوات الله وسلامه عليهما- على ما سنرى ذلك عند تفسير السورة. وهنا يلقانا أمر نحبّ أن نقف عنده، وننظر فيه، وفي الآثار التي تنجم عنه.. [فتنة الترتيب النزولى للقرآن] فهناك دعوة جديدة محمومة بدأت تظهر في آفاق مختلفة في محيط العالم الإسلامى، وفي خارج هذا المحيط، تدعو إلى إعادة نظم القرآن وجمعه على حسب ترتيب نزوله.. بمعنى أن يكون المصحف القرآنى المقترح، مبتدئا بأول آية تلقاها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 632 النبي الكريم، وحيا من ربه، ثم الآية التي تليها، وهكذا آية آية، وآيات آيات، حتى آخر آية نزلت على النبي.. وهذا أمر يبدو في ظاهره أنه دراسة من الدراسات التي تخدم القرآن، مثل تلك الدراسات التي قامت حول الكتاب الكريم، كأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والمكي والمدني، والنهارى والليلى، وما نزل ببيت المقدس، وما نزل بالطائف، وما نزل بالسفر، وما نزل بالحضر، إلى غير ذلك من تلك الدراسات الكثيرة، التي تدور في فلك القرآن، ولا تمس الصميم منه.. ومن هنا كان خطر هذه الدعوة، التي قد ينخدع لها كثير من المسلمين، والتي ربما اندفع في تيارها، بعض العلماء، عن نية حسنة، ومقصد سليم، إذ كان الأمر في ظاهره دراسة في كتاب الله، وفتحا جديدا، يعد كشفا من كشوف العلم الحديث في دراسة القرآن.. ويبدو الخطر الذي يتهدد القرآن من الفتنة، ماثلا من وجوه: فأولا: استحالة ضبط صورة القرآن على حسب الترتيب النزولى لآياته.. حيث لم يعرف الترتيب النزولى إلا لعدد محدود من آيات القرآن، لا تمثل إلا أقل القليل منه.. قد لا تتجاوز بضع آيات، أو عشرات من الآيات على أكثر تقدير.. وحتى هذا القليل الذي يقال إنه معروف الترتيب، لم يقع الإجماع بين العلماء عليه، وحتى أنهم لم يتفقوا على أول ما نزل به الوحى، كما لم يتفقوا على آخر ما نزل به.. فبينما يقول أكثرهم إن أول ما تلقى النبي من وحي، هو قوله تعالى: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» - بينما يقول أكثرهم هذا، يقول بعضهم- كما في صحيح مسلم- إن أول ما نزل من القرآن «المدثر» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 633 كما يقول آخرون، إن أول ما نزل من القرآن «الفاتحة» ثم نزل بعدها المدثر، ثم الآيات الثلاث الأولى من سورة «نوح» . وبينما يقول أكثر العلماء، إن آخر القرآن نزولا هو قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» (3: المائدة) إذ يقول آخرون إن آخر ما نزل من القرآن هو: «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ» ويقول غيرهم إن آخر القرآن نزولا هو قوله تعالى: «وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ» (281: البقرة) وفي البخاري أن آخر القرآن نزولا: «يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ» (176: النساء) . فإذا كان المسلمون لم يتفقوا على أول آيات نزلت من القرآن، كما لم يتفقوا على آخر ما نزل منه، فكيف يقع اتفاقهم فيما وراء ذلك؟ والمعروف أن أوائل الأمور، وأواخرها أكثر إلفاتا للناس وشدّا لانتباههم، وإيقاظا لمشاعرهم، وتعلقا بذاكرتهم، من غيرها! ثانيا: لو سارت هذه الفتنة إلى غايتها، وسلّم لأصحابها أن يمضوا بها كما يشاءون- ومع افتراض النية الحسنة فيهم- فإن الذي سيحدث من هذا هو أن تتغير صورة القرآن تغيرا كبيرا، لا يصبح معه القرآن قرآنا، بل سيكون هناك عشرات، بل مئات وألوف من المصاحف التي تسمى قرآنا، والتي لا يلتقى واحد منها مع آخر.. وكل ما فيها أنها آيات القرآن، انفرط عقدها، وتناثرت آياتها، كما تتناثر أجزاء آلة من الآلات الميكانيكية أو الكهربية، ثم تتناولها أيدى أطفال، يجمعونها ويفرقونها كما يشاءون! ونضرب لهذا مثلا من القرآن، لصورة من تلك الصور التي يمكن أن نجىء عليها سورة كسورة العلق مثلا، وهى التي يكاد يتفق العلماء على أن الآيات الأولى منها كانت أول ما نزل من الوحى.. وهى قوله تعالى: «اقْرَأْ بِاسْمِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 634 رَبِّكَ» إلى قوله تعالى: «عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» .. ثم نصل هذه الآيات بما قيل إنه كان أول ما تلقاه النبي بعدها من آيات، وهى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ» ثم لنصل بها ما كان تاليا لها في النزول، وهى الآيات الثلاث من أول سورة «نوح» . ونقرأ هذا القرآن: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» «قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» .. هذه صورة، أو سورة، مما يمكن أن يقرأ عليه القرآن، لو أخذ بالترتيب النزولى، الذي تدعو إليه تلك الفتنة، وذلك على قول واحد من تلك الأقوال الكثيرة المختلفة في هذا الترتيب ... فكيف لو أخذ بكل قول؟ ثم كيف لو أخذ بالأقوال المختلفة كلها في القرآن كله، فى ترتيب نزوله؟ إنه- والأمر كذلك- لا تكاد تجتمع آية إلى آية، حيث لا تلتقى رواية على رواية، ولا يتفق قول مع قول.. وبهذا يكون أىّ ترتيب لآيات القرآن، صالحا لأن يقبل أي دعوى تدّعى أنه الترتيب الذي نزل عليه.. وتستوى في هذا جميع الدعاوى التي تدعى، إذ كانت كلها ترجع إلى غير مستند صحيح، يعول عليه.. ومن هذا يتسع المجال للكيد، وتنفسح السبيل للأهواء.. وإذا الذي في أيدى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 635 المسلمين أعداد لا تحصى من كتاب الله.. حتى ليكاد يكون لكل مسلم قرآن يقرؤه على الترتيب الذي يراه.. وانظر، ماذا يكون وراء هذا من بلاء، وفتنة! فمثلا إذا قرأ قارئ آية، ثم أتبعها أخرى، وجد مئات، وألوفا من الخلاف عليه، هذا يقول: إن الآية التالية هى كذا، وذاك يقول إنها هكذا. وثالث، ورابع.. إلى مئات المقولات وألوفها.. وحسب المسلمين من هذا فرقة وشتاتا..! مع أن هذا أقل ما يرد عليهم من شرور هذه الفتنة، إذا كان هذا الخلاف في غير آيات الأحكام.. أما إذا وقع ذلك في آيات الأحكام، وهو واقع لا محالة، فهيهات أن تقوم للمسلمين شريعة، أو ينتظم لهم له رأى في حكم من أحكام دينهم.. وخذ مثلا لهذا، الآيات الواردة في الخمر، أو الربا، والتي روعى في نزولها أخذ المسلمين بالرفق والحكمة، فى تحريم هذين المنكرين.. فجاء الحكم في تحريمهما متدرجا، من التنزه والتعفف، إلى الكراهية، ثم إلى التحريم.. إن لقائل أن يقول: إن آيات الخمر نزلت على هذا الترتيب: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ.. وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 636 تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» . وإن لقائل هذا القول لمنطقا، إذ أن له أن يقول، إن آيات الخمر نزلت جملة واحدة، جمعت أطراف الأمر كله! وعلى هذا يكون النظر في حرمة الخمر وحلّه.. ثم إن له أن يقول- وإن لقوله لمنطقا-: إن الخمر ليس حراما حرمة مطلقة، إلا أن يسكر منه شاربه، ثم يصلى وهو سكران! ويقال: مثل هذا كذلك في الربا، على اعتبار أن آخر الآيات نزولا هى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً» .. فالربا لا يكون- على هذا الاعتبار حراما إلا إذا كان أضعافا مضاعفة. وهكذا يمكن أن تعرض أحكام الشريعة كلها على آيات القرآن، وتستدار لها الآيات على أي وجه يقيمه الناس عليه.. وثالثا: لو سلّم جدلا، بإمكان ترتيب القرآن ترتيبا زمنيا بحسب نزوله- وهو أمر مستحيل استحالة مطلقة- فما جدوى هذا؟ وماذا يعود على دارسى القرآن منه؟ لقد أشرنا إلى بعض الأخطار المزلزلة التي تهدد الإسلام- شريعة وعقيدة- من هذه الفتنة فهل وراء هذه المجازفة شىء من الخير، يقوم إلى جوار هذه الشرور العظيمة الناجمة منها؟ إن كل شر يقوم إلى جواره بعض الخير، الذي قد يجعل للشر وجها يحتمل عليه، ويبّرر الأخذ به.. فهل في هذا الشر أية لمحة من لمحات الخير؟. والذي نقطع به أن هذا العمل شر محض، وإن زين أهله ظاهره بهذا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 637 الطلاء الزائف، تحت شعار الدراسة التاريخية للقرآن، على نحو الدراسة الجغرافية، أو الدراسة النفسية، أو غير ذلك من الدراسات التي تضاف إلى القرآن، وتدور في فلكه، دون أن تمس الصميم منه.. ولا نقف طويلا في مواجهة هذه الفتنة، ولا نمعن النظر كثيرا في وجهها الكئيب المشئوم.. وننظر في كتاب الله، الذي في أيدينا، نظرا مباشرا، على ما تركه فينا من أنزل إليه هذا الكتاب- صلوات الله وسلامه عليه- فهذا هو القرآن الذي أمرنا بالتعبد به تلاوة، والعمل بأحكامه، وآدابه على ما نتلوه عليه.. فهذا هو قرآننا، وهذا هو ديننا الذي نتلقاه من كتابنا.. وإن أية تلاوة تقوم على غير هذا الوجه، هى كلام، لا قرآن، وإن أية شريعة تقوم على غير هذه التلاوة ليست من شريعة الإسلام، ولا من دين الله، سواء التقت مع شريعة الله أو لم تلتق معها، وسواء أوافقت دين الإسلام، أو خالفته.. نقول هذا، ونحن على علم، وعلى إيمان بأن القرآن الكريم نزل منجما، ولم ينزل جملة واحدة، وأنه كان في مرحلة نزوله، على ترتيب غير هذا الترتيب الذي انتهى إليه، بعد أن تم نزوله!. فهناك دوران قام عليهما بناء القرآن الكريم.. دور الدعوة.. ثم الدور الذي تلاها.. ولكل من الدورين أسلوبه، وغايته. القرآن في دور الدعوة: ونزول القرآن في دور الدعوة، قام على أسلوب خاص، من حيث تنجيم النزول، وترتيبه معا.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 638 فمن حيث التنجيم.. لم ينزل القرآن جملة واحدة.. بل نزل آية آية، وآيات آيات، حسب مقتضيات الدعوة، ومستلزمات أحداثها.. وقد بين الله سبحانه وتعالى الحكمة في هذا، فقال تعالى: «وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا» (106: الإسراء) كما زاد ذلك بيانا في قوله سبحانه: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً؟ .. كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً» (32- 33 الفرقان) . ومن حيث ترتيب النزول.. فقد نزل القرآن لغاية تحقق أمرين: أولهما: اقتلاع الشرك، الذي كان قد استولى على الحياة الإنسانية كلها، واغتال مواطن الإيمان في كل بقعة منها.. ليقيم في الأرض مكانا للإيمان بالله، حتى يعتدل ميزان الإنسانية، ويكون لها نهار يدور في فلكها، مع هذا الليل الطويل الذي تعيش فيه.. وثانيهما: إقامة شريعة في تلك المواطن التي قام فيها الإيمان، حتى تثبت أصوله، وتطلع ثمراته، فيكون منها زاد طيب لأهل الإيمان، يعيشون فيه، وتطيب لهم وللناس الحياة معه.. ولتحقيق الأمر الأول، كانت معركة الإسلام الأولى منحصرة في ميدان الشرك.. ومن هنا كانت آياته التي تنزل في هذه المرحلة من مراحل الدعوة، جندا مرسلة من الله، تدكّ معاقل الشرك، وتهدم حصونه، وتفتح للعقول والقلوب، الطريق إلى الله.. وقد استغرقت هذه المرحلة الجزء الأكبر من الدعوة الإسلامية، فى إقامة الحجج على وجود الله، وكشف البراهين على وحدانيته، وما له سبحانه من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 639 صفات الكمال والجلال.. ثم في فضح الشرك، وتعرية آلهة المشركين من كل ما ألقوه عليهم من أوهام وضلالات.. وفي أثناء هذا الدور كانت تتنزل بعض الآيات في الدعوة إلى مكارم الأخلاق، وفي إقامة مشاعر الناس على الأخوة الإنسانية، وعلى الصبر، والرفق، والإحسان إلى غير ذلك مما يليق بمن يعرف الله، ويؤمن به، ويدخل في زمرة عباده الذين يبتغون مرضاته، ويرجون وحمته.. فلما انكسرت شوكة الشرك، وأوشكت دولته أن تدول، أخذت آيات الله تتنزل بأحكام الشريعة التي تقوم عليها الحياة الروحية والمادية لهذا المجتمع الذي آمن بالله، وأجلى الشرك من موطنه، فكان ما ينزل من آيات الله في هذا الدور، يكاد يكون مقصورا على بناء أحكام الشريعة، من عبادات، ومعاملات، وحدود، ومن سلم، وحرب، وغنائم، وغير ذلك مما ينتظمه قانون الشريعة الإسلامية.. وكان من مقتضيات حكمة الشريعة القائمة على اليسر، ورفع الحرج، أن جاءت كثير من أحكام الشريعة متدرجة في تكاليفها من السهل إلى الصعب، لأنها كانت تتعامل مع أناس قطعوا شطرا كبيرا من حياتهم في الجاهلية، ورسب في نفوسهم، واختلط بمشاعرهم كثير من ضلالاتها.. فكان مما اقتضته الحكمة الإلهية أخذ هؤلاء الذين لقيهم الإسلام على أول دعوته- بالرفق، والتلطف، حتى بألفوا هذا الدين، ويتعقلوا أحكامه، ويأخذوا أنفسهم بها.. ولو أخذوا بغير هذا الأسلوب، لتغير موقفهم من الشريعة، ولما أحدثت فيهم هذه الآثار العظيمة التي أخرجت منهم خير أمة أخرجت للناس. هذا هو الخطّ الذي قامت عليه سيرة الدعوة الإسلامية، وعلى هذه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 640 المسيرة كانت تتنزل آيات الله بالزاد الذي تحتاج إليه كل مرحلة.. حتى كانت آخر آية نزلت من كتاب الله، كانت الدعوة قد بلغت غايتها، وآتت الثمر المرجو منها.. فنزل قوله تعالى: «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ.. إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً» مؤذنا بمصافحة السماء للأرض، مصافحة وداع، بعد أن أودعت فيها هذا الزاد العتيد.. ثم كانت آية الختام: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» !. القرآن بعد دور الدعوة: وإلى هنا كان الرسول، قد تلقى القرآن الكريم كله من ربه، وحفظه فى قلبه، كما حفظه كثير من المسلمين معه، كما كان كتّاب الوحى قد استكملوا كتابته. والسؤال هنا: على أية صورة كان القرآن عند آخر آية نزلت؟ وهل كان على ترتيب النزول، أم على هذا الترتيب الذي هو عليه الآن؟. والجواب على هذا: أولا: من المقطوع به أن القرآن عند ما نزلت آخر آية منه لم يكن على هذا الترتيب الذي هو عليه الآن، كما أنه لم يكن على ترتيب النزول.. وذلك أن الرسول- بوحي من ربّه- كان خلال العشرين سنة أو تزيد، التي نزل فيها القرآن، يرتب الآيات، فيضع- بوحي من ربّه- آيات مدنية في سور مكية، كما يضع آيات مكية في سور مدنية.. فكانت عملية النقل هذه تغيّر من صورة السّور، طولا وقصرا، فينقل من هذه السورة آيات إلى تلك، ومن تلك إلى أخرى، وهكذا في اتصال دائم بدوام نزول القرآن. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 641 وثانيا: بعد أن تم «نزول القرآن» ، ولم تعد ثمة آيات أخرى يوحى بها، كان عمل الوحى، مع النبىّ صلوات الله وسلامه عليه، هو ترتيب القرآن على هذا الترتيب الذي أراده الله سبحانه وتعالى عليه، وهو ما نجده بين دفتى المصحف، كما تركه الرسول، بعد تلك العرضة أو العرضتين أو الثلاث، التي كانت بين جبريل وبين النبىّ. وثالثا: لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم- هذه الدنيا، ويلحق بالرفيق الأعلى، حتى كان صحابة رسول الله، وحتى كان كتّاب الوحى، قد أخذوا الصورة الكاملة، فى تحديد دقيق، للقرآن الكريم، وعرفوا مكان كل آية من سورتها، ومبدأ كل سورة وختامها، وما بين بدئها وختامها.. ومن الموافقات العجيبة، التي نعدّها نفحة من نفحات القرآن الكريم، أننا نعرض لهذا البحث- من غير تدبير- فى سورة الأحزاب.. ففى سورة الأحزاب هذه مقولات تقال، وروايات تروى.. ففى مسند أحمد عن رزين بن حبيش، قال: قال لى أبىّ بن كعب كائن (أي كم) تقرأ سورة الأحزاب، أو كائن (أي كم) تعدّها؟ قلت: ثلاثا وسبعين آية ... فقال (أي أبىّ) : لقد رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة.. ولقد قرأنا فيها: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فاجلدوهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» فرفع فيما رفع..!! ولقد بنى على هذه الرواية أن قرآنا كثيرا نسخ تلاوة، وأن قرآنا آخر نسخ تلاوة ولم ينسخ حكما، كهذه التي يقال إنها كانت آية قرآنية: «الشيخ والشيخة» .. وقد عرضنا لموضوع النسخ في أكثر من موضع.. فلا نعرض له هنا.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 642 وإنما الذي نقف عنده من هذا الخبر- على اعتبار صحته- هو: كيف كانت سورة الأحزاب تعادل سورة البقرة؟ فما تأويل هذا؟ وكيف أصبحت سورة الأحزاب ثلاثا وسبعين آية بينما سورة البقرة تبلغ مائتين وستا وثمانين آية؟ والجواب على هذا، أن سورة الأحزاب كانت تعدل في طولها أو امتدادها سورة البقرة، وأنه في العرضة أو العرضات التي كانت بين جبريل، وبين النبي أخذت كثير من الآيات في سورة الأحزاب مواضعها من سور القرآن المكّى، أو المدنىّ، حتى صارت على هذه الصورة التي هى عليها.. وعلى هذا فلم يكن قرآن رفع منها، رفع نسخ، تلاوة وحكما، بل الذي كان هو قرآن رفع منها إلى مواضع أخرى من القرآن.. كما حدث ذلك في كثير من آيات القرآن.. ونعود إلى ما كنا فيه من ترتيب القرآن بعد دور الدعوة، فنقول: إنه وقد انتهى دور الدعوة، وأدى الرسول رسالة ربه، ودالت دولة الشرك، ودخل الناس في دين الله أفواجا- كان لا بد أن ترتب آيات الله، على هذا الترتيب الذي أمر الله به، بعد أن نزلت آخر آية من القرآن الكريم.. فقد كان الترتيب النزولى مقدّرا بحاجة الدعوة في مسيرتها من مبدئها إلى ختامها، وموقوتا بهذا الوقت الذي يكمل فيه نزول القرآن.. فلما تم نزول القرآن، وختم الرسول دعوته، أخذ القرآن هذا الترتيب السّماوى، الذي يعيش في ظله، مجتمع مسلم، آمن بالله، وبآيات الله، ورسول الله.. ولم بعد من تدبير القرآن أن يواجه الناس آية آية، أو آيات آيات، أو يلقاهم حالا بعد حال، وحدثا إثر حدث، وإنما الذي يلقاهم منذ ختام الرسالة كتاب الله جميعه.. كأنه آية واحدة هى شريعة الله، ودستور المسلمين.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 643 لقد كان القرآن في دور الدعوة يعمل في أكثر من جبهة، فهناك جبهة المشركين.. ثم جبهة أهل الكتاب وخاصة اليهود، ثم جبهة المنافقين.. ثم قبل هؤلاء وأولئك جميعا جبهة المؤمنين، الذين يتلقون هدى السماء، وينشّئون فى حجر الإسلام.. فكان للقرآن مع كل جبهة موقف، وإلى كل طائفة قول، فلما أتم القرآن رسالته، لم تعد إلا جبهة المؤمنين، هى وحدها التي يعنيه أمرها، وهى التي ستصحبه، وتعيش في ظله.. جيلا بعد جيل، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. فكان هذا الترتيب الذي رتب عليه القرآن بأمر الله، إلغاء لعنصر الزمن، الذي يحدد بدء القرآن ونهايته، ومولده وفطامه.. فهو كلام الله، القديم أزلا، الخالد أبدا.. وبعد، فإن هذه الفتنة أخطر سلاح يحارب به الإسلام، ويرمى به في الصميم منه.. وأنه لو قدر لها- لا قدّر الله- أن تجد في المسلمين من يستمع لها، أو يغمض العين عنها، لأتت على الإسلام، ولنالت منه ما لم تنله السيوف والحراب التي وجهها أعداء الإسلام من يوم أن ظهر الإسلام، إلى يوم الناس هذا.. فليتنبه المسلمون إلى هذا الخطر، وليرصدوا له كل ما لديهم من إيمان بالله وبكتاب الله، وليضربوا على الأيدى التي تمتد إلى كتاب الله بهذه الفتنة، بكل ما يملكون من أموال وأنفس: «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ.. إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الآيات: (1- 5) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) الجزء: 11 ¦ الصفحة: 644 التفسير: قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً» .. ختمت سورة «السجدة» بقوله تعالى: «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ» وهو أمر للنبى بالإعراض عن المشركين، والاتجاء إلى وجهة أخرى، حيث لم يجد مع هؤلاء المشركين، هذا الوقوف الطويل الذي وقفه معهم، منذرا ومبشرا.. وفي قوله تعالى «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ» تأكيد لهذا الأمر.. وذلك بأن يثبت النبي على تقوى الله، وأن ينظر إلى نفسه أولا، وألا يشغله أمر المشركين، والحرص على هداهم، عن أمر نفسه، كما أنهم مسئولون عن أنفسهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» (54: النور) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 645 - وفي قوله تعالى: «وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ» هو كشف عن هذا البلاء الذي يحيط بالكافرين والمنافقين.. وفي هذا تنبيه للنبى إلى أن يأخذ حذره، وأن يتوقّى هذا الداء الذي يغتال هؤلاء المصابين به. - وفي قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً» تعقيب على هذا الأمر الذي تلقاه النبي من ربه، فهو أمر من العليم الحكيم، الذي يقوم أمره على علم وحكمة، فيعلمه سبحانه كشف هذا الخطر الذي يتهدد النبي من استجابته للكافرين والمنافقين إلى ما يدعونه إليه من أن يعبد ما يعبدون، وأن يعبدوا هم ما يعبد، وبحكمته- تعالى- أمر بتجنب الخطر قبل الوقوع فيه.. فإن توقّى الداء خير وأسلم من علاجه. قوله تعالى: «وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» - هو أمر من لوازم النهى الذي جاء في قوله تعالى: «وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ» فمن لازم هذا النهى أن يتبع النبي ما أوحى إليه من ربه.. وفي هذا الأمر، كما في النهى السابق عليه، تأكيد لما بين النبي وبين الكافرين والمنافقين من بعد بعيد، وأن كلا منهما على طريق، فلا يلتقيان أبدا، إلا إذا حاد هؤلاء الكافرون والمنافقون عن طريقهما، وسلكوا طريق النبي واتبعوا سبيله.. أما النبي، فهو ماض على ما معه من آيات ربه، لا يلتفت يمينا أو شمالا.. - وفي قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» تهديد للكافرين والمشركين، وأن الله سبحانه مطلع على ما هم فيه من منكر، وسيجزيهم بما كانوا يعملون. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 646 قوله تعالى: «وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» . هو تثبيت للنبى، وإيناس له من ربه، بالتوكل عليه وحده، وأنه لا وحشة ولا خوف عليه من قطيعة الكافرين والمنافقين، الذين يساكنونه، ويعيشون بين جماعة المسلمين.. فإنهم وإن كانوا كثرة في العدد، ووفرة في المال، فإنهم أخف ميزانا، وأضعف شأنا ممن يسند ظهره إلى الله، ويسلم أمره إليه.. «وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» . قوله تعالى: «ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ» .. تقرّر الآية الكريمة حقيقة واقعة، هى أنه «ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ» إذ أن ذلك من شأنه أن يفسد نظام الجسد، إذ يقوم في كيانه قوتان، تعمل فيه كل قوة عمل الأخرى، ومن هنا تعمل كل منهما على إجلاء الأخرى من مكانها، فيقع الجسد نهيا لهذا الصراع بينهما، إذ كل منهما تريد أن يكون لها السلطان عليه.. وبينى على هذه الحقيقة أمور: أولا: أنه لا يجتمع في كيان إنسان ولاء الله، وولاء لأعداء الله.. فذلك من شأنه أن يفسد الأمرين معا، لأنه جمع بين النقيضين: فإما ولاء الله، وإما ولاء لأعداء الله.. وفي هذا يقول السيد المسيح: «لا يقدر أحد أن يخدم سيدين، لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر، أو يلازم الواحد ويحقر الآخر» .. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 647 وثانيا: أنه كما لا يجتمع في جوف إنسان قلبان، كذلك لا يجتمع في ذات امرأة أن تكون أما وزوجا في آن واحد.. ومن ثمّ فإن معاملة الزوجة كأم في الحرمة، وذلك في قول الرجل منهم لامرأته: «أنت علىّ كظهر أمي» - هذه المعاملة التي تجعل الزوج أمّا، فيها قلب للأوضاع، وتعمية وخلط للحقائق.. فالزوج زوج، والأم أم، لا يجتمعان في ذات واحدة، لشخص واحد.. وثالثا: وكما لا تكون زوج الرجل أمّا، كذلك لا يكون متبنّاه ابنا له.. فهذا غير ذاك، ولا يجتمع متبنى وابن في ذات واحدة، لرجل واحد.. ومن ثمّ فإن ما كان يتخذه الجاهليون من تبنى أبناء غيرهم، ومعاملتهم معاملة الأبناء من الصلب، فى الميراث وغيره- هو تضييع للأنساب، وتزييف للواقع، وجمع بين ما هو باطل وما هو حق. وقد كان العرب في جاهليتهم- تحت ظروف الحياة التي تعتمد على الاستكثار من الرجال- يعملون جاهدين على إلحاق غير أبناءهم بهم، ممن يتوسمون فيهم القوة والشجاعة. فلما جاء الإسلام، وأقام حياة الناس على العدل، ودفع بأس بعضهم عن بعض- لم تعد ثمة داعية إلى الإبقاء على هذه العادة، ولكن كان هناك كثير من الحالات أدركها الإسلام وقد أخذت وضعها في المجتمع، ولم يكن من اليسير التخلص منها بعمل فردى، ومن أجل هذا فقد جاء التوجيه السماوي بإنهاء هذه العلاقة المصطنعة، التي كانت قائمة بين الأدعياء والآباء، وإقامة علاقة أخرى مقامها، أوثق عرى، وأقرب قرابة، هى علاقة الأخوّة فى الدين، وقرابة الولاء لله بين المؤمنين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 648 وقد كان للنبى صلى الله عليه وسلم متبنّى هو «زيد بن حارثة» الذي كان مولى للسيدة خديجة- رضى الله عنها- فلما تزوجها النبي، وهبته زيدا، ولما علم أبو «زيد» أن ابنه في يد النبي، جاء يطلبه- وكان قد أسره بعض العرب، وباعه، فوقع ليد السيدة خديجة، ثم ليد النبي- فخيّر النبي زيدا بين أن يلحق بأبيه أو يقيم معه، فاختار أن يقيم مع النبي، فأعتقه النبي، وألحقه به، فكان يدعى زيد بن محمد.. فلما نزلت الآية: «ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ» أصبح زيد يدعى زيد بن حارثة.. وهكذا تبع المسلمون النبي في هذا، وتخلوا عن نسبة أدعيائهم إليهم.. - وقوله تعالى: «ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ» - الإشارة «ذلكم» إلى الظّهار، وإلى التبني، وأن ذلك ليس من الحق في شىء، وإنما هو قول يقال، ولا مستند له، ولا حجة عليه.. - وفي قوله تعالى: «بِأَفْواهِكُمْ» - إشارة إلى أن الكلمة إذا لم تكن عن وعى وإدراك، ولم تقم على منطق وحجة- كانت لغوا، وهذرا، لا وزن له. - وقوله تعالى: «وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ» يقوله سبحانه دائما.. فكل قول لله، هو الحق المطلق.. - وقوله تعالى: «وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ» بكلماته، وآياته.. فمن استمع إليها، واستجاب لها هدى إلى صراط مستقيم. قوله تعالى: «ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 649 فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» . هو التطبيق العملي، لما كشفت عنه الآية السابقة، من بطلان التبني.. فيترتب على هذا أن يلحق الأدعياء بآبائهم، وأن ينتسبوا إلى من ولدوا في فراشهم، فذلك هو الحق، والعدل: «ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ» أي هذا العمل هو المقبول عند الله، لأن الله حق، ولا يقبل إلا حقا.. وفي تعدية الفعل «ادعوهم» باللام، إشارة إلى تضمنه معنى الفعل: انسبوهم، أو ردّوهم، ونحو هذا. - وقوله تعالى: «فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ» أي إن لم يكن لأدعيائكم آباء معروفون لكم ولهم، فادعوهم إخوانا لكم في الدين، وأولياء لكم مع جماعة المؤمنين، كما يقول الله تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» وكما يقول سبحانه: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» . (71: التوبة) . - وقوله تعالى: «وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ.. وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» هو تفرقة بين ما يقع على سبيل الخطأ والسهو، وما يقع عن تعمد وقصد، فيما يقع بعد تطبيق هذا الأمر، ودعوة الأدعياء لآبائهم فما وقع من خطأ في دعوتهم لمن كانوا آباء لهم بالتبني، فهو مما تجاوز الله عنه، وما كان عن عمد، فهو مما يقع موقع المؤاخذة، ولكن الله غفور رحيم، لمن رجع إلى الحقّ، وأصلح ما كان منه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 650 الآيات: (6- 8) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 6 الى 8] النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8) التفسير: قوله تعالى: «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً» . مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، كشفت عن زيف علاقات أقامها الجاهليون بين الأشياء، على غير الحقّ، إرضاء لهوى، أو استجابة لتصور فاسد.. مثل معاملة الزوجة معاملة الأم في تحريمها بالظهار، وفي إقامة الدعىّ مقام الابن في النسب والإرث.. وفي هذه الآية، يقيم القرآن علاقات بين ذوات متباعدة في النسب، ويجعل بينها من التلاحم، والتوادّ، ورعاية الحرمات، أكثر مما تقضى به دواعى النسب والقرابة..! فالنبى- صلوات الله وسلامه عليه- وإن لم يكن بينه وبين المؤمنين علاقة نسب وقرابة، هو أقرب إليهم من كل قريب، وآثر عندهم من كل قرابة،. بل إنه لأولى بهم من أنفسهم.. والله سبحانه وتعالى يقول: «قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 651 تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ» (24: التوبة) ويقول سبحانه: «ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ» (120: التوبة) .. إن النبىّ هو الأب الأعظم للمؤمنين، هو الذي أحيا مواتهم، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، فكان له بهذا سلطان مطلق على وجودهم الرّوحى، الذي لا وجود لهم إلّا به.. يقول النبي الكريم: «والذي نفسى بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من والده وولده، والناس أجمعين» .. ويقول أيضا: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه» .. وطبيعى أن النبي- صلوات الله وسلامه عليه- لا يبغى بهذا الحب الذي يؤثره به المؤمنون- لا يبغى به سلطانا على النفوس، ولا تسلطا على الناس، وإنما يبغى به توثيق إيمان المؤمنين بالله، وإخلاص ولائهم وحبهم لله، لأن من أحبّ الله أحبّ رسوله.. وأزواج النبي، هنّ من حرماته، التي ينبغى أن يرعاها المؤمنون أكثر من رعايتهم لحرماتهم.. فهنّ أمهات لكل مؤمن، ولهنّ- بهذا- من التوقير والاحترام ماللأم من التوقير والاحترام.. وكما لا يحل للابن أن يتزوج أمه، كذلك لا يحلّ للمؤمن أن يتزوج امرأة تزوج بها النبىّ، لأنها أمه. وفي قوله تعالى: «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ» - تأكيد لخصوصية النبي في هذا الحكم، دون الناس جميعا.. فلا يصح أن يقاس عليه ملك، أو أمير، أو ذو سلطان دينىّ أو دنيوى.. ومن أجل هذا، فقد جاء قوله تعالى: «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 652 فِي كِتابِ اللَّهِ» ليقرّر أن الخصوصية التي للنبى، لا تنقض ما بين ذوى القربى من صلات قام عليها نظام الحياة الاجتماعية، وأقرها الله سبحانه وتعالى في كتابه- أم الكتاب- وفي الكتب المنزلة.. فأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في التوادّ، والتواصل، والتوارث.. - وفي قوله تعالى: «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ» .. من هنا بيانية، لأولى الأرحام، أي وأولو الأرحام من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى ببعض في كتاب الله.. أي أنه إذا قام بين المؤمنين ولاء الأخوة في دين الله، وقام بين المهاجرين ولاء الإيمان بالله، والهجرة في سبيل الله، فإنه يقوم بين ذوى الأرحام ولاء الرحم إلى جانب ولاء الإيمان والهجرة.. وبهذا يظل لذوى الأرحام من المؤمنين والمهاجرين ولاء الرحم، فهم أحق بالتوارث فيما بينهم.. وعلى هذا فإن التوارث بين ذوى الأرحام على ما قرره القرآن قائم بينهم، فيحجب ولاء الرحم، ولاء الإيمان وولاء الهجرة، إذا اجتمعا معه.. وقوله تعالى: «إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً» إلا هنا للاستثناء، وهو استثناء من عموم الأحوال، التي دل عليها إطلاق الحكم- فى قوله تعالى: «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ» ، أي أن هذا الحكم مطلق في جميع الأحوال، إلا في حال واحدة، وهى الحال التي ترون فيها أن تفعلوا معروفا إلى ذويكم من المؤمنين والمهاجرين، من غير ذوى الأرحام، الذين لهم نصيب في الميراث.. ففى هذه الحالة لكم أن توصوا من ثلث ما لكم إلى من ترون الوصية له من المؤمنين والمهاجرين.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 653 - وقوله تعالى: «كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً» . الإشارة «ذلك» إشارة إلى المعروف في قوله تعالى: «إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً» .. فهذا المعروف هو مما دعا الله إليه، وحثّ المؤمنين عليه فى غير آية من آيات الكتاب.. قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً» . هو عطف حدث على حدث، وجمع شأن إلى شأن.. والحدث المعطوف عليه هو قوله تعالى: «وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ» . والحدث المعطوف، هو ما بين الأنبياء من رحم، تجمعهم على ولاء بعضهم لبعض، ومناصرة بعضهم لبعض.. وأنه إذا كانت بين ذوى الأرحام، وشائج القربى، ولحمة الدم، فإن بين الأنبياء جامعة الإيمان بالله، والدعوة إلى الله، والجهاد في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله. فهم جميعا- المتقدمون والمتأخرون منهم- على طريق واحد، وفي مواجهة معركة واحدة، بين الإيمان والكفر والهدى والضلال.. وأن أي لبنة من لبنات الحق يضعها نبى من أنبياء الله على هذه الأرض هى دعم للحق، وإعلاء لصرحه.. ولهذا يقول الرسول الكريم: «الأنبياء أبناء علّات «1» .. أمهاتهم شتى ودينهم واحد» .. والميثاق الذي أخذه الله على النبيين، هو ما أشار إليه سبحانه وتعالى في   (1) أبناء العلات: هم الأخوة لأب، من أمهات شتى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 654 قوله: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ.. قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي؟ قالُوا أَقْرَرْنا.. قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» (81: آل عمران) . وهذا الميثاق، يمكن أن يكون قد أخذ على الأنبياء في عالم الأرواح، فشهدوه جميعا.. كما يمكن أن يكون قد أخذ على كل واحد منهم على حدة، حين اختاره الله للنبوة.. وفي قوله تعالى: «مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ» هو وصف كاشف للنبى الذي يصدقه الأنبياء وينصرونه، وهو أن يكون نبيا حقا، لا دعيّا.. فما أكثر أولئك الذين يدّعون النبوة.. وآية صدق النبي أن يكون طريقه طريق النبوة، التي لا طريق لها إلا الدعوة إلى الإيمان بالله، وإفراده سبحانه بالألوهة، ومحاربة الشرك الظاهر والخفي، فى كل صوره وأشكاله، مع معجزة متحدية تكون بين يديه. ومناسبة هذه الآية لما قبلها، ما قد رأيت.. أما مناسبتها لما بعدها، فإن الآيات التي تأتى بعد هذا ستذكر غزوة الأحزاب، التي اجتمع فيها اليهود مع أهل مكة على حرب النبي.. وأنه إذا كان المشركين أن يحاربوا النبي: فإنه ما كان لليهود- وهم أهل كتاب، وأتباع نبى من أنبياء الله- أن ينحازوا إلى جبهة الشرك، وأن يكونوا معهم حربا على المؤمنين.. إن الحق يقتضيهم أن يكونوا على ولاء مع المؤمنين، إذ كان نبيهم على ولاء مع هذا النبي.. ولكنهم خرجوا على هذا الولاء الذي يطالبهم به دينهم، فكفروا بما في الكتاب الذي في أيديهم، بغيا وحسدا. وفي هذا يقول الله تعالى فيهم: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 655 الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ» (187: آل عمران) . وقدم النبي، على الأنبياء جميعا.. لأنه خاتم النبيين، ولأن رسالته هى مجتمع رسالات الأنبياء.. فالأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- وإن سبقوه زمنا، هم متأخرون عنه صلوات الله وسلامه عليه- رتبة.. فهو إمامهم الذي انتظم عقدهم بمبعثه.. قوله تعالى: «لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً» .. هو تهديد ووعيد لأهل الكتاب، الذين نقضوا الميثاق الذي أخذه الله على نبيهم بأن يصدق بالنبي وينصره، إذا التقى به.. وقد التقى به نبيهم في أشخاصهم، وكان عليهم أن يمضوا هذا الميثاق مع رسول الله، وأن يصدّقوه وينصروه.. وقليل منهم من آمن بالنبي وصدقه، وأكثرهم نقضوا هذا الميثاق، فكذبوا النبي، وكانوا حربا عليه.. - وفي قوله تعالى: «لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ» - إشارة إلى أن هناك مساءلة وحسابا على هذا الميثاق.. وسؤال الصادقين عن صدقهم، يكشف عن أنهم أهل وفاء وإيمان، فيجزون جزاء المؤمنين الموفين بعهدهم.. وقوله تعالى: «وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً» هو الجزاء الذي يلقاه أهل الغدر والخيانة من أهل الكتاب، من عذاب أليم، أعده الله لهم فى الدنيا والآخرة.. إنهم كافرون، وليس للكافرين إلا العذاب الأليم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 656 الآيات: (9- 20) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 9 الى 20] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20) الجزء: 11 ¦ الصفحة: 657 التفسير فى هذه الآيات مقطع من غزوة الأحزاب، المعروفة بغزوة الخندق.. وكان يهود المدينة، من بنى قريظة وبنى النضير، قد حرّضوا قريشا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فقد جاء إلى مكة نفر من رؤساء اليهود، وقالوا لقريش إنا سنكون معكم حتى نستأصله، ونخرجه من المدينة، فنشطت قريش لذلك، وأخذت تستعد للحرب، وتدعو لها أحلافها.. ثم جعل اليهود يثيرون القبائل لهذه الحرب، فاستجابت لهم قبائل كثيرة.. فلما استكملت قريش عدتها، خرجت هى وحلفاؤها في جيش كثيف، يقوده أبو سفيان.. وكان ذلك في شوال من سنة خمس من الهجرة.. أما اليهود، فقد استعدوا في داخل المدينة، ليأخذوا النبي والمسلمين من ظهورهم، إذا التحم القتال بينهم وبين قريش.. ولما علم النبي- صلى الله عليه وسلم- بما أجمع عليه القوم من هذه الأحزاب المتحزّبة على حربه، استشار أصحابه، فيما يلقى به هذه الجيوش الكثيفة.. فاستقر الرأى على أن يقيم المسلمون خندقا حول المدينة، وقيل إن هذا الرأى كان من سلمان الفارسي.. وبدأ المسلمون في حفر الخندق، وقد عمل معهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان المسلمون يرتجزون وهم يعملون، بهذا الرجز: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 658 سمّاه من بعد جعيل عمرا ... وكان للبائس يوما ظهرا وكان النبي- صلوات الله وسلامه عليه- إذا بلغوا «عمرا» قال معهم عمرا، وإذا بلغوا «ظهرا» قال معهم ظهرا.. وجعيل هذا، هو جعيل بن سراقة الضمري، وكان رجلا صالحا من قدماء المهاجرين، ومن الذين شهدوا المشاهد كلها مع النبي، وقد غيّر الرسول اسمه هذا، فسماه عمرا.. ولما قسم الرسول غنائم حنين، ولم يعط الأنصار منها شيئا، ولا كثيرا من المهاجرين، وفرقها في قريش والمؤلفة قلوبهم، ليثبتوا على الإسلام- كان جعيل ممن حرم العطية، وكان من فقراء الصحابة، فكلم سعد بن أبى وقاص النبي في ذلك، وقال يا رسول الله، تحرم جعيلا مع ما تعلمه من خلّته، وتعطى عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وفلانا وفلانا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «أما والذي نفسى بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض مثل عيينة والأقرع، ولكن تألفتهما ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه» .. هذا، وما كاد الرسول يفرغ من حفر الخندق، حتى أقبلت قريش، وحتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف وزغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم، ومن تبعهم من بنى كنانة وأهل تهامة.. وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد، حتى نزلوا إلى جانب أحد.. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد خرج بالمسلمين، وجعل ظهورهم إلى جبل سلع، وضرب هناك عسكره، والخندق بينه وبين القوم، وكان قد اجتمع له نحو ثلاثة آلاف من المسلمين.. وطال انتظار قريش أمام الخندق، تفكر في وسيلة تدخل بها على المسلمين المدينة.. واستمر ذلك نحو شهرين، وفي خلال تلك المدة استطاع بعض فرسان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 659 قريش عبور الخندق، وكان منهم عمرو بن ودّ العامري، وعتبة بن أبى سفيان.. وقد طلب عمرو بن ود المبارزة، وكان من فرسان العرب المعدودين، ويقال إنه كان يحسب بألف فارس.. وتحرك على بن أبى طالب إلى مبارزة عمرو، فرده النبي إشفاقا عليه منه، وكان علىّ لا يجاوز العشرين من عمره، ولم يستكمل قوته بعد.. وكرر عمرو النداء، وأخيرا أذن النبي لعلى في لقائه، وألبسه النبي درعه، وعمّمه، ودعا له.. والتقى على بعمرو، ولم يلبث أن قتله على، فكبّر وكبر المسلمون.. واهتزت أرجاء المدينة، وغمر البشر والفرحة أهل المدينة من المسلمين، على حين اغتم المشركون واليهود، وعلاهم الخزي والهوان.. وفي أثناء ذلك انكشفت للمسلمين وجوه أهل النفاق، ومن في قلوبهم مرض، ونزلت آيات القرآن تحدث بما كان عليه هؤلاء وأولئك، من مواقف منحرفة، ساعة العسرة وحين البأس.. ثم أوقع الله سبحانه بين المشركين وحلفائهم من اليهود، فاتّهم كل منهما صاحبه في الوفاء بالتزاماته نحوه، فانقصم ما بينهما من ائتلاف، وأعطى كل منهما ظهره لصاحبه.. ثم كان من تدبير الله بعد هذا أن أرسل على معسكر المشركين ريحا عاصفة في ليلة شديدة البرد، فاقتلعت الخيام، وأطفأت النيران، وأطلقت الإبل والخيل من مرابطها.. وكأنها تؤذّن في القوم بالرحيل، وتسبق بالعمل المشاعر التي كانت تدور في صدورهم، فلم يمد أحد منهم يده إلى نصب خيمته التي اقتلعتها العاصفة، ولم يمسك أحد منهم بمقود فرسه، أو خطام ناقته، يعيدها إلى مربطها.. بل لقد بدا لهم هذا الذي حدث، أنه نفير العودة إلى مكة.. فأخذوا وجهتهم إليها، تدفعهم نحوها ريح عاتية، تضربهم بأجنحتها القوية المغموسة بالرمال والغبار!: «وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً» (25: الأحزاب) .. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 660 هذا هو مجمل القصة لغزوة الأحزاب، أو الخندق كما تسمّى، والتي كانت الآية السابقة حديثا عن المقطع الأول منها.. قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً» . هو صورة مجملة للقصة كلها.. فهناك جنود قد جاءوا إلى المسلمين، يريدون حربهم، والقضاء عليهم، فدفعهم الله عنهم، وتلقاهم بجنود من عنده.. وهذه نعمة من نعم الله على المؤمنين، تستوجب الشكر والحمد لله رب العالمين.. - وفي قوله تعالى: «وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها» - إشارة إلى أن الريح التي أرسلها الله سبحانه على المشركين، هى جند من جند الله التي رآها المسلمون عيانا، ورأوا أفعالها في عسكر المشركين.. وهناك جنود أخرى لم يرها أحد، كانت تعمل في تلك المعركة، حتى أوقعت الهزيمة بالمشركين، فانقلبوا بشرّ منقلب.. وهذه الجنود غير المرئية كثيرة لا حصر لها.. «وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ» وقد يكون منها هذه المشاعر التي تسلطت على المشركين من الخوف والقلق، ومن سوء ظن بعضهم ببعض، وقد تكون وساوس وخواطر، تمشّى بها بعض العقلاء بين الجماعات المتحالفة، فأفسد ما بينهم.. وقد تكون ملائكة من ملائكة الرحمن جاءت مع الريح، فضاعفت من أفاعيلها، وبالغت فى آثارها.. وفي قوله تعالى: «وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً» - إشارة إلى مالله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 661 سبحانه وتعالى من علم لا يعلمه أحد، وإلى أن الناس لا يعلمون من علم الله شيئا، حتى هذه الأمور المتصلة بهم، كتلك الجنود الخفية التي أحدثت هذه الآثار، على حين أن الله سبحانه يعلم من أمر الناس ما يسرّون وما يعلنون، علم مشاهدة.. «وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً» .. فهو على كاشف لكل شىء، كالعلم الذي يقع عن نظر وشهود بالنسبة لنا، على خلاف العلم المطلق، فقد يقع عن حدس وظن.. وهذا هو بعض السر في جعل فاصلة الآية: «بصيرا» بدل «عليما» ..! فعلم الله سبحانه، علم شهادة: «لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ» . قوله تعالى: «إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا» . هنا تبدأ الآيات في تفصيل ما أجملته الآية السابقة من أحداث هذه القصة.. فهؤلاء الجنود الذين جاءوا إلى المسلمين، قد جاءوهم من فوقهم، أي من نجد، ومن أسفل منهم، أي من تهامة.. وهذا يعنى أنهم قد أطبقوا على المسلمين من كل جهة، فتمكنوا منهم، وسدّوا منافذ النجاة عليهم.. وفي قوله تعالى: «وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ» تصوير للحال التي استولت على المسلمين من هذا الخطر الزاحف عليهم.. وزيغان الأبصار، كناية عن الكرب الذي دخل على المسلمين، حتى اضطرب لذلك تفكيرهم، وغابت وجوه الرأى عنهم، فلم يتبينوا ماذا يأخذون أو يدعون من أمرهم.. وبلوغ القلوب الحناجر، كناية أخرى عن هذا الكرب، وأنه أزال القلوب عن مواضعها، بما أحدث فيها هذا الكرب من اضطراب وخفقان. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 662 وفي قوله تعالى: «وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا» .. وفي التعبير عن هذا الحدث يفعل المستقبل، دون الفعل الماضي، الذي جاء تعبيرا عن الحدثين: «زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ» - فى هذا ما يشير إلى أن زيغان الأبصار، واضطراب القلوب، إنما هما حال لبست المسلمين مرة واحدة، عند استقبالهم لهذا المكروه.. أما الظن بالله، فهو أحوال متجددة، تعاود المسلمين حالا بعد حال.. حيث يترددون بين الرجاء واليأس، وبين اليقين والشك، حسب الأحوال النفسية، أو المادية، التي تعرض لهم!. وفي جمع «الظنون» - إشارة إلى أنها ظنون كثيرة مختلفة، تعاود الشخص الواحد، كما أنها تختلف من شخص إلى شخص.. فهناك من المؤمنين من هم على يقين من أمر ربهم، فلا يظنون إلا خيرا، وأن الله منجز لهم ما وعدهم في عدوهم.. إن لم يكن في هذه المعركة ففى معارك أخرى قادمة، إن لم يشهدوها هم، فسيشهدها من بعدهم من إخوانهم.. وهناك من المؤمنين من لم يعصمهم إيمانهم من ظنون السوء، فظنوا بالله غير الحق، ظن الجاهلية.. قوله تعالى: «هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً» . الإشارة هنا إلى هذا الموقف الذي واجه فيه المؤمنين الأحزاب.. ففى هذا الموقف ابتلى المؤمنون، وامتحنوا، فى إيمانهم بالله.. وكان الابتلاء شديدا، والامتحان قاسيا، لا يصبر عليه، ولا يخلص منه، ناجيا بدينه، سليما في معتقده، معافى في إيمانه، إلّا من اطمأن قلبه بالإيمان، وعرف ما لله في عباده من ابتلاء، «لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» (37: الأنفال) . وقوله تعالى: «وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً» بيان لما في هذا الابتلاء من شدة، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 663 هزّت كيان المسلمين هزا، ومخضت مشاعرهم كما يمخض اللبن، حتى تنكشف الرغوة عن الصريح.. كما يقول سبحانه: «وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ» (154: آل عمران) . قوله تعالى: «وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً» .. العطف هنا على قوله تعالى: «وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا» فهذه حال من تلك الأحوال التي عرضت للمسلمين يومئذ، وهى أن المنافقين ومن في قلوبهم مرض من المؤمنين، قد كانوا من الذين ظنوا بالله ظن السوء.. فكان قولهم في مواجهة هذا الابتلاء، هو الكفر الصريح: «ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً» .. أي أكاذيب وأباطيل، وأمانىّ من من الخداع، والتغرير.. وهكذا تكشف الشدائد والمحن عن معادن الناس، وعن مطويات الضمائر، وما تخفى الصدور.. قوله تعالى: «وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً» .. هو معطوف على ما قبله، وهو بيان لمقولة طائفة من طوائف هؤلاء المنافقين ومن في قلوبهم مرض.. إنهم لم يقفوا عند حدّ هذه الوساوس السوء من الظنون، بل جاوزوا هذا إلى إذاعتها في الناس، وإلى تيئيسهم، وزعزعة إيمانهم.. فينادون في الناس بهذا النداء الشيطاني المشئوم: «يا أَهْلَ يَثْرِبَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 664 لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا» أي ماذا تنتظرون؟ وما متعلقكم بهذه الأمانى الباطلة؟ إنكم مخدوعون.. فما مقامكم فيما أنتم فيه؟ ارجعوا إلى دياركم وأهليكم، حيث الأمن والسلامة، وحيث الراحة من هذا العبث الذي لا شىء وراءه.. وفي مناداتهم بيا أهل يثرب، دعوة إلى ردّة، يريدون بها دفع هذه المشاعر الجديدة التي عاش بها المسلمون في مجتمعهم الجديد، حيث اتخذت المدينة في ظل الإسلام اسما جديدا، هو المدينة، بدلا من اسمها «يثرب» الذي عاشت فيه مع الكفر والشرك! إنهم يريدون بهذا النداء، أن يجلو عن المشاعر هذا الاسم الكريم، كما أرادوا أن يجلو عنها الدين الحنيف! قوله تعالى: «وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ» .. معطوف على محذوف، هو استجابة لهذه الدعوة التي دعا بها بعض المنافقين ومن في قلوبهم مرض، واستجاب لها بعض المنافقين ومن في قلوبهم مرض.. ودعوتهم هى: «يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا» .. واستجابة المستجيبين لهذه الدعوة كانت على أسلوبين: أسلوب الرجوع بغير استئذان من النبي، وأسلوب الرجوع بعد الإذن منه.. أي أن هؤلاء الذين استجابوا لتلك الدعوة من المنافقين ومن في قلوبهم مرض كانوا فريقين: أحدهما استجاب للدعوة فورا، فلم يلتفت إلى شىء، ولم يراجع نفسه، أو يرجع إلى النبىّ.. والآخر، أراد أن يدارى نفاقه ويستر ضعف إيمانه، بهذا العذر الذي يعتذر به للنبى، وهو أن بيته مهدد بمن يعتدى عليه، ويهتك ستره.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى حكاية لقولهم: «يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ» أي معرضة للعدوان عليها من المشركين أو غيرهم.. وفي قوله تعالى: «وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ» تكذيب لهذه القولة الفاجرة.. إن بيوتهم ليست عورة، بل هى في حمى المسلمين جميعا، وما يجرى على بيوت المسلمين يجرى على بيوتهم.. فلو دخل المشركون المدينة، لما استباحوا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 665 بيوت هؤلاء المعتذرين وحدهم، بل لاستباحوا بيوت المسلمين جميعها.. «إن يريدون إلا فرارا» أي ما يريد هؤلاء المعتذرون إلا فرارا من هذا الموقف الذي هم فيه، وإلا ضنّا بأنفسهم عن أن يشهدوا القتال، وأن يكونوا في المقاتلين. قوله تعالى: «وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً» . هو بيان لضعف إيمان هؤلاء المعتذرين، وأنهم يحرصون على حياتهم أكثر من حرصهم على إيمانهم، أو حرمات بيوتهم.. فلو دخل المشركون على هؤلاء المعتذرين بيوتهم من كل مدخل منها، ثم دعوهم إلى الخروج منها لخرجوا منها، ونزلوا عنها لهم من غير أن يدافعوا عنها، ويؤدوا حق حرمتها عليهم.. - وفي قوله تعالى: «دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ» بالبناء للمجهول، إشارة إلى أن هؤلاء المعتذرين- لحرصهم على الحياة- يسلمون بيوتهم لأى داخل عليهم، فرارا بأنفسهم.. وفي قوله تعالى: «ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ» إشارة إلى أن ما يسألونه، ويطلب إليهم الخروج منه، وهو بيوتهم، هو فتنة، وبلاء عظيم، أشبه بالفتنة في الدين، لأن حرمة البيوت- عند الأحرار تعدل حرمة النفس، والدين، وغيرهما من المقدسات التي يحرص عليها الأحرار.. وفي هذا يقول الله تعالى: «وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ» (66: النساء) فقد جاء الخروج من الديار موازنا لقتل النفوس.. ويقول سبحانه وتعالى: «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ» (191: البقرة) فمن الفتنة، الإخراج من الديار. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 666 وفي قوله تعالى: «وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً، - إشارة إلى مبادرة هؤلاء المستخفّين بالحرمات، إلى الخروج من ديارهم، وتسليمها ليد طالبيها منهم، دون إمهال أو تلبث،.. وحسبهم أن ينجوا بجلدهم!! فهؤلاء الذين فتنوا في دينهم، بموقفهم المتخاذل في مواجهة العدو، ثم فرارهم من ميدان المعركة، وخروجهم من دينهم في غير تردد، هم أنفسهم أولئك الذين ينزلون عن ديارهم، ويخرجون منها في غير تردد أو تلبث أيضا.. وهكذا الإنسان، فى موقفه من حرماته.. إن من يفرط في أي حرمة من الحرمات، هو مستعد للتفريط فيها كلها.. إنّ الحرمات، هى كيان واحد، وإن تعددت صورها، وأشكالها.. قوله تعالى: «وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا» .. أي أن هؤلاء الفارين من ميدان القتال، قد نقضوا عهدهم الذي عاهدوا الله عليه من قبل، حين دخلوا في دين الله.. وهذا العهد، هو أن يطيعوا الله والرسول، وأن يجاهدوا في سبيل الله، وألّا يولّوا الأدبار.. وفي هذا يقول الله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (15- 16: الأنفال) .. فهذا هو عهد الله الذي أخذه على المؤمنين، وقد دخلوا في دين الله على هذا العهد.. وفي قوله تعالى: «وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا» - إشارة إلى أن عهد الله أشبه بكائن حىّ مجسد، وأنه يقوم في الناس مقام الرسول المبلّغ عن ربه.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 667 ولهذا فهو يسأل عمن أوفى به، ومن نكث، كما يسأل الرسل عمن آمن بهم ومن كفر، كما يقول الله تعالى: «يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ» (109: المائدة) .. وفي هذا تعظيم لعهد الله، وما ينبغى أن يكون له في الناس من إكبار وإجلال. قوله تعالى: «قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا» . هو قطع لتلك الآمال الكاذبة التي يعيش فيها أولئك الذين فروا من ميدان القتال، ظانّين أن ذلك يحفظ عليهم حياتهم، ويرد غائلة الموت عنهم.. وهم في هذا مخدوعون، قد غطّى على أبصارهم حبّ الحياة، حتى لقد أنساهم ذلك، تلك الحقيقة الماثلة أمامهم، وأنهم مقضى عليهم بالموت المحكوم به على كل حى.. فهذا الفرار من الموت- على أي صورة من صوره، حتفا، أو قتلا- إلى أين ينتهى بهم الطريق الذي يركبونه فارين منه؟ إنه منته بهم إلى الموت حتما.. إن لم يكن اليوم فغدا، أو بعد غد.. إنه آت لا شك فيه، طال الطريق أم قصر.. والله سبحانه وتعالى يقول: «قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ» (8: الجمعة) ويقول سبحانه: «أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ» (78: النساء) . وفي قوله تعالى: «مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ» بيان للصورة التي يقع عليها الموت، وهو إما أن يكون موتا طبيعيا، أو في حدث من الأحداث، كالحرب وغيرها.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 668 - وفي قوله تعالى: «وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا» - أي أن هذا الفرار لا يعصمكم من الموت الذي يترصدكم، ويتربص بكم الساعة التي تنتهى فيها آجالكم. «فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» (34: الأعراف) .. قوله تعالى: «قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» . إشارة إلى أنه لا وجه يفرّ إليه هؤلاء الفارون من قضاء الله فيهم.. إن ذلك الفرار سوء ظن منهم بسلطان الله وقدرته.. ولو علموا بعض ما الله من علم وقدرة وسلطان، لما تحولوا عن هذا الموقف الذي هم فيه، مقدرين أن ذلك ينجيهم من الموت، ويمد لهم في آجالهم التي يخيل إليهم أن القتال، سيختصر مقامهم في هذه الدنيا، ويحصد حياتهم قبل أوانها.. وفي قوله تعالى: «مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً» - فى هذا ما يسأل عنه، وهو: إذا صح أن الإنسان يطلب معتصما يعتصم به حال الضر والسوء.. فكيف يصح أن يطلب معتصما حين يراد به الخير والرحمة؟ وإذا صح أن يفر الإنسان من مواطن الخطر والشر، فهل يصح أن يفر من مواطن الخير والإحسان؟ .. وإذا فما تأويل قوله تعالى: «مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً» ؟. والجواب على هذا من وجهين: فأولا: أن الإنسان لا يملك مع أمر الله شيئا.. وأن ما يساق إليه من سوء أو رحمة، هو من عند الله.. وعلى هذا، فإنه إذا رأى بلاء الله واقعا به، وطلب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 669 معتصما يعتصم به، وملجأ، يلجأ إليه، من هذا البلاء، فلن يجد.. كما أنه إذا أراد الله به خيرا ورحمة، فإن هذه الرحمة وذلك الخير لا بد أن يصلا إليه مهما حاول هو- عن جهل وغباء- أن يفر منهما. وثانيا: أن تقدير الإنسان للأمور لا يقع على وجه صحيح في كل حال، فقد يفر الإنسان من أمر، ويعرض عنه، متكرها له، طالبا السلامة منه، وهو في صميمه خير له، وبركة عائدة عليه.. وأن الله سبحانه، لو كان يريد به الخير لأمسكه على هذا المكروه، ولما صرفه عنه.. ولو أراد به سبحانه السوء لخلىّ بينه وبين ما يريد، فيقع في المكروه الذي يتوقع النجاة منه بإعراضه عنه، وفراره منه، وذلك بما يفوته من الخير المطوىّ فى هذا المكروه.. وهذا هو حال هؤلاء الفارّين من ميدان القتال.. إنهم تكرهوا هذا الأمر، وفروا منه، وهو في صميمه خير ورحمة وبركة.. وإذ لم يرد الله بهم خيرا، فقد خلّى بينهم وبين ما أرادوا.. على حين أنه سبحانه أمسك على هذا المكروه، من أراد بهم الخير والرحمة من عباده المؤمنين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ» (23: الأنفال) .. وفي قوله تعالى: «وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» - ما يسأل عنه أيضا، وهو: لماذا اختلف النظم، فكان خطابا في قوله تعالى «مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً» .. ثم كان غيبة في قوله تعالى: «وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» ؟ .. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 670 والجواب على هذا، هو أن هذا الخطاب كان لهؤلاء المنافقين والذين فى قلوبهم مرض، وهم في حضور مع المؤمنين في ميدان القتال.. يعيشون بتلك الخواطر المريضة، والمشاعر الكاذبة، ويديرون في كيانهم وجوه الأعذار التي يعتذرون بها للفرار من هذا الموقف.. هذا هو حالهم قبل أن يفروا.. فلما اجتمع لهم الرأى على الفرار، وفرّوا- كان الحكم عليهم غيابيا، فى مواجهة المؤمنين.. فلا يستمعون هم إلى هذا الحكم، ولا يدرون ماذا يريد الله بهم، حتى يفجؤهم العذاب، وينزل بهم البلاء، وهم في غفلة عنه.. وفي هذا بلاء فوق البلاء، وعذاب فوق العذاب.. قوله تعالى: «قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا» . المعوقون: هم الذين يمسكون غيرهم عن الخروج مع المؤمنين إلى القتال، بدءا، بعد أن فعلوا هذا بأنفسهم أولا.. فهم لم يخرجوا إلى القتال، ثم ثبّطوا غيرهم، وزينوا لهم القعود. والقاتلون لإخوانهم هلمّ إلينا.. هم الذين قعدوا عن القتال، ولم يخرجوا، ثم سعوا إلى تحريض الذين خرجوا إلى القتال، وزينوا لهم أن يعودوا إليهم، وأن يقعدوا معهم كما قعدوا هم، قائلين لهم.. «هَلُمَّ إِلَيْنا» - أي أقبلوا إلينا.. وهلم اسم فعل أمر، يلزم حالا واحدة في الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث، فيقال للاثنين: هلم، وللجمع: هلم.. والبأس: القتال.. و «قد يعلم» .. بمعنى قد علم الله.. لأن علم الله سبحانه وتعالى قديم.. والتعبير عن العلم بفعل المستقبل، إنما هو بالنسبة لما سيقع من أصحاب هذه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 671 المواقف الخاسرة. فهو تحذير لهم من أن يقعوا في هذا المحظور المنكر، قبل أن يقع.. والآية تكشف عن موقفين من مواقف المنافقين والذين في قلوبهم مرض، الذين تخلفوا ولم يخرجوا للقتال ابتداء، أثناء هذه المواجهة التي كانت بين المسلمين، والأحزاب، على حافتى الخندق الذي أقامه المسلمون حول المدينة.. فهؤلاء الذين قعدوا، لم يقفوا عند هذا الحدّ.. بل كان منهم المعوّقون، الذين أمسكوا غيرهم معهم عن الخروج، وزينوا لهم القعود مع القاعدين.. وكان منهم الذين أرادوا إفساد أمر الذين خرجوا.. يلقون إليهم بما يحسبونه نصحا لهم، وإشفاقا عليهم، فيقولون لهم فيما يقولون: عودوا إلينا.. «لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا» . - قوله تعالى: «وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا» . المفسرون على قول واحد، فى أن هذا المقطع من الآية، هو وصف من أوصاف هؤلاء المنافقين، الذين تهدّدهم الله سبحانه وتوعدهم بقوله: «قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا» وهو عندهم، إما معطوف على صلة الموصول في قوله تعالى: «قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ» أي الذين يعوقون غيرهم منكم، ويقولون لإخوانهم هلم إلينا، ولا يأتون البأس إلا قليلا.. وإما أن يكون حالا من الضمير في اسم الفاعل «والقائلين» . والرأى عندنا- والله أعلم- هو أن قوله تعالى: «وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا» حال من الضمير في «إخوانهم» .. وهذا الحال هو وصف كاشف لإخوان المنافقين، الذين يدعوهم المنافقون إليهم، ويطمعون في أن يستجيبوا لهم.. فهؤلاء الذين يطمع المنافقون في استجابتهم لهم، هم من ضعاف الإيمان، الذين يعرف المنافقون موطن الضعف فيهم، ولهذا سماهم القرآن «إخوانهم» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 672 فهم على حال مقاربة، سواء منهم من قعد، ولم يخرج، أو من خرج مع المؤمنين.. إنه لا غناء فيه، ولا نفع للمسلمين منه، فى موقفهم من عدوهم.. إنهم «لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا» .. والمراد بالقلة هنا قلة الغناء في الحرب، وضعف الأثر الذي لهم في القتال.. فهم وإن شهدوا الحرب، إنما يشهدون بنفوس مريضة، وقلوب واجفة، وأبصار زائغة.. أما إخوانهم الذين قعدوا من أول الأمر، ولم يخرجوا مع المسلمين، فإنهم لا يأتون البأس، قليلا أو كثيرا.. والمعنى: أن هؤلاء المنافقين إنما يستدعون من صفوف المسلمين من لا خير فيه، ولا نفع يرجى منه، بل إن قعوده خير المسلمين من خروجه.. والله سبحانه وتعالى يقول في المنافقين: «لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ» (47: التوبة) قوله تعالى: «أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ.. أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً» .. الأشحة: جمع شحيح، وهو البخيل بما يملك، الضنين به.. أي أن هؤلاء المنافقين الذين يشهدون الحرب بتلك النفوس المريضة، يضنون على المسلمين بأى جهد يبذلونه معهم في سبيل النصر، وكسب المعركة. وقوله تعالى: «أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ» حال أخرى بعد الحال في قوله تعالى: «وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا» أي أن هؤلاء المنافقين لا يأتون الحرب إلا قليلا، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 673 ضانين بأنفسهم على أن يبذلوها في سبيل الله، فهم إذ يضنون على المسلمين إنما يضنون على دين الله، الذي يجاهد من أجله المجاهدون.. - وقوله تعالى: «فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ» وصف كاشف لهؤلاء المنافقين الذين يشهدون القتال، بعد أن فضحت الآيات السابقة ما في قلوبهم من زيغ، وما في نفوسهم من مرض.. فهم إذا جاء الخوف، أي حضر البأس والقتال.. وقد عبر القرآن عنه بالخوف، بالإضافة إليهم، لأن القتال يطلع عليهم بما يملأ نفوسهم خوفا وهلعا.. أما المؤمنون، فإنهم إذا جاء القتال قالوا: «هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً» .. (22: الأحزاب) . وفي إقامة الخوف مقام القتال، إشارة إلى أن المنافقين أجبن الناس، وأشدهم حرصا على الحياة، وأن مجرد ذكر كلمة الحرب عندهم تملأ قلوبهم فزعا ورعبا- فالحرب بالإضافة إليهم، خوف متجسد.. - وفي قوله تعالى: «رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ» تصوير للحال التي تستولى على هؤلاء المنافقين ومن في قلوبهم مرض حين تتحرك أمامهم أشباح الحرب، وتلوح لهم جيوش العدو، فكيف يكون حالهم من الفزع والرعب، حين يلقون العدو، وتسل السيوف وتشرع الرماح؟ إنهم يموتون بصعقات الخوف، قبل أن يموتوا بضربات السيوف، وطعنات الرماح!! والخطاب هنا للنبى صلوات الله وسلامه عليه.. ونظرة المنافقين إلى النبي نظرة مذعورة، يائسة، تطل من أشباح مضطربة متهالكة متهاوية.. «كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ» ! وهذا مثل قوله تعالى: «فَإِذا أُنْزِلَتْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 674 سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ» (20: محمد) . - وقوله تعالى: «فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ» أي أنه إذا خرج المنافقون من هذا الكرب، أطلقوا لألسنتهم العنان في النبي والمسلمين، بكل بهتان من القول، وخبيث من الكلم.. والسلق بالألسنة: الرمي بالهجر من القول منها.. والألسنة الحداد: أي الألسنة المسعورة الجارحة، الذلقة في الحديث.. فالمنافقون، أحدّ الناس ألسنة، وأكثرهم قولا، وأقلهم فعلا.. إن بضاعتهم كلها من زيف الكلام، وباطله، ينفقون منه في سخاء بلا حساب! - وقوله تعالى: «أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ» أي أنهم أسخياء في الثرثرة باللغو من القول، والباطل من الحديث، على حين أنهم أشحاء على الخير، قولا وعملا، فلا ينطقون بقولة حق يقولونها، ولا يسمحون بكلمة خير تخرج من أفواههم.. - وقوله تعالى: «أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا» تشهير بهم، وفضح لهم على الملأ، وتعرية لهم من الإيمان الذي لبسوه ظاهرا، ولم يفسحوا له مكانا فى قلوبهم.. - وقوله تعالى: «فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ» أي لم يتقبل الله منهم عملا، حتى ما كان صالحا.. لأن الإيمان هو المدخل الذي تدخل منه الأعمال الصالحة إلى مواطن القبول من الله.. وهؤلاء لم يكونوا مؤمنين، فلا عمل يقبل منهم أبدا، ولا يقوم لهم بنيان، ولا يصلح لهم أمر مما يبيتون ويدبرون. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 675 - وقوله تعالى: «وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً» .. الإشارة هنا إلى ما يقع على أعمالهم من إحباط لها كلها، فلا ينجح لهم كيد، ولا يستقيم لهم تدبير.. إنهم يكيدون لله، ويحاربون ربهم بهذه الأسلحة الباطلة، والله لا يصلح عمل المفسدين.. «قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ» . (26: النحل) قوله تعالى: «يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا» . أي أن هذا الخوف الذي استولى على هؤلاء المنافقين من موقف القتال، وحال الحرب التي كانت متوقعة بين المسلمين وبين الأحزاب- قد لصق بهم، وصار كائنا يعيش فيهم، ووسواسا يملأ عليهم وجودهم، ويملك تفكيرهم، حتى أنهم- وقد ذهب الأحزاب، وردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا- لم يصدقوا أنهم ذهبوا، إذ ما زال شبحهم مطلا عليهم.. هكذا يفعل الخوف بالجبناء، الذين يحرصون على الحياة، ويبيعون من أجلها الشرف، والمروءة، والرجولة.. - وقوله تعالى: «وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ» أي ولو فرض أن الأحزاب عادوا مرة أخرى، وأخذوا مثل هذا الموقف من المسلمين، لتمنّى هؤلاء المنافقون أن ترمى بهم الأرض في مطرح غير ما هم فيه، وأن يكونوا من سكان القفار والبوادي.. - وقوله تعالى: «يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا» .. كلام مستأنف، يكشف عن حال من أحوال المنافقين، وهو أنهم- لما ركبهم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 676 من خوف، يسألون عن أنباء المسلمين في جبهة القتال، لا اطمئنانا على المسلمين، ولكن استكشافا للأمر، وتعرفا على الموقف، حتى يأخذوا العدّة لأنفسهم على الوجه الذي يرونه، فإن جاءتهم الأنباء بأنّ المسلمين رجحت كفتهم وهبّت عليهم ريح النصر، انحازوا إليهم، وخلطوا أنفسهم بهم.. وإن كان الأمر على غير هذا، فلن يعدموا وسيلة يتوسلون بها إلى الأحزاب.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى عن موقف المنافقين: «الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ.. فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (141: النساء) . - وقوله تعالى: «وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا» هو إنكار على المنافقين أن يسألوا عن أنباء هذا الموقف، وهم بمعزل عنه، وكان الأمر يقتضيهم أن يشاركوا في القتال، وأن يكونوا بين المقاتلين، إن لم يكن ذلك دفاعا عن الدين، فليكن عن الأهل والدار والوطن!! ومع هذا، فإنه لم يفت المسلمين خير كثير من تخلّف هؤلاء المتخلفين، لأنهم لو شهدوا القتال لما قاتلوا، أو قاتلوا قتال المنحرفين، الذين يطلبون السلامة لأنفسهم قبل كل شىء: «وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ» أي لو شهدوا القتال معكم «ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا» أي لم يكن لهم إلا قتال هزيل لا أثر له. الآيات: (21- 27) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 21 الى 27] لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) الجزء: 11 ¦ الصفحة: 677 التفسير: قوله تعالى: «لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً» . الأسوة: التأسى، والاقتداء.. والأسوة في الرسول، هى التأسى به في موقفه من أمر ربه، وامتثاله له، وجهاده في سبيل الله، وقيامه على رأس المجاهدين.. وفي وصف الأسوة بأنها أسوة حسنة، إشارة إلى أن هناك أسوة سيئة، يقوم على رأسها كبير من كبار المنافقين، يدعو إلى النكوص على الأعقاب والفرار من مواجهة الأحزاب.. والدعوة هنا عامة للمؤمنين أن يتأسوا برسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- وأن يكونوا من ورائه جندا مجاهدين في سبيل الله، فذلك هو طريق الخير، والفوز، لا ييسره الله، إلا لمن كان يؤمن بالله ويرجوا ما عنده، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 678 من جزاء في الدنيا والآخرة، وكان ذكر الله دائما ملء قلبه، حتى يجد من هذا الذكر ما يستحضر به عظمة الله، وفضله، وإحسانه، فيصبر على البلاء، ويستخف بالحياة الدنيا في سبيل رضوان الله في الآخرة.. قوله تعالى: «وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً» . هذه صورة من صور التأسّى برسول الله، يراها الذي ينظر إلى المؤمنين، الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. فهؤلاء المؤمنون حين رأوا الأحزاب لم يهنوا، ولم يضعفوا، ولم ترهبهم كثرة العدوّ، ولم يفزعهم الموت المطلّ عليهم من كل مكان.. فالموت في هذا الموطن هو أمنيتهم التي كانوا يتمنونها على الله، ويقدمونها ثمنا لإعزاز دين الله، وإعلاء كلمة الله.. ولهذا فإنهم حين رأوا الأحزاب، رأوا فيهم تحقيق ما وعدهم الله ورسوله به، من الابتلاء والبلاء على طريق الجهاد في سبيل الله.. فالمؤمنون دائما على طريق الجهاد، وعلى توقّع الصّدام مع العدوّ، الذي يتربص بهم وبدينهم، الدوائر وإن المؤمن في مرابطة مستمرة، لحماية دين الله، ولدفع ما يرمى به من سوء، وردّ ما يراد به من كيد.. - قوله تعالى: «وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» يمكن أن يكون من كلام المؤمنين، معطوفا على مقول قولهم: «هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ» .. ويمكن- وهو الأولى عندنا- أن يكون تعقيبا على قولهم، من الله سبحانه وتعالى، أو بلسان الوجود الّذى إذا سمع قولهم: «هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ» !. نطق بلسان واحد: «وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» . - وقوله تعالى: «وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً» فاعل الفعل «زادهم» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 679 يدلّ عليه الفعل «رأى» أي ما زادهم ما رأوه من الأحزاب وكثرة عددهم وعدتهم، إلا إيمانا بالله، وتصديقا لوعده، وتسليما بما يقضى به الله بينهم وبين عدوّهم. قوله تعالى: «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا» . أي من المؤمنين الذين سلموا من النفاق، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. إذ ليس كلّ المؤمنين على درجة واحدة في إيمانهم.. بل هم درجات فى الإيمان، كما أنهم درجات عند الله.. وحرف الجرّ «من» هنا للتبعيض.. أي من بعض المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه. وفي قوله تعالى: «رجال» إشارة إلى أنهم أناس قد كملت رجولتهم، وسلمت لهم إنسانيتهم.. فكانوا رجالا حقّا، لم ينتقص من إنسانيتهم شىء.. فالكفر، والشرك، والنفاق، وضعف الإيمان، كلّها أمراض خبيثة، تغتال إنسانيّة الإنسان، وتفقده معنى الرجولة فيه.. فالرجل كلّ الرجل، هو من تحرّر عقله من الضلال، وصفت روحه من الكدر، وسلم قلبه من الزيغ.. ثم لا عليه بعد هذا ألا يمسك بيده شىء من جمال الصورة، أو وفرة المال، أو قوة السلطان. وفي تنكير «رجال» معنى التفخيم، والتعظيم، كما يقول الله تعالى: «يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ» (36: 37 النور) وكما يقول سبحانه: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 680 «لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ.. فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ» (108 التوبة) . - وقوله تعالى: «فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ» : النحب: النذر المحكوم بوجوبه، يقال قضى فلان نحبه: أي وفي بنذره، والمراد به انقضاء الأجل.. أي من هؤلاء الرجال من مات، وهو على إيمانه الوثيق بالله، وفي موقف الجهاد في سبيل الله، قد وفى بما نذره الله، وعاهد الله عليه. - وقوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ» أي من ينتظر قضاء الله فيه، موتا، أو استشهادا في ميدان القتال، فهو على ترقب وانتظار لليوم الذي تتاح له فيه الفرصة للوفاء بنذره وعهده. - وفي قوله تعالى: «يَنْتَظِرُ» إشارة إلى أن المؤمن الصادق الإيمان، ينتظر لقاء ربّه، وهو في شوق إلى هذا اللقاء، يعدّ له اللحظات، ويستطيل أيام الحياة الدنيا، فى طريقه إلى ربه.. شأن من ينتظر أمرا محبوبا هو على موعد معه.. - وقوله تعالى: «وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا» .. إشارة إلى أن إيمانهم بالله، ويقينهم بلقائه لم يزايل مكانه من قلوبهم لحظة، ولم ينحرف عن موضعه أي انحراف.. فهم على حال واحدة من أمر ربّهم، ومن الثقة بما وعدهم الله على يد رسوله.. على حين أن كثيرا ممن كان معهم ممن أسلموا ولم يدخل الإيمان في قلوبهم، قد بدّلوا مواقفهم، وكثرت تحركاتهم بين الإيمان والكفر ... قوله تعالى: «لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 681 اللام في قوله تعالى: «لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ» هى لام العاقبة لقوله تعالى: «وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا» .. أي أنهم فعلوا ذلك ليجزيهم الله بصدقهم في إيمانهم، وبوفائهم بعهودهم.. وقد أقيم الظاهر مقام المضمر فجاء النظم القرآنى «لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ» بدلا من: «ليجزيهم الله بصدقهم،» وذلك للتنويه بهم، ولإلباسهم هذه الصفة التي حققوها في أنفسهم وهى الصدق، فكانوا الصادقين حقا.. ولم يذكر القرآن ما يجزيهم الله به، إشارة إلى أنه جزاء معروف، وهو الإحسان.. فما يجزى المحسنون إلا إحسانا، كما يقول سبحانه: «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ..» فهو جزاء لا يحتاج إلى بيان. وقوله تعالى: «وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ.. إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» .. هو الجزاء الذي يلقاه أولئك الذين بدّلوا موقفهم من الإسلام، وهم المنافقون، الذين انحرفوا عن الطريق الذي كانوا عليه.. فالمؤمنون الذين لم يبدّلوا موقفهم، ولم يحيدوا عن طريقهم الذي استقاموا عليه- هؤلاء لهم من جزاء إيمانهم وإحسانهم، ما هم أهل له، من الإحسان والرضوان.. والذين بدّلوا، ونافقوا، ولم يصدقوا في إيمانهم بالله- هؤلاء إما أن يعذّبهم الله، إذا هم مضوا على نفاقهم، ولم تدركهم رحمة الله، فتخرجهم من هذا النفاق، وتعيدهم إلى الإيمان، وإما أن تنالهم رحمة الله، فيتوبوا من قريب، ويدخلوا في المؤمنين الصادقين.. وفي قيد العذاب بالمشيئة الإلهية، إشارة إلى أن مشيئة الله في هؤلاء المنافقين الذين كتب عليهم الشقاء والعذاب، هى التي أمسكت بهم على طريق النفاق، وخلّت بينهم وبين ما في قلوبهم من مرض، وأن رحمة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 682 الله هى التي أدركت بعض هؤلاء المنافقين، وعدلت بهم عن طريق النفاق.. وإذن فليطلب المنافق من هؤلاء المنافقين السلامة لنفسه، وليسع سعيه ليكون ممن يتوب الله عليهم.. وليعلم أن في هؤلاء المنافقين من هو من أهل العذاب، وأن عليه أن يحذر ما استطاع أن يكون منهم.. ثم ليعلم قبل هذا كله، أن الأمر لله سبحانه وتعالى، من قبل ومن بعد، وأن المطلوب منه، هو أن يعمل على سلامة نفسه، وأن يطلب الخير لها.. وليس له أن يعلم ما الله سبحانه وتعالى قاض فيه! فذلك لله وحده، لا شريك له فيه. - وفي قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً» إطماع في رحمة الله، وفي مغفرته للعصاة والمذنبين، أيّا كان ما هم فيه من ضلال.. فرحمة الله واسعة، ومغفرته عامة، لمن طمع في رحمته ومغفرته، وعمل على مصالحة ربّه، والتوب إليه. قوله تعالى: «وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً» . «الواو» للاستئناف، ومتابعة عرض الأحداث لقصة الأحزاب، بعد هذا الاعتراض بتلك التعقيبات على ما ذكر من أحداثها.. فقد ردّ الله الأحزاب «بغيظهم» فهذا الغيظ هو محصّلهم من هذه الغزوة التي كانوا يمنّون أنفسهم فيها بالنصر والغنيمة.. فبدلا من أن يعودوا إلى أهليهم محمّلين بالغنائم، وبأهازيج الفرح والزهو، عادوا يحملون الغيظ والكمد، ويتلفعون بالخزي والذلة.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 683 - وقوله تعالى: «لَمْ يَنالُوا خَيْراً» تأكيد لما أصاب الأحزاب من خزى وكمد، وأنه لم يكن لهم في كيدهم هذا الذي كادوا، أىّ وجه من وجوه النفع، بل كان شرّا خالصا، وبلاء محضا.. - وقوله تعالى: «وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ» .. هو إظهار للمنّة التي امتنّ الله بها على المؤمنين يدفع هذا المكروه الذي نزل بساحتهم، وأوشك أن يشتمل عليهم، دون أن يكون منهم قتال.. - وقوله تعالى: «وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً» بيان لما الله سبحانه وتعالى من سلطان قاهر، وقوة غالبة.. فلا يملك أحد مع سلطان الله سلطان، ولا مع قوة الله قوة. قوله تعالى: «وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً» . فى الآية السابقة بيّن الله تعالى، ما نزل بفريق من الأحزاب، وهم «الكافرون» .. وهم مشركو قريش، ومن انضم إليهم من قبائل العرب.. وفي هذه الآية.. بيان لما أخذ الله به الفريق الآخر من الأحزاب، وهم يهود المدينة، من بنى قريظة وبنى النضير، الذين ظاهروا المشركين، أي كانوا ظهرا لهم في هذا الكيد الذي أرادوه بالنبيّ والمسلمين.. فهؤلاء اليهود، أنزلهم الله من صياصيهم، وأزالهم من أماكنهم التي تحصنوا فيها «وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ» أي ملأ قلوبهم فزعا ورعبا، وأراهم أنهم قد أصبحوا في يد النبىّ والمسلمين بعد أن انقلب المشركون مدحورين، مذمومين.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 684 والصياصي: الحصون التي كان يتحصن فيها اليهود، بالمدينة.. وكانت حصونا حصينة، يعيش فيها هؤلاء القوم، ويجدون في ظلها الحماية من كلّ عدو يريدهم، قبل الإسلام، وفي الإسلام.. وهى جمع صيصية.. وبها تسمى قرون الظباء والبقر.. لأنها حصونها التي تدفع بها العدو عنها.. - وقوله تعالى: «فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً» هو بيان لما انتهى إليه أمر اليهود في هذه الغزوة.. فقد مكن الله سبحانه وتعالى النبىّ والمسلمين منهم، فنزلوا على حكم النبىّ فيهم، فقتل من قتل، وأسر من أسر.. ذلك أنه بعد أن زايل المشركون الخندق، ورفع الحصار عن المدينة، وأمن المسلمون شرّهم، عاد النبىّ والمسلمون معه إلى دورهم، ثم إنهم ما كادوا يضعون أسلحتهم، حتى جاء جبريل إلى النبىّ يؤذن بحرب اليهود، الذين لم تعد مجاورتهم للمسلمين في المدينة مأمونة العاقبة، بعد أن صرح الشرّ منهم، وأصبحوا جبهة من الجبهات التي أعلنت الحرب سافرة على الإسلام والمسلمين.. إنهم الآن وقد سفرت عداوتهم للمسلمين لم يكن بدّ من أن يخرجوا من المدينة، أو يخرج المسلمون منها.. إذ لا يستقيم للمسلمين بعد هذا الأمر، وهذا العدوّ يعيش معهم، يراقب حركاتهم وسكناتهم، ويكشف مواطن الضعف التي يدخل عليهم العدو منها.. وأذّن مؤذن النبىّ في المسلمين، بعد أن تلقّى أمر ربه، ألا يصلّى المسلمون العصر- أي عصر هذا اليوم- إلا في بنى قريظة.. فسار المسلمون إلى حيث كان يتحصن بنو قريظة في حصونهم من المدينة. وكانت صلاة العصر قد دخل وقتها.. فكان المسلمون على رأى مختلف في أداء الفريضة في وقتها حيث وجبت أو الانتظار بوقتها حتى يبلغوا بنى قريظة.. وكان ذلك موضع اجتهاد منهم.. فرأى بعضهم أن يمتثل أمر النبىّ من غير تأويل، وألا يصلّى العصر إلا في بنى قريظة، ولو تأخر الوقت إلى العشاء.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 685 ورأى بعض آخر، أن يصلّى العصر، حين وجب وقتها، وقبل أن يخرج هذا الوقت، ودلّهم على هذا الرأى أن النبىّ صلّى الله عليه وسلم لم يرد بهذا الأمر إلا المبادرة والإسراع إلى حيث أمرهم، وأن الصلاة لا تفوّت عليهم هذه المبادرة.. وقد علم النبىّ بما كان من المسلمين، فلم ينكر على أىّ من الفريقين رأيه.. إذ كان كل منهم إنما يتحرى الخير، ويطلب رضا الله ورسوله.. إن أحدا منهم لم يمل مع هوى، ولم ينظر إلى ذات نفسه في هذا الأمر.. وإذ كان ذلك كذلك لم يكن المقصد إلا طلب الخير، وتحرّى الوجه الذي يلوح منه.. وفي طلب الخير، وتحرّى وجهه، يتساوى الذين يبلغونه، والذين لا يصلون إليه.. فليست العبرة بالأمر في ذاته، وإنما العبرة بالنيّة القائمة عليه، والرسول صلوات الله وسلامه عليه يقول: «إنما الأعمال بالنيات.. وإنما لكل امرئ ما نوى» .. ولهذا لم يكشف النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- عن وجه الصواب في هذا الأمر الذي اختلف فيه أصحابه.. إذ لا شك أن فريقا أصاب، وفريقا أخطأ.. فالأمر إما صواب وإما خطأ، ولا يحتمل الوجهين معا.. ولكنّ المعتبر هنا ليس الأمر في ذاته، إذ هو شىء عارض، وإنما المعتبر هو النيّة التي تقوم وراء هذا الأمر.. لأن النيّة شىء ذاتى، والذاتي مقدم على العرضي. وقد حاصر النبي والمسلمون اليهود في حصونهم مدة، حتى إذا اشتدّ عليهم الحصار، نزلوا على حكم النبىّ.. فأمر يقتل كل من بلغ الحلم من الذكور، وسبى الأطفال، والنساء، بعد أن استولى على ما كان مع القوم من سلاح.. وهكذا ذهب هذا الداء الذي كان يعيش في كيان المدينة، ويموج بالفتن فيها.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 686 وهكذا نفت المدينة خبثها.. ولبست اسما جديدا لها هو «طيبة» .. إذ قد طابت الحياة للمسلمين فيها بعد ذهاب هذا الخبث عنها.. قوله تعالى: «وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً» هو إخبار بما كان الله من نعمة على المسلمين بعد أن أجلوا اليهود عن المدينة.. فقد ورث المسلمون ما كان للقوم من أرض، وديار وأموال.. وهذا فضل من فضل الله على المؤمنين، يجب أن يذكروه، ويشكروا لله فضله وإحسانه.. - وفي قوله تعالى: «وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها» .. إشارة إلى ما سوف يورّث الله سبحانه وتعالى المسلمين بعد هذا، من أرض لم يطئوها من قبل.. وهى تلك الأرض التي وراء حدود الجزيرة العربية، مما ستمتد إليه فتوح المسلمين، وتطلع عليه شمس الإسلام.. في مشارق الأرض ومغاربها.. وفي الحديث إلى المسلمين بالأرض التي سيرثونها، مع أن المخاطبين لم يرثوها بعد، وإنما ورثها المسلمون من بعدهم- فى هذا إشارة إلى أن المسلمين كيان واحد، وأن ما يرثه المسلمون في أي زمان ومكان، هو ميراث المسلمين جميعا.. لأن هذا الميراث ليس في حقيقته لذات أنفسهم، وإنما هو لدين الله الذي يجاهدون في سبيله.. - وفي قوله تعالى: «وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً» تطمين لقلوب المؤمنين على مستقبل الإسلام، الذي وعدهم الله بنصره وإعزازه، والتمكين له في الأرض.. فإن هذا الوعد من الله القوى العزيز، الذي بقوته وعزته يجعل من هؤلاء القلّة من المسلمين كثرة، ومن ضعفهم قوة تنهار أمامها قوى أعظم دولتين كانتا تسيطران على العالم في هذا الوقت، وهما دولتا الفرس والروم.. هذا، وفي الآية الجزء: 11 ¦ الصفحة: 687 الكريمة، إشارة إلى ما أراد الله سبحانه وتعالى باليهود من إذلال وامتهان، فقد عرضهم سبحانه وتعالى في معرض الاستباحة والاستخفاف بدمائهم وأموالهم وإغراء المسلمين بهم.. ففى قوله تعالى: «فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً» استباحة لدمائهم وإراقتها بغير حساب.. وفي قوله تعالى: «وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ» دعوة للمسلمين إلى تمكين أيديهم من هذا الذي كان في يد القوم، فالمسلمون أحق به منهم، وأولى.. الآيات: (28- 30) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 30] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) (المرأة والرجل.. في بيت النبوة) يكثر المفسرون في إيراد أسباب النزول لهذه الآيات.. ومن هذه الأسباب أن أزواج النبي- صلوات الله وسلامه عليه، قد وجدن في المعيشة التي كن يعشنها مع النبي، ضيقا في العيشة، لاقين فيه كثيرا من الضيق، ووددن لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم، أخرجهن من هذا العيش الخشن إلى حياة يجدن فيها بعض ما يجد غيرهن من النساء، من لين، ورقه.. وتمضى الرواية، فتقول إن نساء النبي جئن إليه مجتمعات بهذا الطلب، وأنه صلى الله عليه وسلم وجد شيئا من الضيق بهن، فنزل قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ.. الآية» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 688 - وهذا الخبر وما يدور في مداره، هو في نظرنا غير معقول على صورته تلك، وإن كان قد ورد في كتب السنة الصحاح، مثل صحيح مسلم.. وذلك لأمور: أولا: أن نساء النبىّ كنّ في هذا المستوي الرفيع، من شفافية الروح، وصفاء النفس، يملأ قلوبهن الإيمان بالله.. وكيف لا يكون هذا شأنهن، وهن يرين وحي السماء ينزل في بيوتهن، ورسول لله يملأ بأنفاسه الطاهرة الطيبة حجراتهن؟ وأين إذن ما يكون للرسول الكريم من نفحات وبركات إذا لم تنل أقرب الناس إليه، وأكثرهن مخالطة له، وحياة معه؟ ثانيا: كان رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- الأسوة الحسنة، لنسائه وللمؤمنين جميعا، فى تلك الحياة المتواضعة التي كان يحياها في مطعمه، وملبسه، ومنامه.. فقد كان- صلوات الله وسلامه عليه- ينام على حشية من ليف، ربّما ثناها في الليلة الباردة ليتغطى ببعضها، كما كان له وسادة من ليف أيضا.. وكانت تمرّ به الليالى ذوات العدد، لا يوقد في بيته نار، كما تحدث بذلك السيدة عائشة.. ومعنى هذا أن لا خبز يخبز، ولا لحم ينضج.. وكان- صلوات الله وسلامه عليه- يخيط ثوبه، ويخصف نعله، فكيف- مع هذا- تجد واحدة من نسائه لسانا تحدّث به الرسول هذا الحديث عن العيش اللّين، والحياة الرافهة؟ ثم كيف يتحول هذا الحديث إلى أن يكون بهذا الصوت الجماعى الجهير؟ ثالثا: فى حياة أزواج النبىّ مواقف تشهد لهن بهذه العظمة الإنسانية، التي كانت من بعض نفحات الرسول، وبركاته عليهن.. فكنّ بهذا جديرات بأن يكنّ زوجات لواحد الإنسانية وعظيمها، وكن على ما أشار إليهن سبحانه وتعالى بقوله: «وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ» . فهذه أم حبيبة- رضى الله عنها- إحدى أزواج النبىّ، وبنت الجزء: 11 ¦ الصفحة: 689 أبى سفيان- ينزل عليها أبوها قبل أن يدخل في الإسلام، وقد جاء إلى المدينة، ممثلا لقريش، ليلقى النبىّ في شئون بين المسلمين، وبين مشركى قريش.. نقول: نزل أبو سفيان عند ابنته أم حبيبة- رضى الله عنها- فلما أراد أن يجلس على حشية كانت هناك، ردّته أم حبيبة بغير شعور، وبلا رفق.. وعجب أبوها لهذا أشدّ العجب، واستحال كيانه كلّه علامة إنكار تطلب تفسيرا لهذا الأمر الغريب.. وتلقاه أمّ حبيبة بما يكاد يذهب بعقله: «أنت مشرك.. نجس. فلا تمس فراش رسول الله!!» ولم يصدّق أبو سفيان ما سمعت أذنه، كما لم يصدق ما رأت عينه، وخيّل إليه أنه في حلم مزعج.. ولكن الواقع كان أقوى من أن تعيش في ظله الأحلام طويلا، فصحا الرجل صحوة مذعورة، وانطلق مسرعا ليهرب من هذا الموقف الذي كاد يختنق فيه. وأم حبيبة هذه على شظف العيش الذي كانت تنعم في ظله بهناءة الروح، وروح النفس- لم تر أن تنعم وحدها بهذه النعمة العظيمة التي تجدها في رحاب رسول الله، وألا يكون لأحتها «رملة» بنت أبى سفيان حظ من هذا الخير الوفير، فتعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يتزوج أختها، فتقول: يا رسول الله.. هل لك في أختى بنت أبى سفيان؟ فيقول الرسول الكريم: «أفعل ماذا؟» فتقول: تتزوجها! فيقول- صلوات الله وسلامه عليه: «أو تحبين؟» فتقول: «لست بمخلية «1» وأحبّ من يشاركنى في الخير أختى!» فيجيبها الرسول الكريم: «فإنها لا تحلّ لى» والمثل في أم المؤمنين «حبيبة» بنت أبى سفيان يغنينا عن كثير من الأمثلة التي نجدها في سيرة أزواج النبي- رضى الله عنهن- وما بلغ بهن زهدهن في متاع الحياة الدنيا، وترفعهن عن زخارفها وزينتها، من مكانة لم تكن إلا للمصطفيات   (1) أي أنها لا تخلى مكانها ليتزوج النبي بأختها، حيث يحرم الجمع بين الأختين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 690 من عباد الله- إذا كانت أم حبيبة بنت سيد قريش، وصاحب غيرها ونفيرها ... فليس بصحّ بعد هذا أن يسمع لقول يقال بأن أزواج النبي- صلى الله عليه وسلم- شكون يوما من ضيق العيش في جناب الرسول، وأن واحدة منهن مدت عينها إلى شىء وراء هذا العالم الروحي الذي كانت تعيش فيه، وتجد منه ما يملأ عليها وجودها سعادة ورضا.. وعلى هذا نستطيع أن ننظر في الآيات السابقة، من غير أن نقف على أسباب النزول التي قيل إنها لا بست نزولها، وحسبنا أن نأخذ بعض ما يعطيه منطوق هذه الآيات من دلالات، وما لهذه الدلالات من علاقة بالآيات السابقة أو اللاحقة لها.. قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً» - هو خطاب للنبىّ، وأمر له من ربه، أن يلقى نساءه بهذا القول الذي أمره ربه أن يلقاهن به، وأن يعرف رأيهن فيه، وموقفهن منه: «إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً» .. إنه تخيير لهن من الرسول- بأمر ربه- بين أن يطلق الرسول سراحهن ويمتعهن متعة المطلقات، لتأخذ كل واحدة منهن حظها الذي تقدر عليه من متاع الحياة الدنيا خارج بيت النبوة، وبين أن يرضين الحياة مع رسول الله، على تلك الحال التي هن فيها.. فى بيت النبي! الجزء: 11 ¦ الصفحة: 691 وفي هذا التخيير دلالة واضحة، وإشارة صريحة إلى ما ينبغى أن تقوم عليه الحياة الزوجية بين الرجل والمرأة.. فليس للرجل أن يحمل المرأة على الحياة معه، وهى متكرهة لهذه الحياة، غير راغبة فيها، حتى ولو كانت تلك الحياة على أعلى مستوى من الكمال والإحسان.. فأيّا ما كان واقع الأمر في الحياة الزوجية، فإن ذلك لا يحرم المرأة حقها في اختيار الحياة التي ترضاها لنفسها، وتجد فيها ما تستريح له، ولو كان على غير جادة الطريق.. إنها كائن رشيد يحمل أمانة التكليف، ويتلقى جزاء ما يعمل من خير أو شر.. إن المرأة كالرجل فى حمل التكليف، وفي الثواب والعقاب، وإن في إمساكها في بيت الزوجية على غير ما تريد، حجرا على إرادتها، واعتداء على إنسانيتها.. ولو أنه كان من تدبير الشريعة الإسلامية، أن تجعل للرجل سلطانا مطلقا على المرأة يمسكها به في بيت الزوجية، من غير رضاها- لكان أولى الناس جميعا بذلك، هو رسول الله- صلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته عليه- فإنه لن تجد المرأة أبدا ظلا كهذا الظل الطيب الكريم، تأوى إليه، وتغذّى فيه إنسانيتها بأنوار السماء، وتعطر منه روحها بأنفاس النبوة وكمالاتها.. إن في إلزام المرأة وقهرها أن تحيا في هذا الوضع الكريم في بيت النبوة، هو خير محض لها، وإحسان عظيم إليها، وربح خالص لا شك فيه لها.. ومع هذا، فإن الله سبحانه أمر رسوله الكريم، بتخيير نسائه، وإعطائهن هذا الحق الذي لهن، والذي ربما كان يمنعهن الدين ومقام الرسول في نفوسهن، من النظر إليه، أو التفكير فيه! فجاء هذا العرض وذلك التخيير، أمرا من السماء، يرفع عنهن الحرج، ويفسح لهن الطريق إلى ما يردن. وطبيعى أن يكون هذا موقف الإسلام من المرأة، ومن تحرير مشاعرها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 692 من كل خوف، وإخلاء وجدانها من كل قيد، فى الصلة التي تقوم بينها وبين الرجل ... وهذا التحرير لإرادة المرأة، وإعطائها الحق في الإمساك بعقد الحياة الزوجية أو نقضها. فوق أنه اعتراف بحق الجانب الإنسانى في المرأة، وحراسة من كل عارض يعرض له- فى الوقت نفسه- هو اعتراف ضمنى بقداسة الرابطة الزوجية، ورفعها إلى مستوى العقيدة الدينية.. سواء بسواء.. فالعلاقة التي تقيمها الشريعة الإسلامية بين الزوجين علاقة مقدّسة، لها حلالها، ولها خطرها، فى بناء المجتمع، وفي تماسك وحداته. إنها علاقة نفوس، واتصال أرواح، وارتباط مشاعر، وتلاقى قلوب.. ولن يكون ذلك على كماله وتمامه، أو على شىء من الكمال والتمام، إذا لا بسه شىء من القهر أو الإكراه، أو الحرج.. والشريعة الإسلامية، التي تأبى أن يستجيب لها أحد بغير رضاه، أو يدخل إليها داخل عن طريق القهر والقسر. حتى ليقول الله سبحانه، لنبيه الكريم: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» (256 البقرة) ويقول له: «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (99: يونس) .. ويقول له: «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» (22: الغاشية) ويقول له: «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» (29: الكهف) - هذه الشريعة التي تقف هذا الموقف من دعوتها، ليس غريبا عليها أن تقف هذا الموقف من المرأة، ومن إمساكها على الحياة الزوجية.. ولا ندرى كيف أخذت المرأة هذا الموضع الذليل المهين في الأسرة الإسلامية، وفي علاقتها بالرجل، حتى لقد كادت- فى وقت ما- تتحول إلى متاع من أمتعة الرجل.. فيمسكها كارهة له، بل ويمسكها وهو كاره الجزء: 11 ¦ الصفحة: 693 لها.. كيدا، وإعناتا!! ولا ندرى من أين جاءت تلك القوانين المعنونة بعنوان الدين، تحكم على المرأة بالطاعة، وتدخلها بالقوة القاهرة هذا البيت البدعىّ المعروف ببيت الطاعة؟ وأية طاعة تلك التي تقوم على سلطان القانون، وضربات السياط؟ وهل لسلطان القانون- أي قانون- أن يقيم في النفوس ولاء، وفي القلوب حبا ومودة ورحمة؟ والحياة الزوجية، فى شريعة الإسلام، إنما ملاكها الرحمة والمودة، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» (21: الروم) لقد فهم الطلاق في الإسلام، بعد عصر النبوة والخلافة الراشدة- على أنه حق مطلق للزوج، وهو فهم خطأ.. فللطلاق دواع وأسباب إذا لم تجتمع له، كان عملا عدوانيا، يؤثّمه الإسلام، ويبغض مرتكبه.. إنه رخصة لا تباح إلا عند الضرورة، ومحظور لا يحل إلا عند الحرج، وفي هذا يقول الرسول الكريم: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» .. فهو حلال بغيض، لا يستعمل إلا بقدر ما يدفع الضرر، ويرفع الحرج.. تماما كحلّ الميتة ولحم الخنزير، عند الاضطرار.. وعن هذا الفهم الخاطئ للطلاق، قام مفهوم آخر، هو خطأ أيضا، لأن ما بنى على الخطأ خطأ.. وهذا المفهوم، هو أنه ليس للمرأة في ربط الحياة الزوجية أو حلّها أي شىء! إن الأمر كله في يد الرجل.. إن شاء أبقى على الحياة الزوجية، وإن شاء قطعها.. ولو نظر ناظر إلى الشريعة الإسلامية من خلال هذا المفهوم الخاطئ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 694 للطلاق، وما تفرع منه، لساء ظنه بها، ولاتهم الإسلام في عدالة أحكامه، وإنسانية تشريعه.. والحق أن الإسلام قطع على الناس وساوس الظنون به، وأخرس ألسنة الذين يتهمونه في عدالة أحكامه، وإنسانية تشريعه، فى أي موقع من مواقع الحياة، سواء بين المرأة والرجل، أو بين الناس والناس جميعا، مؤمنين وغير مؤمنين.. أتريد لهذا شاهدا، فيما بين المرأة والرجل؟. استمع إلى قوله تعالى: «وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً.. وَالصُّلْحُ خَيْرٌ.. وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ.. فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ.. وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً» (128- 130: النساء) . فالقضية في هذه الآيات الثلاث، هى قضية المرأة، والشأن الأول فيها هو شأن المرأة.. إن المرأة هنا، قلقة في بيت الزوجية، لا تجد سكينة النفس، ولا أنس الروح.. سواء أكان ذلك الشعور ناجما عن سوء تقديرها وتفكيرها، أو واردا عليها من سوء تصرف الرجل معها وسوء عشرته.. إن الأمر سواء.. فهى- على أي حال- غير مستريحة إلى زوجها، وغير مطمئنة إلى الحياة معه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «خافَتْ مِنْ بَعْلِها» .. فالخوف هنا، هو الشعور بالقلق، وعدم الاستقرار والاطمئنان.. وفي قوله تعالى: «نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً» ما يكشف عن وارد هذا الخوف، الذي تجده المرأة، وهو الجزء: 11 ¦ الصفحة: 695 إما أن يكون عن نشوز منها هى، ونفور من الحياة الزوجية، وإما أن يكون من إعراض الرجل عنها، ونفوره منها.. هذه هى صورة تلك الحياة الزوجية التي تشير إليها الآيات، وهذا هو إحساس المرأة بها، وشعورها نحوها.. أما شعور الرجل وإحساسه هنا، فلا معتبر لهما، لأن في يده ما يحسم به أمره، ويأخذ به الوضع الذي يستريح إليه، وهو «الطلاق» ! .. والسؤال هنا: ماذا تملك المرأة إزاء هذا الشعور الذي تعيش به في بيت الزوجية؟ وهل أعطاها الإسلام من الحق ما تملك به التصرف بمقتضى الشعور؟. ونعم، نعم.. فإن الآيات صريحة في أن تأخذ المرأة الطريق الذي تختاره، وأن لها أن تفارق زوجها، إن لم يكن برضاه، فلولىّ الأمر أن يطلقها عليه.. ففى قوله تعالى: «وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ» فهذا التفرق هو عن رغبة المرأة التي عرضت الآيات مشاعرها، وما تجد من ضيق، وقلق، وخوف..! وليس الذي حملته الآيات من علاج للأمر قبل حسمه بين الزوجين بالطلاق، وذلك بما يجرى بينهما من مناصحة ومصالحة، واستدعاء لمشاعر الخير فيهما- ليس هذا إلا حرصا على هذه الرابطة المقدسة، وإبقاء على مشاعر المودة والرحمة التي من شأنها أن تكون على أتم صورة وأعدلها بين الزوجين ... وقد جاءت السنة المطهرة شارحة عمليا لما جاء به القرآن الكريم، فى هذا الأمر.. فأعطى النبي الكريم المرأة حقها في الطلاق من زوجها، إذا هى لم تردّ الحياة معه.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 696 روى أن «جميلة» امرأة ثابت بن قيس، جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت يا رسول الله: لا أجد في ثابت بن قيس عيبا من خلق أو إيمان، ولكنى لا أجد في طوقى مجاراته» فسألها الرسول الكريم، هل تعيد إليه حائطه (أي بستانه) الذي جعله صداقا لها.. إذا هو طلقها؟ فقالت نعم، فأمر النبي بردّ الحائط إلى ثابت، وتطليقها.. وبهذا التدبير الحكيم تتعادل كفتا الميزان للحياة الزوجية، وبهذا التعادل، يتم التوافق، والتواد، ويجد كل من الزوجين معنى السكن الذي أشار إليه قوله تعالى «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً» (21: الروم) . هذا، والمناسبة الداعية إلى هذا الموقف الذي وقفه النبي- صلوات الله وسلامه عليه- من أزواجه، وخيّرهنّ فيه بين الحياة معه، إيثارا لله ورسوله، وبين الحياة المطلقة من رباط الزوجية- المناسبة الداعية إلى هذا هو ما فتح الله على النبي والمسلمين في غزوة الخندق، بما ساق إليهم من غنائم اليهود، من بنى قريظة وبنى النضير، بعد أن ردّ الله عنهم الأحزاب خائبين خاسرين.. وهنا أمام هذه الغنائم الكثيرة، تتحرك شهوات النفوس، وتتدافع الرغبات، وتتطلع العيون.. إنه المال الكثير، من جهة، والحرمان الشديد، من جهة أخرى.. وإنها الفتنة، تطل برأسها على الناس، وتلقاهم على جوع بالغ، وحرمان طويل.. والناس هم الناس.. أيّا كانوا.. فلن تموت فيهم توازع الحياة، وحب البقاء، ولن يختفى من كيانهم ما ركب في فطرتهم من حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث!! الجزء: 11 ¦ الصفحة: 697 وإذا كان الإسلام بتعاليمه، وبهدى رسوله، قد استطاع أن يقهر هذه الشهوات في النفوس، ويخفت صوت الأهواء الداعية إليها، فإنه لن يستطيع- وما كان من همّه أن يفعل- اقتلاع هذه الشهوات من جذورها، لأنه إنما يعمل بتعاليمه، وبهدى رسوله، فى حقل الإنسانية، وفي محيط الإنسان باعتباره كائنا بشريّا، من خصائصه أن يرغب، ويشتهى.. لهذا، كان من تدبير الدعوة الإسلامية أن لقيت المسلمين على أول الطريق، وهم في مواجهة هذه الفتنة التي وردت عليهم من أموال اليهود، وما ورّثهم الله إياه من ديارهم وأرضهم، وذراريهم ونسائهم.. وكان من تدبير الإسلام الحكيم أيضا، أن يكون النبىّ صلى الله عليه وسلم أول من يلقى هذه الدعوة، وأول من يأخذ نفسه بها، فى نفسه وفي أهله.. فكان أن تلقّى أمر ربه بتخيير نسائه في الحياة معه على ما ألفن من شظف العيش في بيته، وألا ينتظرن شيئا من تغيير هذه الحال، مهما كثرت الأموال التي تساق إلى المسلمين من غنائم الحرب، سواء ما كان منهما حالا، أو مستقبلا! فإن هن رضين هذا، فذلك مما يجزيهن الله عليه الثواب العظيم، والأجر الكبير.. وإلّا فلهن أن يطلبن سعة العيش، ومتعة الحياة الدنيا في غير بيت النبىّ.. أما بيت النبىّ فلا تجتمع فيه النبوّة، ومتاع الحياة الدنيا..! وهكذا تلقّى المسلمون جميعا هذا الدرس الحكيم، الذي أشرف عليهم من أعلى قمة في الحياة، فلم يبق بيت من بيوتهم إلا استنار بشعاعاته، واستدفأ بضوئه! فخنست في النفوس تطلعاتها، وانجحرت في الصدور وساوسها، ورأى المسلمون- رجالا ونساء- أنهم مطالبون- وإن لم يطلب إليهم- بما أخذ به النبىّ نفسه وأهله- إذ كان النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- أسوتهم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 698 ومثلهم الأعلى الذي يتمثلونه.. وهذا ما أشار إليه قوله تعالى، قبل هذه الآيات، وكأنه مقدمة لها: «لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً» !. والأسوة هنا إن لم يفرضها الدين، أوجبها العرف، وقضى به واقع الحياة فى الناس.. فالنبىّ، بمكانه الديني، هو رأس المسلمين، وسيّدهم، وإمامهم الذي ينفرد بمقام السيادة والإمامة، وولاية الأمر فيهم.. والنبىّ بمكانه الاجتماعى من المسلمين، هو قائدهم، وملكهم، والمتفرّد بالسلطان عليهم.. ومن هنا لم يكن لأىّ من المسلمين، بل ومن المنافقين ومن في قلوبهم مرض أن يجد سبيلا إلى غير الأسوة بالنبيّ في هذا المال الحاضر بين أيديهم، أو فيما سيقع لأيديهم منه في مستقبل الأيام.. فالمؤمنون حقا يجدون في محمد النبىّ الأسوة في الحياة الطيبة الكريمة العزوف عن زخرف الحياة ومتاعها.. والمنافقون ومن في قلوبهم مرض من المسلمين، يرون في محمد، القائد، والملك والسلطان، وقد نقض يديه من هذه الغنائم، فلم يمدّ يده إلى شىء منها هو أو أهل بيته، فلا يجرؤ أحد منهم أن يمدّ بصره إلى أكثر مما امتدّ إليه بصر الرسول إزاء هذا المال.. موقف لم يكن منه بدّ، وتدبير لم يكن عنه معدّى إلى سواه، إذا كان هذا الدين الذي جاء به «محمد» دينا حقا، وكان من أمر هذا الدين أن يقيم مجتمعا إنسانيا على تعاليمه، ويمسك به على شريعته.. وتعالت حكمة الله، وجلّ جلاله، وتبارك شأنه..! يقع هذا التدبير في بيئة كان الانتهاب، والسلب والخطف شريعة سائدة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 699 فى كل أحيائها.. ثم يعرض على الأنظار فيها هذا المال الكثير الذي اكتنزه اليهود خلال قرون طويلة، وجمعوه من كل وجه- فلا تطمح إليه نفس، ولا تمتد إليه عين أو يد!! إنه انقلاب مزلزل في البيئة العربية.. وإنه لأكثر من انقلاب أن يبدأ القائد بنفسه، ويأخذها بهذا الحكم، ثم يدع للمسلمين أن يأخذوا حظوظهم من هذا المال، وأن يقتسموه بينهم.. وقد كان المتوقع أن يدور الأمر على عكس هذا، فيستأثر القائد بكل نفيس غال من هذا المغنم، جريا على ما اعتاد العرب فى غاراتهم على أعدائهم.. فلقائد الجماعة المنتصرة الغانمة أن يصطفى ما يشاء، من الغنيمة قبل قسمتها، وأن يعطى منها ما يشاء لمن يشاء.. ثم يذهب بالربع مما بقي، ويدع ثلاثة الأرباع تقسم بين المحاربين.. وفي هذا يقول شاعرهم مخاطبا قائد الحرب: لك المرباع فينا والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول وإذا لم تكن كتب السيرة قد التفتت كثيرا إلى هذا الحدث، ولم ترصد آثاره في البيئة العربية كلها- فإن الذي لا شك فيه أنه أثار هزة عنيفة فى المجتمع العربي كله، مسلمين، وغير مسلمين.. والذي لا نشك فيه كذلك أنه أدار تفكير الناس جميعا إلى الإسلام، وإلى الغاية التي يقصد إليها، وأن كثيرا ممن لم يدخلوا في الإسلام، والذين كانوا على غيرة وحسد للنبىّ أن يعلو عليهم بسلطان، وأن يستطيل عليهم بدعوته وما يجمع لها من أنصار- كثير من هؤلاء قد استخزوا أمام أنفسهم، وأطفئوا بأيديهم نيران الحقد والحسد على الدين الجديد، وعلى صاحب الدعوة به فيهم.. وإن الذي يمدّ بصره إلى ما بعد هذا الحدث ليرى أن الطريق مفتوح إلى فتح مكة وإلى دخول الناس في دين الله أفواجا، فقد كان لهذا الحدث أثره العظيم في كسر حدّة العداوة والعناد للنبىّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 700 ولدعوته، فى نفوس المشركين من قريش! إذ أن أكثر ما كان يحجز المشركين عن الاستجابة للنبىّ، هو نفورهم وإباؤهم من أن يقعوا تحت يد سلطان، يعلو عليهم، ويستبدّ بوجودهم، فلما جاءت الأحداث تخبر بأن محمدا ليس ملكا ولا أميرا، ولا طالب ملك أو إمارة- عرف المنكرون أن دعوى النبوة التي يدّعيها محمد، هى دعوة حق، لا شك فيه.. قوله تعالى: «يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً» . تجىء هذه الآية، بعد تخيير النبىّ أزواجه.. وقد اخترن الله ورسوله، ورضين الحياة في ظلال النبوة.. فهن الآن- وبعد هذا الاختبار العملي لما في قلوبهن من إيمان- أهل لاحتمال والتبعات الملقاة على من يخالط النبي ويعاشره.. وإن فهن على غير ما عليه النساء.. إنهن نساء النبي، وعليهن من الواجبات فوق ما على النساء لأزواجهن.. وأنه إذا كان على المرأة أن ترعى حقوق الزوجية، وأن تحفظ حرماتها، فإن على نساء النبي أن يرعين هذه الحقوق رعاية مطلقة وأن يحفظن حرماتها حفظا مبرأ من كل شائبة، بعيدا عن كل شبهة.. وألا فليسمعن كلمة الله إليهن: «يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً» . والفاحشة: الأمر المنكر.. والمبينة: الكاشفة عن هذا المنكر.. والمراد بالفاحشة المبينة هنا، ما يخلّ بالمروءة والشرف، قولا وفعلا.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 701 وفي الآية إشارة إلى مقام نساء النبي، وأنهن مؤاخذات بما يعفى عنه من غيرهن.. لأنهن في موقع الهداية، وفي مطلع النور، فلا عذر لهن فيما يقوم لغيرهن من عذر.. ومن هنا كانت صغائرهن كبائر.. ومن هنا قيل: «سيئات المقربين حسنات الأبرار» . ومضاعفة العذاب ضعفين، ليس ظلما في هذا الوضع، بل هو الجزاء المناسب للذنب، المقدور بقدره.. وإنما هو مضاعف بالنسبة لغيرهن، ممن ليس لهن هذا الوضع الذي هن فيه.. فعذاب غيرهن مراعى فيه التخفيف، فهو دون ما يستحقه الذنب، إذ كان مع غيرهن أكثر من عذر.. من جهل، أو غفلة، ونحو هذا، أما هن فلا عذر لهن.. وقد يبدو أن هذا التحذير لنساء النبي، يمكن أن يلزم منه، وقوع إتيان الفاحشة المبينة من بعضهن، كما يرى ذلك بعض المفسرين.. وهذا غير مراد من الآية الكريمة، وإنما المراد هو الإشارة إلى هذا المقام الكريم الذي لهن عند الله، وعند المؤمنين.. وأن لهن مكانا خاصا، وحسابا خاصا.. وذلك مثل قوله تعالى للنبى الكريم: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» (65: الزمر) . وقوله تعالى: «وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» .. (116: الأنعام) وهذا ما لا يكون من النبي أبدا، كذلك لا يكون من زوجان أن يأتين بفاحشة أبدا، وهنّ في حمى النبوّة، وفي حراسة السماء التي تظل بيت النبىّ.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 702 الآيات: (31- 35) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 31 الى 35] وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35) التفسير: قوله تعالى: «وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً» . هو مقابل قوله تعالى في الآية السابقة: «يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 703 فهذا مقام، وذاك مقام.. هذا في مقام الإحسان، وذاك في مقام الإساءة.. وكما أن زلّة أهل الإحسان كبيرة ومؤاخذتهم عليها أكبر، فإن إحسانهم عظيم وجزاءهم عليه أعظم.. والقنوت: الولاء والخشوع.. وفي عطف الرسول على الله سبحانه وتعالى، تكريم عظيم للرسول، وإشارة إلى مقامه العظيم عند ربه.. وقوله تعالى: «وَتَعْمَلْ صالِحاً» معطوف على قوله تعالى: «يَقْنُتْ» .. وفي هذا إشارة إلى أن القنوت- وهو الولاء والخشوع- من عمل القلب.. وأنه لكى يكون لهذا القنوت أثر، ينبغى أن يخرج إلى مجال العمل، فالعمل هو المحكّ الذي يظهر عليه ما في القلب من مشاعر ومعتقدات.. وإيتاء الأجر مرتين، هو مضاعفة الثواب لأهل الإحسان، فضلا من فضل الله، وإحسانا من إحسانه إلى أهل ودّه.. «وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» (261: البقرة) قوله تعالى: «يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً» تكشف الآية هنا عن السبب الذي من أجله كان حساب نساء النبي في مقام الإحسان أو الإساءة على هذا الوجه الذي أشارت إليه الآيات السابقة، وذلك أنهن لسن مثل غيرهن من النساء.. إنهن نساء النبي.. قد فرض عليهن أن يزهدن في الحياة الدنيا ومتاعها، إذا شئن أن يحسبن في نساء النبي. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 704 ثم جعل حسابهن في مقام الإحسان أو الإساءة، على غير ما يقوم عليه حساب النساء جميعا.. - وفي قوله تعالى: «يا نِساءَ النَّبِيِّ» استدعاء لهن بتلك الصفة الرفيعة التي حلّاهن الله سبحانه وتعالى بها في بيت النبوة، وتذكير لهن بتلك النعمة العظيمة التي لبسنها بإضافتهن إلى النبي.. - وقوله تعالى: «لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ» .. نفى الشّبه عن نساء النبي هنا هو في المقام الذي حللنه في المسلمين.. فهن في هذا المقام أمهات المؤمنين، لهن ما للأمهات عند الأبناء من توقير وتقدير، فهن بهذا الوضع لسن كمطلق النساء، وعمومهن، بل إن لهن خصوصية لا يشاركهن فيها غيرهن من النساء- وقوله تعالى: «إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ» الخضوع بالقول مضغ الكلام، ولينه، تدلّلا.. وهذا من المرأة أشبه يكشف العورة، وإبداء الزينة، إذ كان الصوت من بعض مفاتنها.. وصوت المرأة إذا كان على طبيعته لا شىء فيه، ولكن التصنع هو الذي يجعل من صوتها داعيا يدعو إلى الريبة، وإثارة شهوة الرجال.. ولهذا تغزل الشعراء بمثل هذا الصوت الذي يجىء من المرأة عن دلال وصنعة.. ويعدّ المتنبي مضغ الكلام ولينه من بدع الحضارة الذي لا يعجبه فيقول: أفدى ظباء فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب وقوله تعالى: «وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً» أي تحدثن حديثا، واضحا صريحا، بعيدا عن التكليف والصنعة، مجانبا، الغمز والإشارة.. فهذا أدب يباعد بين نساء النبي، وبين أن يطوف بهن طائف من الريب، وهو أدب ينبغى أن يكون لنساء المؤمنين جميعا.. فلهن في نساء النبي أسوة حسنة.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 705 قوله تعالى: «وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» . قرن في بيوتكن: أي أقمن في بيوتكن، والزمن الحياة فيها.. وهو من القرار والسكن، وأصله: اقررن في بيوتكن. والتبرج: التهتك، وإظهار الزينة.. والجاهلية الأولى: أي الجاهلية العريقة في الجهل.. والآية، أمر لنساء النبي، أن يلزمن بيوتهن، وألا يغشين المجالس والطرقات.. إذ أن بيوتهن، هى مساجدهن التي رضين أن يعشن فيها بعيدات عن صخب الدنيا، وعن زخرفها ومتاعها.. وهذا القرار في البيوت، لنساء النبي- أمر طبيعى، بعد أن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة.. فما لهن بعد هذا مطلب يطلبنه خارج بيوتهن، من لهو أو تجارة أو نحوها.. ولهذا كانت الدعوة إليهن بالقرار في البيوت مقترنة بالدعوة بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله.. فهذا هو دأبهن في الحياة.. الاتجاه إلى الله، والعمل لما يرضى الله، ورسول الله.. - وقوله تعالى: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» . أي إن هذا لذى يدعى إليه نساء النبي من أدب السماء، هو لما يريد الله سبحانه وتعالى لهن من طهر، يتناسب مع مقامهن، ويتلاقى مع انتسابهن إلى النبي.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 706 «وأَهْلَ الْبَيْتِ» منادى، وفي النداء تذكير لنساء النبي بهذا النسب الكريم الذي ينتسبن إليه، وأنهن أهل بيت النبي. - وقوله تعالى: «وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» توكيد لهذا الطهر الذي يريد الله سبحانه وتعالى أن يضفيه على أهل بيت النبي.. فهو طهر خالص، لا تعلق به شائبة من دنس، أو رجس.. قوله تعالى: «وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً» . آيات الله، هى القرآن الكريم، والحكمة: هى السنة المطهرة. والمراد بذكر آيات الله والحكمة، هو تذكرها، والعمل بها.. ففى ذكر آيات الله، وسنة الرسول، تذكير بما فيهما من أحكام وآداب.. وفي هذا التذكير حثّ على العمل، وتحرّ لما يرضى الله ورسوله، من قول أو فعل!. وقوله تعالى: «بُيُوتِكُنَّ» إشارة إلى أن بيوت نساء النبي هى الآفاق التي تطلع منها آيات الله، وسنة الرسول.. إذ كان الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- على تلاوة دائمة لآيات الله آناء الليل أو النهار، فى أي بيت من بيوت نسائه.. - وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً» - دعوة إلى ما ينبغى أن يصحب الذاكر لآيات الله وسنة الرسول من يقظة الوجدان، واستجماع المشاعر والمدارك لاستقبال ما يتلى من آيات الله والحكمة، فذلك هو الذي يمنح القدرة على استشفاف بعض ما ضمّت عليه كلمات الله، وهدى رسوله، من حكمة وموعظة، وعلى التعرف على بعض ما حملت من علم ومعرفة.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 707 - «إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً» .. ومن لطف الله وخبرته يقبس عباد الله المقربون، المكرمون.. قوله تعالى: «إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً» .. كانت الآيات السابقة دعوة لنساء النبي من الله سبحانه وتعالى، إلى ما يحفظ عليهن مقامهن الكريم عند الله، ومنزلتهن العالية في نفوس المسلمين.. وقد وعدهن الله سبحانه وتعالى على ذلك أجرا عظيما.. ورحمة الله الواسعة وفضله العظيم، يسعان الوجود كله، وينالان البرّ والفاجر من عباده.. فكيف بالمؤمنين الذين استجابوا الله، وأخلصوا دينهم وولاءهم له؟ إن لهم مزيدا من الرحمة، وأضعافا مضاعفة من الفضل والإحسان.. وفي الآية الكريمة تسوية بين الرجل والمرأة في مقام التكليف والجزاء.. وهذا ما يجعل للمرأة وجودها الكامل مع الرجل، إذا ارتبطا برباط الزوجية.. وإلا فإن أي حيف يدخل على وجودها- بحكم الشريعة- يحلها من الالتزام بأحكام هذه الشريعة وآدابها، إذ كانت- والأمر كذلك- غير- مالكة أمرها على الوجه الذي تحقق فيه ذاتيتها، وتحرر فيه إرادتها، وتمضى به مشيتها.. وهذا يؤيد ما ذهبنا إليه في تفسير قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها.. الآية» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 708 وقد ذكرت الآية هنا عشرة أوصاف للرجال والنساء، من حققها من أىّ من الرجال والنساء، استحق ما وعد الله به من المغفرة والأجر العظيم.. ويلقانا مع الآية الكريمة سؤالان: أولهما: هل اجتماع هذه الأوصاف شرط في تلقّى الجزاء الذي وعد الله سبحانه وتعالى به، فى هذه الآية، أم أنه يكفى أن يحقق المرء وصفا واحدا منها، فيكون أهلا لتلقى هذا الجزاء؟ وإذا كان ذلك كذلك، فلم تعددت هذه الأوصاف إذا كان واحد منها مغنيا عن غيره؟ والجواب على هذا- والله أعلم- هو أن أي وصف من هذه الأوصاف إذا حققه المرء تحقيقا كاملا، كان في الوقت نفسه، محققا، جامعا للأوصاف الأخرى كلها.. فمثلا.. المسلم.. إذا حقق معنى الإسلام على تمامه وكماله، كان مؤمنا، وكان قانتا، وكان صادقا، وكان صابرا، وخاشعا، ومتصدقا، وصائما، وحافظا لفرجه، وذاكرا لله كثيرا.. وهكذا.. المؤمن.. يكون مسلما، ويكون قانتا، وصادقا، وصابرا، وخاشعا، ومتصدقا، وصائما، وحافظا لفرجه، وذاكرا لله كثيرا.. ومثل هذا كل وصف تحققه المرء من هذه الأوصاف على وجهه كاملا، فإنه تتحقق معه الأوصاف التسعة الأخرى.. لأن كماله إنما يقوم على هذه الأوصاف كلها.. هذا هو الأصل في كل وصف من تلك الأوصاف، إذا تم وكمل! وتمام أي وصف من تلك الأوصاف، وكماله، يكاد يكون أمرا غير ممكن إلا في أفراد قلة من عباد الله المصطفين المكرمين.. فقد يكون المرء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 709 مسلما، ومع هذا فلن يكون مؤمنا، أوقاتنا، أو صادقا.. إلى غير ذلك من الصفات الأخرى.. إذ الإسلام في أدنى درجاته، هو نطق باللسان بشهادة أن لا إله إلا الله.. ثم هو في أعلى درجاته جامع لتلك الأوصاف المذكورة كلها.. وهذا ما يشير إليه. قوله تعالى: «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً» (14: الحجرات) فالإسلام هنا قولة باللسان، لا أكثر ولا أقلّ.. وتلك القولة إذا وقف بها المرء عند هذا الحدّ، فلن يكون محققا الوصف الذي لها، ومن ثمّ لن يكون مسلما بالمعنى الذي ينتظم به في هذا الموكب الكريم، الذي يجمع المؤمنين، القانتين، الصادقين.. إلى آخر ما ينتظمه هذا الموكب.. وكذلك الإيمان.. هو في أدنى درجاته إقرار باللسان، وتصديق بالقلب ثم يرتفع هذا الإيمان درجات، ويعلو منازل، بما يصحبه من أعمال، كالصدق والصبر، والخشوع، والتصدق، والصوم.. إلى آخر تلك الأوصاف.. وقل مثل ذلك، فى الصدق.. فقد يكون الصدق طبيعة، لا تستند إلى إيمان أو إسلام.. وكذلك الصبر، والخشوع، والتصدق، والصوم، وحفظ الفرج.. فقد يصدق الإنسان، مروءة وترفعا.. وقد يصبر شجاعة وجلدا.. وقد يخشع تواضعا وتألّفا.. وقد يتصدق، سخاء وكرما.. وقد يصوم، رياضة للروح أو صحة للبدن.. وقد يحفظ فرجه تعففا واستعلاء.. قد يفعل كلّ هذا غير ناظر إلى الله، وغير مرتبط بشريعة، أو دين.. إنه يعمل لحساب نفسه.. فلا يقام لشىء من ذلك وزن عند الله، الذي لا يقبل عملا من عامل إلا إذا كان مقصودا به وجهه، وامتثال أمره.. ثم قد يذكر الله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 710 ذكرا كثيرا بلسانه، دون أن يتصل شىء من هذا الذكر بعقله أو قلبه، ودون أن يظهر لذلك أثر في قوله أو فعله.. وأوضح من هذا أن هذه الأوصاف يغذّى بعضها بعضا، ويمسك بعضها ببعض، فتبدو كأنها صفة واحدة، إذا نظر إليها باعتبار، وتبدو كأنها أوصاف إذا نظر إليها باعتبار آخر.. إنها أشبه بالجسد الحىّ.. إذا نظرت إليه مجملا وجدت ذلك الإنسان، المشخّص بذاته، وصفاته، وإذا نظرت إليه مفصلا، وجدته ذلك الإنسان المشخّص بذاته وصفاته.. وملاك الحياة في هذا الجسد هو القلب، كما أن ملاك تلك الأوصاف، هو الإيمان المستقر فى هذا القلب! والسؤال الثاني، الذي يلقانا من هذه الآية الكريمة، هو: هل هذا الجمع لتلك الصفات منظور فيه إلى شىء أكثر من مجرد الجمع والحصر، دون مراعاة للترتيب، والتقديم والتأخير؟ وإذا كان هناك نظر إلى أكثر من مجرّد الجمع والحصر، فهل هذا الترتيب تصاعدى أم تنازلى؟ والجواب- والله أعلم- أن جمع هذه الأوصاف إنما هو من تدبير الحكيم العليم، وتعالت حكمة الله، وجلّ علمه عن أن يجىء تدبير من تدبير الله عن غير حكمة وعلم..! فالإسلام- الذي جاء بدءا- هو أول درجات السّلّم، الذي يرقى فيه المرء إلى منازل الشريعة، وهو المدخل، الذي يدخل منه إلى دين الله.. والإيمان.. هو العروج بالإسلام إلى موطنه من القلب. والقنوت.. هو استجابة القلب، وتقبله لهذا الإيمان الذي استقر فيه واطمأن به. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 711 والصدق.. هو نبتة نبتت من بذرة الإيمان في القلب.. والصبر.. هو الغذاء الذي تغتذى منه تلك النبتة، حتى تقاوم الآفات التي تعرض لها، وحتى تعطى الثمر المرجوّ منها.. والخشوع- وهو الولاء لله، والامتثال لأمره- هو أول ما تفتّح من زهر بيد الصبر.. هذا ويلاحظ أن هذه الأوصاف الستة إنما يكتسبها الإنسان من داخل نفسه، وفي حدود ذاته، فيما بين اللسان والقلب.. وهى في مجموعها، الرصيد المودع في قلب الإنسان من قوى الإيمان، ومنها ينفق فيما يعالج من شئون يستكمل بها تلك الأوصاف العشرة، ويوفّى منها مطلوب دينه وشريعته، منه.. فالصوم. والتصدق، وحفظ الفرج، وذكر الله.. هى أعمال تستلزم سلطان القلب، وخدمة الجوارح.. وبهذا نرى أن هذه الصفات بناء متكامل، يقوم بعضه على بعض، ويستند التّالى منه إلى السابق، بمعنى أنّ هذا الترتيب الذي جاءت عليه هو أمر لازم، لكى يتألف منها هذا النغم المتساوق الذي يقيم في كيان الإنسان إيمانا صحيحا، مثمرا.. وليس يعنى هذا، أن الإنسان يلقى هذه الصفات واحدة واحدة، وأنه كلّما حصل على صفة منها مدّ يده، أو فتح قلبه، إلى صفة أخرى.. كلا، وإنما الذي يعنيه هذا الجمع، وهذا الترتيب معا، هو أن المؤمن الجدير بهذا الوصف، المستحق للجزاء الموعود به المؤمنون من ربّهم، هو الذي يحقق هذه الصفات، فيكون مسلما، مؤمنا، قانتا.. إلى آخر الأوصاف العشرة.. فليست الجزء: 11 ¦ الصفحة: 712 هذه الصفات، بمعزل عن بعضها، وإنما هى- كما قلنا- صفة واحدة مجملة، أو صفات عشر مفصلة، وهى في إجمالها وتفصيلها على سواء. ولا ننظر كثيرا إلى التفاضل بين هذه الصفات، وإلى رجحان بعضها على بعض، إذ كانت كلها لازمة في بناء الإيمان السّوىّ في كيان المؤمن، تماما كبناء الجسد، كل عضو فيه- وإن قلّ شأنه- ضرورى لهذا الجسد، وفي فقده نقص وعيب. ومع هذا، فلا بد لنا من نظرة إلى أول هذه الأوصاف، وهو الإسلام، وإلى آخرها وهو ذكر الله.. فالإسلام- كما قلنا- هو أول خطوة يدخل بها الإنسان في دين الله.. وذكر الله كثيرا، هو القمّة التي يرقى إليها هذا الذي دخل بالإسلام في دين الله.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ» (45: العنكبوت) والمراد بذكر الله هو ملء القلب باستحضار جلاله، وعظمته، وقدرته، وعلمه، وحكمته، وكل ما لله من صفات الكمال والجلال.. فبهذا الذكر يكون المؤمن دائما في أنس من ربّه، وقرب من جلاله وعظمته.. فلا يعمل إلا تحت هذا الشعور المراقب لله، والخائف من عقابه، الطامع في رحمته. وهكذا يستطيع الناظر في هذه الأوصاف أن يرى منها رؤى لا حصر لها، من آيات الله وشواهد الإعجاز في آيات الله وكلماته.. الآيات: (36- 40) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 36 الى 40] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40) الجزء: 11 ¦ الصفحة: 713 التفسير: قوله تعالى: «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً» . مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة ذكرت الأوصاف التي تجمع صفات المؤمن الكامل الإيمان.. ومن شأن الإيمان الصحيح أن يقيم في كيان صاحبه ولاء خالصا لله، الذي آمن به، ولرسوله، الذي بلّغه رسالة ربّه، وشريعة دينه.. وإنه لا إيمان مطلقا، إذا لم يكن هذا الولاء ركيزة له، وأساسا يقوم عليه.. فهذه الآية إذن تعقيب على تلك الأوصاف العشرة السابقة، وإشارة إلى أن تلك الصفات، لا محصّل لها- مفردة ومجتمعة- إلا إذا قامت في ظلّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 714 الولاء لله ورسوله، والتسليم المطلق لأمر الله ورسوله. فإذا قضى الله ورسوله أمرا، لم يكن لمؤمن أن ينازع في هذا الأمر، أو يتوقف في إمضائه، أو يبدّل في صفته.. وإلّا فهو ليس من الإيمان في شىء.. إنه حينئذ يكون عاصيا لله ولرسول الله، خارجا عن سلطانهما.. «وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً» . أما مناسبة الآية الكريمة لما بعدها فهو ترشيح لما ستقرره الآيات بعدها من مقررات، وبما تقضى به من أحكام لله ولرسول الله، وأن على المؤمنين تلقى هذه المقررات وتلك الأحكام بما ينبغى لها، من طاعة وولاء مطلقين، من غير تعقيب أو تردّد.. فالآية في موضعها هنا، تعمل- مقدّما- على إخلاء شعور المؤمن من أية لفتة إلى غير ما يقضى به الله ورسوله من أمر.. وبهذا يستقبل المؤمن- فى ولاء وامتثال- ما تحمل إليه الآيات التالية من أمر الله ورسوله.. كما سنرى.. قوله تعالى: «وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ، فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا» . [زينب.. وقصة زواج النبىّ منها] فى هذه الآية والآيات الثلاث التي بعدها، حدث من أحداث الإسلام، غرب به وجه من وجوه الحياة الجاهلية، وانتهى به أسلوب من أساليب نظامها الاجتماعى الموروث. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 715 فقد كان الجاهليون يتخيّرون من يرون من أبناء غيرهم، ثم ينسبونهم إليهم نسبة الولد إلى أبيه، وقد كان هؤلاء المنتسبون إليهم بالتبني، فى حكم أبنائهم من أصلابهم، يضافون إليهم إضافة أبوة، ويرثونهم إرث الابن لأبيه.. ويحرّمون التزوج من نساء هؤلاء الأبناء تحريما مطلقا.. وقد أبطل الإسلام هذا التبنّي بقوله تعالى في أول هذه السورة: «ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ.. ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ.. ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ» .. ومن حكمة الله، أن كان للنبىّ صلى الله عليه وسلم ابن بالتبنّي، هو زيد ابن حارثة.. وذلك ليكون في إبطال هذا التبنّي مثل يراه المؤمنون في النبىّ، حين يبطل نسبة زيد إليه، فلا يكون لمؤمن بعد هذا متعلّق بنسبة من كان منتسبا إليه من أبناء من غير صلبه.. وبهذا ينحسم الأمر في غير مهل أو تردد، إذ كان النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- هو أول من نفذ هذا القانون السّماوىّ، وأول من ألغى التبنّي الذي كان قائما بينه وبين أحبّ الناس إليه، زيد بن حارثة.. الذي كان يدعى زيد بن محمد، ويدعوه المسلمون زيد حبّ رسول الله.. ولو كان في هذا الأمر استثناء لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى الناس به، إذ لم يكن له ولد ذكر، ولكان هذا الاستثناء من خصوصيات النبي فيما كانت له- صلوات الله وسلامه عليه من خصوصيات. وهذا يعنى أن هذا الأمر حكم واجب على كل مسلم، وأنه أمر لا يرد عليه استثناء أبدا. بقيت مسألة تحريم الزواج من نساء الأبناء بالتبنّي.. التي كان يلزم بها الجاهليون أنفسهم، تمكينا لهذا النسب بينهم وبين أدعيائهم، وجعله على قدم المساواة في كل شىء، مع أبناء الأصلاب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 716 وكان لا بدّ للقضاء على هذه العادة من مثل عملىّ يراه المسلمون في رسول الله، فيقتدون به، ولا يقع في صدورهم حرج من الخروج على هذا الإلف القديم. ومن حكمة الله في هذا، أن كان زيد بن حارثة (متبنّى النبىّ) متزوجا من زينب بنت جحش الأسدية، وهى ابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد خطبها الرسول لزيد، وزوجها إياه، ولم تستطع زينب ولا أهلها مراجعة رسول الله في هذا الزواج، الذي كانت تراه زينب- ويراه أهلها معها- غبنا لها، إذ كانت ترى- ويرى أهلها معها- أنها أشرف من زيد بيتا، وأكرم نسبا. ويتمّ الزواج، ويدخل زيد بزوجه.. ولكن لم يقع التوافق بينهما، إذ كانت زينب- كما عرفنا- تعيش مع زوجها بهذا الشعور المتعالي، وكان زوجها- إذ يجد منها هذا الشعور- يلقاها بما يحفظ عليه مروءته وأنفته كعربىّ، وبما يعطيه القوامة عليها كرجل، وكمسلم.. معا.. ولا شك أن هذا الزواج الذي لم يقم على التوافق من أول الأمر.. إنما هو تدبير من الحكيم العليم، وقد اصطنعه النبىّ بأمر من ربه، لحكمة ستكشف عنها الأيام فيما بعد..! كان لا بد أن يمضى الأمر الإلهى في حلّ الزواج من زوجات الأبناء المتبنّين، بعد انتهاء الزوجية.. بأمر، أو بآخر.. وكان لا بد أيضا أن يكون النبىّ في هذا هو القدوة والأسوة، حتى يأخذ المسلمون بهذا الأمر، ولا يتحرجون منه.. وبهذا يقضى على عادة التبني، وما اتصل بها، فى فوريّة وحشم.. وذلك لا يتم على تلك الصورة إلا إذا كان للنبىّ متبنّى.. وقد كان.. وأن يكون هذا الابن متزوجا.. وقد كان هذا أيضا..!! الجزء: 11 ¦ الصفحة: 717 ثم يبقى بعد ذلك أن يطلّق هذا الابن زوجه، حتى تحلّ للنبىّ بعد انقضاء عدتها.. وقد كان ذلك أيضا.. فطّلق زيد زوجه.. ثم لما انقضت عدّتها تزوّجها النبىّ! ولا نقف من هذا الزواج أكثر من أنه أمر أمر الله نبيّه به، وألزمه إياه.. فالله سبحانه هو الذي زوج النبىّ بأمره من مطلقة متبنّاه، كما يقول سبحانه: «فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها.. لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً» .. فهذه هى حكمة هذا الزواج.. والذي يجب أن نقف عنده، ونطيل النظر إليه، هو «الطلاق» .. طلاق زينب من زوجها، أو تطليق زيد لزوجه.. هل كان هذا الطلاق بأمر سماوى، تلقاه النبىّ من ربه، ثم آذن به زيدا فأطلاع فيه أمر ربه وطلق زوجه؟ هذا ما لم يكن، ولن يكون من تدبير سماوى، وفي شريعة قامت على العدل والإحسان، وعلى رفع الحرج عن الناس.. ولو كان ذلك بأمر سماوى، لكان فيه إعنات، بل وجور على حقّ إنسان لم يأت أمرا يقضى بهذا الحكم عليه، فضلا عما في ذلك من قطع لعلاقة مقدسة، بين الزوج وزوجه، كان الإسلام، وكانت شريعة الإسلام، أحرص ما يكون على توثيق الرباط القائم بين الزوجين، وعلى التماس كل الوسائل الممكنة في الناس، للحفاظ عليه، وحياطته من دواعى الوهن والانحلال.. ثم كيف يكون من حكم الشريعة، أن تجعل أبغض الحلال إلى الله الطلاق، ثم تعود، فتأمر به، وتحمل الناس عليه حملا؟ هذا ما لم يكن، ولن يكون! الجزء: 11 ¦ الصفحة: 718 فهل كان هذا الطلاق عن رغبة من رسول الله، وعن إرادة له في الزواج من زوج مولاه زيد، بعد أن رآها في حال من أحوالها، فوقعت من نفسه، كما يتخرص بذلك المتخرصون، من أهل الضلال والنفاق، ومن أهل العداوة والكيد للإسلام ورسول الإسلام؟ وكما تمضى هذه الفرية، فتقول إن زيدا حين شعر بما لزينب في نفس رسول الله، اصطنع هذه المخاصمة بينه وبين زوجه، كى يطلقها، إرضاء للنبىّ، ومسارعة إلى إيثاره بأحبّ شىء في يده!! ومن عجب أن ينخدع كثير من المفسّرين لهذه الفرية المسمومة، ويجدون لها مساغا بهذا الظاهر الذي يلوح منها، والذي يمثّل وجها من وجوه الحبّ والإيثار لرسول الله في نفوس المسلمين، وتخلّيهم له عن أحب ما يحبون ويؤثرون.. فنراهم يتأولون على هذا قوله تعالى: «وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ.. اللَّهَ.. وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ.. وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ» ويذهبون فى تأويلهم إلى أن النبىّ- صلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته عليه- إذ يقول لزيد: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» إنما يقولها ونفسه متطلعة إلى زينب، مترقبة لطلاقها.. ثم يتأوّلون قوله تعالى: «وَاتَّقِ اللَّهَ» أنه خطابّ للنبىّ، يحمل إليه عتابا من ربه، ودعوة إلى تقواه، لأنه- ومعاذ الله- أخفى ما بقلبه من حبّ لزينب، وقال لمولاه زيد: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» ! ولهذا جاء العتاب بعد العتاب، بل اللوم بعد اللوم في قوله تعالى: «وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ» ! ونسأل أولئك الذين يستقيم لهم هذا الفهم من الآية الكريمة: على أية صورة يتصورون رسول الله، وأمينه على رسالة السماء؟ أيجوز على رسول من رسل الله الدّهان والمخادعة؟ إن ذلك مما يسقط مروءة أي إنسان في الناس، فكيف الجزء: 11 ¦ الصفحة: 719 برسول الله ... سيد الناس، وأكملهم كمالا، وأجمعهم جميعا لمكارم الأخلاق كلها في أعلى مستواها، وأرفع منازلها؟ مستحيل إذن استحالة مطلقة، أن يكون شىء من هذا طاف برسول الله، أو ألمّ به في أي حال من أحواله، أو عرض له في خطرة نفس، أو طرفة خاطر! وننظر الآن في هذا الطلاق، وكيف وقع! إن الزواج الذي تمّ بين زينب وزيد، كان- كما قلنا- من عمل النبي، بأمر من ربه.. وهو زواج قام من أول الأمر على غير توافق، أو تكافؤ.. والنبي- صلوات الله وسلامه عليه- إذ قام بهذا الزواج بعلم هذا، والسماء تعلم هذا قبل أن يعلم النبي.. والسؤال هنا: لماذا إذن هذا الزواج؟ وما حكمته؟ إنه زواج، يجرى في ظاهره، وعلى مستوى النظر البشرى- على ما يجرى عليه كثير من حالات الزواج، التي تعرض لها عوارض الشقاق والخلاف، ثم الطلاق، وذلك بعد أن يتم الزواج، ويعايش الزوجان كل منهما الآخر.. أما قبل الزواج، فلم يكن أحد يدرى ما سيقع من خلاف، وطلاق، إلا رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- مما أنبأ به ربه، لأمر أراده الله سبحانه، ولم يقع بعد.. فلما تم زواج زيد وزينب، وعاشر كل منهما صاحبه، وظهرت أعراض الخلاف بين الزوجين، وشقى كلّ منهما بصاحبه، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الزوجين إلى إصلاح ما فسد من أمرهما، متجاهلا، الحكم المقضى به في أمر هذا الزواج، وهو الفراق الذي لا بد منه، وغير ملتفت إلى القدر المقدور على هذا الزواج، كما علم من ربه.!! الجزء: 11 ¦ الصفحة: 720 إن النبي إنما يعمل هنا، على مستوى الحياة البشرية، ويعالج أمرا بين شخصين لم ينكشف لهما من حجب الغيب ما انكشف له منه، وكان من مقتضى هذا أن يدعو كلّا من الزوجين إلى المياسرة والمحاسنة.. أما ما يؤول إليه أمرهما بعد هذا، فأمره إلى الله.. «وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا» ، وعلى هذا المفهوم ننظر في قوله تعالى: «وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ» . ننظر في كلمات الله هذه، فنرى: أولا: أن «زيدا» يوصف بأنه من الذين أنعم الله ورسوله عليهم.. فقد أنعم الله سبحانه وتعالى عليه بالإسلام، وأنعم الرسول- صلى الله عليه وسلم- عليه بالحرية.. حين أعتقه، وهداه إلى الإسلام. ثانيا: قول النبي، لزيد كما حكاه القرآن، وهو: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» مما يقضى به تمام الإحسان إلى زيد.. فهو موضع نعمة النبي، ورعايته، وحبه، وبهذه النعمة والرعاية والحب، يتوجه إليه بالنصح في أمر فيه صلاح حياته مع زوجه.. فضلا عن رسالة الرسول في الناس عامة من النصح والإرشاد والتوجيه.. وثالثا: قوله تعالى: «وَاتَّقِ اللَّهَ» .. يمكن أن يكون من قول النبي لزيد معطوفا على قوله له: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، وَاتَّقِ اللَّهَ» أي واتق الله في الرابطة التي بينك وبينها.. ويمكن أن يكون خطابا للنبى من ربه، وفيه لطف بالرسول من ربه، ورفق به من هذا الإرهاق الذي يرهق به نفسه، فى إصلاح الجزء: 11 ¦ الصفحة: 721 أمر يعلم- مما أعلمه ربه- أنه مقضىّ فيه.. كما يقول الله تعالى في ختام الآية: «وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا» .. فليتق النبي الله في نفسه وليرفق بها، ولا يحاول إصلاح أمر، لن يصلح. ورابعا: قوله تعالى: «وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ» - إشارة إلى ما كان يخفيه النبي من أمر الله في هذا لزواج، وأنه منته إلى الفراق.. فقد أخفى النبي هذا الذي علمه من ربه، ولكن الله سبحانه وتعالى سيبديه في حينه، وذلك حين يقع القدر المقدور، ويتمّ الطلاق.. وخامسا: قوله تعالى: «وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ» .. وإنّ الذي كان يخشاه النبي، هو ما يعقب هذا الطلاق، وهو أن يتزوج مطلقة متبناه، وما يتقوّله المنافقون ومن في قلوبهم مرض في هذا الزواج.. إنه امتحان للنبى فيما امتحن به على مسيرة الدعوة التي قام عليها، فليصبر على هذا الامتحان به وليحتمل ما يجىء إليه من أذى، فى سبيل إنفاذ أمر الله، وإمضاء مشيئته، دون التفات إلى تخرصات المتخرصين، وشناعات المشنعين. ولا ندع النظر في أمر «الطلاق» الذي وقع هنا، دون أن نشير إلى أنه لم يدخل على حياة زوجية كانت قائمة على أسس متينة من أول أمرها، بل إنه دخل على حياة زوجية- وهذا من تدبير السماء- كانت تحمل في كيانها دواعى الفرقة، لأمر أراده الله.. وفي هذا ما يشير إلى حرص الإسلام على سلامة الحياة الزوجية السليمة.. وأنه حين أراد أن يتخذ من الطلاق حكما شرعيا، عمد إلى حياة زوجية، لم يجتمع لها شمل، ولم تنعقد عليها القلوب! الجزء: 11 ¦ الصفحة: 722 ثم جاء بعد هذا قوله تعالى: «فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها» - مشيرا إلى ما كان يخفيه النبي فى نفسه، وهو أن يتم زواج النبي من مطلقة متبناه بأمر من ربه، وذلك بعد أن يكون قد عاشرها زيد معاشرة الأزواج، لا أن يكون قد عقد عليها ولم يدخل بها.. فالطلاق بعد الدخول، هو الذي يعطى الزواج صفته الكاملة.. وبهذا يكون من باب أولى زواج مطلقة المتبنى التي لم يدخل بها. ثم يجىء قوله تعالى: «لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً» - بيانا كاشفا عن الحكمة من هذا الأمر السماوي للنبى بالزواج من مطلقة متبناه، وهو أن يدفع الحرج عن المؤمنين في التزوج من مطلقات أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا.. وذلك أنه إذا كان النبي قد فعل هذا، فلا حرج إذن على المؤمنين أن يفعلوا ما فعل، وأن يتأسوا به.. والله سبحانه وتعالى يقول: «لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً» . ثم تختم الآية بقوله تعالى: «وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا» .. وفيه ما أشرنا إليه من قبل، من نفاذ الأمر، الذي يقضى الله به في خلقه، وأنه- سبحانه- لا معقب لحكمه، ولا رادّ لما قضى به.. وأمر الله هنا، هو ما قضى به الله سبحانه من الفرقة بين زيد وزوجه، ثم زواج النبي من مطلقة زيد هذه.. وفي الحكم على الأمر بأنه مفعول، إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 723 وسلم سيفعل هذا الأمر، وإن كان يجد في نفسه حرجا منه.. وقوله تعالى: «ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً» هو نفى للحرج، ودفع لما يجد النبي منه، فى زواجه من مطلقة متبناه.. إن ذلك أمر من الله، والنبي إذ يفعله إنما يمضى به أمر ربه، وينفذ مشيئته.. فلا شىء من الحرج في هذا، إذ كان الأمر قائما على الصحة والسلامة، موزونا بميزان العدل والإحسان، لأنه حكم الحكيم العليم، ربّ العالمين.. وفي قوله تعالى: «فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ» إشارة إلى أن كل ما يفرض الله للنبى، ويبيحه له، لا حرج فيه، ولا التفات معه إلى أي قول يقال، من عدو أو صديق.. وقوله تعالى: «سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ» السنة هنا: الحكم والشأن.. والذين خلوا: هم الذين سبقوا من رسل الله. وسنة منصوب.. مفعول لفعل محذوف.، تقديره سننّا بك سنة الذي خلوا من الرسل. والمعنى أنك أيها النبي لست بدعا من الرسل في الأخذ بأمر الله، وامتثاله على وجهه، دون التفات إلى مقولات الناس، ودون خشية لما يتخرص به المتخرصون، فقد سبقك إلى هذا عباد مكرمون، هم إخوانك الكرام من رسل الله، فقد كانوا ولا يخشون في الله لومة لائم.. كما تشير إلى ذلك الآية التالية.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 724 وقوله تعالى: «وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً» .. هو تعقيب على قوله تعالى: «ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ» .. أي أن ما فرض الله للنبى، هو قدر من قدر الله، وأنه لا بد أن ينفذ هذا القدر كما قدّره الله، وإذن فليوطّن النبي نفسه على ذلك، وليمض لما أراد الله له. قوله تعالى: «الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ.. وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً» .. هو بدل من قوله تعالى: «الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ» .. فالذين خلوا من قبل، هم أولئك الذين يبلغون رسالات الله كما بلّغهم الله إياها، دون التفات إلى أحد، ودون نظر إلى ما يكون من الناس إزاء هذه الرسالات المبلغة إليهم، من استجابة لها أو إعراض عنها.. إنهم يبلغون رسالات الله على وجهها، ولا يعملون حسابا لما يلقاهم به السفهاء والجهال من لوم، أو سفه، وإنما همهم كلّه هو حسابهم عند الله، وما يكون لهم من جزاء.. «وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً» فهو سبحانه وحده الذي يخشى حسابه، ويرجى ثوابه.. قوله تعالى: «ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» . هو تقرير لهذه الحقيقة الواقعة، التي تدفع كل باطل، وتفضح كل زيف، وهى أن محمدا- صلوات الله وسلامه عليه- لم يكن أبا لأحد، أبوة نسب.. فقد كان له صلوات الله وسلامه عليه- أولاد، ولكن هؤلاء الأولاد ماتوا صغارا، ولم يبلغ أحد منهم مبلغ الرجال ... وزيد بن حارثة هذا، الذي بلغ مبلغ الرجال، وتزوج، وهو في هذا النسب الذي أضيف به الجزء: 11 ¦ الصفحة: 725 إلى النبي ابنا له- زيد هذا ليس ابنا لمحمد.. «ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ» .. تلك حقيقة واقعة لا يمارى فيها أحد، أما هذا النسب الذي أضيف إليه زيد، فهو نسب مصطنع، فلا معتبر له، ولا نظر إليه..! وهكذا الشأن في كل نسب جاء على تلك الصفة.. أما أبوة النبي للمؤمنين، فهى أبوة روحية، يدخل فيها كل مؤمن ومؤمنة.. وقوله تعالى: «وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ» هو استدراك للنفى الذي شمل عموم نسبة الأبوة لأى رجل من الرجال إلى «محمد» .. وليس معنى هذا قطع الصلة بين «محمد» وبين الناس.. فهو- صلوات الله وسلامه عليه- وإن انقطعت أبوة النسب بينه وبين أي أحد من الرجال، فإن المؤمنين جميعا ينتسبون إليه نسبا أولى وأقرب من هذا النسب، بحكم أنه رسول الله فيهم، ومبلّغ رسالة الله إليهم.. فهو بهذه الصفة أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأزواجه أمهاتهم، وهذا أعظم وأشمل مما تعطيه أبوة النسب.. وفي قوله تعالى: «وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ» إشارة إلى أنه صلوات الله وسلامه عليه أب لكل مؤمن ومؤمنة، من كل دين، حيث أنه- صلوات الله وسلامه عليه- وارث النبيين جميعا، والمهيمن برسالته على رسالات الرسل كلهم، فلا رسول بعده إلى يوم الدين.. لقد ختمت به- صلوات الله وسلامه عليه- رسالات السماء، وأضيفت شعاعاتها كلها إلى شمس شريعته، فأصبحت تلك الشعاعات، مضمونا من مضامينها، وقبسا من أقباسها.. فلا هدى بعد هذا إلا من هداها، ولا نورا إلا من نورها.. «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ..» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 726 وبهذه الآية تختم قصة زواج النبي صلوات الله وسلامه عليه، من زينب بنت جحش، مطلقة مولاه، ومتبناه، زيد بن حارثة.. وقد شغب عليها المشاغبون، وبنوا حولها من أوهامهم وضلالاتهم، أساطير من واردات الكذب والكيد للإسلام، ولنبىّ الإسلام، حتى لقد صوروا النبي- صلوات الله وسلامه عليه- رجلا استبدت به الشهوة، حتى لقد كاد يتخلى عن رسالته التي أقامه الله عليها، ويشغل نفسه بالجري وراء إشباع شهواته.. وآيات القرآن الكريم- لمن يؤمنون بأنه من عند الله- صريحة فى أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه- كان ممتحنا من ربه بهذا الزواج الذي لم يكن يدور في خاطره في أية لحظة من لحظات حياته، وذلك ليقضى بهذا الزواج على تلك العادة المتمكنة في المجتمع العربي، والتي دخلت الإسلام مع المسلمين بهذا السلطان المتمكن، الذي كان لها على النفوس.. فإذا نظرنا إلى ماوراء آيات القرآن الكريم، نجد أن زينب بنت جحش هذه لم تكن غريبة عن النبي، بل كانت ابنة عمته، وكانت تحت نظره من مولدها إلى أن خطبها هو- صلوات الله وسلامه عليه- لزيد بن حارثة.. فماذا كان يمنع النبي من أن يتزوجها لو أنها وقعت من قلبه موقعا؟ ولو أنه كان للنبى أية رغبة فيها أكان يخطبها ويزوجها لمتبناه، فتحرم عليه إلى الأبد، كما كان هو الحال في زوجات الأبناء الأدعياء قبل أن ينزل القرآن بما يقضى على التبنىّ وأحكامه! أذلك مما يستقيم أبدا مع عقل أو منطق؟ «ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا.. سُبْحانَكَ.. هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ» ..! الآيات: (41- 48) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 الى 48] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) الجزء: 11 ¦ الصفحة: 727 التفسير: قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» مناسبة هذه الآية لما قبلها من آيات، هى أن الآيات السابقة عليها تضمنت حكما من الأحكام، كان مبعث ظنون، ومثار شغب عند المنافقين والذين في قلوبهم مرض ... وليس يحمى المؤمنين من غبار هذه الظنون، ودخان هذا الشغب، إلا أن يعتصموا بالله، وأن يذكروا جلاله وعظمته، وأن يستحضروا علمه وقدرته، فذلك هو الذي يحفظ عليهم إيمانهم، ويدفع عنهم غواشى الشكوك والريب، التي يسوقها إليهم الكافرون والمنافقون.. قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً» . هو إعراء للمؤمنين بذكر الله، وتسبيحه بكرة، أي صباحا، وأصيلا، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 728 أي مساء، كما يقول سبحانه: «فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ» (17: الروم) . فالله سبحانه وتعالى إنما يذكر بالرحمة والرضوان، عباده الذين يذكرونه، ويصلى على من يصلون له ويسبحونه، وفي هذا يقول الله تعالى: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» (152: البقرة) والمراد بالذكر هنا ذكر الرحمة والإحسان. وصلاة الله على المؤمنين هى رحمته لهم، وإحسانه إليهم، ورضاه عنهم.. وصلاة الملائكة، هى الاستغفار للمؤمنين، كما يقول سبحانه وتعالى: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» (7: غافر) . وقوله تعالى: «لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» إشارة إلى أن ذكر المؤمن ربه وتسبيحه بحمده، يدنيه من ربه، ويقربه من منازل رحمته، ويصله بعباده المقربين من ملائكته، وبهذا يستقيم على طريق الله، ويخرج من عالم الظلام والضلال، إلى عالم النور والهدى.. وفي قوله تعالى: «وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً» مزيد فضل وعناية من الله سبحانه وتعالى بالمؤمنين، وأنهم هم الذين ينالون رحمة الله، ويختصون بفضله وإحسانه.. قوله تعالى: «تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً» . هو بيان لرحمة الله بالمؤمنين وإحسانه إليهم، وأنهم حين يلقون الله يوم القيامة، تلقاهم ملائكته لقاء كريما، بهذه البشرى المسعدة لهم، حيث يلقونهم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 729 بهذه التحية: سلام عليكم. فتذهب عنهم تلك التحية، هذه الوحشة، ويزايلهم هذا الخوف، فى هذا الموطن الجديد، الذي حلّوا به بعد مفارقة الحياة الدنيا. ويوم لقاء الله هنا، هو اليوم الذي يفارق فيه الإنسان دنياه.. حيث يزايل آخر منزل له من منازل الدنيا، ويحل في أول منزل من منازل الآخرة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ.. ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (32: النحل) . وقوله تعالى: «وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً» هو بيان لما يلقى المؤمنون في الآخرة من جزاء كريم من الله.. وفي إعداد هذا الأجر، إشارة إلى أنه أجر عظيم، قد هيىء لهم، ورصد للقائهم من قبل أن يلقوه، وفي هذا مزيد اعتناء بهم، بهذا الاستعداد للقائهم. قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً» . هو إشارة إلى مقام النبي عند ربه، وإلى مكانته في المؤمنين، وأنه هو المرسل من عند الله، شاهدا على الناس، بما كان منهم من إيمان أو كفر، ومبشرا المؤمنين بالأجر الكريم، ومنذرا الكافرين بالعذاب الأليم.. وأنه يدعو إلى الله، وإلى شريعة الله، بما يأذن له به الله، فلا يقول شيئا من عنده، وهو- بما يدعو به من آيات ربه- يكشف للناس طريق الحق، ويخرجهم من الظلمات إلى النور.. وفي قوله تعالى: «إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً» إشارة إلى ما كان من أمر الله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 730 للنبى- بالتزوج من مطلقة متبناه.. فهو بهذا الزواج شاهد يرى فيه المسلمون القدوة والأسوة.. وفي قوله تعالى: «وَسِراجاً مُنِيراً» - إشارة أخرى إلى هذا الزواج، أنار للمسلمين طريقهم إلى الحق في هذا الأمر الذي كان قد اختلط فيه الحق بالباطل.. وهذا القيد للشهادة وللسراج المنير، هنا، لا يمنع من إطلاقهما، فالنبى شاهد قائم على كل حق وخير، وهو- صلوات الله وسلامه عليه- سراج منير، يكشف كل باطل وضلال.. قوله تعالى: «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً» هو معطوف على محذوف تقديره: هذا فضل الله عليك، فاهنأ به، وبشر المؤمنين كذلك بأن لهم من الله فضلا كبيرا.. فهم أتباعك، وأولياؤك.. فإذا كان لك- أيها النبي- هذا العطاء الجزيل من ربك، فإن للمؤمنين حظا من عطاء ربهم، وما كان عطاء ربك محظورا.. قوله تعالى: «وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ.. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» . هو معطوف على قوله تعالى: «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» .. وفي هذا العطف أمور: أولا: قوله تعالى: «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» يفهم منه ضمنا، وأنذر الكافرين والمنافقين بأن لهم عذابا أليما. وثانيا: قوله تعالى: «وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ» يفهم منه ضمنا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 731 كذلك، واستجب للمؤمنين واستمع لهم، واقترب منهم، وشاورهم في الأمر.. وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: «وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ» لا تستمع إليهم، ولا تأمن جانبهم.. وقوله تعالى: «وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» أي لا تحفل بما يأتيك منهم من أذى، بالقول أو الفعل، «وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» فهو الذي يتولى حراستك وحفظك مما يكيدون لك به «وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» فلا وكالة أقوى ولا أمنع ولا أحفظ من وكالته.. «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» (3: الطلاق) الآيات: (49- 52) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 49 الى 52] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52) الجزء: 11 ¦ الصفحة: 732 التفسير قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا» مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة ذكرت حالا من أحوال الطلاق والزواج، وهو طلاق امرأة الابن المتبنّى، ثم زواجها من أبيه المتبنّى له.. فناسب أن يذكر حكم المرأة المطلقة، من حيث العدة، والنفقة.. فالمرأة المعقود عليها عقد نكاح، ولم يدخل بها الزوج، ولم يمسّها، ولم يختل بها خلوة شرعية- ليس عليها عدة، لمن طلقها، وإنما تحل لمن يريد الزواج منها بمجرد طلاقها.. إذ كانت غير مشغولة بما للرجل عليها من حق، وهو استبراء الرحم.. والمراد بالمسّ هنا المباشرة، ومعاشرة الرجل للمرأة معاشرة الزوجية.. وفي قوله تعالى: «إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ» - إشارة إلى أن من شأن المؤمن أن يقصر نفسه على زواج المؤمنة، وإن كان قد أبيح له التزوج بالكتابيات، فإن الزواج من المؤمنات أفضل وأولى.. وفي قوله تعالى: «فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا» - إشارة إلى ما توجبه الشريعة السمحاء، من الرفق، والمياسرة، والإبقاء على الصلات الإنسانية، عند انفصام الحياة الزوجية.. والمراد بالمتعة، هو ما يعطيه الرجل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 733 مطلقته من مال أو متاع، جبرا لخاطرها، وتأمينا لحياتها المستقبلة، التي كان هذا الطلاق سببا في اضطرابها.. والسراح الجميل، هو الانفصال بالمودة والإحسان، من غير كيد ومضارّة.. كما يقول سبحانه: «فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» مناسبة لهذه الآية للآيات التي قبلها، هى أن الآيات السابقة قد جاءت بأمر انتقض به بناء من أبنية الجاهلية التي قامت على الضلال، وهو تبنّيهم أبناء غيرهم، ثم تجاوزوا هذا إلى تحريم مطلقات هؤلاء الأبناء الأدعياء، عليهم.. تمكينا لهذه البنوّة المدعاة، ومعاملتها معاملة بنوّة النسب، سواء بسواء.. وقد كان من تدبير الله سبحانه وتعالى أن يكون للنبىّ ابن متبنّى، وأن يكون هذا الابن متزوجا، ثم يجىء حكم الله أمرا بإبطال هذا التبني، وبإلزام النبىّ أن يتزوج مطلقة متبناه، بعد أن طلقها وانقضت عدتها.. وكان ذلك مدعاة للكافرين والمنافقين أن يشنعوا على النبىّ، وأن يكثروا من الأقاويل الباطلة، والأحاديث المفتراة.. وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 734 فهذا الإخبار بحلّ الأزواج، إنما هو تأكيد لحلّهن، ووصف كاشف للحال التي هن عليها، ومنهن زينب مطلقة متبنىّ النبىّ.. وفي هذا ردّ على الكافرين والمنافقين، الذين جعلوا زواج النبىّ من مطلقة متبناه مادة للغمز والاتهام.. وكان الردّ إفحاما للكافرين والمنافقين، وكبتا لهم، إذ قد جاء قول الله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ» داعيا النبىّ إلى ألا يشغل نفسه بمقولات المبطلين، وأن يتمتع بما أحلّ له من طيبات، فهو من قبيل قوله تعالى «فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً» (4: النساء) . ثم إنه لكى يزداد أهل الضلال والنفاق غمّا إلى غمّ، ذكر الله سبحانه وتعالى فى هذا المقام، ما اختص به نبيه الكريم، مما لم يكن لغيره من المسلمين، من سعة في الحياة الزوجية.. فأولا: كان في يد النبىّ من النساء اللاتي تزوجهن بمهر، عند نزول هذه الآية تسع نسوة.. ونصاب المسلم لا يتجاوز أربعة. وثانيا: جاء في قوله تعالى: «وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ» من بيان لصنف آخر من النساء، أبيح للنبىّ التمتع بهن، وهن من يملكه النبىّ منهن من الفيء والغنائم، وهذ حكم عام للمسلمين جميعا.. على أن للنبىّ من الغنائم ما يصطفيه من السّبى، قبل قسمة الفيء.. وهذا من خصوصيات النبىّ هنا. وثالثا: جاء بعد ذلك قوله تعالى: «وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ» مشيرا إلى صنف ثالث أبيح للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- التزوج به، وهن بنات العم وبنات العمات. وبنات الخال وبنات الخالات.. اللاتي هاجرن، مع المهاجرين فرارا بدينهن، وإيثارا لله ورسوله.. فهؤلاء المهاجرات هن ممن أبيح للنبى التزوج بهن، إلى أزواجه التسع اللاتي كن معه.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 735 ولا بد أن يكون الأمر هنا منظورا فيه إلى بعض المهاجرات من أقارب النبىّ، ممن تستدعى حالهن البر والمواساة، فى تلك الغربة.. ورابعا: جاء بعد ذلك قوله تعالى: «وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ» مبيحا للنبىّ التزوج من صنف رابع من النساء، على أسلوب لا يحلّ لغيره من المسلمين، وهو أن تهب المرأة- غير المتزوجة- نفسها للنبى.. وفي قوله تعالى: «مُؤْمِنَةً» إشارة إلى أن هذه الهبة إنما أرادت بها المرأة المؤمنة التقرب إلى الله، والاستظلال بظل رسول الله، والظفر بالقرب منه، والفوز بلقب أم المؤمنين.. أما غير المؤمنة من الكتابيات فإنها لا تهب نفسها للنبىّ إلا طلبا لمرضاة نفسها، بأن تكون زوجا لهذا الإنسان العظيم، الذي له هذا السلطان لروحى الذي لا حدود له على المسلمين، ولو أنها كانت تحبّ النبىّ حقّا لآمنت به، ولدخلت في دين الله.. وفي قوله تعالى: «إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها» تعليق للزواج على رضا النبىّ، وقبول الهبة ممن وهبت نفسها له.. وقوله تعالى: «خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ» أي فاتخذها زوجا لك، على أن يكون ذلك حكما خالصا لك من دون المؤمنين، لا يشاركك فيه أحد.. وفي العدول عن الخطاب إلى الغيبة، وفي إظهار النبىّ، بدلا من الضمير فى قوله تعالى: «إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ» تعظيم لشأن النبىّ، بذكر اسمه، ثم بتكرار هذا الذكر.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن في ذكر النبىّ بصفته وهى النبوّة إشارة إلى أن هذا الحكم إنما هو خاص بمن كان في هذا المقام، مقام النبوّة، لا أي مقام آخر غير هذا المقام. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 736 فهذه الأصناف الأربعة من النساء، قد أحلّ الله للنبىّ ضمّهن إلى بيت الزوجية واتخاذهن شريكات للحياة معه.. وواضح أن هذه التوسعة على النبىّ في الحياة الزوجية، لم تكن لمجرد قضاء الشهوة، كما يقول بذلك أهل الضلالات والكيد للإسلام.. بل إن هذه الخصوصيات التي للنبىّ، إنما كانت في مقصدها الأول علاجا لحالات نفسية واجتماعية، واقتصادية، لا تجد لها الدواء الناجع إلا في ظلال النبىّ.. كما رأينا ذلك في زواجه صلوات الله وسلامه عليه من زينب مطلقة متبناه، والذي كان من حكمته رفع الحرج عن المسلمين في التزوج من نساء أدعيائهم.. وكما في زواجه- صلوات الله وسلامه عليه- من صفية، بنت حيىّ بن أخطب، وكان أبوها سيدا من سادات اليهود، ورأسا من رءوسهم، فلما وقعت في السّبى، استنقذها النبىّ الكريم، وحفظ كرامتها بزواجه منها.. وهكذا نجد مع كل زواج تزوجه النبىّ، حكمة قائمة وراءه، أسمى وأعظم من طلب المتعة وقضاء الشهوة.. وسنعرض لهذا في مبحث خاص.. إن شاء الله.. وفي قوله تعالى: «قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ» - إشارة إلى أن تلك الخصوصيات هى للنبى، وأنه ليس للمسلمين أن يتأسوا بالنبي فيها، فقد عرفوا ما فرض الله عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم، فليس لهم أن يتجاوزوا هذا الذي بيّنه الله لهم.. وقوله تعالى: «لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ» تعليل لهذه الأحكام التي بيّنها الله للنبىّ في شأن ما أحلّ له من نساء.. فهذا البيان هو من عند الله، وتلك الأحكام هى أحكام الله، فليأخذ النبىّ بها، غير متحرّج، ولا ناظر إلى قولة كافر أو منافق. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 737 - وقوله تعالى: «وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» .. إشارة إلى ما لله سبحانه وتعالى من مغفرة ورحمة، تسع أولئك الذين تجرى ألسنتهم بقولة سوء فيما اختص الله نبيه الكريم به، ثم تابوا من قريب، ورجعوا إلى الله، واستغفروا لذنبهم «ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً» . قوله تعالى: «تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ.. ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً» الإرجاء: الإمهال، والإنظار.. والإيواء: الضمّ، والجمع. والآية، ترسم السياسة التي يأخذ بها النبىّ هذا العدد الكثير من النساء اللائي جمعهن إليه. إنّهن إذا حاسبن النبي محاسبة الزوجات لأزواجهن، واقتضين حقوق الزوجية كاملة منه- كان ذلك عبئا ثقيلا على النبىّ، الذي يحمل أعباء ثقالا تنوء بها الجبال، فى إقامة بناء المجتمع الإسلامى، وإرساء قواعد الدّين.. فكان من رحمة الله برسوله، وإحسانه إليه، أن أخلى يديه جميعا من تلك الواجبات المفروضة على الرجال قبل أزواجهم في المعاشرة، والمباشرة، وذلك حتى يفرغ النبىّ للمهمة العظيمة التي أقامه الله عليها.. فللنبىّ أن يرجىء من يشاء من نسائه، بمعنى أن يتجنبهن تجنبا مؤقتا من غير طلاق، وله- صلوات الله وسلامه عليه- أن يضمّ إليه من يشاء من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 738 نسائه، وأن يقسم بينهن كيف يشاء.. ثم إن له بعد هذا أن يضمّ إليه من أرجأ منهن.. إذا رغب فيها.. فذلك كله، تخفيف عن النبىّ، ورفع لإعناته وإرهاقه بعد أن حمل هذا العبء الثقيل من النساء، إلى جانب ما حمل من أعباء ثقال.. وفي قوله تعالى: «ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ» إشارة إلى أن هذا التدبير الذي من شأنه أن يجعل نساء النبي كلهن إلى يده، عن قرب أو بعد- فيه إرضاء لهن جميعا، القريبة منهن لقربها، والبعيدة لصلتها بالرسول، وانتسابها إليه، وعدّها من أمهات المؤمنين، وحسبها بهذا قرّة عين، وروح روح، وسكن فؤاد. قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً» .. علم الله سبحانه وتعالى بما في القلوب، داعية إلى أن تكون القلوب مستودع خير وعدل وإحسان، حتى يرى الله منها ما هو خير وعدل وإحسان، فيثيب أهلها بما هم أهل له من ثواب جزيل وأجر كريم.. والقلوب في تلك المواطن التي تجمع بين الرجال والنساء في حياة زوجية، هى ملاك الأمر في إصلاح هذه الحياة، وازدهارها، وإرواء النفوس من ينابيع الرحمة والمودة.. وذلك إذا صلحت القلوب، وخلصت النيات.. أما إذا انطوت القلوب على فساد، وتلاقت على غش وخداع، فلن تثمر الحياة الزوجية إلا ثمرا نكدا، يطعم منه الزوجان ما يشقيهما، ويضنيهما. ويزرع العداوة والشنآن بينهما.. وفي وصف الله سبحانه وتعالى بالحلم، دعوة إلى كل من الأزواج والزوجات إلى الأناة والرفق، وإلى الصبر والاحتمال، لما يقع في الحياة الزوجية من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 739 أمور يضيق بها أحد الزوجين أو كلاهما.. فالحياة يسر وعسر، واستقرار واضطراب، واستقامة وعوج.. ومن أرادها على الوجه الذي يحبّ فإنما يريد أمرا غير واقع أبدا.. قوله تعالى: «لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً» . اختلف في المحذوف المضاف إليه «بعد» .. وهل هو قيد لتلك الأصناف الأربعة التي أحلّها الله للنبى في قوله «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ.. الآية» .. أم أنه قيد لتلك الحال التي تلقى فيها النبي هذا الحكم؟ فعلى التقدير الأول، يكون المعنى، لا يحلّ لك التزوج من النساء بعد هذه الأصناف الأربعة، ويكون المراد بالبعديّة البعدية الوصفية لا الزمانية، أي لا يحلّ لك غير هذه الأصناف الأربعة التي عرفت صفاتها، وهذا من شأنه أن يبيح للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- أن يتزوج غير نسائه التسع اللاتي كن معه، عند نزول هذه الآية- ولكن ذلك التزوج محصور في صنفين من النساء، هما: ولا: بنات عم النبىّ، وبنات عماته، وبنات خاله، وبنات خالاته، اللاتي هاجرن معه، أي كن من المهاجرات، لا بمعنى أنهن صحبنه في هجرته. وثانيا: أي امرأة مؤمنة وهبت نفسها للنبىّ. أما غير ذلك من النساء فلا يحل له التزوج منهن. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 740 أما على التقدير الثاني، فيكون المعنى أنه لا يحلّ للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- أن يتزوّج بعد نزول هذه الآية من أية امرأة أخرى.. بل يقف عند هذا الحدّ.. أما ما ملكت، أو تملك يمينه بعد هذا من نساء فهنّ حلّ له، على الإطلاق.. وهذا هو الرأى الذي نعوّل عليه، ونأخذ به، وذلك لما يأتى: أولا: هذا الأمر للنبىّ بالوقوف عند هذا الحدّ من التزوج بالنساء، هو فى الواقع تخفيف عن النبىّ، ورفع للحرج الذي يجده من حمل نفسه على التزوج ممن يهبن أنفسهن له، وهنّ كثيرات، طامعات في رضا الله بالقرب من الرسول والعمل على مرضاته.. وكذلك الشأن فيمن هن قريبات له، وتعرض لهنّ ظروف قاسية، تدعو النبي إلى موساتهن بضمهن إليه، كمن يستشهد أزواجهن فى سبيل الله.. فهذا لا شك تخفيف عن النبىّ، ودفع للحرج، بهذا الأمر السماوي الذي لا يجعل له سبيلا إلى التزوج بمن تهب نفسها له، أو بمن تدعو الحال بضمها إليه، وتزوجه منها، من بنات عمه أو بنات عماته، أو بنات خاله أو بنات خالاته.. وثانيا: فى الإبقاء على حل ما ملك أو يملك النبي من إماء، هو أيضا من باب التخفيف ودفع الحرج عن النبىّ.. وذلك لأن مئونة الإماء أخفّ، إذ ليس لهن ما للحرائر الزوجات من حقوق تقابل ما للرجال عليهن من واجبات.. وثالثا: وعلى هذا يكون ما جاء في قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ.. الآية» هو إقرار للأمر الواقع، ووصف كاشف للحباة الزوجية في بيت الرسول، وما ضمّ من تلك الأصناف الأربعة التي ذكرتها الآية من أصناف النساء.. ويكون قوله تعالى: «لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 741 وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ» أمرا للنبىّ بالوقوف عند من تزوج بهن إلى وقت نزول هذه الآية، وأنه- صلوات الله وسلامه عليه- ليس له أن يتزوج أية امرأة أخرى غير اللاتي كن معه.. أما ما ملكت أو تملك يمينه، فيبقى على أصل الإباحة له.. وفي قوله تعالى: «وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ» تطيب لخواطر نساء النبي، وتطمين لقلوبهن، ألا يدخل عليهن من النساء من يشاركهن الحياة مع النبي، والسّكن إليه في بيت النبوة.. وأنهن في أمان من أن يخرجن من هذا الجناب الكريم أو يفارقن النبي بالطلاق.. وهذا جزاء عاجل من الله سبحانه وتعالى لهن إذ اخترن الله ورسوله، ورضين الحياة الرّوحية مع رسول الله، مؤثرات ذلك على الحياة الدنيا وزينتها.. وأما ما جاء في الآية السابقة من قوله تعالى: «وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ» فهو على الإباحة التي تضمنها، من أن يتزوج النبي من أية امرأة مؤمنة- غير متزوجة- تهب نفسها للنبى، ويقبل النبي هذه الهبة.. وذلك الحكم موقوت إلى أن نزل قوله تعالى: «لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ» فلما نزلت هذه الآية، توقف العمل بهذه الرخصة ... وعلى هذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج من أية مؤمنة- غير متزوجة- تهب نفسها للنبى، بعد نزول هذه الآية. وليس هذا من النسخ، كما يبدو في ظاهره، ولكنه إنهاء لحكم رخصة موقوتة، جاء قوله تعالى: «لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ» محددا نهاية هذا الوقت.. وهذا يعنى أنه قد كان بين نزول الآيتين فسحة من الوقت، بحيث الجزء: 11 ¦ الصفحة: 742 كان من المؤمنات غير المتزوجات من وهبن أنفسهن للنبىّ، فقبل منهن من قبل. هذا، ويرى بعض المفسرين، أن هذه الآية: «لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ» منسوخة بالآية التي قبلها: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ.. الآية» .. وهذا يعنى، أن المنسوخ يسبق الناسخ، وأن الحظر جاء أولا، ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحظر عليه التزوج من بنات عمه وبنات عماته، وبنات خاله، وبنات خالاته اللاتي هاجرن معه أو من أية مرأة مؤمنة تهب نفسها له، وذلك إلى أن لحق صلوات الله وسلامه عليه- بالرفيق الأعلى.. ونحن على رأينا، من أنه لا نسخ، ولا تناسخ بين الآيتين.. وأن الآية الأولى ظلت عاملة إلى أن نزلت الآية الثانية، فأقرت الأوضاع التي انتهى إليها بيت النبوة، وما ضمّ عليه من أزواج النبي: وبقيت الآيتان تمثلان دورين من أدوار التشريع، للنبى خاصة، من حياته الزوجية.. وهذان الدوران، يسبقهما دور ثالث، هو الإباحة المطلقة للنبى، بالتزوج ممن يشاء من النساء، بأى عدد شاء منهن.. وعلى هذا كانت مراحل التشريع للحياة الزوجية للنبى ثلاثا: المرحلة الأولى: الحلّ المطلق في الزواج من أية امرأة مؤمنة، يحل زواجها فى الشريعة الإسلامية، دون تقيد بعدد.. المرحلة الثانية: وفيها يتقرر ما يأتى: أولا: الوقوف بالعدد من الزوجات عند الحد الذي كان موجودا عند نزول الآية.. وهو تسع نساء.. وثانيا: إن أراد النبي أن يتزوج على من عنده من النساء، فلا يجوز له أن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 743 يتزوج من غير صنفين من النساء: بنات عمه أو بنات عماته، وبنات خاله أو بنات خالاته.. ثم من أي امرأة مؤمنة- غير متزوجة- تهب نفسها للنبى، وهذا صنف جديد جاءت بحلّه هذه الآية، خاصا بالنبي.. المرحلة الثالثة: وفي هذه المرحلة تستقر الأوضاع للحياة الزوجية في بيت النبوة، فلا يدخل عليها جديد من النساء، ولا يخرج منها أحد ممن هن فيها.. وهذا- كما أشرنا إلى ذلك- تخفيف عن النبي، ورفع للحرج عنه، من تلك العيون الكثيرة المتطلعة إلى الصهر إليه أو الزواج منه.. الآيات: (53- 55) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 53 الى 55] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55) الجزء: 11 ¦ الصفحة: 744 التفسير: فى هذه الآيات الثلاث، أقام الله سبحانه وتعالى حراسة على حرمات النبي من خارج بيت النبوة، وداخله، حتى لا يشغل النبي- صلوات الله وسلامه عليه- نفسه بهذا الأمر الذي من شأن الرجل أن ينظر إليه، ويهتم له.. وذلك حتى يفرغ النبي للدعوة القائم عليها، ولا يلتفت لفتة إلى ما وراءها.. فأولا: نهى الله المؤمنين أن يدخلوا بيوت النبي إلا بعد استئذان، وإذن.. فإذا كان الدخول استجابة لدعوة إلى طعام، فلا يتعجلوا الحضور قبل أن ينضج الطعام، وذلك حتى لا يطول مكثهم في بيت النبي، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ» أي غير منتظرين إنضاجه.. فإذا دعوا إلى هذا الطعام، فليدخلوا بعد أن يستأذنوا ويؤذن لهم.. فإذا طعموا فلا يتلبثوا، بل يخرجوا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ» .. ثانيا: نهى الله المؤمنين عن أن يسألوا نساء النبي شيئا من متاع أو نحوه إلا من وراء حجاب.. والحجاب هنا هو الباب الذي يدخل منه إلى بيوت النبي.. ثالثا: أمر الله نساء النبي أن يقمن الحجاب بينهن وبين غير محارمهن من الرجال، وأذن لهن في أن لا يحتجبن عن المحارم من آباء وإخوة، وأبناء الإخوة، وأبناء الأخوات، كما أمرهن بالحجاب عن النساء غير المعروفات لهن، القريبات منهن، العاملات في قضاء حوائجهن، وغير ما ملكت أيمانهن.. وذلك سدّا لذرائع الفتنة التي قد تجىء من النساء الواردات من موارد مختلفة لا يعرف وجهها.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 745 هذا، ويلاحظ أنه لم يبح لنساء النبي لقاء محارمهن على إطلاقه، بل وقف به عند الآباء، والإخوة، وأبناء الإخوة وأبناء الأخوات، دون الأعمام، والأخوال، وذلك للتخفيف من الضغط على بيت النبي، بالإقلال من الذين يطرقونه، ويغشونه.. فلو أنه قد فتح بيت النبي لذوى القرابات من محارم نسائه، لما خلا من زائر، رغبة في لقاء النبي وإرواء لظمأ النفوس المتعطشة إلى لقائه في خلواته.. الأمر الذي لا يتيح للنبى فرصة للراحة والكن.. هذه هى الحراسة التي أقامها الله على بيت النبي، وهى حراسة تتيح له- صلوات الله وسلامه عليه- شيئا من الراحة النفسية والجسدية، هو- صلوات الله وسلامه عليه- أشد ما يكون حاجة إليهما في هذا الجهاد المتصل، نهارا مع المسلمين، وليلا مع ذكر الله.. وفي الآيات، ما يحتاج إلى بعض الإيضاح.. ففى قوله تعالى: «وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ» - إشارة إلى ما يدعو الذين يدخلون بيوت النبي إلى إطالة المكث فيها، وهو الأنس بالرسول، والمتعة الروحية بالحديث إليه.. وهذا وإن كان مما يستحب من المسلم، ويحبّ له، إلا أن هذا ليس مكانه.. حيث جعلت البيوت للسكن والراحة.. والرسول- صلوات الله وسلامه عليه- بشر يحتاج إلى الراحة، والهدوء، والانفراد بالنفس.. وفي قوله تعالى: «إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ» - إشارة إلى ما كان يجده النبي- صلوات الله وسلامه عليه- من أذى وتضرر، فى تزاحم المسلمين على بيته، وطول مكثهم فيه.. وهو- صلوات الله وسلامه عليه- يحتمل هذا صابرا، ويمنعه الحياء النبوي أن يظهر ضيقا أو ضجرا.. وفي قوله تعالى: «وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ» - إعلام من الله سبحانه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 746 وتعالى بما لم يصرح به النبي، وإن كان حقا.. فالنبى- كإنسان طبع على الحياء- تمنعه إنسانية من أن يصارح الناس بما يسوءهم، ما دام ذلك لا يجور على حق من حقوق الله، وإن كان فيه جور على نفسه.. ولهذا فقد دافع الله عن النبي الكريم، وتولى سبحانه حمايته، ودفع هذا الأذى عنه.. وفي قوله تعالى: «وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً» - استبعاد من أن يقع من أحد من المؤمنين بالله، أن يؤذى رسول الله بالنظر إلى نسائه، نظر اشتهاء.. فذلك ما لا يجتمع معه إيمان أبدا.. وإذن فهذا الذي يأمر به الله سبحانه وتعالى المؤمنين في قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ..» ثم في قوله تعالى بعد ذلك: «وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ» هذا الأمر ليس اتهاما للمؤمنين في توقيرهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي اتخاذهم نساء النبي أمهات لهم، لا ينظر أحدهم إليهن نظرة رببة أو اشتهاء.. وإنما هذا الأمر هو من باب سد الذرائع، وقطع ألسنة السوء التي تصطاد المفتريات، وتنسج الأباطيل من الأوهام والظنون.. ولهذا جاء قوله تعالى تعقيبا على ذلك: «ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ» مشيرا إلى أن هذا الاحتياط في الحديث إلى نساء النبي من وراء حجاب، هو أطهر للقلوب الطاهرة، وأزكى للنفوس الكريمة الزكية.. وفي قوله تعالى: «وَاتَّقِينَ اللَّهَ» دعوة إلى نساء النبي بتقوى الله، بعد دعوتهن إلى ضرب الحجاب بينهن وبين غير من ذكرن من محارمهن.. إذ ليسب العبرة في العفة بضرب الحجاب، وإن كانت أمرا لازما لسد الذرائع، وإنما العبرة بما في القلب من تقوى الله، وخشيته، والعمل على مرضاته. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 747 الآيات: (56- 59) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 56 الى 59] إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) التفسير: قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً» . مناسبة هذه الآية هنا، هو أن الآيات السابقة عرضت لأمور هى من خصوصيات النبيّ- صلى الله عليه وسلم- وبهذه الخصوصيات التي اختصّه الله سبحانه وتعالى بها، كحلّ التزوج بعدد من النساء لا يحلّ لغيره من المسلمين التزوج بهن، وكالتزوج ممن يهبن أنفسهن له، من غير مهر، وكتلك الحراسة التي أقامها الله على بيت النبوّة من خارج ومن داخل- نقول بهذه الخصوصيات يعرف بعض ما لرسول الله من منزلة كريمة، ومقام عظيم، عند ربه.. وإذ عرف المسلمون هذا، فليعرفوا أيضا أنّ ذلك ليس هو كلّ ما للنبىّ عند ربّه.. بل إن له عند ربّه أكثر وأكثر.. «إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ» .. فهذه صلاة خاصة بالنبيّ، غير تلك الصلاة العامة التي للمؤمنين، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 748 والتي جاءت في قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» .. إنها صلاة من الله وملائكته، اختص بها النبىّ وحده.. وإذا كان ذلك كذلك فإن على المؤمنين جميعا أن يشاركوا في الصلاة على النبىّ، والتسليم له، تسليم ولاء، وخضوع، وامتثال.. وصلاة الله سبحانه وتعالى- كما قلنا- هى الرحمة، والإحسان، والرضوان.. وصلاة الملائكة، هى الدعاء والاستغفار.. أما صلاة المؤمنين على النبي فهى دعاؤهم الله سبحانه أن يصلى عليه، وأن يديم هذه الصلاة، ويضاعفها.. فيضاعف من رحمته وإحسانه ورضوانه على رسوله.. وأما التسليم من المؤمنين على النبي، فهو تسليم عليه وتسليم له.. تسليم عليه بالدعاء له بالأمن والسلام من الله: «السلام عليك أيها النبي» .. والتسليم له من المؤمنين بالطاعة والولاء.. فهذه الصلاة، وهذا التسليم من المؤمنين هو بعض ما يجزى به المؤمنون النبىّ من إحسان فى مقابل الإحسان العظيم الذي أحسن به إليهم، إذ هداهم إلى الإيمان، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وسلك بهم الطريق إلى رضوان الله، وإلى جنات لهم فيها نعيم مقيم.. فما أقلّ ما يجزى به المؤمن، هذا الإحسان الذي لرسول الله في عنقه! قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً» .. وإذا كانت الصلاة على النبىّ، والتسليم عليه وله من المؤمنين، هى بعض المطلوب منهم، جزاء إحسان النبىّ إليهم، فإن بعض الناس لا يجزون هذا الإحسان بالإحسان، بل يلقونه بالمساءة والضر.. وقد توعّد الله سبحانه هؤلاء الذين يؤذون رسول الله، باللعنة في الدنيا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 749 والآخرة، وبالعذاب المهين، يوم الحساب والجزاء.. - وفي قوله تعالى: «يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» تعظيم لشأن الرسول، وتغليظ للجرم الذي يقع في ساحة حرمه، من الكافرين، والمنافقين، ومن فى قلوبهم مرض.. فهذا الذي يسوء النبىّ ويؤذيه من أقوال أهل الضلال وأفعالهم، يؤذى الله سبحانه وتعالى.. فكيف تكون نقمة الله ممن يؤذيه؟ ذلك ما لا يمكن تصوره! قوله تعالى: . «وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً» .. إن أهل السّوء مؤاخذون بجناياتهم، أيّا كان موقع هذه الجنايات.. ولكنها حين تكون في حق النبي تكون جنايات غليظة، وعدوانا آثما، إذ كان النبىّ داعية خير، ورسول هدى ورحمة.. فإذا لم يكن- والحال كذلك- ثمة جزاء بالإحسان، لقاء هذا الإحسان، فلا أقلّ من ألا يكون بغى وعدوان.. فإذا كان بغى وعدوان، فهو البلاء المبين، والإثم العظيم.. والمؤمنون والمؤمنات، هم أولياء الله، وهم جنده في الأرض، ورسله بين الناس.. والعدوان عليهم- بغير ما اكتسبوا- عدوان على الحقّ، واجتراء على حرم الله.. ومن ثمّ، فإن الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، فقد احتملوا بهتانا، أي افتراء وعدوانا على الحق، وباءوا بإثم عظيم، يلقون جزاءه عذابا ونكالا.. وفي قوله تعالى: «بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا» احتراس من الأذى الذي ينال المؤمنين والمؤمنات بما كسبت أيديهم.. فهذا الأذى لا يدخل في الحكم الذي ينال من يؤذونهم لغير ذنب ارتكبوه.. فالمؤمن والمؤمنة، قد يسرقان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 750 فتقطع أيديهما.. وهذا أذى لهما، ولكنه أذى لا يؤاخذ عليه من أقام الحدّ عليهما.. وهكذا كل أذى يقع على المؤمن والمؤمنة في مقابل ذنب.. هذا، ولم يجىء هذا الاحتراس في قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» حيث لا يتصور أن يكون من رسول الله كسب يستحق عليه أذى.. ومعاذ الله! فقد حرسه الله من كل سوء، وحماه من المعاثر والمزالق.. وأكثر من هذا فقد جعله الله في ضمانه، إذ ضمه إلى جنابه، وجعل أذاه أذى له! قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» . ومن سدّ الذّرائع ألّا يعرّض المؤمن نفسه للشّبه، وألا يدع سبيلا لقالة السوء فيه، بل ينبغى أن يتجنب مواقع التّهم، حتى لا يتعرّض للأذى، ويعرّض غيره للوقوع فيه. وفي قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ.. الآية» دعوة لنساء النبىّ وبناته ولنساء المؤمنين عامة أن يحموا أنفسهم من ألسنة السوء، وذلك بأن يدنين عليهن من ثيابهن، وأن يرسلنها حتى تكسو أجسامهن إلى مواقع أقدامهنّ.. وهذا هو لباس المحتشمات، على خلاف ما كان عليه لباس المتبرجات، الداعيات للرجال إلى أنفسهن.. وبهذا الزىّ ينعزل نساء النبىّ، وبناته، ونساء المؤمنين، عن غيرهن، ممن لا يسوءهن قول، أو فعل. وفي قوله تعالى: «ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ» إشارة إلى أن هذا الزّى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 751 السائر الذي يتزيا به نساء النبي وبناته ونساء المؤمنين، هو معلم من معالم المرأة الحرّة العفيفة التي لا مطمع لأحد فيها. وفي قوله تعالى: «أَدْنى» .. إشارة إلى أن هذا الزىّ ليس وحده بالذي بقي الحرائر والعفيفات من ألسنة أهل الفجور والفسق، ولكنه- على أي حال- وقاء يجمّل الحرّة ويزيّن العفيفة، ويضفى على طهرها طهرا، وعلى عفتها جلالا وعفة، فهو وإن لم يكن الكمال كلّه، فهو من سمات الكمال، وإن لم يكن العفة كلّها، فهو مظهر من مظاهرها. فستر الظاهر وتجميله، مطلوب، أيّا كان الباطن وما يختفى وراءه مما تنطوى عليه الصدور، وتسرّه السرائر.. فإن كان الباطن سيئا كريها، فالأولى بصاحبه أن يستره، ويجمّله بهذا الستر الذي يلقيه عليه من المداراة، والتحفظ.. وإن كان الباطن طيبا كريما، كان تهتّك الظاهر إزراء بقدره، وعدوانا على جلاله وبهائه.. روى أن عابدين من عبّاد البصرة، أحدهما أعور، والآخر أعرج.. تقابلا، فقال الأعرج للأعور: هل لك في أن تكسب أجرا؟ فأجابه صاحبه: وما ذاك؟ قال: نتماشى معا، فيرانا الناس، فيقولون: أعور وأعرج.. فنؤجر ويأثمون!! فرد عليه صاحبه: وهل لك في خير من ذلك؟ قال: ماذا؟ قال: لا نفعل.. فنسلم ويسلمون!» إن الغنيمة حقّا، هى في أن يسلم الإنسان من النّاس.. وذلك بألا يمكنهم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 752 من نفسه بما يبدى من عيوب، أو ما هو بمظنّة عيب.. ففى ذلك سلامته من الناس، وسلامة الناس منه.. الآيات: (60- 71) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 60 الى 71] لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62) يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) التفسير: قوله تعالى: «لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 753 مناسبة هذه الآية هنا، هى أن الآيات السابقة كانت دستورا سماويا للحياة الروحية في بيت النبىّ، ولحراسة هذا البيت من العيون الفاجرة، والألسنة البذيئة.. وفي المدينة منافقون كثيرون، ومؤمنون لم تخلص قلوبهم بعد للإيمان، ومن هؤلاء وأولئك تهب ريح خبيثة على المجتمع الإسلامى الطهور، الذي أقامه النبىّ في المدينة.. فكان من الحكمة، وقد حصن الله قلوب المؤمنين، وأقامهم على طريق الإيمان والتقوى، أن يعزل عنهم هذا الداء الخبيث الذي يتمشى في أجواء المدينة، من المنافقين وممن في قلوبهم مرض من المؤمنين.. وفي قوله: «لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ» إنذار مزلزل لهؤلاء المنافقين ومن انضوى إليهم، بأن يسلط الله عليهم النبىّ، فيلقى بهم خارج المدينة، بعيدا عن هذا المكان الطهور الذي لا يجد الخبث حياة له فيه.. والمرجفون: هم الذين يثيرون الشائعات الكاذبة، ويطلقون الأراجيف المصطنعة، ليشغلوا الناس بها، ويفسدوا عليهم حياتهم.. وقوله تعالى: «لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ» أي لنسلطنك عليهم، فتخرجهم من المدينة على أسوأ حال، كما خرج اليهود من قبلهم. وقوله: «ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا» - إشارة إلى أن هؤلاء المنافقين وإخوانهم، إذا سلّط عليهم النبىّ، لن يجدوا القوة التي يدفعون بها بأسه وقوته.. بما مكن الله له في الأرض، وبما جمع له من جند الله وأنصاره.. «وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ» (6: الحشر) . قوله تعالى: «مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 754 «ملعونين» حال من فاعل محذوف تقديره: يخرجون منها ملعونين، أي تصحبهم اللعنة. - وقوله تعالى: «أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا» كلام مستأنف. أي أنهم بهذه اللعنة التي خرجوا بها من المدينة، لن يجدوا مأوى يؤوون إليه، ولا معتصما يعتصمون به.. فأينما ثقفوا أي وقعوا ليد النبىّ والمسلمين «أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا» أي أصبحوا في عداد الأسرى، وليس لهم بعد الأسر إلا القتل، لأنهم عرب، لا تقبل منهم فدية، أو يهود ائتمروا مع المشركين على حرب النبىّ، فجرى عليهم حكم المشركين من العرب. قوله تعالى: «سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» أي سنسنّ بهم سنة الذين سبقوهم من قبل، ونأخذهم بما أخذنا به أمثالهم من أهل الضلال والنفاق.. فهذا هو حكم الله في المفسدين في الأرض، وهو حكم قائم لا يتبدل أبدا.. والمراد بالذين خلوا من قبل هنا هم اليهود- من بنى قريظة وبنى النضير- الذين وقع بهم بأس الله، فأخرجوا من ديارهم، وقتل رجالهم، وسبى نساؤهم وذراريهم.. ويجوز أن يكون «الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ» - هم أمثال هؤلاء المنافقين من أهل الضلال في الأمم السابقة، ويدخل فيهم ضمنا يهود المدينة. قوله تعالى: «يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً» . هو تذكير بالساعة، وإلفات إلى يوم القيامة، فى هذا الموطن الذي تهددت فيه الآية السابقة جماعات المنافقين، ومن في قلوبهم مرض، وهم صنّاع الجزء: 11 ¦ الصفحة: 755 الأراجيف والشائعات.. وذلك ليرجعوا إلى الله، وليخلوا قلوبهم من النفاق، وليطهروها من تلك الآفات الخبيثة التي استوطنتها.. قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» هو تهديد لتلك الجماعات التي إن لم تصحح إيمانها، أصبحت فى عداد الكافرين، وليس للكافرين عند الله إلا اللعنة وسوء الدار، حيث ينزلون أسوأ منزل في جهنم، لا يخرجون من عذابها المطبق عليهم أبدا، ولا يجدون وليّا يقف إلى جانبهم، ولا نصيرا ينصرهم، ويدفع عنهم هذا البلاء المشتمل عليهم. قوله تعالى: «يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا» . فى الآية عرض لصورة من صور العذاب التي يلقاها الكافرون يوم القيامة.. إنهم يقلبون على وجوههم في جهنم، وهم أحياء.. كلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلودا غيرها ليذوقوا العذاب، ألوانا، وليطعموه حميما وغسّاقا.. وهم في هذا العذاب لا يملكون إلا صرخات الندم والحسرة، على خلافهم لله والرسول، فيقولون: «يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا» .. وأنّى لهم أن يصلحوا ما أفسدوا؟ لقد فات الأوان!. قوله تعالى: «وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا» . أي أن من مقولاتهم التي يقولونها، ويعتذرون بها هو قولهم: «رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا» .. إنهم يلقون باللائمة على سادتهم وكبرائهم، وقد كانوا تبعا لهم، فأوردوهم هذا المورد الوبيل.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 756 فقوله تعالى: «وَقالُوا» هو حكاية لما سيقولونه يوم القيامة، وعبّر عنه بالفعل الماضي، لأن هذا القول واقع في علم الله القديم.. وتلك حجة داحضة، وعذر غير مقبول..! لقد باعوا أنفسهم لسادتهم، وعطلوا العقل الذي وهبه الله إياهم، فلم يصغوا إلى آيات الله، ولم يستمعوا إلى دعوة الرسول، ولم يلتفتوا بعقولهم وقلوبهم إلى هذا النور الذي غمر الآفاق من حولهم.. بل تركوا لغيرهم مقودهم، وأسلموه زمامهم ... فإذا دفع بهم قائدهم إلى الهاوية، فهم الملومون، ولا لوم على أحد. قوله تعالى: «رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً» . هذا هو الجزاء الذي يجزى به الضالون سادتهم، ورؤساء الكفر والضلال فيهم.. إنهم لا يملكون أن ينتقموا لأنفسهم منهم بغير هذا الدعاء إلى الله أن يضاعف لهم العذاب، الذي يلقاه هؤلاء الأتباع.. فهم رؤساؤهم الذين كانوا يذهبون بالنصيب الأوفر من متاع الدنيا، فليذهبوا كذلك بالنصيب الأوفر من العذاب واللعنة في الآخرة..! قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً» .. أشاع اليهود في المدينة جوّا خبيثا من الدس والنفاق، وخلق الأراجيف وإذاعة الشائعات، واتخذوا من هذا كله أسلحة يحاربون بها الدعوة الإسلامية، ويدخلون منها على من في قلوبهم مرض من المسلمين، فيفتنونهم في دينهم، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 757 ويتخذون منهم أبواقا لترديد الأكاذيب، وإشاعة الأراجيف.. وقد أخزى الله اليهود، ونكّل بهم، وكفى المسلمين شرهم، وطهر المدينة من رجسهم.. وبقي بعد هذا أشتات من الناس، قد تمكن فيهم النفاق والكيد الذي ورثوه عن اليهود، فجاء قوله تعالى: «لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا» - جاء منذرا هؤلاء المخلفين من صنائع اليهود، بأن ينزعوا عما هم فيه، وإلا أصابهم ما أصاب أصحابهم من قبل.. وفي قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً» - إلفات للمسلمين عامة، وإشارة إلى المنافقين، ومرضى القلوب وضعاف الإيمان منهم، خاصة، إلى أن يعتزلوا اليهود عزلة شعورية، وأن يقطعوا كل ما كان بينهم من صلات قائمة على التشبه بهم، والجري على أساليبهم، لأنهم شر خالص، وبلاء محض.. كالداء الخبيث إن لم يقتل صاحبه، أفسد عليه حياته، ونغّص معيشته.. وإنه لا سلامة للمسلمين من اليهود إلا إذا تخلصوا من كل أثر مادى أو نفسى كان لهم فيهم.. وأما وقد جلا اليهود عن المدينة إلى غير رجعة، ولم يبق إلا ما تركوه في بعض الناس من آثار، فى أساليب الحياة، وصور التفكير، فإنه لكى يأمن المسلمون على سلامتهم في أنفسهم وفي عقيدتهم- ينبغى أن يتخلصوا من كل مخلفات اليهود فيهم، من ماديات الحياة ومعنوياتها جميعا.. والتطاول على مقام الرسل، والافتنان في إيذائهم والكيد لهم، طبيعة غالبة على اليهود.. وقد قص القرآن الكريم على المسلمين كثيرا من مواقفهم اللئيمة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 758 المنحرفة مع رسل الله.. فقال تعالى: «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا» (155: النساء) . وقال سبحانه وتعالى متوعدا إياهم: «أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ» (87: البقرة) . «وموسى» الذي يدين اليهود بشريعته وبالتوراة التي تلقاها من ربه- قد لقى من كيد اليهود وأذاهم في شخصه حيّا، وفي شريعته، بعد موته، ما لقى الأنبياء منهم، من ألوان الكيد والأذى.. وقولهم الذي قالوه في موسى هو ما حكاه القرآن الكريم عنهم في قولهم لموسى: «أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا» (129 الأعراف) وكان ذلك ردّا على قوله لهم: «اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» (128: الأعراف) . فهذا القول هو اتهام له، وتكذيب بالوعد الذي وعدهم إياه بأمر ربه.. وكان في هذا الاتهام أذى له، خاصة وهو في مواجهة فرعون، وفي معمعة الصراع المحتدم بينهما.. إنهم يكذبون موسى، ويتهمونه بالخداع لهم بهذه الأمانى التي يحدثهم بها.. وقد برأ الله موسى من هذا الاتهام الوقح، فصدقه الوعد الذي وعده، ونجّى القوم على يديه من فرعون، وأراهم من آيات الله عجبا.. والمنافقون ومن في قلوبهم مرض من المسلمين، هم المعنيون بهذا الأمر الذي تحمله الآية الكريمة: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً» .. فلقد كذب إخوانهم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 759 اليهود موسى، واتهموه فيما وعدهم به من الخلاص من يد عدوهم، ومن التمكين لهم في الأرض، وقد صدق الله وعده، وأنجز لموسى ما وعده في قومه.. وكما صدق الله وعده موسى في قومه، سيصدق الله وعده «محمدا» فى قومه، فيكبت عدوّهم، ويمكنّ لهم في الأرض.. وكما كان موسى وجيها عند الله، ذا منزلة عالية عنده، سيكون محمدا وجيها عند ربه، فى مقام رفيع عنده.. فليكن للمنافقين والذين في قلوبهم مرض في هذا عبرة وموعظة، وليقتلوا في نفوسهم تلك الشكوك وهذه الريب في صدق الرسول.. فإنهم إن فعلوا سلمت قلوبهم من النفاق، وصحّت من المرض، وأصبحوا في عباد الله المؤمنين، الذين اطمأنت قلوبهم بالإيمان، وخلت مشاعرهم من الشكوك والتّهم، فلم تنطق ألسنتهم بالزور والبهتان.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في الآية التالية، والآية التي بعدها. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً» فهذه هى صفات المؤمنين حقّا، وذلك هو منطقهم، وتلك هى سبيلهم.. إنهم على إيمان وثيق بالله، قد امتلأت قلوبهم بتقواه، وخشيته، فلا يقولون زورا، ولا ينطقون بهتانا، وإنما قولهم الحق، ومنطقهم الصدق.. وبهذا يصلح الله أعمالهم، ويتقبلها منهم، ويغفر لهم ذنونهم.. وهذا لا يكون إلا لمن أطاع الله ورسوله: «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً» .. إذ أنه لا فوز أعظم من النجاة من عذاب الله، والفوز بدخول الجنة: «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» (185: آل عمران) الجزء: 11 ¦ الصفحة: 760 الآيتان: (72- 73) [سورة الأحزاب (33) : الآيات 72 الى 73] إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73) التفسير: (الأمانة التي جملها الإنسان.. ما هى؟) بهاتين الآيتين تختم السورة.. وبين بدء السورة وختامها تلاق وتجاوب، بحيث يرى وجه أحدهما في الآخر، كما يرى الشيء وصورته في مرآة مجلوّة.. ففى بدء السورة جاء قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ..» وفي ختامها جاء قوله تعالى: «لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ، وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» ففى تحذير النبىّ من الكافرين والمنافقين، حراسة له ولكل من اتبع سبيله- من هذا الخطر الداهم، وهذا البلاء النازل من موالاة الكافرين والمنافقين أو مهادنتهم.. وبعد بدء السورة بقليل جاء قوله تعالى: «ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ» وقبل ختام السورة بقليل جاء قوله تعالى: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ» ففى قوله تعالى: «ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ» - إشارة إلى أنه كما لا يجتمع في الجوف قلبان، يبطل كل منهما عمل الآخر، كذلك لا يجتمع الجزء: 11 ¦ الصفحة: 761 فى القلب شيئان ينقض أحدهما ما يبنيه الآخر ... فلا يجتمع في القلب إيمان وكفر، ولا يسكن إليه إيمان يخالطه نفاق.. وفي قوله تعالى: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ» - إشارة إلى أن الأمانة هى مما يحمل القلب، وأنه كما انفرد القلب بالسلطان على الجسم، كذلك تنفرد الأمانة بالسلطان على القلب. وعلى ضوء هذا نستطيع أن نفهم «الأمانة» على أنها التكاليف الشرعية التي ائتمن الله سبحانه وتعالى الإنسان عليها، ودعاه إلى رعايتها وحفظها، وأدائها على وجه مقبول.. فيثاب على أدائها، ويعاقب على خيانتها وعدم الوفاء بها.. والعقل هو مناط التكليف.. حيث لا يقع التكليف على غير قادر مريد، مدرك لما كلّف به.. وبغير العقل لا يكون إدراك، ولا تجتمع إرادة، ولا تتحرك قدرة.. وإذ كان الإنسان هو الكائن الذي أوتى عقلا وإدراكا، من بين الكائنات، فقد كان هو الكائن الذي اختصّ بالتكليف، وبحمل أمانة ما كلّف به. فالعقل هو المتلقى لتلك الأمانة التي عجزت السموات والأرض والجبال عن حملها.. وتلقى العقل للأمانة، هو بإدراك مالله سبحانه وتعالى من كمالات، وبهذا استحق الإنسان أن يخاطب من الله خطاب تكليف، وأن ينظر بعقله فيما كلّف به من أمر أو نهى، وأن يتعرف به ما أحل الله وما حرم، وأن يميز به الطيب من الخبيث.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 762 أَمْشاجٍ.. نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً» أي لأجل أن نبتليه جعلناه سميعا بصيرا، أي يسمع بعقل، ويبصر بإدراك، وهذا هو السر في العدول عن سامع ومبصر، إلى صيغة المبالغة «سَمِيعاً بَصِيراً» . والإنسان- بهذا العقل المدرك المميز للأشياء- سلطان على نفسه، مالك التصرف كيف شاء.. فله أن يؤمن أو يكفر، وله أن يطيع أو يعصى، وله أن يتقدم أو يتأخر.. وليس هذا شأن الكائنات الأخرى، حتى الملائكة- إنها جميعها على وجه واحد، لا تستطيع، بل لا تحاول أصلا، أن تخرج عن هذا الوجه الذي أقامه الله عليها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً.. قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» .. (11: فصلت) إن الله سبحانه وتعالى يعرض الأمانة هنا على السموات والأرض.. وإنه سبحانه يدعوهما إلى أن يمتثلا أمره.. إما طوعا، وإما كرها.. والطوع، هو التسليم المطلق منها لأمر الله.. والكره هو أن يكون لهما الخيار في إمضاء مشيئة الله فيهما، وهذا الخيار لا يصير بهما آخر الأمر إلا إلى حيث أراد الله فهو خيار في ظاهره، إكراه في باطنه، فهى مكرهة في صورة طائعة.. وقد أبت السماء والأرض قبول الأمانة.. فقالتا: «أَتَيْنا طائِعِينَ» أي مستسلمين، لا إرادة لنا مع إرادة الله، ولا اتجاه لنا إلى غير ما أقامنا الله عليه.. أما الإنسان، الذي حمل الأمانة، فهو- كما يبدو في ظاهره- عالم، مريد، يعمل بعلمه، وبإرادته.. وهما صفتان من صفات الله سبحانه وتعالى، استحق بهما أن يكون خليفة لله في الأرض.. الأمر الذي لم تنله الملائكة حين قالوا: «أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ» وقد ردّهم الله سبحانه بقوله: «إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 763 والعلم الذي يستمده الإنسان من عقله، هو الحارس الأمين على الأمانة التي حملها الإنسان، فبالعلم يعرف الإنسان ربّه، وما له سبحانه من صفات الجلال والكمال.. وبالعلم يدرك التكاليف التي كلفه الله بها، فيما أمر ونهى.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (27: الأنفال) وننظر في قوله تعالى: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا» فنجد: أولا: عرض الله سبحانه وتعالى «الأمانة» على السموات والأرض والجبال.. فما معنى العرض هنا.؟ إنه- والله أعلم- عرض امتحان لهذه العوالم وما فيها ومن فيها- فى مواجهة الإنسان، حتى يظهر عجزها، ويبين فضل الإنسان عليها.. وهذا مثل عرض الأسماء على الملائكة، امتحانا لهم، فى مواجهة آدم.. فلما ظهر عجزهم- والله يعلم هذا علما أزليّا- اعترفوا لآدم بماله من فضل استوجب سجودهم له!! وفي هذا يقول الله تعالى: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» (31- 33: البقرة) وثانيا: إباء السموات والأرض والجبال أن يحملن الأمانة.. فما معنى هذا الإباء؟. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 764 نقول- والله أعلم- ليس معناه الرفض، عصيانا وخلافا.. وإنما معناه عدم موافقة طبيعة هذه العوالم لقبول هذا الأمر المعروض عليها.. فهو إباء عجز وقصور، كما عجز الملائكة عن قبول العرض في التعرف على أسماء الأشياء المعروضة عليهم.. وهكذا إذا اجتمع أمران لا توافق بينهما، ثم أريد اجتماعهما وتآلفهما من غير إرادة قاهرة- لم يجتمعا، ولم يأتلفا.. وهذا ما يشير إليه الشاعر فى قوله: أبت الروادف والثّدىّ لقمصها ... مسّ الظهور وأن تمسّ بطونا فهو إباء محكوم بالطبيعة، لا دخل للإرادة، أو التصنع فيه.. فحسن أن يشبه هذا الواقع منها بأنه إباء وامتناع. وثالثا: إشفاق السموات والأرض والجبال من حمل الأمانة.. فهل هذا الأشفاق عن شعور وإحساس، وإدراك لفداحة الأمر وخطره؟ وإذا كان ذلك كذلك، فهناك إذن إدراك! وإذا كان إدراك لم يكن الإباء عن حمل الأمانة، إلا عصيانا وخلافا.. فكيف هذا؟. الجواب- والله أعلم- أن هذا الإشفاق ليس عن إدراك وتقدير، وإنما هو- حركة يقابل بها الكائن- أي كائن من حيوان أو- جماد- ما يدخل عليه من شىء غريب يخرج به عن طبيعته التي أقام الله سبحانه وتعالى عليها وجوده.. فالمشفق من الشيء ينفر منه، وينقبض عنه.. وهذا- والله أعلم- هو السر في التعبير القرآنى: «وَأَشْفَقْنَ مِنْها» بدلا من «خفن منها» لأن الخائف مضطر إلى أن يتحرك، ويبتعد عن مصدر الخطر الذي يتهدد وجوده، بخلاف المشفق، إذ لا خطر يتهدده.. إنه أشبه بحلم مزعج من أحلام اليقظة!. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 765 وهذه الكائنات لم تكن في عرض الأمانة عليها في مواجهة خطر يتهددها، إذ أنه مجرد عرض، لا إلزام معه.. فهى إما أن تقبل بطبيعتها الأمانة، وتستجيب لها، وإما ألا تقبلها، ولا تتجاوب معها.. ومع هذا فإن مجرد هذا العرض المجرد، قد هزها هزّا عنيفا بالغا، أشبه بما يكون من العين عند دخول جسم غريب إليها.. ورابعا: قوله تعالى: «وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ» . ما معنى «الواو» فى «وحملها الإنسان» ؟ هل هى واو عطف؟ فأين المعطوف عليه؟ أم هى واو الحال؟ فمن صاحب الحال؟ وما المعنى إذن؟ إذا قيل إنها واو العطف- كما يذهب إلى ذلك أكثر المفسرين- كان المعطوف عليه قوله تعالى «فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها» وحملها الإنسان.. المعنى على هذا، أن الإنسان كان داخلا في هذا العرض، وأنه بعض موجودات هذه الأكوان التي عرضت عليها الأمانة، وقد عجزت جميعها عن حملها، وأشفقت منها، إلا الإنسان وحده من بينها، فإنه قبل حملها بمشهد من الوجود كله في هذا الامتحان العام. وإذا قيل إنها واو الحال- وهذا ما نراه- فيكون قوله تعالى: «وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ» جملة حالية، ويكون صاحب الحال الضمير العائد على الأمانة في قوله تعالى: «فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها» .. ويكون المعنى: أننا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها» والحال أن الإنسان قد حملها!! وهذا المعنى يحقق أمورا: أولها: أن قبول التكليف وحمل الأمانة طبيعة في الإنسان وأنه حال من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 766 أحواله على حين أن عدم قبول التكليف وحمل الأمانة، ليس من طبيعة الكائنات الأخرى ولا من شأنها.. وثانيها: أن هذه الطبيعة القابلة للتكليف وحمل الأمانة، قد انفردت من بين المخلوقات بالقدرة على ما تعجز عنه المخلوقات كلها، فى السماء وفي الأرض.. وفي هذا تكريم للإنسان، وإعلاء لقدره، ووضعه في ميزان ترجح فيه كفته على سائر المخلوقات مجتمعة.. وثالثها: أن هذا التكريم للإنسان يلقى عليه عبئا ثقيلا، يتطلب منه التفاتا قويا إلى نفسه، باستعمال القوى المدركة المودعة فيه، وحراستها من الآفات التي تعرض لها، حتى يؤدى ما اؤتمن عليه، ويثبت للوجود أنه كما وصفه الله: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» وأنه هذا الكائن المصطفى من بين الكائنات، كما يقول سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ» فآدم صفوة خلق الله جميعا، ونوح صفوة أبناء آدم، وآل إبراهيم وآل عمران صفوة أبناء نوح.. فإذا غفل الإنسان عن هذا المقام العظيم الذي رفعه الله إليه، وانطفأت فى كيانه تلك الشعلة المقدسة، وهى العقل الذي أودعه الله فيه- لم يكن إلا ترابا من تراب هذه الأرض، وكان كما وصفه الله: «ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ» . وخامسا: قوله تعالى: «إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا» . ما معنى هذا الوصف الذي وصف به الإنسان؟ وهل يتفق وصفه بالظلم والجهل، مع هذا الفهم الذي فهمنا الآية الكريمة عليه، وأنها تحدث عن الإنسان هذا الحديث الذي يقيمه على قمة الوجود كله؟. والجواب على هذا- والله أعلم.. أن هذا الوصف ليس واقعا على الجزء: 11 ¦ الصفحة: 767 الإنسان في جنسه كله، وإنما هو واقع على من خان الأمانة من بنى الإنسان، ونزل عن هذا المقام الرفيع الذي له في الكائنات، وبهذا استحق أن يوصف بأنه «ظلوم» أي عظيم الظلم، لأنه ظلم نفسه، فلم يقدرها قدرها، ولم يحفظ عليها مكانتها.. وإنه ليس أظلم ممن يظلم نفسه، ويبخسها حقها، وهو «جهول» لأنه لم يعرف قدر نفسه، ولم يحتفظ بهذا السلطان الذي له في هذا العالم.. ومن جهل نفسه فهو أجهل الجاهلين.. فوصف الإنسان بأنه ظلوم جهول، هو في الواقع إشارة إلى تلك الخسارة العظيمة، التي خسرها الإنسان بتضييع الأمانة التي كانت بين يديه، والتي حين تخلّى عنها فقد كلّ شىء، ونزل من القمة إلى القاع.. وهذا أسلوب من أساليب البلاغة في إظهار عظمة الشيء، بذم من فرط فيه وقصر في حفظه، وحراسته.. كما يقال عن إنسان كانت بين يديه فرصة عظيمة مسعدة، فأضاعها بإهماله وتواكله، فلا يجد إلا من يلوم ويقرّع بمثل هذه الكلمات: غبى!! حيوان! جاهل! .. وعلى هذا لا يكون قوله تعالى: «إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا» - لا يكون تعقيبا على قوله تعالى: «وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ» .. وإنما هو تعقيب على محذوف، تقديره وحملها الإنسان فلم يحسن حملها، ولم يؤدها على وجهها.. وإنه بهذا التقصير كان ظلوما جهولا.. هذا هو ما اطمأن إليه القلب، واستراحت له النفس، فى فهم الآية الكريمة.. وهناك مقولات كثيرة في كتب التفسير في هذا المقام، وهى على كثرتها وتضاربها، لا تخلو من فائدة لمن ينظر فيها.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 768 قوله تعالى: «لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» .. هذا تعقيب على قوله تعالى: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ.. الآية» فمقتضى الأمانة التي حملها الإنسان، هو أن يؤديها كما اؤتمن عليها.. فإن هو قصر في أدائها، أو ضيعها جميعا، كان في موضع المساءلة والعقاب.. وإن هو حفظها على قدر ما استطاع ظل محتفظا بمكانه الذي أقامه الله فيه، وهو مقام كريم في جنات النعيم.. والذي ينبغى أن يلتفت إليه هنا، هو تقديم الحساب والجزاء لمن كان منه التقصير في أداء الأمانة- تقديمه على التوبة على المؤمنين والمؤمنات.. وذلك أن الأداء للأمانة، هو المطلوب أولا، وهو الشأن الذي إذا فات الإنسان، كان في معرض الخروج من عالم الإنسانية، والنزول عن المكان الرفيع الذي وضع فيه.. وهذا هو عقابه وجزاؤه.. وهو العذاب الأليم، إذ لا عذاب أشد ولا أقسى من أن يخرج الإنسان عن طبيعته، ويعيش في غير بيئته.. كما ينبغى أن يلاحظ أيضا، اختصاص المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات بالعذاب هنا، لأنهم هم الذين ضيعوا الأمانة كلها، ولم يبق في أيديهم شىء منها.. إنهم جميعا على الكفر بالله.. فالمنافق.. منافق وكافر، والمشرك.. كافر ومشرك.. - أما قوله تعالى: «وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» فهو مقابل لقوله تعالى: «لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ» وكان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 769 مقتضى النظم أن يجىء هكذا مثلا: «ويدخل الله المؤمنين والمؤمنات جنات النعيم» . والذي جاء عليه النظم القرآنى يحقق أمرين: أولهما: أن حمل الأمانة، وأداءها كاملة، مما لا يكاد يتحقق على وجهه كاملا، إلا في صفوة مختارة من أنبياء الله ورسله.. وإذن فالمطلوب من الناس، حتى في أعلى منازلهم، وأرفع درجاتهم، أن، يقاربوا وأن يسدّدوا، وأن يأتوا من الأمر ما استطاعوا.. فإذا وقع منهم تقصير- وهو واقع حتما- فإن رحمة الله ومغفرته من وراء هذا التقصير، إذا هم تابوا، ورجعوا إلى الله، واستغفروه: «ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً» .. وثانيهما: أن الإيمان بالله، هو ملاك الأمانة.. فمن آمن بالله، وأقر بوحدانيته، وشهد بقلبه ولسانه: أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فقد أمن أن يكون في المنافقين أو المشركين، وكان في المؤمنين الذين يتوب الله عليهم.. وبالتوبة تمحى السيئات، وتغفر الذنوب، وترجى النجاة من عذاب الله. «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 770 34- سورة سبأ نزولها: مكية عدد آياتها: أربع وخمسون آية. عدد كلماتها: ثمانمائة وثمانون كلمة. عدد حروفها: أربعة آلاف وخمسمائة واثنا عشر حرفا. مناسبة السورة لما قبلها ختمت سورة الأحزاب السابقة بهذه الآية الكريمة: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا» . ثم كانت الآية التي بعدها تعقيبا عليها.. فكأنّها وما بعدها آية واحدة. وفي هذه الآية أو الآيتين، بيان لمقام الإنسان في هذا الوجود، وأنه الكائن الذي استقلّ وحده بحمل أمانة التكليف من بين الكائنات جميعها.. وإنه لن يمسك به في مقامه هذا إلا الإيمان بالله، إيمان وعى، وإدراك، وفهم، لجلال الله وعظمته، وقدرته، وماله من تصريف في ملكه، لا معقب له، ولا شريك معه. وتبدأ سورة «سبأ» بقوله تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» تبدأ بهذا الاستفتاح بحمد الله الذي له ما في السموات وما في الأرض.. وكأنها بهذا الاستفتاح تضع بين يدى الإنسان المفتاح الذي يحفظ به ما استودع من أمانات الله.. وهو حمد الله الذي له ما في السموات وما في الأرض. فحمد الله، هو ثمرة الإيمان بالله، والمعرفة بجلاله، وعظمته، وما له في ذات الإنسان، من آيات الإحسان، وسوابغ النعم.. فمن آمن بالله حق الإيمان، كان لسان ذكر وحمد وشكر، لله ربّ العالمين، وذلك فيما يرى على ضوء هذا الإيمان من فضل الله، وإحسانه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 771 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الآيات: (1- 9) [سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) الجزء: 11 ¦ الصفحة: 772 التفسير: قوله تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ» الحمد لله من الله سبحانه، هو حمد لذاته من ذاته.. فهو سبحانه المستحق للحمد، وإن لم ينطق بذلك لسان.. فالوجود كلّه مسبح بحمده سبحانه، إذ كان الوجود- فى ذاته- نعمة، على أية صورة كان عليها الوجود، وعلى أي وضع قام عليه.. فهو خروج من عدم.. والعدم سلب، والوجود وجوب.. الوجود شىء، والعدم لا شىء.. والوجود صفة من صفات الله، به تتحقق ذاتية الذات، وتتحدد ماهيته.. ومن هنا كان.. الحمد لله، تسبيح كل موجود وصلاة كل مخلوق: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» (44: الإسراء) وفي قوله تعالى: «وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ» إشارة إلى ما استوجب الله سبحانه وتعالى من حمد فوق حمد الوجود، وهو حمد البعث، بعد الموت، الذي هو أشبه بوجود جديد للإنسان، وإمساك به من الذهاب إلى العدم الذي كان وشيكا أن ينتهى إليه بعد الموت. - وفي قوله تعالى: «وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ» إشارتان.. إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى، الذي ملك هذا الوجود بسلطانه المطلق، لم يكن في هذا السلطان المطلق جور، أو استبداد، لأنه سلطان في يد الحكيم الذي أحسن كل شىء خلقه، وأقامه في المقام المناسب له.. والإشارة الأخرى إلى سوء ظن الكافرين والمشركين، وأهل الضلال، بالله سبحانه وتعالى، وقصور إدراكهم لما لله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 773 سبحانه وتعالى من علم، وأنهم لو علموا بعض مالله من قدرة، وعلم، وسلطان، لخافوا بأسه، ولما جرءوا على عصيانه، إذ لا يجرؤ على مخالفة أمر ذى الأمر، والخروج على سلطان ذى السلطان، إلا من وقع في تصوره أن عين صاحب الأمر لا تراه، أو أن سلطان ذى السلطان لا يقدر عليه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ» (22- 23: فصلت) قوله تعالى: «يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ» . هذه الآية، هى شرح وبيان لصفة «الخبير» التي وصف الحق بها ذاته، فى قوله تعالى: «وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ» . فالخبير، هو العالم علما كاشفا لكل شىء.. وعلم الله هو العلم الكامل كمالا مطلقا، حيث تنكشف به حقائق الأشياء كلها، إذ كان كل شىء هو صنعة الله، من مبدأ وجود المخلوق إلى كل ما يطرأ عليه من تبدل وتحول في كل لحظة من لحظات الزمن.. ولهذا وصف علم الله بالخبرة، إذ كان علما عاملا، بحيث لا يقع شىء في الوجود إلا عن علم، وعن تقدير بمقتضى هذا العلم.. فكان علمه سبحانه على هذا التمام والكمال: «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (14: الملك) - وفي قوله تعالى: «يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها» . إشارة إلى بعض علم الله، فيما بين أيدى الناس، وهو هذا العالم الأرضى الذي يعيشون الجزء: 11 ¦ الصفحة: 774 فيه.. فهذه الأرض، يعلم الله سبحانه ما يلج فيها، أي ما ينفذ إلى باطنها، ويتسرب إلى أعماقها.. فالولوج معناه دخول الشيء في الشيء، ومنه قوله تعالى: «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ» فهو سبحانه يعلم كل حبّة في باطن الأرض، ويعلم مستقرها ومستودعها، ويعلم سبحانه ما يجرى في باطن الأرض من ماء.. كذلك- ومن باب أولى في حسابنا- يعلم سبحانه ما يخرج من الأرض من نبات، وما يتفجر من عيون.. - وفي قوله تعالى: «وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها» إشارة أخرى إلى علم الله سبحانه بما فوق هذا العالم الأرضى، وهو السماء.. فهو سبحانه يعلم ما ينزل من السماء من ماء، وملائكة، وهو يعلم ما يعرج في السماء، أي ما يصعد إليها من عالم الروح الذي نزل إليها.. وفي قوله تعالى: «وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ» - إشارة إلى أن ما يلج في الأرض وما يخرج منها، هو هذه الرحمة التي تنزل ماء من السماء، فتلج في الأرض، فتخرج منها حبّا ونباتا وجنات ألفافا.. وفي هذا حياة كل حىّ، طعاما وشرابا.. ثم إشارة أخرى إلى ما ينزل من السماء من آيات الله وكلماته، يحملها أمين الوحى إلى المصطفين من عباد الله لرسالته، فيكون فيها حياة الأرواح، وتزكية النفوس.. ثم إشارة ثالثة إلى ما يعرج في السماء، ويصعد إليها من أعمال النّاس.. وقليل منها طيب، وكثير هو الخبيث.. ومع هذا، فإن الله سبحانه لا يمسك رحمته عن النّاس، ولا يعجل لهم الجزاء، بل يوسع لهم من مغفرته ورحمته، فيغفر للمذنبين التائبين، ويرحم العصاة الفارّين بذنوبهم إلى الله: «وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ» قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 775 لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» العطف هنا في قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» - هو عطف على مضمون الآيتين السابقتين ... فهذا المضمون هو قول الوجود كلّه، وهو قول المؤمنين من النّاس.. وكأن المعنى هو: قال الوجود كله وقال المؤمنون من عباد الله: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ..» الآية وما بعدها.. هذا ما قاله الوجود، والمؤمنون.. وقد اقتضى هذا الإقرار من المؤمنين أن يؤمنوا بالآخرة وأن يعملوا لها.. أما غير المؤمنين، فلم يقولوا هذا القول، ولم يؤمنوا بالله ولا باليوم الآخر.. والصورة إذن هى: قال الذين آمنوا آمنا باليوم الآخر، وبأن الساعة آتية لا ريب فيها، «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ» .. وقد أمر الله سبحانه وتعالى النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- أن يردّ عليهم هذا الزعم الباطل، وأن يكذّب هذا الادعاء الفاسد، فقال تعالى: «قُلْ.. بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ» .. «وبلى» جواب لإثبات المستفهم عنه بالنفي، وإيجابه.. ففى قولهم: «لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ» نفى في طيه استفهام إنكارى، وكأنهم يقولون: «ألا تأتينا الساعة» مبالغة منهم في إنكارها، وفي تحدّى من يؤمن بها.. وقد جاء الردّ عليهم مثبتا لما نفوه، موكدّا له، قاطعا به: بهذا القسم باسم الربّ العظيم «وربّى» وبهذا التوكيد للفعل باللام والنون «لتأتينّكم» .. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 776 وفى القسم بالربّ، (بلى وربى) إشارة إلى ربوبية الله سبحانه، لهؤلاء الذين ينكرونه، وينكرون ما تقضى به الربوبية من الولاء الله، والتصديق برسله.. فهو إنكار غليظ، فى مواجهة الربوبية التي لا تنقطع فواضل إحسانها وإنعامها لحظة واحدة عن أي موجود، ولو انقطع ذلك لما كان لموجود وجود! - وقوله تعالى: «عالِمِ الْغَيْبِ» .. صفة للرب- سبحانه وتعالى- الذي يعلم الغيب فى السموات والأرض، ويعلم ما عليه هؤلاء الكافرون من محادّة الله.. فهو سبحانه- وقد علم منهم هذا الضلال- لن يدعهم يذهبون من غير حساب ولا جزاء، بل سيبعثهم سبحانه، ويردهم إليه، ويجزيهم بما كانوا يعملون.. - وقوله تعالى: «لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ» أي لا يغيب عن علمه- سبحانه- وزن ذرة، كائنة فى السموات أو فى الأرض، ولا أصغر من الذرة- وهى ما هى فى الصغر- ولا أكبر ... فكل ذلك عنده سبحانه وتعالى فى كتاب مبين، قد استودع مكنونات علمه.. - وفى قوله تعالى: «إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» إشارة إلى حصر الموجودات كلها صغيرها وكبيرها «فِي كِتابٍ مُبِينٍ» أي مفصل فيه كل شىء تفصيلا واضحا محددا.. فما وقع فى ظن الكافرين بالله أن شيئا من هذا غائب عن علم الله إلا كان هذا فى كتاب مبين.. قوله تعالى: «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.. أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ» . اللام فى قوله تعالى «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا» هى لام العاقبة، أي أن عاقبة هذا العلم من الله سبحانه وتعالى لما يعمل الناس من خير أو شر، هو الجزء: 11 ¦ الصفحة: 777 الحساب والجزاء، فيجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات، جزاء حسنا.. ويجزى الذي أساءوا السّوءى وعذاب الجحيم.. وقد أطلق الجزاء الذي يجزى به الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فلم يقيد بأنه جزاء حسن للدلالة على أنه أمر واضح لا يحتاج إلى بيان.. إذ ليس للإحسان جزاء إلا الإحسان كما يقول سبحانه: «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ» (60: الرحمن) وفى الإشارة إلى المؤمنين بقوله تعالى: «أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ» رفع لقدرهم، وتنويه بمنزلتهم العالية فى مقام التكريم والإحسان.. وفى الضرب عن صفة الجزاء للذين سعوا فى آيات الله معاجزين، إشارة إلى التعجيل بالجزاء السيّء لهم، ومواجهتهم به بمجرد أن يعرضوا على الحساب.. إنه عذاب من رجز أليم.. وفى الإشارة إليهم بقوله تعالى: «أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ» فضح لهم وكشف عن موقفهم الذليل فى مقام الخزي والهوان.. وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ» إشارة إلى أنهم كانوا يخوضون فى آيات الله خوضا، بغير حساب، استخفافا بها، وسخرية منها.. وهذا بعض السر فى تعدية الفعل «سعى» بحرف الجر «فى» الذي يفيد الظرفية. وقوله تعالى: «مُعاجِزِينَ» حال لبيان الغاية من هذا السعى الآثم فى آيات الله، وأنه لم يكن سعيا للإفادة منها، والاهتداء بهديها، وإنما هو سعى لحجبها عن الناس، ولتعجيزها، وإعجاز الناس عن الوصول إليها.. قوله تعالى: «وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 778 المفسرون يكادون يجمعون على أن هذه الآية مدنية، من بين آيات السورة المكية كلها.. ولا نجد لهم مستندا لهذا القول إلا ما تشير إليه الآية من الحديث عن الذين أوتوا العلم.. وإذا كان الذين أوتوا العلم هنا هم أهل الكتاب- وخاصة علماء اليهود- وإذا كانت السورة مكية، والقرآن المكي لم يخاطب أهل الكتاب بعد، فيكون من مقتضى هذا، أن الآية من القرآن المدني الذي نزل فى مواجهة أهل الكتاب بعد الهجرة!! .. هكذا كان تقدير القائلين بأن هذه الآية مدنية.. ولا معوّل- عندنا- على هذا الاستنتاج الذي لا يسنده خبر صحيح.. وعلى هذا، فالآية مكية مثل آيات السورة كلها. وأما الإشارة إلى الذين أوتوا العلم، وليكن المراد بهم أهل الكتاب، فإن هذا لا يمنع من أن يتحدث القرآن عن أهل الكتاب، وأن يستدعيهم الشهادة على ما يعلمون من آيات الله، وأنها الصدق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وذلك قبل أن تلتقى بهم الدعوة، وتلقاهم لقاء مباشرا.. وسواء أشهد أهل الكتاب أم لم يشهدوا، وسواء أكانت شهادتهم حقا أو باطلا، فإن هذه الإشارة إليهم، هى مطالبة لهم بأن يقولوا ما عندهم من علم عن هذا الرسول، وعن الكتاب الذي بين يديه، وأن ينطقوا بألسنتهم ما كتموه فى صدورهم ... فإن لم يفعلوا فقد أثموا، وأدينوا، لأنهم خالفوا ما أمرهم الله به، ونقضوا الميثاق الذي أخذه عليهم، كما يقول سبحانه «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ» (187: آل عمران) ثم إن فى هذا إرهاصا بما سيكون لهذه الدعوة من شأن مع أهل الكتاب، وأنهم سيدعون إليها، ويطالبون بالايمان بها، وذلك حين يجىء دورهم.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 779 وقوله تعالى: «وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» .. والمراد بالرؤية هنا، العلم.. - وقوله تعالى: «الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ» «الذي» مفعول أول للفعل يرى، بمعنى يعلم، ومفعوله الثاني هو قوله تعالى: (الْحَقَّ) .. والضمير (هو) (ضمير فصل يشير إلى القرآن الكريم. ويلفت إليه، وينوه به.. وفى تعريف «الحق» ما يفيد القصر، وذلك بتعريف ركنى الجملة إذ أن أصل الكلام هو: «الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ» .. أي الذي لا حقّ وراءه.. فهو وحده الحق، وما سواه خارج عليه، فهو الباطل.. وقوله تعالى: «وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» .. معطوف على المفعول الثاني «الحقّ» .. فهو جملة فى محل نصب.. أي ويعلم الذين أوتوا العلم أن الذي أنزل إليك من ربّك يهدى إلى صراط العزيز الحميد.. قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» الآية معطوفة على قوله تعالى: «وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ» .. أي أن الذين أوتوا العلم رأوا، ما أنزل إلى النبىّ من آيات ربه، فعلموا أنها الحقّ، وقالوا- بلسان الحال- آمنا به، وبما حدّث به عن البعث والحساب والجزاء.. وكان قول الذين كفروا هو الاستهزاء والسخرية برسول الله، والتكذيب لآيات الله.. فقالوا ساخرين مستهزئين منكرين: «هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟» .. إنهم يتنادون فيما بينهم، ويدعو بعضهم بعضا إلى هذا العجب الذي يحدّثهم به النبىّ صلى الله عليه وسلم، من أمر البعث والحياة الآخرة، وما فيها من جنة ونار.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 780 قوله تعالى: «أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ؟ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ» هذا هو مجمل ما يجيب به بعضهم بعضا، على هذه التساؤلات التي يتساءلونها فى أمر هذا الخبر العجيب الذي يحدثهم به النبىّ عن البعث.. إنهم ينتهون إلى أن يضعوا النبىّ بين أمرين، لا ثالث لهما: إما أن يكون رجلا افترى على الله الكذب فيما يحدثهم به، ويقول عنه إنه من عند الله.. فهذا الحديث- عندهم- لا يكون من الله، لأن الله لا يعقل منه أن يقول مثل هذا القول غير المعقول.. وإما أن يكون هذا الرجل مجنونا، يلقى الكلام كما يصوّره له جنونه.. وإذن فعلى كلا الأمرين، لا يسمع له، ولا يلتفت إليه.. وفى قولهم على «رجل» إمعان منهم فى الاستصغار لشأن النبي، وأنه أقلّ من أن يذكر باسمه أو صفته.. ولهذا ردّ الله سبحانه عليهم بقوله: «بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ» .. فأضرب الله على كلامهم وأبطله، ثم ألقى بهم فى العذاب، وألبسهم لباس العمى والضلال.. وقدّم العذاب على الضلال، مع أن العذاب الذي سينالهم هو من ثمرة ضلالهم- قدم هذا، استعجالا لما يسوءهم، واستحضارا للبلاء الذي ظنوا أنهم فى مأمن منه.. قوله تعالى: «أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ.. إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 781 هو تهديد لهؤلاء المشركين، الذين كانوا يسخرون من رسول الله. ويكذبون بآيات الله، ولا يرجون لقاء الله.. فهؤلاء وقد توعدهم الله بالعذاب الأليم فى الآخرة، إن كانوا قد شكوا فى هذا الوعيد، أو استبعدوا يومه، فلينظروا فيما حولهم، وفيما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض.. من يمسك السماء أن تسقط عليهم؟ ومن يحفظ الأرض أن نخسف بهم؟ أليس هو الله سبحانه وتعالى؟ ذلك ما لا سبيل إلى إنكاره.. وإذا كان ذلك كذلك وقد عصوا الله، وحادوا رسوله- أفلا يمكن أن يعاجلهم الله بالعقاب فى الدنيا؟ أهناك من يعصمهم من بأس الله إذا جاءهم؟ أهناك من يردّ مشيئة الله لو شاء سبحانه أن يخسف بهم الأرض، أو يسقط عليهم حجارة من السماء؟ وفى قوله تعالى «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ» إشارة إلى أن هذا الذي تحدث به الآية عن قدرة الله وعن بأسه الذي لا يرد، لا يلتفت إليه ولا ينتفع به إلا من كان ذا عقل متفتح، وبصيرة نافذة، وقلب سليم، إذا رأى الحق عرفه، وإذا عرفه آمن به، وعمل على هداه، فإن كان كافرا آمن بالله، وإن كان عاصيا تاب إلى الله ورجع إليه من قريب، أما من أنام عقله، وأغلق قلبه، فإنه يظل مجمدا على حال واحدة، لا يتحول عنها، ولا يرجع عن الطريق الذي ركبه، وإن كان فيه مهلكه. الآيات: (10- 14) [سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 14] وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14) الجزء: 11 ¦ الصفحة: 782 التفسير: قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» . أوبى معه: أي سبحى معه ورددى ما يقول من آيات الشكر والحمد لله.. السابغات: الدروع الضافية، الكاسية.. ونعمة سابغة: أي كثيرة عامة شاملة، تغنى صاحبها، وتستر حاجته، وتسد خلّته.. وقدر فى السرد: أي اعمل بحساب وتقدير فى نسج الدروع من الحديد، ووصل حلقات بعضها ببعض. ومنه قوله تعالى: «وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها» .. أي أوجدها فى دقة وإحكام.. ومناسبة الآية لما قبلها، أن الآية السابقة عليها ختمت بقوله تعالى. «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ» فجاءت هذه الآية لتكشف عن صورة كريمة للإنسان الذي يحقق معنى الإنابة، على التمام والكمال، وهو داود عليه السلام. وإذا كان داود وسليمان قد خلع الله سبحانه وتعالى عليهما هذه الخلع العظيمة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 783 من نعمه، فإن هذه النعم لا يقام بحقها، ولا يؤدّى بعض ما لله على عباده منها، إلا إذا كانت النعم ابتلاء من الله.. كالنقم سواء بسواء، فمن لم يصبر على مراقبة الله فيما حوله من نعم، ضل وانحرف، وفى قارون مثل بيّن فى هذا.. ولهذا جاء قول سليمان، فيما حكاه الله عنه، بعد أن طلب عرش ملكة سبأ فوجده بين يديه، جاء قوله. «هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ» كاشفا عن تلك الحقيقة من أمر النعم، وأنها قد تدعو من لا يحرص على مراقبة الله فيها. إلى الكفر والضلال.. وقد كان داود عليه السلام فى حراسة دائمة لنفسه. وفى مراجعة لكل ما يصدر عنه من أقوال وأفعال، وأنه كلما وجد من نفسه ما لا يرضاه فى صلته بربه، بادر بإصلاح ما كان منه، وصالح ربّه بالتوبة والاستغفار.. وفى هذا يقول سبحانه وتعالى عنه: «وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ» . - وقوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا» بيان لما أنعم الله به على عبده داود من فواضل إحسانه وكرمه.. وفى تقديم متعلق الفعل وهو الجار والمجرور «منّا» على المفعول به «فضلا» تعظيم للمنعم. وإشارة إلى علو المقام الذي جاء منه الإحسان، فيقطع العقل بأنه إحسان عظيم قبل أن يكشف عن الإحسان. - وقوله تعالى: «يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ» .. هو مقول لقول محذوف.. والتقدير فشكر لنا هذا الفضل، وسبح بحمدنا على هذا الإحسان، فقبلنا منه شكره وحمده، وقلنا «يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ» أي سبحى، وأعينيه على حمدنا وشكرنا، إذ كانت نعمنا عليه كثيرة، لا يستطيع أحد شكرها، مهما اجتهد فى الشكر، وبالغ فى الحمد.. فمن فضل الله على عباده أن يحسن إليهم، ومن تمام هذا الإحسان أن يعينهم على شكره، ومن مضاعفة العون أن يسخر غيرهم ليكونوا ألسنة من ألسنة الشكر لله معهم على ما أنعم الله عليهم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 784 فالجبال هنا مأمورة من الله سبحانه أن تسبّح مع داود، وأن تقوم إلى جانبه شاكرة لله، وكأنها من صنعة داود، وغرس يديه.. وهذا إحسان من الله على عبده داود، فوق إحسان، وفضل فوق فضل.. وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا» أي زيادة فى الإحسان، ومزيدا من النعم، يفضل بهما كثيرا ممن أنعمنا عليهم من عبادنا.. والتأويب: الترديد والترجيع، فهو من الأوب، والرجوع.. وتأويب الجبال مع داود، هو ترديد تسبيحه، فيكون ذلك أشبه بالصدى للصوت، حيث، يرجع الصوت فى هذا الصدى إلى مصدره الذي جاء منه. وقوله تعالى: «وَالطَّيْرَ» .. الواو هنا واو المعية، والطير مفعول معه.. والتقدير: وقلنا يا جبال أوّبى معه، مع الطير التي تسبح معه. وعلى هذا يكون الأمر من الله سبحانه وتعالى، متجها إلى الجبال، وإلى الطير، لتشارك داود التسبيح لله، ولتعينه على حمد الله وشكره.. واختيار الجبال، والطير، من بين الكائنات كلها، إنما هو- والله أعلم- لأن الجبال أبرز وجوه الأرض، فهى أشبه بالسلطان القائم عليها، والطيور هى ملوك السماء، وأبرز ما يحلّق فى أجوائها من ذوات الأجنحة، كالذباب، والبعوض، وغيره.. وقوله تعالى: «وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ» أي أخضعناه لسلطانه، وجعلنا له القدرة على التصرف فيه، وتشكيله على الوجه الذي يريد.. والذي يجمع عليه المفسرون، أن الله قد ألان الحديد ليد داود، وغيّر طبيعته، فجعله فى يده مثل العجين، يشكّله كيف يشاء، كما يشكل المرء صورة من الطين أو العجين.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 785 والرأى عندنا- والله أعلم- أن إلانة الحديد لداود، إنما كانت جارية على سنن الحياة، وأن الله سبحانه قد علّمه الأسلوب الذي يلين به الحديد، وهو عرضه على النار، والنفخ فى النار حتى يحمّر، ويقبل الطرق.. وذلك ما لم يكن معروفا للناس فى ذلك الزمن.. ولهذا كان داود أول من صنع من الحديد دروعا، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ» (80: الأنبياء) .. وبهذا يكون داود عليه السلام، أول من طرق الحديد، متوسلا إلى ذلك بما علمه الله، من عرض الحديد على النار، حتى يلين، ويقبل الطرق.. وقوله تعالى: «أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ» أي وأوحينا إليه أن عمل دروعا سابغات.. وقوله تعالى: «وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ» أي أحكم السرد، واضبطه.. وهذا توجيه من الله سبحانه وتعالى بإتقان العمل، وإحسانه، وضبطه على أحسن وجه له.. وقوله تعالى: «وَاعْمَلُوا صالِحاً» .. هو معطوف على قوله تعالى: «وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ» أي أحسن الصنعة وأحكمها.. وأحسنوا أيها الناس جميعا كلّ عمل تعملونه، وأخرجوه على الوجه المرضىّ.. فإن إحسان العمل مما يحسب فى الصالحات للإنسان.. فليس الإحسان فى العمل مطلوبا من الأنبياء وحدهم، وإنما هو مطلوب من كل إنسان.. «وَأَحْسِنُوا.. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» وقوله تعالى: «إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» - إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى مطلع على عمل كل عامل، وأنه سبحانه بصير بما يعمل العاملون، يكشف ما فى العمل من عيب أو عوج.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 786 ويجازى المحسن على إحسانه، والمسيء بإساءته.. «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» . قوله تعالى: «وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ» .. الآية معطوفة على قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا» أي: «ولقد آتينا داود منا فضلا، وسخرنا لسليمان الريح..» ! وقوله تعالى: «غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ» . الغدوّ: أول النهار، وفيه تغدو الكائنات إلى حيث تطلب رزقها وغذاءها.. والرواح: آخر النهار، حيث ترجع الكائنات الغادية، وتروح إلى مراحها الذي ترتاح فيه، بعد عمل يومها.. ومعنى غدوها شهر ورواحها شهر، أي أن مسيرة الريح المسخّرة لسليمان، فى غدوة، تقدّر بمسيرة شهر، سيرا على القدم، كما أن مراحها، ورجوعها من غدوتها، يعدل مسيرة شهر.. كذلك.. أما ما يذهب إليه أكثر المفسرين من أن الريح كانت تنطلق شهرا غادية، وشهرا رائحة، فى حدود مملكة سليمان- فهذا بعيد، لأن رقعة مملكة سليمان لم تكن تتجاوز حدود فلسطين، وهذه الرقعة هى التي يمكن أن تقطعها الريح فى غدوة أو روحة من نهار.. وأقرب شاهد لهذا ما جاء فى القرآن الكريم من أن سليمان لم يكن يعرف مملكة سبأ حتى أخبره الجزء: 11 ¦ الصفحة: 787 الهدهد بخبرها.. فلو كان ملك سليمان مما يتسع لجريان الريح شهرا فيه، لكان ذلك ملكا يسع معظم العالم كله، ولكانت سبأ داخلة فى سلطان هذا الملك، من باب أولى.. وقوله تعالى: «وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ» أي النحاس.. والنحاس أشد من الحديد إباء على النار.. فهو يحتاج فى صهره إلى قوة حرارية أكثر مما يحتاج إليه الحديد.. وإذا كان داود قد عرف كيف يليّن الحديد، فإن سنة التطور تقضى بأن يتعرف ابنه سليمان على القوة الحرارية التي يتمكن بها من إلانة النحاس وصهره..! والتعبير عن الحديد بالإلانة فى قوله تعالى: «وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ» ، وعن النحاس بالسيولة- فى قوله تعالى: «وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ» - إشارة إلى اختلاف طبيعتى كلّ من الحديد والنحاس، وأن الحد يمكن تشكيله بالطرق إذا سخن ولان.. أما النحاس، فلا ينتفع به حتى ينصهر، ويتحول إلى مادة أقرب ما تكون إلى السوائل.. وهذا ما نجده فى قوله تعالى على لسان ذى القرنين. «آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً» .. فالحديد هنا قد عرض على النار حتى احمر وصار أشبه بالجمر.. ثم جاء بالقطر- وهو النحاس الذائب- فأفرغه على هذا الحديد، وصبّه فوقه، كما يصب الماء على النار!! وعين القطر، هو الخالص منه.. فهو نحاس خالص، لم يختلط بشىء، مما يسمى «الشّبه» أي شبه النحاس.. وقوله تعالى: «وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ» أي وسخرنا له من الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه، ويستجيب لأمره من غير مراجعة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 788 والجنّ عالم غير مرئى، يعيش معنا على هذه الأرض، كما تعيش كثير من المخلوقات، غير المرئية، كالديدان فى باطن الأرض، وكأنواع كثيرة من الأسماك فى أعماق المحيطات.. وكوننا لا نرى هذه الكائنات، لا يدعونا الأمر إلى إنكارها، أو الشك فى وجودها.. وقد أخبر الله سبحانه وتعالى عن الجنّ، وأنزل سورة باسمهم، وقصّ علينا شأنا من شئونهم، وأعلمنا أن منهم المؤمنين، وأن منهم الفاسقين.. فيلزمنا التصديق بهم.. كما تحدث القرآن عنهم.. وقوله تعالى: «وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ» إشارة إلى أن سلطان الله سبحانه وتعالى قائم على هذه الكائنات، وأنه سبحانه قد سخّرها لتخدم عبدا من عباده، هو سليمان- عليه السلام- فهى واقعة تحت هذا الحكم، لا تخرج عنه. ومن خرج عنه منها، عذبه الله عذابا أليما.. وليس كل الجن سخّر لسليمان، وإنما بعض منهم، كما يفهم من قوله تعالى: «وَمِنَ الْجِنِّ» أي ومن بعض الجن.. قوله تعالى: «يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» .. أي أن هذه الجماعة من الجن، التي سخرها الله لسليمان، تعمل له ما يشاء: «من محاريب» أي بيوت عبادة، فالمحراب هو مكان العبادة، كما قال تعالى: «فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ» .. «وتماثيل» أي صور كائنات وأشياء مجسدة، يزين بها ما يبنى من دور وقصور، وبيوت عبادة، «وجفان كالجواب» الجفان جمع جفنة، وهى القصعة الكبيرة يوضع فيها الطعام للآكلين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 789 والجواب: جمع جابية وهى حوض كبير يجتمع فيه الماء، ومنه جبيت الخراج، أي جمعته، «وقدور راسيات» : القدور جمع قدر، وهو ما يطبخ فيه الطعام، وينضج على النار «وراسيات» أي ثابتات كالجبال، لا تنتقل لضخامتها. وفى وصف الجفان بهذه الضخامة والاتساع، ووصف القدور بهذه الأحجام العظيمة- دليل على سعة ملك سليمان، وما بسط الله له من رزق، حتى ليطعم على مائدته هذه الأعداد الكثيرة من الناس، التي أعدت لها تلك الأوانى والأدوات، لتهيئة الطعام لها.. وقوله تعالى: «اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً» .. أي اعملوا عملا، تقدمونه شكرا لله، بما أسبغ عليكم من نعم، وما أضفى عليكم من إحسان.. فالشكر المطلوب هنا من آل داود، هو شكر بالعمل، بعد شكرهم باللسان، كما جاء ذلك فى قوله تعالى: «يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ» .. وهذا ما يشير إلى أن هذه الجفان التي كالجواب، وتلك القدور الراسيات كالجبال، إنما كانت لإطعام الفقراء والمساكين، وأن قوله تعالى: «اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً» هو حثّ لهم على الاستزادة من هذا الإحسان، الذي قبله الله منهم، ورضيه لهم.. وقوله تعالى: «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» هو تحريض لآل داود على أن يستزيدوا من شكر الله بهذا الذي يعملونه، وأنه إذا كان فى الناس كثير من الشاكرين لله، فإن قليلا منهم من يستحق وصف الشكور.. فتلك منزلة عالية فى مقام الإحسان، وآل داود أولى بهم أن يبلغوها، ويصبحوا من أهلها. وهنا ملحظ لا بد منه، وهو أن الله سبحانه وتعالى قد كان من نعمه على سليمان أن سخر له الجن لتعمل له فيما تعمل- «تماثيل» منحوتة من صخر، أو منجورة من خشب، أو مصبوبة من حديد ونحاس.. وهذا يعنى أن صناعة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 790 التماثيل ليست مما يقع فى دائرة التحريم، أو الكراهية، وإلا لكان نبىّ الله سليمان أبعد الناس عن ملابسة هذه الصناعة، والانتفاع بها.. بقي بعد هذا أن نسأل: لماذا قامت هذه الجفوة بين المسلمين وبين ممارسة فنّ النحت، والتصوير، والرسم، وغيرها من الفنون الجميلة؟ ولا نجد لهذا الجفاء مستندا من كتاب الله، ولا من السنة الصحيحة.. بل إن عكس هذا هو الصحيح.. إذ كانت دعوة الإسلام دعوة تلتقى بالإنسان عن طريق عقله وقلبه، وتخاطبه فى مواجهة مدركاته، ومشاعره ووجداناته.. ودعوة على هذا الأساس لا يمكن أن تحجر على ملكات الإنسان، أو أن تكبت مشاعره، وتحول بينه وبين أي فن جميل يثير المدارك، ويغذى المشاعر والعواطف.. والذي يمكن أن يكون من الإسلام فى أول أمره، أنه لم يفتح صدره لفنّ النحت، ولم يفتح للناس طريقا إليه، خاصة وأن المجتمع الإسلامى يومئذ، كان خارجا من جاهلية اتخذت من النحت غاية لا تتجاوز صناعة الأصنام وعبادتها.. فكان من الحكمة أن تخفّ فى الإسلام موازين النحت، الذي لم يلد على يد المجتمع الجاهلى إلا هذا الإثم الذي عكفوا على عبادته.. وهذا الموقف يشبه موقف الإسلام من الشّعر، الذي كان يحمل قدرا كبيرا من الضلال والإفك.. وقد كان من الطبيعي أن يردّ إلى النحت والتصوير والرسم، وغيرها، اعتبارها، بعد أن ماتت فى النفوس عبادة الأصنام، واختفت شخوصها إلى الأبد.. ولكن الذي حدث، هو الإمعان فى الجفوة لهذه الفنون، لا لسبب إلا أنها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 791 لم تكن من مادة الحياة فى عصر النبوة أو فى عصر الخلفاء الراشدين.. وقد فات الذين ينظرون إلى هذه الفنون من خلال عصر النبوة، أن هذا العصر كان يعالج النفوس، والقلوب والعقول، من آفات كثيرة علقت بها، وأنه لم يعرض للجوانب السليمة المعافاة من الأدواء فى كيان الإنسان، بل تركها تجرى على طبيعتها، وبقدر ما تحمل من طاقات وملكات! قوله تعالى: «فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ» . تكشف هذه الآية عن حقيقة الجن، وتصحح تلك الصّور المشوهة التي وقعت فى أوهام الناس لهم، بنسبة الخوارق إليهم، وأنهم يقدرون على كل شىء قدرة مطلقة، وأنهم يعلمون الغيب، ولهذا يلجأ كثير من الناس إلى محاولة الاتصال بالجن، كما يفعل العرافون والسحرة وغيرهم، ففى قوله تعالى: «فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ» - إشارة إلى أن سليمان حين حان أجله، وقضى الله عليه الموت، أي أوجب عليه الموت حين جاء وقته، وكان سليمان حين مات، قائما بين الجنّ وهم بين يديه يعملون له- لم يعلموا بموته، وظلوا يعملون فيما أمرهم به.. ولم يدلّهم على أنه قد مات إلا دابة الأرض، التي كانت تأكل منسأته، أي عصاه التي كان يتكىء عليها.. فلما عبثت دابة الأرض بالعصا، زايلت موضعها، وسقطت على الأرض. وخر سليمان على الأرض كذلك.. وهنا علم الجن أن سليمان قد مات.. فأخلوا مكانهم، ومضوا إلى حيث يشاءون!! ولو كانوا يعلمون الغيب لعلموا أن سليمان قد مات، ولو كان بعيدا عنهم، فكيف وهو تحت سمعهم وبصرهم؟ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 792 إن الجن كائنات محدودة القدرة، واقعة فى قيد العجز عن كثير من الأمور، شأنها فى هذا شأن الإنسان.. الذي يقدر على القليل، ويعجز عن الكثير. وقد كثرت الأقوال فى دابة الأرض، وفى المدة التي قضتها حتى أكلت العصا، وأتت عليها.. والرأى الذي عليه المفسرون أنها الأرضة، وهى دودة تتسلط على الخشب، فتنخر فيه وتفسده، وتسمّى «السوس» .. وأنها ظلت تفعل هذا مدة طويلة، بلغ بها بعضهم سنة! والذي حمل المفسرين على القول بأن الدابة هى الأرض- هو- في ظننا- إضافة الدابة إلى الأرض.. أي أنها صغيرة ضئيلة، ملتصقة بالأرض.. كبعض الحشرات.. والرأى عندنا، أن الدابة، كل ما دبّ على الأرض.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها» فكل ما دبّ على الأرض، من إنسان وحيوان، فهو دابة، وكونها فى الأرض، أو على الأرض، لا يغير من الأمر شيئا، وأنه إذا كان لإضافتها إلى الأرض هنا شأن خاص، فهو- والله أعلم- المبالغة فى الإشارة إلى جهل الجنّ بعلم ما فى الغيب، وأن دابة من دوابّ الله فى الأرض، أعلم منهم، حيث دلتهم، وكشفت لهم عما عجزوا وهم عن كشفه، وهى مما على الأرض، فكيف بما فى السماء من عوالم المخلوقات؟ وليس ببعيد أن تكون الدابة التي كانت تأكل من عصا سليمان، شيئا أكبر من الأرضة، وليس ببعيد ألا تكون الدابة واحدة، بل أعدادا كثيرة من نوع هذه الدابة.. فإن اللفظ يحتمل هذا.. وعلى هذا، فالذى يمكن أن تفهم عليه دابة الأرض، هو أن تكون هذه الدابة حيوانا كبيرا مما يدب على الأرض، ويمكن أن يتناول العصا بفمه، ويحاول الأكل منها، كبعض الحيوانات آكلة العشب، مع احتمال أن تكون الجزء: 11 ¦ الصفحة: 793 عصا سليمان من بعض أغصان الزيتون الخضراء، التي لم تجفّ بعد.. فليس ببعيد- والأمر هكذا- أن تكون هناك شاة أو نحوها قد تمسّحت به، ومدت فمها إلى العصا، تريد الأكل منها، فوقعت العصا وخرّ سليمان إذ كان ميتا.. أما أن يظل سليمان هذا الزمن الطويل الذي يتجاوز الأيام إلى الأسابيع والشهور، وهو نائم، دون أن يفتقده أحد من رعيته، وأعوانه، ووزرائه، وقواده، فذلك ما لا يقبله العقل، وإن قيل أن جثته لم تتغير ولم تتحلّل خلال هذه المدة!! إنه من غير المعقول الذي يرتفع إلى درجة المستحيل، أن يغيب سليمان عن تدبير مملكته أياما، ثم لا يلتفت إليه أحد!! إن أي إنسان ذى شأن، لا يمكن أن تغفل عنه العيون يوما أو بعض يوم، فكيف بصاحب هذا السلطان العظيم؟ ويمكن كذلك أن تكون الأرضة قد كانت متسلطة على عصا سليمان، وهو لا يعلم، وأنه كان يحمل تلك العصا وقد عاث السوس فيها، حتى إذا كان متكئا عليها فى مجلس من مجالسه، لم تتحمل طول اتكائه عليها، فانكسرت به حين مات وثقل جسمه، كما هو الشأن فى كل ميت! والسؤال هنا: هل كان الجن لا يعلمون أنهم لا يعلمون الغيب حتى وقعت هذه الواقعة، وانكشف لهم منها أنهم معزولون عن علم الغيب؟ والجواب- والله أعلم- أنهم كانوا بما لهم قدرة على الحركة والانطلاق فى آفاق فسيحة، يظنون أنهم أقدر من الإنسان على النظر البعيد الذي يكشف ما سيأتى به الغد، بالنسبة للإنسان الذي لا يرى مثل هذه الرؤية البعيدة. فمثلا إنسان على طريق سفر يمكن أن تراه الجنّ، وتخبر عنه، وعن حاله على هذا الطريق، والحديث الذي يتحدث به، والأمتعة التي معه، وبعدكم من الزمن سيصل إلى المكان الذي يتحدث فيه أهله عنه.. كل هذه الأمور وكثير الجزء: 11 ¦ الصفحة: 794 غيرها يمكن أن يعلمها الجن، قبل أن يعملها الإنسان الذي فى الطرف الآخر من هذه الوقائع.. وهو فى الواقع ليس من علم الغيب، وإنما هو مشاهدة، حيث كان عن واقع محسوس يراه الجن رأى العين.. فهو حضور بالنسبة للجن، ولكنه غيب بالنسبة للإنسان البعيد عن موقع الحدث.. حيث يرى الجن- ولا نرى نحن البشر- ما وراء الأبواب المغلقة، أو الجدر القائمة، ونحوها.. وهذا غيب بالنسبة لنا، ولكنه حضور بالإضافة إلى الجن.. أما الغيب بالنسبة للجن، فهو الأحداث التي لم تولد بعد، ولم تخرج إلى عالم الشهود، كمقدّرات الله فى خلقه، وما يلقون على طريق حياتهم من خير أو شر.. كالعمر، والرزق والذرية، وغير ذلك مما هو مقدر على الإنسان.. ومثل الإنسان فى هذا سائر المخلوقات، وما قدّره الله لكل مخلوق.. فهذه المقدرات التي هى فى حالة كمون، لم تتحرك بعد إلى الظهور، لا يعلمها إلا علام الغيوب، وإلا من اصطفى من رسله، فأظهره على بعض ما انطوى فى صحف الغيب. وموت سليمان بالنسبة للجن هو غيب، إذ أن الروح التي كانت تلبس سليمان وتضفى عليه الحياة، هى سر من أسرار الله، وغيب من غيوبه، وأمر من أمره، لا يعلمه إلا هو، فلما زايلت مكانها من سليمان، لم يشعر الجن بها، ولم يعلموا من أمرها شيئا، وحسبوا سليمان- وهو ميت- أنه فى غفوة، أو فى سنة من النوم.. فلما سقطت العصا التي كان يتكىء عليها، وخرّ ميتا دون حراك، علم الجن أنه مات، وتبين لهم من ذلك أنهم لا يعلمون الغيب، ولو كانوا يعلمون الغيب لعلموا أمر الروح التي زايلت سليمان، ولعلموا أنه مات، ولما لبثوا فى قيد التسخير والعمل يوما أو بعض يوم.. إنه عذاب مهين لهم، وإذلال لسلطانهم، وقهر لجبروتهم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 795 الآيات: (15- 21) [سورة سبإ (34) : الآيات 15 الى 21] لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) التفسير بدأت السورة بحمد الله، الذي له ما فى السموات والأرض، ودعت الناس إلى حمده سبحانه، وقصر هذا الحمد عليه وحده، إذ كان- سبحانه- المتفرد بالخلق والإحسان.. وقد كشفت الآية فى هذا المقام عن الناس، فإذا هم فريقان، حامد مؤمن بالله واليوم الآخر، وجاحد بكفر بالله وبالبعث وبالحساب والجزاء.. ثم عرضت الآيات بعد هذا، صورة للحامدين الشاكرين المؤمنين بالله وباليوم الآخر، مع ابتلائهم بالنعم العظيمة، والسلطان العريض.. وذلك فيما كان من داود وابنه سليمان، عليهما السلام.. ففى ذلك آية لأولى الألباب.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 796 وفى هذه الآيات التي نحن بين يديها- عرض للجاحدين، الكافرين بالله واليوم الآخر، مع ابتلائهم بالنعم السابغة والخير الوفير.. وفى هذا آية أخرى.. لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.. وقوله تعالى: «لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ» - إشارة إلى هذه الجماعة التي كانت تسكن تلك البقعة، الخصيبة المعطاءة للخير.. وهى سبأ من أرض اليمن.. والمراد بسبأ هنا هم أهلها.. والمراد بمسكنهم، الحياة التي كانوا فيها.. و «آية» اسم كان، ولسبأ خبرها.. وقوله تعالى: «جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ» بدل من «آية» .. والتقدير: أنه كان لأهل سبأ آية، هى جنتان عن يمين وشمال.. وقد كان لهم فى هذه الآية منطلق إلى الإيمان بالله، والقيام بحمده وشكره.. ولكنهم لم ينتفعوا بهذه الآية، بل زادتهم كفرا وإلحادا، ومحادّة لله. والمراد باليمين والشمال: كثرة الخير من حولهم، حيث يملئون أيديهم منه، وحيث يتناولونه من قريب، إن أرادوه بيمينهم وجدوه، وإن أرادوه بشمالهم تناولوه، دون أن يجهدوا أنفسهم بالتحول من اليمين إلى الشمال، أو من الشمال إلى اليمين.. وهذا مثل قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ» (48: النحل) ومثل قوله سبحانه: «عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ» (37: المعارج) .. فالمراد بهذا كله الإحاطة من كل جانب.. وقوله تعالى: «كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ» أمر يراد به الإلفات إلى هذه النعم العظيمة التي أسبغها الله على القوم، وليس المراد به الأمر بالأكل على إطلاقه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 797 وقوله تعالى: «بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ» :.. المراد بالبلدة الطيبة كثرة خيرها، ووفرة عطائها.. فهم فيها فى نعم كثيرة، وخير موفور.. ومن تمام هذه النعم وذلك الخير، أن المتفضل بهذا كله هو «ربّ غفور» .. يتجاوز عن السيئات، ويقبل التائبين، ويعفو عنهم.. وبهذا تطيب النعمة، ويتّسع للإنسان مجال التمتع بها، على خلاف ما لو كان ربّ هذه النعم، يحاسب على الصغير والكبير، ويأخذ أصحابها بكل ما اقترفوا، فذلك مما يقيم الإنسان على حذر متصل وخوف دائم، فلا يهنؤه ما بين يديه من نعم! قوله تعالى: «فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ» أي أنهم أعرضوا عن أمر ربهم، بالأكل من هذا الرزق، والحياة مع هذه النعم، فى ظلّ من الإيمان بالله، والحمد له.. فتنكروا لهذه النعم، وجحدوا هذا الإحسان، ونسوا ربهم، ولم يرجوا له وقارا، ولم يعملوا له حسابا.. فكان أن أخذهم الله بما يأخذ به الظالمين، فأرسل عليهم سيلا عارما جارفا، أتى على جنتيهم، وأفسد كل صالحة فيها.. ثم أعقبهم جدبا وقحطا، فأمسك الماء عنهم، ونبت مكان هاتين الجنتين ما ينبت فى الأرض الجديب، من خسيس النبات والشجر، ومن ردىء الفاكهة والثمر.. وفى مقابلة الجنتين الطيبتين، بهذه الصورة الكئيبة لما تنبت الأرض، وفى وصف هذه الصورة بالجنّتين- ما يكشف عن مدى هذا التحول الذي أصاب القوم فى حياتهم، وعن الحسرة التي تملأ قلوبهم، حين ينظرون إلى جنتيهم الذاهبتين، ثم إلى هاتين الجنتين اللتين بين أيديهم.. فهذا هو ما يمكن أن يحصلوا عليه من جنات، إن كان يصحّ أن يكون ما فى أيديهم مما يطلق عليه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 798 هذا الاسم..!! إنه لا جنّة لهم غير هذا النبات الخسيس، الذي تعاف رعيه الأنعام! والمراد بالجنتين- هنا أو هناك- الامتداد والاتساع.. والخمط: الرديء من الثمر والأثل: شجر لا ثمر له.. والسّدر: شجر النّبق.. قوله تعالى: «ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ» .. «ذلك» إشارة إلى ما حلّ بالقوم من نكال وبلاء.. وهو مبتدأ، محذوف خبره، وتقديره: ذلك ما جزيناهم به.. وقوله تعالى: «جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا» بدل من هذا المحذوف المشار إليه، وعطف بيان له.. وقوله تعالى: «وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ» أي لم يكن جزاؤنا لهم إلا بسبب كفرهم بنعمتنا، فما تحل نقمتنا، إلا بمن يكفر بنا وبإحساننا.. «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» (53: الأنفال) والمجازاة غير الابتلاء.. فالمجازاة عقاب على ذنب اقترف، والابتلاه امتحان واختبار.. فقد يبتلى الله المحسنين بالضر، كما يبتلى المسيئين بالنفع.. ولهذا جاء التعبير القرآنى هنا: «وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ» أي لا نعاقب إلا من يستحق العقاب من أهل الكفر والضلال.. فلا اعتراض إذن لما يصاب به أهل الإحسان فى أموالهم أو أنفسهم، فذلك ابتلاء من الله لهم، وامتحان لإيمانهم، يزدادون به درجة فى مقام الإحسان، إذا هم صبروا على هذا الابتلاء.. وليس ذلك الابتلاء من باب المجازاة لهم على ذنب اقترفوه.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 799 قوله تعالى: «وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ.. سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ» .. الحديث فى هذه الآية عن أهل سبأ أيضا، وعما كان الله سبحانه وتعالى قد ألبسهم إياه من نعم.. فهو معطوف على قوله تعالى: «كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ» على تقدير قلنا لهم: كلوا من رزق ربكم واشكروا له.. أي قلنا لهم ذلك، وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة ... والقرى التي بارك الله فيها، هى قرى أرض الشام، التي كان يرحل إليها أهل سبأ، ويتجرون معها، وسميت قرى مباركة، لأنها فى الأرض المباركة، المقدسة، كما يقول الله تعالى على لسان موسى: «يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ» والقرى الظاهرة، التي كانت بينهم وبين القرى المباركة، هى ما كان يلقاهم على طريقهم من اليمن إلى الشام، من منازل، وقرى، حيث يجدون فيها الأمن والراحة.. وقوله تعالى «وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ» أي جعلناها صالحة للسير فيها، والتنقل بينها، كما فى قوله تعالى: «وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ» أي اضبطه، وأحكم أمره.. وقوله تعالى: «سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ» إشارة إلى هذه النعمة التي يجدها القوم على طريق تجارتهم إلى الشام، حيث يسيرون فى هذه القرى تلك المنازل ليالى وأياما، فى أمن وسلام، لا يعترضهم فى طريقهم ما يخيفهم، أو يفزعهم.. وهذه نعمة من النعم العظيمة، لا يدرك مداها إلا من عاش فى تلك المواطن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 800 فى هذه الأيام، حيث كان الانتقال من مكان إلى مكان، محفوفا بالمخاطر والأهوال، منذرا بالوبال والهلاك.. ولهذا امتن الله على قريش بأن آمنهم فى أسفارهم فى رحلتى الشتاء والصيف، فقال تعالى: «لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ» فماذا كان من القوم إزاء هذه النعمة أيضا؟ لقد كفروا بها، وتنكروا لها، كما كفروا وتنكروا للخصب والرخاء، والخبر الكثير الذي أخرجته أرضهم.. فقال تعالى على لسانهم: «فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» . لقد بطر القوم معيشتهم، فتنكبوا عن هذا الطريق الآمن المطمئن، والتمسوا طرقا أخرى إلى جهات بعيدة غير تلك الجهة التي ألفوها، وتبادلوا المنافع مع أهلها.. واستبدّ بهم الغرور، وأغراهم الطمع، فركبوا الأهوال ولمخاطر، لا لحاجة إلّا أن يرضوا هذا الغرور الذي ركبهم، إلا ليغذّوا مشاعر الاستعلاء التي استولت عليهم- فكان أن بدد الله شملهم، وبعثرهم فى الأرض، ومزقهم كل ممزق.. فأصبحوا أحاديث على ألسنة الناس، لما وقع بهم من بلاه، وما حل بديارهم من خراب.. وليس الذي ذهبنا إليه فى تأويل قوله تعالى: «فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا» من أنهم ركبوا الأهوال والمخاطر- ليس هذا بالذي يحظر على الناس أن تنزع بهم هممهم إلى أبعد مما هم فيه، وإلى أن يتقلبوا فى كل وجه من وجوه الحياة.. فهذا شىء، والذي كان من القوم شىء آخر.. إنهم خرجوا عماهم فيه بطرا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 801 واستعلاء، وكانوا أشبه بفرعون حين قال: «يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى» .. إنه يحارب بهذا البناء ربّ الأرباب، وهذا هو الذي جعل بناءه وبالا ونكالا عليه، ولو النمس من هذا البناء أن يرصد الكواكب والنجوم، مثلا أو أن يتخذه مسكنا له يشهد منه عظمة الله، ويرى منه فضل الله عليه- لكان ذلك عملا مبرورا مباركا.. وهؤلاء القوم، لو كان مقصدهم من الضرب فى وجه الأرض، السعى فى طلب الرزق، وإقامة حياة قائمة على العدل والإحسان، لبارك الله عليهم سعيهم، ولحمد مسيرتهم.. ولكنهم كانوا يركبون شيطانا مريدا، يدفع بهم دفعا إلى الكفر بالله، وإلى السعى فى الأرض فسادا. وليس بالذي يشفع لهم، هذا القول الذي استفتحوا به ما طلبوا، حين قالوا «ربنا» فهذا قولهم بألسنتهم، ولو كان لهذا القول مكان فى قلوبهم لكانوا مؤمنين بالله حقا، ولما كان منهم هذا الفساد، وهذا الضلال الذي هم فيه. ولقد قالها إبليس من قبلهم، وهو فى موقف التحدّى لله، والإصرار على الإثم العظيم، فقال: «رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ» وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فيهم: «وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» . فلقد انقادوا لإبليس، وأسلموا زمامهم له، وصدّق عليهم ظنه الذي ظنه فى أبناء آدم، حين قال: «رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ» (39- 40: الحجر) .. فلقد استجاب هؤلاء المغوون لإبليس، وصدّفوا ظنه فيهم.. إلا فريقا قليلا من المؤمنين منهم، الذين ثبتوا على إيمانهم، ولم يجد إبليس سبيلا يدخل على إيمانهم منه، بالغواية والإضلال.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 802 وقوله تعالى: «وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ» . أي أنه لم يكن لإبليس سلطان قاهر على هؤلاء الذين دعاهم فاستجابوا له، وقد كان أمرهم بأيديهم، إن شاءوا عصوه، وإن شاءوا اتبعوه.. وفى الفريق الذين عصوه، وثبتوا على إيمانهم، شاهد على هذا.. إن إبليس وما معه من مغريات ومغويات، ليس إلا بعض ما يبتلى الله به عباده من نقم.. ثم إن للناس- مع هذا- شأنهم فيما ابتلوا به.. وفى هذا الابتلاء تنكشف أحوال الناس، ويميز الله الخبيث من الطيب.. ثم إنه- بعد هذا كله، وقبل هذا كله- لا يقع شىء إلا بإرادة الله سبحانه وتعالى، وما قضى به فى خلقه «وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ» فكل شىء بيده وتحت سلطانه.. لا يملك أحد معه من الأمر شيئا. والمراد بعلم الله هنا، هو علم ما وقع بعد أن يقع، وهو سبحانه، عالم به أزلا، ولكن لا يحاسب عليه إلا بعد أن يقع، ويصبح من كسب العباد.. واختصاص العلم هنا بالإيمان بالآخرة، أو الشك فيها، لأن الإيمان بالآخرة، وبالبعث والحساب والجزاء، هو ملاك الإيمان بالله، وبآيات الله، ويرسل الله.. فليس مؤمنا بالله، ولا بآيات الله ولا يرسل الله، إلا من كان مؤمنا باليوم الآخر.. الآيات: (22- 30) [سورة سبإ (34) : الآيات 22 الى 30] قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30) الجزء: 11 ¦ الصفحة: 803 التفسير فى هذه الآيات، التفات إلى هؤلاء المشركين، وكشف لهم عما هم فيه من ضلال، بعد أن تحدّثت إليهم الآيات السابقة عن مواقف الناس من الإيمان بالله.. فأرتهم فى داود وسليمان، صورة من صور الإيمان الوثيق، الذي لم تفسده نعم الله، ولم تغير من مكانه فى قلوب أهله.. كما أرتهم فى أهل سبأ، كفرهم بالله، ومحادتهم له، بما مكن الله لهم فى الأرض، وبما وسّع لهم فى الرزق.. وهؤلاء المشركون من أهل مكة، هم أشبه الناس حالا بأهل سبأ.. لقد أقامهم الله فى مكان أمين، وسط هذه الحياة المضطربة من حولهم، كما يقول سبحانه وتعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ» (67: العنكبوت) وكما يقول سبحانه: «وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 804 نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ» (57: القصص) .. إنهم إذ ينظرون إلى أهل سبأ، وإلى ما حلّ بهم، وإلى هذا الخراب الشامل الذي يطلّ عليهم من مساكنهم التي يمرون بها فى رحلة الشتاء- ليجدون فى هذا الحديث إشارة إليهم، وتعريضا بهم، وتهديدا لهم، أن يحلّ بهم ما حل بإخوان لهم من قبل.. ولهذا جاءت آيات الله، تلقاهم، وهم متلبسون بتلك المشاعر، التي دخلت عليهم من هذا الحديث عن سبأ وأهلها.. وفى قوله تعالى: «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ.. لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ» .. فى هذا استدعاء للمشركين- وهم مشغولون بآلهتهم تلك عن الله- أن يستعينوا بمعبوداتهم هذه، وأن يستنجدوا بها، لتدفع عنهم بأس الله الذي يوشك أن يحلّ بهم، كما حل بأهل سبأ.. وها هم أولاء، ينظرون إلى معبوداتهم نظرا مجدّدا، إثر هذه الدعوة.. فماذا رأو منهما؟ إنهم لم يجدوا إلا أشباحا هامدة لا يجىء منها شىء أبدا.. من خير أو شر. «لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ» . هذا ما ينطق به الواقع، وما يتحدث به إليهم لسان الحال عن آلهتهم.. «وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ» .. أي أنه ليس لهذه الآلهة ملك خالص مما فى السموات والأرض، ولو كان مثقال ذرة، كما أنه ليس لهم- ولو على سبيل الشركة- ما يعدل مثقال ذرة أيضا! وكما أنهم لا يملكون شيئا مما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 805 فى السموات والأرض ملكا خالصا، أو مشتركا، فكذلك لا يستعان بهم فى القيام على أي أمر، مما يقضى به الله فى السموات والأرض. «وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ» .. والظهير: هو المعين الذي يسند ظهر من يستعين به.. فهم ليسوا شركاء لله، ولا أعوانا له، وإنما هم عبيد مسخرون لجلاله وقدرته.. فهؤلاء الآلهة معزولون عزلا مطلقا، عن كل شىء فى هذا الوجود.. لا ملك لهم فيه، ولو كان مثقال ذرة، ولا تصريف لهم فيما لا يملكون، على أي وجه من الوجوه.. قوله تعالى: «وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ.. حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» .. وقد يكون الإنسان ولا يملك شيئا، ولا يتصرف فى شىء، ثم يكون له مع هذا رجاء مقبول، أو شفاعة مستجابة، عند صاحب الملك. ولكن هؤلاء الآلهة لا يملكون شيئا، ولا يستعان بهم فى تصريف شىء، ولا يقبل منهم شفاعة فى أحد.. فماذا يرجى منهم؟ وبأى متعلق يتعلّق المشركون به منهم؟ إنه السفه، والضلال، والخسران المبين!!. ومعنى نفع الشفاعة هنا، قبولها، والإذن لصاحبها بها.. وقوله تعالى: «حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» . التفزيع عن القلوب، إزالة الفزع عنها، فهو تفزيع لهذا الفزع، وإجلاؤه من مكانه.. والذين فزع عن قلوبهم الفزع هم- والله أعلم- أصحاب الجنة، حيث يدفع الله عنهم الفزع الأكبر الذي يغشى الناس يوم القيامة، وهم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 806 الذين أذن لهم بالشفاعة من الله يوم القيامة، وقد عاد الضمير على الاسم الموصول جمعا، بعد أن عاد عليه مفردا، وذلك لأن الإذن بالشفاعة يكون لكل من يؤذن له على حدة.. ثم يتعدد أفراد المأذون لهم، فيكونون جمعا.. فهم أفراد فى أخذ الإذن، وجمع فى العدد المأذون له.. والمأذون لهم بالشفاعة، هم الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- فقد أكرمهم الله بقبول الشفاعة فيمن ارتضى الله لهم الشفاعة فيه من أقوامهم، كما يقول سبحانه: «عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ» (26- 28: الأنبياء) . ومعنى الآية الكريمة: أن شفاعة المكرمين من عباد الله فيمن ارتضى شفاعتهم له، لا ينالها المشفوع لهم إلا بعد أن يتلقى هؤلاء الشفعاء الكرامة من ربهم، ويخلع عليهم الأمن فى هذا اليوم، ويدفع الفزع عن قلوبهم.. فهو يوم عظيم، تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها.. وهذا هو السر- والله أعلم- فى الحرف «حتى» الذي يشير إلى غاية بعده، هى الغاية لابتداء قبلها.. أي أن أهل المحشر يظلون موقوفين، حتى يخلص إليهم الرسل، وهنا يسأل كل رسول قومه: «ماذا قالَ رَبُّكُمْ؟» فيقولون جميعا: من مؤمنين وكافرين: «قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» .. ففى هذا اليوم ينكشف وجه الحق، ويرى أهل الضلال أنهم كانوا على غير طريق الهدى، وأن ما كانوا فيه هو الباطل، وأن ما كان يدعوهم إليه رسلهم هو الحق.. هذا، ويمكن أن يكون للآية الكريمة مفهوم آخر.. وهو أن الضمير فى قوله تعالى: «حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ» يعود على المشركين، المخاطبين الجزء: 11 ¦ الصفحة: 807 فى الآية، فى قوله تعالى: «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ» .. أي أن المشركين حين سمعوا هذا القول، وما وصفت به آلهتهم من أنها لا تملك مثقال ذرّة فى السموات ولا فى الأرض، وليس لهم فيهما شرك، ولا تصريف، كما أنهم لا يملكون لهم شفاعة، كما كانوا يظنون ويقولون فيهم: «هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» - حين سمعوا هذا، فزعوا له، وهالهم الأمر، وركبتهم حال من الاضطراب والخوف من أن يصيبهم شىء من آلهتهم وقد استمعوا إلى هذا الحديث فيهم، حتى لقد عجزت ألسنتهم عن أن تنطق بشىء.. ثم ظلوا هكذا- لا ينطقون.. حتى إذا زايلتهم تلك الحالة، وفزع عنهم الفزع، بوارد من واردات الحميّة.. نطقوا، وقالوا للنبىّ، وللمؤمنين، ردّا على هذا القول الذي سمعوه، وإنكارا له، وتجاهلا لما سمعوه: «ماذا قالَ رَبُّكُمْ؟» .. وكان جواب النبىّ والمؤمنين بلسان الحال، أو المقال، أو هما معا: «قالُوا الْحَقَّ.. وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ» .. فهذا هو قول ربّنا، وهذا هو ربّنا الذي نعبده. وهذا الفهم هو أقرب عندنا، إلى القلب، وأرضى للنفس.. والله أعلم.. قوله تعالى: «قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» سؤال آخر للمشركين، يوازنون فيه بين العلىّ الكبير، الذي يؤمن به المؤمنون، وبين آلهتهم التي أقاموها حجازا بينهم وبين الله، حتى لقد عموا عن النظر إليه، وحتى لقد أبت عليهم ألسنتهم أن ينطقوا به، وأن يضيفوا أنفسهم إليه، فقالوا للنبىّ والمؤمنين: «ماذا قال ربكم؟» ولم يقولوا ربّنا.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 808 وفى هذا السؤال: يطالب المشركون بالكشف عمن يرزقهم، مما ينزل من السماء من ماء، وما يخرج من الأرض من نبات؟ أو من يرزقهم من أهل السموات من ملائكة، أو من أهل الأرض من آدميين وأشباههم؟ ولا جواب إلا هذا الجواب: «الله» .. فهو وحده المالك لكل شىء، المتصرف فى كل شىء، لا يملك أحد معه مثقال ذرة فى السموات أو فى الأرض.. وفى النطق عنهم بالجواب، إلزام لهم به طائعين أو مكرهين.. لأنه لا جواب غيره.. قبلوه، أو ردّوه.. وقوله تعالى: «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» إشارة إلى أن الأمر- أىّ أمر- لا يعدو أن يكون حقّا أو باطلا، هدى أو ضلالا.. وقد قال النبىّ والمؤمنون معه، قولهم فى الله، وقال المشركون قولهم.. وإذا كان كلّ على طريق، فإن المقطوع به أن يكون أحد الفريقين على طريق الهدى، والآخر على طريق الضلال.. ولا يجتمعان.. وأصل النظم هكذا: «نحن أو أنتم على هدى.. ونحن أو أنتم فى ضلال مبين» .. أي أنه إذا نظر إلينا على طريق الحق لم يكن فيه إلا أحدنا، وإذا نظر إلينا على طريق الباطل، لم يكن فيه إلا أحدنا.. كذلك.. فريقان مختلفان.. مهتدون، وضالون.. وطريقان مختلفان.. هدى، وضلال.. وأهل الهدى على طريق الهدى، وأهل الضلال على طريق الضلال.. أما أين طريق الهدى ومن هم أهله؟ وأين طريق الضلال ومن هم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 809 أصحابه؟ فتلك هى القضية، والحكم فيها لا يحتاج إلّا إلى نظرة هنا، ونظرة هناك، وعندئذ يتبين الرشد من الغىّ، والضلال من الهدى! قوله تعالى: «قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ» . أي أن كلّ إنسان يحمل مسئوليته، وعليه أن يتحرّى الخير لنفسه، ويطلب لها السلامة والنجاة.. فلا يسأل إنسان عن جناية إنسان، ولا يحمل عنه وزره.. بل كل إنسان وما حمل.. «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» (18: فاطر) .. وفى التعبير عن جانب النبي والمؤمنين بقولهم: «أَجْرَمْنا» وعن جانب المشركين بالعمل: «تعملون» وكان مقتضى النظم أن يجىء «أجرمتم أو تجرمون، بدلا من تعملون، أو أن يجىء: عملنا أو نعمل، بدلا من أجرمنا- فى هذا التعبير القرآنى محاسنة للمشركين، ورفق بهم، وإطفاء لحمية الجاهلية التي تعمّى عليهم السبيل إلى الهدى، وهذا هو الأسلوب الحكيم فى مخاطبة الجاهلين، وهو أسلوب الدعوة الإسلامية والصميم من رسالة رسولها.. كما يقول سبحانه وتعالى لنبيه الكريم: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (125: النحل) .. قوله تعالى: «قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ» . وإذ عجز المشركون عن أن يتبينوا من المحقّ ومن المبطل، ومن هم أهل الهدى ومن هم أصحاب الضلال، فى هذه الخصومة فى الله، القائمة بينهم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 810 وبين النبىّ وأصحابه- إذ عجزوا عن أن يحكموا فى هذه القضية فى الدنيا، فإن القضية ستحال إلى الآخرة، وسيفصل فيها أحكم الحاكمين، يوم يجمع الله الناس جميعا.. «قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا» يوم القيامة «ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ» أي يحكم بيننا بالحق.. «وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ» أي الحكم العدل، الذي يحكم عن علم محيط بكل شىء. قوله تعالى: «قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ.. كَلَّا.. بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» بعد هذه الدعوة الحكيمة الرفيقة، التي لانت- أو ينبغى أن تلين لها- القلوب من المشركين- كانت المواجهة مرة أخرى بين المشركين ومعبوداتهم، ليعيدوا النظر إليها، بعد هذا البيان المبين من آيات الله.. وقوله تعالى: «أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ» أي أين هم هؤلاء الذين تعبدونهم من دون الله؟. وماذا ترون فيهم إذا نظرتم إليهم؟ أترون غير خشب مسندة، وأحجار منصوبة؟ أهذه الدمى يصح أن تلحق بالله، وتضاف إليه، وتحسب شركاء له؟ «كلا» فما يقبل هذا منطق، ولا يستسيغه عقل.. «بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» الذي عزّ فحكم، فلا يشاركه أحد فى ملكه، ولا يدخل معه أحد فى تدبيره.. هذا هو الإله الذي يجب أن يعبد.. أما من لا يستقلّ بسلطان هذا الوجود، ولا بالقيام عليه، فلا يصح أن يكون إلها.. فكيف بمن لا يملك مثقال ذرة؟ وكيف بمن كان دمية، لا تدفع عن نفسها لطمة يد، أو ركلة رجل؟. لقد رأى بعض الأعراب ربّا من هذه الأرباب، وقد وقعت الطير على رأسه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 811 وتركت آثارها فوقه! ثم نظر فرأى الثعالب قد مرت به، وبالت عليه!! فلم يكن من هذا الأعرابى إلا أن ركل هذا الربّ برجله، ثم داسه بقدميه، وبصق عليه، وولاه ظهره، منصرفا عنه وهو يقول: أربّ يبول الثّعلبان بوجهه ... لقد ذلّ من بالت عليه الثعالب [الرسول وعموم رسالته] قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» . هذه الآية، هى تزكية من الله سبحانه وتعالى لنبيه الكريم، الذي أمره أن يقف من المشركين هذا الموقف، ويكشف لهم عن ضلالهم، ويزيل الغشاوة التي انعقدت على أبصارهم، فلم يتبينوا طريق الهدى.. وفى قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ» بيان لهذا المقام العظيم، الذي لرسول الله عند ربه، وهو مقام لا يطاول، ومنزلة لا تنال.. قد انفرد بها- صلوات الله وسلامه عليه- من بين رسل الله وأنبيائه جميعا.. فهو- صلوات الله وسلامه عليه- رسول الإنسانية كلها، والشمس التي تملأ آفاقها، وتدخل كل مكان فيها.. ولهذا وصفه الله سبحانه وتعالى بالسراج المنير، فقال تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً» (45- 46: الأحزاب) . والسّراج المنير، هو الشمس، كما يقول الله تعالى: «تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً» (61: الفرقان) .. وقد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 812 وصف الله سبحانه الشمس بأنها سراج وهاج، فقال تعالى: «وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً» (12- 13: النبأ) . وفى وصف الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- بالسراج المنير، دون السراج الوهاج، إشارة إلى أمرين: أولهما: أنه صلوات الله وسلامه عليه، كالشمس فى علوّ منزلتها، وفى بسط سلطانها على الأرض كلها، فلا تغرب عنها أبدا، ولا يزايلها ضوؤها أبدا، بل إن هذا الضوء ليغمر نصف الأرض فى كل لحظة من لحظات الزمن.. وهذا يعنى أن رسالة «محمد» - صلوات الله وسلامه عليه- ستبسط سلطانها على هذه الأرض، وأنها لن تزايلها أبدا، وأن أية رقعة منها لا تخلو من شعاعة من شعاعاتها.. وثانيهما: أنّ الشمس المحمدية، شمس، وقمر معا.. الشمس فى يمينه، وهى كتاب الله وآياته، والقمر فى شماله، وهو السنة المطهرة، المستمدة من كتاب الله، والمستنيرة من أضوائه.. وعموم رسالة محمد صلوات الله وسلامه عليه، مقررة فى كتاب الله، فى أكثر من موضع، فيقول سبحانه وتعالى «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» (107: الأنبياء) . ويقول سبحانه: «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً» (158: الأعراف) . فالذين يمارون فى عموم الرسالة المحمدية، أو يقفون بها عند مجتمع من المجتمعات، أو أمّة من الأمم، إنما يتأولون آيات الله على غير وجهها، ويخرجون بالكلمات الواضحة الصريحة عن مفهومها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 813 وإذا لم تكن الرسالة المحمدية رسالة الإنسانية كلها، لم يكن ثمّة معنى لأن تكون خاتمة الرسالات، وأن يكون رسولها خاتم الرسل.. إن الرسالة الإسلامية، هى الكلمة الأخيرة.. الكلمة الحاسمة فيما بين السماء والأرض، فليس بعدها كلام.. إنها الخاتمة. وصاحب الرسالة، هو خاتم النبيين.. ليس بعده نبى، ولا وراءه بشير ولا نذير من ربّ العالمين.. وإذا كان ذلك كذلك، فإن لنا أن نقول: إن «محمدا» هو منتخب الإنسانية كلها، وهو مجتمع كمالاتها، فى أرفع درجاتها، وأعلى منازلها.. ذلك، لأنه- صلوات الله وسلامه عليه- جاء إلى الإنسانية حين بلغت رشدها، وحين أراد الله سبحانه وتعالى لها أن تستقلّ بوجودها، وأن تستقيم على الطريق الذي يمليه عليها تفكيرها.. إن الإنسانية- وقت البعثة المحمدية- كانت قد جاوزت طور الصبا، وبلغت أشدها ورشدها، وأصبحت بهذا جديرة بأن تستقل بنفسها، وأن تستهدى بما أودع الله تعالى فيها من عقل، وبما حملت إليها السماء من وصايا. كانت رسالات الرسل- عليهم السلام- قبل البعثة المحمدية، رسالات «محلية» أشبه بالوصاية على الصغار.. يظهر الرسول فى جماعة من الجماعات، أو بيت من البيوت، يقيم لهم وجودهم المعوج، ويضىء لهم طريقهم المظلم، ثم لا يلبث أن يخلفه عليهم رسول، يخلفه رسول.. وهكذا.. حتى إذا بلغ الكتاب أجله، وأراد الله سبحانه للناس أن يستقلوا بوجودهم، وأن يفكروا لأنفسهم بأنفسهم، بعد أن بلغوا رشدهم، وأصبحوا فى عداد الرجال- جاءت الجزء: 11 ¦ الصفحة: 814 رسالة الإسلام، يحملها رسولها الأمين.. محمد بن عبد الله.. رسول الله، وخاتم النبيين.. ومن هنا ندرك السر فى أن الرسالة الإسلامية، كانت رسالة «عقلية» تخاطب العقل، وتجىء لإقناعه عن طريق الحجة القائمة على البراهين الاستدلالية، التي يستقيم عليها تفكير الناس جميعا.. عامتهم وخاصتهم على السواء.. إن الرسالة الإسلامية، لم تستند إلى معجزة قاهرة، تطغى على عقول الناس، وتغتال تفكيرهم، وتشل إرادتهم، وتضعهم أمام أمر ملزم لا فكاك لهم منه.. فماذا يفعل العقل إزاء عصا موسى- عليه السلام- وهو يضرب بها البحر، فتنشق من بطنه طريق يبس؟ أو ماذا يقول العقل إزاء هذه العصا حين يضرب بها الحجر- أىّ حجر- فتسيل منه عيون الماء، وتتفجر ينابيعه؟ وماذا يقول العقل فى كلمة عيسى عليه السلام، حين ينطق بها، آمرا الأكمه، أن يبرأ، فيبرأ، وداعيا الأبرص، أن يذهب عنه البرص، فيذهب؟ بل ماذا يقول العقل فى تلك الكلمة تخرج من فم عيسى فيحيى بها الموتى؟ إنه لا مكان للعقل هنا.. إنه لا مفر له من أن يستسلم ويذعن، إن كان قد بقي معه شىء من الوعى، أو أن يعيش فى اضطراب وذهول، ووجوم!! أما الرسالة الإسلامية، فقد استندت فى محاجتها العقل، وفى إقناعه- إلى الكلمة وما فيها من عقل ومنطق..! فلم تطلب إلى الناس أكثر من أن يفكروا فى أنفسهم وبأنفسهم، وأن يستخدموا عقولهم المعطلة، وأن يوجهوا حواسهم إلى هذا الوجود، وأن ينظروا فيما خلق الله فى السموات والأرض.. ثم أن يتقبلوا- فى غير عناد- ما ينكشف لهم من آيات الله، ودلائل قدرته وعظمته.. فإنهم إن فعلوا، فقد أدوا الأمانة التي حملوها، وهى التفكير، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 815 واستخدام العقل الذي أودعه الله فيهم! وفى هذا يقول الله تعالى لنبيّه الكريم: «قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ.. أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا» (46: سبأ) .. هذا هو عنوان الرسالة الإسلامية، وهذا هو ملاك أمرها.. استخدام العقل، واحترام معطياته، وذلك بالتفكير الفردى، والجماعىّ معا، تفكيرا حرّا مطلقا من كل قيد، محررا من كل تلقيات سابقة!. فالعقل فى مواجهة الرسالة الإسلامية، محمول على أن يفكّر، وأن يتحرك فى جميع مجالاته، غير مقيّد بشىء، أو مشدود إلى شىء.. إن الرسالة الإسلامية لتغرى العقل إغراء على التفكير، بما تنادى به من دعوات عالية، إلى إيقاظ العقل، وبما تقدّم إليه من صور، وما تفتح له من مجالات، تدعو أكثر الناس بلادة وغباء إلى استخدام عقولهم، واستدعاء تفكيرهم: «أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ.. كَيْفَ خُلِقَتْ؟ وَإِلَى السَّماءِ.. كَيْفَ رُفِعَتْ؟ وَإِلَى الْجِبالِ.. كَيْفَ نُصِبَتْ؟ وَإِلَى الْأَرْضِ.. كَيْفَ سُطِحَتْ؟» (17- 20: الغاشية) .. «أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ؟ وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ! تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ! وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ! رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً.. كَذلِكَ الْخُرُوجُ» (6- 11: ق) إنها دعوة إلى سياحة روحية، وعقلية، وجسدية، فى رحاب هذا الوجود، وفى استجلاء محاسنه، وملء العين والقلب من روائعه ومفاتنه. وإنه بحسب المرء أن يصحب معه عقله فى هذه السياحة، فيهتدى إلى الحقّ، ويلتقى على طريق سواء مع محامل الدعوة الإسلامية، من عقيدة وشريعة.. فإن العقل بطبيعته- إذا خلا من آفات العناد والاستكبار- ينشد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 816 الحق، ويهتدى إليه، لأنه شرارة من نور الحق، وقبس من أقباسه!. ذلك، على حين كان العقل قبل الرسالة الإسلامية بمغزل عن معجزات الرسل، وبمنقطع عنها، لأنها لا تستقيم على منطق العقل، ولا تدخل فى مجال التفكير، إنها أمور خارقة للعادة، لا تقع إلا على يد رسول مؤيد من عند الله، فيقع بها الإعجاز القاهر، ويقوم بها التسليم القائم على الدّهش والحيرة، والعجز. وذلك الذي صنعته السماء، فى التدرج فى الدعوة إلى الله، هو الأسلوب الحكيم فى التربية.. فالصغير لا يحتمل عقله أحكام المنطق، ولا يخضع تفكيره لمعطيات ما بين الأسباب والمسببات من ارتباط.. وإنه لمن الخطأ وسوء التقدير، بل ومن القسوة عليه، أن يؤخذ بمنطق العقل، ويحمل على أحكامه، على حين أن الذي يصلحه ويصلح له، هو أن يخاطب بلغة الحسّ، وبمنطق المادة.. فإذا نما عقله شيئا، كان من التدبير الحكيم أن يخاطب بأسلوب المنطق العقلي والحسّى معا، وأن يزاوج له بينهما، بنسب تكثر فيها العناصر العقلية شيئا فشيئا، كلما نما عقله، واتسعت مداركه، حتى إذا بلغ مبلغ النضج والرشد، أمكن أن يكون عقله هو موضع الاعتبار فى مخاطبته ومحاسبته.. والإنسانية- فى تقديرنا- بدأت وجودها كما يبدأ كل كائن حى وجوده.. نبتة صغيرة، ثم شجيرة لا زهر فيها، ثم شجرة مزهرة.. ثم شجرة مزهرة مثمرة! وشواهد التاريخ تؤيد هذا وتشهد له. والإنسانية فى زمن البعثة المحمدية كانت- كما قلنا- فى آخر مرحلة من مراحل سيرها نحو النضج العقلي، والكمال الإنسانى.. كانت بمثابة طفل درج فى مدارج الحياة حتى بلغ مبلغ الرجال.. وكان عليه بعد هذا أن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 817 يستوفى حظه من الحياة، وأن يأخذ مكانه فيها، غير مستند إلى شىء غير ذاته.. ودع عنك ما يقال من أن الإنسانية كانت قد ارتكست وردّت على أعقابها زمن البعثة المحمدية، وأن الشرّ كان قد استشرى بالناس، وأن الظلام قد أطبق عليهم، ولفّهم فى قطع كثيفة من الجهل والضلال، وأن معالم الحضارات التي أقامتها الإنسانية فى وادي النيل على يد الفراعنة، وفى بابل وآشور على يد الكنعانيين والآشوريين، قد ذهبت معالمها، وضلّت فى ظلمات الجهل شواهدها، ومحيت آياتها.. وأن لمعات العقل اليوناني التي سطعت فى العالم القديم قد ذهب الزمن بها، وعقمت الحياة عن أن تلد سقراط، وأفلاطون، وأرسطو.. مرة أخرى.. دع عنك كل هذا، فالدنيا بخير، والحياة ولود، لا يصيبها العقم أبدا، وهى سائرة إلى الأمام، لا ترجع إلى الوراء بحال.. إنها سنّة التطور والارتقاء.. سنة الله فى خلقه، ولن تجد لسنّة الله تبديلا. ولا نريد أن نقف طويلا هنا، ولا أن نضرب الأمثال والشواهد لهذا. وحسبنا أن نقول إن القرون الطويلة التي عاشتها الإنسانية، والتي تقدر بعشرات الألوف أو مئاتها من السنين- لم تمكّن لها قبل عصرنا هذا من أن تستخدم قوة البخار والكهرباء، ولم تفتح لها الطريق إلى تحطيم الذرّة، وإلى بناء المراكب الكونية، الكوكبية التي تدور فى فلك الشمس كما تدور الأقمار حولها.. بل وأكثر من هذا.. فإننا ونحن نكتب هذا الكلام يطلع علينا حدث عجب لم يكن يقع إلا فى الأحلام والخيالات، وهو وصول الإنسان إلى القمر، ووضع أقدامه عليه، يمشى فوق أديمه، ويتنقل بين ربوعه..! الجزء: 11 ¦ الصفحة: 818 إن هذه الفتوحات العظيمة التي حققها العقل الإنسانى فى هذا العصر لهى الشهادة التي لا ترد، على أن الحياة الإنسانية تتجه دائما نحو الأمام، وأنها تضيف كل يوم معارف جديدة إلى معارفها السابقة، وأن رصيدها من المعرفة، يزداد مع الأيام، يوما بعد يوم! فإذا قلنا إن عصر النبوة المحمدية، كان هو العصر الذي بلغت فيه الإنسانية رشدها، وتخطت فيه مرحلة الطفولة والصبا، كان لقولنا هذا مستند من واقع عصرنا هذا الذي يعدّ امتدادا لعصر النبوة.. فإن أربعة عشر قرنا منذ البعثة المحمدية إلى يومنا هذا، لا تعدّ فى عمر الإنسانية إلا يوما من أيام حياتها، وإلا مرحلة أو بعض مرحلة من مراحل وجودها.. يتحدث الجاحظ فى رسالة «حجج النبوة» عن طبيعة الرسالة المحمدية، وأنها تتجه إلى مجتمع إنسانى يأخذ الأمور بمعيار العقل، وينظر فى أعقابها وما تؤول إليه.. فيقول: «وكذلك وعيد «محمد» بنار الأبد، كوعيد موسى بنى إسرائيل بإلقاء الهلّاس على زرعهم، والهمّ على أفئدتهم، وتسليط الموتان على ماشيتهم وبإخراجهم من ديارهم، وأن يظفر بهم عدوّهم. «فكان تعجيل العذاب الأدنى- أي القريب- فى استدعائهم واستحالتهم، وردعهم على ما يريد بهم، وتعديل طباعهم- كتأخير العذاب الشديد على غيرهم.. لأن الشديد المؤخّر- من العذاب- لا يزجر إلا أصحاب النظر فى العواقب، وأصحاب العقول التي تذهب فى المذاهب» .. اه.. ويريد الجاحظ أن يقول: إن دعوة محمد كانت إلى مجتمع عاقل، مدرك، ينظر فى عواقب الأمور، كما ينظر العقلاء الراشدون، وليست الجزء: 11 ¦ الصفحة: 819 كذلك دعوة موسى، التي تتعامل مع مجتمع كان فى دور الطفولة والصبا، لا يأخذ من الأمور إلا جانبها الواقعي المعجل!!. وننتهى من هذه الحقيقة إلى حقيقة أخرى، وهى أن «النبىّ» الذي يجىء إلى الإنسانية فى هذا الطور من حياتها، ينبغى أن يكون أكمل الأنبياء، لأنه على قمة الإنسانية فى طورها الذي بلغت فيه رشدها، إذ كان النبىّ فى كل عصر، فى كل أمة، هو ممثل الإنسانية فى هذا العصر، وفى تلك الأمة، وهو خلاصة كل طيب وكريم ونبيل فيها.. وفى هذا يقول النبىّ صلوات الله وسلامه عليه «بعثت من خير قرون بنى آدم، قرنا فقرنا، حتى كنت من القرن الذي كنت فيه» ؟ وعلى هذا، فإنه إذا كانت دعوات الأنبياء رحمات وبركات على الناس فى أجيالهم وأوطانهم- فإن رسالة «محمد» صلوات الله وسلامه عليه رحمة عامة، وبركة شاملة للناس جميعا.. من كل أمة، ومن كل جنس، على مدى الأيام والدهور.. وإنها رسالة لا تخصّ أمة من الأمم، ولا تنتهى عند زمن الأزمان.. فهى ليست للعرب وحدهم، وليست لعصر النبوة وحده، فما العرب إلا لسانها وترجمانها، وما عصر النبوّة إلا مطلعها ومجلى أنوارها.. «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ.. إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ.. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.. النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ.. الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ.. وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» (158: الأعراف) . إن الرسالة الإسلامية، تدعو الناس جميعا إليها، ورسولها ينادى الناس كلهم، بهذه الكلمة العامة الشاملة، وبهذا النداء المطلق: «يا أَيُّهَا النَّاسُ» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 820 . «يا بَنِي آدَمَ» .. «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ» .. ولم يتجه بدعوته أبدا إلى العرب وحدهم أو قريش وحدها، فلم يقل. يا أيها العرب، أو يا بنى إسماعيل، أو يا أبناء عدنان وقحطان.. كما كان ذلك شأن أنبياء الله فى رسلهم وأقوامهم، ومن أرسلوا إليهم.. فقد كان كلّ نبىّ يدعو قومه خاصة، ويقصر دعوته عليهم وحدهم.. فيقول «يا قوم» لا يتجاوزها. . «إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.: قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ» (1، 2: نوح) «وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً.. قالَ يا قَوْمِ..» (84: هود) «وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً.. قالَ يا قَوْمِ..» (50: هود) «وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً.. قالَ يا قَوْمِ..» (61: هود) . «وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ.. يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ... » (5: الصف) . «وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» (6: الصف) وهكذا كان كلّ نبىّ يعمل فى محيط قومه، وفى حدود دائرتهم لا يتعداها، إذ كانت تعاليم رسالته وأحكامها، مقيسة عليهم، ودواء لداء متمكن منهم، لا يكاد يصلح لغيرهم.. حتى أن المسيح- عليه السلام- لم يكن ليقيم معجزة من معجزاته إلا فى بنى إسرائيل وحدهم.. وحتى إنه أبى- كما تحدث الأناجيل- أن يستجيب لتوسلات المرأة الكنعانية فى أن يشفى ابنها المجنون، وردّها قائلا، «لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 821 (إنجيل متى.. الإصحاح الخامس عشر) .. وليس ذلك ضنّا منه- عليه السلام- بالإحسان، وإنما لأنه لم يكن يريد بمعجزاته إلا إقامة الحجة على قومه، لا أن يشفى الأوجاع، ويبرىء الأمراض.. هذا عن رسل الله، ومحامل رسالاتهم.. أما خاتم النبيين.. محمد صلوات الله وسلامه عليه.. وأما رسالة الإسلام خاتم الرسالات السماوية.. فللإنسانية كلها، وللناس جميعا.. أسودهم وأحمرهم على السواء. كالبحر يهدى للقريب جواهرا ... منه ويرسل للبعيد سحائبا إنها رحمة عامة شاملة، من ربّ الناس إلى الناس.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» .. والرسول صلوات الله وسلامه عليه يقول: «أنا رحمة مهداة» !! قوله تعالى: «وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» . أي يقول المشركون، منكرين، ساخرين: «مَتى هذَا الْوَعْدُ؟» أي متى يوم القيامة التي تعدنا به فى قولك: «قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ» ..؟ متى يكون ذلك؟. أنبئنا به.. إن كنت من الصادقين. وقوله تعالى: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 822 «قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ» هذا هو الجواب الذي أمر الله النبي أن يلقى به المشركين، ردّا على هذا السؤال الجهول.. إنه يوم عند الله، يأتى به متى شاء، لا كما يشاء أصحاب الأهواء، وأرباب الضلالات.. فإذا حانت ساعة هذا اليوم، جاء، دون أن يتقدم ساعة أو يتأخر، ودون أن يتأخروا هم ساعة عن شهوده، أو يستقدموا. الآيات: (31- 33) [سورة سبإ (34) : الآيات 31 الى 33] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33) التفسير قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 823 وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ» . المراد بالذين كفروا هنا، هم المشركون من قريش، الذين تحدثت إليهم الآيات السابقة، هذا الحديث الذي انكشف لهم به وجه آلهتهم وبان لهم عجزها، وأنها لا تملك لهم ضرا ولا نفعا.. وقد انتهى هذا الحديث بتقرير تلك الحقيقة، وهى أن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- ليس رسولا إليهم وحدهم، وإنما هو رسول إلى الناس جميعا، وأولى الناس بهذا النبىّ، وبالاستجابة له، هم قومه، الذين هم أعرف الناس به، وبآيات الله التي حملها إليهم بلسانهم.. ولكن الجهل والعناد أعماهم عن هذه الحقيقة، فلم يستجيبوا لرسول الله، ولم يفتحوا عقولهم وقلوبهم لكلمات الله وآياته، وقالوا فى إصرار وعناد: «لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ» أي لا نصدق بأن هذا القرآن الذي يقرؤه محمد علينا، هو كلام الله، وإذن فنحن لا نؤمن به، ولا نؤمن بما يحمل بين يديه من أحاديث عن البعث، والحساب والجزاء.. إنهم يكذبون به شكلا وموضوعا- كما يقولون- فهو ليس من عند الله أولا، ثم إن ما يحمل من أحاديث وأخبار، لا تصدّق ثانيا، لأنها لا تعقل! فالضمير فى قوله تعالى: «بَيْنَ يَدَيْهِ» ، يعود على القرآن، وما بين يدى القرآن، هو ما يحمل بين يديه من قصص الأنبياء، وأخبار الأمم الماضية، وما حل بالكافرين والمكذبين، من عذاب وبلاء.. وهذا الذي ذهبنا إليه، من القول بأن ما بين يدى القرآن، هو أخباره وقصصه، وجدله، وحججه- هذا الذي ذهبنا إليه، هو أولى من القول الذي يذهب إليه أكثر المفسرين من أن الذي بين يدى القرآن هو التوراة والإنجيل، بمعنى أن المشركين لا يؤمنون بهذا القرآن، ولا بالتوراة والإنجيل.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 824 ذلك أن المشركين لم يدعوا إلى الإيمان بالكتب السماوية، السابقة، فهذا دور يجىء بعد الإيمان بالكتاب الذي يدعون إلى التصديق به أولا، فإذا، صدّقوا به، آمنوا بكل ما يدعوهم إليه.. ومن جهة أخرى، فإن المشركين، كانوا على اعتقاد بأن أهل الكتاب على دين سماوى صحيح، ولكنه خاص بهم وحدهم، ولهذا كان المشركون يتمنون أن يكون لهم كتاب خاص بهم مثل أهل الكتاب.. كما يقول الله سبحانه محدّثا عما يجرى فى خواطرهم: «أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ» (156- 157: الأنعام) قوله تعالى: «وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ» - انتقال بهؤلاء الكافرين المكذبين بآيات الله- إلى موقف الحساب والمساءلة فى لحظة خاطفة، حيث يطلع عليهم هذا الذي كذبوا به، وما تزال كلمات التكذيب على أفواههم.. ولم يجىء جواب «لو» الشرطية، بل ترك مكانه شاغرا، لنملأه التصورات المفزعة لهذا اليوم العظيم، وما يقع للمكذبين فيه من بلاء.. والتقدير: إنه لو اطلع مطلع على حال هؤلاء الظالمين، وهم موقوفون عند ربهم موقف المساءلة والحساب، لهاله الأمر، ولولّى منهم رعبا وفزعا، لما غشيهم من الكرب، وأحاط بهم من البلاء.. - وقوله تعالى: «يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ» هو جملة حالية، تكشف عن حال من أحوال هؤلاء الظالمين الموقوفين عند ربهم.. ورجع القول: ترديده، مثل رجع الصّدى.. وعبّر بالفعل «يرجع» اللازم، بدلا من يرجع، المتعدى لمفعوله- ليتضمّن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 825 الفعل معنى الإلقاء، والترامي والتراشق بالشيء نفسه.. فكأنهم يترامون بهذا القول، ويرجم به بعضهم بعضا.. وقوله تعالى: «يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ» - بيان للقول الذي يترامون به، والتهم التي يلقى بها بعضهم على بعض.. وقد بدأ المستضعفون بإلقاء اللائمة على رؤسائهم، وسادتهم، الذين تولوا قيادة الحملة الضالة، ضد دعوة الحق والهدى، فجندوا هؤلاء الضعفاء، وقادوهم إلى المعركة، فكانوا فى الهالكين- بدأ المستضعفون بالرمي بالتهم، لأنهم هم المجنىّ عليهم من سادتهم ورؤسائهم.. - وفى قولهم: «لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ» إشارة إلى أن الإيمان فطرة مركوزة فى الإنسان، وأنه لو ترك الإنسان وشأنه دون أن تدخل عليه مؤثرات من الخارج، تفسد عليه فطرته، وتشوش عليه رأيه- لامن بالله، عن طريق النظر العقلي، ولاستجاب لدعوة الهدى من غير تردد. قوله تعالى: «قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ.. بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ» وألقى الكبراء القول إلى أتباعهم، وردّوا التهمة التي اتهموهم بها، وأنكروا أنهم كانوا سببا فى صدّهم عن الهدى: «أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ؟» إنا لم نقسركم على شىء، ولم نكرهكم على ما دعوناكم إليه.. وقد صدق هؤلاء المستكبرون، وكذبوا فى آن معا.. صدقوا، لأنهم لم يكن فى وسعهم أن يردّوا هؤلاء المستضعفين عن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 826 الإيمان، لو أنهم رغبوا فى الإيمان.. لأن الإيمان معتقد يقوم فى القلب، قبل أن يكون عملا يظهر على الجوارح.. فلو اعتقد هؤلاء المستضعفون الإيمان فى قلوبهم، لما كانت هناك قوة فى الأرض تستطيع أن تنزعه منهم.. ومن قبل قال الشيطان لأتباعه: «وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي.. فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ» (22: إبراهيم) وكذب هؤلاء المستكبرون، لأنهم كانوا دعوة من دعوات الضلال، وقوة من قوى الشرّ، تزين للناس الضلال وتغريهم به، وتعمل على جذبهم إليه، وضمهم إلى جبهته.. بما لهم من جاه وسلطان.. وفى قولهم: «بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ» . إشارة إلى ما فى طبائع هؤلاء المستضعفين من فساد، وأنهم بطبيعتهم منجذبون إلى الضلال، منصرفون عن الهدى.. فلو أنهم تركوا وشأنهم ما استجابوا للإيمان، وما قبلوه، فلما لاحت لهم دعوة الضلال من الضالين- استجابوا لها بطبيعتهم، وانجذبوا نحوها، كما ينجذب الفراش إلى النار. قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ» . لم يجد المستضعفون مقنعا فيما ردّ به سادتهم عليهم.. وحقّا إنهم لم يقسروهم قسرا على الكفر، ولكنهم أغروهم به إغراء، بما يملكون من وسائل الإغراء، وفى أيديهم المال، والجاه والسلطان، وكلها قوى ذات سلطان على الناس! - وقوله تعالى: «وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ» .. أي وحين طلع الجزء: 11 ¦ الصفحة: 827 عليهم العذاب، وجموا كلّهم وخرسوا، ولم ينبس أحد منهم جميعا ببنت شفة، وانجبست الكلمات فى صدورهم، وقد كان فيها متنفس لهم، وأمل يتعلقون به.. الضعفاء ليلقوا بالتهمة كلها على كبرائهم، والكبراء ليدفعوا هذه التهمة عنهم، وحسبهم جنايتهم على أنفسهم.. وهكذا ازدرد الجميع هذه الكلمات التي كانوا يلوكونها فى أفواههم، ثم يرمى بها بعضهم بعضا، فأصبحت سهاما يرمى بها كل منهم فى داخل نفسه، فتدمى القلوب، وتفرى الأكباد! الآيات: (34- 39) [سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 39] وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) التفسير قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 828 المترف: هو من أبطرته النعمة حتى خرجت به عن حد الاعتدال، وأفسدته، وقتلت فيه معانى الإنسانية.. والمترفون هم آفة المجتمع فى كل أمة، وفى كل جيل، إذ فيهم ينشأ الفسق، والمجون، وكل ما من شأنه أن يغذى العواطف الخسيسة، ويوقفا الغرائز البهيمية، على حساب المطالب الروحية والعقلية.. فليس الغنى فى ذاته- كما يبدو- هو الذي يفسد الأخلاق، وإنما شأنه فى هذا شأن الفقر، قد يفسد، وقد يصلح.. إنه خير وشر.. وداء ودواء.. فمن أحسن سياسة المال، وعرف قدره، والمكان الذي يوضع فيه- صلح به أمره، واستقام به شأنه.. ومن اتخذ من المال وسيلة يصطاد بها ما توسوس به نفسه، وما يدعوه إليه هواه- فسد كيانه، وتهدم بنيانه، وتحول إلى كومة متضخمة من الشحم واللحم. تهب منها كل ربح خبيثة، تفسد المجتمع وتزعجه! وحين تنجم دعوة من دعوات الخير، يكون المترفون هم أول من يلقونها بالنكير، ويرجمونها بكل ما يقدرون عليه.. وما جاء رسول من رسل الله يدعو قومه إلى الهدى، حتى يتصدى له المترفون من قومه، يعلنون الحرب عليه، ويجمعون الجموع للوقوف معهم فى وجهه.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً» قوله تعالى: «وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» .. هذا هو ردّ المترفين على كل دعوة إلى الإيمان بالله، وتلك هى حجتهم عند أنفسهم وعند الناس.. إنهم بما يملكون من كثرة فى الأموال، وما عندهم من كثرة فى الأولاد والرجال، لن يكونوا تابعين لغيرهم، ولن يجعلوا لأحد كلمة عندهم، حتى ولو كان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 829 رسولا من رسل الله، يدعوهم إلى الله، ويكشف لهم معالم الطريق إلى الحق والهدى!! إنهم أكثر أموالا وأولادا من هذا الرسول، فكيف يقوم فيهم مقام الناصح ذى الرأى والسلطان.. «ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ» (24: المؤمنون) وكيف يتفضل إنسان على من كان أكثر منه مالا وولدا؟ - وفى قولهم: «وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» إشارة إلى أنهم بما لهم من كثرة فى المال والأولاد، لن ينزلوا عن مقام السيادة لأحد، ثم إنهم إذا عذّب غيرهم من الفقراء والمستضعفين لن يعذبوا هم.. فإن الله ما أعطاهم هذا الوفر فى المال والكثرة فى الأولاد، إلا لأنهم أهل للكرامة، وموضع للفضل عنده، وكما كانوا فى الدنيا فى هذا المقام بين الناس، فهم فى الآخرة- إن كانت هناك عندهم آخرة- فى هذا الموضع أيضا، حيث يعذب الفقراء والمستضعفون، أما هم فلن يعذّبوا، بل ينزلوا منازل الإكرام والإعزاز.. ذلك ظنهم بأنفسهم.. وفى هذا يقول الله تعالى على لسان واحد منهم. «وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى» (50: فصلت) ويقول سبحانه على لسان صاحب الجنتين. «وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً» (36: الكهف) قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» . هو ردّ على هذا الفهم المغلوط الفاسد الذي فهمه المترفون، لما لله فى عباده من بسط الرزق أو قبضه.. فليس بسط الرزق أو قبضه من الله سبحانه وتعالى، يحسب منازل الناس عنده، وإنما منازل الناس عند الله بأعمالهم الصالحة، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 830 وبتزكية أنفسهم، وتطهيرها من خبائث الكفر والضلال.. أما بسط الرزق وقبضه فهو ابتلاء من الله، فيبتلى سبحانه من يشاء بالبسط، ويبتلى من شاء بالقبض، مؤمنا كان أو كافرا، محسنا أو مسيئا.. «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» .. قوله تعالى: «وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ..» هو ردّ آخر على ادعاء هؤلاء المترفين، بأن أموالهم وأولادهم هى التي تقربهم من الله، وتدنيهم من مرضاته.. وكلّا فإن الأموال والأولاد لا تقرب من الله إلا بقدر ما يكون لأصحاب الأموال والأولاد من إيمان بالله، وإحسان فى العمل.. فهؤلاء حقا لهم جزاء الضعف، أي جزاء مضاعفا، بما نعموا به فى الدنيا من جاء وسلطان، وبما قدموا للآخرة من عمل صالح يلقونه عند الله، فيجزون به الجزاء الأوفى، فى جنات النعيم.. قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ» أي والذين يتخذون من أموالهم وأولادهم وجاههم وسلطانهم، أسلحة يحاربون بها الله، ويسعون لإعجاز الناس عن أن يتصلوا بآياته، أو لآيات الله أن تتصل بالناس.. «فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ» أي يجاء بهم من حيث كانوا إلى حيث يلقون فى جهنم، ويصلون العذاب الأليم فيها. قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ.. وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 831 أعيد النظم القرآنى: «قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ ... الآية» .. وذلك فى مقام غير المقام السابق.. فهناك كان المقام الداعي إلى ذلك، هو الكشف عن تلك الحقيقة التي جهلها أو تجاهلها المترفون، وهى أن بسط الرزق وقبضه هو ابتلاء من الله، وليس مقدّرا على منازل الفضل والرضوان من الله. وهنا فى هذه الآية- بعد أن تقررت هذه الحقيقة- كان المقام مقام دعوة إلى البذل والإنفاق من هذا المال، لأنه من فضل الله.. وإذ كان الله سبحانه هو الذي يعطى، فلا خوف من الإنفاق، لأنه إنفاق فى سبيل الله، وهو بمنزلة القرض لله، ولن يضيع ما اقترضه الله، بل يعود إلى صاحبه مضاعفا: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً» (245: البقرة) وهنا زيادة فى النظم وهى كلمة «عباده» وفيها إشارة إلى أن المدعوين إلى الإنفاق من أموالهم، والتي سيخلفها الله لهم، هم عباده، المؤمنون به.. الآيات: (40- 45) [سورة سبإ (34) : الآيات 40 الى 45] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45) الجزء: 11 ¦ الصفحة: 832 التفسير: قوله تعالى: «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ» هو مساءلة فى الآخرة، ومواجهة بين عبدة الملائكة من المشركين، وبين عابديهم، الذين يقولون عنهم، إنهم بنات الله.. وقوله تعالى: «قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ.. بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ» هذا جواب الملائكة.. إنهم ينزهون الله تعالى عن أن يتخذوا لهم وليا ونصيرا غيره.. إنهم لا يلتفتون إلى هؤلاء الأتباع، الذين عبدوهم على غير دعوة منهم إليهم.. إنهم فى غنى عنهم وعن عبادتهم.. فهم على ولاء مطلق لله.. فهو سبحانه وليهم، ومعتصمهم.. - وقوله تعالى: «بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ» - إشارة إلى ما يعبد هؤلاء المشركون من قوى غيبية خفية ومن تلك القوى، إلى جانب ما يعبدون من ملائكة، الجن.. كما يقول سبحانه: «وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً» (6: الجن) . قوله تعالى: «فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 833 أي فى هذا اليوم- يوم القيامة- لا يملك بعضكم لبعض- من عابدين ومعبودين- نفعا ولا ضرا، حيث تجزى كل نفس بما كسبت.. وليس للظالمين فى هذا اليوم من ولىّ ولا شفيع، بل يدعون إلى نار جهنم، ويلقون فيها، ثم يقال لهم: «ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ» وفى هذا القول إيلام لهم، فوق ما هم فيه من آلام، ومضاعفة للحسرة التي تملأ قلوبهم، على ما فاتهم من إيمان بالله فى دنياهم.. قوله تعالى: «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» .. تعود هذه الآية بالمشركين إلى الدنيا مرة أخرى، بعد أن دعتهم الآيات السابقة إلى موقف الحساب والمساءلة، وذلك- كما قلنا فى أكثر من موضع- لتلتقى بهم الدعوة بعد هذه المشاعر التي دخلت عليهم من مشاهد هذا اليوم العظيم.. والآية هنا، تحدّث عن موقفهم مع آيات الله، ومقولاتهم فيها، بعد أن يتلوها الرسول عليهم.. إنها آيات بينات، تنطق بالحق المبين، بحيث يبدو للناظر إليها من أي جانب، ما يحدّث بأنها كلمات الله.. ومع هذا فإنهم يأبون أن يصدقوا ما يقع فى قلوبهم وعقولهم منها، ويحملهم الكبر والعناد على التكذيب، والبهت، والاتهام للرسول الذي يحملها إليهم.. وهذه المقولات التي يقولها المشركون فى آيات الله، هى مضمون ما تجمّع الجزء: 11 ¦ الصفحة: 834 من مقولات كثيرة، قالوها فى القرآن الكريم، وفى الرسول الذي جاءهم به.. - «قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ» .. وهم بهذا القول يستثيرون حمية الجاهلية فى صدور الجاهلين، بالحرص على موروثات الآباء، وما خلّفوا لهم من عادات وتقاليد، ومراسم.. - «وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً» .. وهم بهذا القول يزكّون القول الأول، ويثبّتون دعائمه فى القلوب.. حيث أن الذي يدعون إليه، ويرادون على إحلاله محل ما يعبدون، وما كان يعبد آباؤهم- هو محض افتراء وزور.. فكيف يتركون ما هم عليه من حق إلى هذا الضلال المفترى؟ هكذا زيّن لهم الضلال الجاثم على قلوبهم..! - «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» .. وبهذا القول يردّون على من وقع فى نفوسهم شىء من آيات الله، وتفتحت لها عقولهم وقلوبهم.. إنه سحر.. يخدع الناس، ويضللهم، ويريهم الأمور على على غير ما هى عليه..!! قوله تعالى: «وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ» .. أي أن هؤلاء المغرورين المفتونين بأموالهم وأولادهم، المكذبين بآيات الله كبرا وبطرا- هؤلاء لم يكونوا أهل علم كما كان شأن كثير غيرهم من الأمم، ولم يأتهم رسول من عند الله قبل هذا الرسول.. فهم- والأمر كذلك- فى فقر عقلىّ وروحى، وهم لهذا أشد الناس حاجة إلى هذا الخير الذي ساقه الله إليهم، على يد رسول كريم منهم.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 835 أما كثرة المال والأولاد، وفتنتهم بهما، وظنهم أنهم فى عصمة بما فى أيديهم من أموال وأولاد، من أىّ بلاء فى الدنيا، أو عذاب فى الآخرة، حتى لقد قالوا: «نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» - أما هذه الكثرة فى الأموال والأولاد، فهى شىء قليل لا يكاد يذكر إلى جانب ما كان لغيرهم من الأمم السابقة من وفرة فى المال وكثرة فى الرجال، ومع هذا فلم يغن عنهم ذلك من الله شيئا، بل إنهم حين كفروا بالله، وكذبوا رسله، أخذهم الله بذنوبهم، وأرسل عليهم الصواعق والمهلكات، فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم.. فأين هم من قوم عاد، وقوم ثمود وما كان لهم من قوة وبأس، وجاه وسلطان؟ وأين هم من فرعون، وما ملك من بلاد وعباد؟ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى الآية التالية، متوعدا هؤلاء المشركين ومهددا لهم بالعذاب الأليم.. «وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» . أي لقد كذب الذين من قبل هؤلاء المشركين، كفرعون، وعاد، وثمود- كذبوا رسل الله، وكانوا على جانب عظيم من الغنى والسلطان، حتى أن هؤلاء المشركين المفتونين بما أوتوا، لم يكن لهم معشار- أي عشر- ما لهؤلاء الذين سبقوهم.. وقد أهلكهم الله بذنوبهم، ولم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا.. فهل تغنى هذه الأموال والأولاد- وهى قليلة، وإن حسبوها كثيرة- هل تغنى عنهم من عذاب الله من شىء؟ وهل ترد عنهم بأس الله إذا جاءهم؟ لو كان ذلك لهم، لكان غيرهم، ممن هم أكثر أموالا وأولادا، أولى! .. والنكير: الإنكار للأمر.. وإنكار الله للمنكر، يستتبع عقابه وعذابه لمن وقع منه المنكر.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 836 الآيات: (46- 54) [سورة سبإ (34) : الآيات 46 الى 54] قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54) التفسير: قوله تعالى: «قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا.. ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ» . بعد هذا التهديد الذي أنذر به المشركون من أن يحل بهم ما حل بالظالمين المكذبين قبلهم- جاءت آيات الله تدعوهم إلى ما هو خير لهم، وتفتح لهم الطريق إلى النجاة والخلاص.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 837 والآية الكريمة، تكشف عن أسلوب الدعوة الإسلامية، القائم على مواجهة العقل، ودعوته بالحكمة والموعظة الحسنة، وإعطائه حقه فى طلب الدليل المقنع، والبرهان الواضح، ثم الاعتراف له بما يقضى به، بعد النظر السليم، المجرد من الهوى، المبرأ من التحدي والعناد..! فهذه هى رسالة الإسلام فى الإنسانية.. إنها تريد أولا وقبل كل شىء، أن تحرر العقل من العادات الفاسدة، والمعتقدات الباطلة، التي استولت عليه، وشلّت إرادة التفكير فيه.. فإذا تحرر العقل من هذه الآفات، وتخلص من تلك القيود، فقد كسب نصف المعركة فى صراعه مع الباطل، ثم كان عليه بعد هذا أن يكسب النصف الآخر، حتى يتلخص من الضلال، ويخرج من عالم الظلام إلى عالم الهدى والنور.. وهو أن يدير عقله على هذا الوجود، وأن ينظر فيه بعقله المتحرر هذا.. فإنه إن فعل، فلابد أن يهتدى إلى الله، ويتعرف إليه، ويؤمن به.. - فقوله تعالى: «قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ» أي إنما أنصح لكم بنصيحة واحدة، لا شىء غيرها.. إنها مجرد نصح، لا إلزام فيه، فإن قبلتم فذلك لكم، وهو حظكم، وإن لم تقبلوا فأنتم وشأنكم.. - والعظة الواحدة، هى: «أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا» . والقيام لله، هو القصد، والتوجه إليه، وذلك بطلب البحث عنه بحثا جادّا.. فإن الإنسان الذي يريد أن يتخذ له معبودا يعبده، يجب أن يتعرف إليه، وأن يتحقق من آثاره وأفعاله، وما له من سلطان فى هذا الوجود.. ثم لا يقبل المعبود حتى يراه المالك لكل شىء، المنصرف فى كل شىء، والقيام لله مثنى وفرادى، هو أن يكون التفكير فى الله، حديثا إلى النفس أولا، بما يقع فيها من خواطر عن الله.. ثم مراجعة هذه الخواطر مع شخص آخر، يراه الإنسان صاحب نظر ورأى، حتى يستقيم له من تلك الجزء: 11 ¦ الصفحة: 838 المراجعة، وتقليب الرأى بينه وبين صاحبه هذا- مفهوم لذات الله، وحتى يجتمع له تصور لعظمته وجلاله وقدرته، ثم تكون المرحلة الثالثة والأخيرة، وهى الرجوع إلى نفسه، وعرض هذا المفهوم وذلك التصور على عقله، حتى يهتدى إلى الرأى الذي يطمئن إليه، والتصور الذي يستريج له.. هذه هى مراحل التفكير، فى أي أمر ذى شأن بعرض للإنسان.. ففى المرحلة الأولى تظهر الفكرة فى صورة خاطرة أو وساوسة، يلوح فى سماء العقل، ويضطرب فى مخيلته.. ومثل هذا الخاطر أو الوسواس، يعيش قلقا مضطربا، لا يجد له مستقرا فى العقل، حتى يجد الأرض الصلبة التي يقف عليها.. وهنا تجىء المرحلة الثانية.. وفى المرحلة الثانية هذه، يبحث العقل عن عقل آخر يأنس به، ويقابل ما عنده من خواطر ووساوس بخواطره ووساوسه.. وفى هذا اللقاء بين العقلين، يكثر الأخذ والرد، والقبول والرفض، ثم ينجلى هذا المخض عن زبدة، هى الشرارة التي تنقدح من اللقاء بين العقلين، والتي تضىء بها جوانب النفس، وينكشف على ضوئها وجه الرأى فى الأمر المتداول بينهما.. وينتهى هذا الحوار، أو هذا اللقاء بين العقول، وقد ذهب كل واحد منها بما حصل عليه، من شك أو يقين.. وعندئذ يجد العقل أن ما حصل عليه ليس خالصا له، وإنما هو- على صورتى الشك واليقين- قسمة بينه وبين العقل الذي جرى معه هذا الشوط للوصول إلى تلك الغاية.. وهنا تجىء المرحلة الثالثة، التي يسوى فيها العقل حساب الأمر الذي بين يديه، على الوجه الذي يراه هو، مستقلا عن أي عون خارجى.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 839 وفى المرحلة الثالثة هذه، يخلو العقل بنفسه، ما شاء له أن يخلو، فيعيد عرض الأمر فى هدوء، ويقلب وجوهه فى سعة من الوقت، وحرية من العمل.. وقد يظل هكذا زمنا يبلغ عمر الإنسان كله، دون أن يصل إلى الرأى الذي يطمئن إليه، وقد تطلع عليه شمس الحقيقة فى لحظة خاطفة، وعلى غير انتظار! هذا، ويلاحظ- وهذا إعجاز من إعجاز القرآن الكريم- أن الآية الكريمة، لم تذكر المرحلة الأولى وبدأت بالمرحلة الثانية، وهى لقاء عقل الإنسان بعقل غيره، ومقابلة تفكيره بتفكير غيره وذلك، أن المرحلة الأولى، هى مرحلة مشتركة فى الناس جميعا، فإن أي إنسان عاقل، لا يمكن أبدا أن تخلو نفسه من خواطر، ووساوس، عن التفكير فى «الإله» .. أما الذي هو غير واقع فى الناس جميعا، فهو عرض هذه الخواطر والوساوس على عقول الآخرين.. فهناك كثير من الناس يعيشون مع ما يطرقهم من خواطر ووساوس، دون أن يعرضوها على أحد، بل يمسكون بها فى صدورهم حتى يموتوا بها، تماما كما يمسك بعض المرضى، بأمراضهم، دون أن يطبّوا لها، وأن يعرضوها على أهل الذكر والمعرفة بأدواء الأجسام وعللها.. كما يلاحظ- وهذا إعجاز من إعجاز القرآن الكريم أيضا- أن الآية الكريمة حصرت التفكير فى دائرة الفرد نفسه، ثم لم تتجاوز به أكثر من فرد وفرد.. وهذا يعنى أن العقل إنما يكون فى أحسن حالاته، حين يفكر وحده، أي حين ينفرد بالتفكير فيما تجمّع لديه من حصيلة من الأفكار والآراء، يردّها إلى نفسه، ويقلبها بين يديه.. فهذا الذي يحقق للعقل ذاتيته، ويعطيه وجوده، ويمكن له من سلطانه.. فإذا كان ولا بد من مشاركة أحد، فليكن ذلك فى أضيق الحدود، ومع عقل آخر، هو أشبه بالمرآة التي يرى فيها الإنسان ذاته.. أما التفكير الجماعى، وخاصة فى أمر يتصل بالضمير، كالإيمان بالله واليوم الآخر، فإنه يشوش على العقل، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 840 ويحجب عنه الرؤية الصحيحة لما هو ناظر إليه.. وقد كشف علم النفس، عن أن هناك عقلين، عقلا فرديا، وعقلا جماعيا، وأن العقل الجماعى، قد يقنع الإنسان بما لم يكن محلّ إقناع فى تفكيره الفردى.. وهذا إن صحّ فى الأمور العارضة، فإنه لا يصحّ فى أمر العقيدة، التي هى أمر شخصى محض.. - وقوله تعالى: «ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ، إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ» . هذا هو الحكم الذي يصل إليه العقل، إذا جرى على هذا الأسلوب الذي دعى إليه، من التفكير فى هذا الأمر الذي يدعو الرسول إليه، تفكيرا قائما على البحث الجادّ، والرغبة الصادقة فى الكشف عن الحقيقة.. إنه لو أخذ الإنسان- أي إنسان- بتلك العظة التي دعا القرآن إليها، وهى أن يقوم لله مفكرا وحده، أو مع غيره- لوصل إلى تلك الحقيقة، وهى أن هذا الرسول ليس به جنّة، وأن ما يدعو إليه هو الحقّ.. وأنه رسول الله، ونذير لهم بين يدى عذاب شديد، هو عذاب يوم القيامة.. قوله تعالى: «قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ.. إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ.. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» وهذه مادة من مواد التفكير، فى سبيل البحث عن الحقيقة التي يدعو إليها الرسول عقل ذوى العقل، فهذه المادة مما تعين على الكشف عن الحقيقة والتهدّى إليها.. وتلك المادة هى أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه.. لم يطلب أجرا من أحد على ما يدعو إليه، وأنه لم يطلب بذلك الجزء: 11 ¦ الصفحة: 841 جاها أو سلطانا: «ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ» ! حتى أكون بموضع تهمة، بأننى إنما أدعو إلى ما أدعو إليه، ابتغاء كسب مادىّ لذات نفسى.. إنها دعوة بريئة من كل غرض شخصى، خالصة من كل مئونة تحملونها من أجلها.. فماذا يحجزكم عنها، أو يحملكم على التصدّى لها، والوقوف فى وجهها؟ - وقوله تعالى: «فَهُوَ لَكُمْ.. إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ» أي إن يكن هناك أجر وخير فى هذه الدعوة، فهو لكم.. أمّا أنا، فإن أجرى على الله.. فأنا أحمل رسالته إليكم خالصة، ولا آخذ منكم على هذا الحمل أجرا، وإنما أجرى على الذي حملنى رسالته.. ويجوز أن يكون الضمير «هو» فى قوله تعالى: «فَهُوَ لَكُمْ» عائدا إلى القرآن الكريم، الذي يدعوهم الرسول الكريم إلى الاستماع إليه، والنظر فيه، ثم الإيمان بما يدعوهم إليه من عقيدة وشريعة.. والقرآن وإن لم يجر له ذكر فى الآية، فهو- فى الحقيقة- المواجه للقوم، والمتحدث إليهم.. وعلى هذا يكون «ما» فى قوله تعالى: «قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ» حرف نفى، بمعنى أننى لم أسألكم أجرا على هذا الكتاب الذي أتلوه عليكم، فهذا الكتاب هو كتابكم، إنه لكم، هدى ورحمة من عند الله.. فكيف أطلب أجرا منكم على أمر هو لكم.؟ إنه لا أجر لى عندكم، إنما أجرى على الله.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ» ! وقوله سبحانه: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» (44: النحل) .. فالكتاب منزل إلى الناس، والرسول عليه الصلاة والسلام هو المتلقى لهذا الكتاب من ربه، وهو الحامل لهذه الأمانة، المطلوب منه أداؤها إلى أهلها، وهم الناس جميعا.. وقوله تعالى: «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» .. أي قائم على كل شىء، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 842 يراه رؤية شهود، فيعلم كل شىء علما كاشفا.. يعلم ما أنا عليه من قيامى برسالة ربى إليكم، ويعلم ما يكون منكم من قبول لهذه الرسالة، أو ردّها، وسيجزى كلّا بما عمل.. قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» . والمراد بالقذف بالحق: رمى الباطل بالحق، حتى يصرعه.. فالقذف، هو الرمي الشديد، كما يقذف بالحجر أو نحوه، ليصيب مقتلا من عدوّ.. وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ.. فَإِذا هُوَ زاهِقٌ» (18: الأنبياء) .. وقوله تعالى: «عَلَّامُ الْغُيُوبِ» بدل من قوله تعالى: «يَقْذِفُ بِالْحَقِّ» .. أي أنه سبحانه لا يقذف بالحق هكذا خبط عشواء، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.. إنه يقذف به عن علم، فيقع حيث يشاء، وحيث يصيب الباطل فى مقاتله.. قوله تعالى: «قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ» هو تعقيب على الآية السابقة، التي قررت أن الله سبحانه وتعالى لا ينزّل إلا ما هو حقّ، ولا يرمى إلا بما هو حقّ.. وها هو ذا الحقّ قد جاء فى هذه الدعوة التي يحملها الرسول الكريم فى آيات الله المطهرة.. وإنها لحق قذف به هذا الباطل الذي يعيش فى مجتمع الجاهليين.. وليس بعد هذا القذف إلا أن يلقى الباطل مصرعه، وتختفى أشباح الضلال، وأشياعه.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 843 فقوله تعالى: «وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ» .. إشارة إلى أن الباطل قد أصيب فى مقاتله، وأنه لن تقوم له بعد اليوم قائمة، ولن يكون له بعد اليوم صوت يسمع.. فالمراد بنفي البدء والإعادة لازمها، وهو عدم التأثير،. أي أنه الباطل يفقد كل آثاره وأفعاله، بعد أن يقذف بالحق، كما يقول سبحانه: «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ» (18: الأنبياء) قوله تعالى: «قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ» وهذا الحقّ الذي جاء، إن ضللت عنه، ولم أتبع هديه- فإنما عاقبة هذا الضلال واقعة علىّ.. وإن اهتديت بهذا الهدى، واستقمت على طريقه، ففى هذا النجاة لى، والغنيمة التي أغتنمها منه.. وفى قوله تعالى: «فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي» - إشارة إلى أن هدى القرآن هو الهدى، وأنه لا هدى إلا منه، وأن من التمس الهدى فى غيره ضلّ، وخاب وخسر.. وفى هذا إشارة أيضا إلى أن مصدر الهدى، هو الله سبحانه وتعالى، وأنه من هذا الهدى الإلهى، يهتدى النبىّ، ويهتدى المهتدون.. فالنبىّ- وهو رسول الله- إنما يلتمس الهدى من هذا القرآن، الذي هو حقّ للناس جميعا، ليس للنبىّ فيه، إلا ما للناس جميعا.. ومن هنا، فإنه لا حقّ له- صلوات الله وسلامه عليه- فى أن يطلب أجرا على شىء هو مشاع فى الناس، كالنور، والهواء، والماء.. وفى هذا أيضا دعوة إلى من يجدون فى أنفسهم أنفة أو كبرا أن يأخذوا من القرآن حظهم من الهدى إذ كان النبىّ هو الذي يحمله، ويدعو إليه- فى هذا دعوة لهم أن يتخففوا من هذا الشعور، وأن ينظروا إلى القرآن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 844 باعتبار المصدر الذي جاء منه، وأنه من عند الله، وليس من عند محمد، وأن محمدا يأخذ حظّه من هدى الله هذا، فليأخذواهم حظهم كذلك- فى غير حرج، وليرتووا من هذا النبع العذب، وألا يهلكوا أنفسهم، بسبب أن كان القائم على هذا النبع رجلا منهم! وقوله تعالى: «إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ» أي ليس الله سبحانه وتعالى بعيدا عن هذا الهدى الذي يدعوهم إليه رسول الله.. إنه قريب منهم، سميع لهمسات شفاههم، وخفقات قلوبهم.. إنه سبحانه، أقرب إليهم، وإلى هذا الهدى من رسول الله، وأنهم إذا جاءوا إلى هذا الهدى وجدوا الله عنده.. فما لهم لا يتلقون الهدى من الله، إن أنفوا أن يتلقوه من رسول الله؟ إن فى هذه الحجة إلزاما لهم، وقطعا لكل عذر يعتذرون به.. ويبقى للرسول مع هذا مقامه من ربه، ومكانه من الدعوة إلى الله..! قوله تعالى: «وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ» هو سوق لهؤلاء الضالين الذين أمسكوا بضلالهم، ولم يقبلوا هذا الهدى المعروض عليهم فى شتى صور العرض- هو سوق لهم إلى المصير المشئوم الذي ينتظرهم.. والصورة التي يراها هؤلاء الضالون لأنفسهم هنا والتي يراها الناس لهم، هى أنهم فى ساحة المحاكمة، يوم القيامة، وقد استولى عليهم الفزع من هذا الهول المحيط بهم، وهذا البلاء المشتمل عليهم، وقد أحيط بهم من كل مكان، فلا فوت ولا مهرب لهم.. وجواب الشرط للحرف «لو» محذوف، للدلالة على أنه لا يحيط به الجزء: 11 ¦ الصفحة: 845 الوصف.. ومن صور الجواب، التي تقع فى التصور أن الذي يراهم فى تلك الحال، يرى أهوالا يموج فيها القوم، لا يستطيع الناظر أن ينظر إليها، وبملأ عينيه منها.. إنها شىء مخيف.. مفزع.. فظيع! والمكان القريب الذي أخذوا منه، هو دنياهم التي كانوا فيها.. وهى- أيّا كانوا منها- قريبة إلى الله، فكل شىء فى الوجود قبضته يده! قوله تعالى: «وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» . هو معطوف على قوله تعالى: «وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ» .. أي أنهم فى هذه الحال، يقولون «آمنا به» أي بالقرآن، أو بالرسول وبما جاء به.. - وقوله تعالى: «وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» «أنّى» بمعنى كيف. وهو استفهام يراد به الاستبعاد.. والتناوش: التناول خطفا بأطراف الأصابع، حيث تقصر اليد عن تناول الشيء، فتلمسه، ولا تتمكن منه، فتكثر لذلك حركة اليد، قبضا وبسطا.. والمعنى أنهم إذ يقولون آمنا بالله، وبكتابه، يتعلقون بآمال كاذبة، ويمسكون بخيط من الوهم.. فقد بعدت بينهم وبين مطلبهم الشقة.. إنهم فى عالم غير هذا العالم الذي كان ينفعهم فيه هذا القول.. وإنه لمحال أن يعودوا إلى هذا العالم.. إنه مكان بعيد عنهم.. إنه الدنيا.. وهم فى الآخرة.. وما أبعد المسافة بين الدنيا والآخرة بالنسبة لهم!! وفى التعبير بالتناوش، عن الأمل الذي يراودهم فى هذا الموقف، بإعلان الإيمان- إعجاز من إعجاز القرآن، فى صدق الأداء، وروعته، ودقته.. فالأمل الذي يتعلقون به، لا يمسكون منه بشىء.. إنه لا يكاد يظهر حتى يختفى، ثم يظهر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 846 ويختفى، وهم يجرون وراءه حتى تتقطع أنفاسهم دونه، وفى هذا مضاعفة للعذاب الذي هم فيه.. «كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ» (14: الرعد) .. إنهم يمدون أيديهم وهم فى الآخرة، ليتناولوا هذا الأمل الذي فاتهم فى فى الدنيا، ويناوشونه مناوشة من بعيد، ولا تمسك أيديهم بشىء منه. قوله تعالى: «وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» .. الواو، واو الحال، والجملة بعده حال من الكافرين، الذين قالوا آمنا به.. أي أنهم قالوا هذا القول عن القرآن فى الآخرة، وقد كفروا به فى الدنيا، وقد كانوا يقذفون بالغيب وهو ما يحدثهم به القرآن عن البعث فى الآخرة والحساب، والجزاء، وكلها غيب.. فلم يقبلوا هذا، وقذفوا به، ورموه، وهم فى مكان بعيد أي فى الدنيا.. وهم الآن فى الآخرة، فكيف لهم أن يلحقوا بهذا الذي قذفوه، ويمسكوا به؟. قوله تعالى: «وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ.. كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ.. إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ» . حيل بينهم وبين ما يشتهون: أي حجز بينهم وبينه.. فلا سبيل لهم إليه.. والذي يشتهونه، هو العودة إلى الدنيا، وأخذ ما فاتهم، واسترداد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 847 ما ضاع منهم فيها، من الإيمان بالله واليوم الآخر.. والأشياع: هم الأولياء، والأنصار.. وهم هنا من كان على شاكلة هؤلاء الكافرين من القرون الغابرة، والأمم الماضية، أو من جاء بعدهم ممن كانوا على الكفر فى الدنيا.. والمعنى أنه قد حيل بين هؤلاء المشركين، وبين ما كانوا يتمنونه، ويطمعون فيه من العودة إلى الدنيا، وإصلاح ما أفسدوا من أمرهم، كما حيل بين كل كافر وبين هذه الشهوة التي يشتهيها فى الآخرة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان أهل الكفر والضلال فى الآخرة: «يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (27: الأنعام) . - وقوله تعالى: «إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ» - وصف لما كان عليه أهل الكفر والضلال فى الدنيا، وأنهم كانوا فى شك مريب من أمر الآخرة أي فى شك يقوم من ورائه شك. فلا يخرج بهم الشك إلا إلى شك، فلم يكن يقع منهم أبدا الايمان بالله، ولو ردوا إلى الدنيا- بما هم عليه من طباع- لعادوا إلى ما نهوا عنه.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 848 35- سورة فاطر نزولها: مكية عدد آياتها: خمس وأربعون آية.. عدد كلماتها: سبعمائة وسبعون.. عدد حروفها: ثلاثة آلاف ومائة وثلاثة وثلاثون. مناسبتها لما قبلها بدأت سورة «سبأ» السابقة بالحمد لله، والثناء عليه، وإضافة ما فى السموات وما فى الأرض إليه سبحانه وتعالى، ثم ختمت بعرض الكافرين على جهنّم وما يلقاهم من ضنك وبلاء هناك، وما يتمنونه من العودة إلى الحياة الدنيا، وأن ذلك ما لا يكون أبدا، وأنهم لو ردّوا لما آمنوا، لأنهم يحملون طباعا لا تتعامل إلا مع الضلال والكفر. وقد بدئت سورة «فاطر» هذه بحمد الله أيضا، والثناء عليه، وإضافة الوجود إليه إضافة إيجاد وخلق، بعد أن أضافته إليه سورة سبأ، إضافة ملك وتصريف.. ثم كان هذا الحمد ردّا على كفر الكافرين وشكّهم، وما جرّهم إليه هذا الكفر والشك من بلاء ونكال، فهو حمد من المؤمنين إذ عافاهم الله سبحانه وتعالى مما يلقى أهل النار من عذاب أليم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 849 بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 7) [سورة فاطر (35) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) التفسير: قوله تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» . فاطر السموات والأرض: أي مبدعهما، وخالقهما، على أتم نظام وأكمله. ومنه الفطرة، وهى ما ركّب الله سبحانه وتعالى فى الإنسان من غرائز وميول، يولد بها الإنسان، كصفحة بيضاء نقية.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 850 والجعل: إضافة على أصل الخلق، وهو العمل الوظيفى للمخلوق، حسب طبيعته.. كما يقول سبحانه: «جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً» (5: يونس) .. وقد شرحنا هذا المعنى فى مواضع أخرى.. فالحمد لله، من ذاته، ومن المخلوقات لذات الخالق، حمدا على الخلق والإيجاد، وعلى ما أمد به ما خلق، من أسباب البقاء، وعلى أن جعل الملائكة رسلا إلى الناس، تحمل إليهم رسالات السماء، بالهدى والنور، وتستغفر للمؤمنين بالله، وتصلى على رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه.. - وقوله تعالى: «مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ» صفة للأجنحة، وتدل هذه الصيغ على كثره المعدود، وأن الملائكة ذوو أجنحة، وأنهم فى ذلك ثلاثة أصناف، صنف له جناحان، وصنف له ثلاثة أجنحة، وثالث له أربعة أجنحة.. وهذه الأجنحة من نور، تتشكل من هذه الأنوار اللطيفة كما تتشكل صور الأشياء من عالم المادة.. وقوله تعالى «يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ» هو ردّ على من يتصور أن ذوات الأجنحة لا تكون إلا بجناحين، وأن الثلاثة لا يقوم بها نظام الطائر، كما أن الأربعة هى بمنزلة الجناحين.. وهذا فى تقدير الخلق، ولكن الخلاق العظيم المبدع، يخلق ما يشاء، ويزيد فى الخلق ما يشاء.. «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» فإذا جعل لطائر، ثلاثة أجنحة، أو أربعة، أو ما شاء الله من أجنحة، كان ذلك بتقدير، وعلم، وحكمة.. «الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ» (7: السجدة) قوله تعالى: «ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» أي إن القدرة كلّها بيد الله وحده، لا يملك أحد شيئا بقدر به على أن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 851 يجلب خيرا أو يدفع ضرّا، إلا بإذن الله وتقديره.. فما يرسله الله سبحانه وتعالى إلى الناس، من رحمة، أي من خير ورزق، لا يستطيع أحد رده، والحيلولة بينه وبين أن يصل إلى حيث أراد الله.. وما يمسك الله من شىء، فلا يستطيع أحد أن يرسله، ولا أن يزحزحه عن الموضع الذي هو فيه.. وقد قيّد ما يرسل من الله- سبحانه- بالرحمة، إشارة إلى ما لله سبحانه وتعالى من فضل وإحسان، وأنه رحيم بعباده، وأن رحمته وسعت كل شىء وأطلق ما يمسك، ولم يقيد بالرحمة أو غيرها، إشارة إلى أن الله سبحانه إنما يمسك ما يمسك لاضنّا بما يمسكه، وإنما لحكمة وتقدير.. «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» الذي عز سلطانه فملك كل شىء، والذي قام ملكه على الحكمة، فلا يقع فيه شىء إلا بتقدير الحكيم العليم قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ» وإذا كان الله سبحانه وتعالى، هو مالك الملك وحده، والمنصرف فيه بلا شريك يشاركه- فإن أي مخلوق يتوجه إلى غير خالقه، ويطلب الرزق منه، يكون قد ضل، ولن يبوء إلا بالخيبة والخسران. - وقوله تعالى: «فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ» استفهام إنكارى، ينكر على الذين يولّون وجوههم إلى غير الله، ويلتمسون الرزق من غيره- ينكر عليهم هذا الضلال، ويتبعهم إلى هذا المتجه الخاطئ الذي يتجهون إليه.. والإفك: الافتراء والبهتان. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 852 قوله تعالى: «وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» . هو عزاء كريم من الله سبحانه وتعالى، للنبى صلوات الله وسلامه عليه، فيما يلقى من قومه من تكذيب، فهو ليس وحده الذي كذّب من قومه، فإن إخوانه الأنبياء من قبله، قد لقوا من أقوامهم مثل ما لقى، من سفاهة السفهاء، وتطاول الحمقى، وتكذيب الضالين والجاهلين.. - وقوله تعالى: «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» تهديد لهؤلاء المكذبين، وبأن أمرهم إلى الله، وأنهم راجعون إليه، فيقضى فيهم بحكمه، ويجزى المسيء منهم بما عمل! .. قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ» وعد الله: هو ما وعد الله سبحانه فى آياته، وعلى لسان رسوله، من البعث والحساب.. والجزاء، والجنة والنار. وهذا الوعد حق، وهو آت لا ريب فيه.. - وقوله تعالى: «فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا» تنبيه للغافلين عن هذا اليوم، المتناسين أو الناسين لهذا الوعد، المشغولين عنه بما بين أيديهم من متاع الدنيا وزخارفها.. - وقوله تعالى: «وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ» الغرور: هو الشيطان، وسمى غرورا، لأن يغر الناس، ويخدعهم، ويزين لهم الضلال، فيأتونه وكأنه الهدى.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 853 وكل ما يشغل الإنسان عن الله، وعن العمل الصالح، هو غرور، لأنه يغرر بالإنسان ويخدعه،.. ومنه الغرر فى البيوع. وقد حرمه الإسلام لما فيه من مخاطرة وغبن. قوله تعالى: «إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ» .. هو وصف كاشف لهذا «الغرور» وهو الشيطان.. إنه عدو للناس، ومن الحكمة أن يحذر المرء عدوه، وألّا يأمن جانبه.. وهو عدو خفى، وهذا يقضى بالانتباه الشديد إلى هذا العدو، وإلى الأساليب والحيل التي يدخل بها على الإنسان.. فكل منكر، وكل ضلال، من ورائه شيطان يدفع الإنسان إليه، ويزين له الطريق نحوه.. فإذا واجه الإنسان منكرا، أو تلبس به، فليذكر أنه ضحية عدوه هذا، وأنه قد تمكن منه، ونال غايته فيه.. فليجتهد ما استطاع أن يخرج من سلطان هذا العدو، وأن يفسد عليه صنيعه به، وأن يشد عزمه وإرادته، وأن يستحضر جلال الله وعظمته، وأن يذكر أنه فى موقفه هذا، على الطريق إلى جهنم، والشيطان هو الرائد إليها، والداعي إلى عذاب السعير.. قوله تعالى: «الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» . وحزب الشيطان وأولياؤه هم الكافرون، والكافرون لهم عذاب شديد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 854 أما أعداء الشيطان، فهم المؤمنون، الذين خرجوا عن سلطان هذا «الغرور» فاستجابوا لله، وآمنوا به، وعملوا الصالحات.. وهؤلاء «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» فالله سبحانه وتعالى يتفضل عليهم بالمغفرة لما وقع منهم من ذنوب، لأنهم إذا أساءوا أحسنوا، وإذا أذنبوا تابوا.. والله سبحانه وتعالى يقول فى عباده المؤمنين: «وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ.. أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ» (22: الرعد) ويقول النبي الكريم: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» . الآيات: (8- 14) [سورة فاطر (35) : الآيات 8 الى 14] أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) الجزء: 11 ¦ الصفحة: 855 التفسير: قوله تعالى: «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ» . وقفت الآيات السابقة من المشركين موقف الناصح الداعي إلى الحق، الكاشف عن آيات الله، وآلائه، المحذّر من بأس الله وعذابه، المواسى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، من تكذيب المشركين له.. فتلك هى سبيل الضالين مع رسل الله فى كل أمة.. وهنا فى هذه الآية، يتلقى النبي من ربّه عزاء جميلا، عن مصابه فى قومه، ودعوة كريمة إلى الرفق بنفسه، والترويح عنها، والإمساك بها بعيدا عن موطن الحزن والحسرة، على من لا يستحقون الأسى عليهم، والحزن لهلاكهم.. إن نفسه أعزّ على الله وأكرم من أن تشقى هذا الشقاء المعنّى، فى سبيل نفوس رخيصة ضائعة، لا يقام لها وزن.. - وفى قوله تعالى: «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً» استفهام إنكارى، يراد به كشف هؤلاء المشركين للنبىّ، وأنهم قد زين لهم سوء أعمالهم، فرأوها حسنة، وأنهم من أجل هذا لن يتحولوا عمّا هم فيه أبدا.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 856 إنهم يرون الخير كلّ الخير، والحق كلّ الحقّ، فيما هم فيه.. ومن كان على هذا الرأى فيما عنده، فلن يقبل بحال أن يستبدل به غيره أبدا.. وفى النظم القرآنى كلام محذوف، دل عليه السياق، والتقدير: «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً» أيستجيب لداع يدعوه إلى غير هذا الذي زيّن له؟ ذلك ما لا يكون.. وهؤلاء المشركون الذين أمسكوا بشركهم، قد زيّن لهم هذا الشرك، فرأوه حسنا.. وإذن فلا يرجى منهم أن يستجيبوا لك أبدا.. ومن هنا فإن الأسى عليهم، والجزع من المصير الذي هم صائرون إليه- لا محلّ له، إذ كان هو المنزل الذي تخيّروه ورضوا به، وإذ كان ذلك هو الزاد الذي لن يستسيغوا غيره. «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» .! - وفى قوله تعالى: «فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ» إشارة إلى قضاء الله فى هؤلاء المشركين، فإنهم ممن أضلهم الله.. «وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً» (17: الكهف) قوله تعالى: «وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ» . مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الله سبحانه وتعالى، يبعث رسله بالرحمة إلى عباده، فيقبلها قوم، وبأباها آخرون. فهى أشبه بالغيث، ينزل من السماء، فتحيا بها أماكن منها، وتخرج الحبّ والثمر، على حين يتحول به بعضها إلى أحراش، تؤوي الهوام والحشرات. - وقوله تعالى: «وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ، فَتُثِيرُ سَحاباً» هو معطوف الجزء: 11 ¦ الصفحة: 857 على الجملة الابتدائية فى قوله تعالى: «فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ» وذلك مثل قوله تعالى: «أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ» .. والتقدير: إن الله يضل من يشاء ويهدى من يشاء، وهو سبحانه الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً» واختلاف النظم فى «يَهْدِي» (بالفعل المتجدد) «وأَرْسَلَ» (بالفعل الماضي) .. إشارة إلى أن الإرسال يسبق الآثار المترتبة عليه، وهى الإهداء، أو الإضلال، والإحياء أو الإماتة.. فالإرسال سابق، ولهذا عبّر عنه بالفعل الماضي.. والآثار المترتبة عليه، مستمرة، لا تنقطع، ولهذا عبر عنه بفعل المستقبل «يهدى» . - وفى قوله تعالى «كَذلِكَ النُّشُورُ» .. إشارة إلى قضية البعث، التي هى مبعث ارتياب المشركين، وتكذيبهم للرسول فى كل ما يدعوهم إليه.. وفى هذه الإشارة دليل مادىّ محسوس يشهد لإمكانية البعث، وأنه إذا كانت الأرض الميتة المجدبة، ينزل عليها الماء، فتلد هذه المواليد العجيبة، من النبات، والزهر، والثمر، فإن هذه الأرض التي أودع فى ترابها الناس، ليس ببعيد أن ينفخ الله فيها نفخة الحياة، فتخرج ما فى بطنها من آدميين! .. قوله تعالى: «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً.. إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ» . أي أن هؤلاء المشركين إنما يتخذون هذه الآلهة التي يعبدونها من دون الله، ليكونوا لهم شفعاء عند الله، ولينالوا بهم عزا وجاها، كما يقول سبحانه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 858 «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا» (81: مريم) ولقد أخطأ هؤلاء المشركون الطريق إلى العزة.. إن العزة لله جميعا، لا يملك أحد منها شيئا، فمن أراد العزة ولم يلتمسها من الله، فلن ينال منها شيئا.. - وقوله تعالى: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ» .. إشارة إلى أن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، ولا يرد موارد عزّته إلا الطيبون.. والمشركون نجس، وإذن فلا طريق لهم إلى الله، ولا شىء لهم من العزة التي هى ملك يمينه.. وأنهم إذا أرادوا أن يأخذوا طريقهم إلى الله، وإلى العزة التي بين يديه، فليتطهروا من شركهم، وليؤمنوا بالله، وبغير الإيمان بالله لن يكون لهم طريق إلى الله.. فالكلم الطيب هو كلمة التوحيد: «لا إله إلا الله» وقوله تعالى: «وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» - إشارة إلى الإيمان بالله يقيم صاحبه على أول الطريق إلى الله، ثم تكون الأعمال الصالحة التي تقوم وراء الإيمان هى التي ترفع صاحبها إلى الله، وتدنيه منه.. فإن الإيمان- مجرد الإيمان- دون عمل صالح، هو خير معطل، أشبه بالنبتة الصالحة فى الأرض الطيبة، لا يصيبها ماء! فإذا أصابها الماء اهتزت لها الأرض وربت وأنبتت من كل زوج بهيج.. «فالعمل الصالح» يزكى الإيمان، وينميه، ويثبت دعائمه، ويرفع بنيانه وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ» .. مكر السيئات: تدبيرها، والاحتيال فى التمكين لها. وفى هذا تهديد للمشركين الذي يغرسون فى مغارس السوء، ويعملون فى مجال الضلال، إنهم لا يجنون من غرسهم هذا إلا أنكد الثمر وأخبثه.. إنه العذاب الشديد فى الآخرة، والحسرة والوبال فى الدنيا.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 859 وفى قوله تعالى «وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ» حكم قاطع على هذا المكر السيّء الذي يمكره المشركون بالنبي وبدعوته، بأنه إلى بوار وضياع، لا ينالون به من الذين يمكرون به، وهو هذا الدين الذين يدعون إليه- لا ينالون منه منالا، بل سيبطل الله مكرهم به، ويكتب لهذا الدين الغلب والنصر، ولأهله العزة والتمكين.. قوله تعالى: «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» هو عرض لبعض سلطان الله، وقدرته، وأن له سبحانه العزة جميعا.. فهو- سبحانه- بقدرته، خلق الناس من هذا التراب الهامد. فهذا التراب هو الأصل الذي تخلقت منه النطف، التي تخلّق منها الأجنة فى بطون الأمهات، ومن الأجنّة كانت المواليد، وكان الناس.. وهذا التراب، الذي يبدو أنه أصل أول فى خلق الإنسان، هو فى حقيقته، قد مرّ فى أطوار كثيرة، حتى صار هذا التراب.. تماما كما مر الإنسان فى أطوار الخلق، من النطفة إلى العلقة، إلى المضغة.. إلى آخر ما هنا لك من صور وأطوار فى الخلق. - وفى قوله تعالى: «ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً» إشارة إلى تنويع خلق الإنسان، فكان منه الذكر والأنثى.. كما يقول سبحانه وتعالى: «أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى» (37- 39: القيامة) الجزء: 11 ¦ الصفحة: 860 - وفى قوله تعالى: «وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ.. إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» - إشارة إلى أن قدرة الله سبحانه وتعالى، ليست واقفة عند هذا الحد من خلق هذا الإنسان من تراب، بل إن تلك القدرة قائمة على كل مخلوق، قبل خلقه، وبعد خلقه، وفى كل لحظة من لحظات وجوده وقبل وجوده.. فما تحمل من أنثى من حمل، ولا تضع من مولود، إلا وعلم الله قائم عليه، محيط به، ومقدر له العمر الذي يلبسه فى هذه الحياة، من طول أو قصر.. فهذا كله فى كتاب مبين، كتبه الله بعلمه، وأودعه فى كتاب مبين، هو اللوح المحفوظ.. والنقص من العمر، ليس نقصا فى العمر المقدّر فى كتاب الله للكائن الحي، وإنما هو نقص بالإضافة إلى من طال عمره.. فالذى قدر له أن يعيش أياما، أو شهورا، أو بضع سنين، إنما يعيش هذا العمر المقدر له فى علم الله، والمسطور فى كتابه، وهذا العمر، هو عمر يبدو ناقصا بالنسبة لمن يعيش عشرات السنين.. أما عمره فلم ينقص منه شىء.. وذلك كله يسير على الله، الذي لا يئوده حفظ هذا الوجود! قوله تعالى: «وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» ومن دلائل قدرة الله، وكمال عزته، أنه جمع بين البحرين، وفرق بينهما فى آن.. فهما فى واقع الحياة كائن واحد، يتشكل من مادة واحدة هى الماء. ومع هذا فهما طبيعتان متغايرتان.. «هذا عَذْبٌ فُراتٌ» أي ماء حلو: «سائع شرابه» أي تستبغ النفس شرابه، ويلذ لها طعمه.. «وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 861 أي كثير الملوحة ثم إنهما مع هذا الاختلاف، يثمران للإنسان ثمرا، يجنبه منهما على سواء، فمن الماء العذب والماء الملح، يأكل لحما طريا، هو ما يستخرج منهما من أنواع السمك.. كما يستخرج منهما حلىّ تلبس للزينة، كاللؤلؤ، والمرجان، وأنواع الصدف، وغيرها.. وعلى كلا البحرين- العذب والملح- تجرى السفن محملة بالبضائع والأمتعة، والناس وفى الآية الكريمة أكثر من إشارة. فأولا: الناس، وأصلهم من ماء، كهذا الماء. هم هذه النطفة، وقد فرقت القدرة الإلهية بينهم، كما فرقت بين العذب والملح فهناك المؤمنون والكافرون، وهما غير متساويين، كما أن الماء العذب والماء الملح غير متساويين. وثانيا: الماء العذب، بقا له المؤمن، والماء الملح، يقابله الكافر. والمؤمن طيب، مقبول فى الحياة الإنسانية.. إنّه الحياة التي تمسك بوجودها على الصحة والسلامة، كالماء العذب، فهو الذي يمسك حياة الأحياء، ويقيم وجودها.. وثالثا: الماء الملح، وهو على ما به من ملوحة لا تقبلها النفس، يشارك الماء العذب، فى استكمال حياة الناس، وفى جلب كثير من المصالح لهم. وكذلك الكافر، إنه- على ما به- يشارك فى بناء الحياة الإنسانية، ويمثلّ جانبا مهمّا منها. إنه الكفة الأخرى التي يعتدل بها ميزان الحياة.. وإنه لولا الكافر، ما استبان وجه المؤمن، ولا عرف فضله، ومقامه.. ورابعا: الماء الملح، هو الكثرة الغالبة فيما على الأرض من ماء، وكذلك الكفر، هو الوجه العريض فى دنيا الناس، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ- وَلَوْ حَرَصْتَ- بِمُؤْمِنِينَ» (103: يوسف) وخامسا: أنه برسالات السماء، وهدى الرسل، يخرج المؤمنون من أحشاء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 862 هذا الكفر، وذلك بعد صراع ومعاناة.. تماما كما يخرج الماء العذب من صدر المحيطات، بفعل الرياح التي تثير أمواجها، وتخرج بخارها، وتعلو به فى طبقات الجو، ثم تشكلّه سحابا، تدفع به إلى حيث أراد الله، وإلى حيث قدر لهذا السحاب أن ينزل من ماء.. وهناك صور كثيرة لا تنتهى، يمكن أن يراها الناظرون فى الآية الكريمة، وفى النظر إلى الناس على ضوئها.. قوله تعالى: «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ» ومن قدرة الله، وبسطة سلطانه، وكمال عزته.. أنه- سبحانه- «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ» أي أنه سبحانه يدخل الليل، بظلامه الكثيف، فى أحشاء النهار، فيشتمل عليه النهار، ويستولى بسلطانه المشرق، على ظلماته المتراكمة.. فإذا الدنيا وقد خلعت هذا الرداء الأسود، ولبست ذلك الثوب النورانى، كما تلبس العروس ثوب زفافها.. وأنه سبحانه- بقدرته- «يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ» فيدخل هذا النور الساطع فى أحشاء الظلام، فيستولى الظلام بسلطانه على هذا النور.. وهكذا الحياة.. نور وظلام، وخير وشر، وعذب فرات وملح أجاج، ومؤمن وكافر.. - وقوله تعالى: «وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ.. كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى» أي ومن قدرته سبحانه، أنه سخر الشمس والقمر لسلطانه، وأجراهما بقدرته، كيف شاء، وأقامهما على هذا النظام المحكم الذي لا يدخل عليه أي اضطراب أو خلل: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 863 «لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» (40: يس) - قوله تعالى: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ.. لَهُ الْمُلْكُ» أي ذلك الذي أقام الوجود على هذا النظام، واستولى بسلطانه على كل شىء فيه- هو الرب، الخالق الذي لا رب سواه ولا خالق غيره.. فمن ابتغى ربّا غيره فقد ضل، ومن عبد معبودا سواه فقد هلك.. ذلك هو ربّ العالمين- له الملك، وله الخلق والأمر.. - قوله تعالى: «وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ» القطمير: هو القشرة الرقيقة التي تكون غلافا للنواة فى داخل الثمرة.. أمّا الذين يعبدهم المشركون من أرباب، فإنهم لا يملكون مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض.. ما يملكون جميعا قشرة من نواة.. فما أضلّ من يلتمس العزّة، ويرجو الخير ممن لا يملك شيئا.. قوله تعالى: «إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ» . أي أن هؤلاء المعبودين الذين اتخذهم المشركون أربابا لهم من دون الله، إن يدعهم عابدوهم إلى أي أمر، ولأية حاجة- لا يسمعوا دعاءهم.. لأنهم أحجار صمّاء، ودمى خرساء.. «وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ» أي لو قدّر لهم أن يسمعوا- فرضا- أو كان فيهم من يسمع- فعلا- كالملائكة والجنّ، وغيرهم ممن يعبدهم المشركون- ما استجابوا لهم، وما أسعفوهم بما يطلبون منهم.. إنهم يطلبون شيئا ممن لا يملك شيئا.. وفاقد الشيء لا يعطيه.. وقوله تعالى: «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ» .. وأكثر من هذا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 864 فإن هؤلاء المعبودين يلقون عابديهم يوم القيامة على عداوة لهم، وكفر بعبادتهم إياهم، وبراءة من تلك التهمة التي أرادوا أن يلصقوها بهم.. وقوله تعالى: «وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ» إشارة إلى أن ما تحدّث به الآية من تلك الحقائق، هو الحق المطلق الذي لا شك فيه، لأنه من عند الله، العليم الخبير.. وهذا ما يقضى بالتصديق بهذه الأخبار، والعمل بها، وأخذ العبرة منها، لأنها ممن يعلم الغيب فى السموات والأرض، وكلّ علم يخالف هذا العلم، باطل، وضلال.. الآيات: (15- 23) [سورة فاطر (35) : الآيات 15 الى 23] يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23) التفسير: قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 865 كشفت الآيات السابقة عن وجه الأرباب التي يتعبد لها المشركون، وأنها لا تسمع دعاء، ولو سمعت ما استجابت لداعيها، لأنها لا تملك شيئا.. - وفى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ» دعوة للناس أن يتجهوا بحاجاتهم إلى من يملك كل شىء، ومن بيده الخير كله.. والناس جميعا فى حاجة دائمة إلى من يعينهم، ويقضى حوائجهم، وهم يتوسلون إلى هذا بكثير من الوسائل، ومنها عبادة الأصنام، والملائكة والجنّ، والملوك وأصحاب الجاه والسلطان، يبغون بذلك الخير منهم.. وكلهم إنما يتناولون ما بين أيديهم من جاء، أو سلطان، أو مال- من عطاء الله.. إنهم فقراء إلى الله.. إن حبس عنهم العطاء، كانوا أفقر الفقراء، وأضعف الضعفاء.. وإذن فالناس جميعا- غنيّهم وفقيرهم- فقير إلى الله.. «كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً» (20: الإسراء) وقوله تعالى: «وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» حثّ للناس على الطلب من الله، والرغب إليه فيما عنده.. فإنه سبحانه غنىّ، لا تنفذ خزائنه، ولا تنقص بالعطاء أبدا.. «وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ» (32: النساء) فهو سبحانه يستجيب لمن سأله، ويعطيه ما شاء من فضله.. وهو سبحانه «حميد» أي يحمد لعباده ما يلقون به عطاءه، من حمد وشكر، أيّا كان هذا العطاء، قليلا أو كثيرا.. إنه فضل من فضل وإحسان من إحسانه.. وإن من لا يشكر على القليل لا يشكر على الكثير.. قوله تعالى: «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ» أي إن من فقركم إلى الله، أيها الناس، هو احتياجكم إليه فى حفظ حياتكم.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 866 فهو سبحانه الذي أوجدكم، وهو سبحانه الذي يحفظ عليكم وجودكم، كما يحفظ وجود الموجودات كلها: «إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ» (41: فاطر) وفى الآيتين تهديد للناس، إذا هم لم يؤمنوا بالله، ويحمدوا له ما هم فيه من فضله وإحسانه.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» (56- 58 الذاريات) .. فإذا لم يؤدّ الناس واجب الشكر لله، ولم يقوموا على الوظيفة التي خلقهم الله لها، لم يكونوا أهلا ليشغلوا هذا المكان، وكان أولى أن يشغله غيرهم، ممن يعرف لهذا المكان قدره، ويؤدى المطلوب منه فيه.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ» (38: محمد) «وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ» أي ليس عسيرا على الله أن يستبدل خلقا بخلق، وعالما بعالم، وكيف وهو الخالق لكل شىء؟ قوله تعالى: «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ.. وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» جاءت هذه الآية تعقيبا على الآيتين السابقتين اللتين حملتا تهديدا للناس بإفنائهم جميعا، إذا هم لم يوفوا حق الله عليهم، من إيمان به وشكر له.. وفى هذه الآية تفرقة بين الناس، الذين وضعتهم الآيتان السابقتان وضعا واحدا فى مقام التهديد.. فالناس، وإن كانوا مجتمعا واحدا، هم أشبه بالجسد الواحد، يتأثر، ويشقى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 867 بالأعضاء الضعيفة، أو الفاسدة فيه، إلا أنهم من جهة أخرى أفراد متميزون.. كلّ منهم له وجوده الذاتي، وحياته الخاصة به، وحسابه الذي يقوم عليه ميزانه فى مقام الخير والشر على السواء.. فإذا نظر إلى الإنسان من خلال المجتمع، كان عليه أن يكون عضوا صالحا فيه، ثم كان عليه أيضا أن يعمل على إصلاح ما يظهر من فساد فى مجتمعه.. ففى ذلك حماية له من عدوى الفساد، ومن ريحه الخبيثة، أن تفسد عليه حياته.. ثم إذا نظر إليه من خلال ذاته- صالحا كان أو فاسدا- كان التعامل معه فى مقام الحساب والجزاء على أساس شخصى.. فله إحسانه كله، وعليه إساءته كلها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: - «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» والوزر: الإثم والذنب. والوازرة. حاملة الوزر، والمراد بها ذات الإنسان.. والمعنى، أنه لا يحمل إنسان ذنب غيره، ولا يعينه فى حمله، وإن كان حمله خفيفا، وحمل غيره ثقيلا، ولو كان حامل هذا الحمل الثقيل قريبا، كأب، أو ابن، أو زوج، أو أخ لمن يدعوه إلى حمل بعض ما حمل.. كما يقول سبحانه بعد هذا: - «وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى» هذا هو ميزان الحساب للناس.. لكل إنسان عند الله، جزاء ما عمل.. قوله تعالى: - «إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ» أي إنما ينفع هذا البيان، وذلك النذير، من يخشى الله بالغيب، ويعرف الجزء: 11 ¦ الصفحة: 868 جلاله وبأسه، من غير أن يراه، وإنما يرى آثاره ويشهد جلال قدرته، وعلمه، وحكمته فيما أبدع وصور فى هذا الوجود.. وهذه الخشية إنما تكون عن استعداد فطرى، يقبل التعامل مع العالم غير المحسوس، عالم الغيب.. فهناك كثير من الطبائع قد تأثرت بالعالم المادي، وتشكلت ملكاتها على قوالبه، فلا تقبل التعامل إلا مع الماديات.. أما ما وراء المادة فإنها ترفض التسليم به، وتأبى التعامل معه. وفى قصر الإنذار على الذين يخشون ربهم بالغيب، مع أن الرسول نذير وبشير للناس جميعا- فى هذا إشارة إلى أن الذين ينتفعون بهذا النذير، هم الناس، وهم أهل للخطاب، وأما غيرهم، فلا حساب لهم ولا وزن فى هذا المقام.. - قوله تعالى: «وَأَقامُوا الصَّلاةَ» معطوف على قوله تعالى: «الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ» وكان النظم يقضى بالتوافق فى وحدة الزمن بين الفعلين المتعاطفين، فيكونان مضارعين أو ماضيين،.. ولكن جاء الحديث عن الخشية بالفعل المضارع، الذي يحمل زمنا متجددا، على حين جاء الحديث عن إقامة الصلاة بالفعل الماضي، الذي يقطع الفعل عن المستقبل، وهذا لا يكون فى القرآن الكريم إلا عن حكمة، وتقدير.. والذي يبدو لنا من هذا- والله أعلم- أن الخشية لله بالغيب، لا تكون إلا عن طبيعة تتقبل التعامل بما وراء المادة، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، أما الطبيعة التي تلبست بها المادة، وسيطرت عليها، فلا يكون منها نظر إلى ما وراء المادة، ولا تقع منها خشية لله، لأنها لا ترى الله، ولا تشهد جلاله، وسلطانه.. فالإنذار لا يفيد، ولا يؤثر، إلا إذا صادف طبيعة من شأنها أن تتقبل الإيمان بما وراء المادة، وعن هذه الطبيعة تصدر الخشية من الله، فى كل حال، وفى كل موقف يقفه صاحب هذه الطبيعة، فيشهد فى أي حال الجزء: 11 ¦ الصفحة: 869 من أحواله، وفى كل موقف من مواقفه- جلال الله، وسلطان الله، فيخشاه ويتّقى حرماته، ولا يجد الجرأة على تعدّى حدوده.. ومن جهة أخرى، فإن هذه الطبيعة التي من شأنها أن تخشى الله بالغيب، وتتوقّى الوقوع فى الإثم- هذه الطبيعة لا يقيمها على الطريق القويم، ولا يجلو بصيرتها جلاء ترى على ضوئه ما لله- سبحانه- من كمال، وجلال، وسلطان- إلا الصلاة، وإقامتها على وجهها الصحيح.. فهى التي تعطى الخشية مضمونا ذا قيمة مؤثرة فى سلوك الإنسان، كما أن الخشية هى التي تعطى الصلاة قدرا وأثرا.. فالصلاة من غير خشية لا ثمرة لها، ولا خير منها.. والخشية التي لا تغذّيها الصلاة وتنميها، هى زرع حبس عنه الماء، فلا يلبث أن يذوى، ويذبل، ثم يجفّ ويموت فمن الخشية لله، أن تقام الصلاة، فمن لا يخشى الله لا يقيمها، ومن أقامها على غير خشية، فلا نفع له منها.. فخشية الله، هى أساس الإيمان، وملاك كل عمل يعمله المؤمن بالله.. فإذا خلا قلب الإنسان من خشية الله، لم يكن ثمة إيمان، ولم يكن ثمة عمل يقوم فى ظل هذا الإيمان.. وفى الحديث الشريف: «لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر شاربها وهو مؤمن» .. فالمراد بنفي الإيمان هنا، هو نفى الخشية من الله، عند ارتكاب هذه المنكرات.. فلو كان الإنسان المواجه لهذه المنكرات على خشية من الله ما أقدم على اقتراف واحدة منها.. فالخشية المطلوبة من المؤمن، خشية دائمة، متجددة.. ومن هنا كان التعبير عنها بفعل الاستمرار والتجدد.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 870 أما إقامة الصلاة.. فهى عمل من أعمال المؤمن، لا يقوم إلا فى ظل من خشية الله، ولا يثمر ثمرة طيبة إلا إذا كان عن فيض منها،. ومن هنا ارتبطت إقامة الصلاة بها، وكانت حالا من أحوالها، أو أحوال أهلها.. واختصت الصلاة بالذكر لأنها عمود الدين، فمن أقامها فقد أقام الدين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ» (11: يس) وقوله سبحانه: «ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ» .. (2- 3: البقرة) قوله تعالى: «وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» .. التزكى: التطهر، من الشرك، والكفر، ومن الآثام والمنكرات.. أي ومن تطهر من الشرك والكفر، وجنّب نفسه التلوث بأقذار الآثام والمنكرات، فإنما يتطهر لنفسه، حيث تظهر آثار ذلك عليه، وتكون عائدة هذا التطهر راجعة إليه، يوم يعرض على ربه نقيا، طاهرا، فيدخل فى رضوان الله مع الطيبين الطاهرين.. [الإيحاء النفسي.. وأسلوب الدعوة] قوله تعالى: «وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ.. إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ» .. فى هذه الآيات عرض لما بين الأشياء ونقيضها من تفاوت بعيد، واختلاف شديد.. وأن الشيء ونقيضه لا يستويان أبدا.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 871 فالأعمى.. والبصير.. لا يستويان.. هذا أعمى، وذاك مبصر.. والظلمات.. والنور. لا يستويان كذلك. هذه ظلمات، وذاك نور.. والظل.. والحرور.. لا يستويان أيضا.. هذا ظل بارد، وذاك سموم حار.. والأحياء.. والأموات.. على رفى نقيض.. هؤلاء أحياء، وأولئك أموات هامدون.. ويلاحظ هنا أمران: أولهما: جمع الظلمات، وإفراد النور.. وذلك لأن الظلمات هى ظلال أشباح، داخلة إلى عالم النور، إذ كان العالم كله نورا من نور الله، كما يقول سبحانه: «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» فالعالم كيان واحد من نور، وهذا الظلام الذي يرى فى العالم، إنما هو من ظلال تلك الأشباح الكثيفة الداخلة عليه.. ومن جهة أخرى، فإن الذي يعيش فى النور، إنما يأخذ طريقا واحدا فيه إلى غايته، أما الذي يعيش فى الظلمات، فإنه لا يعرف له طريقا.. بل يتحرك مضطربا على طرق شتى.. وثانيهما: تقديم الظل على الحرور، والأحياء على الأموات.. وكان النظم يقضى بتقديم الحرور على الظل، والأموات، على الأحياء، لتتسق ألوان الصورة كلها، فيكون الأسود المعتم (الأعمى، والظلمات، والحرور، والأموات) - فى جانب، والأبيض المشرق (البصير، والنور، والأحياء، والظل) - فى جانب آخر! فما حكمة هذا؟. نقول- والله أعلم- إن الجواب على هذا من وجهين: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 872 أولا: أن الظل هو نعمة، فى مقابلة الحرور، وكذلك الحياة نعمة، فى مقابلة الموت.. فقدمت هنا نعمتان، على حين قدمت قبلهما آفتان، هما العمى والظلمات.. وفى هذا التوزيع توازن لألوان الصورة، حيث جاءت هكذا: آفتان تقابلان نعمتين.. العمى والبصر، والظلام والنور.. ونعمتان تقابلان آفتين.. الظل والحرور، والحياة والموت. وثانيا: أن الأصل فى نفى الاستواء- وهو التوازن بين الشيئين- أن يقع أولا على الناقص منهما، فيقدّم المفضول على الفاضل، كما فى قوله تعالى: «لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ» .. (29: الحشر) وقوله سبحانه: «لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ- غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ- وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» .. (95: النساء) هذا هو الاستعمال فى أصل اللغة، فإذا خرج الاستعمال عن هذا الأصل، كان ذلك لغاية يراد لها.. كما فى قوله تعالى: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» (9: الزمر) وذلك حين لا يكون المراد هو تقرير حكم فى المفاضلة بين أمرين، وإنما المراد هو الإلفات إلى أن الأمور ليست على وجه واحد، وإنما لكل أمر وجهان.. وجه، وضدّ لهذا الوجه. مثل الوجود والعدم، والحق والباطل، والإيمان والكفر، والنور والظلام، والظل والحر، والعذب والملح.. وهكذا.. والمطلوب من الخصم أن يعترف به هنا، هو أن الشيء الذي يمسك به، ليس هو كل الشيء، وإنما يقابله نقيضه، الذي يجب أن ينظر فيه، ويقابل الوجه الذي معه، على الوجه الآخر، الذي لهذا الشيء.. فإذا كان المشركون يمسكون بالشرك، ولا يرون أن هناك معتقدا غيره- الجزء: 11 ¦ الصفحة: 873 فيلعلموا أن هناك وجها، آخر لا بد أن يقابل هذا الشرك، دون التفات إلى أيهما الفاضل وأيهما المفضول.. إن الأمور لا تكون إلا على هذا الازدواج.. الشيء وضده.. وليس الشرك الذي بين أيديهم بدعا من الأشياء.. فليبحثوا عن الوجه الآخر المقابل له.. فإذا فعلوا، كانت المرحلة الثانية من مراحل النظر، وهى أن يوازنوا بين ما معهم من شرك، وبين الوجه الآخر المقابل له، وهو الإيمان.. وقد جاء الأمران الأولان على الأصل، فقدّم فيهما المفضول على الفاضل، على حين جاء الأمران الآخران على غير الأصل، فقدم فيهما الفاضل على المفضول.. وبهذا أخذ كل من الفاضل والمفضول مكانه فى الصورة على قدم المساواة.. لأن الأمر- كما قلنا- لم يكن يراد منه المفاضلة، وإنما المراد هو إثبات تلك الحقيقة التي لا خلاف عليها، وهى الازدواج فى الأشياء، والتقابل بين الشيء وضده.. وفى مجىء المقطع الأول من الصورة، على أصل الوضع فى اللغة، الذي يتفق مع مجرى التفكير، وذلك بتقديم المفضول على الفاضل، فى مقام الموازنة والمفاضلة بينهما- فى هذا التقاء مع المشركين على أمر لا خلاف عليه، بين مؤمن وغير مؤمن.. وهذا من شأنه ألّا يصدم تفكيرهم، ولا يخرج بهم عن مألوفهم، الأمر الذي يدعوهم إلى الاستماع إلى هذا الذي يعرض عليهم، وإلى النظر فيه.. فإذا وقع مقطع هذا الحديث من أنفسهم هذا الموقع، واجههم المقطع الآخر من الصورة، وهو مقطع قد انقلب فيه الوضع، وانعكست فيه مواقع الأمور، فقدّم ما حقه التأخير، وأخّر ما حقه التقديم، وفى هذا إشارة إلى أمرين: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 874 أولهما: أن المشركين قد انعكست فى أنفسهم حقائق الأشياء، وأنهم إنما ينظرون إلى الأمور، وهم فى وضع منكوس، وأنهم لو اعتدلوا فى وضعهم لرأوا هذا المقطع من الصورة على حقيقته.. إنهم يعيشون فى الحرور ويحسبونه الظلّ، وهم أموات، ويحسبون أنهم أحياء.. هذا هو وضعهم، فإذا شكّووا فى هذا فلينظروا فى هذا المقطع من الصورة التي بين أيديهم، وسيرون أن الحرور أفضل من الظل، وأن الميت أكثر حياة من الحىّ.. وبهذا ينكشف لهم الوضع المقلوب، الذي ينظرون فيه إلى الأشياء.. وثانيهما: أنهم لو أرادوا أن يقيموا الصورة كلها على وضع سليم، لكان عليهم أن يغيّروا بأيديهم هذا الوضع الذي أخذه المقطع الثاني من الصورة، وأن يجعلوه موافقا للوضع الأول، فيقدموا الحرور على الظل، والأموات على الأحياء، وبهذا يكون الحكم على المطلوب صادرا منهم، فتجىء الصورة العامة هكذا: «وما يستوى الأعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور، ولا الحرور ولا الظل ولا الأموات ولا الأحياء» .. إنها عملية تدعو إلى تحريك العقل، وإلى أن يعمل عملا جادّا على تسوية هذه المتناقضات.. فإذا اتجهت عقولهم إلى هذا الاتجاه، كان من طبيعة الأمور ألّا ترصى عقولهم بهذه المتناقضات، التي تقوم فى كيانهم، حيث يؤثرون الضلال على الهدى، والكفر على الإيمان.. وهكذا تجىء آيات الله، بهذه الإيحاءات النفسية، التي تدخل العقل فى رفق ولطف، إلى مواطن الهدى، ومواقع الخير.. - وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ» .. إشارة إلى أن الناس فريقان: فريق يسمع آيات الله ويستجيب لها، وفريق لا يسمع ولا يستجيب.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 875 هذه بديهة تنطق بها الحقيقة المنتزعة من المقدمة السابقة، التي عرضت فيها هذه الأمور الأربعة.. وفى إسناد الإسماع إلى الله تعالى، إشارة إلى أن هذا الأمر كلّه بيد الله، وكل شىء معلق بمشيئته: «مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (39: الأنعام) : وقوله تعالى: «وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ» تيئيس للمشركين الذين استولى عليهم الشرك، أن يكونوا فى السامعين، وإراحة للرسول من بذل الجهد فى سبيل إسماعهم.. إنهم أموات.. وليس من عمل الرسول أن يسمع الأموات.. «إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ» . (80: النمل) «إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ» .. فهذا هو عمل الرسول.. إنه نذير، ينذر هؤلاء الضالّين، ويخوفهم عذاب الله، وليس من شأنه أن يفتح آذانهم التي أصمها الله عن أن تسمع كلماته.. وقد اقتصر هنا على جانب من رسالة الرسول، وهو الإنذار، لأن الخطاب فى مواجهة المشركين، الذين لن يؤمنوا أبدا، والذين ليس لهم إلا ما تحمل إليهم النذر من عذاب، وبلاء.. الآيات: (24- 28) [سورة فاطر (35) : الآيات 24 الى 28] إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) الجزء: 11 ¦ الصفحة: 876 التفسير: قوله تعالى: «إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ» وليس الرسول.. صلوات الله وسلامه عليه.. نذيرا وحسب، وإنما هو نذير وبشير.. نذير للضالين المكذبين، وبشير للمؤمنين المهتدين.. وفى قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ» إشارة إلى أن الله سبحانه قد بعث فى كل أمة رسولا، ينذر، ويبشر.. كما يقول سبحانه. «رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» (165: النساء) . واقتصر هنا فى رسالة الرسل، على الإنذار، لأن المقام- كما قلنا- مقام تهديد للمشركين وأهل الضّلال، ولأن أبرز جانب فى حياة الرسل، هو الجانب الإنذارى، حيث كانت حياتهم جهادا متصلا لأهل الكفر والضلال.. قوله تعالى: «وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 877 البينات: المعجزات المادية، البينة الإعجاز.. والزبر: جمع زبور، مثل عمود، وعمد.. والزّبور، الشيء المقطوع من أصل.. والمراد بالزّبر هنا، ما كان ينزل على الأنبياء من آيات الله، تحمل عظات وعبرا، وبشريات، ونذرا.. والكتاب المنير: هو التوراة.. كما يقول سبحانه: «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ» (44: المائدة) والآية مواساة للنبىّ، وعزاء كريم له من ربه، فيما يلقى من قومه من تكذيب.. فهو- صلوات الله وسلامه عليه- ليس أول رسول يلقى من قومه ما لقى، من اتهام وتكذيب، وإنما ذلك شأن الرسل قبله مع أقوامهم، جاءوهم بمعجزات مادية محسوسة، وجاءوهم بآيات الله وكلماته، وجاءوهم بكتاب منير من عند الله، يحمل دستورا متكاملا، للحياة الدنيا والآخرة- جاءوهم بكلّ هذا، فما وجدوا منهم إلا البهت والتكذيب، وإلا التهديد والأذى.. «فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ.. كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ» (35: الأحقاف) وقوله تعالى: «ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» تلك عاقبة المكذبين برسل الله.. لقد أخذهم الله بذنوبهم، وصبّ عليهم البلاء، صبا: «فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا.. وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (40: العنكبوت) - وقوله تعالى: «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» إلفات إلى بأس الله، وما أخذ به الظالمين، الذي أتوا المنكرات، فأنكر الله عليهم ما أتوه، وليس بعد إنكار الله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 878 إلا النقمة والبلاء.. فكيف تجد هذا البلاء وتلك النقمة فى أصحاب المنكر؟ انظر.. إنه شىء مهول.. نعوذ بالله منه.. قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ.. إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ» الجدد: القطع، واحدتها جدّة.. ومنه «جدّة» البلد المعروف على ساحل البحر الأحمر من الجزيرة العربية، لأنها جدّت أي قطعت من الآكام والهضاب القائمة فى هذا الموقع.. ومنه أيضا قول الشاعر.. أبى حبّى سليمى أن يبتدأ ... وأمسى حبها خلقا جديدا أي أمسى حبها قديما، قد تقطع أديمه.. والغرابيب: جمع غربيب، مثل قنديل وقناديل، وهو الشيء الحالك السواد، ومنه سمى الغراب غرابا.. والآية معرض من معارض الخلق والإبداع، لقدرة الله سبحانه وتعالى.. وفيها إلفات إلى هؤلاء السادرين فى غيهم، الهائمين فى ظلمات جهلهم وضلالهم، أن يقيموا وجوههم على هذا الوجود، وأن يفتحوا أبصارهم على صحفه، وأن يقرءوا ما خط على هذه الصحف من سطور، تحدث عن قدرة الخالق، وإبداعه، وعلمه، وسلطانه.. - وفى قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها» خطاب للنبىّ ولكلّ من هو أهل لهذا الخطاب، من كل ذى عين، وعقل.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 879 فهذا سطر من صحيفة الوجود، يرى فيه الناظرون ما أبدعت قدرة الله، وما أخرجت من هذه الأرض الهامدة ومن ترابها الأسود، من ثمرات مختلفة ألوانها وطعومها. فمن هذا التراب الأسود، اكتست الأرض العارية الجديب، بحلة قشيبة، من الزهر، والثمر، المختلف الألوان، بين أحمر، وأصفر، وأبيض.. إلى غير ذلك مما لا حصر له من ألوان.. فمن أبدع هذا، وصوره على تلك الصور الرائعة المذهلة؟ «أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها.. أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ» (60: النمل) قوله تعالى: «وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ» سطور أخرى من صفحة الوجود.. يرى فيها الناظرون بألبابهم، قدرة الله وإبداعه فى هذا الجماد الجامد، وفى الجبال الثابتة الراسخة بالذات- إنها ليست أكوانا متضخمة بلا وزن ولا حساب، بل إن يد القدرة ممسكة بكل ذرة فيها، وإن الناظر ليرى فى ألوانها المختلفة من أبيض وأحمر، وأسود وما بين الأبيض والأحمر، والأسود- أن يدا قادرة، مدبرة، قد أقامتها بحساب دقيق وتدبير محكم، حيث أن وراء هذه الألوان صفات أخرى لتلك الجبال، فاللون الأبيض وراءه أحجار جبرية، على حين أن اللون الأحمر يضم أحجارا صلدة جامدة، أما اللون الأسود، ففى كيانه أحجار أشد صلابة، وأكثر احتمالا.. ففى هذه الألوان علم ينفذ منه العقل إلى حقائق، ومعطيات، فيها خير كثير، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 880 ورزق موفور.. وفى هذا دعوة إلى الدراسة والبحث والتعمق إلى ما وراء ظوهر الطبيعة.. فهذه الظواهر قشور، تخفى وراءها جواهر كريمة ومعادن نفيسة.. فمن وقف عند هذه القشور، لم يقع ليده إلا التافه المتساقط من لحاء شجرة الطبيعة، وأما من تجاوز هذه القشرة، فإنه خليق بأن يملأ يديه من كل خير، ويطعم من كل ثمر.. فإذا امتد نظر الناظر إلى عالم الإنسان، والدواب، والأنعام، وجد فى كل عالم صورا وأشكالا لا حصر لها.. فالعالم الإنسانى مثلا.. كل إنسان عالم بذاته.. فى صورته، ولونه، ولسانه، وفى مشاعره، وتفكيره، وتصوراته، وخواطره، بحيث لا يكاد يتفق إنسان وإنسان.. والدواب.. والأنعام كذلك.. كل حى منها، وإن بدا أنه قريب الشبه بغيره، فإن لكل حىّ منها صفات ظاهرة وباطنة، تميزه من غيره. ولكن من الذي يرى هذا، ويدرك الفروق الظاهرة، أو الخفية بين هذه المخلوقات؟ إنه لا يرى هذا إلا أهل العلم، وأصحاب النظر، الذين ينظرون بعقولهم لا بعيونهم وحدها.. ولهذا جاء قوله تعالى، تعقيبا على هذه الدعوة الداعية إلى النظر فى تلك الموجودات: «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» فإن هذه الخشية لله، التي تقع فى القلوب، وتستولى على المشاعر، لا تجىء إلا عن علم بما لله من جلال، وقدرة، وعلم، وحكمة.. وهذا العلم لا يحصّل إلا بالبحث الجادّ، والنظر المتأمل، والعقل الدارس المفكر، فى خلق السموات والأرض، وما فى السموات والأرض.. فمعرفة الله أولا، ثم الخشية له ثانيا.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 881 وإنه لا خشية إلا عن معرفة الذّات التي تخشى، ويخشى سلطانها، ويخاف بأسها. وإنه لا معرفة إلا عن نظر، وتفكر، وتدبر.. فمن كان أكثر معرفة لله، وعلما بما له من صفات الكمال والجلال- كان أكثر خشية لله، وتوقّيا لحرماته.. وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ» أي أنه مع ما لله من عزة وقوة وسلطان، فإنه سبحانه، غفور، يلقى أهل الإساءة بالمغفرة، إذا سألوا هم مغفرته، وطلبوا عفوه، والتمسوا رضاه. الآيات: (29- 37) [سورة فاطر (35) : الآيات 29 الى 37] إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) الجزء: 11 ¦ الصفحة: 882 التفسير قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ» .. مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة، أشارت إلى العلم، وإلى ما للعلماء من مقام عند الله، وما فى قلوبهم من خشية له، وذلك بما علموا من دلائل قدرته بالنظر فى آياته الكونية، نظرا عاقلا، مدركا، متفحصا. ملأ قلوبهم خشية لله، ومراقبة له، ومجانبة لحرماته.. وهنا- فى هذه الآية- دعوة إلى النظر فى آيات الله القرآنية، وما يقع للعقل منها من علم بالله سبحانه، وبما له- سبحانه- من علم، وحكمة، وقدرة.. ففى هذه الآيات القرآنية، معجزات، يرى فيها الذين يتلونها تلاوة مبصرة، وشواهد ناطقة تشهد بما لله من كمال وجلال، تماما كما يرى الراءون لآيات الله المادية المعجزة.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 883 فقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ» دعوة إلى التلاوة المتدبرة الفاقهة، التي تحصّل علما وحكمة، وهى التي تملأ القلوب إجلالا وخشية لله. «وَأَقامُوا الصَّلاةَ» .. الجملة هنا حالية من فاعل يتلون، أي يتلون كتاب الله، أي يخشون الله، وقد أقاموا الصلاة، فى ظل من هذه الخشية، وفى استصحاب لها.. فالآية هنا مثل قوله تعالى: «إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ» (18: فاطر) . «وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً» معطوف على «وَأَقامُوا الصَّلاةَ» أي وأنفقوا مما رزقهم الله سرّا وجهرا، فى ظل من خشية الله كذلك، وفى استصحاب لتلك الخشية.. «يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ» .. خبر إن.. أي أن هؤلاء الذين يتلون كتاب الله، تلاوة تملأ قلوبهم خشية لله، ثم يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة- وهم على خشية من الله- هؤلاء يرجون تجارة رائجة، رابحة لن تبور.. بل إنها تجد من يشتريها منهم، ويضاعف لهم الثمن فيها.. وإنه الله سبحانه وتعالى هو الذي يشترى منهم هذه البضاعة، ويضاعف لهم الثمن عليها.. قوله تعالى: «لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ.. إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ» . هو تعليل لنفى البوار عن تجارة هؤلاء العاملين، إنها تجارة يتقبلها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 884 الله منهم «لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ» أي ليعطيهم أجر ما عملوا كاملا وافيا غير منقوص، بل وأكثر من هذا، فإن الله سيزيدهم، ويضاعف لهم الأجر، فضلا وكرما وإحسانا منه.. «إِنَّهُ غَفُورٌ» يتجاوز عن سيئاتهم، «شكور» يقابل القليل من الإحسان بالجزيل من العطاء.. قوله تعالى: «وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ.. إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ» . هو إلفات إلى هذا الكتاب، الذي دعت الآية السابقة إلى تلاوته.. وأنه هو الحق، المصدق لما بين يديه من الكتب السابقة.. - وقوله تعالى: «مِنَ الْكِتابِ» من للتبعيض، وهذا يعنى أن ما كان قد نزل من القرآن الكريم، لم يكن كل القرآن، بل بعضه.. وهذا هو الواقع، فإن السورة مكية.. وهذا يعنى أن القرآن المدني لم يكن قد نزل منه شىء بعد.. - وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ» .. أي إنه سبحانه عالم بما يصلح أمر العباد، بصير بهم، فينزّل عليهم من آياته، فى كل زمن ما يناسبهم، ويتفق وعقولهم.. قوله تعالى: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» .. الكتاب هنا، هو القرآن الكريم.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 885 والذين أورثهم الله هذا الكتاب هم المؤمنون به، فى كل زمن، ومن كل أمة.. فهم الوارثون لهذا الكتاب، المنتفعون بما فيه من خير، انتفاع الوارث بما يرث.. والآية الكريمة تنويه بهذه الأمة الإسلامية، ورفع لقدرها، وحسبها أن تكون المصطفاة من عباد الله، لتلقّى هذا الكتاب، وجعله ميراثا دائما، يأخذه الأبناء عن الآباء إلى يوم الدين.. ففى العطف بحرف «ثم» إشارة إلى أن ما أوحى إلى النبي حتى نزول هذه الآية، لم يكن إلا بعضا من الكتاب.. وأن ميراث المسلمين لهذا الكتاب لم يأت بعد، لأن الكتاب لم يتم نزوله، وسيتم ذلك بعد بضع سنوات. ولهذا جاء العطف بثم ليفيد هذا التراخي فى الزمن، بين نزول هذه الآية وبين تمام نزول القرآن: - وفى قوله تعالى: «أَوْرَثْنَا» - إشارة أخرى إلى أن هذا الكتاب، هو ميراث المسلمين على مرّ الأزمان، وأنه لهم خالصة من دون الناس، إذ كانوا هم الذين ينتفعون به، ويجنون الثمر الطيب منه.. وسمّى القرآن ميراثا، لأنه فضل من فضل الله سبحانه وتعالى، لم يحصله المسلمون بكدّهم وسعيهم، وإنما وضعه الله بين أيديهم، إحسانا وفضلا. - وفى قوله تعالى: «اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا» إشارة ثالثة إلى أن هؤلاء المسلمين الذين ورثوا هذا الكتاب، هم المصطفون من عباد الله جميعا، لأنهم هم المؤمنون. وهذا يعنى أن الذين لا يؤمنون بهذا الكتاب، ليسوا على الإيمان،. بل هم كافرون، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ» وهذا يعنى من جبهة رابعة أن المسلمين جميعا هم الفريق المصطفى والمتخير من فريقى الناس.. إذ الناس فى الدنيا فريقان: مؤمن، وكافر، كما يقول الله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (2: التغابن) .. وهم فى الآخرة فريقان كذلك. كما يقول الله تعالى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 886 «فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» (7: الشورى) - وقوله تعالى: «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ» أي أن هؤلاء المسلمين، الذين أورثهم الله الكتاب، واصطفاهم من بين عباده للإيمان به- هؤلاء ليسوا على درجة واحدة، فى إيمانهم بالله، وفى منزلتهم عنده، بل هم درجات عند الله، وإن كانوا جميعا فى مقام الاصطفاء.. إنهم فى مجموعهم، ثلاث طوائف: طائفة آمنت بالله، ولكنها لم تعمل بهدى هذا الإيمان، ولم ترتفع بأعمالها إلى مستواه، فظلمت نفسها بالوقوف عند أول درجة من درجات الكمال، وقد فتح أمامها الطريق إليه، وأقيمت لها على جوانبه معالم الهدى.. وإنه لا عذر لها فى التوقف عن السير فى هذا الطريق الآمن المطمئن، لتجنى ما وعدت به على طريقه من خيرات ومسرات.. وهذه الطائفة هى طائفة العصاة من المؤمنين، أصحاب الكبائر.. وطائفة أخرى.. آمنت به كذلك، ولكنها لم تقف عند أول منزلة من منازل الإيمان، بل خطت خطوات بطيئة متمهلة.. تسير حينا، وتتوقف حينا.. ومع هذا فهى على الطريق سائرة. وهؤلاء هم المؤمنون، الذي خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا.. فأحسنوا وأساءوا، وأطاعوا وعصوا.. وهؤلاء هم وسط بين الذين ظلموا أنفسهم، والذين سبقوا بالخيرات. وهم الطائفة الثالثة من طوائف المؤمنين.. أما الطائفة الثالثة فهى طائفة أولئك الذين ساروا سيرا حثيثا على طريق الإيمان، فلم يقفوا عند إثم، ولم يسكنوا إلى كنف معصية، فسبقوا بالخيرات، وبلغوا الغاية التي يبلغها المؤمنون بإيمانهم.. وهؤلاء هم الأتقياء، والصالحون، والأبرار، وهم الذين أنعم الله عليهم، ومنحهم التوفيق، وحفظهم من الزلل على الطريق.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 887 وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ» .. فهذا السبق الذي كان لهم، هو بتوفيق الله، وبفضله عليهم، وإلى هذا يشير الله سبحانه بقوله: «ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» .. ويجوز أن تكون الإشارة هنا إلى الميراث، أو الاصطفاء فى قوله تعالى: «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا» . فهذا وذاك فضل كبير من الله رب العالمين. ونخلص من هذا إلى تقرير حقيقتين نراهما على ضوء هذه الآية الكريمة: الحقيقة الأولى، هى أن المسلمين، الذين أورثهم الله القرآن الكريم، هم جميعا- المستقيم منهم والمعوج، والمطيع والعاصي- هم الفريق المصطفى المتخير من الله من بين عباد الله.. فالمسلمون فريق.. والناس جميعا فريق.. الحقيقة الثانية، وهى أن أهل هذه الملة جميعا ناجون، وأن أهل المعصية منهم إذا حبسوا على النار قليلا أو كثيرا، فإنهم من أهل الجنة. وهذا ما بشير إليه الحديث الشريف: «من قال لا إله إلا الله مؤمنا بها قلبه دخل الجنة» وفى الحديث أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له» وينبنى على هاتين الحقيقتين أمور: أولها: أن على المسلم أن ينظر إلى نفسه، فى هذا المقام الكريم الذي وضعه الله سبحانه وتعالى فيه، وجعله من أهل اصطفائه، وهذا يقتضيه أن يحرص الحرص كله على أن يحتفظ بمكانه هذا، وأن يطلب منزلة أعلى، فى منازل الإيمان التي لا حدود لها، وألا يسفّ ويتدلّى، فتزلّ قدمه بعد ثبوتها.. وثانيها: أن المسلمين إنما أورثهم الله القرآن الكريم، بعد أن تخيرهم له من بين الناس.. فهم أهله، وأولى الناس به.. ولن يكونوا أهله وأولياءه إلا إذا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 888 حفظوه، وعملوا بأحكامه، وتأدبوا بآدابه.. إنه ميراثهم من فضل الله، فإذا لم يحسنوا القيام عليه، والرعاية له، أفلت من أيديهم هذا الميراث، كما يفلت الميراث من يد الوارث السفيه.. كما يقول سبحانه: «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ» (38: محمد) وثالثها: أن كل مسلم له نصيبه فى هذا الميراث، وهو ميراث يسع المسلمين جميعا، فردا فردا، وجماعة جماعة.. وجيلا جيلا.. يسلمه السّلف إلى الخلف.. فهو أمانة فى عنق كل إنسان، وهو أمانة فى أعناق المسلمين جميعا.. وعلى هذا فإن هذا الميراث لن يضيع أبدا.. إذ لو بقي فرد واحد من المسلمين، لكان هذا الكتاب ميراثا له ولكان أمانة فى عنقه، ولكان مطالبا بحمل الأمانة، مطالبا بأدائها.. وقدم الظالم لنفسه، لأن الذين ظلموا أنفسهم بالمعاصي هم الكثرة فى المسلمين، ثم جاء بعدهم المقتصدون، وهم أقل منهم عددا، ثم جاء السابقون بالخيرات بإذن ربهم، لأنهم قلة فى المسلمين، وصفوة صفوتهم.. وقيل إن هذا الترتيب منظور فيه إلى الأحوال التي تعترى الناس فى هذا المقام، وهى ثلاث: معصية، ثم توبة، ثم قربة.. فإذا عصى العبد فهو ظالم، فإذا تاب، فهو مقتصد، فإذا صحت توبته وكثرت مجاهدته، فهو سابق.. وقيل قدم الظالم، لئلا يبئس من رحمة الله، وأخر السابق لئلا يعجب بعمله، فتعيّن توسط المقتصد. وقوله تعالى: «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ» «جَنَّاتُ عَدْنٍ» بدل من قوله تعالى: «الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» .. فالفضل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 889 الكبير الذي يتلقاه المؤمنون من ربهم، هو «جنات عدن» أي جنات خلود، لا يخرجون منها أبدا.. وقوله تعالى: «يَدْخُلُونَها» خبر لجنات أي جنات عدن يدخلها المؤمنون. وقوله تعالى: «يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ» . هو حال من الفاعل فى قوله تعالى: «يَدْخُلُونَها» وهذه الحلىّ التي يلبسها المؤمنون فى جنات عدن، هى من بعض ما كانوا يشتهون فى دنياهم، أو مما كانوا يتمتعون به، ويجدون المسرّة منه.. فيكون من تمام النعمة عليهم أن ينالوا كلّ شىء كان مشتهى لهم فى دنياهم، وقصرت عنه أيديهم، أو كان متعة من متعهم فى هذه الدنيا.. وليس هذا كل نعيم أهل الجنة، بل هو شىء لا يكاد يذكر إلى ما هناك من نعيم لم تره عين، ولم تسمعه أذن، ولم يخطر على قلب بشر.. ولكنه من شهوات النفس فى دنياها، فلا نحرم منه إذا هى نزلت منزل الإحسان المطلق، والنعيم الشامل.. تماما كما يجىء إنسان من أقاصى الريف إلى مدينة كالقاهرة.. إن كل ما فى نفسه أن ينال شيئا مما كان يراود خياله، ويطرق أمله، كأن يدخل «السينما» أو يجلس فى مطعم فيأكل حتى يشبع، أو يلبس بدلة!! أو نحو هذا.. إن آماله وهو فى عيشه الضيق الضنك، لا تتسع لأكثر من هذا.. ولك فى هذا مثل تجده فى طوارق الأحلام.. إن كل إنسان يقع له فى أحلامه، ما يشتهيه فى يقظته، وتقصر عنه يده.. وفى عالم الأحلام متسع لكل شىء.. ومع هذا فإن المحروم من الشيء لا يكاد يحلم إلّا به، وإن كان عند غيره تافها لا يلتفت إليه فى يقظة أو منام.. وفى المثل: «الجوعان يحلم بالرغيف!» فمخطىء أولئك الذين يتهمون الإسلام من هذا الجانب، ويحقرون الجزء: 11 ¦ الصفحة: 890 الجنة التي وعد الله المتقين بها، ويقولون إنها جنّة حسيّة، تستجيب لشهوات الجسد، أكثر من استجابتها لمطالب الروح.. ثم إنها من جهة أخرى جنّة تافهة، لا تستحق أنه يعمل لها الإنسان فى دنياه هذا العمل الشاق الطويل، كى يلبس حريرا، أو يحلّى بذهب أو لؤلؤ، أو يشرب من نهر خمر، أو لبن، أو عسل، أو ينال من لحم طير أو نحوه.. إن ذلك كله موجود فى الدنيا، بل هو أقلّ ما يوجد فيها.. هكذا.. يقولون! ويردّ على هذا من وجوه.. فأولا: ليس هذا هو كلّ نعيم الجنة التي وعد به المتقون، وإنما هو- كما قلنا- شىء قليل قليل إلى كثير كثير، لا حصر له، مما لم تره عين فى هذه الدنيا، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر.. وثانيا: أن هذا الذي يساق إلى أهل الجنة من نعيم الدنيا، ليس فرضا عليهم، وإلزاما لهم، بل هو استجابة لمطلب كان لهم فى الدنيا، وعزّ عليهم الحصول عليه.. وأنه لكى تتم سعادتهم، ولكى يدركوا أن ما فاتهم فى دنياهم لم يكن إلا شيئا تافها إلى هذا النعيم الذي أعدّه الله لهم- كان وضع هذا المتاع الدنيوي بين أيديهم، إزاء ما فى الجنة من نعيم. وثالثا: ليس هذا النعيم جسديّا، بل إن الرّوح لتجد راحتها وسعادتها فى حصولها على ما حرمت منه، ولو كان أمرا ماديا فى ذاته.. كما يقع ذلك للروح فى عالم الأحلام.. إن ما يقع فى الأحلام من أمور تستجيب لرغبة الإنسان، هى مما يسعد نفسه، ويرضى مشاعره.. قوله تعالى: «وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 891 بهذا الحمد الخالص المطلق، يستقبل أهل الجنة هذا النعيم الذي هم فيه.. فهم يحمدون الله مع كل نعمة تطلع عليهم من نعيم الجنة التي لا ينقطع نعيمها لحظة.. لقد أذهب الله عنهم فى هذا المقام الكريم «الحزن» الذي كان قد وقع فى نفوسهم لما فاتهم من متاع الدنيا، ولما ابتلوا به فيها من مصائب وفتن.. ولقد غفر الله لهم ما كان منهم من ذنب، وما فعلوه من منكر، وستره عنهم، فلم يروه، حتى لا يسوءهم وجهه، وهم فى رضوان الله، وفى رحاب فضله وإحسانه، وشكر لهم الله القليل من صالح أعمالهم فجزاهم عليه هذا الجزاء العظيم. قوله تعالى: «الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ» .. النّصب: التّعب من العمل والجهد.. واللغوب: الإعياء والفتور.. أي وإنهم ليحمدون الله سبحانه، أن أنزلهم هذه الدار الكريمة الطيبة من فضله، والتي لا يتحولون عنها أبدا، والتي لا يمسهم فيها تعب أبدا، ولا ينالهم أدنى عناء أو مشقة.. لأنهم ينالون ما شاءوا من نعيم. وينعمون بما اشتهوا من طيبات، دون أن يبذلوا لذلك جهدا، أو يعملوا له عملا.. قوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ» أما أهل الكفر والضلال، فإن لهم دارا غير هذه الدار، وحياة غير تلك الحياة.. إن دارهم هى النّار، وحياتهم فيها عذاب لا ينقضى، ولا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 892 ينقطع.. ولا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها، فهم أحياء فى عذاب أليم دائم.. وإنها لحياة، يتمنى أصحابها الموت ولا يجدونه، كما يقول الله تعالى: «الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى» (12- 13 الأعلى) وهذا ما يشير إليه المتنبي بقوله: كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا وقوله تعالى: «كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ» أي بمثل هذا الجزاء من العذاب الأليم، وتلك الحياة المشئومة النكدة، نجزى كل كفور، أي شديد الكفر، غليظ الضلال. قوله تعالى: «وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ؟ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ» . الاصطراخ: التنادى بطلب الغوث من أمر مفظع.. والصارخ هو من يستصرخ غيره، ويدعوه إلى نجدته.. كما يقول الشاعر.. إنا إذا ما أتانا صارخ فزع ... كان الصراخ له قرع الظنابيب فهذه حال أهل النار.. صراخ، واستصراخ لطلب الغوث والنجدة.. يقولون: «رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ» .. ولا يلقون لهذا الاستصراخ إلا الردع والزجر.. «اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ» (108: المؤمنون) .. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 893 وقوله تعالى: «أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ» ؟. هذا ما يجيبهم به لسان الحال. لقد عمروا فى الدنيا عمرا طويلا، يتسع لأن يتذكر فيه من تذكر، وأن يتعرف إلى ربه، ويؤمن به، ويعمل صالحا يرضاه له. وقوله تعالى: «وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ» .. إشارة إلى أنه مع العمر الذي عاشوه فى الدنيا، ومع ما معهم من عقول، لو استعملوها لاهتدوا بها، ولعرفوا الطريق إلى الله- مع هذا فقد بعث الله فيهم رسولا ينذرهم بين يدى هذا العذاب الأليم، فما استمعوا له، ولا التفتوا إليه.. وقوله تعالى: «فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ» - هو تعقيب على هذا اللوم الزاجر، الذي أجيبوا به على استصراخهم.. فما لهم إلا هذا العذاب، وما لهم هنا من نصير، يستجيب لهم، ويخلصهم مما هم فيه الآيات: (38- 41) [سورة فاطر (35) : الآيات 38 الى 41] إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) الجزء: 11 ¦ الصفحة: 894 التفسير تعود هذه الآيات بالمشركين والكافرين، من عذاب جهنم، الذي ساقتهم إليه، الآيات السابقة، فتلقاهم بهذا الحديث الذي يكشف عن علم الله وقدرته، وأنه وحده- سبحانه- العالم بكل شىء، المالك لكل شىء، القائم على كل شىء.. وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» - هو تقرير للحقيقة، التي غايت عن أهل الشرك والضلال، وهى أن الله سبحانه هو الإله الذي ينبغى أن يعبد.. إنه يعلم كل غائبة فى السموات أو فى الأرض، وإنه يعلم ما تنطوى عليه الصدور، وما تكنّه الضمائر.. ومن كان هذا شأنه، كان سلطانه قائما على كل شىء، وكانت عبادته وحده واجبة على كل مخلوق.. وقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً» أي أنه سبحانه قد أعلى قدر الإنسان، ورفع منزلته، وجعله خليفة فى الأرض.. وكان مقتضى هذا أن يحتفظ الإنسان بهذا المقام الكريم، وأن يعرف لله فضله عليه، وإحسانه إليه، وأن يذكر أنه خليفة لله، وأنه بهذه الخلافة يعمل فى الأرض التي هى ملك لله.. فكيف يسوغ له أن يخرج عن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 895 سلطان الله، وأن يجعل ولاءه لغير الله، مما على الأرض من كائنات، يعبدها، ويتخذها آلهة له من دونه؟. وقوله تعالى: «فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ» أي فمن خرج على استخلاف الله إياه، وكفر به، فعليه كفره، وسيلقى الجزاء الذي يستحقه وقوله تعالى: «وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً» أي أن هذا الكفر الذي لبسه الكافرون بعد أن خلعوا نعمة الخلافة التي ألبسهم الله إياها، لا يزيدهم عند ربهم إلا، بغضا، وبعدا من رحمته، حيث ينزع عنهم ثوب الكرامة الذي خلعه عليهم، ويلبسهم الذلة والمهانة، ويلقى بهم فى جهنم مذمومين مدحورين ... وقوله تعالى: «وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً» أي لا يزيدهم هذا الكفر الذي لبسوه إلا كفرا وضلالا، فهم مع هذا الكفر فى كفر ينمو على الأيام.. فهم يزدادون كل يوم مع هذا الكفر، خسرانا، حيث تخف موازينهم يوما بعد يوم.. إنهم يحملون فى كيانهم داء خبيثا، هو الكفر يمتص ماء الحياة منهم، قطرة قطرة، حتى يتحولوا إلى أعواد من الحطب لا نصلح إلّا وقودا للنار! قوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ؟ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ؟ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ؟ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً» أسئلة مطلوب من المشركين أن يوردوها على عقولهم- إن كانت لهم عقول- ثم ليجيبوا عليها، إن كانوا يجدون لها جوابا.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 896 «قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ» ؟ أي أنظرتم فى وجه هؤلاء الشركاء الذين تعبدونهم من دون الله؟ وهل عرفتم ما هم عليه؟. - «ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ؟» أي أخلقوا شيئا مما ترون على هذه الأرض من مخلوقات؟ هل خلقوا ذبابة؟ - «أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ؟» وإذا لم يكونوا قد خلقوا شيئا مما هو على الأرض، فهل لهم شىء مما فى السموات؟ ذلك بعيد.. فإن من عجز عن أن يخلق أدنى المخلوقات فى الأرض، لهو أعجز من أن يكون له أي شىء فى السموات.. - «أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ» . سؤال إلى المشركين عن ذات أنفسهم هم.. وهو أنهم إذا لم يجدوا لهذا الذي سئلوا عنه فى شأن آلهتهم، جوابا يقبله العقل، بأن لهم شيئا فى هذا الوجود فى أرضه وسماواته- إذا لم يجدوا فى أنفسهم ما يحدّث عن آلهتهم تلك بأن لها شيئا أو شأنا فى الملك- فهل أخذوا هذا الذي أضافوه إلى آلهتهم عن كتاب من عند الله، فهم لهذا على بينة وعلم فى شأن آلهتهم، مما علموه من هذا الكتاب؟ ذلك ما لم يكن!. فإذا كان العقل يأبى أن يضيف إلى آلهتهم شيئا، أو يجعل لهم شأنا فى هذا الوجود، وإذا لم يكن بأيدى هؤلاء المشركين كتاب من عند الله، أقامهم على هذا الرأى السقيم الباطل الذي رأوه فى آلهتهم، فلم يبق إذن شىء يصل بين هؤلاء المشركين وآلهتهم، إلا ما تلقوه من ضلالات الضالين وأهواء ذوى الأهواء منهم.. «بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً» .. إن هذا الذي هم فيه من ضلال مع هذه المعبودات التي يعبدونها، هو من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 897 وحي بعضهم إلى بعض بالباطل، ومن تزيين بعضهم لبعض بالخداع والغرور.. وفى الحديث عنهم بضمير الغائب، إعراض عنهم وإنزالهم منزلة الغائب، إذ لم يكونوا أهلا لأن يخاطبوا. وقد استرخصوا عقولهم، واستخفّوا بها.. قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ.. إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً» - هو تهديد لهؤلاء المشركين، بأن يسقط الله عليهم السماء، أو يخسف بهم الأرض.. فهو سبحانه الذي يمسكهما بموضعيهما اللذين هما فيهما.. «وإن» فى قوله تعالى «إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ» - نافية، بمعنى ما، أي إن زالتا ما أمسكهما أحد من بعد الله، لو رفع يده عنهما.. - وقوله تعالى: «إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً» - إشارة إلى أن الله سبحانه قد وسع بحلمه الناس، ولم يأخذهم بظلمهم، ولولا هذا لأهلكهم، وأفسد عليهم حياتهم، وهو سبحانه مع حلمه، غفور، ينتظر رجعة الظالمين إليه، فيقبل توبتهم، ويغفر ذنوبهم.. الآيات: (42- 45) [سورة فاطر (35) : الآيات 42 الى 45] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45) الجزء: 11 ¦ الصفحة: 898 التفسير: قوله تعالى: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً» .. أي أن هؤلاء المشركين، الذين استرخصوا عقولهم، واتبعوا أهواءهم، كانوا يقسمون بأعظم الأيمان عندهم وآكدها، - قبل أن يأتيهم النبي- «لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ» أي رسول، كما جاء إلى الأمم السابقة رسل- «لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ» أي ليكونن أهدى من إحدى هذه الأمم، وهم بنو إسرائيل، إذ كانوا يتمثلون فيهم العلم، والدّين، لما كان بين أيديهم من كتاب، وما بينهم من علماء.. ولم يصرح القرآن ببني إسرائيل، مع أن المشركين لا يعنون غيرهم، وذلك- والله أعلم- للاستصغار بشأنهم، وأنهم ليسوا المثل الذي يحتذى به فى الاستقامة والهدى.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 899 وجهد الإيمان: أغلظها، وأشدها.. والاقتصار على وصف الرسول بأنه «نذير» إشارة إلى أن الإنذار هو أول ما يتلقاه الأقوام من رسلهم، إذ كان الرسل إنما يبعثون فى أقوامهم، حين يكثر الفساد فيهم، وتختلط معالم الدين الصحيح فى قلوبهم وعقولهم.. فيكون أول ما يلقى به الرسول قومه هو الإلفات إلى هذا الضلال الذي هم فيه، وتحذيرهم منه، وإنذارهم سوء عاقبته. - وقوله تعالى: «فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً» - أي لما جاء الرسول الذي كانوا يتمنون الهدى عليه يديه، لم يزدهم إلا نفورا عن الحق، وإعراضا عن الهدى.. قوله تعالى: «اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا» . - «اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ» هو بدل من قوله تعالى: «إِلَّا نُفُوراً» أي لم يزدهم إرسال الرسول إليهم إلا نفورا عن الحق، وإلا استكبارا فى الأرض، واستعلاء على العباد، وإلا الإمعان فى تدبير المكر السيّء للرسول، وتبييت الشر له وللمسلمين.. - وقوله تعالى: «وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ» أي لا يقع المكر السيّء الذي مكروه إلا بهم.. إنهم يحفرون الحفرة التي سيقعون فيها، ويفتلون الحبل الذي يشنقون به.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 900 وقوله تعالى: - «فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ» - أي فهل ينتظرون إلا أن يؤخذوا بما أخذ به الأولون الذي كذبوا رسل الله، من بلاء وهلاك؟ .. - وقوله تعالى: «فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا» .. أي أن سنة الله قائمة على طريق مستقيم لا ينحرف أبدا.. وهى سنة مطردة، لا تتبدل اتجاها باتجاه، ولا تتحول من حال إلى حال.. وسنة الله، هو هذا النظام الذي أقام عليه الوجود، وربط المسببات بأسبابها.. ومن سنة الله فى الظالمين أن يأخذهم بظلمهم، كما أن من سنته فى المحسنين أن يجزيهم بإحسانهم.. قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً» .. هو دعوة إلى هؤلاء المشركين الضالين أن يسيروا فى الأرض، وأن ينظروا بأعينهم سنة الله التي لا تتبدل، ولا تتحول.. إنهم سيرون أقواما كانوا قبلهم، وكانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا، فأخذهم الله بذنوبهم، وقلب عليهم دورهم.. «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ» أي وما كان لقوة هؤلاء وبأسهم أن تردّ عنهم بأس لله إذا جاءهم.. فماذا يعصم هؤلاء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 901 للمشركين من بأس الله، وقد ساروا مسيرة الهالكين من قبلهم؟ إنهم هالكون لا محالة.. إن الله يعلم ما هم عليه، لا تخفى عليه- سبحانه- خافية من أمرهم، وهو قادر على إهلاكهم.. ولقد أتوا الجرم الذي يوجب الهلاك، وهم فى قبضة الله. وعلمه يكشف عن كل ما اقترفوا.. ولم يبق إلا إمضاء العقوبة فيهم.. فلينظروا، وسيرون عاقبة أمرهم!. قوله تعالى: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً» .. هو جواب على سؤال يقع فى نفوس المشركين، عند سماعهم التهديد الذي حملته إليهم الآية السابقة، وهو: أين هو العذاب الذي نهدّد به؟ .. فكان قوله تعالى: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» - جوابا على مثل هذا السؤال.. وهو أن الله سبحانه لو يؤاخذ الناس فى الدنيا بذنوب المذنبين منهم، وما يحاربون به الله سبحانه، من كفر، وإلحاد، ومجاهرة بالمعاصي- لو يؤاخذهم بهذا، ما ترك على ظهر هذه الأرض، من دابة.. فإن ذنوب المذنبين- لجسامتها، وشناعتها- لا يغسل دنسها ورجسها إلا طوفان من العذاب، يأتى على كل حياة قائمة على هذه الأرض.. «وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» أي لكن يؤخر حساب الناس إلى أجل مسمى، وهو يوم القيامة.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 902 «فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً» أي إذا استوفوا آجالهم فى الدنيا، وصاروا إلى الدار الآخرة، كانوا بمنازلهم عند الله.. فالكافرون والمشركون، وأهل الضلال، فى نار جهنم.. وأهل الإيمان والتقوى فى نعيم الجنات.. «فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً» يفرق بين الأشرار والأخيار، ويميز الخبيث من الطيب كما يقول سبحانه: «لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ» (37: الأنفال) . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 903 36- سورة يس نزولها: مكية. عدد آياتها: ثلاث وثمانون آية. عدد كلماتها: سبعمائة وتسع وعشرون. عدد حروفها: ثلاثة آلاف. مناسبتها لما قبلها جاء فى الآيات التي ختمت بها سورة «فاطر» السابقة قوله تعالى: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ، فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً» ثم جاءت الآيات الثلاث التي تلت هذه الآية والتي ختمت بها السورة- تعقيبا على تلك الآية، وبيانا لموقف المشركين من هذا القسم الذي أقسموه.. وقد بدئت سورة «يس» بالقسم بالقرآن الكريم، الذي جاءهم النبىّ الكريم به، ثم وقوع هذا القسم على الإخبار بأن محمدا هو رسول الله، وأنه على صراط مستقيم، وأن تكذيب المشركين له، ورفضهم لدعوته، لم يكن إلا عن ضلال وعمى، وإلا عن استكبار وحسد.. لقد كانوا يتمنون أن يبعث الله فيهم رسولا، وأن يأتيهم بكتاب، مثل كتب أهل الكتاب، وها هو ذا الرسول، والكتاب.. فماذا هم فاعلون؟ ستكشف الأيام عن جواب هذا السؤال.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 904 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الآيات: (1- 12) [سورة يس (36) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12) التفسير: قوله تعالى: «يس» .. اختلف فى تأويلها، فقيل فيها كل ما قيل فى الحروف التي بدئت بها بعض سور القرآن.. وقيل إنها اسم للنبىّ صلى الله عليه وسلم.. ولا نقول إلا أنها من المتشابه، الذي لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم!. قوله تعالى: «وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» . هو قسم بالقرآن الحكيم، وفى هذا القسم تشريف لمقامه، وتأكيد وتنويه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 905 بمنزلته.. وكيف لا يكون فى قمة التشريف والتكريم، وهو آيات الله، وكلمات الله؟ وفى وصف القرآن بالحكمة هنا، إلفات لما اشتمل عليه من فرائد الحكمة، التي هى مورد العقول، ومطلب الحكماء.. وأن الذي ينظر فى آيات الله ينبغى أن ينظر فيها بعقل متفتح، وبصيرة متطلعة، وقلب مشوق، حتى يظفر ببعض ما يتحدث به هذا القرآن الحكيم، فإنه لا ينتفع بحكمة الحكيم، إلا من كان ذا حكمة وبصيرة.. - وقوله تعالى: «إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ» خطاب للنبىّ، وتوكيد للصفة التي له عند الله. وأنه من المرسلين، الذين اصطفاهم الله لرسالته إلى عباده. - وقوله تعالى: «عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .. هو خبرثان، عن النبىّ، وأنه قائم على صراط مستقيم، من اتبعه فقد اهتدى، ومن اتخذ سبيلا غير سبيله فقد ضلّ وهلك. قوله تعالى: «تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ» «تنزيل» منصوب على المصدر، أي إنك لمن المرسلين.. وإنك على صراط مستقيم، نزّل «تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ» .. ويكون المراد بالصراط المستقيم هنا هو القرآن الكريم، كما يقول الله تعالى: «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ» (153: الأنعام) ويكون قوله تعالى: «تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ» جملة وقعت صفة. قوله تعالى: «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ» . أي إنك من المرسلين، وإنك على صراط مستقيم بهذا الكتاب المنزل من العزيز الرحيم: «لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ» .. فهذا الحشد العظيم من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 906 الصفات العظيمة للنبىّ، هو وإن كانت تكريما للنبىّ، وامتنانا عليه بإحسان ربّه إليه- هو أيضا تكريم لهؤلاء الجاهليين، وامتنان بفضل الله عليهم، إذ بعث فيهم خير رسله، وخاتم أنبيائه، ومجتمع كتبه.. وفى هذا حثّ لهم على أن يقبلوا على هذا الخير الكثير المرسل إليهم، وأن يأخذوا حظهم منه. - وفى قوله تعالى: «ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ» .. إشارة إلى أنهم لم يبعث فيهم رسول قبله.. أما رسالة إسماعيل عليه السلام، فهى رسالة كانت مقصورة على أهله، كما يقول تعالى: «وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ» (55: مريم) وإذا كان لهذه الرسالة أثر، فقد اندثر، وعفّى عليه الزمن وسط ظلام الجاهلية وضلالها. - وفى قوله تعالى: «فَهُمْ غافِلُونَ» .. إشارة أخرى إلى ما كان عليه القوم من جهل وغفلة، فكانوا بهذا فى أشد الحاجة إلى من يعالج هذا الداء المتمكن فيهم. قوله تعالى: «لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» هذا حكم قاطع على هؤلاء المشركين، وهم فى لقاءاتهم الأولى مع الدعوة.. «لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ» والقول الذي حق على أكثرهم هو الحكم الذي قضى الله سبحانه وتعالى به فى سابق علمه، على الكثرة من هؤلاء المشركين، من أنهم لا يؤمنون، ولا ينزعون عنهم الشرك الذي لبسوه.. «فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» لسابق قضاء الله فيهم.. وقد صدق ما أخبر به القرآن، ووقع كما أخبر به.. فإن أكثر هؤلاء المشركين الذين شهدوا مطالع الدعوة الإسلامية، لم يدخلوا فى الإسلام، فإنه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 907 خلال ثلاث وعشرين سنة- وهى مدة الرسالة الإسلامية- مات كثير من هؤلاء المشركين على شركه، ومن لم يمت منهم على فراش الموت مات قتيلا فى ميدان القتال مع المسلمين.. ومن امتدّ به الأجل وأدرك الفتح، ودخل فى دين الله مع الداخلين- ظل ممسكا بشركه فى صدره، حتى مات عليه، أو مات فى حروب الردّة مع المرتدّين.. أما لماذا حقّ القول عليهم؟ فهذا سؤال لا يسأله مؤمن بالله.. إنه اعتراض على مشيئة الخالق فيما خلق! «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ.. تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» (54: الأعراف) . قوله تعالى: «إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ» هو بيان للأسباب التي أقامها الله سبحانه، لتصرف فى هؤلاء المشركين عن الحق، وتمسك بهم على الشرك والضلال.. لقد جعل الله «فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا» أي أطواقا من حديد، أشبه بالقلادة، تطوق بها أعناقهم.. «فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ» - أي وهذه الأغلال أو القلائد تشتمل على العنق كله، حتى لتصل إلى الأذقان.. «فَهُمْ مُقْمَحُونَ» أي مشدود والرءوس إلى أعلى.. فهم لا يستطيعون أن يحركوا رءوسهم يمينا أو شمالا، أو إلى تحت أو فوق.. والصورة التي تبدو ممن طوّق بهذا الطوق، أنه تمثال جامد، وأنه لا يستطيع أن يرى غير الطريق القائم بين يديه، أما ما حوله، عن يمين وشمال، فلا يرى منه شيئا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 908 والطريق الذي بين يدى هؤلاء المشركين الذين حق عليهم القول، هو طريق الضلال.. وإذن فلا طريق لهم غيره.. والأغلال التي جعلها الله فى أعناق هؤلاء المشركين، هى أغلال معنوية. فإن الذي ينظر إليهم، وهم ماضون على طريق الشرك، لا يلتفتون إلى هذا النور الذي عن يمينهم وعن شمالهم، ومن أمامهم ومن خلفهم- يخيّل إليه أن فى أعناق القوم أطواقا من حديد، قد شلت حركة رءوسهم، فلم يقدروا على إلفاتها يمينا أو شمالا.. قوله تعالى: «وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» هو من تمام الصورة التي جعل الله المشركين عليها، حتى لا يهتدوا حين جاءهم الهدى، لما سبق من قضاء الله فيهم فهم- بالأغلال التي فى أعناقهم- مقمحون، قد دفعت رءوسهم إلى أعلى، بحكم المخنقة التي فى أعناقهم.. وهم فى هذا الوضع لا يستطيعون التفاتا يمينا أو شمالا، ولكنهم مع ذلك يستطيعون أن يروا ما أمامهم، وأن يستدبروا ليروا ما خلفهم.. - وفى قوله تعالى: «وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا» هو سدّ لهذين المنفذين اللذين يمكنانهما من الرؤية من أمام ومن خلف.. وأما وقد جعل الله- سبحانه- سدّا من بين أيديهم أي من أمامهم، وسدّا من خلفهم، فقد أحكم سد المنافذ عليهم من جميع الجهات، وأصبحوا وقد أغلقت عليهم منافذ النظر إلى العالم الخارجي، وصاروا محصورين فى عالمهم الذي لا شىء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 909 فيه غير الضلال والظلام.. فيمينهم وشمالهم مغلق عليهم أبدا بحكم هذا الطوق الذي طوقوا به.. وأمامهم وخلفهم.. مسدودان.. فإذا أداروا وجوههم إلى أي اتجاه، لم يتغير حالهم، ولم يرتفع عنهم سد من هذه السدود المضروبة عليهم، حيث يلازمهم هذان السدان المضروبان عليهم من أمام ومن خلف.. فعلى أي اتجاه يكونون، يكون السدان من خلفهم ومن أمامهم.. أما عن أيمانهم وعن شمائلهم، فالطوق قائم بوظيفته فيهم فى كل حال.. وهذه الصورة إعجاز من إعجاز القرآن، فى تجسيد المعاني، وفى بعث الحياة، والحركة فى الجمادات والساكنات.. حيث نرى الكافر هنا وقد أدخل فى سجن محكم، مطبق عليه، لا يرى منه النور أبدا. - وفى قوله تعالى: «فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» إشارة إلى ما يقع لهؤلاء المشركين من هذه الآيات التي سلطها الله عليهم، من الأغلال والسدود، فلقد أقامت هذه الآفات غشاوة على عيونهم، فهم لا يبصرون.. وكيف يبصر من عاش فى هذه الحدود التي لا تتجاوز محيط جسده؟ وماذا يبصر لو كان له أن يبصر؟. قوله تعالى: «وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» وهذا ما يقضى به الوضع الذي عليه هؤلاء المشركون.. إنهم لن يتحولوا عن حالهم التي هم فيها، فلقد جمدوا على حالتهم تلك، كما تحنط الموتى فى توابيتها «وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» (101 يونس) .. وإذا فلا يقف النبي كثيرا عن هؤلاء المشركين الذين وقفوا من الدعوة هذا الموقف المحادّ لها، المتربص بها.. قوله تعالى: «إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ» أي إنما تنفع النذر، والعظات، من استمع إلى آيات الله، فاتبعها، وآمن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 910 بها، وخاف ربه، وعمل ليوم القيامة، مصدّقا بما وعد به، وإن لم يره.. وعلى هذا، فليوجه النبي وجهه كله إلى المؤمنين، وليعطهم جهده كله، ففى هذا الميدان يثمر عمله، ويقع موقعه من أهله.. وفى قصر الإنذار على من اتبع الذكر وخشى الرحمن بالغيب- فى هذا إشارة إلى الاستعداد الفطري للإيمان عند هؤلاء المنذرين، وأنهم بفطرتهم السليمة كانوا والإيمان الذي يدعون إليه على موعد، بل إنهم فى انتظار له، وشوق إليه، قبل أن يطلع عليهم.. وفى جعل الخشية، للرحمن، إشارة إلى أنها خشية إجلال وتعظيم،.. خشية حب وتوقير، لا خشية جبروت وقهر.. إنها خشية «الرحمن» الذي وسعت رحمته كل شىء.. وقوله تعالى: «فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ» .. هو ما يلقى به النبي هؤلاء المؤمنين الذين استجابوا له بمجرد أن دعاهم إلى الله.. قوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ» هو عرض لبعض مظاهر قدرة الله، وهى من الغيب الذي آمن به المؤمنون، والذي كان مضلّة للمشركين، وهو الحياة بعد الموت. والحساب والجزاء.. وفى هذا التقرير يتأكد للمؤمنين إيمانهم بهذا الغيب، وتزداد خشيتهم لله.. - وقوله تعالى: «وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا» أي نحصى على الموتى ما قدموا بين أيديهم من أعمال لهذا اليوم، من حسن أو سيىء، ونسجلها فى كتاب لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 911 - وقوله تعالى «وَآثارَهُمْ» معطوف على «ما» الموصولة، وهى مفعول به لنكتب- أي نكتب ما قدموا ونكتب آثارهم، أي ما خلفوه وراءهم من آثار صالحة أو فاسدة.. والآثار هنا، هى ما يبقى للأموات فى الحياة بعد موتهم من آثار فى الناس، فتكون منارات هدى، أو سبل ضلال.. وفى هذا يقول الرسول الكريم: «ومن سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» . والإمام المبين، هو اللوح المحفوظ، وهو أم الكتاب.. الآيات: (13- 27) [سورة يس (36) : الآيات 13 الى 27] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) الجزء: 11 ¦ الصفحة: 912 التفسير: مناسبة ضرب هذا المثل هنا، هو أن الآيات السابقة كشفت عن الطبيعة الإنسانية، وأن الناس على طبيعتين: أصحاب طبيعة متأبيّة على الخير، مغلقة الحواسّ عنه، لا يستجيبون له مهما جىء إليهم به من شتى الوسائل.. وأصحاب طبيعة أخرى مهيأة للإيمان، مستعدة له، متشوفة إليه، لا تكاد تهبّ عليهم نسمة من أنسامه العطرة، حتى يتنفسوا أنفاسه، ويملئوا صدورهم به.. وفى هذا المثل، عرض للناس فى طبيعتيهم هاتين معا.. قوله تعالى: «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ» .. [القرية.. والمرسلون إليها] المفسّرون على إجماع بأن هذه القرية، هى «أنطاكية» .. وعلى إجماع كذلك بأن هؤلاء الرسل، هم من حواريى المسيح، ورسله الذين بعثهم لينشروا الدعوة فى الناس.. وهذا التأويل للقرية وللرسل، لا يقوم له شاهد من القرآن الكريم، ولا تدل عليه إشارة من إشاراته القريبة أو البعيدة.. وإنما هو من واردات أهل الكتاب، وأخبارهم. والخبر هنا وارد من المسيحية، وينسب إلى وهب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 913 ابن منبّه، الذي تلقاه من المسيحية، مما يعرف عند المسيحيين بأعمال الرسل، الملحقة بالأناجيل.. فهذا التأويل- فى نظرنا- لا يعوّل عليه، ما دام غير مستند إلى دليل من القرآن الكريم ذاته.. فالقرآن الكريم- فى رأينا- يفسر بعضه بعضا، وهو كما وصفه الحق سبحانه وتعالى فى قوله: «وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ» (89: النحل) فكيف لا يكون تبيانا لما فيه؟. وندع القرية واسمها، والرسل والصفة التي لهم- ندع هذا الآن، ونعرض المثل على أن القرية واحدة من القرى المبثوثة فى هذه الدنيا، وأن الرسل، هم بعض رسل الله إلى عباده.. فهذه قرية، قد جاءها رسل، مبعوثون من عند الله، وقد دعوا أصحابها إلى الإيمان، فلم يلقوا منهم إلّا الصد اللئيم، والقول القبيح.. أرسل الله سبحانه إليهم رسولين معا.. فكذبوهما.. «إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ» أي أمدهما الله برسول ثالث، يقوّيهما، ويشد أزرهما.. فلم يزدهم ذلك إلا عنادا، وإصرارا على الكفر والضلال: «إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا، وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ.. إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ» .. ولم يكن للرسل بين يدى هذا القول المنكر، إلا أن يقولوا ما حكاه القرآن عنهم: الُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» .. ويجىء ردّ القوم على الرسل، زاجرا مهددا: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 914 «قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ» .. ويلقى الرسل هذا الرد الفاجر، بملاطفة، ووداعة: «قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ..!» أي شؤمكم معكم، ومستقرّ فى كيانكم الفاسد، الذي يمسك عليكم هذا الداء الذي أنتم فيه.. وليس هو شؤما واردا عليكم من خارج، فإن ما معكم من الشؤم لا يحتاج إلى مزيد.. - «أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ؟» ألأن ذكرتم بما أنتم فيه من غفلة، وما أنتم عليه من ضلال، ترموننا بهذا الاتهام الكاذب الفاجر؟. - «بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ» - أي متجاوزون الحد فى الضلال.. وينتهى موقف الرسل مع أصحاب القرية إلى هذا الطريق المسدود.. ثم لا يلبث أن يجىء صوت العقل، من واحد من أهل القرية، فيكسر هذا الحائط، ويدخل على القوم منه، ويأخذ موقفه مع الرسل، داعيا إلى الله.. «وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ» .. فأى دعوة أولى من هذه الدعوة، بالقبول لها، والاحتفاء بأهلها؟ إنها دعوة من أهل الهدى، الذين لا يسألون أجرا على هذا الهدى الذي، يقدمونه ويدعون إليه.. فلم التمنّع والإعراض عن خير يبذل بلا ثمن؟ ذلك لا يكون إلا عن سفه وجهل معا.. ثم يعرض هذا الوافد الجديد، نفسه عليهم، فى الزىّ الجديد الذي تزيّا، والخير الموفور الذي بين يديه من تلك الدعوة.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 915 «وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؟ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ؟ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» . أسئلة إنكارية، ينكر بها الرجل على نفسه ألا يكون فى العابدين لله، الذي فطره، والذي إليه موعده ولقاؤه مع الناس، يوم الحشر، إنه لا بد أن يكون له إله يعبده.. أفيترك عبادة من خلقه ورزقه، والذي يميته ثم يحييه.. ويعبد آلهة من دون الله، إن يرده الله بضر لا تغنى عنه هذه الآلهة شيئا، ولا تمد يدها لإنقاذه مما يريده الله به من ضر؟ «إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» !! وأي ضلال بعد هذا الضلال، الذي يدع فيه الإنسان حبل النجاة الممدود إليه، ثم يتعلق بأمواج البحر الصاخبة، وتيارانه المتدافعة؟. «إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ» . وهكذا يقولها صريحة مدويّة فى وجه القوم.. إنها هى كلمة النجاة، وحسبه أن يمسك بها، وليكن ما يكون..! وألا فليسمعوها عالية مدوية متحدية.. إنها كلمة الحق التي يجب أن ترتفع فوق كل كلمة، وتعلو على كل نداء. «قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ» - هذا هو الجواب الذي تلقاه الرجل المؤمن، ردّا على إقراره بالإيمان بربه.. وهو الجزاء الذي يلقاه كل مؤمن صادق الإيمان.. والقول الذي قيل لهذا المؤمن، إما أن يكون فى الحياة الدنيا، بوحي من الله سبحانه وتعالى، وإما أن يكون ذلك بعد الموت، حيث يعلم المرء مكانه من الجنة أو النار فيقال له يومئذ: «ادخل الجنة» فهى الدار التي أعدّها الله لك. «قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ» ! الجزء: 11 ¦ الصفحة: 916 إنه يتمنّى لقومه أن ينالوا هذا الخير الذي ناله، بإيمانه بربه، وأن يعلموا ما أعد الله للمؤمنين من مغفرة وإكرام.. وأنّى لهم أن يعلموا هذا الغيب؟ وأنّى لهم أن يؤمنوا به، وقد أنكروا ما لمسوه بحواسهم، وكذبوا ما رأوه بأعينهم؟ .. هذا هو المثل، وتلك هى مواقف الشخصيات والأحداث فيه.. وعلى ضوء هذا المثل يرى المشركون الضالون، إلى أين يسير بهم كفرهم وضلالهم، وإلى أين ينتهى الإيمان بالمؤمنين الذين استجابوا لرسول الله، واستقاموا على الطريق الذي يدعوهم إليه!. والصورة التي يصورها المثل واضحة مشرقة، لا ينقصها أن يفتقد اسم القرية فيها، ولا أن تغيب أسماء الرسل ومشخصاتهم.. إنها مستغنية عن كل هذا.. وإذا كان لا بد من التطلع إلى ما وراء هذه الصورة، والنظر إلى موقع القرية من هذا العالم، وإلى أشخاص الرسل من بين رسل الله- إذا كان لا بد من ذلك، فليكن النظر مقصورا على كتاب الله، وليكن التطلع محجوزا فى هذه الحدود.. لا يتجاوزها.. وننظر فى القرآن الكريم فنرى: أولا: أن القرآن الكريم، لم يتحدث عن رسولين حملا رسالة واحدة، إلى جهة واحدة، غير موسى وهرون.. وثانيا: أن هذين الرسولين الكريمين، قد حملا رسالتهما إلى فرعون.. وثالثا: أنه قد قام من قوم فرعون رجل مؤمن، خرج على سلطان فرعون، وعلى ما كان عليه قومه من متابعة فرعون فى كفره وضلاله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 917 ورابعا: أن القرآن الكريم، يعقد الصلة فى أكثر من موضع منه، بين فرعون، وبين هؤلاء المشركين من قريش.. فإذا نظرنا إلى المثل على ضوء هذه الإشارات المضيئة من القرآن الكريم، نجد: أولا: أن قوله تعالى: «إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما» يقبل التأويل، على أن الرسولين، هما موسى، وهرون، كما يقول تعالى: «اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى» (43: طه) .. وثانيا: أن قوله تعالى: «فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ» يقابله فى قصة موسى وهرون مع فرعون، حديث عظيم فى القرآن العظيم، عن رجل لم يكشف القرآن عن اسمه، وإنما أشار إلى أنه من آل فرعون.. أي خاصته، وذوى قرابته.. فهو إنسان ذو شأن فى المجتمع الفرعوني.. ومع هذا لم يكشف القرآن عن اسمه.. إذ ما جدوى الاسم، فى مقام الوزن للقيم الإنسانية فى الناس؟ إن المعتبر هنا هو الصفة لا الموصوف، وذات المسمّى لا الاسم.. يقول القرآن الكريم، عن هذا الرجل المؤمن: «وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 918 وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ ... » (28- 34: المؤمن) . ثم تمضى الآيات، فتذكر دعوة هذا الداعي إلى الله.. فيقول سبحانه: «وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ» (38- 45: المؤمن) .. هذه دعوة رجل صاحب رسالة.. إنها إن لم تكن على يد رسول، فهى رسالة رسول، وحقّ لصاحبها أن يدخل فى زمرة الرسل.. وهذا هو السر فى التعبير القرآنى: «فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ» أي فعززنا الرسولين بثالث، وهذا يمكن أن يحمل- وهو فى إطلاقه كهذا- على محملين، فيقدّر برسول ثالث، أو معين ثالث، بعد المعين الثاني، الذي كان معينا للرسول الأول، فهو تعزيز بعد تعزيز.. ولقد عزّز موسى بهارون، وكان هذا الرجل المؤمن تعزيزا لهما.. بقيت مسألة تحتاج إلى نظر.. وهى أن المثل ذكر مع الرسل الثلاثة، رجلا، كانت له دعوة إلى الله كدعوة هؤلاء الرسل، وأنه جاء من أقصى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 919 المدينة، وهى القرية التي جاء ذكرها فى أول المثل.. وهذا الرجل يكاد يكون صورة مطابقة لمؤمن آل فرعون، الذي قلنا عنه إنه رسول، أو حوارىّ رسول. فمن هو هذا الرجل؟ وهل له مكان فى قصة موسى مع فرعون؟. ونعم، فإننا نجد فى قصة موسى مع فرعون، رجلا آخر، جاء من أقصى المدينة، يسعى.. ولكنه فى هذه القصة لم يكشف عن دعوة له إلى الله، وإنما جاء ناصحا لموسى، هاتفا به أن يخرج من المدينة، فإن الملأ يأتمرون به ليقتلوه، كما يقول تعالى فى سورة القصص: «وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ» (آية 20) . ولم تكن للرجل دعوة إلى الله هنا، لأن موسى لم يكن قد أرسل بعد.. وربما كان الرجل مؤمنا بالله، يدين بالتوحيد عن طريق اليهودية، أو عن طريق النظر الحرّ.. وعلى أىّ فهو على غير دين فرعون.. وقد ظل الرجل على إيمانه إلى أن بعث الله موسى رسولا، فلما جاء موسى يدعو فرعون إلى الله، وعرض بين يديه تلك المعجزات، ازداد الرجل إيمانا، فأصبح داعية إلى الله، يدعو قومه إلى الإيمان بالله.. وعلى هذا، فإننا نجد فى القصة والمثل رجلين: أحدهما، وهو المؤمن الذي من آل فرعون. والذي وقف مع موسى وهرون موقف الداعية إلى الله، وأنه كان على إيمان بالله، ولكنه كان يكتم إيمانه خوفا من فرعون، فلما رأى أن فرعون يدبّر لقتل موسى، فزع لهذا الأمر، وأعلن إيمانه، ووقف مع موسى وهرون، يحاجّ فرعون، ويجادله، إذ كان- مع إيمانه- ذا جاء وسلطان.. إنه من آل فرعون! .. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 920 أما الرجل الآخر، فهو الذي جاء إلى موسى، قبل الرسالة، وحذّره مما يدبر له القوم، ونصح له بالفرار من المدينة.. وبهذا نرى أن أحد الرجلين، خلّص موسى من القتل بعد الرسالة، على حين أن الآخر قد خلّصه من القتل أيضا، ولكن قبل الرسالة.. ومسألة أخرى، تحتاج إلى نظر أيضا.. إذا كان هذان الرجلان هما المشار إليهما فى المثل المضروب، فى سورة «يس» باعتبار أن الرجل الذي من آل فرعون هو الرسول، أو حوارىّ الرسول، وأن الآخر هو الذي جاء من أقصى المدينة، وقال: يا قوم «اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ الآيات» - إذ كان ذلك كذلك، فلم نوه القرآن الكريم فى المثل المضروب بالرجل الآخر، ولم يذكر شيئا عن موقف الرجل الأول، الذي هو من آل فرعون، والذي قلنا إنه هو الذي عزّز به الرسولان الكريمان؟: والجواب على هذا- والله أعلم- من وجهين: فأولا: أنه بحسب مؤمن آل فرعون تنويها، أن يضاف إلى الرسولين الكريمين، وأن يكون له المكان الثالث معهما.. فقد رفع إلى درجة رسول. وثانيا: وبحسبه شرفا وتكريما أن تسمى فى القرآن سورة باسمه، هى سورة «المؤمن» والتي تسمى «غافر» أيضا.. وقد ذكرت فى هذه السورة رسالته كلها، والتي قلنا عنها إنها رسالة رسول..! هذا، والله أعلم.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 921 فهرس الموضوعات الموضوع الصفحة من أنباء الغيب 475 الليل وما وسق 499 فتنة الترتيب النزولى للقرآن 632 المرأة والرجل.. فى بيت النبوة 688 زينب.. وزواج النبي منها 715 الأمانة التي حملها الإنسان.. ما هى 761 الرسول.. وعموم الرسالة الإسلامية 812 الإيحاء النفسي.. وأسلوب الدعوة 871 القرية والمرسلون.. إليها 913 تم الجزء الثاني والعشرون، ويليه الجزءان الثالث والعشرون والرابع والعشرون إن شاء الله.؟ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 922 كتب للمؤلف إعجاز القرآن.. جزءان. قضية الألوهية.. بين الفلسفة والدين (كتابان) . النبىّ محمد صلى الله عليه وسلم: إنسان الإنسانية ونبىّ الأنبياء. القضاء والقدر بين الفلسفة والدين. السياسة المالية فى الإسلام. عمر بن الخطاب.. الوثيقة الكاملة. من الحقل الإسلامى: دراسات إسلامية. الدعاء المستجاب. فى طريق الإسلام: دراسات إسلامية. القصص القرآنى. محمد بن عبد الوهاب (الدعوة الوهابية) . الخلافة والإمامة: ديانة وسياسة. نشأة التصوف. الأدب الصوفي فى مفهوم جديد. التعريف بالإسلام. المسيح فى القرآن والتوراة والإنجيل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 923 [الجزء الثاني عشر] [تتمة سورة يس] الآيات: (28- 44) [سورة يس (36) : الآيات 28 الى 44] وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44) التفسير: ينتهى المثل الذي ضربه الله سبحانه وتعالى لأصحاب القرية فى الآية السابقة على هذه الآيات- ينتهى بهذا التعقيب الذي بدأت به الآيات التي نحن بين الجزء: 12 ¦ الصفحة: 925 يديها الآن، ومن هذا التعقيب يكون المنطلق الذي تنطلق فيه الآيات بعد هذا، فتواجه المشركين الذين استمعوا إلى هذا المثل، وتعرض عليهم مشاهد من قدرة الله سبحانه وتعالى، ومن آثار رحمته فى خلقه، لعلهم يجدون فى هذه المشاهد، ما يفتح قلوبهم وعقولهم إلى الله، حتى يؤمنوا، ويلحقوا بركب المؤمنين، قبل أن تفلت من أيديهم تلك الفرصة السانحة، ثم لا يكون منهم إلا الحسرة والندم، ولات ساعة مندم. قوله تعالى: «وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ» . هو تعقيب على قوله تعالى على لسان العبد المؤمن: «يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ» .. إنهم لن يعلموا شيئا، ولو علموا ما آمنوا.. إنهم لا يؤمنون إلا إذا نزل عليهم ملائكة من السماء، بعد أن رفضوا الرسل، لأنهم بشر، وقالوا «ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ» .. والله سبحانه لم يرسل إلى قوم ملائكة حتى تتحقق أمنيتهم فيهم، وما كان الله مرسلا ملائكة إلى هؤلاء المشركين، الذين كانوا يقولون: «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا؟» (21: الفرقان) ويقولون: «مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ؟ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً» (7: الفرقان) . وإذن فليمت هؤلاء المشركون على شركهم، كما مات فرعون وقومه من قبلهم على كفرهم.. وهذا ما يشهر إليه قوله تعالى فى الآية التالية: «إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ» .. إنها صيحة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 926 الموت، التي يقضى بها على النّاس، مؤمنهم، وكافرهم.. قوله تعالى: «يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» . يمكن أن يكون هذا نداء من الحق سبحانه وتعالى للحسرة، لتقع على الكافرين المكذبين برسل الله، وأن تشتمل عليهم، ليذوقوا عذاب الندم، إلى جانب العذاب الجهنمى، نعوذ بالله منهما.. وهذا ما يشير إليه سبحانه فى قوله تعالى: «لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ» (156: آل عمران) . ويمكن أن يكون ذلك نداء تعجبيّا من الوجود كلّه، لهذه الحسرة التي تقع على الناس، استفظاعا لها، وإشفاقا منها أن تمتد ظلاله الكئيبة إلى كل موجود. - وقوله تعالى: «ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» هو على التقدير الأول، تعليل للحسرة التي ساقها الله إلى المكذبين والضالين.. وهو على التقدير الثاني، جواب لسؤال ينطق به لسان الحال، وهو: أية جناية جناها الناس حتى يساق إليهم هذا البلاء العظيم؟ فكان الجواب: «ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» . وفى وصف الناس بأنهم عباد، إشارة إلى أنهم- وهم عباد- لم يرعوا حق العبودية لله، بل كفروا بالله، وكذبوا رسله، واستهزءوا بهم. والمراد بالعباد، هم الناس جميعا على اختلاف أوطانهم، وأزمانهم.. إنهم هكذا دأبهم وقليل منهم من يؤمن بالله، ويصدّق رسله.. أما الكثرة منهم، فهم على هذا الوصف!. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 927 قوله تعالى: «أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ» . الخطاب هنا للمشركين. وهو تقرير لتلك الحقيقة التي يشهدونها عيانا، وهى أن الهالكين قبلهم من الأمم السابقة، كثيرون، وقد ذهبوا وذهبت آثارهم، وأنهم لن يرجعوا مرة أخرى إلى هذه الدنيا.. فلم يشتدّ حرص هؤلاء المشركين على دنياهم تلك، التي كل ما فيها باطل وقبض الريح؟ ألا يفكرون فى حياة أخرى وراء هذه الحياة، أبقى، وأعظم؟. قوله تعالى: «وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ» . «إن» هنا نافية بمعنى «ما» و «لما» بمعنى إلّا، أي ما كلّ إلا جميع محضرون لدنيا.. وهذا مثل قوله تعالى: «إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ» . والمعنى، أنه إذا كانت القرون الكثيرة التي هلكت لم ترجع إلى الدنيا مرة أخرى. فإن لها رجعة إلى الله.. وحضورا بين يديه.. فكل من هلك من الناس راجع إلى الله، للمساءلة، والجزاء.. وفى قوله تعالى: «مُحْضَرُونَ» - إشارة إلى أن هناك قوة تستدعيهم للحضور بين يدى الله، وأن ذلك ليس عن اختيار منهم، ولو كان ذلك كذلك لكان للكافرين وأهل الضلال مهرب إلى عالم الفناء الأبدى، حيث يذهبون ولا يعودون، كى يفلتوا من العذاب الأليم. وإذا كان الحديث هنا عن المجرمين، فقد كان قوله: «مُحْضَرُونَ» مناسبا لحالهم، التي هم فيها، والتي يمنون النفس بأن لارجعة إلى حياة بعد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 928 الموت، كما يقولون: «إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» (29. الأنعام) . أما إذا كان الحديث عامّا إلى الناس جميعا، مؤمنين وكافرين، فأكثر ما يجىء الحديث عن البعث بالرجعة إلى الله، كما يقول سبحانه: «إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى» (8: العلق) . وكما يقول سبحانه: «كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ» (93: الأنبياء) .. والرجوع هنا، هو عودة إلى المبدأ الذي بدأت منه رحلة الحياة.. حيث كانت الحياة من عند الله، ثم رجعت إليه.. قوله تعالى: «وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ» . وهذا شاهد يشهد للمكذبين بالبعث، بأنه أمر ممكن، وإن إنكارهم له يقوم على فهم خاطئ لقدرة الله.. فلو أنهم نظروا إلى هذه الأرض الميتة، وكيف يحيى الله مواتها، ويبعث فيها الحياة، ويخرج من أحشائها صورا لا حصر لها من الكائنات الحية- لو نظروا إلى هذا لرأوا أن بعث الأجساد الهامدة لا يختلف فى شىء، عن بعث الحياة فى الأرض الجديب. وقوله تعالى: «وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ» مبتدأ وخبر، وقدم الخبر «آية» على المبتدأ «الأرض» للإلفات إليه، لأنه الآية المراد النظر فى وجهها، وأصل النظم: «والأرض الميتة آية لهم» وقوله تعالى: «أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ» هو بدل من الأرض الميتة.. وهو بيان لها، يكشف عما فى كيان هذه الآية التي تخرج من الأرض.. والحبّ، هو ما يخرج من نبات البرّ، والشعير والأرز، ونحوها.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 929 قوله تعالى: «وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ» خصت جنات النخيل والأعناب من بين أنواع الفاكهة بالذكر، لأن هاتين الشجرتين- النخلة، والكرمة- غاية ما يبلغه النبات من كمال فى سلّم الترقّي.. فهما على قمة العالم النباتي، وما تحتهما تبع لهما.. وإلى هذا يشير الحديث الشريف: «أكرموا عماتكم النخل، فإنهن خلقن من طينة آدم» - وهذا يعنى أن النخل قد أشرف من قمة عالم النبات على عالم الحيوان، وكاد يلامس هذا العالم، ويحسب من أفراده.. وقدم النخيل على الأعناب، لأنه أرقى درجة منه.. قوله تعالى: «لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ» يمكن أن تكون اللام فى قوله تعالى: «لِيَأْكُلُوا» للتعليل، أي أحيينا الأرض، وأنبتنا فيها جنات من نخيل وأعناب، ليكون ذلك نعمة من نعمنا عليهم، لحفظ حياتهم، بالأكل من ثمرات هذه الجنات.. ويمكن أن تكون اللام للأمر، وفى هذا الأمر دعوة لهم إلى الأكل من تلك المائدة التي مدها الله للعباد، وجعل عليها ما تشتهى الأنفس من طيبات- وفى هذا الأمر إلفات لهم إلى هذا الإحسان، وذلك الفضل من الله، وإلى ما ينبغى لله من شكر وحمد، وهذا مثل قوله تعالى: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى» (53- 54: طه) والضمير فى ثمره، يعود إلى النخيل، لأنه المقدم رتبة على العنب، وهو الجزء: 12 ¦ الصفحة: 930 أكثر أنواعا وألوانا منه، فلا يعدو أن يكون العنب لونا من ألوان الثمر- وقوله تعالى: «وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ» يمكن أن تكون الجملة معطوفة على قوله تعالى: «مِنْ ثَمَرِهِ» أي ليأكلوا من ثمره من غير صنعة، وليأكلوا ما عملته أيديهم من هذا الثمر، وصنعته.. ويمكن أن تكون الجملة حالية، والواو واو الحال، وما نافية.. ويكون المعنى، ليأكلوا من ثمر هذا الشجر، والحال أنه لم تعمله أيديهم، ولم يكن فى قدرتهم أن يخرجوا شجرة منه، أو أن يصنعوا ثمرة من هذا الشجر. - وقوله تعالى: «أَفَلا يَشْكُرُونَ» حثّ لهم على الشكر، وإنكار لموقفهم من هذه النعم موقف الجاحد المنكر للمنعم بها.. قوله تعالى: «سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ» هو تسبيح بحمد الله، وتنزيه له عن الشريك والولد، وتمجيد لجلاله وقدرته.. وهذا التسبيح والحمد، بلسان الوجود كله. وأنه إذا خرست ألسنة الضالين والمكذبين أن يسبحوا بحمد الله، وأن ينزهوه ويمجدوه، فإن الوجود كلّه لسان تسبيح، وتنزيه، وتمجيد لله رب العالمين: «الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ» فالمخلوقات كلها من أزواج، هى الذكر والأنثى.. كما فى عالم الأحياء من حيوان، ونبات، وهى الشيء ومقابله، كما فى عالم المعاني. كالصدق والكذب، والحق والباطل، والإيمان والكفر، والضلال والهدى.. وقد تحدثنا عن ذلك فى غير موضع من قبل. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 931 قوله تعالى: «وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ» أي والليل آية لهم.. وقوله تعالى: «نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ» جملة حاليّة من الليل.. وسلخ النهار من الليل، كشطه عنه، وإزالة القشرة النورانية التي تكسوه، كما يكسو الجلد الحيوان.. فإذا سلخت هذه القشرة النورانية عن كيان الكائنات، سادها الظلام.. وفى قوله تعالى: «نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ» - إشارة إلى حركة انسحاب النور، بحركة الأرض، ودورانها حول الشمس، فينسلخ النور شيئا فشيئا عن الأماكن التي تطلع عليها الشمس، وذلك كما يسلخ الجلد عن الحيوان، شيئا فشيئا.. لا دفعة واحدة.. وفى قوله تعالى: «فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ» - إشارة إلى أن كل إنسان يكتسى من النور حلة، فإذا سلخت عنه صار جسما معتما مظلما، وأصبح قطعة من هذا الظلام، تجتمع قطعه بعضها إلى بعض، فإذا هى الليل.. قوله تعالى: «وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» أي وآية لهم الشمس.. فهذه الشمس تسير فى مدار محدود لها، وتتحرك فى فلك لا تتعداه ولا تخرج عنه.. وذلك بتقدير «العزيز» ذى العزة والسلطان «العليم» الذي تجرى أحكامه ومقاديره بعلم نافذ إلى كل شىء، متمكن من كل كبيرة وصغيرة فى هذا الوجود. وجريان الشمس، هو حركتها فى فلكها المرسوم لها. وهى تقطع دورة هذا الفلك فى سنة كاملة، وفى سرعة مذهلة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 932 قوله تعالى: «وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ» أي أن القمر يأخذ كل ليلة منزلا من الأرض، على مدى شهر قمرى، ففى أوسط منازله يبدو قمرا منيرا، يغمر نور الشمس وجهه كله المواجه للأرض، المتوسطة بينه وبين الشمس، فيرى بدرا كاملا، ثم يرجع إلى الوراء منزلة كل ليلة، وذلك لبطء دورانه عن دوران الأرض، فيقلّ مع كل ليلة أو منزلة، الوجه المقابل منه للشمس، ويظل يتناقص شيئا فشيئا مدة نصف شهر قمرى، حتى يكون وجهه المواجه للأرض متوسطا بين الأرض والشمس، وهنا يكون وجهه المواجه للشمس مضيئا بضوئها، على حين يكون وجهه المواجه للأرض معتما، فإذا نزل منزلته فى آخر ليلة لم ير من وجهه شىء، وسمى محاقا، لأن نوره الذي كان يبدو منه قد محق.. ثم يبدأ يولد من جديد.. فإذا كانت الليلة الأولى أو المنزلة الأولى لمولده، لم ير منه إلا قوس صغير، أشبه بقلامة الظّفر، ويسمى هلالا، غائرا فى الشفق، فيختلط الضوء القليل الذي يبدو منه بحمرة الشفق، فيكون له تلك الصورة التي صورها له القرآن الكريم أدق تصوير وأروعه، حين شبهه بالعرجون القديم.. والعرجون، هو عذق النخلة، الذي يحمل النمر، ومنه تتدلى عناقيد النمر، ولونه أصفر، فإذا جفّ، وطال عليه الزمن تقوس شكله وصار لونه ضاربا إلى الحمرة الداكنة.. وهذه التحركات والتغيرات التي تظهر على وجه القمر ليلة بعد ليلة، جديرة بأن تستثير التفكير والتأمل، وأن تدعو العقل إلى النظر فيما وراء هذه المنظر الظاهر للقمر، إلى وضعه فى المجموعة الشمسية، وإلى صلته بالأرض، وإلى إمكان الوصول إليه، ولو على سبيل الفرض أولا، ثم اتخاذ الأسباب التي يمكن تحقيق هذا الفرض بها.. إن الملاحظة للشىء، هى الطريق الطبيعي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 933 للكشف عن حقيقته.. وليس مثل هذا العرض الذي عرضه القرآن الكريم للقمر داعية إلى الملاحظة والتأمل، لو أن ذلك وجد همما متطلعة، وعزائم جادة..!! قوله تعالى: «لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» أي أن من قدرة الله سبحانه وتعالى، ومن إحكام علمه، أن أجرى هذه العوالم بعلمه، وسخّرها بقدرته، وأقامها على نظام محكم، وأجراها فى مجار لا تتعداها.. فلا يصطدم بعضها ببعض، ولا يأخذ بعضها من بعض وضعا غير الذي أقامه الله فيه.. فلا الشمس ينبغى لها أن تدرك القمر. فهى مع سرعتها المذهلة، التي تبلغ ألوف المرّات بالنسبة لسرعة القمر فإنها لا تدركه.. فهى لها فلك تدور فيه، كما للقمر فلكه الذي يدور فيه.. وكما أن الشمس لا تدرك القمر، كذلك الليل لا يسبق النهار، إنهما يجريان بحيث يتبع أحدهما الآخر، دون أن يسبقه.. «وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» ،. وجعل الليل وراء النهار، لأن النهار أسبق من الليل هى دورة الأرض حول نفسها من الغرب إلى الشرق.. فالأرض فى دورانها حول نفسها من الغرب إلى الشرق، إنما تجرى نحو النور، ومن وراء النور الظلام.. فالنور دائما أمام الظلام، وهما معا فى حركة وجريان. فالآية الكريمة تشير إلى حركة الأرض وإلى دورانها حول نفسها من الغرب إلى الشرق.. واستعمل مع هذه العوالم ضمير العقلاء- إشارة إلى هذا النظام المحكم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 934 الممسك بها، والذي يقيمها على طريق مستقيم، كما يقيم العقل السليم صاحبه على طريق مستقيم.. قوله تعالى: «وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ» . أي ومن آياتنا التي نعرضها على هؤلاء المشركين، والتي تحمل إليهم الدلائل على قدرتنا، وإحساننا- أننا «حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ» . والفلك. يطلق على الواحد والجمع من السفن، قال تعالى: «فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا» . فهى هنا سفينة واحدة، وقال تعالى: «حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ.» وهى هنا جمع.. والمراد بها فى الآية الجمع كذلك، لأنه وصف بمذكر، وهو قوله تعالى: «الْمَشْحُونِ» ، وعاد عليها الضمير كذلك مذكرا فى قوله تعالى: «وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ» .. فعومل بهذا معاملة الجنس.. والمشحون: الممتلئ.. والمراد بالذرية: الأبناء، وهى، تجمع على ذرارى، وذريات، وأصلها من الذرء، وهو إظهار الشيء، يقال ذرأ الله الخلق، أي أوجد أشخاصهم، والذرأة بياض الشعر.. وفى الإشارة إلى حمل ذرياتهم دون حمل آبائهم إلفات إلى ما تحمل الفلك لهم من فلذات أكباد، ونفائس أموال وأمتعة، فتحفظها، وتصل بها إلى غايتها.. وفى هذا ما يريهم فضل الله عليهم، وإحسانه بهم، فقد لا يرى الإنسان فضل النعمة، ولا يقدرها قدرها إذا هى لبسته هو، فإذا رآها فى غيره عرف لها قدرها، وذكر فضلها.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 935 قوله تعالى: «وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ» معطوف على قوله تعالى: «حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ» أي وآية لهم أنا خلقنا لهم من مثل هذا الفلك، مراكب يركبونها فى البر، وهى الإبل التي تسمى سفائن الصحراء، والخيل، والبغال والحمير، وغيرها مما يركب، ويحمل عليه.. قوله تعالى: «وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ..» أي أنه إذا كان من قدرة الله أن سخّر الفلك لتجرى فى البحر بأمره، فلا يغرق راكبوهم فإن من قدرته سبحانه أن يغرق هذه السفن، بمن فيها من أولاد وأموال، فلا يجدون من يسمع لهم صراخا، أو يستجيب لهم، أو يقدر على إنقاذهم إن سمع واستجاب.. فهم هلكى لا محالة، إلّا أن تتداركهم رحمة الله، وإلا أن تكون لهم بقية من أجل.. فقوله تعالى: «إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ» استثناء من قوله تعالى: «فَلا صَرِيخَ لَهُمْ» أي لا ينقذهم منقذ أبدا إلا رحمة الله، وما لهم من أجل لم ينته بعد.. الآيات: (45- 54) [سورة يس (36) : الآيات 45 الى 54] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 936 التفسير: قوله تعالى: «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» . لا تزال الآيات الكريمة، تلقى المشركين بالوعيد والتهديد، بعد أن عرضت عليهم من مشاهد قدرة الله ما فيه عبرة لمعتبر، ولكنهم ذوو أعين لا تبصر، وآذان لا تسمع، وقلوب لا تلين.. فإذا دعوا إلى أن يتقوا الله فيما بين أيديهم من نعم، يستقبلونها من الله، وما خلفهم من نعم أفاضها الله عليهم، لعلهم ينالون رحمة الله، ويدخلون فى عباده المتقين- إذا قيل لهم هذا القول، لم يقفوا عنده، ولم يلتفتوا إليه، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 937 ومضوا على ما هم عليه من كفر بنعم الله ومحادّة له.. وجاء القول بصيغة البناء للمجهول «قِيلَ» ، للإشارة إلى أنهم لا يقبلون هذا القول الذي يدعوهم إلى تقوى الله، لا لأن رسول الله هو الذي يدعوهم إليه، وإنما لأن طبيعتهم لا تقبله، من أية جهة تأتهم به، ومن أي إنسان يدعوهم إليه.. وحذف جواب الشرط «إذا» لدلالة حالهم عليه.. فهم على إعراض أبدا عن كل خير، وحق، وإحسان.. وقوله تعالى: «وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ» . هو مما يشير إلى جواب الشرط فى الآية السابقة.. فهو حكم عليهم بأنهم لا يلتقون بآية من آيات ربهم، إلا أعرضوا عنها، مكذبين بها، ساخرين منها.. قوله تعالى: «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» . وهذه آية من آيات الله، تدعوهم إلى خير، وإلى بر وإحسان، بأن ينفقوا مما رزقهم الله- فماذا كان جوابهم على هذه الدعوة من صاحب الأمر، وصاحب الرزق؟. كان جوابهم هو: - «قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ؟ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .. وهذا جواب خبيث ماكر، يكشف عن كفر غليظ.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 938 إنهم فى سبيل الغلب بالمماحكة والجدل، يؤمنون بالله، ويؤمنون بمشيئته فى خلقه، وبتصريفه المطلق لكل أمر.. فيقولون ردّا على قول الله أو الرسول أو المؤمنين لهم: «أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ» - يقولون: «أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ؟» إن تلك هى مشيئة الله فى هؤلاء الجياع الذين ندعى إلى إطعامهم.. إن الله أراد لهم أن يجوعوا، ولو أراد أن يطعمهم لأطعمهم.. فإنه قادر، وخزئنه لا تنفد!! فلم يدعوننا نحن إلى إطعامهم، وهو القادر، ونحن العاجزون، وهو الغنى ونحن الفقراء؟ إن أنتم أيها المؤمنون «إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» ! لا تعرفون الله، ولا تقدرونه قدره!!. وهذا الرد من المشركين، هو ردّ من خذله الله، وأضله على علم.. فهم إذ يدعون إلى الإيمان بالله، لا يسمعون، ولا يعقلون.. وهم إذا دعوا إلى ما تقتضيه دواعى المروءة الإنسانية، من الإحسان إلى إخوانهم الفقراء، يقيمون من الله، ومن علمه وقدرته حجة كيدية، يبطلون بها الدعوة التي يدعون إليها.. ولو أنهم كانوا مؤمنين بالله، معترفين بمشيئته فى خلقه، لاستجابوا لما يدعوهم الله إليه، من الإنفاق فى سبيل الله.. وفى الإظهار بدل الإضمار فى قوله تعالى: «قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا» بدلا من قالوا- كشف عن الوصف الذي هو ملتصق بهم، وهو الكفر.. قوله تعالى: «وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» . الوعد: هو يوم القيامة، الذي يعدهم الرسول به، ويدعوهم إلى الاستعداد للقائه. وسؤال المشركين عن موعد هذا اليوم، هو على سبيل التكذيب به، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 939 والإنكار له.. لا سؤال الذي جهل، ويريد أن يعرف.. ولهذا فهم يعقبون على هذا السؤال بقولهم: «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» .. وقولهم هذا للنبى والمؤمنين معه.. هو قول الشاك فى صدق من يسأله، بل هو قول من يتهم وينكر. قوله تعالى: «ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ» أي ما ينظر هؤلاء المشركون المكذبون بيوم القيامة، إلّا صيحة واحدة تطلع عليهم من حيث لا يحتسبون، فتأخذهم وهم فى هذا الجدل والاختصام فيما يشغلهم من أمور دنياهم، وفيما يختصمون فيه مع المؤمنين فى أمر هذا اليوم.. والصيحة هى صيحة الموت العام، أو الخاص.. قوله تعالى «فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ» . أي أن هذه الصيحة التي تنزل بهم، إنما تأتيهم بغتة، فلا تدع لهم سبيلا إلى أن يتصرفوا قى شىء مما فى أيديهم، أو أن يوصوا بشىء منه إلى من يودون إيثاره بشىء مما كانوا يحرصون عليه، وقد أوشك أن يفلت من أيديهم، كما لا يستطيعون أن يرجعوا إلى أهلهم وأموالهم بعد موتهم.. أو أنهم لا يستطيعون أن يرجعوا إلى أموالهم وأهليهم، إذا جاءهم الموت، وهم فى مكان بعيد عنهم.. إن الموت لا ينتظر هم لحظة واحدة، إذا جاء أجلهم.. قوله تعالى: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ» . وإذا كان هؤلاء المقبورون من المشركين، لا يرجعون إلى أهليهم، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 940 فإنهم سيرجعون إلى الله، وسيلقون جزاء ما كانوا يعملون.. فكما ماتوا بصيحة واحدة، فإنهم سيبعثون كذلك بنفخة واحدة. والصور: هو قرن ينفخ فيه، فيحدث صوتا عاليا.. والأجداث: جمع جدث، وهو القبر. وينسلون: أي يخرجون مسرعين من القبور. قوله تعالى: «قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟ هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ» . وتأخذ المفاجأة المشركين والكافرين، لأنهم كانوا لا يتوقعون نشورا، فيفزعهم هذا البعث، ويتنادون بالويل.. لأنهم لا يدرون ماذا يراد بهم فى هذا العالم الجديد الذي أخذوا إليه؟ ويأخذهم العجب من تلك اليقظة التي أخرجتهم من هذا النوم الطويل.. «مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا» ؟ ويجيئهم الجواب: «هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ» .. هذا ما كنتم به تكذبون! قوله تعالى. «إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ» . «صيحة» خبر كان منصوب، واسمها ضمير يعود على الصيحة فى قوله تعالى: «ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ» .. أي ما كانت الصيحة إلا صيحة واحدة، أخرجتهم من قبورهم، ثم جمعتهم فى المحشر بين يدى الله.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 941 قوله تعالى: «فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» أي ففى هذا اليوم، يلقى كل إنسان جزاء ما عمل، فلا تظلم نفس شيئا، فالمسىء لا يلقى من الجزاء إلا بقدر إساءته، والمحسن لا يبخس من إحسانه شىء، بل يوفّاه مضاعفا.. الآيات: (55- 70) [سورة يس (36) : الآيات 55 الى 70] إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 942 التفسير: قوله تعالى: «إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ» هذا ما يلقّاه المؤمنون فى هذا اليوم الذي يساق فيه المشركون إلى موقف الحساب والجزاء.. وهذا الخبر هو تشويق للمؤمنين إلى هذا الجزاء الكريم الذي وعدوا به من ربّهم.. ثم هو فى الوقت نفسه عزل للكافرين عن هذا المقام، ومضاعفة للحسرة فى قلوبهم.. وسمى أهل الجنة أصحابها، تمكينا لهم منها، وإطلاقا لأيديهم بالتصرف فى كل شىء فيها، شأنهم فى هذا شأن المالك فيما ملك.. فضلا من الله وإحسانا. وشغل أصحاب الجنة فى الجنة، هو ما يلقّون من ألوان النعيم، حيث يشغل هذا النعيم كل لحظة من حياتهم، إذ يجيئهم ألوانا وصنوفا، فإذا هم فى أحوال متغايرة متشابهة معا.. متغايرة فى صورها وآثارها، متشابهة فى إسعاد النفوس ونعيمها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً» (25: البقرة) وفاكهون: أي منعّمون بما يساق إليهم من ألوان النعيم، وأصله من الفاكهة، إذ كانت من طيبات المطاعم.. ومنه الفكاهة، وهى التخير من طرف الكلام وملحه. وقوله تعالى: «هُمْ وَأَزْواجُهُمْ» .. إشارة إلى أن أهل الجنة يجدون نعيما خاصا، فى صور من الحياة التي كانوا يحيؤنها فى دنياهم، ومن هذه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 943 الصور، هذا الإلف الذي يجمع بين الزوج وزوجه، وبين الوالدين وأولادهم.. فهذه رغيبة من رغائب الناس فى الحياة، يسعد بها من وجدها فى زوجه وولده، ويشتهيها من حرمها، فلم يجد الزوج الموافقة، ولا الولد الذي يسعد به.. فإذا كانت الآخرة، كان من مطالب أهل الجنة أن يستعيدوا ما كانوا يجيدون من نعيم فى دنياهم، وأن ينالوا ما كانوا يشتهونه ولا يجدون سبيلا إليه.. وهذا- كما قلنا غير مرة- هو التأويل لهذا النعيم الحسى، ولهذه الصور الدنيوية من ذلك النعيم، الذي يدخل على أصحاب الجنة مع نعيم الجنة.. وهذا مثل قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» (21: الطور) فالمراد بالأزواج هنا، الزوجات المؤمنات اللاتي أدخلن الجنة، فيكون من تمام النعمة عليهن وعلى أزواجهن، أن يجتمع بعضهم إلى بعض. وقوله تعالى: «فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ» - هو صور من صور النعيم الدنيوي، وكان كثير من أصحاب الجنة يتطلعون إليه فى دنياهم، ولا يجدونه.. وقوله تعالى: «لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ..» أي لأصحاب الجنة فاكهة» .. وأطلقت الفاكهة من غير تحديد، لتشمل كل فاكهة، فيتخيرون منها ما يشاءون، كما يقول سبحانه: «وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ» (2: الواقعة) وقوله تعالى: «وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ» أي لهم ما يشاءون، وما يطلبون، غير ما يقدّم إليهم من غير طلب.. وقوله تعالى: «سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ» بدل من الاسم الموصول «ما» فى قوله تعالى: «وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ» أي ولهم سلام.. وهذا السلام يقال لهم قولا من رب رحيم، أي يسلم عليهم الرحمن به، فيقول جل جلاله لأصحاب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 944 الجنة «سَلامٌ عليكم» .. وهذا هو غاية نعيم أصحاب الجنة وأطيب طعومها الطيبة عندهم.. قوله تعالى: «وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ» أي انعزلوا، وخذوا مكانا خاصا بكم، حيث تتميزون به، وتعرفون فيه.. وهذا زجر للكافرين، وردع لهم أن يكونوا بمحضر من هذا المقام الكريم الذي ينزله أصحاب الجنة، أو أن يروه بأعينهم.. قوله تعالى: «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ.. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» . العهد هنا، هو ما كان من الله سبحانه وتعالى من تحذير من الشيطان وأعوانه، كما يقول سبحانه على يد الرسل «يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ» (27: الأعراف) وكما يقول جلّ شأنه: «إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ» (6: فاطر) وعبادة الشيطان، هى اتّباعه فيما يدعو إليه، وهو لا يدعو إلا إلى ضلال، وشرك، وكفر.. والاستفهام فى الآية للتقرير.. الذي يثير مشاعر الندم والحسرة.. قوله تعالى: «وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» هو معطوف على قوله تعالى: «أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ» .. أي «أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي» ؟ .. فالعهد الذي أخذه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 945 الله على أبناء آدم جميعا، هو أن يتجنبوا عبادة الشيطان، وأن يحذروا الاستجابة له فيما يدعوهم إليه، وأن يعبدوا الله وحده.. فهذا هو الصراط المستقيم.. فمن لم يعبد الله، فقد ضل وهلك.. قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ» الجبلّ، والجبلة: الخلق والآية تلفت العقول إلى هذه الآثار السيئة التي تركها الشيطان فيمن عصوا الله، ونقضوا العهد، واتبعوا خطوات الشيطان.. لقد ألقى بهم الشيطان فى بلاء عظيم، وأوردهم موارد الهلاك.. فإذا لم ير بعض الغافلين أن يستجيبوا لما دعاهم الله إليه من اجتناب الشيطان، والحذر منه- أفلم يكن لهم فيما رأوا من آثاره فى أتباعه وأوليائه، ما يدعوهم إلى اجتنابه، ومحاذرته؟ - وفى قوله تعالى: «أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ؟» هو عود باللائمة والتوبيخ لهؤلاء الذين لا تزال أيديهم ممسكة بيد الشيطان، وهم يمشون على أشلاء صرعاه منهم! قوله تعالى: «هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» .. لقد نقض المشركون عهد الله، وخرجوا عن أمره.. ولكن الله سبحانه لم ينقض عهده معهم، وهو أنهم إذا نقضوا عهده، وخرجوا عن أمره، كانت النار موعدهم.. كما يقول سبحانه: «النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (72: الحج) قوله تعالى: «اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 946 أي اصطلوا بها، وذوقوا عذابها، بسبب كفركم وضلالكم.. وفى هذا الأمر الذي يلقى إليهم وهم يتقلبون على جمر جهنم مضاعفة للعذاب ومزيد منه، إن كان وراءه مزيد! قوله تعالى: «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» أي فى هذا اليوم يختم الله على أفواه أهل الضلال، فلا ينطقون.. وفى هذا زجر لهم، وكبت للكلمات التي كانت ستنطلق من أفواههم، ليعتذروا بها إلى الله، وليتبرءوا بها من أنفسهم، وما جنته أيديهم، أو يحاولوا بها إلقاء التهمة على غيرهم.. وفى كل هذا مجال للتنفس عنهم.. وكلّا، فإنه لا متنفس لهم، ولو بالكلمة!! ومما يضاعف فى إيلامهم وحسرتهم أن يقوم الشهود عليهم بإثبات جريمتهم- من أنفسهم، فتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم.. إنهم شهود أربعة، تتم بهم الشهادة على مرتكبى الكبائر.. ولا نسأل كيف تتكلم هذه الجوارح.. إنها تنطق للخالق الذي خلقها.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ (19- 21: فصلت) . فليست الأيدى والأرجل وحدها هى التي تنطق وتشهد على أصحابها، بل إن كل جارحة فيهم تشهد عليهم بما كان منها، حتى ألسنتهم تلك التي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 947 ختم الله عليها.. إنها ستنطق ولكن بعد أن تشهد الجوارح كلها، فلا يكون لهم حجة تنطق بها الألسنة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» (24: النور) قوله تعالى: «وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ» أي لو شاء الله لطمس على أعين هؤلاء المشركين، وهم فى هذه الدنيا، وأنزل بهم هذا العقاب الرادع، فأسرعوا إلى الإيمان، واستبقوا إليه، تحت ضغط هذا النذير، ولكن الله سبحانه لم يشأ هذا بهم، ولم يلجئهم إلى الإيمان اضطرارا.. فقوله تعالى: «فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ» سبب للطمس على أعينهم، والفاء للسببية.. وقوله تعالى: «فَأَنَّى يُبْصِرُونَ» أي فكيف يبصرون، إذا طمس الله على عيونهم؟ إن هذه الإبصار نعمة جليلة من نعم الله، وقد أبقاها الله لهم فلم يطمس عليها.. أفلا يرعون هذه النعمة المهددة بالطمس؟ ثم ألا ينظرون بها، ويهتدون إلى الإيمان ويستبقون بها إلى صراط الله المستقيم؟ قوله تعالى. «وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ» أي لو شاء الله كذلك، لمسخهم على مكانتهم التي هم فيها من الضلال والعناد، هو لم يدخل على مشاعرهم شيئا من الإيمان، ولأمسك بهم على الكفر فما استطاعوا «مضيّا» أي اتجاها إلى الإيمان، ولا رجوعا عما هم عليه من طرق الضلال.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 948 ولكنه سبحانه وتعالى، لم يشأ ذلك فيهم، وترك لهم مجال النظر، والاختيار، والتحرك من الكفر إلى الإيمان، إن شاءوا.. فمشيئتهم مطلقة عاملة، غير معطلة، وبهذا لا تكون لهم على الله حجة. وهذا يعنى أن الخطاب هنا- وهو لجماعة المشركين- يشير إلى أن فيهم من سيتحولون من حالهم تلك، ويخرجون من هذا الظلام، ويلحقون بالمؤمنين، ويدخلون فى دين الله.. فالفرصة لا تزال فى أيديهم، لن تفلت منهم بعد.. وإن السعيد منهم من سبق، وأخذ مكانه على طريق الإيمان، قبل أن تفلت الفرصة من يده قوله تعالى: «وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ.. أَفَلا يَعْقِلُونَ» مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيتين السابقتين، حملتا مع هذا التهديد الذي حملته إلى المشركين، دعوة إلى المبادرة إلى الإيمان بالله، واستباق الزمن قبل أن يفوت الأوان.. وهنا فى هذه الآية، دعوة أخرى إلى المبادرة واستباق الزمن.. حيث أنه كلما طال الزمن بهم لم يزدهم طول الزمن إلا نقصا فى الخلق، وإلا ضعفا فى التفكير، حيث يأخذ الإنسان عند مرحلة من مراحل العمر فى العودة إلى الوراء، وفى الانحدار شيئا فشيئا، حتى يعود كما بدأ، طفلا فى مشاعره، وخيالاته، وصور تفكيره.. فالزمن بالنسبة لهؤلاء المشركين، ليس فى صالحهم، وأنهم وقد بلغوا مرحلة الرجولة الكاملة، لا ينتظرون إلا أن ينقصوا لا أن يزدادوا، وعيا وإدراكا، وأنهم إذا لم تهدهم عقولهم إلى الإيمان بهذا الكتاب الذي بين أيديهم فلن يهتدوا بعد هذا أبدا، بل سيزدادون ضلالا إلى ضلال، وعمى إلى عمى.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 949 - وفى قوله تعالى: «أَفَلا يَعْقِلُونَ» حثّ لهم على استعمال عقولهم تلك، التي هى معهم الآن، ثم إذا هى- بعد أن يمتد العمر بهم- وقد تخلت عنهم! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً» (70: النحل) . قوله تعالى: «وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ» .. ومناسبة هذه الآية لما قبلها أيضا، هو أنه وقد حملت الآيات الثلاث قبلها دعوة إلى المشركين أن يستبقوا الإيمان بالله، وأن يبادروا باستعمال عقولهم والنظر بها إلى آيات الله قبل أن تذهب هذه العقول مع الزمن- فقد جاءت تلك الآية تلقاهم برسول الله، وبكتاب الله الذي معه، ليكون لمن انتفع بهذه الدعوة معاودة نظر إلى رسول الله، وإلى كتاب الله.. فالضمير فى قوله تعالى: «وَما عَلَّمْناهُ» يعود إلى الرسول الكريم، وهو وإن لم يجر له ذكر فى الآيات السابقة، فإنه مذكور ضمنا فى كل آية من آيات الكتاب، إذ كانت منزلة عليه.. فهذا رسول الله.. ليس بشاعر كما يقولون.. إنه لم يؤثر عنه شعر، ولم يكن- كما عرفوا منه- من بين شعرائهم.. فهذه تهمة ظالمة، يجب أن يبرئوا النبىّ منها، وأن يلقوه من جديد على أنه ليس بشاعر. وهذا كتاب الله الذي بين يديه.. ليس من واردات الشعر- كما يزعمون زورا وبهتانا- بل هو «ذكر» يجد الناس من آياته وكلماته، ما يذكّرهم بإنسانيتهم، وبما ضيعوا من عقولهم فى التعامل مع الجهالات والضلالات، على خلاف الشعر، فإنه- فى غالبه- استرضاء للعواطف الجزء: 12 ¦ الصفحة: 950 وتغطية على مواطن الرشد من العقول.. وهذا الكتاب هو «قُرْآنٌ مُبِينٌ» أي كتاب غير مغلق على قارئه، أو سامعه من قارئ له، بل هو واضح المعنى، بيّن القصد، فلا تعمّى على قارئه أو سامعه أنباء ما به.. قوله تعالى: «لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ» أي أن هذا الرسول الكريم، إنما ينذر بالكتاب الذي معه، «مَنْ كانَ حَيًّا» أي من كان فى الأحياء من الناس، بعقله، ومدركاته، وحواسه.. فإن من كان هذا شأنه، كان أهلا لأن ينتفع بما ينذر به.. أما من تخلى عن عقله، وملكاته ومشاعره فلا يحسب فى الأحياء، ولا ينتفع بالنذر.. بل سيظل على ما هو عليه من كفر وضلال، ويحق عليه القول، أي ينزل به العذاب، الذي توعد به الله سبحانه وتعالى، أهل الكفر والضلال.. الآيات: (71- 83) [سورة يس (36) : الآيات 71 الى 83] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 951 التفسير: قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ» هو عرض للآيات الكونية، التي تكشف عنها الآيات القرآنية لأبصار هؤلاء المشركين، الذين دعوا إلى إعادة النظر فى كتاب الله، وإلى إخلاء مشاعرهم من القول بأنه شعر، وأن الرسول الذي جاء به من عند الله شاعر.. فهذا الكتاب الذي بين أيديهم ليس شعرا، إنه ذكر وقرآن مبين.. ومن الذكر الذي فى هذا القرآن- هذا العرض الذي تعرض فى آياته هذه المظاهر من قدرة الله، وصنعة يده.. فهذه الأنعام التي يملكها هؤلاء المشركون، والتي فيها عبرة وذكرى لمن سمع، ووعى.. من خلقها؟ ومن جعل لهم سلطانا عليها؟ ومن وضعها فى أيديهم وجعلها ملكا خالصا لهم؟ .. ألا فلينظروا بعقولهم إلى هذه الأنعام، وليجيبوا على هذه الأسئلة التي تطلع عليهم منها.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 952 إنها صنعة الله، وفى ملكه.. ولكنه- سبحانه- قد ملّكهم الله إياها، وأقدرهم على تسخيرها، والانتفاع بها.. «وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ» أي أنه لولا أن ذللها الله لهم، وجعلها فى خدمتهم، لما قدروا عليها، ولما أمسكوا بها.. إذ كانت أقوى قوّة منهم.. ولو شاء الله لجعلها فى طبائع الحيوانات المفترسة، التي لا تألف الناس، ولا يألفها الناس.. فلا يكون لهم منها نفع أبدا.. «وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ» - أي أن فى هذه الأنعام منافع كثيرة لهم.. يركبونها، ويحملون عليها أمتعتهم، ويأكلون لحومها، ويشربون ألبانها، ويتخذون من أصوافها وأوبارها وأشعارها وجلودها أثاثا ومتاعا.. أفلا يشكرون الله على ذلك؟ قوله تعالى: «وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ» . هو عطف حدث على حدث.. وبين الحدثين تغاير كبير، وتفاوت بعيد، والشأن بين المتعاطفين أن يتقاربا، ويتجاوبا.. ولكن فى هذا العطف فضح لضلال المشركين، وانحرافهم هذا الانحراف الحادّ، عن الطريق السوىّ.. حيث يقابلون الإحسان بالكفران. فالله سبحانه وتعالى يفضل عليهم بهذه النعم، خلقا، وتسخيرا، وتذليلا.. وهم يكفرون به، ويحادّونه، ويتخذون من دونه آلهة.. فما أبعد ما بين الإحسان والكفران!. وقوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ» بيان للغاية التي يقصد إليها المشركون من اتخاذ هذه الآلهة من دون الله.. إنهم يرجون من وراء ذلك الاستعانة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 953 بها على ما يغلبهم من شئون الحياة، وما يلقاهم على طريقها من عقبات.. وهيهات.. ضعف الطالب والمطلوب..! قوله تعالى: «لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ» . هو ردّ على معتقد المشركين فى آلهتهم.. فهؤلاء الآلهة الذين اتخذوهم من دون الله معبودين لهم، يرجون منهم نصرا- هؤلاء الآلهة لا يستطيعون لهم نصرا، بل وأكثر من هذا، فإن آلهتهم هذه، محتاجة إلى من يحرسها، ويدفع عنها يد المعتدين.. وهؤلاء المشركون هم أنفسهم، جند محضرون، يقومون على حماية هذه الآلهة، وحراستها، وحراسة ما تزيّن من به حلىّ، وما يلقى عليها من ملابس.. - فقوله تعالى: «وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ» - الضمير «هم» يعود إلى المشركين، وفى قوله تعالى: «مُحْضَرُونَ» - إشارة إلى أن هناك قوى مسلطة على هؤلاء المشركين، تجعل منهم جندا لخدمة هذه الآلهة.. وهذه القوى هى تلك المشاعر المتولدة من معتقدهم الفاسد، وتصورهم المريض، حيث تسوقهم هذه المشاعر الضالة، سوقا، إلى التزلّف لهذه الدّمى، والولاء الأعمى لها.. «فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ.. إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ» . هو عزاء كريم، للنبى الكريم، من ربّ كريم، مما يرميه به قومه من يذىء القول وساقطه.. «فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ» هذا الذي يقولونه عنك، من أنك كاذب، وشاعر، ومجنون، ولا يحزنك ما يقولونه فى آلهتهم، وأنها شفعاء لهم من دون الله.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 954 - وفى قوله تعالى: «إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ» .. تهديد للمشركين، ووعيد لهم بالحساب الشديد، والعذاب الأليم، فالله سبحانه يعلم ما يسرون وما يعلنون، من كفر، وضلال، وبهتان، وهو سبحانه محاسبهم ومجازيهم عليه.. قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ» . هو مراجعة لهؤلاء المشركين، وتنبيه لهم من هذه الغفلة المستولية عليهم.. وفى هذا الاستفهام التقريرى الموجه إلى الإنسان على إطلاقه- دعوة إلى كل إنسان أن ينظر فى نفسه، وأن يمد بصره، إلى نقطة الابتداء فى حياته، ثم ليسير مع نقطة الابتداء هذه فى الطريق الذي سلكه، حتى صار هذا الإنسان، الذي يجادل، ويخاصم، ويقف من الله موقف المحادّ المحارب!. ألم يكن هذا الإنسان نطفة؟ .. إنه لو نظر الإنسان فيها لأنكر نفسه، وما وقع فى تصوره أنه كان جرثومة من آلاف الجراثيم السابحة فى هذه النطفة.. وأين تلك النطفة أو هذه الجرثومة العالقة بالنطفة- أين هى من هذا الإنسان، الذي أبدعته يد القدرة هذا الإبداع العظيم الحكيم؟ ألا ما أضأل شأن الإنسان، وما أعظمه! ما أضأله نطفة، وما أعظمه رجلا.. ما أضأله ضالا ضائعا، كضلال هذه النطفة وضياعها.. وما أعظمه إنسانا رشيدا، عاقلا مؤمنا، فى ثوب الإنسانية الرشيدة العاقلة المؤمنة!. قوله تعالى: «وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 955 هو عطف حدث على حدث، عطف خلق الله سبحانه الإنسان من نطفة، ثم قيام إنسان من هذه النطفة يجادل الله، ويختصمه، ويضرب له الأمثال، احتجاجا وحجة!. ففاعل الفعل «ضرب» يعود إلى هذا الإنسان الخصيم المبين، الذي تولد من النطفة!. إنه لم يقف عند هذه الدعوة التي دعاه الله سبحانه وتعالى بها إلى أن ينظر فى خلقه، وأن يعرف من أين جاء، وكيف كان، ثم كيف صار- لم يقف عند هذه الدعوة، بل أقبل يحاجّ الله ويجادله، ويضرب الأمثال له.. «إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» (34: إبراهيم) .. والمثل الذي ضربه هذا الكافر، ليدلل به على معتقده الفاسد، فى إنكار البعث- هذا المثل، هو أنه نظر فى هذه العظام البالية التي يراها فى قبور الموتى، ثم اتخذ منها معرضا يعرضه على الناس، ويسألهم هذا السؤال الإنكارى الساخر: «مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ» ؟ أهذه العظام التي أبلاها البلى تعود ثانية كما كانت، ويتشكل منها أصحابها الذين كانوا يحيون بها فى الحياة؟ أهذا معقول؟ إن محمدا يقول هذا..فماذا تقولون أنتم أيها الناس فيمن يقول هذا القول؟ ألا ترجمونه؟ ألا تسخرون من جنونه؟. وقوله تعالى: «وَنَسِيَ خَلْقَهُ» جملة حالية، أي أن هذا الكافر ضرب هذا المثل ناسيا خلقه، ولو ذكر خلقه وكيف كان بدؤه، ثم كيف صار- لرأى بعينيه- قبل أن يرى بعقله- إن كان له عقل- أن هذه النطفة التي أقامت منه هذا الإنسان الخصيم المبين، هى أقل من العظام شأنا، وأبعد منها عن مظنّة الحياة. إذ كانت النطفة لا تعدو- فى مرأى العين- أن تكون نقطة ماء قذرة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 956 أشبه بالمخاط.. أما العظام فهى تمثل حياة كاملة، كانت تسكن فى تلك العظام- إنها عاشت فعلا حياة كاملة، وكان منها إنسان كامل، كهذا الإنسان، الذي يجادل، ويضرب الأمثال لله.. فهذه العظام، تمثل حياة لها تاريخ معروف.. أما النطفة، فلا ترى عين هذا الجهول فيها أثرا للحياة. قوله تعالى: «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» . هو الرد المفحم على هذا السؤال الإنكارى.. «مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ» ؟ إن الذي يحييها، هو الذي أنشأها أول مرة.. لقد أنشأ هذه العظام من نطفة، وألبسها الحياة، ثم أماتها.. ثم هو الذي يحييها.. إنه إعادة لشىء كان بعد أن لم يكن، وإعادة بناء الشيء، أهون- فى حسابنا- من ابتداعه، واختراعه أصلا.. وفى قوله تعالى: «وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» - إشارة إلى علم الله المحيط بكل شىء، ومن كان هذا علمه فلن يعجزه شىء.. فبالعلم استطاع الإنسان أن يحرك الجماد، وينطقه، وبالعلم استطاع أن ينقل الأصوات، وصور المرئيات من طرف الأرض إلى طرفها الآخر فى لحظة عين، أو خفقة قلب.. وبالعلم يستطيع الإنسان أن يفعل الكثير، مما تعدّ هذه الأشياء من نوافل علمه.. فكيف بعلم الله الذي وسع كل شىء؟ أيعجزه شىء؟ إن من يعجز عن أي شىء لا يستحق أن يضاف إليه العلم كله.. إذ لو كان معه العلم كله لما أعجزه شىء؟ والله سبحانه وتعالى: «بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (29: البقرة) .. قوله تعالى: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ» . هذه بعض آيات من علم الله.. إنه سبحانه خلق الشجر، وقد امتلأ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 957 كيانه بالماء يجرى فى أصوله، وفروعه وأوراقه.. ثم جعل من طبيعة هذا الشجر أن يجفّ، وأن يقبل الاحتراق، وإذا هو فى النار، قطع من الجمر! فأين هذا الشجر الأخضر، من هذا الجمر الملتهب؟ وكما يخرج الله سبحانه النار من الماء، يخرج سبحانه الميت من الحىّ، ويخرج الحىّ من الميت.. هذه صورة من الإبداع فى الخلق، لا تحتاج فى وضوحها إلى علم، وتجربة، وإنما بحسب الإنسان- أي إنسان.. أن يقف قليلا بنظره عندها، فيرى آيات بينات، من علم الله وقدرته.. قوله تعالى: «أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟ بَلى. وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ» .. وصورة أخرى للدلالة على قدرة الله سبحانه.. هى هذه السموات والأرض.. من خلقها؟ إنه الله سبحانه، بإقرار الكافرين والمشركين أنفسهم.. إنهم لا يعرفون لهما خالقا غيره.. كما يقول سبحانه وتعالى: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» (25: لقمان) . وهنا سؤال: أليس الذي خلق السموات والأرض قادرا على أن يخلق سموات كهذه السموات وأرضا كهذه الأرض؟ وبديهية المنطق تقول: إن ذلك ممكن.. فمن صنع شيئا قادرا على أن يصنع أشياء مثله، لا شيئا واحدا. ولهذا جاء الجواب عن هذا السؤال: «بلى» أي بلى قادر.. «وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ» .. الخلّاق، الذي يزيد فى الخلق ما يشاء «العليم» الذي لا يعجزه شىء! قوله تعالى: «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 958 أي إنما شأنه سبحانه فى الخلق، أن يريد، فيقع ما يريد.. بلا معاناة ولا بحث.. إنه سبحانه يقول للشىء الذي يريد إيجاده «كن» فيكون كما أراد.. فبالكلمة خلق الله كل شىء.. إن الكلمة: «كن» هى مظهر إرادة الله. والموجودات هى مظاهر كلمات الله.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» (109: الكهف) . قوله تعالى: «فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» . فتسبيحا لله، وتنزيها له، وإجلالا لجلاله- سبحانه- «بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ» أي ملك كل شىء، ملكا متمكنا، مستوليا على كل ذرة فيه.. والملكوت: مبالغة فى الملك، بالاستيلاء عليه استيلاء مطلقا، يمسك بكل ذرة، وبكل ما دون الذرة منه. وفى قوله تعالى: «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» تقرير للبعث، وتأكيد له.. وأنه ما دام بيد الله ملكوت كل شىء والناس من أشياء هذا الوجود الذي هو ملك لله، فإنهم لا بد راجعون إلى الله. وإلى أين يذهب الناس بعد الموت إذا لم يرجعوا إلى الله؟ إنهم إذا لم يرجعوا إليه فليسوا إذن فى ملكه.. وليس هناك شىء غير مملوك لله، وهو «الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ» «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» . (54: الأعراف) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 959 37- سورة الصافّات نزولها: مكية.. باتفاق عدد آياتها: مائة واثنتان وثمانون آية.. عدد كلماتها: ثمانمائة واثنتان وستون.. كلمة عدد حروفها: ثلاثة آلاف وثمانمائة وستة وعشرون حرفا. مناسبتها لما قبلها ختمت سورة «يس» بقوله تعالى: «فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» . وبدئت سورة الصافات بهذا القسم الذي يقسم به- سبحانه- على تلك الحقيقة، وهى وحدانية الألوهية، التي هى من مقتضى ملكية الله لكلّ شىء.. فإذا كان الله هو مالك لكل شىء، كان من مقتضى هذا أن ينفرد بالألوهية، وألا يشاركه فى هذا الوجود أحد، وإلا كانت ملكينه له غير تامة.. وأما وملكيته سبحانه ملكية مطلقة لهذا الوجود، فهو- وحده سبحانه- صاحب الأمر فيه، وإليه وحده يكون ولاء كل موجود. بسم الله الرحمن الرّحيم الآيات: (1- 10) [سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 960 قوله تعالى: «وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً فَالتَّالِياتِ ذِكْراً» . اختلف فى المراد بالصافات.. فقيل هم الملائكة باعتبارهم جماعات وفرقا.. وقيل هم جماعات المؤمنين، الصّافين فى الصلاة.. بمعنى أنهم قائمون صفوفا ساجية ساكنة، خاشعة فى الصلاة.. وقيل هى جماعات الطير تسبح فى جوّ السماء صافة أجنحتها، أي باسطة لها من غير حركة، وأن الزاجرات هى جماعة الملائكة التي تنزل بالمهلكات، وأن التاليات ذكرا، هن جماعات المؤمنين فى الصلاة.. وعلى هذا التأويل يكون القسم بثلاثة أصناف، لا بصنف واحد، له ثلاثة أوصاف.. والذي يقول بأن الصافات هم جماعة الملائكة، يقول كذلك إن الزاجرات، والتاليات هم جماعات الملائكة فى أحوال غير أحوالهم وهم صافّون، أو هم جماعات غير تلك الجماعة الصافة.. فالزاجرات زجرا، هى جماعات الملائكة التي تحمل نذر الهلاك إلى المكذبين بالله، والتاليات ذكرا، هى جماعات الملائكة التي تحمل إلى رسل الله آياته وكلماته.. والذي يقول إن المراد بالصافات صفّا، هم جماعة المؤمنين فى مواقف الصلاة- يقول إن الزاجرات زجرا، هنّ الآيات التي يتلوها المصلون فى صلاة الجهر، والتاليات ذكرا هن الآيات التي تتلى فى صلاة السرّ.. والذي نرجحه من هذه الآراء هو- والله أعلم- القول بأن هذه الأوصاف هى للملائكة.. وذلك: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 961 أولا: أن الله سبحانه ذكر فى أول سورة «فاطر» قوله: «الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ» .. وفى هذا إشارة إلى أن الملائكة يصفّون كما تصف الطير بأجنحتها. وثانيا: أن الله سبحانه ذكر فى آخر هذه السورة «الصافات» قول الملائكة: «وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ» . (165- 166) والقرآن الكريم يفسر بعضه بعضا، وتقوم دلالات بعض آياته شواهد على بعض.. فالصافات صفّا، جماعات الملائكة، الذين يصفون أجنحتهم فى ولاء وخشوع دائم، وفى عبادة متصلة لله رب العالمين.. والزاجرات زجرا.. جماعات من الملائكة، يسلطهم الله على أعدائه فى الدنيا والآخرة، يرجمونهم بالمهلكات.. والتاليات ذكرا، جماعات من الملائكة، هم حملة كلمات الله إلى عباده.. يتلونها على رسله، لينذروا بها أقوامهم.. قوله تعالى: «إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ» .. هو جواب القسم، «والصافات» ، وهو يقرر هذه الحقيقة ويؤكدها،.. تلك الحقيقة التي يشهد بها كل موجود، وهى أن إله الموجودات جميعها، إله واحد، هو الذي أوجدها، وهو الذي قام بسلطانه عليها.. قوله تعالى: «رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ» . فهذا الإله الواحد، هو رب السموات والأرض، وما بين السموات الجزء: 12 ¦ الصفحة: 962 والأرض، وما فى السموات والأرض.. إنه ربّ كلّ شىء وبيده ملكوت كل شىء، وله الحكم، وإليه يرجع الأمر كله.. وهو رب المشارق.. والمشارق، يمكن أن يكون معناها، المنازل التي تنزلها الشمس فى شروقها.. فهى تطلع كل يوم من مطلع غير الذي طلعت منه، على مدار السنة.. وكذلك الشأن فى مغربها.. كما هو معروف فى علم الفلك، وكما هو ظاهر للعين من مطلع الشمس ومشرقها فى الفصول الأربعة، وفى فصلى الصيف والشتاء بخاصة.. ويمكن أن تكون المشارق، والمغارب مشارق الأرض ومغاربها، أي جهة الشرق والغرب فيها،. ويكون المراد بذلك، هو لفت الأنظار إلى اتساع آفاق الأرض، وأنه كلما اتجه الإنسان فى هذين الاتجاهين- الشرق والغرب- وجد مشارق ومغارب، وقد أصبح الشرق اليوم- فى التقسيم السياسى والجغرافى للعالم- شرقا أدنى، وشرقا أوسط، وشرقا أقصى.. وإلى هذا المعنى- وهو اتساع آفاق الأرض- يشير قوله تعالى: «وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها» (137: الأعراف) . وقد جاء فى القرآن الكريم: «رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ» (17: الرحمن) وجاء فى القرآن الكريم كذلك: «رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» (9: المزمل) .. وعلى كلا المعنيين يمكن أن يحمل تأويل كل من الآيتين.. وهذا ظاهر.. واختص المشارق بالذكر، لأنها هى مطلع النور، ومن الشرق تطلع الشمس، التي هى مصدر النور، والدفء والحياة!. قوله تعالى: «إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 963 الكواكب: بدل من زينة.. والتقدير إنا زينا السماء الدنيا بالكواكب.. والكواكب، جمع كوكب.. والكواكب غير النجوم فى اصطلاح علماء الفلك.. إذ أن الكواكب متحركة تدور حول النجوم، على حين أن النجوم ثابتة تدور حول نفسها.. وكل نجم له مجموعة كواكب تدور حوله.. كالشمس، والكواكب السيارة التي تدور حولها، ومنها الأرض والقمر، والمشرق وزحل، والمريخ، وعطارد، والزهرة.. والسماء الدنيا، هى أقرب السموات إلينا، وأدناها من عالمنا الأرضى، وهى هذه السماء التي تطل علينا منها الشمس، والقمر، والنجوم.. وهناك سموات أخرى فوق هذه السماء، لم يبلغها علمنا، ولا تصل إليها أدوات الرصد التي نرصد بها ما فى السماء الدنيا من كواكب ونجوم.. وأن هذه السماء الدنيا، وما فيها من نجوم يصل ضوءها إلى الأرض فى أكثر من مليون سنة ضوئية- هذه السماء وما فيها من نجوم وكواكب، ليست إلا سطرا فى كتاب الوجود الذي لا نهاية له.. فما أعظم قدرة الخالق، وما أروع ما أبدع وصور..! وما أضأل شأن هذا الإنسان، وما أصغر قدره إلى هذه الوجود العظيم، الذي لا يعدو أن يكون هذا الإنسان فيه، هباءة سابحة فى الهواء، لا تراها عين، ولا تمسك بها يد.. لقد طارت الإنسانية طربا، واهتزت زهوا وغرورا، أن وصلت بمراكبها إلى القمر، وأن مشت بأقدامها فوقه!!. وما القمر هذا؟ وما مكانه فى هذا الوجود؟ إنه ليس إلا ذرة من رمل فى السماء الدنيا! فكيف بالقمر هذا فى مواجهة الوجود كله، وسمواته جميعها؟ إن الإنسان لم يقطع من صفحة السماء الدنيا، فى رحلته هذه إلى القمر، إلا كما تقطع النملة رحلة العمر، من جذر شجرة إلى ورقة من أوراقها! إنه انتصار للنملة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 964 لا شك، ولكنه نصر محسوب بحسابها، مقدور بقدرها.. قوله تعالى: «وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ» - معطوف على قوله تعالى زينا، أي زيناها بالكواكب وحفظناها حفظا من كل شيطان مارد. والمارد، والمريد، هو المجرد من كل خير.. وشجرة مرداء، لا ورق ولا ثمر عليها.. قوله تعالى: «لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ» . أي إن هؤلاء الشياطين المردة، وقد حفظت السماء من أن يقربوا منها، أو يطوفوا بها- لا يستطيعون أن يصغوا إلى الملأ الأعلى، وما يجرى فيه، فإذا حاولوا ذلك قذفوا من كل جانب بالشهب، ورموا من كل مكان بالرجوم، فيرجعون مدحورين مقهورين، لم يحصلوا على شىء.. «وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ» أي خالص وتام، كما فى قوله تعالى: «وَلَهُ الدِّينُ واصِباً» (25: النحل) . قوله تعالى: «إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ» - هو استثناء من الفاعل فى قوله تعالى «لا يَسَّمَّعُونَ» .. أي إن هؤلاء الشياطين لا يسمعون إلى الملأ الأعلى إلا خطفا من بعضهم، ممن يلقى بنفسه منهم فى سبيل ذلك إلى التهلكة، حيث يرمى بشهاب راصد لكل من حام حول هذا الحمى.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 965 ويسّمّعون: أصله يتسمعون.. وقد ضمن معنى الفعل يصغون أو يدنون، ولهذا عدّى بحرف الجر «إلى» .. أي لا يستطيعون أن يتسمعوا إلى الملأ الأعلى، وهم فى إصغاء شديد حالة التسمع. والآية الكريمة، ترد على المشركين معتقدهم الفاسد، فى أن الشياطين يعلمون الغيب، وأنهم يتلقون ذلك باتصالهم بالملأ الأعلى، واستماعهم إلى ما يدور بين الملائكة هناك، مما يتصل بالعالم الأرضى، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً» .. (6: الجن) .. والحديث عن الجن والشياطين، وإن كان ينكره الماديون، ويعدّونه ضربا من الخرافات، قد أصبح اليوم من مقررات العلم الذي يقوم على التجربة والاختبار، حتى إن كثيرا من الماديين الذين كانو ينكرون عالم «الروح» لم يجدوا أمام الشواهد الكثيرة الملموسة، إلا أن يعترفوا به.. ولسوف يكشف العلم لهم يوما أن الجن والشياطين، هى من تلك الأرواح التي تسكن هذا العالم الأرضى، وتعيش مع الإنسان فيه.. فهذا مما تحدث به القرآن، وما حديث القرآن إلا الحقّ المطلق، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. الآيات: (11- 26) [سورة الصافات (37) : الآيات 11 الى 26] فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 966 التفسير: قوله تعالى: «فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ» . الحديث هنا إلى المشركين.. والحديث إليهم هو لطلب الجواب منهم على هذا السؤال، وهو: أهم أشد خلقا أم من خلق الله فى السموات والأرض، من ملائكة وإنس وجن وشياطين؟ إنهم قد اتخذوا الشياطين أولياء، ينصرونهم من دون الله، كما اتخذوا الملائكة شفعاء لهم عند الله.. وهذا يعنى أنهم يضعون أنفسهم فى منزلة التابع للسيد، والعبد للرب.. وهؤلاء المخلوقون، من جن وملائكة، هم عبيد لله، وقد خلقهم، وإنّ من يخرج منهم عن واجب الولاء والعبودية، يلقى عذابا ونكالا فى الدنيا والآخرة، كما فعل ذلك بالجن الذين أرادوا التسمّع إلى الملأ الأعلى، فرماهم الله بالصواعق المهلكة، وأعد لهم فى الآخرة عذابا أليما.. وإذن فهؤلاء المشركون ليسوا أشدّ من الجن بأسا، ولا أقوى قوة، وإنه ليس يعصمهم عاصم من بأس الله إن جاءهم.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 967 - وفى قوله تعالى «فاستفتهم» بدلا من «فاسألهم» - إشارة إلى أن الأمر الذي يسألون فيه ليس امتحانا لهم.. وإنما هو مجرد طلب الرأى فيه، وكأنه أمر لا شأن لهم به، وفى هذا دعوة لهم إلى أن يقولوا الحق فيما يستفتون فيه، وألا يميلوا مع هواهم، إذ لا مصلحة لهم- فى ظاهر الأمر- فى أن يقولوا غير الحق، فى أمر لا شأن لهم فيه..! وهذا إعجاز من إعجاز القرآن، فى الإمساك بمقود الضالين المتكبرين المعاندين، بهذا الأسلوب الحكيم، الذي يستأنس نفار هذه النفوس الوحشية!. - وقوله تعالى: «إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ» .. الطين اللازب، هو اللزج، وهو الزبد الذي يتكون على شواطىء البحار والأنهار.. فهذه هى مادة خلق الإنسان.. حيث تطوّر هذا الطين وتنقل فى أطوار كثيرة، ومراحل شتى.. من النبات، إلى الحيوان، إلى الإنسان.. وقد أشرنا إلى هذا فى مبحث خاص، من الكتاب الأول فى هذا التفسير «سورة البقرة» أما الجن، فقد خلق من النار.. والنار- فى ظاهر الأمر- أفوى من الطين قوة، وأشد أثرا.. قوله تعالى: «بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ» . الخطاب للنبىّ صلى الله عليه وسلم، الذي استفتاهم- كما أمره الله سبحانه- بقوله: «فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً» .. وعجب النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- هو من أن يستفتى قوما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 968 لا يؤمنون بالله، ولا يستمعون لرسوله.. فكيف يستفتيهم؟ وكيف يتلقّى كلمة الحق منهم، وهم لم يقولوا الحق أبدا؟. وعجب النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- ليس إنكارا- وحاشاه- لأمر ربه، وإنما هى مشاعر تقع فى نفسه- صلوات الله وسلامه عليه- من هذا الموقف الذي يلقى فيه المشركين مستفتيا.. إنه أمر عجيب.. ولكنه أمر الله! .. - وقوله تعالى: «ويسخرون» .. هو معطوف على قوله تعالى: «عجبت» . فقد كان من النبي- صلوات الله وسلامه عليه- من هذا الموقف، عجب، وكان من المشركين سخرية!! إن هؤلاء الضالين، وقد دعوا إلى أن يجلسوا مجلس الفتيا، وهم ليسوا أهلا لها، حتى لقد عجب النبىّ من أن يدعى المشركون إلى هذا المقام- هؤلاء الضالون لم يقبلوا هذه الكرامة، وأبوا إلا أن يكونوا فى ملعب الصبيان يصخبون، ويسخرون! - وقوله تعالى: «وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ» معطوف على قوله تعالى «ويسخرون» أي ومن صفات المشركين وأحوالهم، أنهم إذا جاءهم من يذكرهم بما هم فيه من ضلال، لا يتذكرون، ولا يقبلون نصحا.. - وقوله تعالى: «وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ» ومن صفاتهم كذلك أنهم إذا رأوا آية من آيات الله الكونية، أو سمعوا آية من آياته القرآنية، «يستسخرون» أي يبالغون فى السخرية، ويستكثرون منها، ويجتمعون جماعات على مجالسها.. وفى قوله تعالى: «وَإِذا رَأَوْا آيَةً» - إشارة إلى تلك الآيات التي عرضتها الجزء: 12 ¦ الصفحة: 969 الآيات السابقة.. مثل قوله تعالى: «رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ.. إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ.. وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ.. لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ.. دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ» .. فهذه كلها آيات كونية، يرى فيها ذوو الأبصار دلائل ناطقة بقدرة الله، وبسطة سلطانه.. ولكن المشركين يتخذون منها مادة للهزء والاستسخار!. قوله تعالى: «وَقالُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» .. الإشارة هنا إلى أمر البعث، وما حدّثوا به من منكر القول فى هذا المثل الذي ضربوه بقولهم: «مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ» .. فالحديث عن البعث متصل لم ينقطع بين سورتى يس، والصافات.. ويجوز أن تكون الإشارة إلى مقول قولهم فى الآية التالية.. وهم هنا ينفون نفيا قاطعا أن يكون هناك بعث، فإن كان فهو من شىء لا واقع له، وإنما هو من حيل السّحر، وألاعيب السّحرة! «إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ..» قوله تعالى: «أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟» . استفهام إنكارى لأن تعود الحياة مرة أخرى إلى الأموات.. إذ كيف ترجع هذه الأجسام التي صارت ترابا، أو تلك التي ما تزال عظاما- كيف ترجع إليها الحياة مرة أخرى؟ كيف هذا، والإنسان إذا فسد عضو من أعضائه وهو حىّ- لا يمكن إصلاحه.. فكيف بهذه الأعضاء- وهى الإنسان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 970 كلّه- وقد صارت ترابا، وعظاما؟ أيقوم منها هذا الإنسان إلى الحياة مرة أخرى؟. وقوله تعالى: «أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ» ! أي وهل إذا صحّ- فرضا- أن يبعث الموتى الذين ماتوا من إخوانهم، أو أبنائهم، أو آبائهم الأقربين، أيصح- ولو فرضا- أن يبعث آباؤهم الأولون الذين ماتوا منذ مئات السنين؟ أهذا مما يعقل؟. قوله تعالى: «قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ» .. هو جواب على أسئلتهم تلك المكذبة، المنكرة.. إنه تحدّ لهذا الإنكار، وإهدار له.. ولهذا كان الجواب «نعم» وكأنه جواب عن سؤال يريد به صاحبه أن يعرف الحقيقة، وينشد المعرفة.. وقوله تعالى: «وَأَنْتُمْ داخِرُونَ» جملة حالية من نائب فاعل فعل محذوف، تقديره: نعم، تبعثون.. «وَأَنْتُمْ داخِرُونَ» أي صاغرون، مقهورون، لا تملكون من أمركم شيئا.. قوله تعالى: «فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ» . الزجرة: الصيحة المفزعة.. وهى صوت البعث الذي يفزع له أهل الكفر والشرك، الذين كانوا ينكرون البعث. وقوله تعالى: «فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ» .. إذا للمفاجأة، وهى تدل على وقوع الحدث فجأة وعلى غير انتظار وتوقّع له. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 971 وقوله تعالى: «ينظرون» - كناية عن يقظتهم، وتنبههم لما حولهم، حين يدعون من قبورهم.. قوله تعالى: «وَقالُوا يا وَيْلَنا.. هذا يَوْمُ الدِّينِ هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» .. وإنهم إذ يقومون من مرقدهم، وتأخذهم هذه المفاجأة غير المنتظرة- لا يجدون إلا صرخات الوبل، تقطع سكون هذا الصمت الرهيب، الذي اشتمل عليهم.. «يا ويلنا» أي يا هلاكنا وضياعنا!!. وقوله تعالى: «هذا يَوْمُ الدِّينِ» هو الخبر الذي يطلع عليهم، وهم ينادون بالويل، ولا يدرون أين هم، ولا ماذا يراد بهم؟ .. إنه يوم الدين، يوم الحساب والجزاء.. إنه يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون!. قوله تعالى: «احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.. فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ» . إنه أمر إلى الملائكة، أن يسوقوا هؤلاء المشركين إلى المحشر، وأن يحشروا معهم أزواجهم الذين كانوا على شاكلتهم، وأن يحشروا كذلك معهم ما كانوا يعبدون من دون الله.. ثم ليتجهوا بهم جميعا إلى الطريق المؤدى إلى الجحيم.. وفى قوله تعالى: «فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ» - إشارة إلى أنهم وقد أبوا أن يقبلوا الهدى إلى الحق، والخير، فى الدنيا، فإنهم سيقبلون الهدى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 972 فى الآخرة، ولكنه الهدى إلى عذاب الجحيم.. حيث يسوقهم الملائكة سوقا إلى هذا المورد الوبيل.. قوله تعالى: «وَقِفُوهُمْ.. إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ» .. أي احبسوهم هناك على طريق الجحيم، قبل أن تفتح لهم أبواب جهنم، ويلقوا فيها.. إذ لا بد قبل ذلك أن يحاسبوا، وأن يسألوا عما أجرموا.. وهو حساب عسير.. لا يقلّ هولا عن عذاب الجحيم.. قوله تعالى: «ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ؟» .. ومما يسأله هؤلاء الظالمون يومئذ، إذلالا لهم، واستهزاء بهم- هذا السؤال: «ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ؟» أي ما بالكم هكذا مستسلمين، لا ينصر بعضكم بعضا، ولا يستنصر بعضكم ببعض؟ أين آلهتكم الذين كنتم تعبدون من دون الله؟ أين شفاعة الشافعين منهم؟. قوله تعالى: «بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ» .. ولا يجد الظالمون جوابا.. إنهم جميعا- العابدين والمعبودين- مستسلمون.. صاغرون.. أذلاء.. لا يملكون شيئا.. الآيات: (27- 39) [سورة الصافات (37) : الآيات 27 الى 39] وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 973 التفسير: قوله تعالى: «وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ» . هو من حديث أهل الضلال والكفر فيما بينهم، وهو حديث ملاحاة وتجريم، واتهام.. إنها حرب كلامية، يرمى بها الظالمون بعضهم بعضا، ويخدش بها بعضهم وجه بعض.. قوله تعالى: «قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ» . هو بدل من قوله تعالى: «يَتَساءَلُونَ» .. فهذا بعض تساؤلهم.. والقائلون هنا، هم الأتباع، الذين استجابوا لإغواء من أغواهم وأضلّهم من الضالين الغاوين.. - وقولهم: «إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ» - إشارة إلى أن قادتهم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 974 هؤلاء، كانوا يأتونهم من جهة اليمين، أي من جهة الهدى، فيحولون بينهم وبين سلوك هذا الطريق، ويدفعون بهم إلى طرق الضلال.. ومثل هذا قوله تعالى، على لسان إبليس- لعنه الله-: «ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ» (17: الأعراف) ويجوز أن يكون الإتيان عن اليمين، كناية عن جهة النصح والإرشاد، حيث كانت جهة اليمين جهة اليمن والاستبشار، ولكنه نصح إلى ضلال، وإرشاد إلى هلاك. قوله تعالى: «قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ» . هو ردّ المتبوعين على تابعيهم.. وفيه دفع لهذا الاتهام الذي اتهموهم به.. «لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» ، أي لم نجدكم مؤمنين حتى صرفناكم عن الإيمان.. ثم إننا لم نحملكم حملا على الكفر، ولم نقهركم عليه بسلطان لنا عليكم.. فإنه لا سلطان لأحد على القلوب والضمائر، حيث هى مستقرّ الإيمان، ومستودعه.. بل إنكم كنتم منحرفين بطبيعتكم عن طريق الحق، وأهل بغى، وعدوان، وطغيان.. قوله تعالى: «فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ» . أي وجب علينا قضاء ربنا فينا أن نكون من أصحاب النار، وأن نذوق عذابها. فهذا حكم الله علينا، وإرادته فينا.. وإنه لا مفرّ لنا من هذا المصير.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 975 فإذا كنا أغويناكم، ودفعنا بكم إلى الضلال، فإننا أهل غواية وضلال، وذلك ليحقّ علينا قول ربنا، وتنفذ فينا مشيئته.. وإنهم بهذا ليقولون حقا.. فقد انكشف لهم قضاء الله فيهم، وما صار إليه أمرهم.. فالتسليم بالقدر بعد وقوع الأمر.. هو حقّ، وهو إيمان.. وأما تعليق الأمور على القدر قبل أن يقع المقدور، فهو ضلال، ومكر بالله.. كما يقول المشركون: «لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا» (35: النحل) . إنهم هنا ضالون زائغون.. إن عليهم أن يطلبوا ما يرونه حقا وخيرا، وأن يعملوا له.. فإن كان الله قد أراد لهم الخير، التقت إرادتهم مع إرادة الله، وتحقق لهم ما أرادوا.. وإن لم يكن الله قد أراد بهم خيرا، نفذت إرادة الله فيهم، وبطلت إرادتهم.. وهذا موقف غير موقف من يركب الشرّ بإرادته، ثم يقول: لو أراد الله بي الخير لفعل.. فهذا حق، وباطل معا!! وقد عرضنا لهذه القضية فى مبحث خاص.. من هذا التفسير «1» ، وفى كتابنا: «القضاء والقدر» . قوله تعالى: «فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ» .. أي إن هذه الملاحاة التي تدور بين أهل الضلال، لا تغنى عنهم شيئا..   (1) الكتاب الثامن: ص 672. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 976 فهم جميعا مشتركون فى هذا العذاب المحيط بهم.. وهذا جزاء كل من أجرم، وكفر بالله، وضلّ عن سواء السبيل.. قوله تعالى: «إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ. وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ» .. أي إن هؤلاء المجرمين الذي نعذبهم هذا العذاب الأليم- إنما نفعل بهم هذا، لأنهم كانوا إذا دعوا إلى الإيمان بالله، وإلى أن يعبدوه وحده، أبوا أن يستجيبوا لهذا الداعي الذين يدعوهم، واستكبروا أن يتلقوا كلمة التوحيد منه.. ويقولون، أنتبع هذا الشاعر المجنون، ونترك آلهتنا؟. قوله تعالى: «بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ» - هو إضراب على اتهامهم للنبىّ الكريم بأنه شاعر ومجنون.. إنه ليس بشاعر ولا مجنون، بل جاءهم بالحق من ربّهم وصدّق المرسلين الذين أرسلوا من قبله، إذ دعا إلى توحيد الله، كما كان ذلك دعوة كل رسول من رسل الله.. وفى وصف الرسول الكريم، بأنه مصدّق للمرسلين، إشارة إلى أنه صلوات الله وسلامه عليه- الشاهد الأمين، الذي يشهد لهم على الزمن، بصدق ما جاءوا به، فهو المجدد لدعوتهم، المصحح لما دخل عليها من شبهات وضلالات من أهلها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً» (45- 46: الأحزاب) .. وكما هو- صلوات الله وسلامه عليه- مصدق للرسل، فإن القرآن الذي تلقاه وحيا من ربه، مصدق للتوراة والإنجيل، كما يقول سبحانه: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 977 «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ» (48: المائدة) .. وهكذا كل رسول، مصدق للرسل الذين سبقوه.. وما معه من كتاب، هو مصدّق لما نزل عليهم من كتب، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» (6: الصف) . وإذا كان الرسول الكريم، هو خاتم الرسل، وكتابه جامعة الكتب، فهو بهذا مصدّق لإخوانه الرسل من قبله، وكتابه مصدق لما نزل عليهم من كتب. قوله تعالى: «إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» . هو خطاب للمشركين، الذين شهدوا- وهم فى هذه الدنيا- مشاهد الآخرة، ثم ووجهوا بما كانوا يقولون فى الرسول الكريم: «أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ» . وهذا الخبر المؤكد، هو وعيد لهم بالعذاب الأليم، الذي سيلقونه يوم القيامة فعلا.. وهذا العذاب الأليم، هو الجزاء العادل، لما كانوا يعملون.. ليس فيه عدوان عليهم، ولا ظلم لهم، وإن كان أليما، بالغ الغاية فى الإيلام.. الآيات: (40- 61) [سورة الصافات (37) : الآيات 40 الى 61] إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 978 التفسير: بعد أن عرضت الآيات السابقة، موقف الحساب، والمساءلة لأهل الكفر والضلال، وسوقهم إلى الجحيم، وتجرعهم غصص العذاب- جاءت هذه الآيات لتعرض أصحاب الجنة، أهل الإيمان والعمل الصالح، وما يلقون من نعيم ورضوان.. قوله تعالى: «إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ» - هو استثناء من الاسم الموصول فى قوله تعالى: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 979 «وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. ويكون الضمير فى تجزون للناس جميعا.. أي ما يجزى الناس إلا بما كان لهم من عمل، إلا عباد الله المخلصين، فإنهم يجزون أضعاف ما عملوا، فيقبل الله منهم حسناتهم، ويتجاوز عن سيئاتهم، فضلا منه وإحسانا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا» (37 سبأ) .. أما أصحاب النار، فإنهم يجزون بما عملوا.. كيلا بكيل. ومثقالا بمثقال.. والمخلصون من عباد الله، هم الذين أخلصوا دينهم لله، فلم يشركوا به شيئا، ولم يجعلوا ولاءهم لغيره.. قوله تعالى: «أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ» هو بعض ما يجزى به عباد الله المخلصون: «لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ» أي معدّ وحاضر لهم.. «فَواكِهُ» .. هى بعض هذا الرزق.. وخصّت بالذكر، لأنها مما يتفكه به بعد الطعام، إذ هى مما يناله المترفون فى حياتهم، بعد أن يأخذوا حاجتهم من الطعام.. «وَهُمْ مُكْرَمُونَ» أي أنهم ينالون هذا الرزق، وهم فى موضع الاحتفاء والتكريم.. «فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ» متعلق بمكرمون.. أي أن منزل إكرامهم والاحتفاء بهم، هو جنات النعيم.. «عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ» حال أخرى من أحوالهم، وهم فى هذا المنزل الكريم.. إنهم على سرر، يواجه فيها بعضهم بعضا، ويأنس بعضهم إلى بعض، كما يقول سبحانه: «عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (15- 16 الواقعة) . والسّرر: جمع سرير، والسّرير، المقعد المنضّد.. وقوله تعالى: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 980 «يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ» .. أي ومما يطرف به أصحاب الجنة، أنّه يطوف عليهم السّقاة بكئوس صافية الأديم، كأنها الماء يتفجر من «معين» أي من عيون.. والطائفون، هم غلمان مخلدون، كما يقول سبحانه: «يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ» (16- 17 الواقعة) .. - وقوله تعالى: «بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ» وصفان للكأس، فهى بيضاء صافية، وهى ببياضها وصفائها، تلذّ الناظر إليها، وتملأ عينه بهجة وحبورا. وقوله تعالى: «لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ» أي ليس فى الشراب الذي تحمله هذه الكأس، مما يغتال العقول، ويذهب بصوابها، كما تفعل الخمر برأس شاربها.. «وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ» أي لا يصدّون عنها، ولا يزهدون فيها، لأنها لا تستنزف لذتهم منها، بل تظلّ هكذا لذة دائمة موصولة.. وقد جاء فى قوله تعالى: «لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ» (19: الواقعة) جاء بكسر الزاى، بنسبة الفعل إليهم، على حين جاء فى الآية السابقة بفتح الزاى «ينزفون» بنسبة الفعل المسلّط عليهم إلى غيرهم.. وذلك ليجمع بين صفتهم، وصفة الخمر التي يشربونها.. فهى من شأنها أن تمسك شاربها عليها، لطيبها وحسنها، ولذتها.. وهم- بما أودع الله فيهم من قوّى- يتقبلون هذا النعيم، فلا يزهدون فيه أبدا.. قوله تعالى: «وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ» . أي وعند أصحاب الجنة، وبين أيديهم، فتيات «قاصِراتُ الطَّرْفِ» .. والطرف، هى العين، وقصر الطرف، كسره، حياء وخفرا.. وهذا كناية الجزء: 12 ¦ الصفحة: 981 عن صغرهن، وأنهن لم يلقين الرجال، ولم يتصلن بهم.. «لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ» . (56: الرحمن) والعين، جمع عيناء، وهى واسعة العينين، فى كمال وجمال.. وفى هذا احتراس مما قد يفهم من وصفهن بأنهن قاصرات الطرف، أن هذا القصر عن داء بهذه العيون، وأن خلقتها هكذا مغلقة، أو متكسرة.. وكلّا، فإنها فى حقيقها عيناء.. ولكنه الحياء، والخفر، قد أمسكا بها عن أن تمتلىء بالنظر الحادّ، إلى الرجال!. - وقوله تعالى: «كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ» وصف لألوانهن، وأنهن بيضاوات، كأنهن البيض المكنون، أي المحفوظ من الشمس، والغبار.. تحت أجنحة الطير.. فهو باق على بياضه ونقائه.. وفى تشبيه لون بشرة المرأة بالبيض المكنون، إعجاز من إعجاز القرآن فى دقة الوصف، وصدقه.. فالبيض المكنون تحت أجنحة الطير، يضم فى كيانه حياة يغتذى منها قشر البيض نفسه، كما تغتذى بشرة الجلد فى جسد الكائن الحىّ.. ثم إن هذا البيض يحمل فى كيانه الحياة فى مطلع نموها، واكتمالها.. فهى إذن ليست حياة مولية، وإنما هى حياة مقبلة، كتلك الحياة التي فى كيان هؤلاء الفتيات من حور الجنة.. فالقشرة التي تحتوى البيضة، تشير إلى ما فى كيانها من حيوية متدفقة.. تماما كتلك البشرة التي تحتوى جسد الشباب المتدفق حياة وقوة!. قوله تعالى «فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ» . الفاء فى «فأقبل» للسببية، أي أنهم وقد جلسوا على سررهم، متقابلين، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 982 وطعموا ما اشتهوا من طعام، وشربوا ما طاف عليهم من كئوس الشراب- لم تبق عندهم إلا لذة الحديث، فأقبل بعضهم على بعض، يتساءلون، ويتسامرون.. وكما أقبل أصحاب النار بعضهم على بعض يتساءلون، كذلك أقبل أصحاب الجنة بعضهم على بعض يتساءلون.. ولكن شتان بين تساؤل وتساؤل، وحديث وحديث.. إنه هناك- كما رأينا- كان اختصاما، وكان اتهاما، وكان تراميا بالشناعات واللعنات..! أما هنا، فهو حديث الأحبّاء الأصفياء.. يتساقون به كئوس المودة والإخاء.. قوله تعالى: «قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ: إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ» . وهذا من بعض ما يتحدث به أهل الجنة بعضهم إلى بعض.. فقال أحدهم: إنى كان لى فى الدنيا قرين.. أي صاحب قد جمعتنا الصحبة فى قرن واحد. ويصغى أهل المجلس إلى هذا الحديث، وما كان من شأن هذا الصاحب مع صاحبهم هذا!. «يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ» .. أي أن هذا الصاحب، كان مما يحدّث به صاحبهم هذا، أن يشككه فى أمر البعث، وأن يكشف له عن استحالته بما يضرب له من أمثال، فى هذه العظام البالية، وهذا التراب الذي صارت، إليه العظام، وأن لبسها الحياة بعد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 983 هذا، أمر لا يصدقه عقل، ولا يقبله عاقل..!! إنه كان يراود صاحبه على أن يترك هذا المعتقد الذي يعتقده فى البعث، والحساب والجزاء، ويقول له ما كان يتردد على ألسنة أهل الشرك: حياة، ثم موت، ثم بعث؟ ... حديث خرافة يا أمّ عمرو! فهذا الاستفهام الذي كان يلقى به هذا المشرك إلى صاحبهم هذا- هو استفهام المنكر، الساخر.. وقوله: «أَإِنَّا لَمَدِينُونَ» أي أإنا لمحاسبون، والدينونة، هى الحساب. أي أنحيا بعد أن نصير ترابا وعظاما، ثم نحاسب، وندان، ونعذب فى النار كما يقول «محمد» بهذا؟. وطبيعى أن صاحبهم هذا لم يستجب لهذا الضلال، ولم ينخدع لصاحبه المشرك.. ولهذا كان معهم فى هذا المنزل الكريم.. وطبيعى أيضا أن صاحبه قد أخذ طريقه إلى جهنم.. «قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ» . أي هل أنتم أيها الصحاب الكرام، ناظرون إلى أين استقر المقام بصاحبى هذا؟ إنه هناك فى جهنم! ها هو ذا فانظروا إليه، وإلى ما هو فيه!! «فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ.. وألقى بنظرة إلى حيث النار وأهلها.. فرأى صاحبه فى «سَواءِ الْجَحِيمِ» أي وسط الجحيم، يأخذ مكانا متمكنا منها.. فلقد كان داعية من دعاة السوء، ورأسا من رءوس الكفر.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 984 «قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ» .. ولا يجد صاحبهم ما يقوله لصاحبه، إلا أن يتبرأ منه فى الآخرة، كما تبرأ منه فى الدنيا.. إنه ينظر إليه غير راحم، إذ كان- لولا رحمة الله به، وإحسانه إليه- لو اتبعه، وأخذ طريقه معه، أن يكون قرينه فى هذا البلاء الذي يعانيه، وهذا العذاب الذي يكتوى بناره!. «أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» . وإنه، وقد أمسك بهذا النعيم العظيم، الذي يخيل إليه- من عظمته، وطيبه- أنه فى حلم يخشى أن يستيقظ منه إنه ليسأل أصحابه هذا السؤال الذي يريد أن يعرف به، هل هو فى حقيقة أم فى حلم: «أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ؟» أحقا لا نموت بعد هذا ولا نفارق هذا النعيم الذي نحن فيه؟ إنه ليعلم هذا يقينا، ولكن يريد علما يثبّت علمه، ويقينا يؤكد يقينه.. وفى قوله: «إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى» هو استثناء داخل فى عموم المستفهم عنه، وهو الموت.. أي أفما نموت إلا هذه الموتة الأولى التي بعثنا منها؟ ألا يكون بعد هذا البعث موت.. ثم بعث..؟ ثم إذا كانت هذه الموتة هى آخر موتة، وكان هذا البعث آخر بعث- فهل نظلّ على حالنا هذه من النعيم الذي نحن فيه؟ ألا تتغير بنا الأحوال، كما كان شأننا فى الحياة الدنيا؟ ألا يمكن أن تتبدل حالنا، فنعذب كما يعذّب هؤلاء المعذّبون فى النار؟ إن هذا كلّه يكشف عن أمرين: أولهما: ما يجد أصحاب الجنّة من نعيم عظيم، لم يقع فى تصوراتهم، ولم يطف بخيالهم.. فهم يحرصون عليه أشدّ الحرص، ويتمنّون الخلود فيه، وقد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 985 وعدهم الله الخلود فى جنات النعيم.. كما يقول سبحانه: «خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا» . وثانيهما: ما يراه أصحاب الجنة أيضا، من هذا العذاب الذي يلقاه أصحاب النار. فهم لهذا يفزعون منه، ويخشون أن يكون لهم نصيب منه.. وقد أمّنهم الله شرّ هذه الخواطر المزعجة.. فكانت تحيتهم من الملائكة دائمة موصولة، بقولهم: «سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ» (73 الزمر) .. «وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ» (23- 24: الرعد) . قوله تعالى: «إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» . هو الجواب الذي يجيب به هذا المتحدث إلى أصحابه، على ما كان يسألهم هو عنه فى قوله: «أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ، إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ» ؟ إنه تجاهل العارف لما يعرف، ليزداد يقينا بما عرف، واستيقانا منه.. ولهذا فهو يسأل، وهو يجيب: «إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» .. فأى فوز أعظم من الظفر برضا الله، والخلود فى جنّاته؟ جعلنا الله من أهل الفوز برضاه، والخلود فى جنات النعيم.. قوله تعالى: «لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ» . هو تعقيب على هذا الحديث الذي كان بين أصحاب الجنة، وما تكشف الجزء: 12 ¦ الصفحة: 986 منه من هذا المقام الكريم، وهذا المنزل الطيب الذي ينزله المؤمنون بالله واليوم الآخر.. فلمثل هذا المقام يسعى الساعون، ولمثل هذا المنزل يعمل العاملون.. وكل سعى إلى غير هذا المقام، هو سعى باطل، وكل عمل لغير هذا المنزل هو عمل لا يعقب إلا الحسرة والندامة.. الآيات: (62- 74) [سورة الصافات (37) : الآيات 62 الى 74] أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) التفسير: قوله تعالى: «أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ» .؟ هو خطاب للمشركين، وأهل الكفر والضلال.. والمشار إليه هو هذا النعيم الذي ينعم فيه أصحاب الجنة.. أي أىّ خير: أهذا المنزل الكريم، والنعيم العظيم الذي يلقاه أهل الجنة.. أم شجرة الزّقوم هذه، التي هى طعام الجزء: 12 ¦ الصفحة: 987 أهل الشرك والضلال؟ .. وفى هذا يقول الله تعالى: «إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ» ، طَعامُ الْأَثِيمِ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ» (43- 46 الدخان) . قوله تعالى: «إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ» أي إنا جعلنا ذكرها والحديث عنها فى القرآن، فتنة لأهل الظلم والعناد من هؤلاء المشركين، وكانت- لو عقلوا- مزدجرا لهم، وطلبا للنجاة منها.. ولكنهم اتخذوها مادة للتفكه والسخرية، وقال قائلهم: انظروا إلى ما يحدّث به محمد!! إنه يعدنا بشجرة تنبت فى النار، وتطلع وسط اللهب! أرأيتم شجرا تقوم أصوله وفروعه فى النار، فيكون منها ريّه، ونماؤه، ويطلع فى أحشائها زهره وثمره؟ وهكذا يظلّون فى هذا اللغو من القول، غير ملتفتين إلى مالله سبحانه وتعالى من قدرة لا يعجزها شىء، وغير واقفين عند ما لفتهم الله إليه فى قوله تعالى: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ» ! أو ليس الذي جعل من الشجر الأخضر نارا، بقادر على أن يجعل من النار شجرا أخضر؟ أليس هذا من ذاك؟ قوله تعالى: «إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ» . أصل الجحيم: قراره- والطلع: الزهر الذي ينعقد عليه الثمر.. وفى تشبيه هذا الطلع برءوس الشياطين، إشارة إلى بشاعتها مظهرا، الذي ينمّ عن مخبر هو أشد منه بشاعة.. والشياطين، وإن لم يكن لها صورة حقيقية تعرف بها، إلا أن لها صورة متوهمة فى خيالات الناس وتصوراتهم، وهى صورة بشعة مخيفة.. وإذا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 988 كانت رأس الشيء هى أظهر ما فيه، وأدل شىء على حسنه أو قبحه، فقد اختير من الشياطين رءوسها التي تتجمع فيها بشاعة الشياطين وقبحها.. قوله تعالى: «فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ» الفاء للتفريع.. أي وينبنى على وجود هذه الشجرة فى أصل الجحيم، أن يأكل منها هؤلاء المجرمون، حتى لكأنّ هذه الشجرة ما غرست ونبتت فى الجحيم، إلا ليكون منها طعامهم. وامتلاء بطونهم منها، ليس عن شهوة أو رغبة، وإنما هو عن قهر وقسر.. إمعانا فى عذابهم، والتنكيل بهم.. قوله تعالى: «ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ» . الشوب: المختلط بغيره من كل شىء، ومنه الشائبة، وهى ما يعلق بالإنسان من أمور لا تليق به، والحميم: السائل الذي اشتد غليانه. ومع كل طعام شراب.. وإذا كان طعام هؤلاء الأشقياء هو من ثمر تلك الشجرة الجهنمية، فإن شرابهم كذلك هو مما ينبع من عيون هذا الجحيم.. وفى قوله تعالى: «عَلَيْها» إشارة إلى أن مورد الحميم، هو قائم عند هذه الشجرة.. والمعنى، أن لهم عند وردهم على هذه الشجرة، وأكلهم منها، شوبا من حميم، أي أخلاطا من سوائل تغلى وتفور.. ويجوز أن يكون «على» بمعنى «فوق» أي أن لهم فوق هذا الطعام الذي طعموه من شجرة الزقوم- لهم فوق هذا، شراب من حميم، وكأن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 989 ذلك مبالغة فى إكرامهم، على سبيل السخرية والاستهزاء، والمبالغة فى النكال والعذاب؟. قوله تعالى: «ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ» . أي ثم يقادون بعد أن يأكلوا ويشربوا، إلى حيث مربطهم، ومنزلهم.. فالشجرة التي يطعم منها الآثمون قائمة فى قعر جهنم، فيساق إليها هؤلاء الآثمون، حتى إذا أكلوا من ثمرها، وشربوا من الحميم الذي يجرى تحت أصولها، أعيدوا إلى حيث كانوا.. وهكذا يغدون ويروحون فى أودية جهنم! قوله تعالى: «إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ» . هو تعليل لما فيه هؤلاء الآثمون الخاطئون، من عذاب عظيم، وبلاء مقيم.. إنهم ضلّوا عن سواء السبيل، ولم يستمعوا إلى ما جاءهم من نذر، ولم يقبلوا ما دعوا إليه من هدى.. بل إنهم وجدوا آباءهم على ضلال، فمشوا على آثارهم، واتبعوا خطوهم، وقالوا: «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ» (22: الزخرف) . ويهرعون: أي يسرعون من غير توقف.. إذ لم يكن لهم عقول يرجعون إليها، ويعرضون ما يعرض لهم من أمور عليها.. قوله تعالى: «وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ» . هو عزاء كريم للنبى الكريم، ومواساة له فى الضالين من قومه. إنهم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 990 ليسوا أول الضّالين، ولا آخرهم.. فلقد ضلّ قبلهم أكثر النّاس، وقليل هم المؤمنون «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» (103: يوسف) . قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ» . هو تطمين لقلب النبىّ.. وأن الله سيدفع عنه كيد هؤلاء الضالين، كما فعل بالمرسلين من قبله، إذ نجاهم والمؤمنين معهم. من كيد الكافرين، الذين أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر. وفى قوله تعالى: «فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ» .. تهديد لهؤلاء المشركين، وجمع بينهم وبين من أهلكهم الله من المكذّبين برسل الله، على مورد الهلاك، وسوق لهم جميعا إلى عذاب الجحيم.. قوله تعالى: «إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ» . هو استثناء من «المنذرين» فى قوله تعالى: «فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ» .. أي فلقد أهلكناهم، إلا عباد الله المخلصين، والذين استجابوا لرسل الله، وأخلصوا دينهم لله.. ووقع الفعل على المنذرين جميعا، إذ كانوا هم الكثرة الغالبة الذين أهلكهم الله.. أما المؤمنون، فهم قلة قليلة مستثناة من هذا الطوفان الكبير.. والمخلص: هو من اختاره الله للهدى من بين هذا الركام، وصفّاه من شوائب الضلال الضارب بجرانه على القوم. الآيات: (75- 98) [سورة الصافات (37) : الآيات 75 الى 98] وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 991 التفسير: قوله تعالى. «وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ» . فى هذه الآية والآيات التي بعدها، تفصيل لما أجملته الآيتان السابقتان عليها، وهما قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ» . فهذا نوح عليه السلام، قد أرسله الله سبحانه، نذيرا إلى قومه، كما يقول سبحانه: «إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (1: نوح) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 992 ولقد أنذر نوح قومه، وبالغ فى إنذارهم، فلم يستمعوا له، ولم يقبلوا منه قولا.. فلما يئس منهم لجأ إلى ربه شاكيا: «قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً» (5- 7: نوح) . فلما بلغ به اليأس مداه، دعا ربه أن يأخذهم بعاجل ذنوبهم: «وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» (26- 27: نوح) . وقد استجاب الله لنوح، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ» أي نادانا نوح مستغيثا بنا، فأجبناه.. فنعم المجيبون نحن، حيث يجد من يجيبه إلى طلبه.. ويمنحه نصرا عزيزا وفتحا مبينا. فتباركت يا الله وتعاليت.. وخاب من طرق بابا غير بابك، ووجه وجها إلى غير وجهك!. «وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ» . معطوف على قوله تعالى: «وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ» أي دعانا نوح، فاستجبنا له، «وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ» أي من البلاء العظيم، الذي أخذ الظالمين، وهو الطوفان!. «وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ» . وإذ كان المؤمنون هم أهله، وهم الذين نجوا من هذا الطوفان، فقد كان منهم ذريته التي بقي بها نسله، جيلا بعد جيل.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 993 «وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ» . أي وتركنا عليه ثناء طيبا، باقيا فى الأجيال من بعده.. «سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ» . هو سلام من الله سبحانه وتعالى على نوح فى مجتمعات الإنسانية كلها، يردده كل مؤمن بالله، وبرسل الله.. «إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ» . أي بمثل هذا الجزاء الحسن نجزى أهل الإحسان من عبادنا، الذين آمنوا بالله وعملوا الصالحات.. «ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ» . أي بعد أن نجينا نوحا ومن معه، أغرقنا الذين حق عليهم القول منّا.. وقدّم نجاة نوح ومن معه، إظهارا للعناية به وبالمؤمنين.. إذ المطلوب أولا هو نجاتهم من هذا الكرب العظم.. هذا، والطوفان الذي أهلك به قوم نوح، ليس طوفانا عامّا شمل الدنيا كلها، وغطى وجه الأرض، كما يذهب إلى ذلك أكثر المفسرين.. وإنما هو- كما قلنا- طوفان إقليمى محدود.. وقد عرضنا لهذا الأمر بالتفصيل فى سورة «هود» .. وهذا إبراهيم- عليه السلام- يجىء منذرا قومه.. فيقول سبحانه: «وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ» . أي أن من شيعة نوح وأنصاره، والقائمين على دعوته من بعده، إبراهيم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 994 وشيعة المرء، أولياؤه وأنصاره.. وحسب إبراهيم- عليه السلام- من شيعة نوح، لأنه كان على الإيمان، بفطرته، فلم تستحب فطرته لعبادة صنم.. فكأنه بهذا كان ممن آمن مع نوح، وركب معه السفينة، وكان من الناجين.. ثم إن إبراهيم قد اعتزل قومه، وتركهم لضلالهم يتخبطون فيه حتى يهلكوا، كما فعل نوح باعتزاله قومه بركوب السفينة تاركا إياهم للبلاء الذي حلّ بهم.. ولهذا كان إبراهيم أمة وحده، كما يقول الله تعالى: «إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (120: النحل) . «إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» . أي أن إبراهيم كان على نهج نوح وطريقته، حين جاء ربه، أي أقبل على ربه «بقلب سليم» أي قلب قد سلم من آفات الشرك والضلال، فلم تعلق بفطرته شائبة، بل ظل على الفطرة التي فطره الله عليها، لم يدخل عليها شىء من غبار الشّرك، الذي كان يسدّ وجه الأرض.. «إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ» - بدل من قول الله تعالى: «إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» .. أي أن إبراهيم كان شبيها بنوح، حين قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون؟ أي منكرا عليهم تلك المعبودات التي يعبدونها من دون الله.. فهو ونوح على طريق سواء.. «أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ» . الإفك: الباطل والمفترى من الأمور.. وآلهة: بدل من «إفكا» .. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 995 والاستفهام إنكارى، أي أتطلبون آلهة من واردات الإفك والافتراء، بدلا من الله رب العالمين؟ أليس ذلك سفها وجهلا، وكفرا؟. «فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ» . أي فما معتقدكم فى رب العالمين؟ وما تصوركم له؟ وما حسابه عندكم؟ أهو واحد من آلهتكم تلك؟ أم هو على هيئة ملك أو أمير، أو سيد من ساداتكم؟ .. «وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ» . (23: فصلت) . فالله سبحانه وتعالى: «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (103: الأنعام) .. إن الله- سبحانه- هو مبدع هذا الوجود، وهو القائم عليه، وبيده ملكوت كل شىء.. فكيف تعبدون إلها غيره؟ وكيف ترضون لعقولكم أن تقبل هذه الأحجار آلهة، تتعامل معها، وتتخاضع بين يديها، وتجعلها شريكة لله فى الملك والتدبير؟. «فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ» . النظرة التي نظرها إبراهيم فى النجوم، هى، ما أشار إليه سبحانه فى قوله تعالى: «وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 996 وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.. حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (75- 79: الأنعام) . وسقم إبراهيم هنا، هو سقم نفسى، لما اعتراه من حيرة خلال تلك التجربة التي عاناها مع هذه الكواكب، التي ظل يرصدها ليلة بعد ليلة، ويرعى مسيرتها، ويتأمل وجهها مشرقة وغاربة.. فإذا أشرق واحد منها لقيه حفيّا به، راجيا أن يكون الوجه الذي يرى فيه ربه الذي يعبده، ثم إذا رآه يغرب خاب ظنه فيه، فنفض يديه منه، كما ينفض المرء يديه من ميت دفنه فى التراب.. وهكذا ظل إبراهيم يستقبل وجوه الكواكب، كوكبا كوكبا، ويدفنها واحدا واحدا، وهكذا أيقن- بفطرته، وتجربته- أن إلهه ليس من عالم المنظور فى الأرض أو فى السماء.. إنه- سبحانه- القوة القائمة على هذا الوجود، والسلطان المتصرف فيه، والإله الذي لا يتحول ولا يتبدل، ولا يقع فى حدود النظر. وهذه النظرة التي نظر بها إبراهيم إلى النجوم هنا، غير تلك النظرة التي جاء ذكرها فى الآيات السابقة، والتي كانت نظرة متسائلة متطلعة، سأل فيها النجم والقمر والشمس، وإنما كانت نظرته هنا نظرة مذكرة له بما كان منه وهو فى سبيل البحث عن الله، قبل أن تأتيه الرسالة، وكأنه يدعو بهذه النظرة قومه إلى أن يسلكوا الطريق الذي سلك، وأن يهتدوا إلى الله بعقولهم كما اهتدى، إن كانوا يستنكفون من اتباعه، والأخذ بما يدعوهم إليه.. ولكن لم تكن لهم عقول تعقل، ولا آذان تسمع.. فولّوا عنه مدبرين. وقد أقام أكثر المفسرين تأويلهم، لقوله تعالى: «فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ» على أن ذلك النظر كان فى مواجهة قومه، وفى معرض الجزء: 12 ¦ الصفحة: 997 حديثه إليهم حين جاء يدعوهم إلى عبادة الله، وترك ما يعبدون من أصنام.. والذي أقام المفسرين على هذا الرأى- فى نظرنا- هو هذا العطف بالفاءات، المتلاحقة.. «فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ. فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ. فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ. فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ» .. ولأن فاء العطف تفيد الترتيب والتعقيب- هكذا يقول النحاة- فقد جعلوا هذه الأحداث، حدثا واحدا، يضمها مجلس واحد، ويحتويها ظرف واحد من الزمان، لا تتخلله أحداث!. ولو نظر المفسرون إلى أبعد من مقررات القواعد النحوية الضيقة، لرأوا أن بين الحدث والحدث هنا أزمانا ممتدة، قد تكون أياما، وقد تكون سنين.. فالتعقيب هنا ليس هو التعقيب الفوري، ولو كان ذلك لكانت رؤية إبراهيم للنجم، وللقمر، وللشمس، فى ليلة واحدة، مع أن هذا غير وارد ولا معقول.. فقد يكون إبراهيم رأى النجم، ورصد تحركاته ليالى كثيرة، ثم تركه وصحب القمر أياما وشهورا.. وكذلك الشمس.. حتى وصل إلى هذا الحكم الذي قضى به فى شأنها جميعا.. قوله تعالى: «فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ» . ليس التولّي هنا، بعد نظرة إبراهيم نظرته فى النجوم- كما يذهب إلى ذلك أكثر المفسرين- وإنما كان توليهم عنه هو نهاية المطاف فى دعوته لهم، ومحاجّتهم له.. فقد انتهى الأمر بينه وبين قومه إلى اليأس منهم أن يؤمنوا، وإلى اليأس منه أن يعبد ما يعبدون.. «فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 998 قوله تعالى: «فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ؟ ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ؟» . أي تسلل إلى آلهتهم، ودخل عليها بيتها المعدّ لها، من غير أن يراه أحد.. ثم رأى بين يدى تلك الآلهة كثيرا من صنوف المأكولات والمشروبات، وألوان الهدايا التي كان يتقرب بها القوم إليها، فقال ساخرا هازئا: «أَلا تَأْكُلُونَ» ؟ فلما لم يسمع جوابا قال متابعا سخريته: «ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ» ؟ قوله تعالى: «فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ» . أي فنزل عليهم يضربهم بيده اليمنى، ويحطمهم حطما «فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً.. إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ» (58: الأنبياء) . والتعبير بقوله تعالى «فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً» بدلا من: فأقبل عليهم ضربا للإشارة إلى أنه كان يفعل ما يفعل فى حذر، وفى غير جلبة، حتى لا يحدث صوتا يكشف للقوم عما يجرى هنا!. فالروغ، والرّوغان، ضرب من العمل، فى ذكاء وحذر. وقوله: «بِالْيَمِينِ» إشارة إلى الإرادة القوية التي كان يعمل بها فى تحطيم هذه الأصنام، إذ كانت اليد اليمنى هى القوة العاملة فى تنفيذ هذه الإرادة. قوله تعالى: «فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 999 أي حين رأى القوم ما حل بآلهتهم، ووقع ما وقع من اضطراب وبلبلة، وانتهى الأمر بينهم إلى أن إبراهيم هو الذي فعل هذه الفعلة بآلهتهم- أقبلوا إليه مسرعين، فى خفة وطيش، ليمسكوا به، وليحاسبوه الحساب العسير على هذا الجرم العظيم! .. والزفيف: هو الصوت الذي تحدثه النعامة بجناحيها، حين تنطلق مسرعة من وجه خطر يتهددها، فتزّف بجناحيها.. وفى وصف القوم بهذا، تشبيه لهم بالنعامة فى جبنها الذي يطير معه صوابها، حين ترى، أو تتوهم أنها ترى، خطرا، فتنطلق إلى حيث ترمى بها أرجلها، لا إلى حيث يدعوها عقلها، إذ كانت ولا عقل لها، ولا حيلة عندها، حتى إذا دهمها الخطر، دفنت رأسها فى الرمل، وكأنها بذلك قد دخلت مأمنها!! وهكذا القوم فى تصريف أمورهم.. إنهم نعام طائش لا عقل لهم، ولا تدبير عندهم.. قوله تعالى: «قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟» . وقد كان لقاء القوم لإبراهيم، لقاء عاصفا مزمجرا، كثرت فيه الرميات بالوعيد والتهديد.. وقد ضرب القرآن الكريم هنا صفحا عن كل ما حدث، إذ كان لهذه القصة حديث فى غير موضع منه.. واكتفى القرآن هنا بالإمساك بكلمة الفصل فى هذه القضية: «أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ؟» . فهذه هى القضية.. وهذا هو السؤال الذي يحسم الأمر فيها.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1000 قوله تعالى: «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ» .. أي أن الله خلقكم وخلق الذي تعملون من أصنام وغيرها.. كيف تعبدون ما تنحتون بأيديكم؟ أليس هذا الذي تنحتونه هو من مخلوقات الله؟. إن هذه الأصنام التي تخلقونها بأيديكم هى من مادة خلقها الله قبل أن تخلقوها.. فكيف تعبدون ما تخلقون؟ أيعبد الخالق ما خلق؟ هذا وضع مقلوب!. هذا، وقد كثر الخلاف فى تأويل هذه الآية بين المعتزلة والجبرية، وأهل السنة، على اعتبار أن «ما» هنا مصدرية، وعلى هذا يكون المعنى أن الله خلقهم، وخلق أعمالهم.. وقد ترتب على هذا أن قال الجبرية- إن الله خالق أفعال العباد، والله سبحانه لا يخلق القبيح، وعلى هذا فالأفعال كلّها حسنة، ليس فيها قبيح.. وتعددت فى هذا مذاهبهم، واختلفت مقولاتهم.. وقد أنكر المعتزلة هذا التأويل للآية، واعتبروا «ما» موصولة لا مصدرية، وقالوا إن العبد خالق أفعاله، الحسن منها والقبيح.. ففى الأفعال الحسن والقبيح، ومن ينكر هذا فإنما يكابر فى بدهيات الأمور.. وقال «الأشعري» - من أهل السنة، وممثل رأيهم هنا: إن العبد مكتسب أفعاله، والله خالقها!! .. وهذه قضية استنفدت جهد العلماء.. وليس هنا مجال عرضها، وقد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1001 عرضنا جانبا من هذه القضية فى مبحث خاص من هذا التفسير تحت عنوان: «مشيئة الله ومشيئة الإنسان» - كما عرضنا هذه القضية بالتفصيل فى كتابنا. «القضاء والقدر» .. وبقي أن نقول إن «ما» فى هذه الآية موصولة لا مصدرية، لأنها لو كانت مصدرية لكان قول إبراهيم لقومه: «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ» - لكان قوله ذلك حجة عليه لا له.. قوله تعالى: «قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ» .. هذا هو الحكم الذي انتهى إليه رأى القوم فى إبراهيم، وهو أن يموت حرقا بالنار، جزاء له على ما فعل بآلهتهم، فليس لمن يفعل هذا إلا أن يلقى هذا العذاب الأليم.. إن إبراهيم كان يحذّرهم نار الآخرة التي يعذب بها الله سبحانه الذين يعبدون هذه الأصنام.. وهاهى ذى الأصنام تعذّب بالنار من يعبد غيرها!! أليست آلهة؟ وأليس للإله أن يعذّب بالنار من يكفر به، ويتعدّى حدوده؟ .. قوله تعالى: «فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ» .. أي أرادوا أن يكيدوا لإبراهيم، وأن يأخذوه بهذا العذاب، فنجى الله إبراهيم من النار- كما نجى نوحا من الطوفان- وجعلهم هم الأسفلين، كما جعل قوم نوح فى قرار الطوفان، وجعل نوحا فوق الطوفان بسفينته.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1002 الآيات: (99- 113) [سورة الصافات (37) : الآيات 99 الى 113] وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) التفسير: قوله تعالى: «وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ» . لقد نجّى الله إبراهيم من النار، وأغرق قومه فى لجج الكفر والضلال، فتركهم إبراهيم يتخبطون فى هذا البحر اللجّى من الضلال، وقال: «إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ» أي إنى متجه إلى ربى، معتزل إياكم، متخذ دارا غير داركم، وموطنا غير موطنكم.. ولا أدرى إلى أين سأذهب.. ولكنى موقن أن الله سيهدينى إلى خير دار، وأطيب مقام، هذا هو ظنى بربي الذي أعبده وأسلم أمرى له.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1003 «رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ» وهنا يجد إبراهيم نفسه وحده، بعيدا عن الأهل والوطن.. وقد خلا قلبه من الاشتغال بأمر قومه، فالتفت إلى نفسه، ووجد أن لا ولد له، يؤنسه فى وحدته، ويشد ظهره فى غربته، فسأل ربه أن يرزقه ولدا صالحا، تقربه عينه حين يراه مؤمنا بربه، لا تختلف بينه وبينه السبل، كما اختلفت من قبل بينه وبين أبيه، هو. «فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ» واستجاب الله لإبراهيم دعاءه، وجاءته البشرى من الله سبحانه بهذا الولد الذي طلبه، وأنه «غلام حليم» .. رزين العقل، راجح الرأى، يستدل بعقله على مواقع الحق فى كل أمر يعرض.. وحسب المرء- كمالا، وصلاحا- أن يكون معه عقل سليم، وإدراك صحيح.. والحلم ضد الجهل.. قال الشاعر. أحلامنا تزن الجبال رزانة ... وتخالنا جنّا إذا ما نجهل والجهل من واردات العقل السقيم، والإدراك القاصر. هذا، ولم يرد فى القرآن الكريم أن وصف الله أحدا بالحلم غير إبراهيم، وهذا الولد الذي بشر به، وهو إسماعيل عليه السلام.. فقال تعالى: «إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ» (75: هود) وهذا يعنى أن هذا الغلام، هو على صورة أبيه إبراهيم، فى كمال عقله، وسلامة إدراكه. «فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى؟ قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1004 قيل إن إبراهيم- عليه السلام- حين تلقى هذه البشرى من ربه، رأى أن يكون شكره لله، على هذا الإحسان، وهذا اللطف، بالمبادرة بالاستجابة لما طلب- رأى أن يكون شكره لله أن يقدم هذا الولد قربانا لله.. وكانت تلك عادة أهل هذا الزمن، فى المبالغة فى التقرب إلى الله.. فلما رزق إبراهيم إسماعيل، وهو على نية التقرب به إلى ربه، متى بلغ مبلغ الرجال- رأى فى منامه وهو على تلك النية التي لم يحدد لها يوما معينا- رأى فى منامه أن يذبح هذا الابن، وكان قد بلغ معه السعى، أي صار قادرا على أن يعمل مع أبيه، وأن يسعى له فى بعض حاجاته.. فعرف إبراهيم من هذه الرؤيا أنها تذكير من الله سبحانه بالوفاء بما نذر، وأن يوم الوفاء قد جاء.. فكان هذا الحديث الذي جرى بين الأب وابنه.. «يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ.. فَانْظُرْ ماذا تَرى؟» إن الأمر أمر الله.. وإن لك فى هذا الأمر مثل الذي لى.. فإن رأيت أن تطيع أمر الله أطعت أنا أمر الله فيك، فما ذبحك بيدي بأقل ابتلاء لى من ابتلائك! فهل أنت مطيع لأمر الله؟ إن الأمر إليك فى هذا.. «فَانْظُرْ ماذا تَرى!» ؟ وماذا يرى الولد- وهو صورة من أبيه- إلا الامتثال لأمر الله، والطاعة المطلقة لحكمه فيه..؟ «قالَ: يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ. سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» إنه جواب المؤمن بالله، إيمانا لا يرى معه لنفسه حقّا إلى جانب ما لله فيه من حق.. إنه كلّه ملك لله، وللمالك أن يتصرف كما يشاء فيما ملك.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1005 قيل: إن قول إسماعيل حين قرن مشيئة لله بما سيكون عليه من صبر مضاف إلى صبر الصابرين- قد كان سببا فى أن وفّاه الله جزاء الصابرين كاملا، فنجاه من هذا البلاء، وفداه بالذبح العظيم، على حين أن موسى عليه السلام، إذ قرن مشيئة الله بما وعد به العبد الصالح من الصبر، وخص بهذا الصبر نفسه فقال: «سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً» - لم يعط الصبر الذي ينال به ما طلب من صاحبه، من علم، بل تفرقت بينهما سبل بعد ثلاث مراحل على هذا الطريق الذي سلكاه معا.. قوله تعالى: «فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» أسلما: أي استسلما لأمر الله، ورضيا حكمه فيهما. تلّه للجبين: أي طرحه على التلّ: والتلّ: المكان المرتفع، كهضبة أو نحوها.. والجبين. الجبهة.. والمعنى: أنه لما أن امتثل الولد ما دعاه إليه أبوه، وأسلما أمرهما إلى الله، وأسلم وجه ابنه للتلّ، أي وضع وجهه عليه، حتى لا يرى بعينيه عملية ذبحه، ناداه ربّه: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا- لما حدث كلّ هذا، قبلنا نذره، وتقبلنا قربانه، وجزيناه الجزاء الأوفى.. «إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» - أي فمثل هذا الجزاء العظيم نجزى أهل الإحسان.. فجواب «لمّا» فى قوله تعالى: «فَلَمَّا أَسْلَما» محذوف، دلّ عليه قوله تعالى «إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» .. وعلى هذا يكون قوله تعالى: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا» واقعا فى حيّز «لمّا» وهذا الذي ذهبنا إليه يخالف الرأى الذي عليه المفسرون، وهو أن جواب «لمّا» واقع تقديرا بعد «أسلما» .. ويكون قوله تعالى: «وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1006 كلام مستأنف، وما بعده معطوف عليه.. أو أن الجواب هو قوله تعالى: «وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا» وأن «الواو» زائدة!! قوله تعالى: «إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ» هو تعقيب على هذا الحدث العظيم، وعلى هذا الامتحان الذي امتحن الله به عبدين من عباده المؤمنين.. وفى هذا التعقيب تنويه من الله سبحانه وتعالى بهذين النبيين الكريمين، وبوثاقة إيمانهما، وأنهما كانا أهلا لهذا الامتحان العظيم.. قوله تعالى: «وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» الفداء: هو افتداء شىء بشىء، وإحلاله محلّه فى مقام البذل، والإحسان.. وفى هذا يقول النابغة الذبياني مهلا فداء لك الأقوام كلهم ... وما أثمّر من مال ومن ولد والذبح: ما يذبح من الحيوان.. ومن الجزاء الحسن الذي جازى الله به إبراهيم، أنه سبحانه تقبل قربانه إلى الله بولده، دون أن يصاب هذا الولد بسوء.. ثم ضاعف هذا الإحسان بعد أن تولى سبحانه فداء هذا الولد بهذا الذبح العظيم الذي قدمه لإبراهيم.. فإبراهيم أراد أن يقدم قربانا لله، فقدم الله سبحانه له قربانا من فضله وإحسانه. وهذا ما يشير إليه وصف الذبح بأنه عظيم.. لأنه مقدّم من عند الله الذي تقدم إليه القربات!! فما أعظم هذا الإحسان، وما أكرم هذا العطاء، الذي لا يستقلّ بحمده الوجود كله! الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1007 وليس الشأن فى هذا الذّبح، أكان كبشا نزل من الجنة، أو أخذ من الأرض.. وإنما الشأن فى أنه كان رمزا لرضا الله، وتبادله الإحسان مع خليله إبراهيم. قوله تعالى: «وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ» . ومن إحسان الله تعالى على خليله إبراهيم، أن جعل له ذكرا باقيا بعده إلى يوم الدين، وجعل فى ذريته النبوة والكتاب.. قوله تعالى: «سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ» .. هو سلام من الله عليه، وسلام من المؤمنين بالله، على من سلّم لله عليه.. وهذا من الذكر الحسن، الباقي على الزمن،. فعلى لسان كل مؤمن، ثناء وسلام على إبراهيم إلى يوم الدين.. قوله تعالى: «كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» . أي بمثل هذا الجزاء الحسن، وهو الذكر المتجدد بالثناء، نجزى المحسنين من عبادنا، فنبقى لهم فى الناس ذكرا طيبا، ونجعل فيهم الأسوة الحسنة لكل من يريد الإحسان.. قوله تعالى: «إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ» .. هو تعليل لهذا الإحسان العظيم الذي أفاضه سبحانه وتعالى على خليله، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1008 وأن الإيمان بالله، هو الذي سلك به هذا المسلك، ورفعه إلى هذا المقام.. وأن من أراد أن يكون فى عباد الله المحسنين، فليكن أولا من عباد الله المؤمنين.. فإنه لا إحسان إلا على أساس متين من الإيمان.. قوله تعالى: «وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» .. أي ومن الجزاء الحسن كذلك لإبراهيم أن بشره الله سبحانه بولد آخر إلى جانب هذا الولد، الذي أراد ذبحه وتقديمه قربانا لله.. قوله تعالى: «وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ» .. أي وجعلنا البركة مشتملة عليه وعلى إسحق، وذلك بتكثير نسلهما، وجعل النبوة والكتاب فى ذريتهما.. وفى قوله تعالى: «وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ» إشارة إلى أن هذه البركة- لا تنال ذريتهما جميعا.. بل ينالها من أراد الله سبحانه وتعالى به الخير والإحسان من ذريتهما.. فمن ذريتهما سيكون المؤمن المحسن، ومن ذريتهما سيكون الكافر الظالم.. وهذا ما يشير إليه وصف الظلم بأنه مبين.. إذ أنه لا ظلم أعظم من الكفر والشرك بالله، كما يقول سبحانه: «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» «13: لقمان» . وقد يسأل سائل: لماذا لم تكن هذه البركة عامة شاملة فى ذرية هذين النبيين المباركين، إلى يوم الدين؟ .. والجواب: أن ذلك- لو كان- لرفع التكليف عن كل من ولد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1009 لهذين النبيين، وعمن ولد لذريتهما، وذرية ذريتهما.. إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. وهذا ما لا يدخل على حكمة الله، فيما قضى به فى عباده من ابتلاء. ليميز الله الخبيث من الطيب. وهكذا خرج إبراهيم من هذا الابتلاء بهذا الفيض الغدق من فضل الله وإحسانه.. فأولا: حفظ الله سبحانه له ابنه، وعافاه من الذبح..: «يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا» .. وثانيا: قدم الله سبحانه له قربانا..: «وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ» .. وثالثا: أبقى الله سبحانه له ذكرا حسنا، فى المؤمنين إلى يوم الدين: «وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ» .. ورابعا: جعل الله سبحانه الدعاء له بالصلاة والسلام، قربانا يتقرب به المؤمنون إلى الله: «سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ» . وخامسا: وهب الله سبحانه وتعالى له ولدا آخر إلى هذا الولد الذي لم يكن له غيره: «وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» . وسادسا: بارك الله سبحانه على إبراهيم، وبارك على إسحق تكريما لأبيه وإحسانا إليه.. [من الذبيح؟ إسماعيل أم إسحق؟] وهنا أمر نحب أن نقف عنده، وهو: من الذبيح؟ إسماعيل.. أم إسحق؟ وهو أمر ما كان يجوز أن نثير حوله جدلا، إذ كان- فى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1010 رأينا- أوضح من أن يجادل فيه، وهو أن الذبيح- على يقين- هو إسماعيل عليه السلام. ولكن أصابع اليهود قد لعبت فى هذا النسج المحكم، ونسجت حوله خيوطا من الكذب والتضليل، كان لها تأثير فى تفكير بعض المسلمين، الذين لهم مقامهم فى المسلمين، ومكانتهم فى الإسلام، حتى لقد وقف بعضهم موقف الشكّ والتوقف.. وحتى لقد تجاوز بعضهم هذا، فرجّح القول بأن الذبيح هو «إسحاق» لا «إسماعيل» !!. ونحبّ أن ننبّه هنا إلى أننا لا نفاضل بين هذين النبيين الكريمين.. فكلاهما، فى مقامه العظيم عند الله، وفى مكانه المكين من قلوب المسلمين جميعا.. فالمسلمون جميعا يختمون كل صلاة بهذا الدعاء: «اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم» .. وإسماعيل وإسحاق- عليهما السلام- هما رأس آل إبراهيم، وفرعا شجرتها المباركة. وإنما الذي يدعونا إلى هذا، هو حمل الآيات القرآنية التي ورد فيها ذكر هذا الحديث، على غير ما ينطلق به مدلول ألفاظها، حتى تستجيب للقول الذي دسه اليهود على المسلمين، بأن إسحق هو الذبيح.. وهذا- فى رأينا- عدوان على القرآن الكريم، يبلغ حد التبديل، وتحريف الكلم عن مواضعه! وقبل أن ننظر فى آيات الله التي تحدث بهذا الحديث، يحسن أن نكشف عن وجه «اليهود» فى هذا المقام، وعن المدخل الذي دخلوا على المسلمين منه.. وقبل أن نواجه اليهود بهذه الفرية التي افتروها، بحسن كذلك أن نذكر ما لليهود من جرأة على الكتاب الذي فى أيديهم، وعلى العبث به، وإلقاء أهوائهم وضلالاتهم عليه، دون تحرج أو تأثم.. وفى هذا يقول الله سبحانه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1011 وتعالى فيهم: «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» (79: البقرة) ويقول سبحانه فيهم أيضا: «قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ، تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً» (91: الأنعام) فاليهود- كما وصفهم القرآن- قد بدلوا كثيرا وحرفوا كثيرا فى التوراة، ولم يحترموا كلمة الله، ولم يقفوا عند منطوقها أو مفهومها.. وقد كادوا للإسلام بهذا كثيرا، ورفعوا من التوراة كل ما كان فيها من دلائل وإشارات على بعثة النبي العربي، كما رفعوا منها كثيرا من الأحكام التي جاء الإسلام يدينهم بها كما جاءت فى شريعتهم.. ولم يقفوا عند هذا فى الكيد للإسلام.. بل راحوا يدسون على المسلمين أحاديث ينسبونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقيمون لها سندا ينتظم فى سلسلته عددا من الصحابة والتابعين، وتابعي التابعين، وخاصة من كثرت روايات الحديث عنهم كأبى هريرة وابن عباس- رضى الله عنهما- وغيرهما. وأكثر من هذا، فإن بعضا من اليهود دخل الإسلام، لا عن عقيدة، ولكن ليكيد له.. وقد كشف بعضهم عن ظاهر، انخدع به المسلمون، بما رأوا فيهم من مظاهر الاستقامة، والزهد، والغيرة على الدين، حتى اطمأنوا إليهم، وقبلوا كل ما يأتى من جهتهم.. وحسبنا أن نذكر هنا بولس «الرسول» الذي كان من أشد اليهود عداوة للمسيح- عليه السلام- وملاحقة له بالأذى، هو وأتباعه.. ثم رأى أن يكيد للمسيحية كيدا أبلغ من هذا، فدخل فى دين المسيحية، ثم ما لبث أن أخذ مكان القيادة فيها، وأصبح الداعية الأول بعد المسيح.. وبهذا أمكنه أن يحدث ما أحدث فى المسيحية من تثليث، لم يكن أحد من أتباع المسيح وحوارييه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1012 يعرف شيئا عنه.. حتى أن الأناجيل الأربعة المعتمدة الآن- على رغم ما حدث فيها من تحريف- لم تجىء فيها إشارة واحدة إلى ألوهية المسيح، وإلى جعله أحد الأقانيم الثلاثة: الأب والابن وروح القدس.. «1» نقول هذا لنقيم منه شاهدا على أن هذا النص الذي جاء فى التوراة عن أن إسحق هو الذبيح- هذا النص هو من مفتريات اليهود على الله، ومن تبديلهم لكلمات الله.. ومثل كل مجرم، فى أنه لا بد أن يترك على جريمته أثرا ينمّ عنه، وشاهدا يشهد عليه، مهما اجتهد فى أخذ الحذر والحيطة، ومهما بلغ من مكر وخبث ودهاء، فقد ترك اليهود على هذا النص الذي حرفوه، ما يشير بأكثر من إصبع، وينطق بأكثر من فم، بأنهم كاذبون مفترون! تقول التوراة التي فى أيدى اليهود (فى الإصحاح الثاني والعشرين من سفر التكوين) : «وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم. فقال له: «يا إبراهيم، فقال هأنذا.. فقال: خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحق، واذهب إلى أرض المريّا وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال التي أقول لك..» والتلفيق واضح فى هذا النص، لا يحتاج الكشف عن زيفه إلى اجتهاد، إذ يكاد يكون الحكم على زيفه نصّا منطوقا.. وإنه لا اجتهاد مع النص.. فإذا كان إسحق هو الابن الوحيد لإبراهيم، فلا داعى لأن يحدّده الله له بالاسم، فيقول له: ابنك وحيدك الذي تحبه إسحق.. وكان يكفى أن يقال له: ابنك، أو وحيدك، أو إسحق.. ومن جهة أخرى، فإن التوراة تذكر أنه قد ولد لإبراهيم ابن من زوجه هاجر، اسمه إسماعيل، وأنه ولد قبل إسحق بأربعة عشر عاما.. فكيف   (1) وقد عرضنا لهذه القضية فى دراسة مفصلة فى كتابنا (المسيح فى القرآن والتوراة والإنجيل) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1013 يكون إسحق الابن الوحيد لإبراهيم؟ وهل إسماعيل ليس ابنا لإبراهيم حتى يكون إسحق هو الابن الوحيد له؟ ولو قالت التوراة هذا لما كان هناك تضارب فى أقوالها.. ولكن التوراة تقول عن إسماعيل إنه ابن إبراهيم.. تقول التوراة: «فولدت هاجر لأبرام (إبراهيم) ابنا، ودعا أبرام اسم ابنه الذي ولدته هاجر إسماعيل» (الإصحاح السادس عشر من سفر التكوين) . وإذا كنا نعذر اليهود فى هذا التقوّل على الله، إذ كان ذلك طبيعة فيهم وشأنا غالبا عليهم، وإذ كانوا إنما يبغون بهذا مصلحة خاصة لهم، وكيدا للإسلام، وتلبيسا على المسلمين.. وإذا كنا نعذر العلماء والدارسين من غير المسلمين، أن يأخذوا بما فى التوراة، مما يخالف القرآن الكريم، وأن يرجحوا نصوصها على نصوص القرآن- فإننا لا نجد وجها للعذر فيما كان من بعض المسلمين- وفيهم العلماء الأعلام- من التوقف فى نصوص القرآن، إزاء هذا النصّ الذي جاءت به التوراة، أو الأخذ به، وإقامة تأويل الآيات القرآنية عليه.. إن ذلك- كما قلنا- يكاد يكون تبديلا لآيات الله، وتحريفا للكلم عن مواضعه.. ومن عجب أن نجد عالما فقيها مفسّرا كالإمام ابن جرير الطبري، يرجّح القول بأن إسحق هو الذبيح.. ومن عجب أيضا أن نجد عالما جليلا، كابن عياض، يذهب إلى هذا المذهب ويقول به، فى كتابه: «الشفا فى التعريف بحقوق المصطفى» .. ومن عجب- ولا عجب- أن نرى رجلا كالجاحظ يجعل هذه المقولة من المسلّمات عنده، فيتحدث فى كتابه البيان والتبيين، عن إسحق، ويضيف إليه تلك الصفة، وهى أنه الذبيح.. وأكثر من هذا، فإن هناك أحاديث كثيرة تنسب إلى أصحاب رسول الله كابن عباس، وابن مسعود وأبى هريرة وغيرهم، وفيها أن إسحق هو الذبيح.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1014 وفى تفسير ابن كثير مقولات كثيرة فى هذا المقام، تضاف إلى صحابة رسول الله، لتقع من النفوس موقع القبول والتسليم.. وقد فضحها ابن كثير رضى الله عنه، وكشف عن المصدر الذي جاءت منه.. يقول ابن كثير: «وهذه الأقوال- والله أعلم- كلها مأخوذة عن «كعب الأحبار» فإنه لما أسلم فى الدولة العمريّة، جعل يحدث عمر رضى الله عنه، عن كتبه قديما، فربما استمع له عمر، فترخص الناس فى استماع ما عنده، ونقلوا ما عنده عنه، غثها وسمينها، وليس لهذه الأمة- والله أعلم- حاجة إلى حرف واحد مما عنده» . ولا نجد حجة أبلغ ولا أقوى من تلك الحجج الدامغة التي قدمها الإمام ابن تيمية- نضر الله وجهه- فى دفع تلك الفرية، وفضح هذه الدسيسة التي دسها اليهود على هذه الحادثة.. ولا يستمدّ ابن تيمية حججه من نصوص الكتاب الكريم وحده، إذ أن الذين لا يدينون بالإسلام، لا يأخذون أنفسهم بنصوص كتابه، ولهذا يعمد ابن تيمية إلى الواقع التأريخي لإبراهيم وذريته، وللظروف التي عاش فيها مع زوجيه- سارة وهاجر- ومع ولديه- إسماعيل وإسحق.. ويقيم على ذلك شواهد من التوراة نفسها، ثم يعمد إلى هذا النصّ الذي تصرح فيه التوراة بأن إسحق هو الذبيح فيكشف عن زيفه وباطله.. يقول ابن تيمية رحمه الله. «وهذا القول- أي القول بأن إسحق هو الذبيح- متلقّى من أهل الكتاب (يعنى اليهود) مع أنه باطل بنصّ كتابهم: فإن فيه: «إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه، بكره» ولا يشكّ أهل الكتاب مع المسلمين أن «إسماعيل» هو بكر أولاده. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1015 «والذي غرّ أصحاب هذا القول- أي القول بان الذبيح هو إسحق- أن فى التوراة التي بأيديهم: «ادع ابنك إسحاق» .. وهذه زيادة من تحريفهم وكذبهم، لأنها تناقض قوله: «ادع ابنك ووحيدك» . «ولكن اليهود حسدت بنى إسماعيل على هذا الشرف، وأحبّوا أن يكون لهم، وأن يسوقوه إليهم، ويختاروه لأنفسهم دون العرب، وأبى الله أن يجعل هذا إلّا لأهله.. ثم يمضى ابن تيمية فيقول: «وكيف يسوغ أن يقال: إن الذبيح إسحق، والله تعالى، قد بشّر أم إسحق به، وبابنه يعقوب.. فقال تعالى عن الملائكة، إنهم قالوا لإبراهيم لما أتوه بالبشرى: «لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ» (70- 71: هود) فمحال أن يبشرها الله بأن يكون لها ولد، ثم يأمر بذبحه؟ .. ولا ريب أن يعقوب عليه السلام- داخل فى البشارة، فتتناول البشارة إسحق، ويعقوب فى لفظ واحد، وهذا ظاهر الكلام وسياقه..» ؟ يريد ابن تيمية أن يقول هنا، إن البشرى التي تلقتها سارة فى مواجهة إبراهيم، كانت بأن يولد لها ولد، هو إسحق، وأن يولد لإسحق ولد هو يعقوب.. وهذا يقطع بأن إسحق لن يموت حتى يولد له يعقوب.. وهذا يقطع أيضا بألا يكون إسحق هو القربان الذي يتقرب به إبراهيم إلى ربّه.. إذ لا بد- بحكم هذه البشرى- أن يعيش حتى يبلغ مبلغ الرجال، ويتزوج، ويولد له.. فى حين أن الذي يذبح- عادة- يكون غلاما حدثا.. وهذا ما كان فى شأن الولد الذي قدمه إبراهيم للذبح، كما يقول الله تعالى: «فَلَمَّا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1016 بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ» .. وهذا يكون فى سن لا تتجاوز العاشرة.. ثم يقول ابن تيمية: «ويقال أيضا: إن الله سبحانه لمّا ذكر قصة إبراهيم وابنه الذبيح فى سورة الصافات قال: «فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ، وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ..» ثم قال تعالى: «وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» .. فهذه بشارة من الله تعالى، له، شكرا على صبره على ما أمر به.. وهذا ظاهر جدا فى أن المبشر به غير الأول، بل هو كالنصّ فيه.. «فإن قيل: فالبشارة الثانية وقعت على نبوته.. لمّا صبر الأب على ما أمر به وأسلم الولد لأمر ربه، جازاه الله على ذلك بأن أعطاه النبوّة- قيل: البشارة وقعت على المجموع، على ذاته ووجوده، وأن يكون نبيا، ولهذا نصب «نبيا» على الحال المقدر، أي مقدرا نبوّته، فلا يمكن إخراج البشارة من أن تقع على الأصل، ثم تخصّ بالحال الجارية مجرى الفضيلة.. هذا محال من الكلام.. بل إذا وقعت البشارة على نبوته، فوقوعها على وجوده أولى وأحرى..» . ثم يمضى ابن تيمية فيقول: «وأيضا فإن الله سبحانه وتعالى، سمّى الذبيح حليما.. يشير إلى قوله تعالى: «فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ» لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح، طاعة لربه.. ولما ذكر إسحق سماه «عليما» .. فقال تعالى: «وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» (28: الذاريات) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1017 «وأيضا.. فإنهما.. أي إبراهيم وسارة.. بشرا به (يعنى إسحق) على الكبر، واليأس من الولد وهذا بخلاف إسماعيل، فإنه ولد قبل ذلك (كما تصرح بذلك التوراة) .. هذا بعض ما ساقه ابن تيمية من أدلة على أن إسماعيل هو الذبيح.. وإذا كان لنا أن نضيف إلى هذا شيئا، وهو مستغن بذاته عن كل إضافة.. فإنا نقول: أولا: إن الله سبحانه ذكر عن إسماعيل قوله: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ، وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا» (54: مريم) . وصدق الوعد، هو صفة كاشفة لما كان من إمضاء إسماعيل ما وعد به أباه فى قوله: «يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ.. سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» وقد وجده كما وعد، لم تختلج فيه خالجة تردّد، أو رجوع عن هذا الوعد. بل مضى به إلى غابتة صابرا، مستسلما لأمر الله، منقادا ليد أبيه، حتى أضجعه مضجع الذّبح، وبدأ يجرى السكّين على رقبته! وقد تكرر فى القرآن وصف إسماعيل بالصير، وجمعه مع الكرام الصابرين من رسل الله، فقال تعالى: «وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ» (82- 85: الأنبياء) هذا، على حين لم يجر القرآن ذكرا خاصا لإسحق، وإنما كان دائما فى سباق الحديث عن ذريّة أبيه من الأنبياء.. فاختصاص إسماعيل بهذا الذكر المنفرد، ووصفه بتلك الصفة التي هى من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1018 ألزم الصفات لمن يدخل فى هذا الامتحان، ويخرج منه سليما معافى- يقطع بأنه الذبيح. وثانيا: إسماعيل- عليه السلام- كان بكر إبراهيم، يشهد بذلك التاريخ، وتحدث به التوراة.. والعادة التي كانت جارية فى التضحية بالأبناء، وتقديمهم قربانا لله- هى أن يكون الولد البكر، هو القربان الذي يتقرب به إلى الله.. ولهذا أضاف اليهود بأيديهم الآثمة وصف «البكر» إلى إسحق مع أنه لم يكن بكرا، وذلك ليسوّدوا وجه الباطل بهذه الفعلة البلهاء، التي كشفت عن زيفهم، إذ ما كان لهم أن يقولوا: إن إسحق هو الذبيح، حتى يكون بكر أبيه، وتلك هى عادتهم التي جروا عليها فى التضحية بالأبناء، كما تحدث بذلك التوراة فى مواضع كثيرة منها.. حيث كان الولد البكر هو المتخير للتضحية، والمنذور للقربان، كما كان الولد البكر، هو الوارث لكل ما كان لأبيه.. وثالثا: أن إسماعيل، كان دعوة مستجابة من الله سبحانه لأبيه إبراهيم، إذ قال: «رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ» فكان أن بشره الله سبحانه بقوله «فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ» . أما إسحق، فقد كان بشرى غير منتظرة، بشر الله بها امرأة إبراهيم، على يأس من أن يكون لها ولد، إذ يقول الله تعالى: «وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً» (71- 72: هود) . وهذا يعنى أنه لو أراد إبراهيم أن يقدم ابنا من أبنائه قربانا لله، لكان الحقّ يقتضيه أن يقدم الولد الذي طلبه، واستجاب الله له فيه، لا أن يقدم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1019 الابن الذي وهب الله إياه امرأته.. إن ذلك مما يدخل الضيم على هذه الهبة العظيمة من الله، الواهب المنان. ولا يعترض على هذا، بأن القرآن الكريم قد ذكر أن الله سبحانه بشر إبراهيم بإسحاق فى قوله تعالى: «وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ» .. فإنه إذ كانت البشرى لامرأته بالولد، فإنها فى الوقت نفسه بشرى له.. وخصّت هى بالبشرى، إذ كانت ولا ولد لها، على حين كان لإبراهيم ولد من امرأته «هاجر» وهو إسماعيل.. الآيات: (114- 132) [سورة الصافات (37) : الآيات 114 الى 132] وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1020 التفسير: قوله تعالى: «وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ» . هو استئناف لقصة أخرى من قصص أنبياء الله، وما أفاض عليهم الله سبحانه وتعالى، من جزيل عطاياه، وسابغ أفضاله.. وقد ذكرت الآيات السابقة قصة نوح وإبراهيم.. وهنا فى هذه الآيات تذكر قصة موسى وهرون، ثم قصة إلياس، كما سنرى.. والمنّ: فى الأصل تذكير المحسن للمحسن إليه بالإحسان، فى شىء من الاستعلاء، الذي يجرح العواطف ويؤذى الشعور. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (17: الحجرات) . ومنّ الله سبحانه وتعالى على عباده بتذكيرهم بنعمه وإحسانه إليهم- ليس فيه شىء مما يكون بين الناس والناس من منّ.. بل هو الشرف الذي لا ينال، والعزة التي لا تطاول، أن يكون الإنسان بموضع الإحسان من ربه.. إنه إحسان من مالك الإحسان، وفضل من رب الفضل، وجود من صاحب الجود.. فمن أصابه شىء من عطاء ربه وإحسانه، فهو تاج شرف يزين به جبينه، وثوب فخار وعزة يمشى به فى الناس.. فمن يستحى أن يمد يده إلى الله سائلا متضرعا؟ ومن يجد فى صدره حرجا- من أمير أو صغير- أن يسأل رب الأرباب، وسيد الملوك والأمراء؟ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1021 روى أن لبيدا الشاعر، تلقّى من أحد الأمراء عطاء جزلا، وكان قد حرّم على نفسه أن يقول شعرا بعد أن أسلم، فقال لابنته- وكانت شاعرة- أجيبى عنى الأمير، فمدحته بقصيدة ختمتها بقولها: فعد إنّ الكريم له معاد ... وظنى بابن أروى أن يعودا فقال لها أبوها أحسنت يا بنية، لولا أنك سألت!! فقالت: إن الملوك لا يستحى من مسألتهم! فقال لها أبوها، وأنت فى هذا أشعر!! فالمنّ إنما يستقبح حين يكون بين الأنداد، أو المتقاربين منزلة.. أما حين يكون المنّ من عظيم لصغير، فهو تنويه به، وهو مدح له، وهو ثناء، عليه.. فقوله تعالى: «وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ» - هو تنويه بشأنهما، ورفع لقدرهما عند الله، وأنهما أهل لفضله وإحسانه.. قوله تعالى: «وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ» . الكرب العظيم: هو ما كان فيه بنو إسرائيل من محنة قاسية تحت يد فرعون، كما يقول سبحانه: «وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ» (30- 31: الدخان) . فهذا من منن الله سبحانه وتعالى على عبديه، موسى وهرون، وعلى قومهما، إذ نجاهما من هذا البلاء المبين، الذي كانوا فيه تحت يد فرعون. قوله تعالى: «وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ» .. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1022 والنصر والغلب، هو ما كان من نجاة بنى إسرائيل، وغرق فرعون.. إذ كانت هناك معركة قائمة فعلا بين الفريقين.. حيث كان موسى وبنو إسرائيل جادين فى الهرب، وكان فرعون من ورائهما بجنوده يريد اللحاق بهم.. ولو لحق بهم لأهلكهم جميعا. قوله تعالى: «وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ» . المستبين: أي الواضح البين.. وهو التوراة.. وقد نسب الكتاب إلى موسى وهرون، مع أن الكتاب كتاب موسى، لأن هرون كان يبشر فى قومه بهذا الكتاب، وإن لم يكن تلقاه من ربه.! فهو شريك فى الرسالة، وشريك فى الكتاب بهذا الاعتبار!. قوله تعالى: «وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ» . هذه الآيات، تعدد النعم التي أنعم الله بها على هذين النبيين الكريمين. وهذا هو جزاء المحسنين من عباد الله.. وقد شرحنا فى آيات سابقة المعاني التي ضمت عليها هذه الآيات.. قوله تعالى: «وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ؟ أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» . اختلفت أقوال المفسرين فى إلياس عليه السلام الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1023 والذي لا شك فيه هو أن «إلياس» عليه السلام كان معروفا عند العرب، فيما يحدثهم به اليهود عن أنبيائهم.. وإلياس، هو المذكور فى التوراة باسم إيليا بن متى.. وهو من أنبياء بنى إسرائيل، الذين سبقوا زكريا ويحيى عليهما السلام.. وقد كان اليهود، لجفاء طبعهم، وبلادة حسهم، وكلب أنانيتهم- ينظرون إلى الله نظرا قاصرا محدودا، فيرونه إله إسرائيل، لا إله العالمين، ومن ثمّ جعلوه قائد جيوشهم، وسموه «رب الجنود» ثم تمادوا فى هذا التصور الخاطئ لجلال الله وعظمته، فتصوروه رجلا شديد البأس، مثل فرعون الذي كانوا يرون فيه أقصى ما يمكن أن يتصوروا من قوة، حتى لقد امتلأت التوراة بالحديث عن الله، بأنه «رجل حرب» . وحتى إنهم ليتحدثون إليه على لسان أنبيائهم كحديثهم مع واحد منهم.. فكانت دعوة إلياس- عليه السلام- إلى اليهود، هى أن يصححوا هذا الفهم القاصر الجهول، لله، وأن يقيموا وجوههم إليه على أنه ربّ العالمين! فقوله: «أَتَدْعُونَ بَعْلًا؟» إنكار عليهم أن يدعوا الله بعلا.. والبعل هو الرجل، كما فى قوله تعالى: «أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً؟ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ» (72: هود) . وقوله: «وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» ؟ أي أتدعون الله رجلا، وتلبسونه صفات الرجال، وتتركون دعوته بالصفات اللائقة به، وهو أحسن الخالقين، ورب العالمين؟. قوله تعالى: «فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1024 أي أنّهم إذ لم يأخذوا بنصحه، ولم يقبلوا ما دعاهم إليه من تصحيح معتقدهم فى الله- «فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ» أي فهم لهذا سيساقون إلى الحساب والجزاء بين يدى الله يوم القيامة، وسيجزون جزاء المكذبين الضالين.. «إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ» ويستثنى من هذا الجزاء عباد الله الذين أخلصوا دينهم لله، ولم يلبسوا إيمانهم بالضلالات والأباطيل.. قوله تعالى: «وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ» . مضى تفسير أمثال هذه الآيات. والياسين: هو إلياس الذي جاء ذكره فى قوله تعالى: «وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ» . الآيات: (133- 148) [سورة الصافات (37) : الآيات 133 الى 148] وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1025 التفسير: قوله تعالى: «وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ» الظرف «إذ» هو قيد لنجاة لوط وأهله بسبب أنه كان من المرسلين، الذين اختارهم الله لحمل الله رسالته إلى عباده، فدخل بهذا فى الحكم الذي تضمنه قوله تعالى: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ» (51: غافر) . وقوله تعالى: «إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ» - إشارة إلى امرأة لوط، التي كانت من الضالين، الذين لم يستجيبوا لدعوته، فأهلكها الله فيمن أهلك من قوم لوط، وقد ضربها الله سبحانه وتعالى مثلا لنبتة السوء تنبت فى الأرض الطيّبة، فقال تعالى فيها وفى امرأة نوح: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ» (10: التحريم) . والعابرون: هم من عبروا، وهلكوا، وعلتهم غيرة التراب. وقوله تعالى: «ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ» - إشارة إلى قوم لوط الذين أهلكهم الله، بعد أن نجّى لوطا وأهله، إلا امرأته، التي هلكت مع الهالكين الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1026 قوله تعالى: «وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ» . الخطاب للمشركين من قريش، وأنهم يمرون على أطلال هؤلاء القوم الهالكين، ويرون ما حل بهم من غضب الله ونقمته.. يرون ذلك فى وضح النهار، ويرونه بالليل، وذلك فى طريق تجاراتهم إلى الشام.. وفى قيد المرور بالصباح وبالليل، إشارة إلى أن آثار القوم الهالكين قائمة فى مكانها، يراها كل من يمر بها فى أي وقت.. إنها فى معرض النظر دائما.. وفى هذا تهديد لهؤلاء المشركين، أن يفعل الله بهم ما فعل بإخوان لهم من قبل، خالفوا رسولهم، وكذبوه، وتهددوه بالأذى.. فلو أنه كان لهؤلاء المشركين عقول، لكان لهم فى مصارع الظالمين عبرة ومزدجر! قوله تعالى: «وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ» . يونس- عليه السلام- هو نبى من أنبياء الله، ورسول من رسله إلى قرية من قرى الشام، اسمها «نينوى» . وهو إذ أبق إلى الفلك المشحون، كان من المرسلين، أي لم تنزع عنه صفة الرسالة. وأبق: أي هرب، وهروبه كان من الرسالة التي حملها إلى قومه، حيث لم يصبر طويلا على أذاهم، فسمى آبقا، أي هاربا، كما يأبق العبد من سيده. وسيد يونس، هو الله سبحانه وتعالى.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1027 والفلك المشحون: أي الممتلئ بالناس والأمتعة.. وقوله تعالى: «فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ» . ساهم: أي اقترع، وأخذ سهما.. والمدحضين: المغلوبين، الساقطين، الذين خاب سهمهم.. ومنه حجة داحضة: أي ساقطة، غير مقبولة.. وأرض دحض: أي زلق، لا يثبت من يمشى عليها.. أي أن يونس، حين فر من قومه، وزايل المكان الذي يجب أن يكون فيه، ليؤدى رسالة ربه- ركب مركبا مشحونا، ثم حين سارت السفينة واحتواها البحر، ماجت واضطربت، وكادت تغرق.. وكان من تدبير ركاب السفينة أن يتخففوا من أمتعتهم، فألقوها فى اليم، ثم لمّا لم يجد ذلك شيئا، رأوا أن يلقوا ببعض ركابها فى الماء، حتى يسلم الباقون من الغرق، ثم إنه لكى يكونوا جميعا على سواء فى هذا الأمر، اقترعوا على من يخرج من السفينة منهم، فأصابت القرعة- فيمن أصابت- «يونس» .. «فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ» .. قوله تعالى: «فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ» . أي حين وقعت القرعة على يونس، وألقى به فى الماء- التقمه الحوت..!! وفى تعريف «الحوت» - إشارة إلى أنه حوت مرصود لهذه الغاية، وأنه مسوق بقدرة الله إلى تلك المهمة، وهى ابتلاع يونس!. وقوله تعالى: «وَهُوَ مُلِيمٌ» جملة حالية، أي ابتلعه الحوت، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1028 وهو ملوم على ما كان منه من فرار من قومه.. و «مليم» اسم فاعل من الفعل ألام، أي أتى ما يستحق اللوم عليه.. قوله تعالى: «فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» . أي لولا أن يونس حين التقمه الحوت، ذكر ربه، واستغفر لذنبه، كما يقول الله سبحانه وتعالى على لسانه: «فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» - لولا هذا، لما خرج من بطن الحوت، ولما عاد إلى الحياة إلى يوم البعث.. ولبثه فى بطن الحوت إلى يوم البعث، أي موته فى بطنه، ثم قبره فيه.. إلى أن يموت الحوت، فإذا مات الحوت، كان البحر قبرهما معا.. والسؤال هنا هو: ماذا لو لم يكن يونس من المسبحين؟ أكان يلبث فى بطن الحوت إلى يوم البعث؟. والجواب بلا تردد: نعم، فقد قرن الله سبحانه الأسباب بالمسببات، وجعل المسببات رهنا بأسبابها.. وحيث أن الله سبحانه وتعالى، قد جعل نجاة يونس قدرا من قدره، وحيث أنه سبحانه، قد جعل نفاذ هذا القدر متعلقا بوقوع التسبيح من يونس- فإنه كان من الحتم المقضىّ، أن يسبّح يونس حين التقمه الحوت، وأن ينجو بسبب هذا التسبيح. فتسبيح يونس قدر من قدر الله.. تماما، كنجاته من بطن الحوت.. وعلى هذا فإنا إذا أعدنا السؤال بصورة أخرى، وهو: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1029 أما وقد نجا يونس من الموت فى بطن الحوت.. فهل لو لم يسبح أكان ينجو؟ .. والجواب هنا هو: إنّ فرض عدم التسبيح أمر مستحيل، ما دامت النجاة قد تمت، وما دامت النجاة مشروطة بالتسبيح.. وفى الأصول الفقهية: أن ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب!. وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: ما أدوية نتداوى بها.. أتردّ من قدر الله شيئا؟. فقال- صلوات الله وسلامه عليه-: «هى من قدر الله..» ! فالقدر ليس حكما مستقلا بذاته، منعزلا عن أحداث الوجود.. بل إن كل قدر هو مقدور لأقدار سابقة، كما أنه- وهو مقدور- هو قدر لأقدار لاحقة.. قوله تعالى: «فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ» . نبذناه. أي طرحناه، ونبذ الشيء: لفظه وطرحه.. والعراء: الخلاء.. واليقطين: اختلف فيه.. أهو الدّباء، أي القرع، أم الطّلح، وهو الموز..؟ وفى قوله تعالى: «فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ» - إشارة إلى أن يونس عليه السلام، ما يزال واقعا تحت اللائمة من ربه سبحانه وتعالى، وأنه لم ينل الرضا بعد، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1030 وإن كان فى الطريق إلى هذه الغاية، بما أخذ به من تربية وتأديب من ربّه! .. فلقد نبذه الله سبحانه بالعراء، ولو شاء سبحانه، لكساه سندسا وحريرا.. ولكن هكذا كانت إرادة الله فيه، أن يخرجه من الدنيا عاريا، كما خرج من قومه هاربا.. ولقد أظلّه- سبحانه- بشجرة من تلك الأشجار التي تنبسط أوراقها على سطح الأرض، فيضطر المستظل بها إلى أن يضع خذه على الأرض!. وهذا كلّه أدب سماوى لعبد من عباد الله المكرمين.. وهو أدب فيه معاناة ذاتية، وتعمل لها أجهزة الإنسان كلها، من جسمية وعقلية، وروحية.. ولو شاء سبحانه- لما أدخل عبده يونس فى هذه التجربة، ولكنه- سبحانه- قضت إرادته- جلّ وعلا- أن يقوم كل كائن بما أودع فيه من قوّى.. ففى ذلك تحقيق لذاته، وإثبات لوجوده.. والإنسان من بين الكائنات كلها، النصيب الأوفى فى هذا المجال، فذلك من مقتضى الأمانة التي حملها الإنسان، والتي أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها!. قوله تعالى: «وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ» .. وهذا الإرسال، هو بعد تلك التجربة، فهو إرسال متجدد، بعد أن ليس يونس عزما جديدا، ومشاعر جديدة.. وكأنه بهذا يبدأ الرسالة من جديد!. وقوله تعالى: «إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ» - هو التحديد الحق، الذي يضبط أعداد تلك الجماعة.. فهى ليست مائة ألف، بل إنها نزيد على مائة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1031 ألف، أما هذه الزيادة على مائة الألف، فلا يمكن ضبطها إلا للحظة لا تتجاوز غمضة عين، إذ كانت مواليد هذه الجماعة مستمرة، ونموها مستمرا فى كل لحظة، وإن أي قول يضبط به عددها ضبطا كاملا، لا يمكن أن يقع موقع الصدق الذي يمثل الواقع، حيث أنه ما يكاد المحصى الذي يحصى هذه الأعداد- ما يكاد ينطق بما أحصى، حتى تكون الحياة قد ألقت إلى هذه الأعداد بأعداد.. فإذا قال إنها مائة ألف ومائتان وعشرون مثلا، تغير هذا العدد بمجرد تلفظه به، فزاد واحدا أو اثنين.. أو عشرة، أو أكثر.. والذي يلفت النظر أيضا من هذا التعبير القرآنى، هو لفظ «يزيدون» .. فهذا اللفظ لا يتغير أبدا، وحكمه ملازم لهذه الجماعة ما دامت على الحياة، فهى فى زيادة، وليست فى نقص، إذا أن هذا هو شأن الكائنات الحية.. إنها فى زيادة.. حيث أن مواليدها أكثر من أمواتها.. قوله تعالى: «فَآمَنُوا.. فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ» . وفى العطف بالفاء، دليل على سرعة استجابة القوم لرسولهم.. وهذا ما يكشف عن أنهم كانوا على استعداد للإيمان، وإن توقفوا شيئا ما، عند دعوة يونس لهم أول الأمر.. ولو أنه صبر قليلا على خلافهم له، لآمنوا.. وهذا التلبث والانتظار فى عدم قبول الدعوة، هو حق لهم، إذ أن من حق الإنسان أن يلقى الأمور بعقله، وأن يأخذ الوقت الكافي للنظر والبحث، حتى يعرف ما هو مدعو إليه، وهل هو حق أو باطل؟. وفى هذه القصة، إشارة إلى أن الإنسان- من حيث هو إنسان- الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1032 ليس شرّا خالصا، وأنه يشتمل على قدر كبير من الخير، وأنه كما فى الناس الأشرار الذين يغلب شرّهم خيرهم، ويغتال ما فيهم من فطرة، فإن فى الناس من يغلب خيرهم شرّهم، وأنهم مستعدون لتلقّى الخير.. وفى هذا إشارة أيضا إلى أنه ليس كلّ النّاس على شاكلة هؤلاء المشركين من قريش، الذين جمدت عقولهم على هذا الضلال الذي أمسك بها.. ثم إن فى هذا إشارة ثالثة إلى أنه ليس للرسول أن تقوم له الحجة على قومه، إلا بعد أن يبلغ رسالته إليهم كاملة، وأن يحتمل فى سبيلها كلّ جهد، وأن يبذل لها كل قدرة ممكنة لديه، وإلا كان فى موضع اللوم والعتب، كما أن المرسل إليهم يكونون تحت طائلة اللوم والعقاب، لو أنهم دعوا وأبوا أن يستجيبوا.. وهكذا يسوّى حساب الناس عند الله. كلّ يأخذ حقّه كاملا، يستوى فى هذا الحساب، الرسل ومن أرسلوا إليهم.. إنهم جميعا عباد الله.. وإنه لا محاباة ولا مجاملة. ولا شك أن هذه اللّفتة السماوية إلى الإنسان- من حيث هو إنسان- جديرة بأن تفتح عيونا أعماها الضّلال، إلى ما لله سبحانه على الإنسان من فضل وإحسان، وأنه لن تخفّ موازينه عند الله- حتى مع أنبيائه وسفرائه إلى خلقه- إلا إذا استخفّ الإنسان بميزانه، واستهان بوجوده، وقبل أن ينزل راضيا، عن هذا المقام الكريم الذي أحلّه الله فيه، فزهد فى عقله، وأبى أن يوجهه ليرتاد له مواقع الخير. فهل وقف المشركون من قريش، وغير قريش، عند هذا؟ وهل أخذوا بحقّهم الإنسانى فى هذا الوجود؟ وهل هم مستعدّون لأن يثبتوا أنهم أهل لهذا المقام الكريم، الذي سوّى الله سبحانه وتعالى فيه بين عباد الله، وبين رسل الله، فى موقف الحساب والمساءلة؟ ذلك ما يكشف عنه الزمن منهم، وذلك ما ينجلى عنه الموقف بينهم وبين هذا الرسول الكريم الذي لا يزال معهم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1033 الآيات: (149- 170) [سورة الصافات (37) : الآيات 149 الى 170] فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) التفسير: قوله تعالى: «فَاسْتَفْتِهِمْ.. أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ؟» . مناسبة هذه الآية والآيات التي بعدها، للآيات التي قبلها، والتي عرضت قصّة يونس مع قومه- أنها دعوة، مجدّدة إلى هؤلاء المشركين، ومقابلة- ربما تكون أخيرة- بين هؤلاء المشركين وبين رسول الله إليهم، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1034 إنها أشبه بذلك اللقاء الجديد الذي كان بين يونس وقومه.. وقد آمن قوم يونس.. فهل يؤمن هؤلاء المشركون، بعد هذا اللقاء الجديد بينهم وبين رسول الله؟ وفى هذا اللقاء بين رسول الله وبين المشركين، يدعوهم الرسول إلى أن يستحضروا عقولهم، وإلى أن يفتوه فيما يستفتيهم فيه.. إنهم هنا فى مقام الفتيا، ذلك المقام الذي لا يقوم فيه إلا أصحاب العلم والعقل، وإلا أهل الرأى والفهم. فهل هم أهل لهذا؟ وهل هم مستعدّون لأن يفتوا فيما يستفتون فيه؟ وإن الذي يستفتون فيه ليس إلّا بديهة من بدهيّات العقل عند العقلاء.. فهل يخطئون وجه الصواب فى هذه البديهيّات؟ - «أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ؟» . هذه هى القضية التي يطلب إليهم الرأى فيها: - إذا كان هناك فى المخلوقات بنات وبنون.. ثم كانت هناك قسمة بينهم وبين الله.. فأىّ تكون له البنات، وأىّ يكون له البنون؟ لا شكّ أن البنات عندهم أنزل درجة من البنين.. فهل يقضى العقل- عندهم- أن يكون لله البنات، ويكون لهم البنون؟ أهذه قسمة عادلة؟ أيكون للإله الخالق دون ما لهم؟ إن ذلك جور فى الحكومة، وخرق فى الرأى، وضلال فى الفتيا.. ولهذا نقض الله عليهم رأيهم هذا، وردّ قسمتهم تلك الجائرة.. فقال تعالى: «أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى» (21، 22: النجم) . قوله تعالى: «أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ» ؟. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1035 إنهم كانوا يقولون عن الملائكة: إنهم بنات الله.. وقد جعلوهم إناثا.. وهذا الحكم على الله بأنه لا يلد إلا البنات- تعالى الله عن أن يلد أو يولد- فيه عدوان عظيم على الله.. فهو فوق أنه عدوان بنسبة الولد إلى الله تعالى هو عدوان آخر بجعل هذا الولد من صنف الإناث لا الذكور.. فلو أنه كان لله أن يتخذ ولدا، أفيتخذه أنثى؟ إنهم لا يرضون أن تولد لهم البنات. فإذا ولدت لهم بنت- ضاقوا بها، بل خجلوا أن يظهروا فى الناس ولهم بنات ينتسبن إليهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ» (58- 59: النحل) . وقوله تعالى: «وَهُمْ شاهِدُونَ» جملة حالية، ينكر بها عليهم أنهم لم يشهدوا خلق هؤلاء الملائكة، ولم يشاركوا فيه، حتى يكون لهم قول فى هذا الأمر.. إنهم يحكمون بلا علم، ويقضون بغير حجة.. قوله تعالى: «أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ ما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟» . فى هذه الآيات عرض لمقولتهم فى تلك الفتيا التي استفتوا فيها. وتسفيه لهذا القول الأحمق الجهول الذي قالوه.. إنهم يقولون.. إفكا وبهتانا «وَلَدَ اللَّهُ» أي أن الله يلد ولدا.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1036 وهذا إفك وضلال، سواء كان هذا الولد ذكرا أم أنثى.. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.. «وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» . ثم إنهم ليقولون- إفكا وبهتانا- إن مواليد الله إناث، وليسوا ذكورا.. - «أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟» فما لكم إذن لا ترضون بأن يولد لكم الإناث؟ .. - «ما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟» أهذا حكم يستقيم حتى مع منطقكم أنتم؟ «أَفَلا تَذَكَّرُونَ» ؟ أفلا تصححون هذا التناقض الذي وقعتم فيه، أيها المستفتون؟ .. قوله تعالى: «أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ؟ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» . وإذا لم تكن لكم عقول تعقل، وتقيم لكم على هذا الذي تقولونه حجة- فهل معكم بهذا «سلطان مبين» أي كتاب من عند الله ينطق بهذا؟ «فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ» هذا «إن كنتم صادقين» !. قوله تعالى: «وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ» .. أي ومن مفترياتهم على الله سبحانه، أن جعلوا بينه- سبحانه- وبين «الجنّة» أي العالم الخفي، غير المنظور لهم، وهو عالم الملائكة والجن- جعلوا بين الله وبين هذه المخلوقات الخفية، نسبا وقرابة، حيث نسبوا إليه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1037 - سبحانه- الولد، والولد لا يكون إلا من زواج، ولا يكون زواج إلا بين متناسبين، متقاربين فى الصورة، والطبيعة.. وهذا العالم الخفي، الذي يرهبه المشركون، ويتخذون منه أربابا يعبدونها من دون الله، لاعتقادهم- الفاسد- أن بينهم وبين الله قرابة ونسبا- هذا العالم يعلمون أنهم محضرون بين يدى الله، ومحاسبون على ما كان منهم.. إنهم خلق الله، ولن يخرجوا عن سلطان الله.. فسبحان الله، وتنزيها له عما يصفه به هؤلاء المشركون، ذلك الوصف الذي يسوون فيه بين الخالق والمخلوق! .. والمراد بالجنة هنا، هم الشياطين.. وإحضارهم، هو للحساب، والجزاء.. وقوله تعالى: «إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ» هو استثناء من قوله تعالى: «لَمُحْضَرُونَ» .. أي أن هذا العالم الخفي، يعلم أنه معبود لله، وأنه محاسب بين يديه، وأنهم سيلقون العذاب الأليم، إلا عباد الله المخلصين منهم، وهم الملائكة.. فإنهم- وإن كانوا من الجنة، أي العالم الخفي- عباد مخلصون، أي ممحّضون للخير، مفطورون على الطاعة، لا يقع منهم مالا يرضاه الخالق، جلّ وعلا.. والجنة: جمع جن.. وهم المخلوقات غير المنظورة من ملائكة، وجن.. وأصله من الخفاء وعدم الظهور، ومنه الجنبن، الذي فى رحم الأم، ومنه الجنون، لأنه يستر العقل ويغطى عليه، ومنه المجنّ، وهو الترس، الذي يستر به المحارب مواطن القتل منه، عن عدوه.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1038 قوله تعالى: «فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ» .. الخطاب هنا للمشركين، الذين عبدوا القوى الخفية، من ملائكة وجنّ والفاتن: من يجىء بالفتنة، ليخدع بها غيره، ويغرر من يستجيب له.. وفى الآية الكريمة، استخفاف بشأن المشركين، وبما يعبدون من شياطين، فإنهم وما يعبدون، لا يملكون من أمر الله شيئا، وإنهم لا يستطيعون أن يفتنوا أحدا من عباد الله، إلا من كان من أهل الضلال، ومن سبقت إرادة الله فيه أنه من أصحاب الجحيم.. كما يقول الله تعالى لإبليس- لعنه الله: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ» (42: الحجر) . والصّالى: المصطلى بالنار، المستدفئ بها، والصّالون للجحيم، هم المعذبون بالنار.. قوله تعالى: «وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ» .. هذا هو لسان حال الملائكة، تتردد أصدؤه من الملأ الأعلى، ليملأ أسماع العالمين، مؤمنهم وكافرهم جميعا. إن كل ملك منهم، له مكانه الذي أقامه لله فيه، وله منزلته بين إخوانه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1039 فهم ليسوا على درجة واحدة، بل هم- فى منازل الكرامة والإحسان- درجات عند الله، كما أن الناس درجات، فلا يستوى المؤمنون والكافرون، ولا يستوى مؤمن ومؤمن، ولا كافر وكافر.. فلكلّ مكانه، ولكل درجته، وليس لأحد منهم أن ينتقل من حال إلى حال، أو يتحول من مكان إلى مكان.. بل هو أبدا، حيث أقامه الله سبحانه.. وفى قولهم: «وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ» - إشارة إلى أن الملائكة- وهم فى هذه المنزلة العالية عند ربهم- هم «الصافون» أي القائمون صفوفا يعبدون الله، وهم «المسبحون» بحمده.. كما يقول سبحانه فيهم: «يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ» (20: الأنبياء) .. فكيف يعبد من يعبد؟ أفليس معبوده أولى بالعبادة منه؟ .. قوله تعالى: «وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ، لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ» .. هو حكاية لمقولة من مقولات المشركين، كانوا يرددونها قبل مبعث لنبى إليهم.. إنهم كانوا يتمنون أن يكون عندهم ذكر من الأولين.. أي كتاب من عند الله، تلقاه آباؤهم من قبلهم، ويتلقونه هم عن آبائهم، كما كان ذلك شأن أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، الذين يعيشون بينهم.. إنه لو كان لهم ذلك لكانوا- كما يدّعون- من عباد الله القائمين على طريق الحق، الذين لا يدخل عليهم شىء من الباطل والضلال.. و «إن» هنا هى المخففة من الثقيلة «إنّ» .. واسمها ضمير محذوف، أي إنهم.. وخبرها جملة «كانُوا لَيَقُولُونَ» .. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1040 قوله تعالى: «فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» . معطوف على محذوف، تقديره، ولقد جاءهم الذكر، الذي كانوا يتمنونه، فكفروا به.. وقوله تعالى: «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» - تهديد لهم، ووعيد.. إنهم جهلوا أو تجاهلوا ما يجر عليهم موقفهم هذا الذي يقفونه من الذكر الذي جاءهم، وسوف يجىء اليوم الذي يعلمون فيه ما جهلوا أو تجاهلوا، ولن يكون حينئذ بين أيديهم إلا الحسرة والندم.. الآيات: (171- 182) [سورة الصافات (37) : الآيات 171 الى 182] وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182) التفسير: قوله تعالى: «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1041 فى هذه الآيات تهديد للكافرين، وإنذار لهم بهذا الوعد الكريم، الذي وعد الله به رسله بالنصر والغلب.. فهذا الصراع الدائر بينهم وبين النبي- صلوات الله وسلامه عليه- سينتهى آخر الأمر بنصر الله للنبى وللمؤمنين معه، على هؤلاء المشركين.. فتلك سنة الله فيما بين الرسل وأقوامهم.. وكلمة الله التي سبقت، هى ما أشار إليه سبحانه فى قوله: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» (21: المجادلة) . وفى قوله تعالى: َ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ» - إشارة إلى أن المؤمنين هم جند الله، وان الله لن يتخلّى عن جنده الذين يقاتلون فى سبيله، ويدافعون عن دينه، وما نزل من الحق.. قوله تعالى: «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ» . هو دعوة إلى النبي من ربه سبحانه، أن يدع هؤلاء المشركين وما هم فيه من شرك، وذلك إلى وقت قريب، سيلقاهم فيه، وسيرون تحقيق هذا الوعد الذي وعد الله رسله، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.. وفى قوله تعالى: «وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ» وعيد للمشركين بما ينتظرهم من مصير مشئوم، يرونه بأعينهم فيما يصابون به فى أنفسهم، يوم يلتقى الجمعان، يوم بدر.. وفي حذف المفعول فى «يبصرون» إشارة إلى أن هذا الذي سيبصرونه، هو مما سيطلع عليهم من عالم الغيب، من حيث لا يقدّرون، ولا يتوقعون.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1042 قوله تعالى: «أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ» ؟. هو تهديد للمشركين، ووعيد لهم على شركهم، وعلى استخفافهم بوعيد الله، وتكذيبهم له.. ولهذا فهم يتحدّون النبي بأن يأتيهم بهذا العذاب، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (32: الأنفال) . قوله تعالى: «فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ» . أي أن هذا العذاب الذي يستخفون به، ويطلبون- متحدّين- تعجيله لهم- هذا العذاب إذا نزل بهم فيالسوء حالهم وما يلقون منه.. وفى إسناد السوء إلى صباحهم، لا إليهم، إشارة إلى أنه صباح مشئوم، يطلع عليهم بالمساءات كلها، لأنه كلّه صباح سوء بالإضافة إليهم.. وفى توقيت العذاب بالصباح، إشارة أخرى إلى أن العذاب الذي سينزل بهم، هو صباح يوم من أيام السوء عليهم، وهذا ما كان فى صباح يوم بدر.. ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون. قوله تعالى: «وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ» . دعوة أخرى إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه، بعد أن يرى بعينيه فى هذه الدنيا هزيمة المشركين- أن يتولى عنهم إلى يوم الدين.. فمن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1043 آمن منهم، فقد نجا، ومن أمسك بالشرك الذي انعقد عليه قلبه، فهو فى الخاسرين.. وقوله تعالى: «وَأَبْصِرْ» أي انظر ماذا يلقون فى هذا اليوم، يوم القيامة، «فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ» هم هذا المصير الذي سيصبرون إليه. قوله تعالى: «سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» .. بهذه الآيات الثلاث تختم السورة،. وبهذا التنزيه لله عن الشريك والولد، والتسبيح بحمده، والتمجيد لعزته، والسلام على رسله، والحمد لله على ما أفاض على الناس من نعم، وما بعث فيهم من رسل- بهذا كله تعمر القلوب، وتلهج الألسنة.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1044 38- سورة ص نزولها: مكية عدد آياتها: ثمان وثمانون آية. عدد كلماتها: سبعمائة واثنتان وثلاثون.. كلمة عدد حروفها: ثلاثة آلاف وسبعة وستون حرفا. مناسبتها لما قبلها كان من الآيات التي ختمت بها سورة الصافات قوله تعالى عن المشركين: «وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» - وكان بدء سورة ص ردّا على هؤلاء المشركين، وعلى ادعائهم هذا.. فهذا هو القرآن ذو الذكر قد جاءهم.. فماذا كان منهم؟ لقد كذبوا به، «وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ» !!. كذلك كان مما ختمت به السورة السابقة قوله تعالى: «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ» . فجاء فى هذه السورة- سورة ص- «جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ» - جاء إخبارا بالغيب، بما سيحل بهؤلاء المشركين، وبما ينزل بهم من هزيمة هم وما يجمعون من جنود الباطل لحرب النبىّ.. وهكذا يصفح ختام سورة الصافات، بدء سورة (ص) مصافحة لقاء، لا سلام مودّع. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1045 بسم الله الرحمن الرّحيم الآيات: (1- 11) [سورة ص (38) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) التفسير: قوله تعالى: «ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ» . «ص» هو حرف من حروف المعجم، بدئت به السورة، كما بدئت كل من سورتى «ق» و «ن» بحرف واحد، على خلاف السور التي بدئت بحروف، حيث بدىء بعضها بحرفين، مثل (طه) و (يس) وبدىء الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1046 بعضها بثلاثة أحرف، مثل «الم» و «الر» ، وبعضها بأربعة مثل «المر» وبعضها بخمسة مثل: «كهيعص» و (حم عسق) .. والملاحظ أن هذه السور الثلاث التي بدئت بحرف واحد، قد جعل الحرف اسما لها، وإن كان غلب على سورة «ق» اسم القلم، وكذلك الشأن فيما بدىء بحرفين، وهما «طه» و «يس» .. أما السور الأخرى التي بدئت بأكثر من حرفين فلم تكن الحروف التي بدئت بها، علما عليها.. ولعل فى هذا ما يشير إلى أن هذه الحروف ليست حروفا بالمعنى المفهوم لها فى النحو، وإنما هى أسماء، ذات دلالات، وأن الحرف هنا قد صار اسما على السورة، وعلما عليها.. وعلى هذا يصح أن يكون «ص» - والله أعلم- اسما مقسما به، ويكون «وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ» معطوفا عليه، فيكون المقسم به هو (ص) ، والقرآن معا.. وإذ كان قوله تعالى: «وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ» معطوفا على مقسم به وهو «ص» - كان «ص» ذا شأن جليل، وجلال عظيم، كشأن القرآن وجلال القرآن.. والقرآن الكريم، هو كلام الله، وكلام الله صفة من صفات الله، وصفات الله هى ذات الله. وإذن فيكون القول بأن «ص» هو اسم من أسماء الله، أو صفة من صفاته، قولا له مفهوم على هذا الاعتبار.. ويصح أن يكون «ص» - والله أعلم- إشارة مجملة إلى ما استقبل به النبىّ والمؤمنون قوله تعالى فى آخر الصافات: «سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» أي سبّحنا بحمدك ربّنا وحقّ ص والقرآن ذى الذكر، الذي آمنا به.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1047 وعلى القول الأول يكون جواب القسم محذوفا، ويكون المعنى: وحقّ الله، وحقّ القرآن ذى الذكر، لقد تنزهت ربّنا عن الشريك والولد، فلك الحمد، ولرسلك السلام.. ولكن الذين كفروا «فى عزة» أي غرور بأنفسهم، «وشقاق» أي منازعة فى هذا الأمر الذي سلّم لك به الوجود كله.. وعلى القول الثاني، يكون جواب القسم، هو ما ختمت به سورة الصافات، وهو قوله تعالى «سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» ، وقد تقدم الجواب على القسم. وقوله تعالى: «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ» . وصف المشركين بالعزة، هو فى مقابل قوله تعالى فى آخر «الصافات» «سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ» .. فهذه العزة التي للمشركين هى عزة باطلة مدّعاة، هى عزة غرور، وحمق وجهل، تلك العزة التي يخيل لمدعيها أنه واحد هذه الدنيا، ومالك أمرها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى شأن مدعى هذه العزة الكاذبة: «وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ» (206: البقرة) .. فعزة الكافرين هى من هذه العزة، التي تملأ كيان صاحبها غرورا وتعاليا.. وفى حرف الجر «فى» الذي يفيد الظرفية، إشارة إلى أن هذه العزة الكاذبة، مستولية على أهلها، مغطية على أبصارهم، فلا يرون على صفحة مرآتها إلا أنفسهم، فى هذا الثوب الزائف الذي لبسوه. والشقاق الذي، فيه هؤلاء الكافرون، هو منازعتهم لله فى عزته، واستكبارهم عن أن يستجيبوا لله، ويؤمنوا به قوله تعالى: «كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1048 «كم» هنا خبرية، تفيد التكثير.. أي ما أكثر ما أهلكنا قبل هؤلاء الكافرين الذي لبسوا هذه العزة الزائفة- ما أكثر ما أهلكنا قبلهم من أمم ظالمة، كانت أكثر منهم قوة، وأعز سلطانا، فلما جاءهم بأسنا نادوا مستغيثين، فلم يغاثوا، إذ كان قد فات أوان الغوث: «وَلاتَ حِينَ مَناصٍ» . و «لات» أداة تفيد النفي، بمعنى «لا» والتاء زائدة، لتأكيد النفي وتقويته.. و «المناص» المفرّ، والملجأ.. ومنه الناصية، وهى الرأس من كل شىء. وناصية الجبل أعلاه الذي يعتصم به. قوله تعالى: «وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ» . أي أن هؤلاء المشركين، قد عجبوا أن جاءهم رسول بشر منهم، وقال الكافرون عن هذا الرسول، «هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ» فرموه بالسحر، واتهموه بالكذب! وفى قوله تعالى: «وَعَجِبُوا» إسناد للعجب إليهم جميعا.. فهذا العجب هو الذي استقبل به المشركون بعثة الرسول فيهم.. ثم كانوا فريقين: فريقا لم يتلبث كثيرا فى عجبه من هذا الرسول البشر.. فما هى إلا وقفة- طالت أو قصرت- ثم رجع إلى عقله، وثاب إلى رشده فآمن بالله.. وفريقا ظل على عجبه هذا، فتولد منه الإنكار والكفر، وعلى حين قال المؤمنون: آمنا بالله، ورسول الله، قال الكافرون: هذا ساحر كذاب.. قوله تعالى: «أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً؟ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ» .. هو من مقولة المشركين، الذين قالوا هذا القول المنكر فى النبي: «ساحِرٌ كَذَّابٌ» .. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1049 وهم بقولهم: «أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً» هو تعجب من دعوة الرسول لهم إلى توحيد الله، ونبذ ما يعبدون من دونه من آلهة.. إنها دعوة غير معقولة وغير مقبولة عندهم.. إذ كيف تكون الآلهة إلها واحدا؟ وكيف ينزل كل إله منها عن سلطانه إن شيخ القبيلة، أو زعيم الجماعة، لا يقبل أن ينزل عن مكانه من الرياسة لزعيم آخر، ولو كان هذا معقولا ومقبولا، لكانت قريش مثلا تحت زعيم واحد. فإذا كان هذا غير ممكن فى مجتمع القبائل، فكيف يمكن هذا فى مجتمع الآلهة؟ «إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ» .. أي مثير للعجب، الذي ليس وراءه عجب! قوله تعالى: «وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ» أي أنه لم يطل العجب منهم، بل أعطوا ظهورهم لما سمعوا من كلام الله، وتنادوا: أن اصبروا على آلهتكم، وتمسكوا بها.. أما هذا الذي سمعتموه من محمد، فإنما هو كيد من كيده، يريد به حاجة فى نفسه!! قوله تعالى: «ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ.. إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ» . أي إن هذا القول لم نسمع به فى الديانة الآخرة. وهى المسيحية، التي هى آخر الديانات السماوية.. فهاهم أولاء يرون أتباع المسيحية- وهم أهل الكتاب- يجعلون لله ابنا، هو المسيح، ويجعلونه إلها، كما يجعلون أمه إلها.. فكيف إذن يكون الإله إلها واحدا؟ وأين تذهب ألوهية المسيح، وأمّ المسيح؟ «إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ» أي كذب وافتراء على الله.. إذ لو كان الله يأبى أن يكون معه آلهة لما قبل أن يكون المسيح، وأم المسيح إلهين معه!! قوله تعالى: «أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا؟ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي.. بَلْ لَمَّا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1050 يَذُوقُوا عَذابِ» . وإذا اطمأنوا إلى هذا المنطق السقيم، الذي أقاموا منه الحجة الباطلة على كذب النبي ودعوته أن يكون الآلهة إلها واحدا- راحوا ينظرون فى النبي ذاته مع صرف النظر عن محتوى رسالته، بعد أن أظهروا بطلانها- بزعمهم- فرأوا أنه على فرض التسليم بصدق ما جاء به- أنه ليس أهلا لأن يتلقى من الله هذا الذكر، وفيهم من هو أكثر مالا وولدا.. فكيف تتخيره السماء دونهم؟ وأين عين السماء عن هؤلاء السادة منهم؟ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسانهم: «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» (31: الزخرف) . وفى تقديم متعلق الفعل «عليه» على فاعله «الذكر» - إشارة إلى أن الإنكار للقرآن هنا، ليس منظورا إليه منهم، بقدر إنكارهم لاختيار الرسول لهذا الأمر، وترك ساداتهم ورجالاتهم.. ولهذا جاء قوله تعالى: «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي» - إضرابا على إنكارهم لشخص الرسول فيهم.. فإن الأمر ليس أمر الرسول، وإنما هو أمر ما أرسل به، والذي كان أولى بالنظر فيه، وإلى مواقع الصدق منه، وإلى محامله من الهدى والخير.. إنّ ذلك هو الذي كان ينبغى النظر إليه والوقوف عنده، والتعرف عليه، ثم قبوله أو التوقف فيه.. ثم إذ كان لهم نظر فى حامل الرسالة بعد هذا، فليكن نظرا قائما من وراء النظر فيما يحمل إليهم.. ولكنهم قلبوا الأوضاع، فنظروا إلى الرسول بمعزل عن هذا الذي يحمله إليهم، فلم يروا فيه إلا واحدا منهم.. ثم إنهم إذ نظروا إليه فى هذا الوضع، لم ينظروا إلى القيم الإنسانية العالية التي يشتمل عليها كيانه، من مكارم الأخلاق، وصفاء الروح، وعظمة النفس، فكل هذا لا حساب له فى موازينهم التي يزنون بها الرجال، تلك الموازين التي لا يقام وزن الرجال الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1051 فيها إلا بكثرة المال والأولاد! ومحمد- صلوات الله وسلامه عليه- إذا وزن بهذا الميزان المادي، لا يكاد يقام له وزن، ولو أنه كان فى ميزان الروح والنفس يرجح العالمين جميعا.!! وإنهم ليسوا فى شك من الرسول وحسب، بل إنهم فى شك من الرسالة التي يحملها إليهم، وفى القرآن الكريم الذي يتلوه عليهم.. وإنهم كما نظروا إلى محمد ووزنوه بهذا الميزان الفاسد، نظروا إلى ذكر الله، ووزنوه بميزانهم المضطرب المختل، فقالوا عنه: هو شعر، وهو سحر، وهو أساطير الأولين.. إلى آخر تلك المقولات التي قالوها فى كلام الله.. وفى قوله تعالى: «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي» - وفى إضافة الذكر إلى الله- إشارة إلى أن حكمهم على القرآن، وتكذيبهم له، ليس حكما، على محمد، ولا تكذيبا له، بل هو حكم على الله وتكذيب لله، فهذا القرآن قرآنه، وهذا الكلام كلامه.. وإذن. فإن حسابهم ليس بينهم وبين محمد، وإنما حسابهم بينهم وبين الله.. وفى قوله تعالى: «بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ» - إضراب على الحديث إليهم بمنطق الحق، وإنهاء لهذا الموقف معهم، إذ لا تجدى معهم حجة.. وإذن فليذوقوا العذاب الذي يسوقه الله إليهم، بعد أن رفضوا هذه الرحمة المهداة لهم.. وفى قوله تعالى: «لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ» تهديد لهم بالعذاب الذي لم يذوفوا طعمه بعد، وأنه آت لا ريب فيه.. قوله تعالى: «أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1052 أي وإلى أن يقع العذاب المرسل إلى هؤلاء المشركين، فلينظروا فى هذه القضية، وليجيبوا منها على هذا السؤال: أعندهم خزائن رحمة الله، حتى يتصرفوا فى هذه الرحمة كما يشاءون، فيسوقوها إلى من شاءوا، ويصرفوها عمّن شاءوا؟ وإذا كانت رحمتنا قد شاءت لها إرادتنا أن تجىء إلى «محمد» وأن تجعله الرسول المصطفى لرسالة السماء من بينهم، فهل فى مقدورهم أن يتحكموا فى إرادتنا، وأن يصرفوا هذه الرحمة عنه، وأن يسوقوها إلى الرجل الذي يتخيرونه منهم؟ أليس ذلك مصادمة منهم لمشيئة الله، وتحديا لإرادته؟ «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ» (32: الزخرف) .. فهل هم يقسمون فيما بينهم رحمة الله فيما أفاء عليهم من نعم، فأغنى وأقنى، ومنح ومنع؟ وفى وصف الله سبحانه وتعالى «بالعزّة» .. إشارة إلى أن مشيئته لا تغلب، وأن إرادته لا تنازع «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» (54: الأعراف) .. وفى وصفه سبحانه «بالوهاب» .. إشارة أخرى إلى أن هباته وعطاياه سبحانه- كثيرة لا تنفد، وأنه ليس لهم- وتلك هى هبات الله الشاملة، وعطاياه الغامرة- أن يحسدوا «محمدا» على ما أعطاه الله، فإن لهم من هذا العطاء شيئا كثيرا لو أرادوا أن ينالوا منه.. فهذا الخير الذي بين يديه، هو خير مسوق إليهم، وهذه الرحمة التي وضعها الله بين يديه، هى لهم، فليردوا مواردها، وليستقوا من ينابيعها، فإنها رحمة السماء إلى الناس جميعا.. قوله تعالى: «أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما؟ فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ» . أي ألهؤلاء المشركين ملك ما فى السموات والأرض، ليشاركوا الله فى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1053 تصريفه، ويكون لهم ما شاءوا من منح ومنع، وإحسان وحرمان؟ إن لم يكن لهم ذلك، أو شىء منه، فليقفوا عند حدّهم، وليأخذوا بالأسباب التي فى أيديهم.. تلك الأسباب، التي لو أحسنوا استخدامها لامتلأت أيديهم من فضل الله وإحسانه.. فما لهم إذن يتطلعون إلى السماء وأسبابها، ويعترضون على أحكامها ومقدّراتها، وبين أيديهم الأسباب القريبة التي ينالون بها الخير من قريب؟ .. وما بالهم لا يتخذون طريقهم إلى كتاب الله، وينظرون بعقولهم فى آياته وكلماته؟. إنهم لو فعلوا لأصابوا كلّ خير، ولظفروا بالسعادة فى الدنيا والآخرة.. ولكنهم فى ضلال يعمهون.. إنهم ينظرون إلى مقادير السماء، ولن يصلوا، وإنهم يعمون عما فى أيديهم فلم ينالوا شيئا.. وذلك هو الخسران المبين.. ويجوز أن يكون هذا تعجيزا لهم، وتحديا لهذا المدّعى الذي يدّعونه فيما تنطق به حالهم من تكبر واستعلاء، واعتراض على ما لله سبحانه وتعالى من تصريف فى ملكه، فيعطى ويحرم، ويغنى ويفقر.. فإن كان لهم مع سلطان الله سلطان، فليمدّوا أسبابهم إلى السماء، وليرتقوا إلى السماء، وليقوموا على سلطانها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا» (42: الإسراء) . قوله تعالى: «جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ» . أي هم جند.. مبتدأ وخبر.. وقد أضرب عن ذكرهم، إهانة لهم، واستخفافا بهم.. وأنهم مغلوبون مهزومون فى الأرض بجند من جند الله، فكيف يكون لهم سلطان وغلب فى السماء؟ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1054 و «ما» نكرة، تفيد العموم.. أي هم جند ما، من تلك الجند الكثيرة، ويجوز أن تكون للتنكير استخفافا بهم، وتهوينا لشأنهم أي هم جماعة من تلك الجماعات، التي تجتمع على الضلال، وتتحزّب على الباطل، فى كل زمان ومكان.. ومن هؤلاء قوم نوح وعاد وفرعون، وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة.. فهؤلاء هم الأحزاب الذين أشارت إليه الآيتان (12، 13) من هذه السورة.. وهزيمة هؤلاء الجند، هى هزيمتهم فى مواقع الحق، وخذلانهم فى مجانى الخير.. فهم لا يعرفون حقا، ولا ينالون خيرا.. وفى وصفهم بالجند، إشارة إلى أنهم فى حرب مع الله، ومع جند الله.. هذا هو ما تشير إليه الآية الكريمة من قريب، إلى موقف هؤلاء المشركين.. وفى الآية الكريمة إشارة إلى أبعد من هذا، وهى هزيمتهم فى موقعة الأحزاب، المعروفة بالخندق. فقد هزم المشركون، وما حزّبوا من أحزاب على النبي والمسلمين، وظاهرهم اليهود على هذا الذي أرادوه بالنبي والمؤمنين من سوء.. فهم وما جمعوا، جمع هزيل، لا قيمة له.. الآيات: (12- 20) [سورة ص (38) : الآيات 12 الى 20] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1055 التفسير: قوله تعالى: «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ، وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ» . فى هذا العرض للأقوام الذين كذّبوا رسل الله أمران. الأول: مواساة للنبىّ الكريم؟ بهذا الذي لقيه رسل الله من قبله من تكذيب أقوامهم لهم.. فليس النبىّ- صلى الله عليه وسلم- بدعا فيما ناله من قومه، من أدى وضرّ.. والثاني: هو تهديد لهؤلاء المشركين أن يلقوا هذا المصير المشئوم الذي لقيه المكذّبون برسل الله. فرعون ذو الأوتاد، هو فرعون مصر الذي وقف من موسى هذا الموقف الذي انتهى به وبجنده إلى الهلاك غرقا. وأوتاد فرعون، هى تلك الأهرام التي أقامها فراعين مصر، فكانت أوتادا على الأرض كالجبال.. فالجبال هى أوتاد الأرض، كما يقول تعالى: «وَالْجِبالَ أَوْتاداً» (7: النبأ) . وأصحاب الأيكة: هم قوم شعيب عليه السلام.. والأيكة الشجر الكثير المجتمع بعضه إلى بعض أشبه بالغاية.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1056 وفى عطف «عاد» على فاعل الفعل «كذبت» وهو «قوم» - إشارة إلى أن المكذّبين هم «عاد» لا قوم عاد، إذ كانت نسبة الأقوام هنا إلى أنبيائهم.. وعاد ليس نبيا.. وكذلك الشأن فى «ثمود» وأصحاب الأيكة.. أما عطف «فرعون» على عاد، فلأنه: أولا: ليس نبيا، حتى يضاف القوم إليه فى هذا المقام، ثم إن قوم فرعون، ليسوا من قوم النبىّ موسى، حتى يضافوا إليه.. وثانيا: لو أضيف القوم إلى فرعون، لأشعر هذا بأنه غير داخل معهم فى التكذيب.. وهذا غير مراد.. وثالثا: تسليط فعل التكذيب على فرعون، يشعر بأنه كان هو الكيان المكذّب، الذي احتوى قومه جميعا فى كيانه هذا.. وقوله تعالى: «أُولئِكَ الْأَحْزابُ» .. الإشارة إلى هؤلاء المكذبين الذين ذكرتهم الآيتان السابقتان.. وأنهم الأحزاب الذين جاء ذكرهم فى قوله تعالى: «جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ» - أي فهؤلاء المشركون من قريش، هم جماعة من تلك الجماعات، وهم من أحزابهم التي اجتمعت على الكفر والضلال، وعلى التكذيب برسل الله.. وهؤلاء جميعا- ومنهم هؤلاء المشركون- محكوم عليهم بالهزيمة والخذلان.. وهذا ما يشير إليه: قوله تعالى: «إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ» . «إن» هنا نافية، بمعنى (ما) . أي ما كلّ هؤلاء إلا كذّب الرسل، «فحق عقاب» فوجب عليه عقاب الله الراصد له.. وفى إسناد التكذيب بالرسل جميعا، إليهم فى مقام واحد- إشارة إلى أمرين: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1057 أولا: أن الرّسل جميعا على أمر واحد، وعلى دعوة واحدة، هى الإيمان بالله.. فمن كذب برسول من رسل الله، فهو مكذب برسل الله كلهم.. لأن الحق الذي معهم واحد، والدين الذي يدعون إليه دين واحد.. وثانيا: أن أهل الضلال، كيان واحد أيضا، لا اختلاف بين أولهم وآخرهم.. فالطريق الذي سار عليه أولهم، من الكفر بالله والتكذيب بالرسل، هو نفس الطريق الذي سلكه وسار عليه كل مشرك ضال.. قوله تعالى: «وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ» . الفواق: البرهة القصيرة من الزمن، بين الجرعة والجرعة من الماء.. يأخذ فيها الشارب نفسه.. والإشارة هنا (بهؤلاء) إلى المشركين، وأنهم هم المقصودون فى هذا المقام بهذا الحكم المشار إليهم به.. والآية تهديد لهم بأنهم- وقد أهلك الله أمثالهم من المكذبين الضالين، وأنزل بهم العذاب الذي يستحقونه- لن يمهلوا طويلا حتى يأتيهم العذاب، وهو حين يأتى لا يدع لهم لحظة من الزمن يستردون فيها أنفاسهم.. إنها صيحة واحدة تخمد أنفاسهم بعدها.. والصيحة هنا، هى صيحة الموت.. فإن مشركى العرب لم يهلكوا بعذاب من عند الله فى الدنيا، إكراما لرسول لله صلوات الله وسلامه عليه، كما يقول سبحانه: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» (33: الأنفال) وصيحة الموت هذه، هى بالنسبة للكافر، الذي يموت على كفره، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1058 بلاء عظيم، إذ تقطعه عن الإيمان الذي كان يمكن أن يكون منه قبل أن يموت، فإذا مات على الكفر استحال أن يكون فى المؤمنين أبدا.. وكانت الصيحة عليه بالموت، هى المركب الذي يحمله إلى جهنم فى غير مهل!!. قوله تعالى: «وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ» . أي أن هؤلاء المشركين- وقد وعد الله نبيه فيهم، ألا يأخذهم بما أخذ به المكذبين قبلهم من عذاب الدنيا- لم يقبلوا هذا الإحسان من الله، بل ردوه فى قحة وتحدّ «وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ» يقولون هكذا «ربّنا» ولا يستحيون أن يتحدوه هذا التحدي، ولا يخشوا عذابه!. والقط: هو النصيب المقسوم من الشيء.. ولعلها كلمة جاءت إلى اللسان العربي من ألسنة الأمم المجاورة للعرب.. ولعل أصلها «القط» وهو جزء من أصل الشيء، ومنه القسطاس، وهو الميزان الذي توزن به الأشياء، ويحدّد به قدرها.. وفى قولهم: «قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ» مع أنهم يكذبون به، استهزاء وسخرية، ومبالغة منهم فى التكذيب بهذا اليوم.. يوم الحساب الذي يوعدهم الرسول به، وهو غير واقع فى تصورهم.. قوله تعالى: «اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ» . الأمر بالصبر: هو دعوة من الله سبحانه وتعالى إلى النبي الكريم، بالمصابرة، واحتمال المكروه من هؤلاء المكذبين، وما يقولون من منكر القول، كقولهم هذا: «عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ!» - فإن لهؤلاء الظالمين يوما يجعل الولدان شيبا.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1059 وقوله تعالى: «وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ» أي واذكر فى هذا المقام الذي تدعى فيه إلى الصبر- «اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ.. إِنَّهُ أَوَّابٌ» ففى ذكره فى هذا المقام ما تجد فيه الروح الأنس، لما يتمثل لك من سيرته، التي يقصها الله عليك.. والأيد: القوة.. وهى مأخوذة من اليد، التي تتمثل فيها قوة الإنسان الجسدية.. ثم إنها ليست يدا واحدة، بل أيديا كثيرة.. وإذن فهى قوة خارقة.. والقوة هنا ليست قوة جسدية- وحسب- بل هى قوة روحية ونفسية أيضا، تشتمل على طاقات عظيمة، من الصبر على المكاره، واحتمال الشدائد.. والأوّاب: كثير الأوب، والأوب هو الرجوع إلى المكان الذي كان منه الذهاب.. فهو رجوع بعد ذهاب.. وقد غلب الأوب على المعنويات، كما غلب الإياب على الماديات.. والمراد بالرجوع هنا، الرجوع إلى الله، والاستقامة على طريقه، بعد ميل عنه.. فالأواب: هو الراجع إلى الله مرة بعد مرة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً» (25: الإسراء) . والسؤال هنا هو: لماذا كان داود عليه السلام هو المثل الذي يقيمه النبي- صلوات الله وسلامه عليه- بين عينيه، وهو بشدّ عزمه بالصبر على ما يقول قومه من زور وبهتان فيه؟ وهل فى داود- عليه السلام- فصل خاص فى هذا المقام، لم يبلغه الأنبياء؟ إن القرآن يحدثنا عن إسماعيل، وإدريس، وذى الكفل، على أنهم المثل البارز فى الصبر الكامل.. فيصفهم سبحانه بالصبر، مجتمعين، فيقول الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1060 سبحانه: «وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ» (85: الأنبياء) ويقول سبحانه عن أيوب: «إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ» ويقول سبحانه على لسان إسماعيل لأبيه: «سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» فما تأويل هذا؟. والجواب- والله أعلم- هو من وجوه: فأولا: ليس المراد بالأمر الموجه من الله سبحانه، للنبى- صلوات الله وسلامه عليه- بذكر داود عليه السلام، فى مقام إلفات النبي إلى الصبر، وإلى إقامة أمره عليه- ليس المراد به التأسى بهذا النبي الكريم، وإنما المراد به الحذر من أن تطرقه حال من أحوال الضعف البشرى، فيقع منه ما وقع من داود، فيما كان موضع ندم منه، واستغفار لربه، وتوبة إليه.. إن داود- عليه السلام- كان مع ما وصفه الله سبحانه به من قوة وأيد- غير قادر على مواجهة الفتنة التي ابتلى بها مواجهة كاملة، فكان منه هذا الذي وقع منه، والذي استغفر له ربه، فغفر له.. فالنبى عليه الصلاة والسلام، مطالب بأن يكون على عزم وقوة، أشد وأقوى مما كان عليه داود، من عزم وقوة، لأنه فى وجه فتنة أعظم وأشد من فتنة داود.. فالأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- هم بشر قبل أن يكونوا أنبياء ورسلا.. والنبوة والرسالة، لم تنزع عنهم ثوب البشرية، وإن ألبستهم النبوة والرسالة حلل الصفاء، والنقاء، والطهر، ولكنها مع هذا، لم تسلبهم نوازع البشرية، وضروراتها.. وإلا لكانوا خلقا آخر غير خلق الناس، ولكانوا أبعد من أن يعيشوا فى دنيا الناس، وأن يألفهم الناس ويألفوا الناس.. والأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- على هذا الحساب، ليسوا على درجة واحدة. وإن كانوا جميعا على قمة البشرية كلها، فهم درجات ومنازل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1061 عند الله.. وفى هذا يقول الله تعالى: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ» (253: البقرة) .. ولو أنهم كانوا على الكمال المطلق، لكانوا درجة واحدة.. ولكنهم- على حدود الكمال البشرى- فى أعلى منازله.. وهم فى هذه الحدود، درجات ومنازل.. وثانيا: ليس هذا التأويل الذي ذهبنا إليه فى قوله تعالى: «وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ» - من أنه ليس مرادا به التأسى به، وإنما المراد هو تخطّى هذا الحد الذي وقف عنده داود عليه السلام وتجاوزه، فى مقام الصبر، والعزم- نقول ليس هذا التأويل بالذي ينقص من قدر هذا النبي الكريم، وإنما هو وضع له فى المقام الكريم الذي وضعه الله فيه، وإن كان فوق هذا المقام مقامات ومقامات!!. وهذا كلام قد لا يهضمه كثير من أهل العلم، أو أدعياء العلم.. ويعدّونه تطاولا على مقام الأنبياء، وعدوانا على عصمتهم.. ومن يدرى فقد يذهب ببعضهم الشطط إلى أن يقولوا إن هذا كفر!! ونقول لهؤلاء مهلا.. فإننا على الإيمان بالله وبرسل الله، وعلى التوقير لهم، والصلاة والسلام عليهم.. ومع هذا، فإننا سنقول هذا القول، لأنه مما تنطق به آيات الله، وتجرى عليه سنة الحياة البشرية، وترضاه العقول السليمة، وتطمئن إليه القلوب المؤمنة. ثم نسأل: إذا كان ما قلناه فى تأويل الآية الكريمة، مما يعدّ تطاولا على مقام هذا النبي الكريم.. فماذا عند من ينكر هذا التأويل- من تأويل لقوله تعالى للنبى صلوات الله وسلامه عليه: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» (48- 50: القلم) .. ماذا فى تأويل قوله تعالى: «وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ» ؟ أليس فى هذا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1062 إلفات للنبى الكريم، ألا يكون على حال من الصبر كحال هذا النبي الكريم، «يونس» عليه السلام؟ أليس هذا صريح منطوق الآية الكريمة؟ وهل هذا مما يضير يونس عليه السلام؟ وهل ينقص ذلك من قدره فى موازين الناس؟ وكلا، فإنه وهو على تلك الحال كان بمنزلته العالية، وبمقامه الكريم عند ربه، الذي يقول سبحانه عنه: «فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» . وثالثا: لم يكن من محامل الآية الكريمة، وهى تحمل إلى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- هذا التحذير الخفي من أن يكون على مستوى النبي الكريم «داود» فى مقام الصبر- لم يكن من محاملها شىء يمس مقام هذا النبي الكريم، بل لقد حملت الآية الكريمة مع هذا ألطافا كثيرة من عند الله إلى عبده «داود» .. كلها تنويه به، ورفع لقدره، وإحسان بعد إحسان إليه، وكفى داود شرفا وفضلا أن يكون عبدا لله، مضافا إلى ذاته جل وعلا.. ثم إن فى قوله تعالى: «وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ» عدولا عن اللفظ الذي يدل على الاحتراس والحذر والتجنب، إلى اللفظ «اذكر» الذي لا يكون إلا فى مقام الإحسان وتذكر النعم.. ثم جاء بعد هذا إضافة داود إلى الله سبحانه وتعالى، إضافة عبودية، الأمر الذي لا يناله إلا المخلصون الأصفياء من عباد الله.. ثم جاء بعد هذا وصفه بأنه «ذو الأيد» أي القوة والصبر على ما يبتلى به من ربه من منح أو منع.. ثم أنبع هذا الوصف بوصف آخر، وهو أنه «أواب» أي كثير الأوب والرجوع إلى الله، إذا هو شعر بأنه لم يؤد لله ما يجب فى مواقع الابتلاء، من شكر، أو صبر.. ثم يذكر بعد هذا ما ساق الله إليه من سوابغ رحمته المادية ولروحية معا، فيقول سبحانه: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ» .. فهذه وهى الجبال أبرز وجوه ما على الأرض من عوالم، تستجيب له، وتأنم به، وتسبّح لله معه.. وهذه الطيور التي تبسط سلطانها فى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1063 الجو، تحشر إليه- بقدرة الله- من كل صوب،. وكأنها بعض جنوده من البشر تسبّح الله معه، وتردد ما يسبح به.. ثم يقول سبحانه: «وَشَدَدْنا مُلْكَهُ» أي أعطيناه ملكا، وثبتنا له قواعده، «وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ» أي إلى جانب هذا الملك المتمكن، آتيناه نبوة، وعلما، تتكشف له بهما موارد الأمور ومصادرها، فيقيمها على ميزان العدل والإحسان.. ثم يقع لداود النبي- وهو قائم على سياسة هذا الملك الذي بين يديه- يقع له ابتلاء، فيهتز ميزان العدل فى يده، ويجد لهذا نحسة فى ضميره، فيرجع إلى الله تائبا مستغفرا، فيلقى من ربه قبولا ومغفرة، ويكسى حلل الرضا والإحسان، فيقول سبحانه: «فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ» وهكذا يفعل الله لعباده المؤمنين.. يبتليهم، ثم يعافيهم، ليريهم مواقع رحمته بهم، وإحسانه إليهم، فيزدادون حمدا له، وقربا منه.. الآيات: (21- 26) [سورة ص (38) : الآيات 21 الى 26] وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1064 داود.. وما خطيئته؟ قلنا إن الله سبحانه وتعالى، حين دعا النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى الصبر، لفته- فى رفق ولطف- إلى ألا يكون كداود عليه السلام فيما ابتلى به، فلم يكن على المستوي المطلوب منه فى مواجهة هذا الابتلاء.. وقلنا إن ذلك لا ينقص من قدر هذا النبي الكريم، وإن كان يزيد فى قدر النبي محمد- صلوات الله وسلامه عليه- ويشير إلى المقام الذي يجب أن يرتفع إليه، متجاوزا مقام داود عليه السلام- وإن كان مقاما رفيعا عظيما.. والذي نريد أن نقف عنده هنا، هو: ماذا كان من داود عليه السلام، فيما ابتلى به، مما لفت النبي- صلوات الله وسلامه عليه- إلى أن يذكره فى مقام الصبر، وأن يكون له من ذكره عبرة وعظة..؟ فماذا كان من داود عليه السلام؟ تحدّث الآيات السابقة عن قصة حدثت لداود عليه السلام، وتذكر أن خصمين دخلا عليه مجلسه فى صورة غير مألوفة، إذ تسورا عليه السور، ولم يدخلا من المدخل الطبيعي إليه.. ففزع منهما، وتوقع الشر من دخولهما على تلك الصورة، التي يقتحمان عليه فيها مجلسه اقتحاما، من غير استئذان، وهو الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1065 الملك، ذو البأس والسلطان، الذي تقوم على حراسته الجنود، والحجّاب.. فبأىّ سلطان دخل عليه هذان الخصمان؟ وكيف نفذا إليه؟ وأين عيون الجند والحرس؟ إن فى ملكه إذن لخللا، وإن فى سلطانه لثغرة يمكن أن ينفذ منها الشر إليه!! ولكن سرعان ما يكشف الخصمان عن شخصيتهما، فيهدئان من روعه، ويقولان له: «لا تخف» !! ومم يخاف وهو السلطان ذو البأس والقوة؟ وهل هما إلا بعض رعاياه؟ وهل يخاف الراعي من رعيته؟ وهو حصن أمنها، وموطن سكنها؟ وإذا كان ثمة خوف فهو خوف الرعية من سلطانها، لا خوف السلطان من رعيته!! إن فى الأمر إذن لشيئا. ويمضى الخصمان يعرضان أمرهما: «خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ» !! ويزداد داود عجبا إلى عجب، من هذا الأمر الصادر من المخصمين إليه: «فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ» هكذا بالأمر! وهل يحكم بغير الحق؟ وهل يتوقعان منه غير هذا؟ وإذا كانا يتوقعان غير ذلك، فهل لهما أن يصدرا إليه هذا الأمر؟ بل هل لهما أن يجهرا بما تحدثهما به نفسهما من جهته؟ إن فى الأمر لأكثر من شىء؟ .. ثم لا يقف أمر الخصمين عند هذا الأمر الصريح لداود بأن يكون عادلا فى حكمه بينهما، بل إنه ليحذّر منهما بألا يشتط فى الجور، إن كان لا يملك أن يعدل أو لا يحسن أن يقيم ميزان العدل مستقيما.. «ولا تشطط» !! تلك هى مقدمات القضية.. أما القضية، فلم يرض الخصمان أن يعرضاها إلا بعد أن اشترطا لنفسهما على داود، أن يكون عادلا فى الحكومة بينهما، وألا يجور فى الحكم.. فإن قبل منهما هذا الشرط، عرضا عليه أمرهما، ورضياه حكما بينهما، وإلا كان لهما شأن آخر معه..! إن الأمر فيما يبدو هو محاكمة لداود، أكثر منه احتكاما إليه؟. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1066 وأعجب ما فى الموقف هنا، أن الخصمين يتفقان على هذا الأمر، ويقفان موقفا واحدا فيه، حتى لكأن كلا منهما قد وقع فى نفسه، ما وقع فى نفس صاحبه، من اتهام لداود فى عدله! .. والقضية- كما سنرى- واضحة لا تحتاج إلى نظر دقيق فى التعرف على وجه الحق فيها.. إذ كان الظلم فيها صارخا، يكاد يمسك بتلابيب أحدهما.. فكيف يساغ لهذا الظالم ذلك الظلم الصارخ، أن يطلب العدل، وأن يتشدد فى طلبه؟ إن فى القضية لأشياء وأشياء، تخرج بها عن مألوف ما يجرى بين الناس من قضايا، وما يقع من خصومات. فما القضية؟. إنها قضية موجزة، واضحة، قد جمعها القرآن الكريم فى كلمات: «إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ» !!. هذه هى القضية: أخوان فى النسب، أو فى الإنسانية، لأحدهما تسع وتسعون نعجة، وللآخر نعجة واحدة.. وصاحب التسع والتسعين نعجة، لا يقنع بما فى يده، بل يمدّ عينه إلى أخيه صاحب النعجة الواحدة، ثم لا يزال به حتى يسلبه نعجته، ويخلى يديه من كل شىء، حتى يصبح هو صاحب مائة.. فيكمل بتلك النعجة ما يراه نقصا فى تمام العدد.. وإن تسعا وتسعين عدد ناقص، ومائة عدد كامل.. فلا بد إذن أن يكملّ هذا العدد، ولو كان بحرمان صاحب النعجة الواحدة، من نعجته..! وماذا يفعل صاحب القليل بقليله هذا؟ إنه لا غناء له فيه، وإنه ليسدّ خللا فيما بين يدى صاحب الكثير، ويكمل نقصا واضحا فيه.. فماذا عليه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1067 لو ضاع منه هذا القليل، ليوضع فى موضعه الذي ينتظره عند صاحب الكثير؟ هكذا قدّر صاحب الكثير، وهكذا أمضى حكمه فى صاحبه!. والظلم واضح صريح فى هذه القضية.. ولهذا بادر داود ببيان وجه الحق فيها، على حسب ما سمع من المدعى: فقال- معلقا على دعواه: «لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ» ! إن الأمر- فيما يبدو- ظلم صارخ، وعدوان مبين.! ولم يلتفت داود إلى الظالم، ولم يواجهه بالحكم الذي يقتضيه الموقف، بل عاش لحظاته تلك، مع هذا المظلوم، يواسيه، ويخفف عنه مرارة الظلم الذي تجرعه من يد أخيه.. فيقول له: «وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ.. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ» .. فلست أنت يا صاحبى أول من ظلم من معاشريه ومخالطيه.. فما أكثر بغى الخلطاء بعضهم على بعض، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هؤلاء الخلطاء.. وقليل هم أولئك الذين لا يظلمون!. وهنا يبحث داود عن هؤلاء القليل فى الناس، ويتفرس فى وجوههم، ثم يلتفت إلى نفسه، وهل هو واحد من هؤلاء القليل؟ وهنا يطلع عليه من صفحة أعماله ما يراه غير قائم على ميزان العدل.. وسرعان ما يرى نفسه طرفا فى هذه القضية التي بين يديه، وأنه يأخذ موقف المدعى عليه فيها، وأن هذا المدعى إنما يقيم دعواه عليه هو، لا على هذا الشخص الذي جاء به إليه.. إن هذا الشخص ما هو إلا المرآة التي يرى فيها داود نفسه!. ومن إعجاز القرآن فى هذا، أنه لم يضع هذا المدعى عليه موضع اتهام، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1068 فلم يسأل فى هذا الادعاء المدعى عليه به، ولم يوجّه إليه أي حديث، بل كان الحديث كله بين داود وبين صاحب الدعوى.. إذ يقول له معلقا على دعواه: «لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ» .. وكان الموقف يقتضى أن يقول للمدعى عليه «لقد ظلمته بسؤال نعجته إلى نعاجك» !. فما جوابك على هذا؟. لم يكن شىء من هذا.. بل لقد ذهب الخصمان، دون أن يفصل بينهما فيما اختصما فيه.. ويخليان مكانهما للخصمين اللذين هما أولى منهما بهذا الموقف: داود وخصمه، الذي تمثّل له فى خطيئته.. وهنا يدرك داود أن هذين الخصمين، إنما هما ابتلاء من الله سبحانه وتعالى له، ليكشفا له عن أمر كان منه، فيه مشابه كثيرة من هذه القضية التي بين يديه، فيذكر هذا الأمر، ويكون له من ذكره امتحان وابتلاء، حيث يلتمس السبل فى تخليص نفسه مما وقع فيه، فلا يجد إلا التوبة إلى الله، والاستغفار لذنبه، وهو فى ذلك المقام يتقلب على جمر من الحسرة والندم، قد كربه الكرب واستبد به الجزع على ما فرّط فى جنب الله.. إنه أعرف بربه، وبجلاله وعظمته، وقدرته، وبالنعم السابغة التي أضفاها عليه، ثم هو أعرف بما لله من غيرة على حرماته، كما هو أعرف بما لله من حساب لأوليائه على صغائرهم، وهم فى هذا المقام الكريم الذي أنزلهم فيه.. ومن هنا كان داود فى فتنة قاسية، وابتلاء عظيم، بعد أن كشفت له تلك القضية عن حال من أحواله، لا يرضاه عنه ربه، فغامت نفسه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت.. وقد ظل هكذا فى كرب وبلاء عظيمين، يستغفر ربه، ويذرف دموع الندم، إلى أن تلقى إشارة السماء بمغفرة الله سبحانه وتعالى له، ورضوانه عنه، وإحسانه إليه!! الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1069 إنها هفوة من هفوات النفس البشرية، وهى فى حساب الناس لا تكاد تعدّ شيئا، بل حتى لا تحسب من اللمم المعفو عنه، ولكنها فى مقام الأنبياء والرسل شىء عظيم، وذنب كبير..! ونكاد نقف عند هذا الحد من هذه القضية، أو القصة. فهذا ما نأخذه من آيات الله، ودلالاتها القريبة، دون تعسف فى التأويل، ودون استجلاب للمقولات الغريبة، التي تحمل عليها آيات الله حملا.. نقول، نكاد نقف عند هذا الحدّ من تلك القضية، وحسبنا أن نعرف مما تحدثنا به آيات الله، أنه كان من نبى من أنبياء الله الكرام هفوة، ثم كان له من الله سبحانه ألطاف، فتاب إلى الله واستغفر لذنبه، فغفر الله له، وزاد مقامه عنده رفعة- نقول- مرة ثالثة- كنا نريد أن نقف عند هذا الحد لا نتجاوزه، ولكنا نجد بين أيدينا، كتب التفاسير كلها، قد جاءت بمقولات من وراء دلالات الآيات القرآنية، وأكثرها مأخوذ عن روايات إسرائيلية يرويها اليهود عن كتابهم الذي حرّفوه، وألقوا فيه بأهوائهم الفاسدة، ومنازعهم الخبيثة.. ثم توسّع الرواة والنقلة فى هذه المقولات، وتصرفوا فيها كيف شاءوا، ومن وراء ذلك اليهود، يدسّون على المسلمين أحاديث عن الرسول، يضعون لها سلسلة من الرواة الذين اشتهر عنهم الحديث عن رسول الله، فتقع هذه الأحاديث المكذوبة من قلوب المسلمين موقعا، لا يجدون معه سبيلا إلى دفعها، وإذا حصيلة هذه الأحاديث المكذوبة، مجموعة من المتناقضات، يدفع بعضها بعضا، ويكذّب بعضها بعضا، فلا يدرى المرء ماذا يأخذ منها وماذا يدع. وفى أكثر الأحوال ينتهى الأمر إلى الشك فيها جملة.. إذ كانت لا تتصل بالعقيدة أو الشريعة.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1070 وهذه قضية قد عرضنا لها فى أكثر من موضع، وربما عرضنا لها فى دراسة خاصة- إذا شاء الله- بعد أن يعيننا الله سبحانه، على أداء هذه المهمة التي نقوم بها فى خدمة كتابه الكريم،. فإن مثل هذه الأحاديث التي تنسب إلى الرسول الكريم، وإن لم تكن ذات أثر فى العقيدة أو الشريعة، فإنها تسبب إزعاجا، وخلخلة فى نفس المسلم إزاء الأحاديث النبوية الشريفة، وتقيمه منها على مقام بين الشك واليقين، فى كل ما يعرض له من أحاديث تنسب إلى الرسول.. وتلك هى جناية الأحاديث المكذوبة والملفقة على السنّة، التي هى المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم. ونعود فنقول: إن الذي يدعونا إذن إلى الوقوف عند هذه القصة- قصة داود عليه السلام- هو تلك المقولات الكثيرة المتناقضة المتضاربة، التي قيلت عن الهفوة التي كانت من هذا النبي الكريم.. ولا نريد أن نعرض هذه المقولات، ونناقشها، ونعدّل أو نجرّح فيها، فهذا يحتاج إلى بحث طويل، يستنفد منا جهدا نحن حريصون على ألا يكون لغير كتاب الله.. وإذن فلن نقول هنا فى هذه الهفوة، وفى الكشف عن وجهها إلا قولا واحدا، نختاره من بين هذه المقولات، لأنه أقرب شىء إلى مفهوم تلك الإشارة الخصية التي يراها الناظر بقلبه وبعقله فى الآيات الكريمة التي نحدثت عن تلك القصة. فالآيات القرآنية، تحدث عن أن داود عليه السلام، قد آتاه الله سبحانه ملكا، وقد مكّن له فى هذا الملك- إلى جانب النبوة التي اختصه الله سبحانه بها، فجمع لله سبحانه بهذا بين يديه السلطة الدينية والدنيوية معا.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1071 هذه واحدة.. وأخرى، هى أن هذا النبي الكريم، وإن لم تكن له رسالة خاصة فى قومه، فإن رسالته فيهم، كانت امتدادا لرسالة موسى. فهو- والأمر كذلك- لم يكن فى رسالته إليهم إلا أن يقيمهم على الشريعة التي فى أيديهم، وأن يحقق العدل الذي اختلت موازينه فى أيديهم.. وهذه ثانية.. وثالثة، هى أن معركة هذا النبىّ وميدانها، هو فى هذا الصراع الذي يقوم بين السلطتين اللتين فى يديه.. سلطة الدين الذي يمثل سلطان الله الذي وضعه فى يده بمنصب النبوة، وسلطة الدنيا التي تتمثل فى هذا الملك الذي يقوم عليه.. ومن هنا كان على داود- عليه السلام- أن يمسك ميزان العدل فى يديه، وأن يقيمه بالقسط، فلا يميل ولا ينحرف.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ» الآية.. ورابعة.. وهى أن إقامة هذا الميزان على حال سوى متوازن دائما، أمر لا تكاد تحتمله طاقة البشر، فقد يكون فى طاقة الإنسان أن يعمل للملك وحده، فلا يعطى للدين ولا للآخرة شيئا.. وقد يكون فى طاقته أن يعمل للدين وحده، فلا يعطى الدنيا من نفسه شيئا.. هذا وذاك أمران ممكنان.. وممكن كذلك، أن يجمع الإنسان بين السلطان فى الدنيا، والعمل للآخرة.. وذلك بأن يعمل للآخرة، وأن يمسك بطرف من السلطان الدنيوي أو أن يعمل للدنيا، ويمسك بطرف من الآخرة.. أما أن يجمع بين الدين والدنيا هذا الجمع المتوازن، المستقيم على خط هندسى.. فهذا هو لذى لا يمكن أبدا.. وننظر إلى داود- عليه السلام- فى موقفه هذا: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1072 إنه سلطان، يملك دنيا عريضة.. ولهذه الدنيا إغراؤها، وشهواتها.. وإنه نبى كريم. وللنبوة خطرها، وجلالها، وسموّها.. والمطلوب منه هنا، هو أن يجمع بين السماء والأرض.. أن يلبس الملك والنبوة معا.. فلا يرى فى حال من أحواله إلا ملكا نبيّا، أو نبيّا ملكا.. إنه ملك من عند الله، ونبىّ من عند الله، يسوس الملك بالنبوة، ويؤيد النبوة بالملك! .. ولا شك أن هذا فضل عظيم، ولكنه ابتلاء عظيم أيضا، ولهذا كان هذا الإلفات السماوىّ لداود، أن يأخذ حذره، إذ يقول له الحق جل وعلا: «يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.. إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ» . ولهذا أيضا كان تقبل الله سبحانه لداود، وتجاوزه عن ذنبه، إذ كان إنما حمل أمرا عظيما، تغتفر له فيه الهنات، وتقال فيه العثرات! فما هى هفوة هذا النبىّ الكريم، وما هى عثرته؟ إنها- والله أعلم- ملففة فى ستر من ألطاف الله ورحمته، فيما كان من تلك القضية التي عرضها عليه الخصمان: «خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ» إن القضية تمثل صراعا بين قوىّ وضعيف.. بين من يملك الكثير الكثير، ومن لا يملك إلا القليل القليل.. بين صاحب سلطان يعتز بسلطانه، ويمضى الأمور بكلمة تصدر من فمه، وبين من لا يملك الكلمة بقولها أمام هذا السلطان! .. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1073 وداود- عليه السلام- يمثّل السلطان فى أعزّ مكان، وأقوى سلطان.. وبكلمة منه إلى أحد رعاياه نزل له هذا الرعية عن شىء- هو أعز ما يملك- كانت نفس داود قد مالت إليه، ورغبت فيه.. ولم يستطع هذا «الرعية» أن يقول: لا.. توقيرا وهيبة، أو خوفا وإشفاقا.. وفى قوله تعالى: «وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ» - إشارة إلى أن كلمة «داود» كانت حكما قاطعا، وقضاء نازلا، لم يستطع له هذا «الرعية» ردّا. يقال: عز فلان، أي صار ذا عزة، وعز فلان فلانا، أي غلبه. وفى المثل: «من عزّ بزّ» أي من قوى، غلب وسلب! وماذا أخذ «داود» من هذا الإنسان؟ إنه شىء ما، عزيز على هذا الإنسان، مستغن به.. قد يكون فرسا، يضمه داود إلى مقتنياته من جياد الخيل.. وقد يكون مزرعة بين مزارع داود.. وليس من الحتم أن يكون امرأة، كما ذهب إلى ذلك أكثر المفسرين، مستندين فى هذا إلى ما جاء فى قضية الخصمين، وإلى أن النزاع كان بينهما على «نعجة» .. والنعجة تطلق فى لسان العرب على المرأة!! ولو سلمنا بهذا، لكان لنا أن نقول، إن هذا مثل، تراد دلالته، ولا تراد صورته.. فلو ذهبنا نأخذ صورة المثل هنا، لكان من الحتم أن يكون لداود تسع وتسعون امرأة.. وهذه الكثرة فى النساء، إن فرض التسليم بها، فلم يوقف بها عند هذا العدد بالذات؟. ولم لا تزيد أو تنقص؟ إن دلالة التسع والتسعين- كما قلنا- هى دلالة على أمرين: أولا: كثرة الشيء ووفرته.. وثانيا: نقص هذه الكثرة، وحاجتها لشىء يبلغ به تمامها، حتى تكون مائة!. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1074 هذه هى القصة أو القضية.. وقد أدين فيها داود، أدان نفسه وحكم عليها بهذا اللوم الصارخ، وهذا الاستغفار الدائب، والضراعة السابحة فى دموع الندم.. ولعل هذا الصوت الشجى، المحمّل بزفرات الحسرة، ونشبج الحرقة، الذي كان يسبّح به داود، ويتلو به آيات الزبور، على أنغام مزاميره، فتهتز له الجبال، وتصغى إليه الطير- لعل هذا الصوت كان من مواليد هذه المحنة، التي ولدت لداود أكثر من مولود، ورفدته بأكثر من عطاء من عطايا الله ومننه.. أمّا ما تقول به التوراة، وما تلقاه عنهم المفسّرون، ودعموه بالأحاديث من أن داود قد وقع فى حب امرأة قائد من قواد جبشه اسمه «أوريا» وأنه أراد أن يستخلص المرأة لنفسه، بعد أن رآها من قصره وهى تستحم فى فى دارها القائمة تحت قصره، أو وهى تمشط شعرها- فكان من تدبيره لهذا أن بعث بهذا القائد فى مهمة حربية، وجعله فى مواجهة الموت الراصد له هناك.. فلما قتل فى المعركة تزوج داود امرأته- فهذا قول فيه جرأة على مقام هذا النبي، الأمر الذي كان لا يتورع عنه اليهود مع أنبياء الله، أحياء وأمواتا، أو قتلى بأيديهم، فضلا عن أن هذا العمل المشين مدفوع بأكثر من دفع، على حسب ما جاء فى القرآن الكريم، منطوقا ومفهوما، كما رأينا.. الآيات: (27- 29) [سورة ص (38) : الآيات 27 الى 29] وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1075 التفسير: قوله تعالى: «وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ» . مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، قد ذكرت داود عليه السلام، وأشارت إلى أن شيئا ما، من العدوان على غيره، قد وقع منه.. وأنه- وقد كان خليفة الله فى الأرض- فإن الله سبحانه لم يدعه يذهب بما فعل، بل أوقفه موقف الحساب والمساءلة، وبعث إليه من يهجم عليه وهو فى محراب ملكه، وعلى كرسى سلطانه، وأن يجد نفسه بين هذين الخصمين اللذين تسوّرا عليه محرابه، وآتياه من عل، وهو فى قبضة الفزع والاضطراب، لا يجد من قوة سلطانه شيئا يردّ عنه ما حلّ به. إنه قصاص للرعية، وبيد الرعية، من هذا الراعي.. وهذا حسابه مع الناس. أما حسابه مع الله، فقد أدى ثمن هذا العدوان، بكاء وعويلا، وسهرا طويلا.. هكذا سنة الله فى خلقه، وحكمه بين عباده، فكما لا يظلمهم ربّهم شيئا، كذلك جعل الظلم محرّما بينهم، فمن ظلم اقتصّ الله له من ظالمه، فى الدنيا وفى الآخرة. وفى الحديث القدسي: «يا عبادى حرّمت الظلم على نفسى، وقد حرمته عليكم.. فلا تظالموا» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1076 وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ» (60: الحج) .. وعلى هذا نجد الصلة وثيقة بين قوله تعالى: «وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ» وبين الآيات السابقة عليها، التي تضمنت هذه القضية التي وضع فيها نبىّ من أنبياء الله موضع المحاسبة والمساءلة على ما كان منه من عدوان على أحد رعاياه.. فالله سبحانه وتعالى خلق السموات والأرض وما بينهما بالحق، وأقامهما على ميزاته، ولم يخلقهما باطلا، حتى يسمح للباطل أن يسكن إليهما، ويعيش فيهما.. بل إن الحق ليمسك بكل ذرة من ذرات هذا الوجود، وإنه ليس فى كائنات الوجود من ينحرف عن طريق الحق إلّا الإنسان، لماله من إرادة، تصدر عن تفكير وتقدير. وهذا الانحراف، لا يدوم أبدا.. فما هى إلا لحظة عابرة من لحظات الزمن الأبدى، يضطرب فيها ميزان العدل بين الناس، ثم يعود هذا الميزان إلى توازنه، فيوفّى كلّ إنسان جزاء عمله يوم الجزاء: «لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» (17: غافر) . وقوله تعالى: «ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا» الإشارة هنا إلى خلق السموات والأرض وما بينهما، أي أن الله سبحانه ما خلق السموات والأرض وما بينهما باطلا، ولكن الذين كفروا لا يؤمنون بهذه الحقيقة، بل يعيشون فى أوهام وظنون وراء هذا الحق الذي تنطق به آيات الله.. فلو كانوا يؤمنون بالله لآمنوا بهذه الحقيقة، ولا ستيقنوا أن الله هو الحق، وأن الحق لا يكون من صنعته إلا ما هو حق، وأنهم إذا ظلموا لن يتركوا وشأنهم، بل سيحاسبون ويعاقبون، وفى كفرهم بالله ظلم عظيم، يلقون عليه أشد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1077 العذاب.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ» . قوله تعالى: «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ» أي أحسب الذين كفروا أننا نسوى بين الأخيار والأشرار، وأن نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات، كالمفسدين فى الأرض، الذين كفروا بالله، وعصوا رسله، وآذوا خلقه؟ ذلك ما لا يتفق مع الحق الذي أقام الله عليه خلقه، والذي به خلق السموات والأرض. قوله تعالى: «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» أي هذا كتاب أنزلناه إليك «مبارك» أي فيه البركة التي تنال كل من يلقاه، ويتلقى منه الحكمة والموعظة الحسنة، فيتدبر آياته، ويستضىء بأضوائه ويهتدى بهديه.. ومناسبة هذه الآية لما قبلها.. أن الآيتين السابقتين عليها كانتا بيانا لحقيقة هذا الوجود، وأنه قائم على ميزان الحق والعدل، وأن الذين ينحرفون عن طريق الحق والعدل سيلقون سوء العذاب.. وهذه الآية، هى دعوة إلى كل من يلتمس طريق الحق، ويطلب النجاة لنفسه من عذاب الله.. وليس غير كتاب الله هاديا يهدى إلى الحق.. فمن التمس الهدى فى غيره ضلّ، ومن جاوز حدوده هلك.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1078 الآيات: (30- 40) [سورة ص (38) : الآيات 30 الى 40] وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) [سليمان.. وشمسه.. والجسد الملقى على كرسيّه] التفسير: قوله تعالى: «وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ.. نِعْمَ الْعَبْدُ.. إِنَّهُ أَوَّابٌ» الواو للاستئناف، وعطف حدث على حدث.. أو هى للعطف على قوله تعالى: «فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ» .. أي فغفرنا لداود ما كان منه، ووهبنا له سليمان.. ويكون ما بين المتعاطفين اعتراضا، يراد به التعقيب على القصة، والإلفات إليها، والوقوف موقف التأمل عندها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1079 وأيّاما كان، فإن ذكر سليمان هنا، وأنه مما وهبه الله لداود، هو مما يشير إلى فضل الله سبحانه، وإحسانه إلى عبده داود، بعد خطيئته، واستغفاره وندمه، وقبول الله توبته. وهكذا يبتلى الله سبحانه المصطفين من عباده بما يبتليهم به من مكروه، ثم يخرجهم من هذا المكروه، أصفى جوهرا، وأضوأ نورا، وأكثر إشراقا وألقا. وأن سليمان هذا، إنما هو هبة من هبات الله العظيمة، وعطاء من عطاياه الجليلة المسوقة إلى عبد من عباده المحسنين، بعد هذا الابتلاء العظيم، وبعد تلك المحنة القاسية.. وفى قوله تعالى: «نِعْمَ الْعَبْدُ» ثناء عظيم من المولى سبحانه وتعالى، على سليمان، وعلى داود أيضا، إذ كان ذلك الابن هبة له من ربه.. وقوله تعالى: «إِنَّهُ أَوَّابٌ» إشارة إلى أنه كثير الأوب والرجوع إلى الله وأنه مع الملك العظيم الذي جعله الله بين يديه، كان على صلة وثيقة بربه.. فلم يقطعه الملك عن ذكر ربه، بل إنه كلما كانت له نظرة إلى ملكه كانت له إلى ربه نظرات.. وفى وصف سليمان بالصفة التي وصف بها أبوه داود، وهى «الأواب» إشارة إلى أنهما على درجة واحدة من الاتصال بربهم، والرجوع إليه دائما.. ثم إنه إشارة أخرى إلى أن سليمان سيقع منه ما وقع لأبيه من فتنة وابتلاء، ثم من استغفار وندم، ثم من توبة وقبول من الله، وعطاء جزل عظيم، بعد هذا القبول والرضا من رب العالمين.. قوله تعالى: «إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1080 «إذ» ظرف يبيّن حالا من أحوال سليمان فى أوبه إلى الله.. أي ومن أو به إلى الله ورجوعه إليه، موقفه هذا الذي كان منه حين عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد.. والصافنات: الخيل الواقفة على ثلاث قواتم، على حين تكون الرابعة قائمة على حرف الحافر.. وهذا من علامات الكرم والأصالة فى الخيل.. أما ذوات الحافر الأخرى، كالحمير والخيل غير الكريمة، فإنها تقف على قوائمها الأربعة، متمكنة من الأرض على سواء.. يقول عمرو بن كلثوم فى معلقته، يصف كرام الخيل التي يقتنونها، ويحاربون عليها: وسيّد معشر قد توّجوه ... بتاج الملك يحمى المحجرينا تركنا الخيل عاكفة عليه ... مقلّدة أعنتها صفونا والجياد: جمع جواد، وهو اسم غلب على الذكر من الخيل.. وأصله من الجودة.. والخير: هو الخيل.. وتسمى الخيل خيرا، لأنها مظهر من مظاهر النعمة، حيث لا يملكها إلا أصحاب الثراء والجاه، فحيث كانت الخيل كان الخير معها.. وفى الحديث: «الخيل معقود بنواصيها الخير» والآيتان الكريمان تحدثان عن حال من أحوال سليمان، وموقفه من الاشتغال بملكه وذكره لربه.. فهو- عليه السلام- إذ يستعرض الخيل، كبعض من سلطانه الذي بين يديه، أو كنعمة من نعم الملك الذي آتاه الله- إنه إذ يفعل هذا، وإذ يرى كثرة هذه الخيل المجراة بين يديه، بسرجها، ولجمها، يستعظم هذه النعمة، ويرى أنها شىء كثير، ما كان له أن يستكثر منه إلى هذا الحد، وأن يحفل به إلى هذا المدى، وأنه لو استكثر من ذكر الله، وأعطى لهذا الذكر ذلك المجهود الذي بذله، فى انتقاء هذه الخيل، وفى استجلاب كرائمها من كل أفق- لو أنه فعل هذا لكان أولى، وأجدى.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1081 ولهذا، فإنه عليه السلام، ما إن يرى هذه الخيل تطلع عليه فى جمالها وروائها وروعة منظرها، حتى يلقى نفسه بهذا اللوم: «إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي» ! أي لقد آثرت حبّ الخير الدنيوي، على ذكر ربّى.. فهذا الحب للخيل، هو شهوة متمكنة فى النفس، وهو فتنة من فتن الدنيا، كما يقول سبحانه: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ.. ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ» . وللخيل فى ذاتها شهوة كشهوة المال، ولها فى النفوس موقع لا يعرفه إلا من عرف الخيل وشغف بها، وخاصة فى حياة البادية، التي ترى الخيل فيها وجها من وجوه الجمال والحسن، فى هذه المواقع المجدبة المكفهرة التي لا يلمح فيها الحسن إلا لمحات خاطفة.. وهذا ما تحدثنا به الحياة العربية- وخاصة فى الجاهلية- وما كان للخيل فيها من علقة بالنفوس، وهوى فى الأفئدة، حتى لقد عرفت الخيل بأسمائها، كما يعرف الأبطال، ومشاهير الفرسان. وحتى لقد كان للخيل أنساب كأنساب القبائل والعشائر، وحتى لقد وسعت اللغة العربية من الكلمات فى أوصاف الخيل، وفى وصف كل عضو من أعضائها، وكل شية من شياتها- ما لم يكن يجتمع لشىء آخر غيرها من حيوان أو إنسان.. ولهذه العناية العظيمة بشأن الخيل عند العرب والاحتفاء بها، كان ذلك النتاج العربي من كرائم الخيل وأصائلها، والتي لا تزال محتفظة بمكانها فيه، فوق عالم الخيل إلى اليوم. وفى الشعر العربي ديوان كبير، يتمدح فيه الشعراء بالخيل، ويتغنون بها، ويكشفون عن مشاعرها، وأحاسيسها فى الحرب، وفى السلم.. كما نرى فى شعر عنترة، وعمرو بن كلثوم، وامرئ القيس.. وغيرهم.. يروى أن عربيا كان يملك فرسا اسمها «سكاب» وكانت من كرائم، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1082 الخيل.. وقد سامه أحد أصحاب السلطان أن يشتريها منه، أو أن يهبها له، إن ضنّ يبيعها، وارتفع بقدرها عن أن تنزل منازل السلع، فلم يجد العربي بدّا من أن يدفع هذا المكروه، متلطفا متوسلا بقصيدة يقول فيها. أبيت اللّعن إن سكاب علق ... نفيس لا يعار ولا يباع مفدّاة مكرمّة علينا ... نجاع لها العيال ولا تجاع! فحبّ سليمان عليه السلام للخيل، هو من هذا الحبّ، خاصة وهو مولود فى بيت ملك، تربّى من صغره على الفروسية.. ونعود إلى القصة فنقول: إن سليمان- عليه السلام- إذ يقول هذا القول: «إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي» . إنما هو مراودة بينه وبين نفسه، وخاطر من خطرات اللوم يدفع بها الزهو والعجب عنه، وهو مواجهة هذه الفتنة، ثم هو مع هذا يمضى فيما هو فيه، ولا يقطع مراسم هذا الحفل العظيم الذي احتشد له رؤساء القوم وسادتهم فى هذا الاستعراض العظيم لجيشه مشاة وفرسانا.. وإنه لا بأس من أن يمضى فيما هو فيه الآن، ثم ليكن له بعد هذا حساب مع نفسه، وتدبير فيما يكون منه فى شأن هذه الخيل وغيرها، مما يشغل منه وقتا يقطعه فترات عن ذكر الله، بالاشتغال بهذا المتاع.. وهكذا ظل- عليه السلام- يستعرض الخيل، حتى دخل الظلام، فتوارت عن نظره بالحجاب، أي حجاب الظلام.. فلم يعد يرى ملامحها، ويتحقق من شياتها، وما ينكشف لعينيه من أعضائها، التي تعطى الصفة الملاءمة لكل جواد منها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ» أي أنه- عليه السلام- ما زال ينظر إليها، ويستعرض بعينه تناسب أعضائها، وتناسق ينائها، حتى توارت عنه بهذا الحجاب الذي أرخاه الليل عليها، إذ أن عرضها الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1083 عليه قد كان فى أخريات النهار، كما يقول الله تعالى: «إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ» .. هذا، ولم يكن- عليه السلام- قد فرغ من الأمر الذي قصد إليه من هذا العرض للخيل، وهذا هو حجاب الظلام يحول بينه وبين تفرسها بعينيه، إذ كان العرض فى أخريات النهار بالعشي.. فماذا يفعل؟ لقد أراد القائمون على أمر هذا الاستعراض من حاشيته، أن يؤجّلوا ذلك إلى يوم آخر، وأن يذهبوا ببقية الخيل التي لم تعرض إلى مرابطها.. وربما همّ الرجال بهذا فعلا، بل وربما مضوا فى تنفيذه- بعد أخذ موافقته ضرورة- ولكن سرعان ما بدا له أن ينتهى من هذا الاستعراض فى مجلسه هذا، حتى لا يعود إلى هذه الفتنة من غد.. فقال وقد أخذت الخيل طريقها إلى مرابطها: «ردّوها علىّ!» فلما ردت إليه، أخذ يتحسسها سريعا بيديه، بالمسح بيديه على سوقها وأعناقها «فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ» .. وأعراف الخيل، وأرجلها- وخاصة سيقانها- هى المواضع التي تنمّ عنها، وتحدّث عن مكانها من الأصالة والجودة.. وفى هذا يقول امرؤ القيس فى وصف جواده: له أيطلا ظبى وساقا نعامة ... وإرخاء سرحان وتقريب تتفل والأيطل: الكفل، وهو أعلى الفخذ.. والسرحان الذئب، والتتفل: ولد الظبى. فامرؤ القيس يصف ساق جواده بالضمور، وعدم الامتلاء، ويشبهه بساق النعامة فى دقته، وتجرده من اللحم. على حين يشبّه كفله بكفل الظبى فى الامتلاء باللحم..! ونلخص مضمون القصة فنقول: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1084 إن سليمان- عليه السلام- استعرض ما يملك من خيل، وكان ذلك فى أخريات النهار، فلما طلعت عليه، هالته كثرتها، وكثرة ما تتزين به من سروج وقلائد، ولجم، فوقع فى نفسه، أن هذا حصيلة جهد كبير، بذله فى هذا الوجه، وأنه كان الأولى به أن يصرف جهده هذا فى ذكر الله.. وقد حدثته نفسه أن يردّ الخيل على أعقابها، وأن يلغى هذا الاحتفال، ولكن وجد أن ذلك قد يثير كثيرا من الأقاويل والشائعات، وأنه ربما يبلغ أعداءه عنه أنه انصرف عن اقتناء الخيل أو زهد فيها، وهى أقوى عدد الحرب يومئذ، فتحدثهم أنفسهم بحربه، ويجدون الجرأة على قتاله، فرأى لهذا أو لغيره أن يمضى فيما هو فيه، وكان الليل قد أرخى حجابه قبل أن يفرغ من استعراض الخيل، وكان من التدبير أن يؤجل بقية العرض إلى يوم آخر، ولكنه- لأمر دبره لنفسه- رأى أن يفرغ من هذا العرض، وأن يستعمل يديه فى التعرف على الجياد من هذه الخيل، وذلك بإمرار يديه على المواضع التي تدل على الجودة أو الرداءة منها، كل ذلك فى سرعة نراها فى قوله تعالى: «فَطَفِقَ» الذي يدل على الاستمرار مع التدفق والجريان للفعل. أما الأمر الذي دبره سليمان عليه السلام فى نفسه بإنهاء هذا العرض فى هذا المجلس، فهو أن يأخذ نفسه بسياسة غير تلك السياسة التي كان يصرف فيها هذا الجهد باقتناء الخيل، والاحتفاء بها، وأن يجعل ذكر الله همّه وأن يفرغ فيه جهده، وأن يستغفر لما كان منه من تقصير أو تفريط فى جانب ذكره لربه.. هذه هى قصة الخيل.. ولها ذيول سنعرض لها فيما بعد.. بعد أن نفرغ من قصة الكرسي والجسد الملقى عليه.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1085 قوله تعالى: «وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً.. ثُمَّ أَنابَ» .. هذه الآية هى إشارة إلى هذه الفتنة التي فتن بها سليمان، وهو اشتغاله بهذا المتاع من الخيل، وحشد هذا الجهد منه ومن حاشيته، ورعيته فى سبيله.. ففى قوله تعالى: «وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً» - إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى قد فتنه بهذا المتاع الكثير، الذي ساقه إليه.. وأن هذا المتاع كان عبئا ثقيلا على «كرسيه» أي سلطانه، الذي كان ينبغى أن يكون مكان النبوة فيه أبرز وأظهر من مقام الملك.. وهذا هو السر فى كلمة «جسدا» الذي يمثل المتاع الدنيوي الذي يضمه هذا الملك.. إن كرسى سليمان قد ثقل فيه ميزان الملك، وكاد يجور على المكان الذي ينبغى أن يكون للنبوة فيه، الحظّ الأوفر، والنصيب الأوفى!. ويجوز أن يكون قوله تعالى: «وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً» بمعنى وألقيناه على كرسيه جسدا، فيكون جسدا حال، بمعنى كائنا جسدا.. على حين أن روحه قد زايله فى تلك الحال، فرأى- من عالم روحه- وجوده الجسدى قائما على الكرسي، ملتصقا به.. وهذا ما يعرف فى الروحية الحديثة باسم «الطرح الروحي» حيث تستطيع بعض الأرواح أن تنفصل عن أجسادها فى حال اليقظة، فيرى الإنسان بروحه عوالم كثيرة بعيدة، ويشهد من وراء حجب المادة الكثيفة ما يشهده عن قرب وعيان.. ومما يشهده فى حاله تلك، وجوده الجسدى. وقد يكون سليمان- عليه السلام- رأى فى حال من أحوال الطرح الروحي، ذاته الجسدية على كرسى ملكه، على حين رأى ذاته الروحية بعيدة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1086 عن هذا الكرسي، فأنكر مقامه على هذا الكرسي وهو على تلك الحال التي انفصلت فيها أو كادت تنفصل عنه النبوة!. ولقد لفتنى إلى هذا المعنى الأستاذ العالم الأديب محمد شاهين حمزة، الذي ينفق من ذخائر علمه ويسعى بها إلى طلاب العلم، حاملا عنهم مشقة الطلب والسعى.. فجزاء الله عن العلم وأهله خير ما يجزى العالمين العاملين. وفى قوله تعالى: «ثُمَّ أَنابَ» - إشارة إلى معطوف عليه محذوف. تقديره: فشغل سليمان وقتا ما بهذا المتاع أي (الجسد) الذي ألقى على كرسيه.. «ثم أناب» .. أي رجع إلى ربه، وصحح هذا الوضع الذي صار إليه «كرسيه» .. فأفسح للنبوة فيه مكانها، وأعطاها كل حقها.. واقرأ الآية الكريمة: «وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ» . تجد مفهوما واضحا لكلمات الله على هذا التأويل الذي تأولناها عليه.. ثم تجد للعطف «بثم» مكانا مكينا فى الآية، حيث أن هذه الإنابة قد جاءت متراخية زمنا ما، كان لا بد منها لجمع هذه الأعداد الكثيرة من أصائل الخيل وجيادها، وما يتصل بها من عدد وفرسان.. قوله تعالى: «قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ» .. هو بيان لإنابة سليمان إلى ربه، وأن إنابته هى قوله: «رَبِّ اغْفِرْ لِي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1087 وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ» - ولهذا لم يفصل بين الفعلين «أناب» «وقال» بفاصل ما، من حرف عطف، أو نحوه.. وقد قرن سليمان فى إنابته إلى الله سبحانه- قرن طلب المغفرة بهبة هذا الملك الذي لا يكون لأحد من بعده! وفى هذا ما يشير فى وضوح إلى أن ما طلبه من أن يهب الله له هذا الملك الذي لا ينبغى لأحد من بعده- فيه إشارة واضحة إلى أن هذا هو ما يصحح إنابته إلى ربه، ويجعلها إنابة سليمة، خالية من كل معوق يعوقها عن الله! فكيف هذا؟ وهل بهذا الملك العجيب الذي لا يملكه أحد من بعده يكون أقرب إلى الله منه وهو على كرسى ملكه الذي هبت عليه منه ريح الفتنة؟ وهل كان ما كان منه من اشتغال- أكثر مما ينبغى- عن ذكر ربّه، إلا من الملك، وسلطان الملك وما يحف به من شهوات؟ فكيف يكون طلب هذا الملك الذي لم يكن لأحد غيره- إنابة ورجوعا إلى الله، وتخففا من الاشتغال بالملك؟ ندع هذا الآن.. وننظر فيما أجاب به الله سبحانه وتعالى هذا الطلب.. يقول الله تعالى: «فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ» هذا هو ما أجاب به الله سبحانه، سليمان فيما سأل.. وقد جاءت الإجابة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1088 فى غير مهل.. دعاء فإجابة.. وهذا يدل على ذلك الرضا العظيم من الله سبحانه عند عن هذا الذي أقبل عليه بقلب سليم، منيبا إليه، طامعا فى رحمته ومغفرته! ولا بد من وقفة هنا: فأولا: لقد أقام الله سبحانه سليمان فى منصب الملك، كما أقامه فى منصب النبوة.. فهو- بتكليف من الله سبحانه- ملك ونبىّ معا.. وثانيا: لقد جرب سليمان الحياة مع الملك والنبوة، فوجد سلطان الملك يكاد يطغى على مقام النبوة.. ولقد رأى رأى العين كيف شغلته الخيل عن أن يؤدى للنبوة حقها، وأن يذكر الله ذكر الأنبياء، ووقف من نفسه موقف اللائم المؤنب، فيقول لها: «إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي» ! وثالثا: بعد هذا العرض للخيل الذي رأى فيه سليمان وجه الفتنة كالحا مخيفا، يهجم على نبوته ويكاد يحتويها، رأى فى هذا الملك خطرا يتهدد نبوّته إن هو ظل قائما عليه، ممسكا به، ثم رأى- من جهة أخرى- أنه ملك من قبل الله، كما هو نبىّ من عند الله، وأنه لا سبيل له أن يخلى يده من هذا الملك.. إنه ملك ونبىّ معا.. ورابعا: لا بد إذن أن يكون سليمان ملكا، وقد رأى ما يسوق إليه الملك من فتنة.. فليكن إذن ملكا، ولكن ليكن هذا الملك على صورة غير هذا الملك الذي تجىء منه الفتن.! وخامسا: فى طلب سليمان تغيير صفة هذا الملك، نراه يقول: «هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي» .. إنه ملك، ولكنه على غير ما يملك الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1089 الملوك، مما على هذه الأرض.. إنه ملك لا تجىء منه هذه الفتن التي، لا يملك دفعها الملوك، حتى الأنبياء..! وأين هذا الملك الذي يكون على هذه الصفة؟ .. إن سليمان لا يعرفه، ولهذا طلب إلى الله سبحانه أن يهبه إياه، وهو سبحانه لا يعجزه شىء، وهو سبحانه «وهاب» لا تقف هبانه عند حدود أو قيود! «إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ» . وسادسا: وجاء الملك الذي طلب سليمان!: «فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ» .. هذا هو ملك سليمان الجديد.. وهو ملك عجيب حقا.. إنه ليس جسدا. وليس فيه من عالم الجسد شىء.. ريح يمتطيها كما يمتطى الخيل.، وهى مطاياه التي أقامها الله سبحانه وتعالى له مقام الخيل بعد أن زهد فيها، وصرف نفسه عنها ابتغاء مرضاة الله.. فكان الجزاء الحسن من جنس العمل الحسن.. أضعافا مضاعفة. ثم كان جنود من عالم الجن، يعملون له بدلا من عالم الإنس..! وإذن فلا التفات إلى الخيل، وما يتصل بها.. ولا التفات إلى الناس، وإلى ما قد يقع عليهم من ظلم، فيما يقيم به دعائم الملك، من قلاع، وحصون، وقصور! .. فالريح تنقله إلى حيث يشاء، بلا خدم، ولا حشم، ولا حرس.. والجن.. «يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ.. مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ» !! الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1090 وبهذا خرج سليمان من سلطان هذا الملك الذي يفتن به الملوك، وقام على ملك لا تخلص إليه منه فتنة..!! أو بمعنى آخر، لقد صفّى ملكه من تلك الشوائب التي تجىء منها الفتن، بما وضع الله سبحانه وتعالى فى يديه من قوّى يستغنى بها عما يكلف به الملوك رعاياهم، وما يحملونهم عليه من أمور، يحققون بها أبّهة سلطانهم، ويقيمون عليها عظمة ملكهم، فيكون الظلم والقهر والاستبداد.. هذه هى قصة سليمان، على هذا التأويل الذي تأولنا عليه آيات الله، التي عرضت لهذه القصة.. وهو تأويل، نرجو أن يكون- بتوفيق الله- أقرب إلى الصواب، وأدنى إلى موقع الحق.. فإننا لم نر أحدا من المفسرين- فيما بين أيدينا من أمهات كتب التفسير- قد تأول الآيات هذا التأويل، وأقامها على هذا الوجه.. وإنه لا بأس من أن نعرض هنا بعضا من وجوه التأويل التي ذهب إليها المفسرون، حتى ينكشف وجه الخلاف، ويكون للناظر فى تفسيرنا هذا أن يأخذ به، أو يأخذ ما يشاء من تلك المقولات: فأولا: يذهب أكثر المفسرين لقوله تعالى: «حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ» يذهبون إلى أن الضمير فى «توارت» يعود إلى الشمس، وأن سليمان عليه السلام، شغل باستعراض الخيل، حتى توارت الشمس فى مغربها.. فلما غربت الشمس تنبه إلى أن وقت الصلاة قد فاته، فوقع فى نفسه الندم على هذا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1091 التفريط فى جنب الله، وقال ناعيا على نفسه هذا الذي كان منه: «إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ» !! ثم يختلف المفسّرون بعد هذا فى: هل كانت هذه الخيل خيل زينة، فيكون سليمان بهذا مقصرا فى حق الله؟ أم أنها كانت خيلا يعدّها للجهاد فى سبيل الله، فلا يكون ذلك محل لوم، كما حدث للمسلمين يوم أحد، حين فاتتهم صلاة العصر.. وثانيا: يذهب المفسرون لقوله تعالى: «رُدُّوها عَلَيَّ» إلى أن هذا أمر من سليمان إلى الشمس أن تعود من حيث غربت، فتظهر له على الأفق الغربي من جديد، حتى يؤدى الصلاة التي فاتته، فى وقتها.. ثم يختلف المفسرون فى هذا الأمر، وهل كان متجها به إلى الله، وأن ضمير الجمع للتعظيم، أم أنه أمر اتجه به إلى أعوانه وأتباعه كاللائم لهم أن لم ينبهوه إلى وقت الصلاة، وأن عليهم- وقد قصّروا- أن يعملوا المستحيل لإصلاح ما أفسدوا، وأن يعيدوا الشمس التي غربت!. ولا يختلف المفسرون الذين يقولون بأن الضمير فى ردوها يعود إلى الشمس- وهم جمهور المفسرين- لا يختلفون فى أن الشمس قد ردّت إليه، فظلت على الأفق الغربي حتى أدى الصلاة فى وقتها.. ومن المفسرين من ذهب إلى أن الشمس لم تردّ، وإنما حبست، عن أن تغرب، وقد لامست الأفق، فظلت فى مكانها حتى أدى الصلاة.. ولهذا تأويلات وتعليلات أكثر من أن تحصر.. ثم إنهم يأتون لعودة الشمس من مغربها، أو إمساكها على الأفق بشواهد لمثل هذا الحدث، فى زمن النبوة، وفى غير زمن النبوة- الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1092 تساق إليها كثير من الأحاديث والأخبار مسندة إلى ابن عباس وغيره من أعلام الصحابة.. وثالثا: يذهب المفسرون لقوله تعالى: «فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ» إلى أن سليمان بعد أن تنبه إلى مغيب الشمس، وطلب ردها إليه، اتجه إلى الخيل، وأخذ يضرب بالسيف فى سوقها وأعناقها، ليكفّر بذلك عن خطيئته فى اشتغاله بها حتى فاته وقت الصلاة.. فهذه الخيل هى التي شغلته، وهى التي يجب أن يتخلص منها، وأن يقدمها قربانا لله يأكل من لحمها الفقراء والمساكين!. ولم يسأل الآخذون بهذا الرأى أنفسهم: ما ذنب هذه الخيل حتى تلاقى هذا المصير، وهى فى موضع الاحتفاء والتكريم؟. ورابعا: اختلف المفسرون فى تأويل قوله تعالى: «وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً» .. فمن قائل، إن سليمان قال لنفسه مرة: لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة من نسائى فيولد لى منهن سبعون ولدا يجاهدون فى سبيل الله..!! قالوا، ولم يقل إن شاء الله، فلم تحمل من نسائه فى تلك الليلة غير واحدة، والذي ولدته جاء مسخا، على صورة نصف إنسان، فلما ولد جاءت به القابلة، وسليمان على كرسى مملكته، فوضعته بين يديه!. والقصة كما ترى- تفضح نفسها بهذا الخبال الصبيانى المريض..! ومن قائل، إن سليمان دخل الحمام، وكان جنبا- ودائما النساء وما يتصل بالنساء! - فخلع خاتم الملك فأخذه الشيطان، ولبسه، وظهر فى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1093 صورة سليمان، وجلس على كرسىّ المملكة، واتصل بنسائه، وسليمان ينادى فى الناس معلنا أنه سليمان، فلا يصدّقه أحد، حتى زوجاته.. وقد ظل سليمان هكذا زمنا لا يجد مكانا يؤويه، أو لقمة عيش يتبلغ بها، وهو دائب التوبة والاستغفار؟؟؟ قالوا، وكان الشيطان قد خاف أن يقبل الله توبة سليمان، وأن يعيد إليه الملك، فأمسك بالخاتم ورمى به فى البحر.. قالوا، ولما قبل الله توبة سليمان، وأراد ردّ ملكه إليه، دفع به إلى شاطىء البحر، فاصطاد سمكة فلما شقّ بطنها وجد خاتمه.. فلبسه، وعاد إلى ما كان عليه..!! ثم تمضى القصة فتقول: إن سليمان أخذ هذا الشيطان فحبسه فى قمقم، ثم ختم عليه بالرصاص وألقاه فى البحر.. فهو فى هذا القمقم إلى يوم الدين!. وهذه القصة أيضا أكثر من سابقتها سخافة وسذاجة، وتناقضا، وفسادا، فى كل حدث من أحداثها.. وهكذا تمضى الروايات حول تأويل هذا الجسد الذي ألقى على كرسى سليمان، وكلها من هذا العالم الخرافى، الذي لا مكان فيه للعقل، أو المنطق، إذ كل ما ينبت، فى هذا العالم هو أطياف وأشباح، يموج بعضها فى بعض، ويضرب بعضها وجه بعض!!. الآيات: (41- 44) [سورة ص (38) : الآيات 41 الى 44] وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1094 التفسير: قوله تعالى: «وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ» .. هو دعوة أخرى إلى النبي الكريم من الله سبحانه وتعالى، أن يذكر هذا الذي بذكره له ربّه من أمر عبد من عباده الصالحين، ونبى من أنبيائه المقربين، هو أيوب عليه السلام.. والذي يدعى النبي- عليه الصلاة والسلام- إلى تذكره، والوقوف على موضع العبرة والعظة منه، من أمر أيوب- عليه السلام- هو ضراعته لربه، ولجوؤه إليه، فيما مسه من ضرّ.. وأيوب- عليه السلام- إنما يقف على حدود هذا الأدب النبوي الرفيع، حين يرفع إلى الله- سبحانه- شكواه مما به، ولا يسأل العافية، وكشف الضر.. فذلك إلى الله سبحانه وتعالى، حسب مشيئته وإرادته فى عبده.. فقد يكون هذا البلاء خيرا له من العافية.. وإنه كبشر، يشكو إلى ربه ما يجد من آلام، ويفوض الأمر إليه سبحانه فيما يريد به.. ولو أنه استطاع ألا يشكو لفعل، فالله سبحانه وتعالى أعلم بحاله، ولكنها، أنّات موجوع، وزفرات محموم! «أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ» .. والنّصب، كالنّصب، وهو الرهق والتعب، والعذاب: الألم الناجم عن هذا التعب. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1095 وفى إسناد المسّ إلى الشيطان، إشارة إلى أن هذا الّذى نزل بأيوب، هو من الأسباب المباشرة، التي تجىء من النفس الأمارة بالسوء، ومثل هذا ما كان من موسى عليه السلام، حين قتل المصري فقال: «هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ» . قوله تعالى: «ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ» . وهذا جواب الحق سبحانه وتعالى على ما سأله أيوب، ولم يفصل بين السؤال والجواب فاصل، للإشارة إلى أن الإجابة كانت متصلة بالسؤال والطلب، من غير تراخ.. فما هو إلا أن سأل، حتى وجد ما طلب حاضرا.. وهذا يشير إلى أن أيوب صبر زمنا طويلا لا يشكو، فلما شكا، أزال الله سبحانه شكاته.. والركض: الجري، والمراد به الضرب بالرجل على الأرض بقوّة، حيث أن الرّجل تخدّ الأرض وتضربها أثناء الجري.. وقد ضرب أيوب برجله الأرض، كما أمره ربّه، فتفجر نبع من الماء! وماذا يعمل أيوب بهذا الماء؟ هكذا وقف عليه متسائلا.. فكشف له ربّه عمّا وراء هذا الماء، فقال له: «هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ» .. إنه ماء عذب، بارد سائغ للشاربين.. فاغتسل به، واشرب منه. قوله تعالى: «وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ» . أي وهبنا له أهله، الذين كانوا قد نفروا منه، وتخلّوا عنه أثناء محنته، فلما لبس ثوب العافية، وخرج من ضباب المحة، عاد إليه أهله، وعاد إليه الغرباء، فكانوا له مثل أهله، تقرّبا إليه، وتودّدا له، إذ أفاض الله سبحانه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1096 وتعالى عليه من الخير، ما جعل العيون تتطلع إليه، والآمال تتجه نحوه.. وهكذا الناس. والناس من يلق خيرا قائلون له ... ما يشتهى ولأمّ المخطئ الهبل وفى التعبير بالهبة عن عودة أهله وغير أهله إليه فى قوله تعالى: «وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ» - فى هذا التعبير إشارة إلى أن هذا التحول فى حال «أيوب» من تلك العزلة الموحشة بينه وبين أهله وغير أهله، إلى إقبال القريب والبعيد عليه، وتوددهم له- إنما كان هبة من هبات الله له، ورحمة من رحماته، على هذا العبد الذي ابتلى هذا الابتلاء العظيم، فصبر راضيا بأمر الله سبحانه وتعالى فيه.. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ» (10: الزمر) .. وفى ذلك ذكرى وموعظة لأولى الألباب، الذين يأخذون العبر من الأحداث التي تمر بهم، أو بالناس من حولهم. قوله تعالى: «وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ» . الضّغث: الخليط من كل شىء.. والمراد به هنا، مجموعة من العيدان الدقيقة، من حطب أو غيره.. والحنث: الذنب المؤثم، واليمين الغموس. والآية معطوفة على قوله تعالى: «وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ» الذي هو اعتراض بين الآيتين اللتين يحملان خطابا من الله سبحانه وتعالى إلى «أيوب» .. فالأمر الموجّه من الله سبحانه وتعالى إلى «أيوب» هو: «ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ ... وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ» .. وقد جاء قوله تعالى: «وَوَهَبْنا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1097 لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ» بين الأمرين- إشارة إلى أن هذه الأوامر ليست تكليفا، كما هو الشأن فى الأمر، وإنما هى دعوة إلى تناول هذا العطاء الكريم من ربّ كريم، إلى عبده الصابر الشكور.. فهذان الأمران، يحملان هبات من عند الله، كما يحمل الخبر فى قوله تعالى: «وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ» .. فإن قوله تعالى: «ارْكُضْ بِرِجْلِكَ» يحمل إليه الشفاء والعافية، وقوله تعالى: «وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ» يحمل إليه الوفاء بيمينه، ويدفع عنه الحرج.. إذ كان قد حلف وهو فى حال مرضه أن يضرب امرأته، مائة سوط على أمر خرجت به عن رأيه.. وكان من لطف الله به وبامرأته، أن جعل تحلّة يمينه بأن يضربها بعرجون يحمل مائة أو أكثر من الشماريخ!! الآيات: (45- 54) [سورة ص (38) : الآيات 45 الى 54] وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54) التفسير: قوله تعالى: «وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1098 أي واذكر- أيها النبىّ- وأنت تدعو نفسك إلى الصبر على ما تكره من قومك- اذكر فيمن تذكر من عبادنا الصالحين، إبراهيم وإسحاق ويعقوب.. فهؤلاء من ذوى الأيدى العاملة فى كل مجال للخير والإحسان، ومن ذوى الأبصار الكاشفة عما فى هذا الوجود من بعض جلال الله، وعظمته، وعلمه، وقدرته.. إنهم لم يؤنوا ملكا وإنما أوتوا نبوّة، وهم لهذا إنما يعملون بأيديهم، ويسعون فى تحصيل معاشهم بأنفسهم، لا يملكون سلطانا يعمل لهم العاملون فيه.. ثم إن لهم إلى جانب هذه الأيدى العاملة فى الدنيا، أبصارا عاملة فى التدبّر فى ملكوت الله، والتسبيح بحمده. قوله تعالى: «إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ» . هو بيان لقوله تعالى: «أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ» .. أي إننا أخلصناهم لعبادتنا، إذ أخلينا أيديهم من الملك والسلطان، فلم يشغلوا بتدبير ملكهم وحراسة سلطانهم، عن ذكرنا، وذكر لقائنا. فقوله تعالى: «بخالصة» متعلق بقوله تعالى: «أَخْلَصْناهُمْ» .. أي نجيناهم من الفتنة بمنجاة، هى إقامتهم على تذكر الدار الآخرة.. وقوله تعالى: «ذِكْرَى الدَّارِ» بدل من (بخالصة) .. قوله تعالى: «وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ» .. أي، فهم لما أخلصناهم به، فى مقام عظيم عندنا، إنهم من المصطفين الأخيار من عبادنا.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1099 هذا، ويلاحظ أن ذكر إبراهيم وإسحق ويعقوب، قد جاء متأخرا عن ذكر داود وسليمان وأيوب، مع أن إبراهيم، هو الأب الأكبر لهم، كما أن إسحق ويعقوب، من آبائهم الأولين.. فما سر هذا الترتيب الذي جاء عليه النظم القرآنى، مخالفا الترتيب الزمنى؟ والجواب على هذا- والله أعلم- هو: أولا: أن داود وسليمان، وأيوب، كانوا أصحاب دنيا عريضة، إلى جانب النبوة.. فقد كان داود وسليمان ملكين، يقومان على ملك عظيم، على حين كان أيوب ذا ثراء كبير، ومال وبنين، إلى جانب نبوته أيضا.. وهذا الملك، وذلك الثراء، هما ابتلاء وفتنة حيثما وجدا، سواء أكان ذلك مع الأنبياء، أو غير الأنبياء.. وهذا يقتضى ممن يبتلى بهما أن يكون على حذر دائم، ومراقبة متصلة لنفسه، فى كل ما يأتى وما يذر من عمل.. إنه فى مواجهة الفتنة أبدا، فإذا لم يكن على حذر منها، جرفه تيارها، فكان من المغرقين.. ثانيا: لم يكن إبراهيم وإسحق ويعقوب، أصحاب مال أو سلطان- كما قلنا- ولهذا فقد خلصت نبوتهم من عوائق الفتن الدنيوية، فأخلصوا لله وجودهم ووجوههم، فلم تكن منهم زلة أو هفوة.. وثالثا: فى هذه الصورة التي تفرّق بين الأنبياء الملوك أو أشباه الملوك، وبين الأنبياء المخلصين للنبوة- يرى النبىّ صلوات الله وسلامه عليه- أين منزلته التي جعله الله فيها.. فهو صلوات الله وسلامه عليه- نبى خالص النبوة، لا تشغله الدنيا، ولا تعرض له بفتنة من فتنها.. ومن ثم فهو فى عصمة من نبوته. فلا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1100 يذكر غير الله، ولا يلتفت إلى غير الرسالة التي فى يديه، يحوطها، ويرعاها، ويحتمل الضر والأذى فى سبيلها.. قوله تعالى: «وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ» . وهؤلاء ثلاثة آخرون من أنبياء الله، هم على شاكلة إبراهيم وإسحق ويعقوب.. أنبياء لم يكن لهم مع النبوة ملك أو سلطان.. فهم «من الأخيار» كما أن إبراهيم وإسحق ويعقوب من (الأخيار) .. وليس يعنى هذا أن داود وسليمان وأيوب، لا يدخلون فى هذا الوصف الجليل.. وكلّا.. فهم أنبياء لله قبل أن يكونوا ملوكا.. ولكن الخيرية درجات.. وأنبياء الله فى مقامهم العظيم، هم درجات أيضا.. «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ» (253: البقرة) . واليسع: هو إلياس، وهو الياسين.. وذو الكفل: هو- والله أعلم- زكريا عليه السلام، لأنه هو الذي كفل مريم، كما يقول الله تعالى: «وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا» (37: آل عمران) .. قوله تعالى: «هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ» . الإشارة هنا إلى ما ذكر من حديث عن هؤلاء الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- وفى الحديث، ذكر وموعظة، لمن يتذكر ويتعظ، فيكون بهذا من المؤمنين المتقين.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1101 قوله تعالى: «جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ» .. هو بدل من «حسن مآب» .. فالمآب الحسن، هو جنات عدن، أي جنات خلود، يجدها المتقون، وقد فتحت أبوابها لهم، يدخلونها من أي باب شاءوا، دون أن يحجبهم عنها حاجب.. قوله تعالى: «مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ» .. الاتكاء هنا كناية عن الراحة من السعى وراء المطالب المعيشية.. فهم لا يعملون عملا فى سبيل ما يريدون.. بل إن كل شىء حاضر عتيد بين أيديهم، وما عليهم إلا أن يطلبوا فيجدوا ما طلبوا حاضرا.. إنهم يأكلون ما يشاءون، ويشربون ما يشتهون، مما كان قد فاتهم من حظوظ الدنيا.. هذا إلى ما أعدّ الله لهم، مما لم تره عين ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر.. قوله تعالى: «وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ» .. قاصرات الطرف: أي غاضّات البصر، حياء، وخفرا، وعفّة.. الأتراب: جمع ترب، والترب الشبيه والمثيل.. أي وبين يدى أهل الجنة حور عين، قاصرات الطرف، أي خاشعات الأبصار، حياء وخفرا، على صورة كاملة فى الجمال، والشباب.. كلهن على ميزان واحد فى الجمال، ليس فى أىّ منهن زيادة لمستريد. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1102 قوله تعالى: «هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ» . أي هذا النعيم الخالد، بألوانه، وأشكاله، هو ما وعد الله به المؤمنين، حيث يلقونه يوم الحساب، والجزاء. قوله تعالى: «إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ» . أي هذا النعيم الخالد، هو الرزق الذي يرزقه الله أصحاب الجنة، وهو رزق لا ينفد أبدا، ولا ينقص منه شىء أبدا، على كثرة الواردين عليه. الآيات: (55- 64) [سورة ص (38) : الآيات 55 الى 64] هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) التفسير: قوله تعالى: «هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1103 هذا هو الوجه المقابل لأصحاب الجنة، الذين ينعمون بهذا النعيم الخالد، ويهنئون بما أفاء الله سبحانه عليهم من رحمته ورضوانه. فقوله تعالى: «هذا» إشارة إلى المؤمنين وأحوالهم فى الجنة، أي هذا شأن.. وشأن آخر، هو شأن الطاغين، من رءوس أهل الكفر والشرك والضلال.. فهؤلاء لهم شرّ مآب، وسوء منقلب، هو هذا العذاب الذي يلقونه فى جهنم، التي هى المهاد الذي يجدون فيه متكأهم وراحتهم.. إن لهم فى دارهم هذه مهادا ومتكأ، كما للمتقين فى دارهم مهادا ومتكأ! وشتان بين مهاد ومهاد! «هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ» . هو فى مقابل لقوله تعالى فى المؤمنين: «يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ» ، فأهل الجنة يطلبون ما يشتهون، فيجدونه حاضرا.. أما أهل النار، فإنهم لا يطلبون شيئا.. وماذا يطلبون من النار، إلا النار؟ .. ومع هذا، فإنهم لا بد أن يطعموا من ثمر جهنم، ويسقوا من شرابها، كما طعم أهل الجنة من فاكهة الجنة، وشربوا من شرابها.. وإنه إذ لم يطلب أصحاب النار طعاما ولا شرابا. فهذا طعام وشراب حاضر بين أيديهم.. هذا حميم وغساق. فليدوقوه!. والحميم: اللهب، ومنه الحمم وهو قطع الجمر. والغساق: القيح والصديد. وإذا كان لأهل الجنة حور عين: «قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ» فإن لأهل النار كذلك أزواجا من شكل هذا الحميم والغساق «وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1104 أي وعندهم إلى جانب هذا الطعام والشراب، من الحميم والغساق، أزواج مشكّلة على شاكلة هذا الحميم والغساق..!! وليس هذا فحسب..! إن أهل الجنة يدخل عليهم الملائكة من كل باب، يؤنسونهم، ويحيونهم قائلين «سلام عليكم» .. وإن هؤلاء الطاغين، ليرد عليهم بين حين وحين، من يصبّ عليهم اللعنات، من أتباعهم وأشياعهم: «هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ» .. إنهم قد سبقوا إلى النار، وتقدموا أتباعهم، فهم أئمتهم فى الدنيا والآخرة.. فإذا أخذوا أماكنهم من جهنم، دفع إليهم «فوج» أي فريق من أتباعهم، «مقتحم» أي يقتحم عليهم مكانهم الضيق الذي هم فيه، ليأخذ له مكانا.. فليقاهم الذين سبقوهم قائلين: «لا مَرْحَباً بِهِمْ، إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ» .. ويجيئهم ردّ التحية من أتباعهم: «بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ.. أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا» أي أنتم الذين دفعتم بنا إلى هذا المصير المشئوم.. «فَبِئْسَ الْقَرارُ» الذي استقر بنا وبكم.. ولا يقف الأتباع عند هذا مع سادتهم، بل يدعون الله عليهم أن يقتصّ لهم منهم، وأن يضاعف لهم العذاب، إذ كانوا هم الذين زينوا لهم الضلال الذي أوردهم هذا المورد.. «قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ» .. وفيما هم فى هذا التلاحي والتخاصم، ينظرون فى وجوه من حولهم من أهل النار، باحثين عن أناس كانوا يعرفونهم فى الدنيا، ويرونهم أهل سوء، وأنهم أولى بالنار منهم.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1105 «وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ» ؟ فأين فلان وفلان، وفلان.. من الفقراء والضعفاء والعبيد والإماء؟ ألا ينزلون هذا المنزل؟ وإذا لم ينزله هؤلاء، فمن ينزله؟. «أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا؟» أي أاتخذناهم سخريا، وكنا على خطأ فى استهزائنا بهم، وسخريتنا منهم فى الدنيا؟ «أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ» ؟ أم أننا كنّا على صواب فى سخريتنا واستهزائنا، وأنهم على ما كنا نقدّر، فهم موجودون هنا فى جهنم، ولكن أبصارنا زاغت عنهم؟ لا ندرى!. «إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ» . أي إن هذا التخاصم والتلاحي بين أهل النار، هو حق واقع.. فمن كذّب، فلينتظر، وسيرى.. الآيات: (65- 88) [سورة ص (38) : الآيات 65 الى 88] قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1106 التفسير: قوله تعالى: «قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» . بعد هذه المشاهد التي وقف فيها النبي صلوات الله وسلامه عليه، على أخبار بعض أنبياء الله ورسله، ممن ابتلاهم الله، ومن عافاهم، وبعد أن رأى المؤمنون ما أعد الله لهم فى جناته من نعيم خالد، ورضوان مقيم، ورأى المشركون جهنم وما يلقاه أهل الضلال والطغيان فيها من بلاء عظيم- بعد هذا كله- والمشاعر متوفزة والقلوب واجفة- يلتقى النبي مرة أخرى مع المشركين، يذكرهم برسالته فيهم، وشأنه بهذه الرسالة معهم.. وأنه إنما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1107 هو منذر» أي مبلّغ ما أمر به من ربه، وليس له عليهم من سلطان.. وقوله تعالى: «وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» هو من مقول القول، الذي يقوله النبىّ للمشركين، وينذرهم به، وهو أن يؤمنوا بإله واحد، قهار، يذل الجبابرة، ويقصم ظهور الظالمين.. قوله تعالى: «رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ» .. هو من مقول القول أيضا، وهو عطف بيان على قوله تعالى: «الْواحِدُ الْقَهَّارُ» .. أي ما من إله إلا الله الواحد القهار خالق السموات والأرض وما بينهما العزيز الغفار.. فهذه بعض صفات الإله المتفرد بالألوهة، المستحق للعبادة.. قوله تعالى: «قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ.» . النبأ العظيم، هو ما حدثتهم به الآيتان السابقتان عن الله سبحانه وتعالى، وعما يليق له- سبحانه- من صفات الفردية والقهر والجلال، والعزة والمغفرة.. فهذا نبأ عظيم، يطلع على الناس بالهدى، ويقيمهم على طريق الفلاح، لو استقاموا عليه.. ولكن المشركين معرضون عنه، مستخفّون به، لا يعطونه آذانا مصغية، ولا يفتحون له قلوبا واعية.. قوله تعالى: «ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ» . أي هذا النبأ العظيم الذي حدثتكم به، ليس من عندى، وإنما هو من عند الله.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1108 ولكنكم لا تصدقون أنى رسول الله، وأنى أتلقى ما يوحى به إلىّ من آياته وكلماته.. أنتم لا تصدّقون هذا، وتستكثرون فضل الله علىّ، أو تستكثرون أن يتصل الله ببشر.. فإذا كان هذا ظنكم بربكم، وهذا رأيكم فىّ.. فما قولكم فى هذه الأخبار السماوية، وتلك الأحداث التي وقعت فى العالم العلوي غير المنظور أو المسموع- ما قولكم فى هذه الأخبار التي تحدثكم بها آيات الله وكلماته؟ أهي من عندى أيضا؟ إنه «ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ» .. فأنا معكم على هذه الأرض.. وهل لمن كان من عالم الأرض أن يتصل بالعالم العلوي، ويعلم ما يدور هناك، إلا إذا كان موصولا بهذا العالم، مدعوّا إليه من ربه؟. والذي يختصم فيه الملأ الأعلى، هو ما ستعرضه الآيات التالية، من موقف الملائكة، وإبليس من خلق آدم، ومن أمر الله سبحانه، بالسجود له.. قوله تعالى: «إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ» . فهذا الذي أحدثكم به، أو تحدثكم به آيات الله عن الملأ الأعلى، هو وحي من عند الله، وما أنا إلا بشر مثلكم، وما «يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ» .. لا شىء أكثر من هذا.. إنى أبلّغ ما يوحى إلىّ به، لا أدخل عليه بشىء من عندى.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1109 قوله تعالى: «إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ» . هذا ما كان من اختصام فى الملأ الأعلى، وهو مما لم يكن للنبى- صلوات الله وسلامه عليه- علم به، كما لم يكن لبشر أن يعلمه.. ولكن الله سبحانه وتعالى أخبره به وحيا من عنده، بهذه الآيات التي يتلوها على العالمين.. وفى التعبير عما كان بين الله سبحانه وتعالى، وبين إبليس- لعنه الله- فى التعبير عنه بالاختصام- إشارة إلى تطاول هذا اللعين، وإلى موقفه من ربه موقف جدل واختصام، وذلك لشقوته التي غلبت عليه، بما سبق من قضاء الله فيه.. وأنه إذا كان فى الملأ الأعلى من يكفر بالله، ويعمى عن طريق الهدى وهو فى عالم النور والصفاء والطهر، فإن فى العالم الأرضى، عالم الظلام والكثافة، كثيرين وكثيرين، ممن يكفرون بالله، ويركبون مراكب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1110 الضلال.. وأنه إذا كان الكفر بالله، والخروج عن طاعته، لا يعصم أهل الملأ الأعلى من أن يردّوا إلى عالم الظلام، وأن يكونوا فى الدّرك الأسفل من مخلوقات الله، فإن الكفر بالله والخروج عن طاعته، لا يعصم من كان فى العالم الأرضى، أن يردّ إلى ما دون هذا العالم، وأن يلقى به فى عذاب السعير.. ثم إنه- من جهة أخرى- إذا كان فى الملأ الأعلى ملائكة مقرّبون، لا يعصون الله ما أمرهم، فيزدادون بذلك قربا من الله- فإن فى العالم الأرضى من يرتفع عن هذا العالم، بإيمانه بالله، وولائه له، وينزل منازل الرحمة والرضوان، فى جنات النعيم.. وهكذا.. رجيم من العالم العلوي يهوى إلى الأرض، وشهب من الأرض، تصعد إلى السماء، وتتألق بين كواكبها ونجومها..! فأىّ من هذين الفريقين من أهل الأرض يكون هؤلاء المشركون؟ أيظلون على كفرهم بالله، فيهوى بهم كفرهم إلى قرار الجحيم، أم يؤمنون بالله، ويسعون إلى مرضاته، فيرتفعون عن هذا التراب، ويصعدون إلى الملأ الأعلى، ويصبحون من أهله؟. وقوله تعالى: «قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ» - هو قسم من الله سبحانه وتعالى بأن تمتلىء جهنم من إبليس، وممن شايعه واتبع سبيله من الناس.. وفى هذا وعيد شديد من الله، بأن لجهنم أهلها من بنى آدم، وهم كثير تمتلىء بهم على سعتها.. فليطلب كل إنسان السلامة لنفسه منها، والنجاة من أن يكون من أهلها، فإن لها أهلا- نعوذ بالله أن نكون منهم- وإنه لا نجاة إلا بالإيمان بالله، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1111 والعمل الصالح.. فاللهم اجعلنا من المؤمنين بك، الساعين فى مرضاتك، الفائزين برضاك ورضوانك.. قوله تعالى: «قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ» . بهذه الآيات تختم السورة، ويلتقى ختامها ببدئها.. فقد بدأت بالقسم بالقرآن الكريم، ذى الذكر، تعظيما له، وإلفاتا إلى ما فيه من هدى ورحمة.. وختمت بالتذكير بالنبيّ، وبرسالته، وبالكتاب الذي بين يديه.. فالنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- ليس إلا رسولا من عند الله يبلغ ما أرسل به، وإنه لا يسأل الناس على ما يدعوهم إليه أجرا، ولا يتكلف لدعوته ما يخرج به عن حدود التبليغ، فلا يقهر أحدا، ولا يختله أو يخدعه، حتى يستجيب له: «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ» .. أي ما هذا القرآن الذي بين يديه إلا ذكر للعالمين، والذكر مكانه العقول، وما يقع فيها من اقتناع بما تذكّر به.. «مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها» .. وقوله تعالى: «وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ» .. تهديد للمشركين، ووعيد لهم، بما يلقون من عذاب شديد، يوم يكشف لهم الغطاء عما حجبه العناد والضلال عنهم.. ويومئذ يرون أنهم كانوا فى عمى وضلال، وأن ما فاتهم لا يمكن تداركه أبدا.. «يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا» يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتنى كنت ترابا» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1112 39- سورة الزّمر نزولها: مكية. عدد آياتها: خمس وسبعون.. آية عدد كلماتها: ألف ومائة وسبعون.. كلمة عدد حروفها: أربعة آلاف وسبعمائة وثمانية أحرف. مناسبتها لما قبلها ختمت سورة «ص» بما بدئت به، من تنويه بشأن القرآن الكريم، وما فيه من هدى ورحمة. وكانت السورة كلها معرضا لمواقع الهدى من الناس، على مختلف منازلهم، من أنبياء أخلصهم الله بخالصة النبوّة، وأنبياء جمع الله لهم بين النبوة والملك، ومؤمنين اقتبسوا من هدى النبوّة، وكافرين، ضلّوا عن سواء السبيل، فكفروا بالله.. وهنا تبدأ سورة «الزمر» بذكر القرآن الكريم، والمتنزّل العالي الكريم تنزل منه.. ثم بدعوة النبىّ الكريم إلى الأخذ بهذا الكتاب الذي نزل عليه، وبإخلاص العبودية لله، لا يشغله عن ذلك ما يسوق إليه المشركون من كيد وأذّى.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1113 بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 7) [سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1114 التفسير: قوله تعالى: «تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» . هو جواب عن سؤال أو أسئلة كثيرة، كانت تدور فى رءوس المشركين وتجرى على ألسنتهم: من أين جاء محمد بهذا الذي يحدثنا به؟ ومن علّمه هذا؟ ومن أي الكتب أخذه؟ إلى غير ذلك مما كانوا يحدثون به أنفسهم، ويتحدث به بعضهم إلى بعض فى شأن القرآن.. وقد جاء فى آخر السورة السابقة «ص» ما يجيب- إجابة غير مباشرة- عن تلك الأسئلة، فقال تعالى على لسان نبيه الكريم: «ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ» .. ثم جاء بعد هذا من آيات الله، ما يحدّث عن هذا الاختصام، الأمر الذي يقطع بأن النبىّ على صلة بالملأ الأعلى، حتى يكون له أن يأتى ببعض ما يقع هناك من أمور.. وهنا فى قوله تعالى: «تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» إجابة مباشرة عن تلك الأسئلة التي يسألها المشركون عن المصدر الذي جاء منه القرآن.. وإذ كان سؤالهم أو أسئلتهم، تنحصر فى هذا المحتوى: من أين هذا الكتاب؟ فكان الجواب: من الله العزيز الحكيم تنزيله.. وقد جاء النظم القرآنى هكذا: «تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» بتقديم الجهة التي نزل منها على الذات التي أنزلته- إشارة إلى أنه صادر من جهة عالية، وأنه ليس مما على هذه الأرض، وما فيها من جهات وذوات.. وبهذا ينعزل القرآن عن أن يكون من العالم الأرضى. إنه نور خالص، لمن نظر فيه، والسماء هى مصدر كل نور على هذه الأرض.. فإذا تقرر ذلك، كان البحث فى طبيعة هذا النور، وهل هو نور إلهى، أم من ذلك النور الذي تشعّه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1115 الكواكب والنجوم؟ وإمعان النظر فى القرآن يكشف للناظر عن أنه نور إلهى، لا ينكسر ضوؤه، ولا تغرب شمسه أبدا.. وإذن فهو نور من الله.. «تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» . قوله تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ» أي قد نزل إليك أيها النبي هذا الكتاب من ربك شائبة بالحقّ.. الذي لا يعلق به باطل.. فهو يحمل إليك الحق خالصا من كل شائبة، فمن نظر فى آياته، وتدبر فى كلماته، عرف طريق الحق واضحا مشرقا.. وإذ كان ذلك هو ما عرفت من آيات الله وكلماته من حق، فاعبد الله على هذه المعرفة، عبادة خالصة، تملأ القلب، وتملك المشاعر، وتستولى على الوجدان.. فلا ترى غير الله الحق.. وإذ كان الله سبحانه، هو الحق، وما سواه- بالإضافة إليه- باطل، فكل ولاء لغيره، باطل، وكل تعبّد لسواه، ضلال.. فالعبودية الخالصة له وحده سبحانه وتعالى.. قوله تعالى: «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى.. إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ» .. أي وأما الذين لم يخلصوا عبوديتهم لله لم يجعلوا ولاءهم خالصا له. واتخذوا من دونه أولياء، قائلين: ما نعبدهم إلا لنتقرب بهم إلى الله، ونزلف بهم إلى مرضاته- هؤلاء سيحكم الله بينهم يوم القيامة، فيما هم فيه يختلفون من أمر الله، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1116 وفى وتصورهم الباطل لذاته، وجعل معبوداتهم شفعاء لهم عند الله، لأنهم- كما يزعمون- أبناؤه، أو بناته، أو شركاء له فى الخلق والتصريف! وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ» حكم على مدّعيات هؤلاء المشركين، بأنها من ملفقات الأكاذيب، وأن الكفر هو صفة من يدين بهذا الإفك، ويقيم معتقده على هذه الأكاذيب، وأن من سلك هذا الطريق، ولم يراجع نفسه، ويصحح معتقده، فإن لله سيخلى بينه وبين الضلال الذي هو فيه، فلن يهتدى أبدا.. قوله تعالى: «لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ.. سُبْحانَهُ، هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» . أي لو أراد الله سبحانه أن يتخذ له ولدا- كما يزعم هؤلاء الضالون- لاختاره هو سبحانه، ولخلقه على ما يشاء، لا أن يختاره له هؤلاء الضالون، كما يقول سبحانه عنهم: «وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ» (100: الأنعام) . وقوله تعالى: «سُبْحانَهُ.. هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» تنزيه لله عن أن يكون له ولد.. فهو سبحانه «الواحد» الذي لا شريك له.. والولد شريك للوالد، وهو سبحانه «القهار» أي القوى الذي لا يغلب.. فليس به إلى الولد حاجة، مما يبغيه الوالدون من الأولاد.. قوله تعالى: «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ.. يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ.. كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى.. أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1117 ذلك هو بعض سلطان الله، وتلك هى بعض قدرته.. فالسموات والأرض صنعة يده.. وبعض خلقه.. وقد خلقهما سبحانه بالحق، الذي هو صفته. وقوله تعالى «يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ» .. يشير إلى أمور: أولها: أن النهار والليل يكوّر كل منهما على الآخر، فى حركة دائبة.. حيث لا يكون نهار إلا كور عليه الليل، ولا يكون ليل إلا كور عليه النهار.. وثانيهما: أن التكوير يعنى الحجب والتغطية من الأعلى للأسفل، إذ أن أصله من تكوير العمامة على الرأس.. يقال كر العمامة، وكورها، أي لفها على رأسه، حتى صارت مثل الكرة. وثالثها: أن هذه الصورة من التكوير، تشير إلى كروية الأرض، وإلى أن الليل والنهار يتحركان فوق كرة، أشبه بالعمامة التي تعلو الرأس. ورابعها: أن لفظ «يكور» يشير إلى أن الأرض متحركة، وأن هذا التكوير الذي يجرى على الكرة، إنما يقع حالا بعد حال، ووقتا بعد وقت.. وخامسها: تقديم تكوير الليل على النهار، إشارة إلى اتجاه حركة الأرض، بعد لإشارة إلى شكلها الكروي وإلى حركتها- فإن هذه الحركة من الغرب إلى الشرق، حيث يكون النهار أولا، ثم يتلوه الليل فيتكور عليه، ثم يعقبه النهار، فيعلوه متكورا عليه كذلك.. وهكذا.. قوله تعالى: «وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى» . أي وأجرى الشمس والقمر، وسخرهما بقدرته، وأقامهما على نظام محكم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1118 لا يخرجان عنه.. فلكلّ فلكه الذي يجرى فيه.. لا يتعداه.. وقوله تعالى: «أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ» .. إشارة إلى عزّة الله وقوته، وأنه القهّار الذي يخضع كل موجود لسلطانه.. ومن كان هذا شأنه فإن نسبة الولد إليه ضلال مبين، وسفه جهول.. لأن الولد إنما يسدّ نقصا، ويشبع رغبة، ويرضى عاطفة.. وتعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. والله سبحانه وتعالى مع عزّته وقوته، فهو غفار للسيئات، غفور للمذنبين، إذا هم تابوا إلى الله، واستغفروا لذنوبهم! «وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ» (135 آل عمران) قوله تعالى: «خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ.. يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ» هو كشف لوجه آخر من وجوه قدرة الله سبحانه.. تلك القدرة المتمكنة من كل شىء، المتصرفة فى كل شىء، المستغنية عن كل شىء.. ومن دلائل تلك القدرة خلق الناس جميعا من نفس واحدة، أي طبيعة واحدة، أو جرثومة واحدة، هى الجرثومة الأولى التي تخلّق منها الكائن الحىّ.. وفى قوله تعالى: «ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها» . إشارة إلى أمرين: أولهما: أن الجعل غير الخلق. فالخلق إيجاد للمخلوق، والجعل، إظهار لما فى المخلوق من خصائص، وإبراز ما اشتمل عليه من صفات.. وهذا مثل قوله تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها» .. وهذا يعنى أن الجرثومة الأولى للحياة، كانت ذكرا وأنثى معا.. ثم حصل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1119 التوالد بانقسام الكائن الحىّ على نفسه.. كلّ قسم يحوى جرثومة ذكرا وأنثى.. وهكذا تتوالد الخلايا بانقسامها على نفسها. وثانيهما: أن انفصال الذكر عن الأنثى جاء فى مرحلة متأخرة، بمعنى أنه كان بين الخلق والجعل آمادا طويلة، وأزمانا ممتدة، وهذا هو السرّ- والله أعلم- فى العطف بحرف «ثم» الذي يفيد الامتداد والتراخي فى الزمن. قوله تعالى: «وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ» . التعبير بالإنزال دون الخلق. إشارة إلى أنها نعم منزلة من عند الله.. وأن شأنها فى حياة الإنسان عظيم، أشبه بالغيث الذي ينزل من السماء.. والأنعام الثمانية، هى ما أشار إليها سبحانه وتعالى فى قوله: «ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ.. قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ، أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا» (143- 144: الأنعام) . فهى أربعة أصناف: الضأن، والمعز، والإبل، والبقر.. وكل صنف منها ذكر وأنثى، فهى ثمانية متزوجة، ذكر وأنثى. كلّ منها زوج للآخر.. وقوله تعالى: «يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ» .. أي أن هذا التوالد، هو خلق جديد لكل كائن يولد، وليس عملا آنيّا يتم بغير حساب وتقدير.. بل إنه ليس خلقا واحدا، وإنما هو خلق بعد خلق، وأطوار بعد أطوار، يلبسها الكائن إلى آخر مرحلة الخلق، حتى يستوى خلقه ويصبح على الصورة التي قدّر الله سبحانه إخراجه عليها.. وهذا الخلق يقع فى عالم خفىّ محجّب بحجب ثلاثة، تلفّه فى كيانها، واحدا بعد واحد.. هى البطن، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1120 فالرّحم، فالمشية التي يغلّف فيها الجنين داخل الرحم!! ففى هذا الكون الضيق المظلم، تجرى عمليات الخلق والتكوين، والتصوير، بيد المبدع، الخلاق العليم! وقوله تعالى: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ.. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ» . «ذلكم» إشارة إلى من خلق هذا الخلق وأبدعه، وأخرجه على هذا النظام المحكم.. واللام للبعد، وهى إشارة إلى علو مقام المشار إليه، وهو الله سبحانه.. والكاف حرف خطاب للمخلوقين.. فهذا الخالق العظيم، هو الله، وهو رب كل مخلوق، خلقا ورزقا، وهو المتفرد بملكية الوجود، وهو- سبحانه- بهذه الصفات، ينبغى أن يكون الإله المتفرد بالألوهة.. «لا إله إلا هو» .. تتجه إليه وحده الوجوه، وتفوض إليه وحده الأمور.. فإلى أين يولّى المشركون وجوههم، إذا هم صرفوها عن الله؟ إنه لا وجه إلا الضلال والخسران! قوله تعالى: «إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» . هو تعقيب على تلك الدعوة التي دعا بها الله سبحانه وتعالى عباده إليه بقوله تعالى: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» .. بعد أن بيّن لهم- سبحانه- آيات بينات من دلائل قدرته، وآثار رحمته.. فمن استجاب لهذه الدعوة، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1121 وآمن بالله إلها واحدا لا شريك له، فقد اهتدى إلى طريق الخير والفلاح، ومن كفر فإن الله غنىّ عن العالمين، لا ينفعه إيمان من آمن، ولا يضره كفر من كفر. «وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ» (12: لقمان) . «وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» أي لا تحمل نفس وزر نفس أخرى، بل «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» (38: المدثر) . - «ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» فلا تخفى على الله منكم خافية، فيجزى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.. وهنا أمور: فأولا: قوله تعالى: «وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ» : ما معنى رضا الله هنا؟ وإذا كان سبحانه لا يرضى شيئا فكيف يقع ما لا يرضاه؟ المراد بالرضا هنا، القبول، ويكون معنى أن الله لا يرضى لعباده الكفر، أنه- سبحانه- لا يقبله منهم، لأنه تعالى، طيب، لا يقبل إلا طيبا.. والكفر نجس، وخبث.. ووجه آخر فى هذه الآية: وهو أن المراد بالعباد هنا، هم المؤمنون، ولهذا أضافهم لله سبحانه وتعالى إليه فى قوله تعالى: «لعباده» ، ويكون معنى الرضا على حقيقته، وهو أن الله سبحانه لا يرضى لعباده الذين أراد لهم الإيمان أن يكفروا، فهو سبحانه يهديهم إلى الإيمان، وييسر لهم السبيل إليه- وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» (3: المائدة) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1122 وعلى هذا يكون قوله تعالى: «وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ» دعوة للمؤمنين- وكلهم عباد الله- أن يكونوا بالمكان الذي يرضاه الله لهم، ويقبله منهم، وأن ينأوا عما لا يرضاه الله لهم، فإنهم عباده! وثانيا: قوله تعالى: «وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ» . ما المراد بالشكر هنا؟ وهل هو الإيمان المقابل للكفر؟ أم هو أمر آخر وراء الإيمان؟ الشكر هنا- والله أعلم- هو أمر مترتب على الإيمان.. وهو مطلوب من المؤمنين الذين هداهم الله إلى الإيمان، ويسر لهم سبله.. فكانوا فى المؤمنين، ويجب بعد هذا أن يكونوا من الشاكرين، أن هداهم الله إلى الإيمان.. وثالثا: ماذا عن الذين كفروا؟ أرضى الله لهم الكفر، وذلك بمفهوم المخالفة لقوله تعالى: «وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ» - على أن المراد بعباده هم المؤمنون خاصة؟ الجواب- والله أعلم- أن كفر الكافرين وإن كان إرادة لله سبحانه فيهم، ومشيئة له غالبة عليهم- فإنه مطلوب منهم أن يعملوا إرادتهم، ويحركوا مشيئتهم إلى الإيمان، لأنهم لا يدرون ما إرادة الله فيهم ولا مشيئته بهم.. وتلك هى الحجة القائمة عليهم. أما أن مشيئة الله هى النافذة، وإرادته هى الغالبة، فهذا أمر لم يمنع العقلاء من أن يعملوا فى كل ميدان من ميادين العمل.. ثم هم صائرون حتما إلى مشيئة الله وقدره «لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ» (23: الأنبياء) . وهذا هو موضوع قد عرضنا له أكثر من موضع من هذا التفسير، وأفردناه ببحث خاص، تحت عنوان «القضاء والقدر «1» » .   (1) الكتاب الثامن ص 672 وما بعدها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1123 الآيات: (8- 18) [سورة الزمر (39) : الآيات 8 الى 18] وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9) قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) التفسير: قوله تعالى: «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1124 ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ» . خوله نعمة: أي ساق إليه نعمة، وألبسه إياها.. وأصل اللفظ من الخال الذي يزين المرأة.. ومن حق نعم الله التي تلبس عباده أن تكون زينة كمال وجمال لهم.. ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة عليها، قد حثّت عباد الله المؤمنين، على أن يطلبوا رضا الله بالشكر له، على ما أنعم عليهم من نعم، أجلّها الإيمان الذي هداهم إليه.. وفى المؤمنين، من لا يشكر الله، ولا يؤدى ما لنعم الله عليه من واجب الشكر للمنعم.. وفى المؤمنين، من لا يذكر الله وهو فى حال من النعمة والعافية، ولكن إذا مسّه ضر ضرع إلى ربه، ورجع إليه، ودعاه لكشف الضر عنه.. فإذا استجاب الله سبحانه له، وكشف ما به من ضر، نسى هذا الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه من قبل، ونسى ربه، وإحسانه إليه. وهذا الإيمان، على صورته تلك- هو ضرب من النفاق، وصورة من صور المكر بالله.. والله سبحانه وتعالى قد توعد الذين يمكرون بآياته، وفى هذا يقول سبحانه: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ، خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ.. ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ» (11: الحج) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1125 وقوله تعالى: «قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا.. إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ» - تهديد ووعيد بالعذاب الأليم فى الآخرة، لهذا الذي يعرف الله فى الشدة، وينكره فى الرخاء.. فهو فى الشدة يعرف ربّا يطرق بابه، وهو فى الرخاء لا يعرف وجه ربه.. وفى الأثر: «من عرف الله فى الرخاء عرفه الله فى الشدة» .. وحسن أن يعرف الإنسان ربه فى الشدة، ويفزع إليه، ويطرق باب فضله وإحسانه، ويدعوه لكشف الضر عنه.. فذلك من إيمان المؤمن بربه وثقته فيه، وطمعه فى رحمته.. وأحسن الحسن أن يعرف الإنسان ربه فى الرخاء، ويسبح بحمده، ويشكر له، ويذكر نعمه وإحسانه إليه.. فذلك إقرار من المؤمن بسلطان ربه، وبقيومته على هذا الملك، وعلى كل ما يجرى فيه.. وذلك هو الإيمان، وتلك هى حال المؤمن حقا، إن أصابه خير حمد وشكر، وإن أصابه ضرّ رضى وصبر، وفى الأنبياء والمصطفين من عباد الله الأسوة والقدوة.. والتمتع بالكفر، هو الحياة معه على ذلك الوجه الذي يزين فيه الكفر لأهله، كل منكر، فلا يتقيد صاحبه بأى قيد، ولا يرتبط بأى التزام أدبى، أو خلقى، أو إنسانى، قبل الله أو قبل الناس.. فليتمتع الكافر بهذه الحياة البهيمية التي يدعوه إليها كفره.. إنه من أصحاب النار.. وإنه لا بأس أن ينال من يقدّم للقتل ما تشتهى نفسه؟؟ قوله تعالى: «أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1126 رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ.. إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ» .. أي أهذا الذي يمكر بالله، فإذا أصابه ضرّ لجأ إليه، وإذا كشف الضرّ عنه نسى ربه، ومرّ كأن لم يدعه إلى ضرّ مسّه- أهذا، أم ذلك الذي هو على ذكر دائم لربه فى السراء والضراء جميعا؟ .. أهذا الذي لا يذكر ربه إلا عند الشدّة، أم هذا القانت فى محراب صلاته بين يدى ربه، القائم فى ولاء وخشوع، يقطع الليل ساجدا، وقائما، وهو بين خوف من عذاب الله، وطمع فى رحمته.. فإذا ذكر عذاب الله طلب السلامة من هذا العذاب بالاستغفار، وإذا ذكر رحمة الله، أنس بالرجاء فى مغفرته ورضوانه فلهج بالحمد والشكر؟ .. أيستوى هذا الحامد الشاكر فى السّرّاء والضراء، وهذا الجاحد الغافل؟ وفى توقيت القنوت بالليل، إشارة إلى المعاناة التي يجدها المؤمن فى طاعة ربه، حيث يهجر النوم بالليل ويقهر سلطانه.. وفى هذا يقول الله تعالى: «إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا» (6: المزمل) ويقول سبحانه فى الثناء على عبّاد الليل، وما لهم من جزاء عظيم عنده: «كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» (17- 18: الذاريات) . وقوله تعالى: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» .. كان مقتضى السياق أن تجىء المفاضلة بين المؤمن والكافر، أو بين من يذكر الله ومن لا يذكره، فيقال مثلا: هل يستوى المؤمنون الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1127 والكافرون؟ أو هل يستوى من يذكر الله ويشكر له، ومن يكفر بالله ويمكر به؟. ولكن جاءت المفاضلة بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون، للإشارة إلى أن العلم، هو الذي تقوم عليه قيم الناس، وتثقل أو تخفّ به موازينهم، فى أي أمر من أمور الدنيا، أو الدين.. ففى الإيمان بالله، تكون التفرقة بين المؤمن وغير المؤمن قائمة أساسا على العلم وعدم العلم، فمن آتاه الله علما، انكشف له بالعلم الطريق إلى الله، فآمن واتّقى.. وإنه بقدر علمه يكون مبلغ إيمانه وتقواه.. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» (28: فاطر) .. ومن جهل، فمن أين تأتيه المعرفة بربه؟ ومن أين يقع فى قلبه الخشوع لجلاله والولاء لسلطانه، والخشية من بأسه وعقابه، وهو لا يعرف لله جلالا، ولا سلطانا ولا بأسا؟. وليس المراد بالعلم هنا، هو العلم النظري التجريدى، وإن كان لهذا العلم خطره وأثره، فى توسيع المدارك، وشحذ الملكات، وإنما المراد هو العلم الذي يجلو عمى البصائر، ويرفع الغشاوة عن القلوب.. فهذا العلم هو ثمرة كل علم نافع، وحصيلة كل معرفة طيبة.. وقوله تعالى: «إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ» - هو تعقيب على هذا الحكم الذي تضمنه قوله تعالى: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» الذي يفرق بين من يعلم ومن لا يعلم.. فمن علم، كان ذا لبّ وفهم، وكان على بصيرة من أمره، فيتذكر ويتدبر، ويهتدى إلى الحقّ، وإلى سواء السبيل.. ومن جهل، كان فى ضلال وعمى، فلا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1128 يقف عند عبرة، ولا يلتفت إلى موعظة، بل يمضى فى طريق الضلالة إلى غايته.. والله سبحانه وتعالى يقول: «أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى.. إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ» (19: الرعد) . قوله تعالى: «قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ.. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ.. إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ» .. هو نداء من رب كريم إلى عباده الذين آمنوا به، واستجابوا لرسوله، بعد أن سمعوا آيات ربّهم، وعرفوا مواقع الحق منها.. وفى هذا النداء الكريم يستدعيهم ربهم إليه بالتقوى التي تقربهم منه، وتدنبهم من رحمته وإحسانه.. فالإيمان هو أول خطوة إلى الله.. والوقوف عند هذه الخطوة تقصير بالإيمان وتعطيل لمعطياته التي كان جديرا بالمؤمن أن يحصل عليها بإيمانه.. والعمل بهذا الإيمان، والغرس فى مغارسه هو الذي يحقق للمؤمن الوصول إلى الله، وإلى مواقع رحمته ورضوانه.. وفى هذا يقول سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ» (9: يونس) .. فالإيمان مصباح يضىء للمؤمن الطريق إلى ربه.. والعمل الصالح هو الزيت الذي يمدّ هذا المصباح بالوقود الذي تظلّ به شعلته متقدّة مضيئة أبدا.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1129 وقوله تعالى: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ» - إشارة إلى أن الأعمال، الحسنة، تعطى ثمرة حسنة معجلة فى هذه الدنيا إلى ما تعطيه من حسنات كثيرة فى الآخرة.. فالعمل الحسن هو حسن فى ذاته، لا يجىء منه إلا ما هو حسن.. وهذا من شأنه أن يضمن للمحسنين حياة طيبة معه فى الدنيا- مع صرف النظر- عما يكون له من آثار طيبة فيما وراء هذه الدنيا.. وبهذا. الحساب يرى المحسنون أنهم غير مغبونين فى تعاملهم بالإحسان فى دنياهم، وأنهم- وبصرف النظر عن الحياة الأخرى، وبمعزل عنها- ينالون بإحسانهم حياة طيبة، ويجدونها فى راحة الضمير، وصفاء النفس، وإن لم يجدوها فيما يحصّلون من متاع مادى، وشهوات عاجلة لا تلبث أن تخمد، فلا يجد المرء لها أثرا.. وفى إفراد كلمة «حسنة» وتنكيرها، إشارة إلى أن ما يجزى به المحسنون بإحسانهم فى الدنيا، هو قليل قليل بالإضافة إلى ما يجزون به فى الآخرة.. وقوله تعالى: «وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ» - إشارة إلى أن المؤمن قد لا يجد فى مكان ما سبيلا إلى العمل، وإلى الغرس فى مغارس الإحسان، حيث تكون الأرض التي يعيش فيها أرضا خبيثة، لا تمسك ماء، ولا تنبث نباتا.. وهنا ينبغى على المؤمن أن يتحول عن هذه الأرض، إلى غيرها، مما هو طيب صالح. فأرض الله واسعة، وكما أن فيها الخبيث النكد، ففيها الطيب الكريم.. وفى هذا، دعوة للمؤمنين الذين كانوا يعيشون فى مكة قبل الهجرة، محاصرين من المشركين، لا يستطيعون أن يعطوا إيمانهم حقه، ولا أن يفجروا ينابيع الخير منه- فى هذا دعوة لهم أن يتحولوا عن هذا الموقع من الأرض إلى أرض أخرى، حيث تطيب فيها مغارسهم، وحيث يرفعون مصابيح الهدى التي بين أيديهم، فتملأ الدنيا من حولهم هدى ونورا.. وقد كان، فهاجر المؤمنون الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1130 إلى المدينة، وفى هذا المكان الطيب من الأرض سطح نور الإسلام، ودخل الناس فى دين الله أفواجا.. وقوله تعالى: «إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ» - دعوة للمؤمنين إلى الصبر، الذي هو ملاك كل أمر يراد منه الخير الكثير الدائم الذي لا ينقطع.. إن كل ثمرة إنما تكون قيمتها بقدر ما يبذل فيها من جهد، وما يحتمل فى سبيلها من عناء ومعاناة.. ومن طلب ثمرة بلا عمل، فقد طلب ريّا من سراب! وفى قوله تعالى: «بِغَيْرِ حِسابٍ» - إشارة إلى أن جزاء الصبر جزاء عظيم، وأن ميزان العمل الذي يجىء فى أعقاب الصبر يرجح جميع الأعمال كلها، حيث ينال الصابر جزاء صبره، ما يشاء من فضل وإحسان، بلا حساب! قوله تعالى: «قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ.. وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ» هو بيان لحال النبي فى هذه الدعوة التي حملها إلى الناس من ربه، وأنه مأمور من الله، بما يأمر الله به عباده جميعا.. فهو والناس فى هذا الأمر السماوي على سواء، فلا استثناء لأحد فى هذا القانون، كما يقع ذلك فى القوانين الوضعية، التي ترفع السلطان عن الخضوع للقانون العام الذي تخضع له الرعية.. بل وأكثر من هذا، فإن صاحب الدعوة- صلوات الله وسلامه عليه- يتلقى هذه الدعوة من ربه فى صورة أمر وإلزام، على حين يتلقاها الناس مجرد دعوة لا إلزام فيها، ولا إكراه معها.. «إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ» . وفى قوله تعالى: «وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ» - إشارة إلى أن رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- هو أول المسلمين: خضوعا لسلطان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1131 الله، وامتثالا لأمره، يسلم إليه وجوده، وتخلص له ولاءه.. وأنه- صلوات الله وسلامه عليه- القدوة للمسلمين فى طاعة ربه، وفى اتقاء حرماته، وأنه- وهو سلطان المؤمنين- أكثر المؤمنين عبادة لله، واجتهادا فى عبادته، واتقاء لحرماته، وخوفا من عقابه.. إنه عبد من عباد الله. وأفضل عباد الله، وأكرمهم عنده، وأقربهم إليه، من كان أعرفهم به، وأكثرهم طاعة وولاء له.. فمن أراد من المؤمنين أن يكون أقرب إلى الله، فليكن فى طاعة لله، فإنه كلما ازداد طاعة ازداد قربا.. قوله تعالى: «قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» وشأن عباد الله فى طاعته، شأنهم فى معصيته.. فكما أنه من ازداد طاعة لله، ازداد قربا منه، كذلك من أقام أمره مع الله على معصيته، والخروج عن أمره، والاجتراء على محارمه- كلما ازداد معصية لله، ازداد بعدا عنه، وتعرضا لسخطه وعذابه.. حتى الأنبياء، وحتى سيد الأنبياء، رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- إنه لو عصى الله- وحاشاه- فهو محاسب بهذا الحساب.. وهكذا شريعة الله.. وهكذا عدل الله: «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» (31: النجم) قوله تعالى: «قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي.. فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ» هذا هو حال النبي- صلوات الله وسلامه عليه- مع ربه.. إنه على العبادة الخالصة لله، لا يلتفت إلى غيره. ولا يدين لسواه. أما أنتم أيها الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1132 المشركون فلكم ما تشاءون من معبودات تعبدونها من دون الله.. «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ» (6: الكافرون) فكلّ محاسب بما يدين به، وكل مجزىّ بما يعمل: «لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ» (25: سبأ) قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ.. أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ» إن العبرة فى الريح أو الخسارة، هى فى الحساب الختامى، الذي يسوّى فيه حساب الإنسان.. أما هذا الحساب اليومي فى هذه الدنيا، فإنه لا يكشف عن المركز الصحيح للإنسان.. هكذا يعرف الناس شئونهم فى هذه الدنيا. إنهم يقيمون موازين حياتهم لا على لحظه عابرة، ولا على يوم يعيشون فيه، وإنما ينظرون إلى الغد، وما بعد الغد.. وحياتهم الدنيوية، هذه- لو عقلوا- لحظة من لحظات حياتهم الممتدة إلى ما وراء هذه الحياة، وأنها ليست إلا يوما، أو بعض يوم.. وإنه لضلال مبين أن يقيم المرء حسابه كله على ميزان يوم أو بعض يوم، حتى إذا طلع عليه صح يوم جديد، ولم يكن قد عمل له حسابا، وجد نفسه ولا شىء معه. وهنا يكون الندم، ويكون الخسران.. والخاسرون حقا، هم أولئك الذين أقاموا ميزانهم على هذه الحياة الدنيا، ولم يجعلوا للآخرة حسابا.. إنهم يجيئون إلى الحياة الآخرة، وقد صفرت أيديهم من كل خير يجدونه فى هذا اليوم، بل سيجدون ديونا كثيرة هم مطالبون بها، ولا يقدرون على أداء شىء منها، إلا الحبس فى جهنم، وفاء لهذه الديون! والسؤال هنا: إذا خسر المجرمون أنفسهم، وأوردوها موارد الهلاك يوم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1133 القيامة، فكيف تكون خسارتهم لأهليهم فى هذا اليوم؟ والجواب- والله أعلم- من وجهين: الوجه الأول: أن أهل الضلال لا يلتقى بعضهم ببعض يوم القيامة إلا على عداوة وخصام، وإلا على قطيعة ونفور.. كما يقول الله تعالى: «ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ» . (25: العنكبوت) . فأهل الضلال بعضهم فتنة لبعض، ومن هنا يقع بينهم يوم القيامة هذا الخصام، وتلك العداوة، ومن هنا يلتفت الضالّ، فلا يجد حوله فى جهنم إلا وجوها كالحة تلعنه، وترمى إليه بالعداوة، ممن كانوا هم أقرب الناس إليه فى الدنيا من أهل وصديق. والوجه الثاني: أن خسارة الضال لأهله يوم القيامة، هو تفرقهم عنه، فلا يلتقى بهم إذا كانوا فى الجنة، أما إذا كانوا فى جهنم فإن لقاءه بهم حسرة وبكاء وعويل.. على خلاف لقاء المؤمنين، حيث يجمعهم الله بأهليهم، وبإخوانهم من أهل الجنة، فيتضاعف لذلك سرورهم، نعيمهم، كما يقول سبحانه: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» (21: الطور) وكما يقول سبحانه عن أهل الإيمان: «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ» (70: الزخرف) . قوله تعالى: «لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ.. ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ.. يا عِبادِ فَاتَّقُونِ» هذا هو الذي يلقاه أهل الضلال فى الآخرة تغشاهم النار، وتشتمل عليهم، من فوقهم، ومن تحت أرجلهم.. كما يقول سبحانه: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1134 «لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ» (41 الأعراف) والظلل جمع ظلة، وهى ما يستظل به وفى التعبير عن النار بالظلل، مع أن الظلل يتقى بها وهج الشمس- إشارة إلى أن النار المسلطة على أهل النّار لا تتّقى هناك إلا بنار من النار.. إذا استصرخ أهلها، كان الصريخ لهم بعضا منها، وقطعا من شواظها.. وفى هذا بلاء إلى بلاء، وعذاب إلى عذاب.. حيث تتضاعف البلوى بهذا الطارق الجديد، الذي كان موضع أمل ورجاء.. وفى هذا يقول المتنبئ: إذا استشفيت من دء بداء ... فأقتل ما أعلّك ما شفاكا والظلل التي من تحت أهل النار هى نار، يمشون على شواظها، فلا ينتقلون إلا من نار إلى نار، فحيثما وضعوا أرجلهم كانت النار تحتها، فلا ظلّ يمشون عليه إلا هذه النار الجاحمة التي يضعون أقدامهم عليها. وقوله تعالى: «ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ» .. أي هذا العوض لأهوال جهنّم- أعاذنا الله منها- وما يلقى فيها أهلها من هذا العذاب الأليم- هو تحذير من الله لعباده، وتخويف لهم من هذا المورد الوبيل، وهم فى هذه الدنيا، ليأخذوا لذلك حذرهم، وليعملوا على توقّيه، بالإيمان بالله واتقاء محارمه، ولهذا جاء قوله تعالى: «يا عِبادِ فَاتَّقُونِ» تعقيبا على هذا التحذير، وإلفاتا إلى طريق السلامة والنجاة من هذا البلاء الراصد، وذلك بتقوى الله. فالتقوى هى مركب النجاة من هذا الطوفان الجهنّمى، الذي يحتوى بأمواجه المتلاطمة كلّ من لم يكن فى هذا المركب! وفى قوله تعالى: «يا عِبادِ» نداء من رب كريم إلى عباده، ليأخذوا طريقهم إليه سبحانه وتعالى، حيث الأمن والسلامة والنعيم والرضوان. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1135 والفاء فى قوله تعالى: «فَاتَّقُونِ» هى فاء الفصيح، والتفريع، وهى تفصح عن كلام محذوف.. أي قد بينت لكم ما ينتظر الذين لا يؤمنون بي، ولا يتقون محارمى، من بلاء شديد وعذاب أليم، فاتقون، أنتم حتى لا تقعوا تحت طائلة نقمتى وعذابى.. قوله تعالى «وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ.. لَهُمُ الْبُشْرى.. فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ» هو تعقيب أيضا على هذا العرض الذي عرضت فيه جهنم وأهلها، وما يلقون فيها.. وفى هذا التعقيب بيان شارح للطريق الذي يعدل بالناس عن الطريق الجهنمى، إلى طريق النجاة والفوز بجنات النعيم.. فمن اجتنب الشرك بالله، وأخلى يديه، وقلبه، من هذه المعبودات المخلوقة لله، أو المصنوعة بأيدى الناس- من اجتنب هذه المعبودات ابتداء، أو تاب إلى الله من بعد شركه، وأخلص لله عبادته، فله البشرى بالنجاة والفوز برضوان الله.. وقوله تعالى: «فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ» أي أن هذه البشرى بالنجاة والفلاح إنما ينالها عباد الله الذين يستضيئون بنور الله ويتدبرون ما يقع لأسماعهم من كلمات، فيميزون الخبيث من الطيب، والضلال من الهدى، ثم يؤدّيهم هذا إلى أن يستجيبوا لكل ما هو طيب، وأن يتبعوا كل ما هو هدى ورشاد.. فإنهم إن فعلوا ذلك كانوا من عباد الله المهتدين، الذين إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه، وأخذوا طريقهم المستقيم، السالك بهم إلى جنات الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1136 النعيم.. ثم كانوا مع هذا- أو قبل هذا- أصحاب عقول، يعيشون بها فى صورة بشرية كريمة.. والطاغوت: هو كل ضلال.. وأصله من الطغيان، الذي يعدل بصاحبه عن طريق الحق والخير، إلى متاهات الضلال والهلاك.. وفى التعبير عن الضلال بكلمة «الطاغوت» - تشنيع على الضلال، وعرض له فى تلك الصورة، التي تتمثل فى هذه الأحرف المتنافرة، التي تشكلت منها هذه الكلمة، كما يتشكل الضلال من وجوه الآثام والشرور.. وقوله تعالى: «أَنْ يَعْبُدُوها» مصدر مؤوّل، وقع بدلا من الطاغوت فى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ» .. أي اجتنبوا عبادة الطاغوت.. وفى تأنيث الطاغوت، إثارة لمشاعر البغضاء والكراهية، التي عند الجاهليين للأنثى، ليلتقوا بهذه المشاعر مع معبوداتهم، ولينظروا إليها فى صورة أنثى يعبدونها، ويخرون للأدقان سجّدا بين يديها.. وهكذا من المتناقضات التي تعيش فى عقولهم الفاسدة، إذ كيف يستقيم لذى عقل أن يحقر الأنثى، ويكره وجهها فى صورة ابنة هى فلذة من كبده، ثم إذا هو عبد ذليل بين يدى أنثى سوّها بيده من، حجر، أو خشب؟. الآيات: (19- 26) [سورة الزمر (39) : الآيات 19 الى 26] أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1137 التفسير: قوله تعالى: «أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ» ؟. هو تهديد ووعيد لأولئك الذين استولى الضلال عليهم، فحجب عقولهم عن رؤية النور الذي يشعّ من حولهم، وأصمّوا آذانهم عن داعى الهدى الذي يدعوهم إليه، ليخرجهم مما هم فيه من ضلال.. والخطاب لرسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- وأنه لا يملك الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1138 أن يردّ قضاء الله، فى هؤلاء المشركين، الذين حقّت عليهم كلمة العذاب، وأنهم من أصحاب النار، فليدعهم الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- لمصيرهم هذا، بعد أن أعذر إليهم، وبلّغهم رسالة ربه.. وقوله تعالى: «أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ» استفهام يراد به النفي، وهو جواب للشرط قبله.. «أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ» أي أفمن حق عليه كلمة العذاب، ينتفع بالهدى الذي بين يديك أيها النبىّ، ويتحول من الشرك إلى الإيمان؟ ذلك محال.. «أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ» ؟ إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب.. قوله تعالى: «لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ» هو إشارة إلى أن قضاء الله فى خلقه، ليس حجة لأهل الضلال على ما هم فيه من ضلال، وأن عليهم أن يعملوا بمعزل عما لله من مشيئة فيهم، لأنهم لا يدرون ما تلك المشيئة. فهؤلاء المؤمنون من عباد الله، المتقون لحرماته، قد أخذوا بالأسباب التي من شأنها أن تدنيهم من الله، وتبلغ بهم منازل رضوانه، دون أن يعلموا مشيئة الله فيهم. ولكنهم مع هذا قد أخذوا بالأسباب.. إنهم لم يستسلموا للقدر إلا وهم على طريق العمل.. وهذا هو ما يقضى به العقل.. إن العاقل لا يلقى بنفسه بين مخالب حيوان مفترس، أو يضع يده فى فم حيّة.. بل إنه ليفر من وجه هذا الخطر، وإن كان هذا لا يمنع القدر المقدور له! .. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1139 إن الجنة لا يدخلها إلا مؤمن.. فمن كان على غير الإيمان، وطلب الجنة فقد غبن نفسه، وأضلّها وغرّر بها.. فليطلب المرء رضوان الله من بابه، وهو الإيمان.. ثم يدع ما وراء ذلك، فإن كان ممن أراد الله لهم الهدى والرشاد، أذن له بالدخول، ووفّقه للعمل الصالح، وإن كان ممن أراد الله له الضلال والشقاء، حجبه عنه، وحلّى بينه وبين ما هو فيه من ضلال! .. إن المرء لا يحاسب على إرادة الله فيه، وإنما يحاسب على إرادته هو لنفسه، على ما تجرى عليه أموره فى الدنيا.. فهو إن سرق أخذ بجريرة السرقة، وإن قتل أخذ بمن قتل.. وهكذا.. إن العقل يقضى بأن يسأل الإنسان نفسه إزاء كل أمر يعرض له: ماذا أريد، لا ماذا يريد الله بي، أولى؟ لأنه يعرف يقينا ماذا يريد هو، ولا يعرف قطعا ماذا يريد الله به، أوله.. وفى وصف الغرف بأنها مبنية- إشارة إلى أنها ثابتة، تطيب فيها الحياة بالسكن والاستقرار. وأنها ليست خياما مضروبة، لا يستقر المقيم فيها إلا ريثما يتحول بها إلى أماكن أخرى.. ونعود مرة، بعد مرة، لنقرر أن هذه الصور التي لنعيم الجنة، مما هو من حياة البادية ومطالب النفس فيها- هذه الصور، هى مما يشتهيه أهل الجنة الذين حرموا منه فى دنياهم، وقصرت أيديهم عن تناوله، فهى بالنسبة للمحرومين منها نعيم عظيم، لا يكمل نعيمهم إلا بتحقيقه، وإن كان لا يعدّ شيئا إلى ما فى الجنة من ألوان النعيم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1140 وقوله تعالى: «وَعْدَ اللَّهِ» منصوب على الإغراء، أي انتظروا وعد الله، أو صدّقوا وعد الله. قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ» .. هو عرض لقدرة الله، وتذكير بآلائه، ونعمه على عباده.. فهذا الماء، ينزل من السماء بقدرة القادر، ثم يأخذ مسالكه فى ظاهر الأرض، وباطنها، فيكون على ظهر الأرض جداول وأنهارا، ويكون فى باطنها شرايين، تتجمع، ثم تتفجر منها العيون، ومن ماء الأنهار والعيون، يخرج الزرع مختلف الألوان، والثمار.. وهذا الزرع يأخذ دورة فى الحياة كدورة الكائن الحي، ينتقل من طور الطفولة إلى الشباب، فالكهولة، فالشيخوخة، فالموت.. وهيجان النبات: فورانه، وبلوغ أشدّه.. أشبه بفوران الشباب وهيجانه.. وفى العطف بالفاء فى قوله تعالى: «فَتَراهُ مُصْفَرًّا» . إشارة إلى قصر الزمن بين شباب الزرع وشيخوخته.. وفى العطف بثم فى قوله تعالى: «ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً» - إشارة إلى الزمن بين اصفرار النبات، وجفاف ماء الحياة منه، وهو زمن أطول بالنسبة إلى الزمن بين هيجانه واصفراره.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1141 والحطام: القطع المحطمة من كلّ شىء قابل للكسر.. مثل حطام الآنية، أو قطع الخشب ونحوها، وهذا ما يكون من النبات بعد أن يجفّ وييبس. وقوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ» .. إشارة إلى أن هذه المشاهد التي تعرضها الآية الكريمة لقدرة الله، لا يراها، ولا يذكر ما فيها من دلالات دالة على تلك القدرة، إلّا أصحاب العقول السليمة، التي لم يغطّ عليها الجهل والضلال.. قوله تعالى: «أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ.. فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ. فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» . جواب الشرط (من) محذوف دل عليه المقام، وتقديره: أيستوى من شرح الله صدره للإسلام، فأشرقت نفسه بنور الحق، واستبان له الطريق إلى الله، ومن ختم الله على قلبه، فلم يقبل ما ساق الله إليه من نور، فضلّ سواء السبيل؟ وهذا مثل قوله تعالى: «أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» (14: محمد) . قوله تعالى: «فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ» .. تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين الضالين، الذين إذا ذكرّوا بآيات ربّهم اشمأزّوا ونفروا.. وهذا هو بعض السر فى تعدية اسم الفاعل «قاسية» بحرف الجرّ (من) وذلك لتضمنه معنى (نافرة) ، أي فويل للنافرة قلوبهم من ذكر الله.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» : (45: الزمر) .. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1142 قوله تعالى: «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» . هو إلفات إلى نعمة جليلة من نعم الله، إلى جانب ما ينزل سبحانه من نعم.. فهو سبحانه الذي أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وأخرج منها حبّا ونباتا، تغتذى منه الأجسام، وإنه يغير هذا الماء، وبما يخرج من الأرض من ثمرات، لا يكون للإنسان ولا لكائن حىّ حياة.. ثم هو سبحانه بعد أن كفل للإنسان حياته، وللجسم حاجته- أنزل له من السماء ما يحيا به الجانب الروحىّ منه.. فالإنسان ليس جسدا وحسب، مثل سائر الأحياء، وإنما هو جسد وروح، وهو بهذا الجسد وحده حيوان، ولا تتحقق إنسانيته إلا بالجسد والروح معا.. وقوله تعالى: «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ» .. هو بيان للغذاء الروحي الذي أنزله الله، وهو القرآن الكريم.. إنه حديث الله إلى عباده، وكلماته إليهم.. فأى حديث أحسن من حديث الله؟ وأي كلام أكرم وأطيب من كلامه؟. وقوله تعالى: «كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ» .. هو بدل من قوله تعالى: «أَحْسَنَ الْحَدِيثِ» .. وهو وصف لأحسن الحديث، وبيان له.. فأحسن الحديث، هو هذا الكتاب، أي القرآن الكريم، وهو كتاب متشابه فى جلال قدره، وعلوّ منزلته، وسموّ معانيه.. إنه الحق فى آياته وكلماته.. فهو على درجة واحدة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1143 فى كماله وجلاله، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» : (82: النساء) . والمثاني: جمع مثنى، وذلك بما فيه من بيان للأمور وأضداد. كالإيمان والكفر، والحق والباطل، والهدى والضلال، والخير والشر، والحسنات والسيئات، والجنة والنار.. والقرآن الكريم فى الحالين، هو على مستواه العالي من الكمال والجلال.. فالحديث عن الكفر مثلا، معجز إعجاز الحديث عن الإيمان، لأن هذا وذك من كلام الله.. وقوله تعالى: «تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ» . الاقشعرار، والقشعريرة، حال تعترى الجسد من أثر رهبة أو خوف، فيموج الجلد بموجات أشبه بمسّة الكهرباء. واقشعرار جلود الذين يخشون ربّهم من هذا الحديث المنزل من عند الله، هو لما يقع فى قلوبهم من رهبة وجلال لما يسمعون من كلام الله، الذي يقول الله سبحانه وتعالى فيه: «لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» (21: الحشر) . فإذا نزل هذا القرآن على القلوب المؤمنة اهتزت لجلاله، وزلزلت أقطارها لرهبته.. أما غير المؤمنين، الذين لا يعرفون الله ولا يقدرونه قدره، فلا تلمس قلوبهم نفحة من آيات الله، ولا تصوبها قطرة من سماء كلماته.. وقوله تعالى: «ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ» إشارة إلى حال أخرى من أحوال المؤمنين الذين يخشون ربّهم فى لقائهم مع آيات الله.. إنهم فى أول لقائهم مع آيات الله، وفى مفتتح كلّ اسّماع إليها، تغشاهم حال من الخوف والرهبة، فتقشعرّ لذلك جلودهم.. ثم إذا هم أطالوا النظر فى آيات الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1144 الله، وامتدّ جلوسهم فى حضرتها، أخذ هذا الخوف وتلك الراهبة يزايلانهم شيئا، شيئا، حيث تعلوهم السكينة وتظللهم الطمأنينة ويغشاهم الأنس، فتسكن قلوبهم الواجفة، وتهدأ أوصالهم الراجفة، وإذا جلودهم التي علتها أمواج القشعريرة، وشدّتها رعدة الخوف، قد استرخت ولانت! وفى تعدية الفعل «تلين» بحرف الجرّ إلى- إشارة إلى تضمين الفعل معنى الميل، بمعنى أن قلوبهم تميل وتهفوا إلى مواصلة الحياة مع كتاب الله.. وقوله تعالى: «ذلِكَ هُدَى اللَّهِ» الإشارة إلى القرآن الكريم، وأنه هدى الله، الذي أنزله على رسوله، ليكون هدى للعالمين.. وقوله تعالى: «يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ» .. أي أن هذا الهدى لا يهتدى به إلّا من وفّقه الله، وشرح صدره للإيمان.. وقوله تعالى: «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» .. أي أمّا من أضلّه الله وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة- فلن يهتدى أبدا، ولن تجدى معه الحجج التي تساق إليه.. «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً» (17: الكهف) قوله تعالى: «أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ.. وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ» . أي أفمن يلقى فى جهنم فيتقيها بوجهه، كمن عافاه الله من هذا البلاء، وقيل له ادخل؟ الجنة كلّا.. «لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ.. أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ» (20: الحشر) . وقوله تعالى: «وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ» معطوف على الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1145 محذوف، هو بيان لحال المؤمنين الذين اتقوا سوء العذاب بإيمانهم، فقيل لهم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون، «وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ» . وفى اتقاء العذاب ودفعه بالوجه، إشارة إلى شدّة هذا العذاب، حتى أن الوجه الذي تقوم جوارح الإنسان على حراسته ودفع الأذى عنه، يصبح هو لذبّة التي يذبّ بها هذا العذاب. قوله تعالى: «كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ» . هو مواجهة للمشركين بما ينتظرهم من عذاب مباغت، يطلع عليهم من حيث لا يشعرون، كما وقع ذلك للذين كذبوا رسل الله من قبلهم.. فتلك هى عاقبة المكذبين، ولن يفلت هؤلاء المشركون من هذه العاقبة.. قوله تعالى: «فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» . هو بيان للعذاب الذي حلّ بالمكذبين.. إنه عذاب فى الدنيا، بما أصابهم فى أنفسهم وأهليهم وأموالهم، وعذاب فى الآخرة، حيث تكون النار مأواهم.. وهذا العذاب الأخروى أكبر من كل عذاب يراه الناس فى هذه الدنيا.. ولكن المكذبين فى غفلة من هذا، فهم لا يعلمون سوء هذا المصير الذي ينتظرهم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1146 الآيات: (27- 31) [سورة الزمر (39) : الآيات 27 الى 31] وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) التفسير: قوله تعالى: «وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» . المراد بالناس هنا، هم المشركون، الذين ووجهوا بالرسالة الإسلامية.. ثم هو خطاب عام للناس جميعا إلى آخر الدهر.. وقوله تعالى: «مِنْ كُلِّ مَثَلٍ» أي من كل مثل فيه عبرة وعظة.. قوله تعالى: «قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» . قرآنا: منصوب على المدح، وعربيا صفة لقرآن، وغير ذى عوج صفة ثانية له.. أي أن هذا القرآن الذي ضرب الله سبحانه فيه الأمثال للناس، هو قرآن عربّى مبين، واضح المعنى، بيّن الدّلالة، ليس من سجع الكهان، ولا من رطانة الرهبان.. وقوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» هو تعليل لنزول القرآن بلسان عربّى مبين، فبهذا اللسان العربىّ المبين، يقع منه العلم، ومن العلم يكون الإيمان والتقوى، ومثل هذا قوله تعالى: «وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1147 وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً» : (113: طه) . قوله تعالى: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا.. الْحَمْدُ لِلَّهِ.. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» . هذا المثل، هو من تلك الأمثال التي ضربها الله سبحانه وتعالى للناس فى القرآن.. وفى هذا المثل تعرض صورة لرجلين مملوكين.. أمّا أحد الرجلين فهو فى ملكة شركاء، متشاكسين، أي مختلفين طباعا، ونوازع، وتفكيرا.. فهم على خلاف فى أمر هذا الرجل المملوك لهم.. هذا يأمره بأتيان أمر، وهذا ينهاه عن إتيان هذا الأمر.. وثالث يطلب منه عملا، ورابع يطلبه فى نفس الوقت لعمل.. وهكذا يصبح هذا الإنسان موزّع المشاعر، ممزّق الكيان.. لا يدرى ماذا يأخذ وماذا يدع، ولا يستطيع أن يقرر أيتقدم أم يتأخر.. إنه ريشة فى مهبّ ريح هوجاء.. وأما الرجل الآخر فهو فى ملك يد واحدة.. فهو مع مالكه على أمر معلوم، ووجه مفهوم.. إنه يجد كيانه كلّه حاضرا معه، أينما أقبل أو أدبر.. فهل يستوى هذان المملوكان فى حظهما من الحياة؟ إن الأول شقىّ، تمزّقه الأيدى الممسكة به، والمختلفة فيه.. كلّ يد تريد أن تذهب به مذهبا.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1148 أما الآخر، فهو على حال من الأمن والاستقرار.. ومن هذا المثل تبدو العبرة والعظة لمن اعتبر واتعظ. فالذى يعبد آلهة شتى، هو صورة من هذا الرجل الذي تملكه تلك الأيدى الكثيرة المتشاكسة.. إنه يقطع أنفاسه لاهثا، وراء كل إله يريد أن يكسب رضاه، بالملق والرياء، والدّس على الآلهة الآخرين.. وأما الذي يعبد إلها واحدا، هو الله ربّ العالمين، فهو صورة لهذا الرّجل الذي هو سلم لرجل، أي خالص له، لايدين بالولاء لغيره.. إنه إذ يعبد الله وحده، فهو على حال من الأمن والطمأنينة، مادام مطيعا له، مخلصا فى عبادته. وقوله تعالى: «الحمد لله» .. هو التعقيب على هذا المثل، الذي تنكشف به الطريق إلى الحق، وإلى الإيمان بإله واحد لا شريك له.. وهذا الحمد، هو منطق كل مؤمن، ولسان كل عاقل، نظر فى هذا المثل، وأخذ العبرة منه.. قوله تعالى: «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» - هو إضراب عن الحمد المطلوب من المشركين والضالين، والذي يقتضيه العقل منهم، وهم فى مواجهة هذا المثل المضروب.. فالناس جميعا مطالبون من عقولهم بأن يحمدوا الله الذي ضرب لهم الأمثال، ليبين لهم الطريق إلى الحق والخير.. ولكن أكثر الناس، - وهم أهل الضلال والشرك- لا يعلمون شيئا، ومن ثم فلا يحمدون الله على هذا المثل المضروب لهم، إذ لم يعلموا ما ينطوى عليه من هدى ونور. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1149 قوله تعالى: «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ» هو إحالة لما بين النبي- صلوات الله وسلامه عليه- وبين المشركين، إلى ما بعد هذه الحياة الدنيا، إذ قد استنفد النبي جهده معهم، فى إبلاغهم رسالة ربه إليهم، كما استفرغوا هم جهدهم معه، فيما كانوا يرمونه به من ضر وأذى، وفيما كانوا يكيدون له وللمؤمنين معه.. وفى قوله تعالى: «ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ» - إشارة إلى أن هذا الموت المقضىّ به على النبىّ وعلى الناس جميعا، ومنهم هؤلاء المشركون- هذا الموت ليس هو خاتمة الأمر بينه وبينهم، وإنما هو بدء مرحلة جديدة، يكون فيها الفصل بينه وبينهم فيوفىّ كلّ جزاءه.. وفى التسوية بين النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- وبين الناس، فى الموت، ثم فى التسوية بينه وبينهم فى مجلس القضاء والفصل بين يدى الله- فى هذا إشارة إلى أن الناس جميعا على سواء عند الله، وإنما هى أعمالهم التي تنزلهم منازلهم عنده.. «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها» (46: فصلت) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1150 الآيات: (32- 40) [سورة الزمر (39) : الآيات 32 الى 40] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40) التفسير: قوله تعالى: «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ.. أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ» مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الله سبحانه وتعالى قد أنذر المشركين بالموت، المقضىّ به على الناس جميعا فى هذه الدنيا، ثم أنذرهم بالحساب، المحكوم به على الناس جميعا فى الآخرة.. ثم جاءت هذه الآية لتكشف الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1151 للمشركين عن المصير الذي هم صائرون إليه يوم الحساب، وهو مصير مشئوم، حيث تكون النار هى مثواهم.. والاستفهام فى قوله تعالى: «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ» - مراد به النفي، أي أنه لا أظلم ممن جمع بين هذين المنكرين، وهما الكذب على الله، بنسبة الولد إليه، أو اتخاذ تلك المعبودات التي عبدوها شفعاء عنده.. ثم التكذيب بالصدق، وهو القرآن الذي أنزله الله على النبي، فما كان قولهم فيه إلا أنه حديث مفترى، وأنه أساطير الأولين اكتتبها محمد، وتلقاها من علماء أهل الكتاب.. فهؤلاء الذين كذبوا على الله، وكذّبوا بالحق الذي بين أيديهم- هم أكثر الظالمين ظلما، لأنهم قطعوا على أنفسهم كل عذر يعتذرون به عن هذا الكفر الذي هم فيه. وذلك أنه إذ كان لهم عذر بالكذب على الله لجهلهم، فإنه لا عذر لهم بتكذيب الحقّ الذي جاءهم.. إذ كان من البيان والوضوح بحيث لا يكذّب به إلا كل معاند مكابر.. قوله تعالى: «أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ» - هو استفهام يراد به الإثبات، على طريق الإلزام والتوكيد، حيث لا جواب لهذا الاستفهام إلا التسليم بالمستفهم عنه، وإلا أن يجيب المستفهم منه بقوله: «بلى فى جهنم مثوى للكافرين» .. فهى منزلهم المعدّ لهم، لا منزل لهم سواه.. قوله تعالى: «وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» الذي جاء بالصدق، هو رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- والصدق الذي جاء به، هو القرآن الكريم، الذي تلقاه وحيا من ربه.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1152 والذي صدق بهذا الصدق هم المؤمنون.. وقوله تعالى: «أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» هو وصف شامل، للذى جاء بالصدق، وللذين صدّقوا به.. وفى الإشارة إليهم بقوله تعالى: «أُولئِكَ» - إشارة إلى علو منزلتهم، وأنهم بهذا المقام العالي الذي تتقطع دونه الأعناق.. وفى ضمير الفصل «هم» - إشارة أخرى إلى اختصاصهم وحدهم بهذا المقام الرفيع الكريم الذي هم فيه.. قوله تعالى: «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ.. ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ» . هو بيان لما يلقى هؤلاء المتقون من أجر عظيم، ورزق كريم، وهم فى هذا المقام الرفيع الذي هم فيه «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ» .. حيث يجدون كل ما يشتهون من نعيم الجنة، حاضرا بين أيديهم.. وقوله تعالى: «ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ» - إشارة إلى أن هذا الذي للمتقين عند ربهم من فضل وإحسان، هو الجزاء الذي يجزى الله به المحسنين من عباده.. كما يقول سبحانه: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ، وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (26: يونس) . قوله تعالى: «لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ» .. هو تعليل لهذا الجزاء الذي يجزاه المحسنون من الله.. وهو جزاء الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1153 يضاعف فيه الإحسان إلى المحسن، حتى ليسأل السائلون: ما بال هؤلاء المحسنين يجزون الحسنة أضعافا مضاعفة، على حين يجزى المسيئون السيئة بمثلها؟ أليس العدل يقضى بالتسوية فى الجزاء، فيجزى المحسنون الحسنة بالحسنة، كما يجزى المسيئون السيئة بالسيئة؟ فيجاب على هذا التساؤل: إن جزاء السيئة بالسيئة، عدل، وإن جزاء الحسنة بأضعافها، إحسان.. فالمسيئون مأخوذون بعدل الله، والمحسنون مجزيّون بإحسانه، وذلك «لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا» أي بهذا الإحسان المضاعف يمحو الله عنهم أسوأ ما فى صحفهم من أعمال، وهى السيئات التي تقع منهم وهم على طريق الإحسان، حتى تصبح صحفهم كلها إحسان، فيكون جزؤهم الإحسان بهذا الإحسان.. وهذا مثل قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ» (16: الأحقاف) .. قوله تعالى: «أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» . الكافي: الكافل: والحافظ.. وعبده: هو رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه.. وفى الإشارة إلى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، بضمير الغيبة دون ذكره.. تنويه بشأنه وإعلاء لذكره، وأنه- صلوات الله وسلامه عليه- هو وحده المعنىّ بهذا الحديث، وأنّه وحده الجدير بهذه الإضافة بالعبودية الخالصة إلى ربّه.. والاستفهام هنا، للوجوب.. أي أن الله سبحانه وتعالى، هو الذي يكفى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1154 عبده محمدا ويكفله، ويحفظه من كل سوء يراد به.. إذ كيف يعجز سبحانه عن أن يحمى حماه هذا، ويدفع المكروه عنه؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.. وقوله تعالى: «وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ» .. هو معطوف على مضمون قوله تعالى: «أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ» - أي الله هو الذي يرعاك ويحفظك، والمشركون يخوفونك بآلهتهم، وما يقدّرون أن يلحقوه بك من سوء.. فهل يقع فى نفسك شىء من هذا الخوف الموهوم، وأنت فى حراسة الله ورعايته؟ .. وقوله تعالى: «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» أي هذا ضلال من ضلال المشركين، إذ يحسبون أن آلهتهم تلك تملك ضرّا أو نفعا.. إنهم فى ضلال مبين. فقد أضلهم الله وطمس على عقولهم، فلم يروا إلا ظلاما وضلالا: «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» . وقوله تعالى: «وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ.. أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ» .. أي الله سبحانه وتعالى، هو وحده، الذي يملك الضرّ والنفع.. وهو سبحانه الذي أضلّ هؤلاء المشركين، وهو سبحانه الذي هدى المهتدين. وأن آلهتهم تلك لا تملك من هذا الأمر شيئا، فلا سبيل لها إلى هداية عابديها الذين أضلهم الله، كما لا سبيل إليها إلى ضلال المؤمنين الذين يحقرونها ويستخفّون بها.. «أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ» فيحمى بعزته أولياءه «ذى انتقام» «ينتقم لأوليائه ممّن يكيدون لهم؟ بلى.. إنه سبحانه عزيز بعز بعزّته من يلوذبه، ذو انتقام، ينتقم بقوته ممن يخرجون عن طاعته، ويؤذون أولياءه، وأهل ودّه.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1155 قوله تعالى: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ.. قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ.. قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ.. عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ» أي أن هؤلاء المشركين الذين يتهدّدون النبىّ صلوات الله وسلامه عليه.. ويخوفونه بآلهتهم، وما يمكن أن يريدوه به من سوء، إذا هو أصرّ على إعراضه عنها، أو التعرض لها- هؤلاء المشركون إذا سئلوا عمن خلق السموات والأرض، ما كان لهم جواب إلّا أن يقولوا، خلقهن الله.. إذ كانت هذه الحقيقة من الجلاء والظهور، بحيث لا يستطيع مكابر أو معاند أن ينكرها، فهى من الأمور المسلّمة التي لا اختلاف عليها. وقد كان مقتضى هذا التسليم بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض- أن يقيم للمشركين منطقا سليما مع اعتقادهم فى الله، فلا يجعلوا لغيره شركة معه فى تصريف هذا الوجود، وفيما يجرى فيه.. ولكنهم- مع تسليمهم بهذا السلطان المطلق لله- يجعلون لآلهتهم شركة معه فى تدبير هذا الملك، وسلطانا مع سلطانه فى تصريفه.. وفى قوله تعالى: «قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ؟» .. هذا هو السؤال المطلوب من المشركين أن يعطوا له جوابا.. هل هذه الآلهة التي يتهددون بها النبىّ تملك ضرّا أو نفعا؟ وهل لها إرادة مع إرادة الله، وسلطان مع سلطانه؟ وهل إذا أراد الله بالنبيّ ضرّا هل يمكن أن تردّه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1156 عنه؟ وهل إذا أراد الله بالنبي خيرا ورحمة، هل تستطيع أن تمسك هذا الخير وتلك الرحمة عنه؟ إن يكن ذلك مما يقولون، فكيف يتفق هذا مع تسليمهم بأن الله خالق السموات والأرض؟ وهل من يخلق السموات والأرض يكون مقهورا من تلك الدّمى التي يعبدونها؟ أيتفق هذا مع ذاك؟. وقوله تعالى: «قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ» هو أمر للنبى بما يلقى به ضلال هؤلاء الضّالّين، وما يتهددون به من أوهام وأباطيل.. إن الله هو حسبه وكافيه من كل ضر يراد به، وهو حسبه وكافيه، من كل خير يرجوه.. وقوله تعالى: «عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ» أي أن الله وحده، هو الذي يتوكل عليه المتوكلون، الذين يؤمنون به، ويضيفون وجودهم إليه، فيجدون فى ظله الأمن، والسلامة، والخير.. وفى الحديث عن الآلهة بضمير المؤنث «هنّ» تشنيع على هؤلاء المشركين، وتسخيف لعقولهم المريضة، التي تتخذ من هذه الدّمى آلهة تعبد من دون الله، ثم تقيم منها- بهذا الخيال السقيم- كائنات عاقلة، فيخاطبونها، ويلقون إليها بآمالهم وآلامهم، وهى- بين أيديهم- صمّاء لا تسمع، خرساء، لا تجيب!. قوله تعالى: «قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ» .. المكانة: المنزلة، والحال التي يكون عليها الإنسان.. وقوله تعالى: «اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ» أي اعملوا على ما أنتم عليه من ضلال، ومن معتقد فاسد مع آلهتكم تلك.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1157 وقوله تعالى: «إِنِّي عامِلٌ» أي وأنا أعمل على ما أنا عليه، من إيمانى بالله، وولائى له وحده.. وقوله تعالى: «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ» أي وسيأتى اليوم الذي ينكشف فيه الأمر بيننا، وسترون يومئذ من الذي سينزل به العذاب الذي يخزيه، ويفضح ما كان عليه من ضلال.. ثم ما يكون له وراء هذا من عذاب مقيم، يعيش فيه أبدا.. وعذاب الخزي هو ما يقع للمشركين فى الحياة الدنيا، يوم يرون بأعينهم نصر الله للمؤمنين، وخذلانه للكافرين، وتحطيم هذه الأصنام، ووطأها بالأقدام.. والعذاب المقيم، هو عذاب يوم القيامة، الذي يخلد فيه أهل الكفر والضلال.. الآيات: (41- 46) [سورة الزمر (39) : الآيات 41 الى 46] إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1158 التفسير: قوله تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ» .. هو بيان لمهمة النبي، وأنه رسول من الله للناس، يبلغهم ما أنزل إليه من ربه.. فمن اهتدى بهذا الكتاب فإنما يهتدى لنفسه، ويعمل الخير لها، ومن ضلّ فإنما ضلاله واقع عليه، ومجزىّ به، وليس النبي وكيلا على أحد، يؤدّى عنه حسابه. وفى تعدية الفعل «أنزلنا» بحرف الجر (على) - إشارة إلى علوّ المتنزل الذي نزل منه القرآن على رسول الله، وأنه من الله رب العالمين، القائم بسلطانه على هذا الوجوه.. وفى قوله تعالى: «للناس» - إشارة إلى أن هذا القرآن هو خير مسوق من الله سبحانه للناس جميعا، ورحمة منزلة منه سبحانه إليهم، وأنه إذا كان النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- هو الذي تلقّى هذه الرحمة من ربه- فإن الناس جميعا شركاء له فيها، ولكل واحد منهم نصيبه منها، سواء دعى إلى أخذ نصيبه أم لم يدع إلى ذلك.. وفى هذا ما يفتح الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1159 الطريق لهؤلاء المعاندين المستكبرين، إلى كتاب الله.. فكثير من هؤلاء المشركين كانوا يأنفون أن يتفضّل عليهم النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- بهذا القرآن الذي بين يديه.. وفى حسابهم أنه قرآنه، يعطى منه من يشاء، ويمنع من يشاء.. وفى قوله تعالى: «للناس» ما يعزل عن القرآن هذه المشاعر التي تحول بين المشركين وبين الاتصال به.. إنه ليس قرآن «محمد» وليس ملك «محمد» وإنما هو كلام الله إلى عباد الله، ورحمة الله لخلق الله.. وما محمد- صلوات الله وسلامه عليه- إلا حامل هذه الرحمة، وداع إليها، وآخذ بنصيبه الذي قدّره الله له منها.. وإنها لرحمة واسعة لا حدود لها، ولكل إنسان حظه الذي يستطيع أن تطوله يده منها.. قوله تعالى: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» . مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة، قد جاء فيها ذكر القرآن الكريم، الذي أنزله الله تعالى على نبيه- صلوات الله وسلامه عليه- هدى ورحمة للناس، وروحا وحياة للنفوس.. وفى هذه الآية بيان لمصير النفس الإنسانية، وأنها صائرة إلى الله، بما تحمل من هدى أو ضلال، وبما معها من نور القرآن، أو ظلام الشرك.. فقوله تعالى: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها» أي يردها إليه، ويوفّيها حسابها، حين يجىء أجلها، وتستوفى حياتها المقدورة لها فى الدنيا.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1160 وقوله تعالى: «وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها» أي ويتوفى الأنفس فى منامها.. فالجار والمجرور فى منامها متعلق بقوله تعالى: «يَتَوَفَّى» .. وعلى هذا يكون معنى الآية: «الله يتوفى الأنفس ويردها إليه حين يقبضها بالموت، أو بالنوم.. وقوله تعالى: «فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» هو بيان للأنفس التي يردها الله سبحانه وتعالى إليه، حين يغشى النوم أصحابها.. فهذه النفوس، إن كانت قد استوفت أجلها فى الدنيا أمسكها الله عنده فلا تعود إلى الجسد مرة أخرى، وإن كان قد بقي لها فى الحياة أجل، أرسلها لتعود إلى الجسد مرة أخرى، حتى ينتهى أجلها المقدور لها فى الدنيا.. فالله سبحانه وتعالى يردّ الأنفس إليه حين الموت، وحين النوم، إلا أنه فى حال الموت يمسكها عنده إلى يوم القيامة، أما فى حال النوم، فإن كانت النفس قد استوفت أجلها فى الدنيا أمسكها الله عنده، وإن لم تكن قد استوفت أجلها، أرسلها لتعود إلى جسدها، حتى ينتهى أجلها فى الدنيا. ومن هذا يرى المرء أنه يموت كل يوم، وأن نفسه التي تلبسه تردّ إلى الله عند النوم، ثم يبعث من جديد فى اليقظة حين تعود إليه نفسه التي فارقت بدنه.. وهكذا تتكرر عملية الموت والبعث كل يوم فى ذات الإنسان.. ومع هذا ينكر الضالون البعث بعد الموت، وهم يرون هذه الحقيقة فى أنفسهم.. فهل بعد هذا الضلال ضلال؟ وهل بعد هذا السفه سفه؟ «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» ولكن أين من يتفكر؟ إنهم قلة قليلة فى هذا المحيط الصاخب المضطرب بالضالين السفهاء! [بين النفس. والروح.. والجسد] وهنا نود أن نقف قليلا بين يدى قوله تعالى: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1161 مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» . فقد أشارت الآية الكريمة إلى أن فى الإنسان نفسا، وأن هذه النفس تردّ إلى الله، على حين يترك الجسد لمصيره فى التراب.. فالإنسان إذن نفس وجسد.. وهما طبيعتان مختلفان.. فالنفس من العالم العلوي، والجسد من عالم التراب، وأنهما إذ يجمع الله بينهما بقدرته، فيجعل منهما- سبحانه- كائنا سويّا هو الإنسان، فإنه- سبحانه. بقدرته كذلك يحفظ لكل منهما طبيعته، حتى إذا انتهى الأجل الذي قدره الله لاجتماعهما، افترقا، فلحق كل منهما بعالمه، الذي هو منه.. النفس إلى عالمها العلوىّ، والجسد إلى عالمه الترابىّ. وقبل أن نتحدث عن ماهية النفس، وعن الآثار التي تتركها فى الجسد، أو يتركها الجسد فيها. حين اجتماعهما- نود أن نشير إلى كائن آخر، يعيش مع الجسد والنفس، هو الروح فقد أشار القرآن الكريم إلى الروح، فقال تعالى: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» (85 الإسراء) وإذن فهناك: الجسد، والروح، والنفس، وثلاثتها هى الإنسان. فما الجسد؟ وما الروح؟ وما النفس؟ وليس ثمة خلاف فى أن الجسد، هو هذا الكيان من اللحم، والعظم، والدم، والذي هو المظهر المادي للإنسان.. أما الروح، وأما النفس فهما قوتان غيبيتان تسكنان إلى هذا الجسد، فيكون بهما معا هذا الإنسان الحي، السميع، البصير، العاقل المميز بين الخير والشر، والنافع والضار.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1162 والسؤال هنا: هل الروح والنفس حقيقة واحدة، أم هما حقيقتان؟ وإذا كانتا حقيقتين، فهل هما من طبيعة واحدة أم من طبيعتين مختلفتين كالاختلاف الذي بينهما وبين الجسد؟ إن القرآن الكريم يحدثنا عن الروح، وعن النفس.. وفى حديث القرآن عن الروح. نجد أنها نفحة الحياة فى الإنسان، وأنها من روح الله، فيقول سبحانه فى خلق آدم: «فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ» (29 الحجر) ويقول سبحانه: «ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ» (9: السجدة) ويقول سبحانه فى خلق عيسى عليه السلام: «وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا» (12: التحريم) . فالرّوح هى مبعث الحياة فى الإنسان، وهى التي تخرج هذا الجسد الهامد إلى عالم الحياة والحركة.. والإنسان فى هذه الحدود، لا يخرج عن كونه حيوانا، ذا جسد حىّ، يتنفس، ويتحرك ويطلب الغذاء الذي يحفظ حياته.. فهل للحيوان روح كهذه الروح التي تلبس الإنسان، وتكسوه حياة وحركة؟ إننا إذا رجعنا إلى قوله تعالى عن الروح: «قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» - تجد أن الروح التي تلبس الكائن الحي- من إنسان أو حيوان- هى روح، وهى من أمر الله! ولكننا إذ ننظر فى قوله تعالى فى خلق آدم: «فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي» وقوله سبحانه: «ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ» - نجد مزيدا من؟؟؟ الإحسان والتكريم للإنسان، بإضافة روحه إلى الله سبحانه وتعالى.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1163 وهذه الإضافة تضفى على روح الإنسان صفاء إلى صفاء، وقوة إلى قوة.. وإنه إذا كان لا حديث للعلم فى هذا الأمر الغيبىّ، فإن المشاهدة تدعونا إلى القول بأن الأرواح التي تلبس الكائنات الحية- بما فيها الإنسان- ليست على درجة واحدة من القوة التي تنبعث منها فى الكائن الحي، وفى الآثار التي تحدثها فيه.. ففى عالم الحيوان مثلا.. نجد من الحيوانات مالا تكاد تحسّ فيه الحياة، كالديدان مثلا، كما نجد حيوانات تكاد تعقل، كالقردة.. وبين هذه وتلك أنماط كثيرة من الحيوات التي تلبس عالم الحيوان.. وهذا يعنى أن اختلافا ما بين روح وروح إن لم يكن فى النوع ففى القدر، وفى الدرجة. ومن جهة أخرى، فإننا نجد فى عالم البشر أناسا لا يبتعدون كثيرا عن عالم الحيوان، بينما نجد الذكاء والألمعية والعبقرية فى أناس آخرين. وهؤلاء وأولئك جميعا يلبسون أرواحا من مورد واحد، هى نفخة الله سبحانه وتعالى فى الإنسان.. وهذا يعنى أن الاختلاف فى الأرواح البشرية ليس فى النوع، وإنما فى القدر والدرجة.. أيضا.. بمعنى أن الاختلاف بين إنسان وإنسان فى العقل، والذكاء، والبصيرة، هو اختلاف فى القدر الذي كان للجسد من عالم الروح، وفى الكمية- إن صح هذا التعبير- التي فاضت عليه من هذا العالم!! وهذا أيضا ما يشير إليه الفلاسفة فى حديثهم عن الروح، وأن كل جسد إنما تلبسه روح خاصة به، مقدرة بحسب استعداده الفطري، وقدرته على احتمال ما يفاض عليه منها.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1164 وإذن فهذا الاختلاف بين الكائنات الحية ومنها الإنسان- هو أثر من آثار الروح التي لبسته، وأنه بقدر حظه من الروح- قدرا لا نوعا- يكون حظه من الترقي فى سلم الحياة. وإذا كان لنا أن نشبه عالم الروح بمولد كهربائى عظيم، وكان لنا أن نشبه الأجسام بلمبات الكهرباء، على اختلاف قوتها، مما هو دون الشمعة، إلى آلاف الشمعات- كان لنا أن نتمثل الأجسام، أو اللمبات الكهربائية، وقد اتصلت بالمولد الكهربائى العظيم، فأخذ كل جسم أو كل لمبة بقدر قوته من النور الكهربى، أو من عالم الروح! .. وعلى هذا نرى أن الكائن الحي، جسد وروح، وأن الإنسان كذلك جسد وروح، وإن كان حظه من عالم الروح- قدرا لا نوعا- أكبر من أي كائن حى آخر فى غير عالم الإنسان. إذن فما النفس؟ أهي الروح الإنسانية، سميت بهذا الاسم، للتفرقة بين روح الإنسان، وروح الحيوان.. إذ كان للإنسان النصيب الأوفى من هذا النور العلوي المفاض على الأحياء؟ أم هى شىء مضاف إلى خلق الإنسان، به صار الإنسان إنسانا، بعد أن أصبح بالروح حيوانا؟ يحدث القرآن الكريم عن النفس، على أنها كائن له وجود ذاتى مستقل، وبمعنى آخر، إن القرآن يخاطب الإنسان فى ذات نفسه، باعتبار أن النفس هى القوة العاقلة المدركة فيه، فيقول سبحانه: «وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها» .. ويقول جل شأنه: «يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي» (27- 30 الفجر) ويقول الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1165 سبحانه: «وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ» (53 يوسف) ويقول: «بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً» (18: يوسف) ويقول سبحانه: «وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» (1: الطلاق) ويقول سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً» (6: التحريم) . فالنفس هنا، وفى مواضع أخرى كثيرة من القرآن، هى الإنسان العاقل، المكلف، وهى الإنسان الذي يتوقع منه الخير أو الشر، والهدى أو الضلال.. ثم هى الإنسان بجميع مشخصاته، جسدا وروحا! .. ومرة أخرى.. ما هى النفس؟ والجواب الذي نعطيه عن هذا السؤال هو مستمد من القرآن الكريم، بعيدا عن مقولات الفلاسفة، وغير الفلاسفة ممن لهم حديث عن النفس «1» . وعلى هذا نقول: يشخّص القرآن الكريم النفس، ويجعلها الكائن الذي يمثل الإنسان أمام الله، بل وأمام المجتمع أيضا.. فالقتل الذي يصيب الإنسان هو قتل للنفس، كما يقول سبحانه: «وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» (29: النساء) ويقول جل شأنه: «مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً» (32: المائدة) . وفى مقام القصاص تحسب «النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ» (45: المائدة) .   (1) من أراد النظر فى هذا الموضوع على الآراء المختلفة فى النفس أو الروح، أو العقل، فليرجع إلى كتابنا قضية الألوهية (الجزء الثاني) .. (الله والإنسان) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1166 وفى مقام التنويه بالإنسان، ودعوته ليلقى الجزاء الحسن، تخاطب النفس، وتدعى، فيقول سبحانه: «يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي» (27- 30: الفجر) . والنفس فى القرآن هى الإنسان المسئول المحاسب: «وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» (7- 10: الشمس) «بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ» (14- 15: القيامة) وإن بالفهم الذي يستريح إليه العقل فى شأن النفس، هو أنها شىء غير الروح، وغير العقل.. وأنها هى الذات الإنسانية أو الإنسان المعنوي، إن صح هذا التعبير.. إنها تتخلق من التقاء الروح بالجسد، إنها التركيبة التي تخلق فى الإنسان ذاتية يعرف بها أنه ذلك الإنسان بأحاسيسه ووجدانه ومدركاته.. النفس هى ذات الإنسان، أو هى مشخصات الإنسان التي تنبىء عن ذاته.. ولا نريد أن نذهب إلى أكثر من هذا.. وحسبنا أن نؤمن بأن الروح من أمر الله، فلا سبيل إلى الكشف عنها كما يقول سبحانه: «قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» وأن النفس، جهاز خفى عامل فى الإنسان.. هى الإنسان المعنوي- كما قلنا- ولهذا كانت موضع الخطاب من الله تعالى، كما أنها كانت موضع الحساب والثواب والعقاب.. قوله تعالى: «أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ» ؟. هو بيان لضلالة من ضلالات المشركين، بعد إقرارهم بأن الله- هو الذي خلق السموات والأرض- فهم مع إقرارهم هذا- يتخذون من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1167 الأصنام وسائل يتوسلون بها إلى مرضاة الله، ويرجون بها الشفاعة عنده، ويقولون لمن يحاجّهم فيها: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» (3: الزمر) فهم- مع اعترافهم بأن هذه الأصنام ليست الإله الخالق الرازق، المالك لما فى السموات والأرض- مع اعترافهم هذا- لا يوجهون وجوههم إلى الله مباشرة، بل يجعلون بينهم وبين الله من يتولى الاتصال بالله عنهم، والشفاعة لهم فيما يريدون من الله، من جلب خير، أو دفع ضرّ.. وهذا ضلال من وجوه: فأولا: أن الإنسان- من حيث هو إنسان- مخلوق كريم عزيز بين مخلوقات الله.. قد أحسن الله خلقه، وأمر الملائكة بالسجود له، وأقامه خليفة له فى الأرض.. وهذه منزلة عالية، ودرجة رفيعة، جدير بالإنسان أن يقيم وجوده فيها، ويطلب من الله الاستزادة منها.. وذلك بدوام الاتصال بالله، وطلب القرب منه، بالولاء المطلق لله، والإخلاص فى عبادته، والاجتهاد فى طاعته.. وفى تخلّى الإنسان عن هذا المقام، وإسلام زمامه لغيره، من دمى وأشباه دمىّ، لتقوده إلى الله- فى هذا نزول بالإنسان عن منزلته، واعتراف منه بأنه ليس أهلا لها.. وثانيا: أن الله- سبحانه- الذي كرم الإنسان، جعل طريقه إليه مفتوحا ليس عليه خزنة أو حجاب وذلك حتى يتحرر الإنسان من التبعية لأى مخلوق، تلك التبعية التي يسلم فيها وجوده العقلي والروحي لغيره، فيفقد بذلك ذاتيته، ويصبح كائنا مسلوب الإرادة، يتحرك بإرادة غيره، فيقاد، كما يقاد الحيوان. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1168 وقد حرّرت الشريعة الإسلامية الإنسان تحريرا كاملا، وأطلقت كل قواه وملكاته من كل قيد ومن كل تبعية، حتى أن الولاء الذي يعطيه المؤمن للنبىّ ليس ولاء أعمى، بل المطلوب منه شرعا أن يكون ولاء مستندا إلى العقل، وإلى الاقتناع.. حتى ينبع هذا الولاء عن نفس راضية وقلب مطمئن.. ولهذا كانت دعوة الإسلام دعوة قائمة على مجرد البلاغ، والعرض لما بين يديها من هدى.. ثم إن للناس أن يعرضوا هذا المعروض عليهم، على عقولهم.. ثم إن لهم مع هذا إرادتهم المطلقة، فى قبول ما عرض عليهم، أو رفضه.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ.. فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» (29: الكهف) ويقول سبحانه لنبيه الكريم: «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (99: يونس) ويقول جلّ شأنه: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ.. قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» (256 البقرة) وثالثا: هؤلاء المشركون، الذي يتعاملون مع تلك الأصنام، قد ضلوا ضلالا بعد ضلال.. فهم ضلوا أولا، لأنهم لم يوجهوا وجوههم إلى الله مباشرة، بل جعلوا بينهم وبين الله من يقودهم إليه، وضلوا ثانيا لأنهم أسلموا زمامهم لتلك الدّمى التي لا تعقل، ولا تسمع ولا تبصر!! فكيف يكون لهذا الدّمى أن تتجه بهم إلى متجه، وهى تابعة فى أماكنها لا تملك تحولا من حال إلى حال، أو من مكان إلى مكان؟ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ» ؟ أي أيتعاملون مع هذه المعبودات ويسلمون أمرهم إليها، ولو كانت لا تملك شيئا ولا تعقل أمرا؟ فإذا كان الإنسان على ضلال إذا أسلم نفسه لإنسان عاقل مثله، أو لمن هو أعقل منه، فإنه يكون على ضلال مبين، وسفه غليظ، إذا هو أسلم نفسه لحيوان أو حجر!! الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1169 قوله تعالى: «قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.. ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» هو تقرير لتلك الحقيقة المطلقة التي غفل عنها المشركون، وعمى عنها الضالون، وهى أن الشفاعة جميعها لله وحده، لا يملك أحد مع الله شيئا منها.. فهو سبحانه مالك السموات والأرض، وإليه يردّ كل ما يجرى فيهما، وما يقع للمخلوقات من نفع أو ضر.. وقوله تعالى: «ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» هو دعوة إلى الناس أن يرجعوا إلى الله، وأن يسلموا أمرهم إليه وحده يوم الحساب والجزاء.. فهو- سبحانه- الذي يتولى حساب الناس وجزاءهم.. فمن السفه والجهل معا أن يكون هناك عمل يتجه به إلى غيره.. إنه عمل ضائع، لا يقام له وزن! بل هو وزر يحمله الإنسان معه، لأنه حجه عن الله، وقصّر به دون العمل لمرضاته.. والشفاعة هنا: هى ما يجلب به الخير، ويدفع به الضر.. أي أن كل ما هو مطلوب للإنسان من جلب خير أو دفع ضر، هو بين يدى الله، وهو سبحانه المتصرف فيه وحده.. فمن طلب فليطلب من الله وحده.. ومن طلب من غيره شيئا، فقد ضل سعيه وخاب رجاؤه.. قوله تعالى: «وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ. وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» هو فضح لحال من أحوال المشركين، وكشف لضلالة من ضلالاتهم.. فهم إذا ذكر الله وحده، من غير أن تذكر معه آلهتهم- اشمأزت قلوبهم، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1170 أي نفرت، وجزعت، وهلعت.. وإذا ذكرت آلهتهم، وما لها من شفاعة عند الله، فرحوا واستبشروا.. وفى قوله تعالى: «الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» - إشارة إلى أن الإيمان بالآخرة، لا يكون إلا بعد الإيمان بالله.. فالإيمان بالآخرة، إيمان بها وبالله.. وقد يكون إيمان بالله وكفر بالآخرة، كما كان عليه إيمان المشركين.. فهم يعرفون الله، ويؤمنون بأن على هذا الوجود إلها واحدا.. ولكنهم يتخذون معه آلهة أخرى، هى- عندهم- دون الله جلالا وقدرا.. إنها قربان يتقربون بها إلى الله.. ثم هم لا يؤمنون بالآخرة، إذ يستبعدون أن يحيى الله الناس بعد أن يصيروا ترابا.. وهذا قصور فى فهمهم، لجلال الله وقدرته.. قوله تعالى: «قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» . هو دعوة للنبى- صلوات الله وسلامه عليه- أن يعلن الناس بهذه الحقيقة، وهى أن الله سبحانه، هو فاطر السموات والأرض، أي خالقهما ابتداء على غير مثال سبق.. وأنه سبحانه عالم الغيب والشهادة، أي ما غاب عنّا، وما ظهر لنا.. وهو سبحانه الذي يحكم بين عباده فيما اختلفوا فيه من الحق، فيحقّ- سبحانه- الحق ويبطل الباطل.. «لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» .. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1171 وقد جاء هذا الخبر فى صورة النداء والدعاء، لبيان أن النبي- صلوات الله وسلامه عليه- قد بلّغ رسالة ربه، كما أمره ربه، وأنه أفرغ جهده كلّه فى الدعوة إلى الله.. ولم يبق بعد هذا إلا الحساب والجزاء. الآيات: (47- 54) [سورة الزمر (39) : الآيات 47 الى 52] وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) التفسير: قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1172 مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة عليها قد كانت دعاء من الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- إلى ربه أن يفصل بينه وبين قومه، فيما اختلفوا فيه عليه، وفى تكذيبهم إياه- فجاءت هذه الآية، وكأنها استجابة لدعوة الرسول.. فها هو ذا يوم الفصل، وها هم أولاء الذين ظلموا يساقون إلى جهنم، ويطلبون الشفعاء فلا يجدون شفيعا، ويستصرخون ولا صريخ لهم إلا زبانية جهنم، يدعّونهم إلى النار دعّا.. فلو أنه كان بين يدى أحدهم ما فى الأرض جميعا، ومثل ما فى الأرض مضافا إليه، لافتدى به نفسه من عذاب هذا اليوم، ولوجد ذلك صفقة رابحة له.. وهذا مثل قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ» (91: آل عمران) .. وقوله تعالى: «وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ» - إشارة إلى ما ينكشف للمشركين والضالين فى هذا اليوم، مما لم يكن يقع فى حسبانهم.. ففي هذا اليوم يرون أن ما كانوا يعبدون من دون الله، هو ضلال فى ضلال، ويرون أعمالهم التي زينها لهم الشيطان، وجوها منكرة، تطلع عليهم بالويلات والحسرات.. وأكثر من هذا، فإنهم يرون هذا الهول الذي يلقاهم من جهنم، مما لم يقع فى خيال، أو يخطر على بال.. كما يرون أناسا كانوا يسخرون منهم ويستهزئون بهم قد لبسوا حلل النعيم، ونزلوا منازل الرحمة والرضوان، على حين يشهدون سادتهم وكبراءهم ممن كانوا ينزلونهم منازل الآلهة، وقد قطّعت لهم ثياب من نار، يصبّ من فوق رءوسهم الحميم.. يصهر به ما فى بطونهم والجلود.. ولهم مقاطع من جديد.. كلّما أرادوا أن يخرجوا منها من غمّ أعيدوا فيها ... الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1173 إن معارف الناس، وتصوراتهم وأخيلتهم فى هذه الدنيا، لا تكاد تلتقى مع شىء من أمور الآخرة، وإن كان المؤمنون بالله أكثر تصورا لها، وأقرب إدراكا لمجملها.. روى أن بعض الصالحين حين حضره الموت، فزع واضطرب، فسئل فى هذا، فقال: ذكرت قول الله تعالى: «وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ» فما أدرى ماذا يبدو لى من الله وأنا مقدم عليه!. قوله تعالى: «وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» . هو معطوف على قوله تعالى: «وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ» - من عطف الخاص على العام.. فمما يبدو للظالمين- مما لم يكونوا يحتسبونه- هو سيئات ما كسبوا، حيث يبدو كسبهم الذي كسبوه، وعملهم الذي عملوه فى الدنيا، ضلالا فى ضلال، وسوءا إلى سوء. وخسرانا إلى خسران، مع أنهم كانوا يحسبون أن هذا الذي يعملون، هو الحق، وهو الخير.. والله سبحانه وتعالى يقول: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً» .. (103- 104: الكهف) وقوله تعالى: «وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» .. حاق بهم: أي نزل بهم، واشتمل عليهم.. وأصله من الحقّ.. ومعنى هذا، أن الحق الذي كانوا يستهزئون به قد جاء ليحاكمهم، وليقتصّ منهم لجنايتهم التي جنوها عليه، بالانتصار للباطل، ومحاربة أولياء الحق.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1174 قوله تعالى: «فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ.. بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ.. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» .. خولناه نعمة: أي آتيناه نعمة، صار بها من أصحاب الوجاهة والرياسة.. وأصلها من الخيلاء والعجب.. ومنها «الخال» وهو الشامة السوداء التي تزين الوجه الحسن، وتزيده حسنا.. والفاء فى قوله تعالى: «فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا» - هى فاء العطف، للتفريع على قوله تعالى: «وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» ، أي فكان من استهزائهم بالحق أن الإنسان منهم إذا أصابه ضر دعا ربه.. ثم إذا كشف الله الضرّ عنه، وخوله نعمة من نعمه، تنكر لله، ولم يذكر أن هذه النعمة من عند الله، بل قال إنما أوتيت ما أوتيت عن علم منّى.. إن ذلك كان بحولي وحيلتى.. وهذا من ضلال العقل، وخداع النفس.. فلو أن هذا الجهول كان يملك أن يجلب لنفسه نفعا، لكان يملك أن يدفع عن نفسه كل ضر ينزل به، ولما كان له أن يدعو الله عند كل ضر يقع له.. فهل يظن هذا الجهول أن الله يملك الضر ولا يملك النفع؟ ولكنها سكرة النعمة تلبس الأحمق الجهول، فإذا هو فيها مارد جبار يخيل إليه أنه يخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولا! ثم إن هذا الجبار، يشاك بشوكة أو يحتبس له بول، ليوم أو بعض يوم، فإذا هو ذليل مهين، يصرخ صراخ الأطفال، ويئنّ أنين الثّكلى! وقوله تعالى: «إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ» .. الضمير فى أوتيته، يعود إلى المال الذي جمعه، فهو لا يرى النعمة إلا مالا، أما غير المال من نعم الله، فلا يلتفت إليه.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1175 وقوله تعالى: «بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ» أي هذه النعمة، هى فتنة وابتلاء، فكما يبتلى الله بالشر، يبتلى كذلك بالخير، كما يقول سبحانه: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً» (35: الأنبياء) . قوله تعالى: «قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» . أي قد قال مثل هذه القولة الضالة الآثمة أقوام كثيرون قبل هؤلاء المشركين.. قد قالها قارون، إذ قال: «إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي» بل وقال أشنع منها، ذلك الذي حاجّ إبراهيم فى ربه: «إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ.. قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ» ! (258: البقرة) فماذا كان وراء هذا الضلال فى الرأى؟ لم يكن إلا الخيبة والخسران، فقد أهلك الله الضالين، وأخذهم البلاء من حيث لا يشعرون.. فما كان لهم من هذا الذي بين أيديهم ولىّ ولا نصير.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا، وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا.. وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ» . وفى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا» تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين الظالمين من قريش، وأنهم سيقع بهم ما وقع بالظالمين قبلهم «سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» (62: الأحزاب) . فالله سبحانه لا يبدل سنته مع هؤلاء الظالمين «وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ» أي لن يعجزوا الله، ولن يفلتوا من عقابه، وهو القوىّ العزيز. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1176 وفى الإشارة إلى مجتمع الجاهليين جميعا، وفيهم المؤمنون والمشركون- فى الإشارة إليهم بهؤلاء، بدلا من أن يقال من قومك، أو من المشركين أو نحو هذا- ما يدل على أن الظالمين معروفون لكل من ينظر إليهم، وأنهم بحيث يشار إليهم باليد، واحدا واحدا.. قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» . أي ألم يكن لهؤلاء الضالين نظر فى تصريف الله وتدبيره؟ إنهم لو نظروا نظرا عاقلا مستهديا، لعلموا أن الله سبحانه «يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ» أي يوسعه ويكثره لمن يشاء، «ويقدر» أي يقبضه ويقلله لمن يشاء، بحكمة الحكيم، وتدبير العليم..! وهذا الاختلاف فى حظوظ الناس من الرزق، هو الذي يضبط ميزان الناس فى الحياة، ويجعل لحياتهم هذه الطعوم المختلفة، وتلك الألوان المتباينة، التي بغيرها لا تكون الحياة حياة، ولا الناس ناسا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ.. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ.. وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ» (118- 119 هود) . فهذا الاختلاف بين الناس فى الرزق، هو الذي يدفع موكب الحياة، ويبعث الناس إلى الجدّ والتحصيل.. ولو كانوا على درجة واحدة، لماتت نوازع التنافس بينهم، ولخمدت روح الابتكار والتجديد، ولركدت الحياة الإنسانية كما تركد المياه فى المستنقعات! وقوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» - أي فى هذا التفاوت الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1177 فى الرزق، والاختلاف فى حظوظ الناس منه- آيات وشواهد للمؤمنين بالله، يشهدون منها حكمة الخالق، وقدرته، وسلطانه، وعلمه.. الآيات: (53- 61) [سورة الزمر (39) : الآيات 53 الى 61] قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) التفسير: قوله تعالى: «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً.. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1178 فى وسط هذا الظلام المتراكم من الكفر، ومن خلال هذا الدخان المتصاعد من معاقل الضلال، ومواقع الشرك- تشرق الأرض بنور ربها، وفى سنا هذا النور القدسي يؤذّن مؤذّن الحق، بين ظلام هذا الكفر المتراكم، ودخان هذا الضلال المتصاعد، داعيا هؤلاء الغرقى فى بحار الكفر والضلال: «يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً.. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» . إن الغرقى إذ يسمعون هذا النداء الكريم ليرون بأعينهم رأى العين، مراكب النجاة تخفّ إليهم من كل جهة، وليس عليهم إلا أن يتعلقوا بها، ويشدوا أيديهم عليها، لتحملهم إلى شاطىء النجاة والسلامة.. ولكن ما أكثر الذين يرون الخير ولا يتجهون إليه، ويشهدون النور ولا يفتحون أعينهم عليه.. وفى ابن نوح مثل يشهد لهذا، فقد كان يرى بعينيه الطوفان يهجم عليه، ويكاد يبتلعه فيمن ابتلع من الضالين والغاوين، وأبوه يناديه: يا بنىّ اركب معنا ولا تكن مع الكافرين.. فيأبى إلا أن يركب رأسه، ويلقى بيده إلى التهلكة! وهؤلاء هم أبناء نوح، يناديهم ربّ العزّة هذا النداء الرحيم: «يا عبادى» . ويضيفهم سبحانه وتعالى إليه إضافة رحمة ورعاية، وإحسان، تعلو على إضافة الأبناء إلى الآباء، حنانا ورحمة وإحسانا.. وهؤلاء الذين ينادون من ربهم هذا النداء الرحيم الكريم، ويضافون إلى عزته وجلاله إضافة الرحمة والإكرام- هم العصاة، الخارجون على حدود الله، المعتدون على حرماته، الجاحدون لنعمه.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1179 إنهم الذين أسرفوا على أنفسهم، وجاروا عليها بهذه الأوزار التي حمّلوها إياها.. فيالطف الله، ويا لسعة كرمه.. وعظيم مننه، وجليل إحسانه!! وقوله تعالى: «لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» هو اليد البرة الرحيمة الحانية التي يربت الله بها على هؤلاء المذنبين العصاة، بمجرد أن يلتفتوا إلى هذا النداء الرحيم اللطيف: «لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» .. إنها قريبة منكم، دانية لأيديكم.. فهيا أقبلوا عليها، واستظلوا بظلها، واقطفوا ما تشاءون من ثمرها.. وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً» .. شحنة من النور تضىء ظلام هذه النفوس التي تنظر إلى الله سبحانه وتعالى من خلال هذا الضباب المنعقد من اليأس حولها، وهى تذكر بشاعة جرائمها، وشناعة آثامها، وتحسب- جهلا وضلالا- أن ذنوبها أكثر من أن تغفر، وأن جرائمها أكبر من أن يتجاوز لها عنها.. وكلّا.. فإن ذلك ظن سيىء بالله: «إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً» مهما تكن بشاعتها وشناعتها.. «إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» فما أعظم مغفرته، وما أوسع رحمته.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» (156: الأعراف) !! فأى عذر لمذنب بعد هذا البلاغ المبين، إذا هو لم يسع إلى الله، ويغتسل فى بحر رحمته، من أدرانه، ويتطهر من ذنوبه؟ وأي عذر لمجرم بعد هذا النداء الكريم الرحيم، إذا هو لم يمدّ يده إلى ربّه، ليقيل عثرته، ويحمل عنه وزره؟ «يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1180 «لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.. «إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً» .. «إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ..» إنها ضيافة كريمة فى ساحة رب كريم.. وإنها نزل مهيأة، بكل أسباب الهناءة والرضوان، يستقبل فيها على طريق الحياة، أولئك الذين أضناهم السفر الطويل، وأكلت وجوههم لوافح الهجير.. فيجدون حيث ينزلون ظلا ظليلا، وطعاما هنيئا، وشرابا باردا. فقل لمن يرى هذا المنزل الكريم ويعدل عنه: ألا ما أعظم غباءك، وما أشأم حظك، وما أولاك بالذئاب تفترسك، وبالحيات تنهشك، فلا يرحمك راحم، ولا يبكيك باك.. من قريب أو صديق! قوله تعالى: «وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ.. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ» .. إنه دعوة إلى رحاب الله، بعد أن فتحت الأبواب، ومدت موائد رحمته.. فلم يتبق إلا أن يمد المدعوون أيديهم إلى هذه الموائد، وأن ينالوا منها ما يشتهون.. ومن عظيم لطف لله بعباده، وسابغ برّه بهم، وسعة رحمته لهم، أن لقيهم، وهم على طريق الضلال، وبين مراعى الإثم والمعصية، وأراهم منه- سبحانه- ما بين يديه من رحمة ومغفرة، وأنهم مع ما هم فيه من محاربة له، وعصيان لأمره، واعتداء على حرماته- لا يزالون من عباده، الذين لا تغلق دونهم أبوابه، ولا تحجب عنهم رحمته- ذلك كله قبل أن يطلب- سبحانه وتعالى- إليهم أن يرجعوا إليه، وأن يلقوا الأسلحة التي يحاربونها بها.. إنهم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1181 على ما هم عليه عباده، وأبوابه لن تغلق دونهم، ورحمته لن تحجب عنهم، ماداموا فى هذه الدنيا.. ألا خسىء من لا يستحى من ربه، فيظل قائما على حربه، على حين يبسط إليه ربه يده، ويظلله بربوبيته، ويمده بنعمه وفضله! فقوله تعالى: «وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ» - هو رحمة من رحمة الله، وإفساح لطريق النجاة، بالعودة إلى الله والمصالحة معه، فى أية لحظة من لحظات الحياة، قبل أن تدنو ساعة الموت، وينقطع العمل، وينتقل الإنسان إلى الدار الآخرة بما مات عليه فى الدنيا.. وعندئذ ينزل الإنسان منزله فى الآخرة، بآخر منزل كان عليه فى الدنيا.. «فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ. وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ، وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ» (88- الواقعة) . قوله تعالى: «وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ» . أحسن ما أنزل إلى العباد من الله، هو كلمات الله، وهى القرآن الكريم.. فقد أنزل إلى العباد من الله نعم كثيرة، وخيرات موفورة، وأرزاق لا تحصى، ولكن أحسن ما أنزل إليهم من هذه النعم وتلك الخيرات، وهذه الأرزاق، هو هذا الكتاب، الذي به يعرف الإنسان قدر هذه النعم، وطعم هذه الخيرات.. فهو الميزان العدل الذي يقيم هذه النعم وتلك الخيرات على طريق الحق والإحسان، وبغير هذا الميزان تتحول هذه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1182 النعم إلى نقم فى يد أصحابها، تفسد عليهم وجودهم، وتحرمهم الثمرة الطيبة المرجوّة منها. وفى قوله تعالى: «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ» .. إشارة إلى المبادرة بالرّجوع إلى الله، والتخلّي الفوري عن مشاعر الإمهال والتسويف، من يوم إلى يوم، إذ لا يدرى المرء متى يحين حينه، ويأتيه أجله.. فقد يؤخّر المرء التوبة إلى غد، ثم لا يأتى الغد إلّا وهو فى عالم الموتى. وقد يؤخر التوبة من صبح يومه إلى مسائه، فلا يكون فى المساء بين الأحياء. فالمراد بإتيان العذاب هنا، هو وقوع الموت بالعصاة والمذنبين قبل التوبة.. فإتيان الموت لهم وهم على تلك الحال، إتيان بالعذاب الذي يبدأ دخولهم فيه منذ لحظة الموت.. وهنا تكون الحسرة والندامة، حيث لا تنفع حسرة، ولا نجدى ندامة! .. وهذا ما يشير إليه- قوله تعالى: «أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» . فهذه مقولات ثلاث، للذين أدركهم الموت وهم على كفرهم وضلالهم.. وهى بدل من قوله تعالى: «أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ» .. أي واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن تقولوا فى حسرة وندم هذه المقولات.. وكل مقولة من هذه المقولات الثلاث، يقولها الكافر الضال، فى مرحلة من مراحل الآخرة.. من الموت.. إلى البعث.. إلى الحساب والجزاء.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1183 فعند الموت، يرى أهل الضلال مصيرهم المشئوم الذين هم صائرون إليه، فيعرف الضالّ منهم أنه كان من أمره على ضلال، فيقول: «يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ» . والتفريط، معناه: التقصير، وجنب الله: هو ما لله، وما ينبغى له من طاعة وولاء من عباده.. و «إن» هى المخففة من إنّ الثقيلة المؤكدة.. أي وإنى كنت لمن الخاسرين، إذ بصّرت فلم أبصر، وجاءنى الهدى، فلم هتد، وقد اهتدى الناس وضللت، وربح المؤمنون وخسرت.. والمقولة الثانية، وهى قوله: «لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ» يقولها عند ما يبعث من قبره، ويساق إلى المحشر.. حيث يأخذ مكانا ضيقا بين المجرمين، على حين يرى أهل الإيمان والإحسان فى سعة، فى موكب كريم، تحفّ به البشريات من كل جانب.. والمقولة الثالثة.. يقولها حين يرى العذاب، ويساق إليه، فيقول: «لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً 9 فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» ..؟ و «لو» هنا للتمنّى: حيث يفزع أهل النار إلى هذه الأمانىّ الباطلة، قائلين: «رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ» (37: فاطر) . قوله تعالى: «بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ» هو جواب على سؤال، مقدّر، هو والسؤال ردّ على هذا الذي يتمناه الضالّ يوم القيامة، من العودة إلى الحياة الدنيا، ليؤمن بالله، ويكون من المهتدين.. والسؤال المقدّر هو: «ألم يأتك رسولى؟ ألم يسمعك الرسول كلامى؟ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1184 ألم يتل عليك آياتي؟ «بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي.. فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ، وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ» .. فما لك تطلب العودة إلى الدنيا مرة أخرى؟ وهل تكون فى هذه المرة على حال غير حالك الأولى؟ إنك لن تكون من المهتدين أبدا.. إنك من أصحاب النار.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» (28: الأنعام) . قوله تعالى: «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ.. أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ» . ما أشأم هذا الإنسان الذي يدعى من ربّه بهذا النداء الكريم: «يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.. إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً.. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» .. ثم لا يستجيب لهذا النداء، ولا يحثّ الخطا إلى ربّه، ثم يظلّ جامدا فى مكانه، مسرفا على نفسه فى مواقع الضلال، حتى تطوى صفحته من هذه الدنيا، ثم إذا هو يساق إلى جهنّم، لتكون له مأوى، يذوق فيه العذاب طعوما وألوانا! وقوله تعالى: «ترى» بمعنى تبصر، فالرؤية رؤية بصرية، لا علمية وقوله تعالى: «وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ» جملة من مبتدأ وخبر، وقعت حالا من الاسم الموصول «الذين» أي تبصرهم يوم القيامة، وهم على تلك الحال: «وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ» . واسوداد الوجوه، كناية عن الكرب العظيم الذي أحاط بهؤلاء الكافرين، إذ كانت الوجوه هى الصفحة التي يبدو عليها ما يجرى فى كيان الإنسان، من مشاعر وعواطف وأحاسيس، سواء أكان فى حال نعيم، ومسرة، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1185 ورضوان، أم كان فى حال بلاء، ونكد، وشقاء! وقوله تعالى: «أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ» .. استفهام يراد به الخبر على جهة التقرير والتوكيد.. أي إن فى جهنم مأوى ومنزلا لكل متكّبر كافر بالله.. قوله تعالى: «وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» المفازة: الطريق المخوف، الذي يجتازه المنتقل من مكان إلى مكان، وسمّى مفازة على سبيل التفاؤل، كما يقال للملدوغ. السليم. ويذهب المفسّرون إلى أن «بمفازتهم» جار ومجرور متعلق بالفعل «ينجّى» على تقدير أن المفازة بمعنى الفوز، والباء للسببية.. أي بسبب فوزهم.. ويكون المعنى: وينجى الله الذين اتقوا بهذا الفوز الذي حصلوا عليه فى الآخرة.. والرأى عندنا- والله أعلم- أن متعلق الجار والمجرور هو قوله تعالى: «وينجى» ولكن وتبقى المفازة على معناها الذي صار حقيقة لغوية عليها، والباء للملابسة.. ويكون المعنى: وينجى الله الذين اتقوا وهم ملتبسون بهذه المفازة، سائرون فى هذا الطريق المحفوف بالمخاطر «لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ» حيث تحرسهم عناية الله، وتحفّ بهم ألطافه.. «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» على فائت فاتهم من أمر الدنيا.. ويجوز كذلك- والله أعلم- أن يتعلق الجار والمجرور بقوله تعالى: «لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ» ويكون المعنى: وينجى الله الذين اتقوا، لا يمسهم السوء وهم بمفازتهم التي يجتازونها إلى موقف الحساب والجزاء، ولا هم يحزنون الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1186 على فائت، إذا هم رأوا ما أعدّ الله لهم من نعيم ورضوان، فى جنة عرضها السموات والأرض، أعدت للمتقين.. الآيات: (62- 66) [سورة الزمر (39) : الآيات 62 الى 67] اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) التفسير: قوله تعالى: «اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» . مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنّها تذكّر بالله، وتكشف عمّا له سبحانه وتعالى من كمال وجلال، ومن ملك وسلطان، وذلك بعد أن كانت الآية السابقة دعوة إلى الله، وتحذيرا للكافرين والضالين من عذاب الله، وما تكون عليه حالهم فى الآخرة، من الندم والحسرة، وسوء المصير.. ألا فليذكر هؤلاء الكافرون بالله، الذين لم يفتحوا آذانهم وعقولهم إلى ندائه الكريم الرحيم: «يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1187 رَحْمَةِ اللَّهِ» - ألا فليذكروا أن الله هو خالق كل شىء، وقائم على كل نفس بما كسبت، لا يملك أحد معه من الأمر شيئا.. فمن ولّى وجهه إلى غير الله، فقد خاب وخسر، وأورد نفسه موارد الهلاك.. وهذا ما يشير إليه: قوله تعالى: «لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ» . ومقاليد السموات والأرض: أزمّتها التي تقاد منها، كما يقاد الحيوان من عنقه، وهو موضع القلادة.. وهذا تشبيه وتمثيل، يراد به خضوع السموات والأرض لله، وانقيادهما لقدرته.. قوله تعالى: «قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ» . هو تعقيب على هذا العرض الذي كشفت فيه الآيتان السابقتان عن بعض ما لله سبحانه من سلطان مطلق فى هذا الوجود، لا يملك أحد معه مثقال ذرّة منه.. وهذا التعقيب هو وإن كان تلقينا من الله سبحانه وتعالى لنبيه- صلوات الله وسلامه عليه- إلا أنه دعوة العقل، تلتقى مع أمر الله!. فالعقل بمنطقه، لا يجد أمام هذا العرض لقدرة الله، وبين يدى تلك الدلائل الدالة على وحدانيته- لا يجد إلا الإذعان لله، والولاء له، وإخلاص العبادة له وحده، غير ملتفت إلى ما يدعو إليه أهل الجهالة والضلالة، من عبادة ما يعبدون من ضلالات.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1188 والاستفهام إنكارى.. والأمر ليس أمرا على حقيقته، وإنما هو دعوة من دعوات الضالين للنبى بعبادة غير الله، وذلك بإنكارهم عليه أن يعبد الله.. ومفهوم المخالفة لهذا الإنكار، هو أن يعبد غير الله.. وفى قوله تعالى: «أَيُّهَا الْجاهِلُونَ» توبيخ لهؤلاء الداعين إلى عبادة غير الله، وفضح للداء الذي أوقعهم فيما هم فيه من ضلال، وهو الجهل.. فلو أنهم كانوا على شىء من العلم، لما ركبوا هذا الطريق المظلم، وبين يديهم طريق مستقيم مضىء. قوله تعالى: «وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» هو تشنيع على الشرك، وعلى ما يحيق بالمشركين من غضب الله ونقمته، وأنه أمر إن وقع فيه أحد، فلا شفاعة له عند الله- حتى ولو فرض- وهو مستحيل- إن كان الذي يشرك بالله، من أقرب المقربين إلى الله، وهم أنبياء الله، أو كان من أكرم خلق الله على الله، وهو رسول الله! قوله تعالى: «بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ» .. هو تأمين على ما قررته الآية السابقة، وتوكيد لما حملت من إنكار على الكافرين دعوتهم النبىّ إلى عبادة غير الله.. فهم يدعون النبي إلى عبادة غير الله، والله سبحانه وتعالى يدعوه إلى عبادته.. وفى هذا إبطال لدعوة المشركين، وإهدار لها.. وفى الجمع بين العبادة والشكر، إشارة إلى أن هذه العبادة ليست عبادة قهر وقسر، بل هى عبادة حمد وشكر، وولاء، وحبّ لله سبحانه وتعالى، الذي خلق فسوّى، والذي قدّر فهدى، والذي أخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1189 قوله تعالى: «وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.. وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ.. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» .. أي أن هؤلاء الذين كفروا بالله، إنما كفروا به لأنهم لم يتعرفوا إليه، ولم يعرفوا بعض كمالاته، وصفاته..! وقوله تعالى: «وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ» - جملة حالية، من لفظ الجلالة، أي أن هؤلاء الكافرين لم يقدروا الله حق قدره، والحال أن الأرض تكون فى قبضته يوم القيامة، فأنّى لهم المهرب من حسابه وعقابه؟. وقوله تعالى: «وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ» حال أخرى معطوف على قوله تعالى: «وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ» .. وطىّ السماء بيمين الله سبحانه وتعالى، هو استجابتها لقدرته، وخضوعها لسلطانه، يطويها وينشرها، كما شاء سبحانه.. ومثل هذا قوله تعالى: «يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ» (104: الأنبياء) . وقوله تعالى: «سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ» .. هو ردّ المؤمنين على الكافرين، والضالين، الذين لم يقدروا الله حق قدره، فأشركوا به، وجعلوا ولاءهم لغيره.. والمؤمنون- وقد قدروا الله حق قدره- ينزّهون الله سبحانه وتعالى عن أن يكون له شركاء، وينكرون على المشركين ما هم فيه من ضلال، وكفر بالله. الآيات: (68- 75) [سورة الزمر (39) : الآيات 68 الى 75] وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1190 التفسير: قوله تعالى: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ» . تحدّث هذه الآية والآيات التي بعدها إلى آخر السورة، عن مشاهد القيامة، وإرهاصاتها، وما يلقى الكافرون من بلاء وعذاب، وما يستقبل به المؤمنون من حفاوة وتكريم وترحيب، فى جنات النعيم.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1191 والصور: هو البوق الذي ينفخ فيه، كنذير بإعلان حرب، أو وقوع غارة، ونحو هذا.. وأصله من الصّوار، وهو قرن الحيوان، وقد كان البوق يتخذ عادة من قرن ثور، أو وعل أو نحوهما.. والصوار أعلى الشيء، وجمعه صوار، ومؤنثه صارية.. والنفخ فى الصور من قبل الله سبحانه وتعالى، هو الأمر الذي يصدر منه سبحانه، إلى ما يشاء من عالم الخلق، فيستجيب له من وقع عليه الأمر، بلا تردد أو مهل.. ولهذا شبه الأمر بالنفخ فى الصور، حيث يفزع كل من سمع النفخة، فيخفّ مسرعا، متخليا عن كل شىء، ليتوقى هذا الخطر الداهم.. والصعق: حال من الفزع تعترى الكائن الحي، فتشلّ حركته، وتهدّ كيانه، أشبه بما يكون من صعقة الصاعقة، ومسة الكهرباء.. وقوله تعالى: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ» هو إشارة إلى النفخة الأولى، وهى نفخة الموت.. ففى هذه النفخة يصعق، أي يموت، من فى السموات والأرض من عالم الأحياء.. وقوله تعالى: «إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ» - هو استثناء لمن لا تقع عليهم هذه الصعقة، أي الذين لا يقضى بموتهم فيها، أو الذين لا تمسهم زلزلة منها.. والسؤال هنا هو: هل العالم العلوي مشترك مع العالم الإنسانى فى هذا الذي يجرى على الناس، من موت، وبعث، وحساب وجزاء؟. وإذا لم يكن مشتركا مع العالم البشرى، فكيف يصعق من فى السموات؟ وما تأويل قوله تعالى: «فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ؟» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1192 والجواب على هذا- والله أعلم- أن القيامة وأهوالها، وما فيها من حساب وجنة، ونار، هى مما يقع على أبناء آدم وحدهم، على تلك الصورة التي جاءت بها الكتب السماوية، وأنذر بها رسل الله أقوامهم، الذين أرسلوا إليهم.. وقد تكون هناك أحوال للعوالم الأخرى، ولكن ليس من شأننا أن نبحث عنها، أو نشغل بها، إذ كان لا يعنينا من أمرها شىء، سواء أوقعت أو لم تقع، وسواء أوقعت على تلك الصورة، أو غيرها.. وإذن، فإن كل ما تحدث به القرآن الكريم مما يتصل بالموت، والبعث، والحساب، والجزاء، هو مما يتصل بعالمنا نحن، لا يتجاوزه إلى العوالم الأخرى.. وعلى هذا يكون قوله تعالى: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ» - هو مقصور على أبناء آدم، وما يتصل بهم فى عالمهم الأرضىّ.. وقد تحدث القرآن الكريم عن أن لأبناء آدم صلة بالسماء، وأن النفس الإنسانية هى من العالم العلوي، وأنها حين تفارق الجسد لا تموت بموته، بل تلحق بعالمها العلوي، وتأخذ مكانها فيه.. فالموتى من بنى آدم، إذ تكون أجسامهم فى عالم التراب، تكون نفوسهم فى السماء، أو العالم العلوي.. وإنه حين ينفخ فى الصور نفخة الموت العام لأبناء آدم، يفزع ويصعق من فى السموات ومن فى الأرض.. أما من فى السموات، فهم الناس فى أرواحهم ونفوسهم تلك التي سبقت إلى العالم العلوي، وأما من فى الأرض، فهم الذين كانوا لا يزالون فى عالم الأحياء لم يموتوا بعد، فتدركهم النفخة، فيصعقون ويموتون.. وأما الصعقة التي تقع على الأرواح والنفوس، فهى صعقة فزع، وخوف من لقاء هذا الوعد، يوم الحساب والجزاء الذي كانت هذه الصعقة إرهاصا بقرب موعده.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1193 ويكون قوله تعالى: «إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ» استثناء واقعا على نفوس الأخيار المصطفين من عباد الله، وأوّلهم رسله، وأنبياؤه وأولياؤه، حيث لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون.. وقوله تعالى: «ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ» - هو إشارة إلى نفخة البعث، بعد نفخة الموت.. وقوله تعالى: «فإذا» - للمفاجأة.. أي أن هذا البعث يجىء على فجاءة، دون أن يعلم أحد موعده.. وقوله تعالى: «فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ» - إشارة إلى أن البعث يقع للناس جميعا فى لحظة واحدة، حيث يولدون جميعا ميلادا كاملا، على صورة كاملة.. يجد فيها كل إنسان حواسّه ومدركاته، ووجوده كله. قوله تعالى: «وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» وإشراق الأرض بنور ربها، هو تجلّى الله سبحانه وتعالى عليها في هذا اليوم، يوم القيامة، حيث يعرض الناس على ربهم للحساب والجزاء.. وقوله تعالى: «وَوُضِعَ الْكِتابُ» أي الكتاب الذي سجلت فيه أعمال الناس، حيث يرى الناس أعمالهم، ويأخذ كل إنسان كتابه من هذا الكتاب.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (29: الجاثية) وقوله تعالى: «وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً» (13: الإسراء) وقوله تعالى: «وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ» .. أي دعى النبيون ليحضروا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1194 محاسبة أقوامهم، وليشهدوا على ما كان منهم، من إيمان أو كفر.. وفى هذا يقول الله تعالى: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ» (1: 7 الإسراء) . ويقول سبحانه: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» (41: النساء) . والشهداء: هم الذين يشهدون على الناس، من أنبياء وملائكة، وعلماء وهداة، ودعاة إلى الله، وكذلك ما فى كيان كل إنسان من أعضاء، تشهد عليه، كما يقول الله تعالى: «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» (24: النور) وكما يقول سبحانه: «وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ» (21 ق) . والصورة تمثل محكمة عليا تقضى بين الناس، وتحدد لكل إنسان مصيره الذي هو صائر إليه.. والقائم على هذه المحكمة، هو أحكم الحاكمين رب العالمين.. والكتاب هو صحيفة الدعوى، والأنبياء والشهداء هم الشهود.. والمحامون، هم المحاكمون، والمحاسبون، كما يقول الله سبحانه: «يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها» (111: النحل) . ثم بعد هذا تصدر الأحكام من رب الأرباب: «وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» . قوله تعالى: «وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ» . هو تعقيب على هذه المحاكمة، وأن كل نفس قد قضى لها أو عليها بالحق والعدل، وفّيت جزاء ما عملت من خير أو شر. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1195 وقوله تعالى: «وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ» - احتراس من أن يقع فى الوهم أن هذه المحاكمة التي أحضر فيها الكتاب، واستدعى لها الشهود، قد جاءت على هذه الصورة لتكشف عن أعمال الناس، وكلّا، فإن الله سبحانه وتعالى عالم بكل ما يعملون، لا تخفى على الله منهم خافية.. ولكن ذلك ليرى الناس بأعينهم ما كان منهم، وليحاكموا أنفسهم، وليشهدوا عدل الله المطلق فيما أجرى عليهم من أحكام! قوله تعالى: «وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً.. حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا.. قالُوا بَلى.. وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ» . وإذا قضى بين الناس بالحق، وعرف كل إنسان ما قضى به الله سبحانه وتعالى فيه، وامتاز أصحاب النار من أصحاب الجنة- عندئذ يساق الكافرون إلى جهنم زمرا، أي جماعات.. كل جماعة تنزل منزلها المعدّ لهم فى جهنم.. وكلما وصل فوج إلى جهنم فتحت أبوابها، فيلقاهم خزنتها سائلين فى لوم وتوبيخ: «أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟» فلا يجد الكافرون إلا أن يقولوا فى حسرة، وندم، وذلة: «بَلى.. وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ» أي بلى قد جاءت رسل ربّنا، وتلوا علينا آياته، ولكن حقّ علينا قضاء الله فينا أن نكون من أصحاب النار.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسانهم: «فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ» (31: الصافات) . وفى قوله تعالى: «حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها» .. إشارة إلى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1196 أن هذه الأبواب مغلقة على من فيها، وأنها لا تفتح إلا عند ورود فوج من الأفواج المساقين إليها، وكلما دخل فوج أغلقت عليه أبوابها، فإذا جاء فوج جديد فتحت له، ثم أغلقت عليه.. وهكذا.. إنها سجن مطبق على من بداخله، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ» (8- 9 الهمزة) وفى إقامة الظاهر، مقام المضمر فى قولهم، «وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ» بدلا من أن يقولوا: ولكن حقت كلمة العذاب علينا- فى هذا إشارة إلى أنّهم قد شهدوا على أنفسهم بالكفر، بعد أن رأوا بأعينهم صحائف أعمالهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: َ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ» (130: الأنعام) . قوله تعالى: «قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ» . هو تعقيب على جواب الكافرين عن سؤال خزنة جهنم لهم، حين سألوهم هذا السؤال: «أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا» فكان جوابهم: بلى! وكان التعقيب على هذا الجواب: «ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ» .. وفى قوله تعالى: «ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ» بدلا من أن يقال: ادخلوا جهنم كما هو الواقع فعلا- فى هذا إشارة إلى أن لأبواب قطعة من جهنم، وأن الذي يدخلها، إنما هو فى جهنم فعلا. وقوله تعالى: «فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ» بيان للداء الذي كان منه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1197 كفرهم، وهو الاستكبار، والاستعلاء، عن أن ينقادوا للحق، وأن يذعنوا للآيات البينات منه. والمثوى: المنزل، والمقرّ الذي يستقر فيه الإنسان.. قوله تعالى: «وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ» . عبّر عن السّير بالمتقين إلى الجنة، بالسّوق، كما عبّر به عن دفع الكافرين إلى جهنم، وذلك للمشاكلة بينهم فى الحال التي كانوا عليها فى موضع الحساب، وأنه لم يكن يدرى أحد منهم ما الله صانع به، حتى إذا حوسبوا جميعا، ولم يبرحوا الموقف بعد، انقسموا إلى فريقين، كل فريق يأخذ اتجاها لا يدرى ما هو.. فهذا يساق، وذاك يساق.. ولا يعلم أحد إلى أين المساق.. ثم ينكشف الحال، فإذا الكافرون إلى جهنم، وبين يدى أبوابها، وإذا المؤمنون المتقون إلى الجنّة، وعلى مشارف ظلالها.. وفى هذا مضاعفة للسرور الذي يلقاهم بهذا الفوز العظيم بعد أن ذهبت بهم الظنون.. كل مذهب. وفى قوله تعالى: «وَفُتِحَتْ أَبْوابُها» الواو هنا واو الحال، والجملة حال من فاعل جاءوها، على تقدير الحرف «قد» أي حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابها، وهذا يعنى أنهم يجدون أبوابها مفتحة لهم، كما يقول سبحانه وتعالى: «جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ» (50: ص) . فهم لا يقفون عند أبواب الجنة، بل يمضون إلى حيث أراد الله لهم من نعيمه ورضوانه.. ويلقاهم عند هذه الأبواب خزنة الجنة وحرّاسها، وحجابها، رسلا من الله، لاستقبال ضيوفه، والترحيب بهم، قائلين لهم: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1198 «سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ.. فَادْخُلُوها خالِدِينَ» أي لكم سلام من الله.. طبتم وطهرتم من كل دنس، فاهنئوا بهذا المقام الطيب، الذي لا يحلّ به إلا كل طيب. وجواب إذا محذوف، دل عليه السياق، وتقديره: حتى إذا جاءوها وقد فتحت لهم أبوابها وتلقوا هذه التحية الطيبة من ملائكة الرحمن، ودخلوا الجنة- وجدوا ما لا يستطيع وصفه الواصفون من نعيم ورضوان.. قوله تعالى: «وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ، فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ» . هو معطوف على جواب «إذا» المحذوف، أي حتى إذا دخلوا الجنة، بهرهم هذا النعيم الذي لم يكن يخطر لهم على بال، وقالوا بلسان الحمد والشكران: الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء. والوعد الذي صدقهم الله إياه، هو ما وعدهم على لسان رسله، كما يقول الله سبحانه وتعالى: «رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ» .. وهذا الوعد هو ما وعد الله به المؤمنين من جنات ونعيم فى الآخرة كما يقول سبحانه: «وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (72: التوبة) وقوله تعالى: «وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ» .. الأرض هنا هى أرض الحياة الدنيا، وميراثها هو التمكين منها والانتفاع بها.. والمؤمنون أيّا كان حظهم من هذه الدنيا- هم الوارثون لهذه الدنيا، لأنهم هم الذين قطفوا أطيب ثمراتها، وهو الإيمان بالله، والعمل الصالح.. أما ما أخذه غيرهم من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1199 أهل الكفر والضلال، فهو- وإن كثر- لا وزن له، ولا نفع لهم منه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ» (55: النور) وقوله سبحانه: «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» (105 الأنبياء) .. فالمؤمنون بالله، هم ورثة هذه الأرض، وهم خلفاء الله عليها.. أما غيرهم فهمل لا حساب له.. وقوله تعالى: «نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ» أي ننزل من الجنة حيث نشاء، غير مضيّق علينا بحدود أو قيود فيها.. والجملة معطوفة على محذوف، أي الحمد لله الذي أورثنا الأرض فى الدنيا، وأورثنا الجنة فى الآخرة نقبوا منها حيث نشاء.. وقوله تعالى: «فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ» .. هو تعقيب على ما لهج به أصحاب الجنة من حمد الله، ومن التحدث بما أفاض عليهم من نعم فى الدنيا والآخرة.. وهذا التعقيب، قد يكون من الملائكة، الذي شهدوا حمدهم وتسبيحهم، وقد يكون بلسان الحال، فهو منطق كل من يرى هذا النعيم، وما يساق إلى أهله منه، مما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين.. قوله تعالى: «وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» . الخطاب هنا للنبى صلوات الله وسلامه عليه- وهو بعد هذا خطاب لكل من يشهد موقف القيامة.. ففى هذا اليوم يرى الناس الملائكة، وقد حفّوا بعرش الرحمن، يسبحون بحمد ربّهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1200 «وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ» (17: الحاقة) وقوله تعالى: «وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا» (22: الفجر) وهذه حال لا يمكن أن نتصورها فى عالمنا الحسّى، وعلينا أن نصدّق بوقوعها، على أية صورة تقع، دون أن نطلب الصورة التي تقع عليها، فهذا ما لا يمكن أن تبلغه مدركاتنا، أو تتمثله خواطرنا. وقوله تعالى: «وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ» .. أي وقضى بين الناس بالحق، فى هذا اليوم، فلم تظلم نفس مثقال ذرّة. وقوله تعالى: «وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» .. هو قول الوجود كلّه، ومعهم أهل المحشر من أصحاب الجنة، وأصحاب النار، فقد كان القضاء قضاء عادلا عدلا مطلقا، فلم يؤخذ أحد بجريرة لم يقترفها، ولم يدن أحد بشهادة زور.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1201 40- سورة غافر وتسمّى سورة المؤمن نزولها: مكية. عدد آياتها: خمس وثمانون آية. عدد كلماتها: ألف ومائة وتسع وتسعون كلمة. عدد حروفها: أربعة آلاف وتسعمائة وستون حرفا. مناسبتها لما قبلها كان فيما اشتملت عليه سورة «الزمر» قوله تعالى: «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ. أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ. إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً.. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» .. ثم كان ختامها القضاء والفصل بين الناس، وإنزال الكافرين منازلهم من النار، وإنزال المؤمنين منازلهم من الجنة.. وبدء هذه السورة- غافر- يلقى الناس جميعا، بعد أن شهدوا الحساب والجزاء، ورأوا جزاء المحسنين، والمسيئين- يلقاهم بكتاب الله، الذي هو هداية كل ضال، ومنارة كل سالك إلى طريق النجاة، ثم يلقاهم مع كتاب الله بغفران الله ورحمته، وقبول توبة التائبين المنيبين إليه، وشدّة عقاب المحادّين له، المكذبين برسله. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1202 بسم الله الرحمن الرّحيم الآيات: (1- 6) [سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6) التفسير: قوله تعالى: «حم» هذه أول سورة من سور الحواميم السّبع، وقد عدّها بعضهم ثمانى سور، وجعل الزّمر واحدة منهن، مع أنها لم تبدأ بالحاء والميم كما بدئن، وإنما بدئت بذكر الكتاب، والقرآن، كما بدئن، فكان ذلك قرينة على أنها واحدة منهن. وأيّا كان، فإن هذا البدء بالحاء والميم لسبغ سور من القرآن، يجعل منهن وحدة واحدة، فى أسلوب النظم، وفى مضمونه. وتسمى مجموعة هذه السور: «آل حم» أو «الحواميم» ويروى عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أنه قال: «آل حم ديباج القرآن» وقال ابن عباس: «إن لكل شىء لبابا ولباب القرآن آل حم..» ويروى عن ابن مسعود الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1203 أيضا: «إذا وقعت فى آل حم فقد وقعت فى روضات أتانّق فيهن» . قوله تعالى: «تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» أي منزّل الكتاب، ومصدره، هو من الله العزيز العليم.. وكتاب يكون إلى الله نسبته، هو ما هو فى رفعة الشأن، وعلوّ المقام.. إنه كلام الله، وكلام الله صفة من صفاته.. وفى وصف الله بالعزة والعلم، إشارة إلى بسطة سلطانه على الوجود، وتمكّنه من كل موجود، مع إحاطة علمه بكل شىء، فيعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور. وفى الجمع بين العزة والعلم هنا، والجمع بين العزة والحكمة فى سورة الزمر- مراعاة للمقام هنا، وهناك.. ففى سورة «الزمر» ناسبت الحكمة دعوة النبي إلى التمسك بهذا الكتاب الحكيم، والاهتداء بهديه، وعبادة الله على ضوئه.. وهنا، ناسب العلم دعوة الناس إلى التوبة، والإقبال على الله بنية خالصة.. لأن الله يعلم ما تكن السرائر، وما تخفى الصدور.. قوله تعالى: «غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ» هو عرض لبعض صفات الله سبحانه وتعالى، إلى ما عرض فى الآية السابقة.. فمن صفاته سبحانه أنه «غافر الذنب» يغفر للمذنبين، الذين يدرءون بالحسنة، ذبوبهم، كما يقول سبحانه: «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» (114: هود) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1204 ومن صفاته سبحانه، أنه «قابل التوب» أي يقبل التائبين، ويتجاوز لهم عما كان منهم.. ومن صفاته سبحانه: أنه «شديد العقاب» .. أي أن عذابه للعاصين، والضالين، شديد، يلقى منه المعذبون الوبال والنكال.. فمع سعة رحمة الله، ومع سوابغ فضله وإحسانه، فإن عقابه شديد راصد.. فالرحمة والفضل والإحسان للمحسنين، والعذاب والنكال للضالين المكذبين.. وبهذا يعتدل ميزان العدل بين الناس.. فلا يسوى بين الأخيار والأشرار، بل ينزل كل من هؤلاء وهؤلاء منزله: «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ؟ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ» (28: ص) ومن صفاته سبحانه، أنه «ذو الطول» أي البأس والعزة والغلبة، فلا يفوته- سبحانه- مطلوب، ولا يدفع بأسه دافع. ومن صفاته سبحانه: تفرده بالألوهة.. «لا إله إلا هو» لا إله غيره، ولا ربّ سواه.. ومن صفاته سبحانه: أن مصير كل شىء إليه.. منه البدء، وإليه المنتهى.. قوله تعالى: «ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ» هذا الكتاب الذي نزل من الله العزيز العليم. هو نور من نور الله، وعلم من علم الله، وسلطان من سلطان الله، بحجته الساطعة، وآياته البينة- هذا الكتاب ما يجادل فيه أحد، إلا الذين كفروا.. فهم لظلام بصائرهم، وضلال عقولهم، ومرض قلوبهم، قد استغلق عليهم هذا الكتاب، فلم يهتدوا إلى ما من فيه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1205 حق، فجعلوا يلقونه بالجدل، سخرية واستهزاء، لا طلبا لعلم، ولا التماسا لمعرفة. وقوله تعالى: «فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ» - هو إحقار لشأن هؤلاء الكافرين المعاندين، ولما بين أيديهم من مال وسلطان.. والمراد بالذين كفروا هنا، المشركون.. وتقلبهم فى البلاد، هو تنقلهم فى تجاراتهم، إذ كانوا أصحاب تجارات، مع أهل الشام شمالا، ومع اليمن جنوبا.. فى رحلتى الشتاء والصيف.. قوله تعالى: «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ» هو تهديد لهؤلاء المشركين بعذاب الله، الذي يقع بالضالين المكذبين.. فهم ليسوا أول من كذب بالله، فقد كذبت من قبلهم أقوام بعد أقوام.. كذبت قبلهم قوم نوح، وكذلك كذب الأحزاب من بعد قوم نوح.. «وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ» أي أرادت كل أمة من هذه الأمم الضالة، أن تلحق الأذى برسولها، أو أن تفتك به.. «وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ» أي وأقبلوا بالباطل الذي معهم ليبطلوا به الحق الذي بين يدى النبي، ويقيموا لهذا الباطل حججا من السفه والضلال..فماذا كان مصيرهم؟ لقد أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر: كما يقول سبحانه: «فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (40: العنكبوت) وقوله تعالى: «فَكَيْفَ كانَ عِقابِ؟» استفهام يراد به التقرير، والإلفات إلى هذا العذاب الشديد.. والأحزاب، هم جماعات الضالين المكذبين بالرسل، على اختلاف أزمانهم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1206 وأوطانهم.. وسمّوا أحزابا، لأنهم تخزبوا على تكذيب رسلهم، واجتمعوا على الوقوف فى وجه دعوتهم، وسوق الأذى إليهم.. وفى هذا يقول الله تعالى: «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ.. أُولئِكَ الْأَحْزابُ» (12- 13: ص) قوله تعالى: «وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ» حقت: أي وجبت، ولزمت وكلمة ربك: هى حكمه وقضاؤه، الذي قضى به على الكافرين، وهو أنهم أصحاب النار.. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى فى كثير من آيات الكتاب الكريم، مثل قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً» (140: النساء) وقوله سبحانه: «إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً.» (21- 22: النبأ) وقوله تعالى: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» (119: هود) الآيات: (7- 9) [سورة غافر (40) : الآيات 7 الى 9] الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1207 التفسير: قوله تعالى: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» . مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة عرضت أهل الكفر والضلال، وربطت بينهم بتلك الجامعة التي تجمعهم على الباطل، لمحاربة الحق، والوقوف فى وجه دعاته، وأخذهم بالبأساء والضراء.. فهم أحزاب متناصرة على الشر، متساندة فى حجب الهدى عن أبصارهم.. وفى قوله تعالى: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ.. الآية» عرض لجبهة الخير، وأرباب الهدى.. وأنهم أحزاب متناصرة على الحق، متعاونة على البر والتقوى، يأخذ بعضهم بيد بعضهم بيد بعض إلى ما يرضى الله، وينزلهم منازل رحمته ورضوانه.. فالملائكة، وهم من عالم غير عالم البشر، تصلهم بالمؤمنين المتقين صلات وثيقة من المودة والألفة، وتجمعهم على طريق واحد، هو الطريق المتجه إلى الله.. وإذا كان الملائكة- وهم من عالم النور- أقرب إلى الله، وأدنى من رحمته ورضوانه- فإنهم يستغفرون ربهم للذين آمنوا، ويدعونه لهم، ويطلبون إليه سبحانه أن يقيهم عذاب الجحيم، وأن يدخلهم الجنة مع من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم، لينعموا جميعا بما ينعم به الملائكة، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1208 وليكونوا رفقاء لهم فى الملأ الأعلى، يأنسون بهم، ويسعدون بصحبتهم.. وفى قوله تعالى: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ» - إشارة إلى أن الملائكة وهم أقرب المقربين إلى الله من خلقه، لا يقطعهم ذلك عن التسبيح بحمده، وهم فى أمن وعافية وسلام.. بل إنهم لأكثر خلق الله تسبيحا لله، وحمدا له، لأنه أعرف بجلاله وعظمته. وفى قوله تعالى: «وَيُؤْمِنُونَ بِهِ» - إشارة إلى تلك الصلة الجامعة التي تصلهم بالمؤمنين، وهى الإيمان بالله.. ومن هنا كان دعاؤهم للمؤمنين، واستغفارهم له.. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» (10: الحجرات) .. ويقول سبحانه: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» (71: التوبة) .. وقد علّم الله المؤمنين أن يدعو بعضهم لبعض ويستغفر بعضهم لبعض، إذ يقول سبحانه على لسانهم كما علمهم: «رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» (10: الحشر) . وفى قوله تعالى: «رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً» هو من تسبيح الملائكة لله، ومن استمطارهم من واسع رحمته للمؤمنين.. فمن رحمة الله التي وسعت كل شىء، يطلب الملائكة الرحمة للمؤمنين، الذين تابوا واتبعوا سبيل الله بالإيمان به.. وفى قرن الرحمة بالعلم، إشارة إلى أن رحمة الله إنما تقع حيث علم الله موقعها من عباده.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1209 وفى قوله تعالى: «وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ» - إشارة إلى أنه لا يلحق بأهل الصلاح إلا الصالحون، وأنه لا نسب بينهم أوثق من هذا النسب، الذي يجمع بينهم فى جنات النعيم.. وقوله تعالى: «وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ» أي ادفع عنهم السيئات، وباعد بينهم وبينها، بالمغفرة، والمحو، حتى إذا حوسبوا لم يكن فى ميزان حسابهم ما يثقله من سيئات.. وقوله تعالى: «وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ» .. أي أن مغفرة السيئات والتجاوز عنها، إنما هو رحمة من رحمة الله الذي وسع كل شىء رحمة وعلما.. وقوله تعالى: «وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» - الإشارة إلى غفران السيئات والوقاية من شرها.. فمن وقى الشر فقد فاز فوزا عظيما، والله سبحانه وتعالى يقول: «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» (185: آل عمران) .. الآيات: (10- 12) [سورة غافر (40) : الآيات 10 الى 12] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1210 التفسير: قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ» . أي أنه حين يستغفر الملائكة ربّهم، ويطلبون إليه سبحانه، الرحمة للمؤمنين والتجاوز عن سيئاتهم، وإدخالهم الجنة هم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم- إذ يفعل الملائكة كل هذا من أجل المؤمنين، فإنهم يلقون الكافرين بما يسوءهم، ويضاعف آلامهم، إذ ينادونهم بمالهم عند الله من مقت وطرد من رحمته، وأن مقت الله لهم أكبر من مقتهم هم لأنفسهم، حين دعوا إلى الإيمان، فلم يقبلوه، ولجّوا فيما هم فيه من كفر وضلال.. فهم بكفرهم، وبإعراضهم عن الإيمان قد مقتوا أنفسهم، وأبعدوها عن مواطن الخير، والله أشد مقتا، وإبعادا لهم من مواطن الخير.. قوله تعالى: «قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ.. فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ» . هو حكاية لمقولة من مقولات الكافرين، وهم فى النار، إذ يمنّون أنفسهم بالخروج من النار، وبالعودة إلى الحياة الدنيا مرة أخرى ليؤمنوا بالله، ويصلحوا ما أفسدوا من أمرهم.. وقوله تعالى: «أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ» - إشارة إلى الأدوار التي مرّ بها الإنسان، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1211 وهى أربعة أدوار.. فقد كان ميّتا، قبل أن يخلق، ثم كان حيّا بعد أن خلق، ثم كان الموت، وكان البعث.. فهما موتان، وحياتان.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ.. ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ.. ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» .. (28: البقرة) قوله تعالى: «ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا.. فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ» . الإشارة إلى هذا العذاب الذي يلقاه أهل الكفر والضلال فى جهنم، وأنه إنما كان بسبب كفرهم وعنادهم، وأنهم كانوا- فى دنياهم- «إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ» أي إذا عرض عليهم الإيمان بإله واحد لا شريك له، كفروا، ولم يقبلوا هذا الإيمان.. «وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ» أي إن جعل مع الله شركاء، قبلوا الإيمان على الصورة التي تجعل مع الله إلها مع هذه الآلهة التي يعبدونها.. وهذا مثل قوله تعالى: «وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» (45: الزمر) . وقوله تعالى: «فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ» إشارة إلى أن الحكم المسلّط عليهم الآن، هو حكم الله، العلى الكبير، الذي لا يشاركه أحد فى علوّه، ومقامه، وسلطانه.. فإذا كان لآلهتهم التي أضافوها إلى الله، وأشركوها معه- إذا كان لهذه الآلهة شىء مع الله، فليطلبوا إليها هذا الذي يطلبون اليوم من الله.. وإنه لضلال فى منطقهم أن يشركوا آلهتهم مع الله فى الدنيا، ثم لا يشركوهم معه فى الآخرة، لينفذوهم من النار التي يساقون إليها.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1212 الآيات: (13- 20) [سورة غافر (40) : الآيات 13 الى 20] هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) التفسير: قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ» .. هو لقاء مع الناس، بهذا العرض الكاشف لقدرة الله، وتفرّده بالخلق والأمر، بعد أن شهدوا صورا من مشاهد القيامة، وما يلقى المؤمنون من إحسان ورضوان، وما يلقى الكافرون من خزى وعذاب.. فمن كان من المؤمنين ازداد بهذا اللقاء إيمانا، وتمسكا بما هو فيه، من طاعة وهدى، ومن كان من أهل الكفر والضلال، فليطلب لنفسه النجاة والسلامة، وليعد إلى الله من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1213 قريب.. فهذه هى الفرصة التي كان يتمناها أهل النار، ولا يجدون سبيلا إليها. وقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ» - إشارة إلى هذه الآيات التي كشفت عن أحوال الناس، وبينت لهم ما هم فيه من استقامة وعوج، فيعرف كلّ ما يأخذ وما يدع، مما هو خير له، وأصلح لشأنه.. وقوله تعالى: «وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً» إشارة إلى ما يسوق الله سبحانه وتعالى إلى العباد من رزق، وأن خير هذا الرزق وأعظمه هو هذا الكتاب الكريم، الذي بين يدى هذا النبي الكريم.. وقوله تعالى: «وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ» أي لا ينتفع بهذا الرزق، ولا يحصّل منه ثمرا طيبا إلا من يرجع إلى هذا الكتاب، ويعرض نفسه عليه، فيكون له فيه نظر واعتبار.. قوله تعالى: «فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» . هو دعوة إلى المؤمنين أن يمضوا فى طريقهم الذي استقاموا فيه على عبادة الله، وعلى إخلاص العبودية له وحده، دون أن يلتفتوا إلى موقف هؤلاء الكافرين وإلى كراهيتهم لهذا الطريق أن يسلكه المؤمنون. قوله تعالى: «رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ» - خبر لمبتدأ محذوف، تقديره هو، الله سبحانه وتعالى.. أي أن الله سبحانه وتعالى هو الكبير المتعال، ذو العرش والسلطان، المتفرد بهذا المقام العالي، والسلطان العظيم، لا يشاركه أحد، ولا ينازعه سلطان.. «يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» الروح، هو القرآن الكريم، وإلقاؤه: نزوله.. أي أن الله سبحانه هو الذي ينزل هذا القرآن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1214 وحيا منه بأمره، على من يشاء من عباده، والمراد هنا، هو رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» (52: الشورى) . وقوله تعالى: «لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ» أي لينذر الرسول الناس، «يَوْمَ التَّلاقِ» ، وهو يوم القيامة، الذي يكون فيه لقاء الله، للحساب والجزاء. قوله تعالى: «يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ.. لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» . هو بيان ليوم التلاق، وهو يوم القيامة يوم هم بارزون» أي ظاهرون، ظاهرا وباطنا، قد انكشفت سرائرهم، وظهر مستورهم: «لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ» .. كما يقول سبحانه: «يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ» (18: الحاقة) . والمراد ببروز الناس، وظهور حفاياهم فى هذا اليوم، هو ما يشهدون بأنفسهم مما انطوت عليه سرائرهم، وما أخفاه بعضهم عن بعض.. ففى هذا اليوم ينكشف كل مستور منهم، لهم، ولغيرهم، كما يقول سبحانه: «يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ» (9: الطارق) . أما علم الله سبحانه وتعالى، فهو علم كامل شامل، لا يحدّه زمان ولا مكان.. وقوله تعالى: «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟» هو سؤال بلسان الحال، حيث يظهر سلطان الله عيانا لأهل الحشر، مؤمنهم وكافرهم. وقوله تعالى: «لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» - هو جواب بلسان الحال أيضا.. حيث لا جواب غيره.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1215 وفى وصف الله سبحانه وتعالى بالوحدانية والقهر- إشارة إلى هاتين الصفتين اللتين يتجلى بهما الله سبحانه وتعالى فى هذا الموقف، حيث يتصاغر كل سلطان ويخفت كل صوت، ويذلّ كل جبار.، كما يقول سبحانه: «وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً» (111: طه) . قوله تعالى: «الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ.. إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» .. ومع تفرد الله سبحانه وتعالى فى هذا اليوم بالوحدانية المطلقة، والسلطان القاهر، فإنه سبحانه، لا يسلط سلطانه وقهره وجبروته على أحد من خلقه، بل إن عدله ليقوم إلى جانب قهره وجبروته، فلا يظلم أحدا، «لا ظلم اليوم» .. بل إن كل نفس بما كسبت رهينة.. «إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» .. لا يشغله شأن عن شأن، ولا يعوقه حساب أحد عن أحد، حتى يتصور أن يقع ظلم، أو خطأ فى حساب هذا الجمع العظيم من المحاسبين.: وهذا- والله أعلم- هو السر فى ذكر هذا القيد الوارد على نفى الظلم «لا ظلم اليوم» .. حيث هذه الحشود الكثيرة التي تحاسب فى هذا اليوم.. فإنه مع هذه الحشود من الأمم فى هذا اليوم، فإنها تحاسب حسابا سريعا، بلا معوّق.. إذ كان الله سبحانه وتعالى يعلم بعلمه كل شىء.. قبل الحساب، وأثناء الحساب، وبعد الحساب. قوله تعالى: «وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ» . هو خطاب للنبى الكريم بإنذار قومه، بما أوحى إليه عن يوم التلاق، وهو يوم الآزفة.. أي يوم الساعة الآزفة، أي القريبة. وقوله تعالى: «إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1216 «إذ» ، ظرف.. بدل من يوم الآزفة.. والحناجر: جمع حنجرة، وهى الغلصمة فى أعلى الزور، والكاظم: المأخوذ من كظمه، أي من مخنقه.. يقال كظم القربة أي ربط فمها، ومنه كظم الغيظ: أي حبسه فى الصدر. والمعنى: وأنذر الناس- أيها النبي- وحذرهم يوم القيامة وقد أزف، وهو يوم عظيم، تختنق فيه الأنفاس، وتضيق الصدور، وتجف القلوب وتضطرب، حتى لتبلغ القلوب الحناجر فى خفقها واضطرابها.. وقوله «كاظمين» حال من أصحاب القلوب. وقوله تعالى: «ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ» .. أي ليس للظالمين فى هذا اليوم العظيم، من صاحب أو صديق يعين، أو من شفيع تقبل شفاعته فيهم.. قوله تعالى: «يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ.. وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ.. إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» . خائنة الأعين: أي نظرة العين تكون عن خلسة، لا يراها الناس، ولا يعلم بها المنظور إليه. وقوله تعالى: «يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ» هو تعليل لما فى الآية السابقة من وعيد للظالمين الذين أنذروا بيوم القيامة، وما فيه من أهوال، وأن الذي سيحاسبهم هناك هو الله سبحانه، الذي يعلم ما يبدون وما يكتمون، لا تخفى عليهم منهم خافية، ولا يردّ عنهم بأسه أحد، ولا تقبل فيهم عنده شفاعة من أحد.. وقوله تعالى: «وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ» أي أنه سبحانه- مع بأسه، وسلطانه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1217 لم يظلمهم، بل وفّاهم جزاء أعمالهم، ولم يظلموا مثقال ذرة، لأن الذي قضى بهذا الحكم فيهم، هو الله، والله لا يقضى إلا بالحق.. قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ» أي أن هؤلاء الذين يعبدهم المشركون من دون الله، لا يقضون بشىء، أي لا يحكمون بحق أو باطل.. لأن الذي يحكم، هو الذي يملك، وهم- أيّا كانوا- لا يملكون من الأمر شيئا «وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ» (19: الانفطار) وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» أي إن الله سبحانه، إذ يقضى فإنما يقضى عن علم.. وإذ كان السمع والبصر، هما المصدران لكل علم ومعرفة يحصّلها الإنسان، فإن الله سبحانه وتعالى هو «السميع» الذي إليه يرجع كل مسموع.. «البصير» الذي يردّ إليه كل ما يبصر. الآيات: (21- 27) [سورة غافر (40) : الآيات 21 الى 27] أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1218 التفسير: قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ» . أي ما شأن هؤلاء المشركين، وكيف يقفون هذا الموقف العنادىّ الذي هم فيه مع النبي؟ ألم يعلموا ما أخذ الله به الظالمين قبلهم؟ وأ لم يسيروا فى الأرض، وينظروا كيف كانت عاقبة هؤلاء الظالمين، وكيف نزل بهم بلاء الله، وقد كانوا أقوى قوة من هؤلاء المشركين، وأكثر أثاثا ورئيا، وأعز سلطانا ونفرا؟ والآثار فى الأرض: التأثير فيها بالعمل فى وجوه العمران.. فيكون ذلك آثارا باقية بعدهم.. والواقي: المدافع، والحامى قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ» «ذلك» - إشارة إلى هذا البلاء المهلك، الذي أخذ الله به الظالمين، وأنه بسبب أنهم كانت تأتيهم رسلهم «بالبينات» أي بالآيات البينة المعجزة، فكذبوا بهذه الآيات، وكفروا بالله- فكان هذا الهلاك جزاء لهم على كفرهم.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1219 وقوله تعالى: «إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ» - إشارة إلى أن قوة هؤلاء الأقوياء، هى ضعف وخذلان، أمام قوة الله التي لا تدفع، وأن عذابه شديد لا يعدّ هذا العذاب الذي يسوقه الظالمون إلى ظالميهم، شيئا، بالنسبة إلى عذاب الله الذي يسوقه إليهم.. قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ» وهذا مثل من أمثلة الظالمين، الذين لو نظر هؤلاء المشركون إلى الوراء قليلا لرأوا صورتهم ممثلة فيهم.. فهم وفرعون على سواء فى الغطرسة، والكبر، والعناد.. والقرآن الكريم يجمع كثيرا فى قصصه، بين المشركين من قريش، وبين فرعون، لما بينهم وبينه من مشابه كثيرة، من كبر، وأنفة، وجاهلية مغرورة حمقاء.. والآيات البينات: هى المعجزات التي كانت مع موسى، من العصا، واليد.. والسلطان المبين: هو الاعجاز القاهر الذي بين يديه من هذه المعجزات.. هذا، «وقارون» وإن كان من قوم موسى، إلا أنه أضيف إلى فرعون، إذ كان على شاكلته، فى الاستعلاء، والطغيان.. قوله تعالى: «فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ» .. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1220 أي أن فرعون وشيعته، حين استقبلوا هذه الآيات التي طلع بها موسى عليهم، لم يتوقفوا عندها، ولم ينظروا فيها، بل أسرعوا بهذا الاتهام الذي رموها به، فقالوا ساحر كذاب.. ثم إنه لما جمع فرعون السحرة، ليبطل بهم سحر موسى- كما زعم- والتقى موسى والسحرة، وأبطل كيدهم، فلم يملكوا إلا الإذعان للحق، والإيمان به- عندئذ لم يجد فرعون إلا أن يفزع إلى قوته وسلطانه، بعد أن سقطت حجته، وبطل اتهامه، فأقبل على من آمن بموسى من السحرة وغيرهم، يصبّ عليهم سياط النقمة والبلاء، فيقتل أبناءهم أمام أعينهم، ويستبيح حرماتهم باستحياء نسائهم، فلا يرعى لحرّة حرمة.. فقوله تعالى: «فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا» إشارة إلى ظهور الحق عيانا لهم، بحيث لا تنفع معه المكابرة وقوله تعالى: «وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ» - إشارة إلى أن ما يكيد به الكافرون للمؤمنين، وما يأخذونهم به من ألوان البلاء والعذاب، هو من الأباطيل، التي لا يجد لها المؤمنون أثرا إلى جانب ما ملكوا من إيمان، هم معه فى عزة فى الدنيا، وسعادة وفوز برضوان الله فى الآخرة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان السحرة، بعد أن دخل الإيمان فى قلوبهم: «قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى» (72- 73 طه) قوله تعالى: «وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1221 فى الآية السابقة سلّط فرعون وهامان وقارون أعوانهم وجنودهم على المؤمنين، يقتلون أبناءهم ويستحيون نساءهم: «فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ» . أما موسى نفسه، فإن فرعون وحده، هو الذي سيتولى أمره، وذلك ليظهر للناس أنه القادر على ما عجزت عنه السحرة مجتمعين، وأنه إذا كان السحرة- وما معهم من سحر- قد خافوا موسى، وأسلموا له، فإن فرعون سيقتله قتلا، لا يخشى ما معه من سحر.. بل إنه لا يخشى ربه الذي يقول إنه رسول من عنده، وأن ربه هو الذي وضع بين يديه هذا الذي سحر الناس به! .. إنى سأقتله، فليلقنى بما معه من سحر، وليدع ربه ليخلصه من يدى. «وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى» .. أي دعوا موسى لا تقتلوه أنتم، بل إننى أنا الذي سأتولى قتله.. والسؤال هنا: إن أحدا لم يعرض لفرعون، ولم يحل بينه وبين ما يريد فى موسى.. فما السر فى أن يقول هذا القول: «ذرونى» أي اتركوني؟ وهل أراد فرعون شيئا يفعله بموسى ثم عرض له أحد دونه؟ وهل يجرؤ أحد أن يعترض طريق فرعون إلى ما يريد؟. ما السرّ إذن فى قوله هذا: «ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى» ؟. الجواب- والله أعلم- أن هذا القول من فرعون يكشف عن خوف كان مستوليا عليه من موسى، ومن أن خطرا داهما يتهدده من جهته.. فلقد كان يعلم- بعد أن رأى ما رأى من المعجزات- أن موسى يستند إلى قوة لا قبل لأحد بها، وأنه لو أراد بموسى شرّا لما استطاع، ولأصابه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1222 هو بلاء عظيم.. إنه كان على يقين بأن موسى على حق، ولكن الغطرسة، والكبر، وحب التسلط والسلطان- كل أولئك قد جعله يؤثر ما هو فيه من ضلال على هذا الحق الذي يدعى إليه.. فقول فرعون: «ذرونى أقتل موسى» - يشير إلى أن شيئا ما بداخله، يمسك به، وأن مشاعر خفية تلقاه بالتخويف والتحذير كلما هم أن يبطش بموسى، ويخلص من هذا الخطر الذي يتهدده منه ومن سحره.. وكأن فرعون بقوله: «ذرونى أقتل موسى» إنما يتحدث إلى هذه المشاعر التي تغلّ يده، وتحول بينه وبين ما يشتهى من الانتقام من هذا العدو المخيف!. وفى قوله: «وَلْيَدْعُ رَبَّهُ» ما يشير إلى هذا الخوف الذي يملأ كيان فرعون، أكثر مما يشير إلى الاستخفاف، وعدم المبالاة. وفى قوله: «إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ» - ما يكشف عن وجه من وجوه المخاوف التي تعيش مع فرعون من جهة موسى.. ولهذا فإنه يريد أن يتحمل هذه المخاطرة، ويقدم على قتل موسى.. أيّا كان الثمن الذي يقدمه من أجل هذا. قوله تعالى: «وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ» . هذا ما يلقى به موسى تهديد فرعون له بالقتل.. إنه يلوذ بحمى ربه من طغيان هذا الطاغية، فهو- سبحانه- القادر على أن يرد بأس هذا الجبار المتكبر، الذي لا يؤمن بالله، ولا يخشى حسابه وعقابه.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1223 وخطاب موسى فى قوله: «وربكم» - هو خطاب للمؤمنين، الذين يتهددهم فرعون كما يتهدده.. فهو بهذا يدعوهم إلى أن يعوذوا بالله من هذا الجبار- المتكبر، وأن يسلموا أمرهم إليه، وأن يصبروا على ما يلقون من أذى وضر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا» (128: الأعراف) . الآيات: (28- 35) [سورة غافر (40) : الآيات 28 الى 35] وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1224 التفسير: [مؤمن آل فرعون.. أنبيّ هو؟] ذكرنا فى سورة «يس» عند تفسير قوله تعالى: «فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ» - أن هذا الثالث يرجح- فى رأينا- أن يكون هو مؤمن آل فرعون، وأن موسى وهارون هما الاثنان المشار إليهما فى قوله تعالى: «إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما» .. ونريد هنا أن نستشهد لذلك بما تحدث به هذه الآيات من أمر هذا العبد المؤمن من آل فرعون.. ففى الآيات دلالات كثيرة، تشير إلى أن هذا المؤمن، كان إلى جانب إيمانه، داعية يدعو إلى الله، معزّزا ومؤيدا الدعوة التي يدعو بها موسى وهرون.. ففى قوله تعالى: «وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ.. وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ» . فى هذا ما يكشف عن وجه هذا المؤمن: فهو- أولا- «مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ» .. أي من آل بيته، ومن الرؤوس الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1225 البارزة فى دولة فرعون.. فقد يكون أميرا، أو وزيرا، أو قائد جند.. ونحو هذا.. وهو- ثانيا- «يَكْتُمُ إِيمانَهُ» .. وكتمان الإيمان هنا، ليس عن ضعف أو خوف، حتى يحمل إيمانه على أنه كان مجرد إعجاب بموسى، وميل إلى الطريق الذي هو عليه، إذ لو كان غير منظور فيه إلى شىء آخر، لآمن كإيمان السحرة، ولما منعه بطش فرعون وجبروته أن يعلن هذا الإيمان، متحديا فرعون، مستخفّا بكل ما يلقى فى سبيل الحق، والجهر به.. وكلا.. فإن إيمان هذا المؤمن كان إيمانا راسخا وثيقا، قائما على اقتناع بلغ مبلغ اليقين القاطع.. وإنما كان كتمان هذا الإيمان عن سياسة حكيمة، وتدبير محكم.. كما سنرى.. فالرجل لم يكن يريد الإيمان لنفسه وحسب، بل إنه كان يريد أن يكون داعية لفرعون وقومه جميعا إلى الإيمان بالله.. ولو أنه أعلن إيمانه، وجاء إلى فرعون يدعوه إلى أن يؤمن كما آمن هو، لما استمع فرعون إلى كلمة منه، ولأخذته العزّة بالإثم، وأبى عليه كبره وعناده، أن ينقاد لداعية يدعوه إلى أي أمر، ولو فتح له أبواب السماء.. وهل أتى المكذبون برسل الله إلا من دعوة الرسل إلى متابعتهم، والإيمان بالإله الذي سبقوهم إلى الإيمان به؟ وهل كانت مقولة المكذبين برسل الله إلا ترجمة لهذه المشاعر، التي تملأ صدور المكذبين أنفة وكبرا أن يكونوا متابعين لغيرهم، مسبوقين غير سابقين؟ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان هؤلاء المكذبين: «ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ» (24: المؤمنون) وقوله سبحانه: «أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ» (111: الشعراء) . وقوله جل شأنه على لسان فرعون: «أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ» (47: المؤمنون) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1226 ثم ماذا لو أعلن الرجل المؤمن إيمانه، ثم جاء إلى فرعون يدعوه إلى الإيمان؟ أكان شأنه معه إلا كشأن موسى وهرون؟ بل إن موسى وهرون معهما من آيات الله المعجزة القاهرة ما يؤيد دعوتهما.. أما الرجل فلم يكن معه إلا منطق العقل، وحجة الكلمة.. وهل لفرعون عقل يقبل منطقا، أو أذن تصغى إلى حجة؟ لقد كان من تدبير الرجل المؤمن، وهو رجل سياسة وملك- أن يجلس إلى فرعون المجلس الذي اعتاده منه.. مجلس إبداء الرأى، وعرض النصيحة، فى معرض تبادل الآراء، وتقليب وجوهها.. لا أكثر ولا أقلّ.. ومن هنا يكون للرجل أن يقول ما يشاء من آراء، ويبدى ما يرى من حجج، وأن يجد لذلك من فرعون أذنا تسمع، وعقلا يعقل.. وإنه لا بأس على فرعون أن يأخذ بالرأى الذي يخلص به من بين تلك الآراء.. إنه حينئذ يكون هو الذي يعطى الرأى ولا يأخذه، ويصدر الحكم، ولا يتلقاه!! ومن هنا نجد الرجل المؤمن- بهذا التدبير الحكيم- قد استطاع أن يعرض قضية الإيمان بالله، فى وضوح وجلاء، وأن يقدمها إلى فرعون فى جو هادىء، لا تعكر صفوء الأعاصير المحملة برجوم الردع والتحدّى.. وفى هذا يقول تعالى على لسان الرجل المؤمن: «وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ؟ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ» . إن فرعون وملأه يأتمرون بموسى ليقتلوه. وهم يعدّون التهمة التي يأخذونه بها. والتهمة عند فرعون، أن موسى يريد أن يبدّل دين القوم، وأن يفسد المجتمع، بما يثير فيه من فتنة وانقسام وفرقة، إزاء هذا الدين الجديد.. وهنا يبدى هذا الرجل المؤمن- وقد كتم إيمانه- يبدى رأيه، فيقول الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1227 وأية جناية جناها موسى؟ إنه يقول: ربّى الله.. هذا دينه الذي يدين به، ويدعو إليه، بلا قهر ولا قسر.. فهل هذه الدعوة تستوجب قتله وسفك دمه؟ لا أرى ذلك..! ثم إن هذه القولة التي ينادى بها موسى، تستند إلى آيات بينات، قد رأيناها رأى العين، وقد بطل بها سحر الساحرين.. وهذا يعنى أنها من عند إله قوىّ فوق آلهتنا كلها.. فإذا آمن موسى بهذا الإله، وتلك حجته القاهرة بين يديه على قوة معبوده الذي يعبده- فهل نستحلّ لذلك دمه؟ «وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ» الذي آمن به.. فهو يؤمن بإله له دليله عليه، ويدعو إلى عبادة إله وضع بين يديه الحجة التي تؤيد دعواه.. فكيف ندينه، وهو برىء؟ ثم ماذا لو تركناه وشأنه؟ إنه: «إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ» .. إنه يسير فى طريق اختاره لنفسه، فإن يهلك فلن يهلك إلا هو، وجنايته على نفسه وحده، لا تصيب أحدا غيره! .. ثم- من يدرى؟ - فقد يكون الرجل صادقا فيما يقول، وشواهد الصدق بادية فيما نرى.. فماذا لو انتظرنا، ثم نظرنا فى دعوته هذه، وعرضناها معرض الدراسة والبحث.. فقد نجد فيها خيرا، وقد ينكشف لنا منها هدى ونور. وهل ثمة من بأس علينا إذا وجدنا خيرا فأخذنا بحظنا منه؟ أو رأينا هدى ونورا فاتجهنا نحو هذا الهدى والنور؟ «وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ» . إنه لا بأس إذن من أن ندع موسى، ولا نعرض لقتله وسفك دمه، سواء أخذنا بما يدعو به أو لم نأخذ.. فلندعه يمضى فى طريقه، فإن كان كاذبا مدّعيا فإنه لن يفلح أبدا.. فما كان الكذب مركبا إلا إلى البلاء وسوء المصير.. فكيف إذا كان يكذب على الله الذي يقول إنه رسول من عنده؟ «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ» .. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1228 ويمضى الرجل المؤمن فى عرض رأيه ومشورته، فيحذّر القوم من أن يقدموا على ما هم عازمون عليه، فى شأن موسى.. فقد يكون الرجل صادقا، ودلائل الصدق بادية فيما جاءهم به، وفيما حذرهم به من عذاب الله فى الآخرة.. فإن هم أنفذوا أمرهم فيه وقتلوه، أيتخلّى عنه ربه هذا الذي رأينا بعض قوته فيما جاءهم به موسى من عنده؟ فكيف تكون الحال إذا قتلناه.. وهذا ربه، وتلك قوته؟ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان هذا المؤمن: «يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ.. فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا؟» ونعم.. نحن أولو قوة قادرة، وملك عظيم، وسلطان ظاهر غالب.. هذا ما نحن فيه الآن.. ولكن أيكون لنا من كل هذا ما يدفع عنّا بأس هذا الإله القوى، ويحول بيننا وبين نقمته؟ هذا رأيى، وتلك نصيحتى للملك، كما يقضى بذلك واجب الولاء والإخلاص، للملك، وللرعية..!! وهكذا استطاع الرجل المؤمن، بحكمته وسياسته فى كتم إيمانه، أن يلقى فرعون والملأ من حوله، بهذا المنطق الرزين الهادئ، فى غلاف رقيق من النصح والمناصحة! ويطرق الملأ من آل فرعون، وقد دارت رءوسهم من هذا المنطق الواضح وما بين يديه من حجة وبرهان.. ثم تتحرك بعد ذلك شفاه، وتنطلق كلمات، تعلّق على هذا الحديث، بين آخذ به، ورادّ له.. ويدع فرعون القوم يجادل بعضهم بعضا، ويفنّد بعضهم مقولات بعض.. حتى إذا فرغوا مما عندهم: جاء الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1229 إليهم من عل، فى سلطانه، وما يحفّ به من جلال وهيبة، فيلقى إليهم بهذا الأمر الملكي: «قالَ فِرْعَوْنُ: ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى، وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ» . إنه ليس لكم عندى فى هذا الأمر إلا ما رأيته من قبل، وما سمعتموه منى حين قلت لكم: «ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ» .. تلك هى كلمتى الأولى والأخيرة.. وإنها الكلمة التي فيها رشادكم، وحمايتكم من هذا الشر الذي يهبّ عليكم: «وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ» ! فهل تشكّون فى حمايتى، وحرصى على حفظكم ورعايتكم، وارتياد مواقع الخير لكم؟ وتؤذن هذه الكلمة بانفضاض مجلس المشورة، وما يكاد القوم يهمّون بالانصراف، حتى تمسك بهم نظرة من الرجل المؤمن، تريد أن تقول شيئا.. فيتلكأ بعضهم، ويهمّ آخرون، حتى إذا تكلم الرجل المؤمن، عاد المجلس إلى ما كان عليه.. وهنا يتابع الرجل المؤمن حديثه، ويصل ما انقطع منه، وكأنّ فرعون لم يقل شيئا، وكأن هذه الكلمة، ليست الكلمة الأخيرة فى هذا الأمر. وتخرج الكلمات من فم الرجل المؤمن، متدفقة هادرة، تحمل نبرة عالية من الأسى والحزن والإشفاق.. «وَقالَ الَّذِي آمَنَ.. يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1230 بهذا الإيمان الذي يملأ قلب المؤمن، يجد الرجل منطقا يتسع له مجال القول، وتتداعى إليه الأدلة والبراهين، وتنحلّ به عقد الخوف واللجلجة فى هذا المقام الرهيب!. «يا قوم» بهذه الكلمة يمسك الرجل المؤمن جماعة المجلس حيث هم.. إنه يريد أن يقول شيئا، وإن قال فرعون كلمته، وأصدر حكمه! وما اعتاد القوم أن يسمعوا بعد حكم فرعون تعليقا ولا تعقيبا.. فماذا فى الأمر؟ ألا فليسمعوا. «إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ» .. إن هذا الحكم الذي أصدره فرعون، وقال لهم فيهم: «وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ» هو حكم إن أخذوا به، لم يسلموا من عواقبه.. إن وراءه شرّا مستطيرا.. إنهم يدبرون ليقتلوا رسولا من رسل الله، وإن عندهم لخبرا عما حلّ بالأقوام الذين آذوا رسل الله من قبلهم.. فإن هم مضوا على ما هم فيه من إلحاق الأذى بموسى، فلن يسلموا من أن يحلّ بهم يوم كيوم هؤلاء الأحزاب: قوم نوح وعاد وثمود والدين من بعدهم. وإنه ليوم عسير، لقى فيهم المكذبون برسل الله الدمار والهلاك. ويلاحظ هنا أنّه سمّى يوم الأحزاب يوما، مع أنه أيام، إذ كان لكل قوم يومهم الذي لاقوا فيه هلاكهم، وذلك لأن جريمة القوم واحدة، والحكم الذي أخذوا به حكم واحد.. فكأنهم أدينوا فى يوم واحد، وإن تراحى الزمن بينهم، فى إيقاع الحكم الواقع على كل من هؤلاء الأقوام والدأب: الشأن، والحال.. هذا، ما أخذ به المكذبون برسل الله من عقاب فى الدنيا.. إنه الهلاك الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1231 الجماعى، والدّمار الشامل لكل ما عمّروا وجمعوا.. وهناك عذاب آخر أشدّ وأنكى، ينتظر هؤلاء المكذبين.. هو عذاب الآخرة.. «وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ..» ويوم التّناد هو يوم القيامة، وهو اليوم الذي ينادى فيه الموتى من قبورهم، فإذا هم قيام ينظرون.. وهذا ما يشير اليه قوله تعالى: «وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ» (41- 42: ق) . و «يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ» أي تلقون جهنم، فترتدون على أعقابكم، هلعا وفزعا.. ولكن لا عاصم لكم من أمر الله.. وقوله تعالى: «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ» . هو تعقيب على كلام الرجل المؤمن، وتصديق لما يقول.. نطق بذلك الحق، لسان الوجود كلّه.. ويمضى الرجل المؤمن يذكّر القوم، بنبىّ كريم، كان فيهم، هو يوسف عليه السلام. «وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا» .. إن ليوسف عليه السلام شأنا، وذكرا، فى الحياة المصرية، وقد رأى القوم من آياته ما سمّوه من أجلها صدّيقا، فيقول له صاحب السجن: «يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ» (46: يوسف) .. ثم يرى منه فرعون والقوم معه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1232 هذه المعجزة التي كشف بها عن حلم فرعون، والتي قرأ عليهم فيها من صحف الغيب ما سيطلع عليهم من أحداث.. ثم رأوا منه هذه الآيات المعجزة فى هذه التدبير المحكم الذي ساس به البلاد، وقاد به سفينتها إلى شاطىء الأمن والسلام، وهى فى متلاطم الأمواج العاتية، وقد كانت وشيكة أن يبتلعها اليمّ.. ذلك هو يوسف، وتلك هى آياته البينات التي رآها آباؤهم منه.. ومع هذا فقد كانوا فى شك منه.. بين مصدّق بدينه الذي يدعو إليه من عبادة الله الواحد القهار، وبين مكذّب متّهم له فيما عنده من علم، لا يتجاوز به فى تقديرهم أن يكون ساحرا عليما.. وهكذا يمضى القوم مع يوسف، حتى يهلك، دون أن يجتمعوا على رأى فيه.. فلما هلك يوسف، وأفلت من أيديهم هذا الخير الذي كان ينبغى أن ينالوه على يديه، تطلعوا إلى هذه الشمس الغاربة من أفقهم فى أسى وحسرة.. وانتظرا أن تطلع عليهم شمس أخرى فى صورة يوسف جديد.. فلما طال انتظارهم جيلا بعد جيل، استيأسوا وصرفوا أبصارهم عن ترقبه، وقالوا فى يأس وحسرة: «لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا» ! وها هو ذا قد جاء الرسول، الذي كانوا يتطلعون إليه.. أفلا يرون فى موسى وجها كوجه يوسف، فيما يدعو إليه من عبادة إله واحد، وفيما بين يديه من آيات بينات؟ وأ يقفون من موسى موقف الشك والارتياب الذي وقفه آباؤهم من يوسف؟ ثم هل ينتظرون رسولا آخر بعد أن يمضى موسى؟. ذلك هو الواقع الذي هم فيه الآن.. فماذا هم فاعلون؟ وإلى أىّ متجه يتجهون؟ أإلى الشك والارتياب؟ أم إلى التصديق والإيمان؟ ذلك لهم.. ولهم ما يشتهون! الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1233 وقوله تعالى: «كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ.. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا.. كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ» .. هو تعقيب على هذا الموقف الذي بين الرجل وبين القوم.. وهو حكم على فرعون وملائه أنهم لن يهتدوا، ولن يخرجوا عما هم فيه من عمى وضلال.. إنهم فى ارتياب شديد مسرف، فأسلمهم الله سبحانه إلى ارتيابهم، وتركهم فى ظلمات يعمهون.. وإنهم ليجادلون فى آيات الله، وليس بين أيديهم سلطان من حقّ يجادلون به، وكل ما معهم هو باطل وضلال، يلقون به آيات الله..! وقوله تعالى: «كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا» .. أي كبر مقتا وبغضا هذا الجدل بالباطل، عند الله سبحانه الذي يكره الباطل ويمقت المبطلين، وكذلك المؤمنون، يمقتون الباطل وأهله.. وقوله تعالى: «كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ» . أي بمثل هذا الطبع والختم على قلب المتكبرين والجبارين، من فرعون وقومه- يطبع الله على قلب كل متكبر جبار من أهل الشرك، الذين يلقون محمدا بالشك والارتياب والتكذيب! وهكذا ينفضّ المجلس، دون أن ينتهى القوم إلى رأى فى موسى، بعد أن لبستهم حال من البلبلة والاضطراب، من هذا النذير الذي طلع عليهم به الرجل المؤمن.. الذي يكتم إيمانه!! الآيات: (36- 46) [سورة غافر (40) : الآيات 36 الى 46] وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1234 التفسير: وإذ ينفضّ المجلس الذي ضمّ فرعون وآله، ومنهم الرجل المؤمن الذي يكتم إيمانه- إذ ينفض المجلس على تلك الحال التي اضطرب فيها الرأى، ودارت برءوس القوم فيها عواصف البلبلة والحيرة- لم يجد فرعون طريقا يحفظ به ناموس سلطانه، ويستر به الحال التي استولت عليه من الرهبة والفزع إلا أن يلقى بهذا الأمر الطائش، يتخبط به كما يتخبط الغريق بين الأمواج.. «وَقالَ فِرْعَوْنُ.. يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1235 السَّماواتِ.. فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى.. وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً!» . والأمر- كما ترى- هزل، ليس فيه شىء من الجدّ.. وإنما هو تكأة يتكىء بها فرعون على كرسىّ سلطانه الذي يكاد يسقط من فوقه! إذ كيف يبنى «هامان» صرحا يرتفع به إلى السماء؟ وفى كم من الزمن يتمّ بناؤه، إن كان ذلك الأمر مستطاعا، وكان محمولا على محمل الجدّ؟ وهل ينتظر فرعون بموسى هذا الزمن المتطاول حتى يتم بناء الصرح، ويصل به إلى أبواب السماء، ثم يطرقها، ويبحث عن إله موسى هناك؟ إنها مما حكات وتعلّات يتعلل بها فرعون، ليخلص من هذا المأزق الذي أوقع فيه نفسه، بإعلان رأيه فى قتل موسى والخلاص منه! وما نحسب أن «هامان» بنى هذا الصرح، وإن تلقّى أمر فرعون فى حينه بالامتثال والطاعة! وفى قول فرعون: «وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً» ما يشير إلى أنه لم يكن جادّا فيما يقول.. فلقد أصدر حكمه على هذا الأمر الذي يريد التحقق منه، وهو أن موسى كاذب فيما يدعيه من أن له إلها فى عالم غير هذا العالم الأرضى الذي تفرد فيه فرعون بالألوهية! فما الداعي إلى التحقق من أمر واضح الكذب؟ وقوله تعالى: «وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ» بيان للحال التي انتهى إليها أمر فرعون، وأنه مضى فى طريق الضلال إلى غايته.. فقد زين له بضلاله، واستكباره، سوء عمله هذا، فرآه حسنا، فمضى فيه، وصد عن سبيل الله، بما يحمل فى كيانه من أباطيل وضلالات. «وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ» الذي يكيد به للمؤمنين «إلا فى تباب» أي فى فساد، وضياع.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1236 قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ» لقد كشف الرجل المؤمن عن حاله، وأعلن ما كان يخفيه من إيمانه، وخرج عن سلطان فرعون، وانطلق يلقى الناس مواجهة بالدين الذي دان به، ويحاجّهم بمنطق الحق الذي استقام عليه.. وهذه المقولات التي يقولها الرجل المؤمن، هى خارج هذا المجلس الذي ضمه وفرعون والملأ من قبل.. إنه امتداد إلى خارج إلى هذا المجلس، حيث يلقاه الناس فى كل مجتمع وناد.. قوله تعالى: «مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ» هو مقولة من مقولات الرجل المؤمن، يعرض بها موازين الناس عند الإله. الذي يدعوهم إليه.. إنه إله عادل، حكيم، عالم بكل شىء.. «مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها» .. إن عمله هذا مردود عليه، ومجزىّ به، مثقالا بمثقال «وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ.. فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ» فالمحسن- من ذكر أو أنثى- لا يلقى جزاء الحسنة بمثلها وحسب، بل إنه يضاعف له الجزاء الحسن أضعافا مضاعفة، بلا حساب.. فالجنة التي يجزى بها أهل الإحسان، لا يقدّر لها ثمن، ولا يبلغها إحسان محسن، ولكنها فضل من فضل الله، وإحسان من إحسانه، إلى من أحسنوا واتقوا، «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» وليس بين المحب والمحبوب حساب! وفى قوله تعالى: «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» - إشارة إلى أن العمل الصالح لا يقبل، ولا يدخل فى الأعمال الصالحة- إلا مع الإيمان بالله. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1237 قوله تعالى: «وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ؟ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ» مناظرة بين موقف وموقف، ودعوة دعوة.. موقف الرجل المؤمن من قومه، وموقفهم منه.. إنه يدعوهم إلى الخلاص والنجاة من نقمة الله فى الدنيا، وعذابه فى الآخرة.. وهم يدعونه إلى نقمة الله فى الدنيا، وإلى عذاب النار فى الآخرة.. إنهم يدعونه ليكفر بالله الواحد الأحد، وأن يعبد مع الله آلهة أخرى لا يعلم لها حقيقة يطمئن إليها عقله، ويستسيغها منطقة.. وهو يدعوهم إلى إله يقوم على هذا الوجود، ويمسك كل ذرة منه، حفظا وعلما.. فهو سبحانه- «العزيز» الذي تذل لعزته الجبابرة.. «الغفار» الذي يغفر ذنوب المسيئين، ويقبل توبتهم، إذا هم رجعوا إليه، ووجهوا وجههم له.. فهل تستوى دعوة ودعوة؟ وهل يستوى الضلال والهدى؟ وقد جاء النظم القرآنى على غير النسق الذي يقتضيه النظم الكلامى، فى تقديرنا.. إذ بدأ الرجل المؤمن بما يدعوهم إليه: «أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ» وكان مقتضى النظم الكلامى أن يقول بعد هذا: وأدعوكم إلى العزيز الغفار، وتدعوننى لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لى به علم.. ولكن جاء النظم القرآنى على تلك الصورة المعجزة، التي جمعت بين دعوتيهم فى نسق واحد هكذا: «تَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ.. تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ» ثم كان من هذه الصورة المعجزة من النظم- أن بدئت وختمت بالدعوة التي يدعو بها المؤمن إلى الإيمان.. هكذا: «أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ.. وأنا أدعوكم إلى العزيز «الغفار» .. ثم كان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1238 منها- كذلك- أن سوّت بينه وبينهم، فقدّم نفسه أولا، ثم قدّمهم هم ثانيا.. هكذا: «أدعوكم إلى النجاة.. وتدعوننى إلى النار..» «تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ.. وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ» هذا ما ينكشف من هذا النظم للنظرة الأولى.. ووراء هذه النظرة نظرات ومعطيات.. لا حدود لها.. قوله تعالى: «لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ» هو تعقيب من الرجل المؤمن، على هذا الموقف الذي بينه وبين قومه.. إن ما يدعونه إلى عبادته من آلهتهم: «لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ» .. إنه لا يسمع دعاء داع ولا يستجيب له، سواء أكان ذلك فى هذه الدنيا، أو فى الآخرة.. وأصل لا جرم من الجرم.. وهو بهذا التركيب، للنهى: أي لا تجرموا، مثل قوله تعالى: «لا مِساسَ» ومثل الحديث الشريف: «لا ضرر ولاضرار» . وقوله تعالى: «وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ» - أي مرجع جميع المخلوقات إلى الله، فهو المالك لها وحده، يبسطها ويقبضها، وينشرها ويطويها.. وأن الناس جميعا سيرجعون إلى الله، للحساب والجزاء فى الآخرة.. «وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ» .. حيث يلقون جزاء كفرهم، وضلالهم، وإسرافهم على أنفسهم.. هذا، ولم يذكر هنا جزاء المحسنين، وهو الفوز بالجنة ونعيمها.. وذلك الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1239 لأن الموقف موقف إنقاذ، وتخليص، لهؤلاء الهلكى من هذا الضلال الذي هم فيه.. فإذا خلصوا من النار، فذلك كسب عظيم لهم.. ثم يكون لهم بعد هذا أن يتطلعوا إلى المنزل الذي ينزلونه، بعد أن خلصوا بجلدهم من هذا البلاء المحيط بهم.. إن الذي تعلق به النار، لا يعنيه شىء أكثر من أن يتخلص من هذا الثوب الذي أمسكت به النار، وليس يعنيه فى شىء أن يفكر فى الثوب الذي يلبسه بعد أن ينزع هذا الثوب عنه، ويتركه وقودا للنار تأكله.. إن دفع المضارّ مقدم على جلب المصالح، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» (185 آل عمران) قوله تعالى: «فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ.. إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ» .. أي ستعلمون علم اليقين ما أحدثكم به، وما أدعوكم إليه من الإيمان بالله الواحد الغفار، وما أحذركم به من عذابه يوم القيامة، إذا أنتم لم ترجعوا إلى الله، وتدعوا عبادة ما تعبدون من آلهة، ليس لها حول ولا طول، فى الدنيا ولا فى الآخرة.. إنكم ستذكرون هذا، وترونه عيانا، يوم القيامة، يوم لا ينفع تذكّر، ولا يغنى علم. وقوله: «وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ» هو خاتمة المطاف. فيما بينه وبين قومه، لقد دعاهم إلى الهدى، وأراهم طريق النجاة، فإن استجابوا له، واتبعوا سبيله نجوا معه، وإن هم أبوا أن ينزعوا عما هم فيه، تركهم وشأنهم، وأخذ هو طريقه الذي استقام عليه، مفوضا أمره إنى الله، مسلما له وجهه، مستعينا به وحده، فهو الذي يكفيه، ويحميه «إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ» يعلم من هم أولياؤه، ومنهم هم أعداؤه: «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ.. إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» (40: الحج) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1240 قوله تعالى: «فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ» الفاء للتعقيب، أي أنه عقب قوله: «وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ» استجاب الله له، فوقاه وحفظه مما كانوا يدبرون له من كيد عظيم، بعد أن أعلن إيمانه، وتحدّى فرعون، وخرج عن سلطانه، منحازا إلى جبهة موسى.. وقوله تعالى: «وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ» أي نزل بفرعون وآله سوء العذاب، فقد وجب عليهم وهم فى الدنيا، هذا العذاب الذي سينزل بهم فى الآخرة.. فهو حكم معلّق فى أعناقهم، وهم فى هذه الدنيا قوله تعالى: «النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ» هو بيان لسوء العذاب الذي حاق بآل فرعون، وهو النار.. وقوله تعالى: «يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا» - أي يعرضون على هذه النار فى الغدو، أي أول النهار، وفى العشى، أي آخر النهار.. وهذا العرض على النار هو فى حياتهم البرزخية، الواقعة بين الموت والبعث.. فهم فى هذه الفترة يفزّعون بالنار التي سيصيرون إليها يوم القيامة، فيردونها صبحا وعشيا، ليروا بأعينهم المنزل الذي سينزلونه يوم القيامة.. وقوله تعالى: «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ» أي فإذا كان يوم القيامة دفعوا إلى تلك النار التي كانوا يغدون عليها ويروحون.. وليست النار فحسب، بل الدرك الأسفل منها، حيث يلقون أشد وأنكى ما يلقى أهل النار من عذاب.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1241 بقي هنا سؤال، وهو: هل كان مؤمن آل فرعون نبيا مرسلا من عند الله إلى فرعون؟ وليس بالمستبعد أن يكون نبيا لم يذكره القرآن فى عداد الأنبياء الذين ذكرهم الله، فكثير من الأنبياء لم يذكرهم الله سبحانه فى القرآن كما يقول سبحانه «وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ» (164: النساء) ولكن يرجّح عندنا أنه غير رسول، إذ لو كان نبيا ذا رسالة، لكان بين يديه حجة من الله على رسالته إلى من أرسل إليهم، ولم يذكر القرآن أن بين يديه تلك الحجة التي يحاجّ بها فرعون.. ومن جهة أخرى، فإنه كان يكتم إيمانه فى مرحلة من مراحل دعوته.. والنبي إنما يرى الناس نبوته ممثلة فى إيمانه بالدين الذي يدعو إليه، قبل أن يدعو أحدا إليه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى للنبى الكريم: «قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ» (11- 12 الزمر) ومؤمن آل فرعون، إن لم يكن نبيا رسولا، فهو داعية من دعاة الله إلى الحق، وهو صوت العقل، وحجته، التي تقوم إلى جانب المعجزة المادية وحجتها.. فلقد جاء موسى إلى فرعون بآيات مادية قاهرة، كان من شأنه أن يؤمن بها إيمان قهر وإذعان، إن لم يؤمن بها إيمان عقل ومنطق.. فلما لم يؤمن بها هذا الإيمان أو ذاك، جاءه من يدعوه بالعقل والمنطق، فلم يرض لعقله ومنطقه أن يلتقى بعقل أو منطق! ومن هنا قامت عليه الحجة من كل وجه، فكان كفره أغلظ الكفر، وكان عذابه أشد العذاب.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1242 وننظر فى رسالة موسى إلى فرعون، فنجد أن موسى هو صاحب الدعوة والقائم عليها، وأن هارون، كان وزيرا له، أي سندا ومعينا، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً» (35: الفرقان) ويقول سبحانه: كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ» (15- 16 المزمل) .. فموسى عليه السلام، رسول، وهارون- عليه السلام- نبى، يقوم ردءا لهذا الرسول وسندا.. ثم يقوم من وراء الرسول والنبي، الممثلين لدعوة السماء- ثالث، يمثّل دعوة الإنسان وما أودع الخالق فيه من فطرة، وعقل.. وبهذا تلتقى السماء بالأرض، ويرتفع من الأرض هذا الإنسان، الذي يمثّل كرامة الإنسان، ويحتفظ للإنسانية بمكانها فوق عالم الحيوان..! وهذا يعنى أن الإنسانية قادرة على أن تلد الهداة والمصلحين الذين يمكن أن ترى عقولهم نور الحق، وتستضىء به، وتسير على ضوئه، وتتعرف إلى الله الواحد الأحد، بمنقطع من دعوات السماء، ورسالات الرسل!. وهنا نشير إلى ما ذكرناه من قبل فى سورة يس عند تفسير قوله تعالى: «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ» .. الآيات: (47- 53) [سورة غافر (40) : الآيات 47 الى 52] وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1243 التفسير: قوله تعالى: «وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ» .. هو عرض لأهل النار جميعا، وما يقع بين التابعين والمتبوعين، من ملاحاة، ومخاصمة.. وفى هذا الموقف من مواقف الملاحاة، يسأل التابعون سادتهم ورؤساءهم الذين كانوا أصحاب الكلمة عليهم فى الدنيا- يسألونهم أن يخففوا عنهم شيئا من هذا العذاب الذي هم فيه.. فقد كان هؤلاء السادة مفزعهم فى الدنيا، يفزعون إليهم، ويحمون ضعفهم بقوتهم.. إنهم أقوى منهم قوة، وأقدر على احتمال الثقال من الأمور.. وهذه جهنم وأهوالها،. فهل يجد الضعفاء فى قوة الأقوياء، معينا يحمل عنهم بعض ما حملوا؟. «قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها.. إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ» .. وهل لأحد بهذا البلاء يدان؟ إن قوة الأقوياء لا تقوم بحمل بعض ما ألقى عليها من عذاب، فهل هم فى حاجة إلى مزيد منه؟. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1244 وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ» - إشارة إلى أن كلّا من التابعين والمتبوعين قد لقى الجزاء الذي يستحق.. فالذى حكم بينهم هو الله سبحانه وتعالى، وقضاؤه الفصل، وحكمه العدل.. وأنه إذا كان المتبوعون قد غرروا بأتباعهم، وساقوهم سوقا إلى الكفر، فإنهم قد نالوا ما يستحقون من عذاب فوق ما نال أتباعهم، وفى هذا يقول الله تعالى: «وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ» (13: العنكبوت) . قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ» . وإذ ييأس أهل النار من أن يغنى بعضهم عن بعض شيئا، فإنهم يمدون أيديهم إلى خزنة جهنم، وإلى حراس هذا السجن الجهنمى المطبق عليهم، يسألونهم أن يدعوا ربهم، ويسألوه تخفيف العذاب عنهم، ولو يوما واحدا، ليجدوا نسمة من نسمة الحياة، تدخل إلى صدورهم المكظومة بلهيب السعير! .. «قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ؟ قالُوا بَلى! قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ» . ويلقى خزنة جهنم أصحاب النار بهذا السؤال، ردّا على طلبهم: «أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ» ؟ أو لم يبعث الله فيكم رسلا؟ وألم يحمل إليكم الرسل بين أيديهم آيات بينات من عند الله، تكشف لكم الطريق إلى الحق والهدى؟ «قالوا بلى!» قد جاءنا رسل ربنا بالحق!. وإذ يتلقى خزنة جهنم هذا الاعتراف من أفواههم، والإقرار على الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1245 أنفسهم بأنهم كانوا ظالمين- يقولون لهم فى استهزاء وسخرية: لم لا تدعون أنتم؟ فادعوا إن كان ينفعكم الدعاء، ويستجاب لكم بما تدعون.. «فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ» .. قوله تعالى: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ» . وإذ يلقى الكافرون الخذلان فى جهنم، فلم يقبل منهم قول، ولم يستجب لهم دعاء- فإن شأن رسل الله، والمؤمنين بالله، غير هذا.. إنهم أهل كرامة على الله فى الدنيا وفى الآخرة.. إنه سبحانه وليّهم فى الدنيا وفى الآخرة.. ففى الدنيا، يؤيدهم بنصره، وفى الآخرة، يؤمّنهم من فزع هذا اليوم، وينزلهم منازل رحمته ورضوانه فى جنات لهم فيها نعيم مقيم.. وقوله تعالى: «وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ» أي يوم القيامة، حيث يقوم على الناس من يؤدى شهادته عليهم، من رسل الله، ومن جوارحهم التي تقوم شاهدة عليهم.. الآيات: (53- 59) [سورة غافر (40) : الآيات 53 الى 59] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1246 التفسير: قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ» . هو استكمال لقصة موسى، ولرسالته كرسول من عند الله.. فقد ذكرت الآيات السابقة رسالة موسى إلى فرعون وهامان وقارون، وهى جزء من رسالته إلى بنى إسرائيل، فلما انتهت قصة موسى مع فرعون، اقتضى المقام الإشارة إلى رسالة موسى، وهى أنها لبنى إسرائيل فى عمومها.. والهدى الذي آتاه الله موسى، هو التوراة، كما يقول الله سبحانه: «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ» (44: المائدة) . وفى قوله تعالى: «وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ» - إشارة إلى أن بنى إسرائيل لم يرثوا هذا الهدى الذي تحمله التوراة، والذي حمله إليهم موسى فيها. وإنما ورثوا الكتاب، أي هذه الكلمات المكتوبة فى كتاب..! الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1247 قوله تعالى: «هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ» .. أي أن هذا الكتاب، هو هدى وذكرى لمن يطلب الهدى، وينتفع به.. وفى هذا تعريض ببني إسرائيل، وأنهم لم يستقيموا على ما فى هذا الكتاب من هدى، ولم يذكروا ما فيه من وصايا وعظات.. وقوله تعالى: «فَاصْبِرْ.. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ» . الخطاب هو من الله سبحانه، لنبيه الكريم- صلوات الله وسلامه عليه- ومناسبة هذا الخطاب هنا، هو ما جاء فى الآيات السابقة من موقف فرعون، ومكابرته، وعناده، وتحديه لآيات الله.. وهو نفس الموقف الذي يقفه المشركون من دعوة النبي، ومن آيات الله يتلوها عليهم، وإن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- ليلقى من عنادهم واستكبارهم ما ينوء به كاهله، وتضيق به نفسه.. فكان هذا الخطاب الكريم له من ربه، مددا من أمداد السماء، يجد فى ظله أرواح الطمأنينة والرضا. ويحمل إليه هذا الخطاب الكريم أكثر من دعوة.. فأولا: دعوته- صلوات الله وسلامه عليه- إلى أن يصبر لحكم ربه، وينتظر ما يقضى به الله سبحانه وتعالى فيما بينه وبين قومه.. وفى هذا إشارة إلى ما يلقى النبىّ من قومه من عنت وضيق، وأنه لا بد أن يقيم أمره على الصبر، حتى يستطيع أنه يمضى بدعوته إلى غايتها.. ثم إن مع هذه الدعوة إلى الصبر، وما يحمل النبىّ الكريم من أعبائه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1248 الثقال- فقد حملت معها من ألطاف الله سبحانه، ما يشدّ عزم النبىّ، ويثبت خطوه على طريق الصبر الطويل، فهو على موعد مع نصر الله: «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» ووعد الله هو ما جاء فى قوله تعالى: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ» . وثانيا: دعوة النبىّ إلى أن يستغفر ربه لذنبه.. «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» .. وهنا سؤال: وهل للنبى- صلوات الله وسلامه عليه- ذنوب؟ أو بمعنى آخر هل يتفق أن يكون نبيّا ويذنب؟ والجواب، أن النبي- أي نبى- تقع منه ذنوب، ومع هذا فإن تلك الذنوب لا تنزل من قدره عند ربه، ولا تدخل على نبوّته ضيما.. وإذا قلنا إن النبي تقع منه ذنوب، فذلك مما يقرره القرآن فى قوله: «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» .. فهذا صريح فى أن للنبىّ ذنوبا، يستغفر ربه لها، ويطلب منه مغفرتها له.. على أن الذي ينبغى أن يكون مفهوما فى هذا المقام، هو أن ذنوب الأنبياء من الصغائر، واللّمم، المعفوّ عنه بالنسبة لغير الأنبياء، ولكنها تعتبر ذنوبا فى مقام الأنبياء.. فالصغيرة من النبي كبيرة، وما لا يعد ذنبا عند بعض الناس هو ذنب عند آخرين.. فالذنب إنما يقاس بالنسبة لقدر من يقع منه.. فيكبر أو يصغر بحسب قدر مرتكبه.. والرسول الكريم- صلوات الله وسلامه عليه- هو صفوة خلق الله، وأقربهم إليه، تحسب عليه ذنوب قد لا تعدّ ذنوبا على بعض الأنبياء.. فهم- صلوات الله وسلامه عليهم- درجات، وهم فى درجاتهم العالية فوق الناس جميعا. وسؤال آخر.. ما الذنوب التي يستغفر لها النبي ربه، وقد غفر الله له سبحانه ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1249 والجواب أن غفران ما تقدم وما تأخر من الذنوب، هو وعد من الله سبحانه وتعالى، كما جاء فى قوله سبحانه: «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» . وهذا الوعد وإن يكن واقعا محققا من غير شك، فإن الأمر بالاستغفار للذنب، أمر مطلوب من النبي، وهو واقع محقق كذلك.. وإذن فغفران الذنوب للنبى- ما تقدم منها وما تأخر- مرتبط باستغفاره لذنوبه، واستغفاره لذنوبه واقع محقق منه، فيكون غفران ذنوبه واقعا محققا كذلك..! وإذن لا تعارض بين الوعد المحقق بغفران ذنوب النبي- ما تقدم منها وما تأخر- وبين أمره باستغفاره لذنوبه.. هذا، والإشارة إلى أن للنبى ذنوبا، مطلوبا منه الاستغفار لها- يشعر بأن الإنسان مهما بلغ من الكمال، فلن يتخلص من الجلد البشرى الذي يلبسه.. فهو إنسان قبل كل شىء، وكماله البشرى هو محصور فى هذا الحد لا يتجاوزه، فلا يكون من عالم الملائكة بحال أبدا، والرسول صلوات الله وسلامه عليه يقول: «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون» .. لم يستثن الرسول الكريم فى هذا أحدا من أبناء آدم.. والأنبياء من أولاد آدم بلا شك، وإن كانوا الصفوة المتخيرة من بين هؤلاء الأبناء، وإن كان رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- صفوة هؤلاء الصفوة!! ولنذكر هنا فى هذا المقام، أن ما يحسب من ذنوب للمصطفين من عباد الله، هو مما يعد من حسنات غيرهم، كما يقال: «حسنات الأبرار سيئات المقربين» . ثالثا: دعوته- صلى الله عليه وسلم- أن يسبح بحمد ربه بالعشيّ والإبكار، أي أول الليل، وبواكير النهار.. أي قبل أن تطلع الشمس. وليس ذكر هذين الوقتين حصرا لتسبيح الرسول ربّه فيهما، فهو صلوات الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1250 الله وسلامه عليه- على ذكر دائم لربه، مسبحا، وحامدا، ومستغفرا.. وإنما خصّ هذان الوقتان بالذكر، لأنهما أثقل وقتين، يشق على النفس فيهما العمل، وتعرض فيهما الغفلة، حيث يستقبل الإنسان أول الليل بالخلود إلى الراحة، وإعطاء الجسد حاجته من الليل، وحيث يكون الإنسان فى أواخر الليل وأوائل النهار مستغرقا فى سكونه وراحته، فيثقل عليه أن ينخلع عن تلك الحال.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا» (6: المزمل) . ومن جهة أخرى، فإن حمد الله فى هذين الوقتين- وقد خلت النفس من شواغل الحياة ومن الاتصال بالعالم الخارجي- يجد فيهما القلب طمأنينته وسكينته فيتجه بوجوده كله إلى الله. وهذا ما يعطى للذكر فى هذه الأوقات طعما لا يجده الذاكر فى غيرها، حيث تكثر الشواغل والمعوقات.. ومن هنا كان الليل خلوة العابدين، ومسبح المسبحين، وملتقى العاشقين.. قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» هو خطاب للمشركين، بعد خطاب النبي.. وهو تهديد وعيد لهم، وأنهم لن يبلغوا شيئا مما يريدون به النبي ودعوته من سوء.. إذ أن الله سبحانه وتعالى سيقضى بينهم وبين النبي، وسيكون هذا القضاء إدانة لهم، وخذلانا لجمعهم، على حين يكون نصرا للنبى، وللمؤمنين، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى فى الآية السابقة: «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» .. وقوله تعالى: «إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1251 «إن» هنا نافية، بمعنى «ما» والكبر الذي فى صدور المشركين: هو هذا الغرور الذي زينه الشيطان لهم، وأنهم على الحق، وأن الغلبة آخر الأمر لهم وفى هذا يقول سبحانه: «وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ» (48: الأنفال) .. فهذا الكبر الذي يملأ صدورهم، ما هو إلا دخان من الباطل، وإنهم لن يبلغوا به ما يطمعهم فيه من آمال.. فالضمير فى «بالغيه» يعود إلى الكبر، بمعنى أنهم لن يبلغوا ما ينطوى عليه هذا الكبر من أمانىّ وآمال..! وقوله تعالى: «فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ.. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» - دعوة إلى النبي الكريم من ربه سبحانه وتعالى، أن يلقى كبر هؤلاء المتكبرين، وتطاول هؤلاء المتطاولين المدلّين بجمعهم، المغرورين بقوتهم- أن يلقى ذلك منهم باللّجأ إلى الله، واللّياذ بقوته، فهو سبحانه «السميع» الذي يسمع للنبى ما يدعو به ويستجيب له، وهو «البصير» الذي يرى أين تنزل مواقع رحمته وإحسانه، وأين تقع صواعق نقمه وبلائه.. قوله تعالى: «لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ.. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى، أن الآية السابقة، أشارت إلى ما يملأ صدور المشركين من كبر وغرور واستعلاء، وأنهم يحسبون بما ملكوا من كثرة فى المال والرجال- أنهم لن يغلبوا.. فجاء قوله تعالى: «لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ» - ليريهم أنهم، وإن كانوا- كما يرون فى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1252 أنفسهم- أصحاب قوة وبأس، فإن قوتهم وبأسهم لا يغنيان عنهم من الله شيئا، ولا يردّان عنهم بأسه إذا جاءهم.. فأين هم من الناس؟ وأين الناس من السموات والأرض؟ إن كل ذلك من خلق الله، وفى قبضة الله.. فهل من خلق هذا الوجود، وقام بسلطانه عليه، يعجزه قهر هؤلاء المتكبرين، وإذلالهم والتنكيل بهم؟ وفى قوله تعالى: «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» - إشارة إلى جهل هؤلاء المشركين، وغيرهم من الضالين، بقدرة الله وسلطانه القائم على كل شىء.. وإنهم ما استعظموا ما هم فيه من قوة إلا عن جهل بقدرة الله، بل وعن جهل بقدرة مخلوقات الله، التي إذا وضعوا أنفسهم إزاءها كانوا أشبه بالذرّ أو النمل تحت سفح جبل شامخ..! قوله تعالى: «وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ» هو تعقيب على قوله تعالى: «لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» .. وذلك أنه إذا كان أكثر الناس لا يعلمون هذه الحقائق التي تكشف لهم عن قدرة الله سبحانه وتعالى، وقوة سلطانه القائم على هذا الوجود- فإن بعضا من الناس- وهم أقلهم- يعلم من جلال الله، وعظمته، وقدرته، ما يملأ القلب هدى وإيمانا.. ومن هنا يختلف الناس، إيمانا وكفرا، وهدى وضلالا، وإحسانا وإساءة. وإنه كما لا يستوى الأعمى والبصير، كذلك لا يستوى الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والذين كفروا وعملوا السيئات.. إن الاختلاف بينهما واضح لا يحتاج إلى بيان.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1253 وقد جاء النظم القرآنى على نسق يخالف ما يجىء عليه النظم الكلامى.. فلم يلتزم القرآن الترتيب الذي يردّ الإعجاز على الصدور- كما يقول أهل البلاغة- إذ كان من مقتضى هذا أن يجىء النظم هكذا: وما يستوى الأعمى والبصير، ولا المسيء والمحسن.. ولكن جاء النظم القرآنى كما ترى.. فقدّم الأعمى على البصير، ثم عاد فقدم المحسن على المسيء فلم تقع بذلك المقابلة المطلوبة عند علماء البلاغة حيث يقتضى النظم عندهم، أن يقدّم المسيء على المحسن، ليقابل المسيء الأعمى، والمحسن البصير.. وهذا التدبير من النظم القرآنى يخفى وراءه أسرارا، ولطائف، هى من بعض الدلائل على إعجازه.. فمن بعض هذه الأسرار هنا، هو أن القرآن قد جمع بين البصير، وبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات، حتى لكأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم الامتداد الطبيعي لهذا البصير.. «وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» .. فهذا هو أصل القضية: الأعمى والبصير.. ثم مع البصير كان الذين آمنوا وعملوا الصالحات، لأنهما طبيعة واحدة.. إذ قلّ أن تكون بصيرة لا يتبعها إيمان وعمل صالح.. وهذا هو السر فى التعبير بالبصير دون المبصر.. أما الأعمى، فقد يكون أعمى عين، فهو من جهة النظر لا يستوى مع المبصر.. وقد يكون أعمى قلب، فلا يهتدى إلى هدى.. وهو من هذه الجهة لا يستوى مع صاحب البصيرة.. ولهذا لم يقترن المسيء بالأعمى، ولم يقابله مقابلة توافق، وتوازن.. إذ ليس مع كل عمى إساءة، وإنما تكون الإساءة مع عمى البصيرة.. ومن هنا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1254 جاء النفي بعدم التسوية واقعا على المسيء: «وَلَا الْمُسِيءُ» وكأن القضية من وجهة نظر أخرى هى هكذا: «وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ» .. وقوله تعالى: «قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ» أي قليل منكم أيها الناس من يتذكر ويعقل هذه الأمثال.. وقليل تذكّر من يتذكر منكم، إذ النسيان غالب عليكم. قوله تعالى: «إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ» وإذا كانت القضية قضية تفرقة بين المؤمنين ذوى البصائر، والكافرين الذين أصمهم الله وأعمى أبصارهم، وإذ كان هناك مؤمنون وكافرون- فقد حسن أن تعرض هذه الحقيقة التي هى المحكّ الذي يعرف به إيمان المؤمنين وكفر الكافرين، وتلك القضية، هى قضية البعث والحساب والجزاء.. فمن آمن باليوم الآخر. فهو المؤمن حقا، لأنه لا يؤمن من يؤمن باليوم الآخر إلا إذا كان مؤمنا بالله إيمانا خالصا، مبرّأ من كل شرك.. ومن كفر بالآخرة، فهو كافر بالله، أو مشرك به.. ومن هنا، جاء هذا الإعلان فى قوله تعالى: «إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها» ليكون فى ذلك اختبار لإيمان المؤمنين، وكفر الكافرين.. فمن تقبّل هذه الحقيقة، وصدّقها، واستيقن بها، فهو من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ومن كذب بها، أو شكّ فيها، فهو من الضالين المسيئين.. وقوله تعالى: «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ» هو بيان لما ينكشف عنه امتحان الناس بهذا الإعلان، وبتصديقهم به، أو تكذيبهم.. وقد كشف هذا الامتحان عن أن أكثر الناس لا يؤمنون، لأن أكثر الناس كذلك لا يعلمون ولا يتذكرون.. كما يقول تعالى فى الآية السابقة: «قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1255 الآيات: (60- 65) [سورة غافر (40) : الآيات 60 الى 65] وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65) التفسير: قوله تعالى: «وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ» هو التفات بعين الرضا والرحمة والإحسان من الله سبحانه وتعالى، إلى عباده المؤمنين، الذين آمنوا به، واستيقنوا أن الساعة آتية لا ريب فيها.. فهؤلاء المؤمنون يدعوهم الله سبحانه إلى ساحة فضله وإحسانه، قائلا لهم: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» .. اسألوا تعطوا.. «إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» وفى الدعاء رغب إلى الله، ووقوف بين يدى رحمته وإحسانه.. وفى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1256 الاستجابة إظهار لما للعبد عند ربّه من احتفاء وتكريم، وأنه بموضع الرضا والقبول.. والدعاء، هو عباده المؤمنين، وهو ولاء، وتسبيح، وصلاة لله رب العالمين.. ومن هنا عرّف الدعاء بأنه مخّ العبادة.. لأنه مفزع العبد إلى ربه، وفيه يتجلى ضعف العبد وانكساره، وذلّه، أمام قدرة الله وعظمته وجلاله.. فهو- فى صميمه- عبادة خالصة، وابتهال خاشع، وولاء واستسلام.. ولكل إنسان دعاؤه الذي يدعو به ربه.. فمنهم من يطلب الدنيا، ويجعلها همّه فيما يدعو به ربه، ومنهم من يطلب الآخرة ويرجو بدعائه رحمة ربه، ومنهم من يقول: ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، فيجمع بين الدنيا والآخرة.. وكثير من الناس، لا يذكرون الله بالدعاء إلا عند الشدة والضيق.. فهم فى غفلة عن ذكر ربهم، حتى إذا نزل بهم مكروه، أو أحاط بهم بلاء ضرعوا إلى الله، وأسلموا إليه أمرهم،. فإذا زايلتهم تلك الحال، مضوا إلى ما كانوا فيه من شغل عن الله، واشتغال بدنياهم، وتقلبهم فى لعبهم ولهوهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ» (12: يونس) هذا، وقد عرضنا موضوع الدعاء فى بحث خاص، ذكرنا فيه ماهيّة الدعاء، ومواقع الإجابة، ومواطنها، وهل يردّ الدعاء القضاء؟ وهل يجاب كل دعاء؟ ثم عرضنا بعضا من أدعية الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وأدعية الصحابة، وغيرهم من صالحى المؤمنين.. وذلك فى كتابنا: «الدعاء المستجاب» .. قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ» الداخر: الذليل المهين.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1257 وفى هذا إشارة إلى أن الدعاء عبادة، وولاء، وخضوع لله، واعتراف بجلاله وقدرته.. وأن الذين لا يدعون الله، ولا يوجهون وجوههم إليه، هم أهل كفر بالله، وضلال عنه.. إذ يمنعهم كبرهم واستعلاؤهم عن أن يذلّوا لله، ويمدوا أيديهم سائلين من فضله، طالبين من رحمته.. إنهم سيدخلون جهنم أذلاء، محقرين، بعد أن صرفوا وجوههم عن الله مستعلين مستكبرين.. إنه الهوان والإذلال، هو جزاء كل متكبر جبار. وفى قوله تعالى: «عَنْ عِبادَتِي» بدلا من «دعائى» - إشارة إلى أن الدعاء من العبادة، بل إنه- كما قلنا- مخّ العبادة.. قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ» .. مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة قد حملت دعوة إلى الناس أن يدعوا الله ربهم، وأن يوجّهوا وجوههم إليه.. كما توعدت الآية الذين يستكبرون عن عبادة الله ودعائه، بالإلقاء فى النار، فى ذلة وصغار.. فجاءت هذه الآية والآيات التي بعدها، تعرض بعض مظاهر قدرة الله ورحمته وإحسانه إلى عباده، ليرى هؤلاء المستكبرون أين يقع استكبارهم من جلال الله وعظمته.. فقوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً» أي أن الله الذي يدعوكم إليه، ويستضيفكم إلى ساحة فضله وإحسانه، ثم تأبون أن تستجيبوا له أيها المستكبرون- الله الذي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1258 لا تقدرونه حقّ قدره، هو: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً» .. إنه سبحانه جعل لكم ذلك من غير طلب أو دعاء، فالله سبحانه يعطى من غير طلب، ويجود من غير سؤال.. وما الدعاء الذي تدعونه به، إلا عبادة وولاء لله رب العالمين.. وفى قوله تعالى: «وَالنَّهارَ مُبْصِراً» إشارة إلى أن النهار وضوءه هو الذي يعطى العيون وظيفة الإبصار، وأنه لولا هذا الضوء لما كان للعين أن ترى شيئا، فالتقاء الضوء بالعين هو الذي يعطيها القدرة على الإبصار، وأنه لولا هذا الضوء لكان البصير والأعمى على سواء.. وإلى هذا يشير المعرى بقوله: وبصير الأقوام فى مثل أعمى ... فهلمّوا فى حندس نتصادم والحندس: الظلام الشديد.. وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ» إشارة إلى موقف كثير من الناس من فضل الله ونعمه عليهم، حيث يلقونها بالجحود والكفران، فلا يشكرون لله، بل ولا يؤمنون به.. قوله تعالى: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ» . فى الإشارة إلى الله سبحانه وتعالى، إلفات لهؤلاء الغافلين عنه، المشركين به، العاكفين على عبادة ما يعبدون من أوثان وغير أوثان، مما صنعت أيديهم، أو تصورت أوهامهم.. فالله سبحانه هو خالق كل شىء، وما يعبده هؤلاء المشركون من معبودات، هى مخلوقات لله، والمنطق الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1259 يقضى بداهة بألّا تكون عبادة إلا للخالق وحده سبحانه وتعالى، وأن عبادة غيره سبحانه، ضلال مبين. وقوله تعالى: «فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ» - استفهام إنكارى، ينكر على هؤلاء المشركين أن يولوا وجوههم إلى غير الله الواحد، الخالق لكل شىء.. والإفك: العدول عن الحق إلى الباطل، وعن الهدى إلى الضلال. قوله تعالى: «كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» . أي بمثل هذا الإفك، والافتراء على الله سبحانه بنسبة الشركاء إليه، يأفك ويفترى كل من يجحد بآيات الله، ولا يعرف ما فيها من دلائل الكمال والجلال لذات الله سبحانه وتعالى.. إن آفة الضالين والمشركين، هى جهلهم بآيات الله، وعدم وقوفهم عليها، الأمر الذي ينتهى بهم إلى إنكارها، ثم إلى إنكار الله.. قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ.. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» .. وهذه آية من آيات الله.. فهل لأهل الضلال والإفك أن ينظروا فيها، وأن يخرجوا من هذا الظلام الذي هم فيه، وأن يصافحوا بأبصارهم هذا النور المشّع من آيات الله، ليروا على ضوئه الحق الذي ضلوا عن طريقه.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1260 وكأنّ سائلا سأل: وما الله الذي بآياته يجحدون؟ فكان الجواب: «اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ.. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ» الذي أقامكم على هذه الأرض، وجعلها لكم مستقرا ومقاما، وجعل فوقكم السماء سقفا محفوظا، تمسكه قدرته.. فإذا نظرتم فى أنفسكم رأيتم كيف أخرجكم الله فى تلك الصورة الكريمة من الخلق، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة.. ثم ساق لكم من الرزق ما يقيم حياتكم، ويحفظ وجودكم.. «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ» إن كنتم تريدون التعرف إليه، والإيمان به.. «فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» .. أي علا، وعظم. ربكم هذا، إنه رب العالمين.. قوله تعالى: «هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» . أي ذلكم الله ربكم «هو الحي» حياة أبدية سرمدية.. وكل شىء هالك إلا وجهه.. «لا إله إلا هو» وإذ تفرد سبحانه بالحياة الدائمة السرمدية، فهو المتفرد كذلك بالألوهية.. وإذ تفرد سبحانه بالألوهية، فمن حقه أن يتفرد وحده بالعبودية له من جميع خلقه «فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» لا تشركوا معه معبودا آخر، واجعلوا الحمد له، مفتتح عبادتكم ومختتمها.. فهو- سبحانه- المستحق للحمد، أولا وآخرا.. الآيات: (66- 68) [سورة غافر (40) : الآيات 66 الى 68] قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1261 التفسير: قوله تعالى: «قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» . هذا هو موقف الرسول صلوات الله وسلامه عليه، من آيات ربه، تلك الآيات التي تلقاها وحيا من ربه، ثم بلغها- كما أمره ربه- إلى الناس، فاهتدى بها من اهتدى، وكفر بها من كفر!. والنبي- صلوات الله وسلامه عليه- يمثل النموذج الأمثل والأكمل فى الأخذ بآيات ربه، والامتثال لما تأمر به، واجتناب ما تنهى عنه.. فهو صلوات الله وسلامه عليه، قد نهى من ربه أن يعبد ما يعبد المشركون من دون الله.. وقد اجتنب ما نهى عنه.. وهو- صلوات الله وسلامه عليه- قد أمر أن يعبد الله وحده، ويسلم وجوده لله رب العالمين، فامتثل ما أمر به.. هذه هى سبيل النبي.. فمن أراد أن يكون مع النبي، فهذه سبيله: أن يجتنب عبادة ما يعبد المشركون، وأن يخلص العبادة لله وحده.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1262 وهنا سؤال: كيف ينهى النبىّ عن عبادة ما يعبد المشركون، وهو- صلوات الله وسلامه عليه- لم يسجد لصنم، ولم يوجّه وجهه إلى غير الله، قبل أن تأتيه الرسالة، إذ كان له من فطرته السليمة ما عصمه به الله من أن يشتهى هذا الطعام الخبيث، الذي كان يقتات منه قومه..؟ والجواب على هذا من وجهين: فأولا: ليس النهى عن الشيء بالذي يلزم منه أن يكون الموجّه إليه النهى مواقعا له، أو متلبسا به.. بل يصح أن يكون النهى واقعا على ذات الشيء المنهّى عنه وحده، أشبه بلافتة تشير إلى الخطر الكامن فيه، وتنبه إلى الحذر منه.. فإذا نهى النبي عن الشرك، فإنما ينهى عن أمر، ينبغى عليه أن يحذره ويتوقاء أبدا، كما يقول الله سبحانه وتعالى: «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ» (65: الزمر) وثانيا: أن هذا النهى- وإن كان موجها إلى النبىّ- هو فى حقيقته موجه إلى كلّ مدعوّ إلى الإيمان بالله.. فمن أراد أن يدخل فى الإيمان، فلينزع ثوب الشرك أولا، ولينفض يديه، وبخل نفسه من كل ما يصله بتلك المعبودات التي تعبد من دون الله.. ثم ليدخل بعد هذا إلى ساحة الإيمان نفيّا، طاهرا من الشرك ورجسه.. وفى قوله تعالى: «لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي» .. إشارة إلى أن هذا الذي تلقاه النبىّ من نهى عن الشرك، وأمر بالإسلام لربه، إنما كان بعد بعثته، واصطفائه لرسالة ربه، وتلقيه ما ينزل عليه من آياته وكلماته.. فهذا النهى وذلك الأمر، إنما هو من محامل الرسالة التي أرسل بها من ربه، وأمر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1263 بتبليغها، وإلّا فإنه قبل أن يتلقى هذه الرسالة، لم يكن منهيّا عن شىء أو مأمورا بشىء.. وإنما كان يأخذ الأمور بما تهديه إليه فطرته، ويدعوه إليه عقله.. قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» . هو بيان لما لربّ العالمين الذي دعى النبي والمؤمنون معه إلى الإسلام له- من قدرة، وعلم، وحكمة، يراها ذوو الأبصار فى هذا الإنسان، وفى مادة خلقه، وكيف تنقّل من طور إلى طور، حتى كان هذا الكائن العجيب، الذي يحارب الله، ويكفر به!! فالمادة الأولى للإنسان- أي إنسان- هى هذا التراب.. إذ كان غذاء أبويه من نبات الأرض المتخلّق من التراب، وكانت النطفة متخلقة من هذا الغذاء.. وهذه هى جرثومة الحياة للإنسان.. ثم تنتقل هذه النطفة فى الرّحم، فتكون علقة، فمضغة، فعظاما، فلحما يكسو هذه العظام.. حتى إذا اكتمل الجنين فى بطن أمه، ولد طفلا، هو الصورة المصغرة لهذا الإنسان الذي سيكونه يوم يكبر، ويبلغ أشدّه.. هذه هى مراحل الحياة الإنسانية.. من التراب: إلى الإنسان.. ثم إلى التراب..! وفى قوله تعالى: «ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا» عطف وجود ذى خصائص مميزة للإنسان على وجود آخر، له خصائصه ومميزاته.. فالإنسان فى بطن أمه، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1264 يعيش فى عالم، ثم ولد فكان فى عالم آخر، يختلف عن عالمه الذي كان فيه.. فكأن هذا الميلاد إخراج جديد له من وجود إلى وجود، ولهذا جاء التعبير القرآنى: «ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا» بالعطف بثم التي تفيد التراخي، ثم بفعل الإخراج الذي يدل على المغايرة، بين ما كان قبل هذا الإخراج، وبعده.. وقوله تعالى: «ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً» - ثم هنا زائدة، والغرض منها الدلالة على أن هنا زمنا ممتدا بين خروج الإنسان من بطن أمه طفلا، ثم بلوغه أشده.. فقوله تعالى: «ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ» هو تعليل لخروج الإنسان من بطن أمه إذ لولا هذا الخروج، لما بلغ الإنسان هذه الغاية.. وكأنّ النظم هو: ثم يخرجكم طفلا لتبلغوا أشدكم ولتكونوا شيوخا» .. وبين بلوغ الإنسان أشده، وبين شيخوخته مسافة زمنية، يملأ فراغها حرف العطف «ثم» .. وقوله تعالى: «وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ» احتراس، يراد به تقييد هذا الإطلاق فى قوله تعالى: «ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً» أي ومنكم من يتوفى من قبل أن يبلغ أشده، أو من قبل أن يكون شيخا.. وقوله تعالى: «وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى» معطوف على قوله تعالى: «وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ» بتقدير محذوف يدل عليه ما قبله: أي ومنكم من يمدّ فى أجله، لتبلغوا الأجل المكتوب لكم.. قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ.. فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» أي أن من قدرة الله سبحانه ومن تدبيره فى خلقه، أنه «يحيى» أي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1265 يخلق الأحياء، ويمسك عليهم الحياة «ويميت» أي يميت الأحياء، التي ألبسها ثوب الحياة.. وعمليات الإحياء والإماتة، ليست بالأمر الذي يتكلف له الله- سبحانه- جهدا، أو يبذل فيه عملا.. إذ أن كل شىء فى هذا الوجود خاضع لسلطانه، مستجيب لقدرته. منفذ لمشيئته، من غير تأبّ أو انحراف.. «فَإِذا قَضى أَمْراً.. فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» أي أنه سبحانه إذا شاء أمرا، كان هذا الأمر، وجاء كما شاءت مشيئته.. «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» (93: مريم) الآيات: (69- 77) [سورة غافر (40) : الآيات 69 الى 77] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1266 التفسير: قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ» .. بعد هذا الاستعراض الرائع لقدرة الله، وآثاره فى خلقه، لا يزال هناك كثير من أهل الضلال، يقفون من هذه الآيات موقف العناد والتكذيب.. فإلى أين يصرفون عن هذا الحق الذي بين أيديهم؟ وماذا بعد الحق إلا الضلال؟ .. وفى تعدية الفعل «يجادلون» بحرف الجر «فى» إشارة إلى أنهم يجادلون بغير علم، لجاجة وسفها وتطاولا.. ولهذا ضمن الفعل معنى الخوض. قوله تعالى: «الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» . هو بيان يكشف عن الذين يجادلون فى آيات الله.. إنهم هم هؤلاء الذين كذبوا بهذا الكتاب، أي القرآن الكريم، وهم هؤلاء الذين كذبوا من قبلهم بما أرسل الله به الرسل من آيات ومعجزات.. فهؤلاء الذين يجادلون فى القرآن الكريم، هم وأولئك الذين سبقوهم من المكذبين، الذين جادلوا فى آيات الله التي جاءهم بها رسل الله- هؤلاء وأولئك جميعا سوف يعلمون ما ينتظرهم من بأس الله وعذابه، وسوف يرون ما أنذرهم به رسلهم من عذاب، فلم تغنهم النذر!. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1267 قوله تعالى: «إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ» . «إذ» ظرف متعلق بقوله تعالى: «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» أي فسوف يعلمون الحق الذي أنكروه، حين يساقون إلى جهنم يسحبون على وجوههم، والأغلال فى أعناقهم، والسلاسل فى أيديهم وأرجلهم.. وقوله تعالى: «فِي الْحَمِيمِ» متعلق بقوله تعالى: «يُسْحَبُونَ» أي يسحبون بالأغلال التي فى أعناقهم، فى الحميم.. والحميم هو ما يغلى من السوائل.. وقوله تعالى: «ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ» أي يربطون على النار، لتشوى عليها أجسامهم، بعد أن غرقت فى هذا الحميم.. قوله تعالى: «ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.. قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً.. كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ» . فى قوله تعالى: «قِيلَ لَهُمْ» بدلا من: يقال لهم، حيث نسق النظم الذي جاء معلّقا الأمر بالمستقبل، فى الأفعال «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» .. «ويُسْحَبُونَ» «ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ» - فى هذا حكاية لما يقال لأصحاب النار يومئذ، وكأنه قيل بالفعل، وذلك لتقرير وقوعه وتوكيده، ثم ليسمع هؤلاء المشركون ما قيل لمن سبقوهم من أهل الضلال، فهذا خبر من أخبارهم، وأنهم إنما يسألون عن معبوداتهم الذين عبدوهم من دون الله، فيلتفتون فلا يجدون لهم ظلّا.. فيقولون: لقد ضلوا عنا، أي تاهوا فى هذا المزدحم.. ثم إذ يتبين الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1268 لهم أن ما كانوا يدعونه من دون الله، باطل، وضلال، يقولون: «لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً» أي شيئا يعتدّ به، ويستند عليه.. تلك هى حال المشركين الذين سبقوا هؤلاء المكذبين من قريش، وهذا ما سئلوا عنه، وذلك هو جوابهم.. فماذا يكون جواب هؤلاء المكذبين المشركين من قريش حين يسألون هذا السؤال؟ أيجدون ما يقولون غير هذا القول؟ وهل يرون لمعبوداتهم وجها يوم الحساب؟ وإذا رأوا لهم وجها فهل يغنون عنهم من عذاب الله من شىء؟. وقوله تعالى: «كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ» أي كما أضل الله المكذبين برسل الله، كذلك يضل الله هؤلاء المشركين الذين يكذبون رسول الله.. لأنهم جميعا ظالمون كافرون، إذ خرجوا عن سنن العدل والإنصاف بإنكارهم الصبح المبين، وتكذيبهم الحق الواضح.. قوله تعالى: «ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ» .. أي ذلكم الذي أنتم فيه من بلاء وعذاب فى الآخرة، هو بسبب ما كنتم عليه فى الدنيا، من غرور، بما ملكتم فيها، وزهو وعجب بما بين أيديكم من زخرفها ومتاعها، فصرفكم ذلك عن أن تنظروا إلى ما وراء يومكم الذي أنتم فيه، فقطعتم حياتكم فى فرح ومرح، ولهو وعبث.. وفى قوله تعالى: «بِغَيْرِ الْحَقِّ» إشارة إلى أن الفرح المذموم، هو الفرح الذي ينبع من استرضاء عواطف خسيسة، وإشباع شهوات بهيمية، كما يقول الله تعالى: «فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1269 بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ» (81: التوبة) .. أما الفرح الذي يقع فى نفس الإنسان، ويهزّ مشاعره، من انتصار حق، أو استعلاء على شهوة، فهو فرح محمود، بل ومطلوب، كما يقول الله تعالى: «وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ» (4- 5: الروم) . والمرح: الفرح الشديد، الذي يصحبه عبث ولهو.. قوله تعالى: «ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ» - هو دعوة إلى أهل الكفر والضلال، أن ينزلوا منازلهم التي أعدت لهم فى الآخرة.. فلكل جماعة بابها الذي تدخل منه إلى منزلها المعدّ لها فى جهنم، كما يقول الله سبحانه: «لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ» (44: الحجر) ودخول الأبواب- كما قلنا من قبل- هو دخول فى جهنم ذاتها، إذ كانت تلك الأبواب قطعة من جهنم، مطبقة على أهلها.. قوله تعالى: «فَاصْبِرْ.. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ.. فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ» .. هو دعوة إلى النبي الكريم بالصبر على ما يلقى من عنت قومه، وتكذيبهم له، والتربص لدعوته، وللمؤمنين بها.. وفى الدعوة إلى الصبر، مع كل موقف، وفى أعقاب كل مواجهة بين النبي وقومه- فى هذا ما يشير إلى ما كان يلقى النبىّ من أذى وما يحتمل من ضرّ، وأنه ليس له إلا أن يصبر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1270 ويحتمل، حتى يحكم الله بينه وبين قومه.. «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» وهو أن الله سينصره، ويعزّ المؤمنين الذين آمنوا به، ويمكّن لهم فى الأرض، وأنه- سبحانه- سيخزى الضالين المكذبين، ويوقع بهم البلاء فى الدنيا، والعذاب الشديد فى الآخرة.. وقوله تعالى: «فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ» أي أن هؤلاء الضالين المكذبين، لن يفلتوا من قضاء الله فيهم، ومما يتوعدهم الله به من عذاب. سواء أرأيت هذا أيها النبي، فى الدنيا، أو متّ قبل أن ترى قضاء الله فيهم، فإنهم راجعون إلينا فى الآخرة، وما فاتك أن تراه من قضاء الله فيهم فى الدنيا، سترى أضعافه فيهم الآخرة.. الآيات: (78- 84) [سورة غافر (40) : الآيات 78 الى 85] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1271 التفسير: قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ» . كانت الآية السابقة دعوة للنبى الكريم، من ربه سبحانه وتعالى، أن يصبر على أذى المشركين له، وأن ينتظر وعد الله وحكمه.. فإن وعد الله لآت لا شك فيه، ولكنّ لهذا الوعد أجلا موقوتا عند الله، لا يجىء إلا فى وقته الموقوت له.. وفى هذه الآية ردّ على تحديات المشركين بإنزال العذاب الذين أوعدوا به.. فقد كانوا يقولون، فيما حكاه القرآن الكريم عنهم: «اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (32: الأنفال) . كما أن فى هذه الآية دفعا لما يساور بعض نفوس المؤمنين من قلق، حتى إنهم ليقولون تحت وطأة البلاء الواقع عليهم من المشركين: «مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟» ففى هذه الآية، يخبر الله سبحانه وتعالى نبيه الكريم، بأنه سبحانه، قد أرسل رسلا كثيرين من قبله، منهم من قص عليه أخبارهم، ومنهم من لم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1272 يقصصهم عليه.. وأن هؤلاء الرسل جميعا لم يأت أحد منهم بآية من تلك الآيات المعجزة أو المهلكة التي أخذت أقوامهم إلا بإذن الله، فهو سبحانه الذي أمدهم بهذه الآيات.. وأن هذه الآيات لم تأت من عند الله بطلب من الرسل، أو استجابة لتحدّى أقوامهم، وإنما هى بتقدير العزيز الحكيم.. وقوله تعالى: «فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ» . أمر الله: هو وعده.. ومجيئه: هو وقوعه فى وقته الموقوت له.. أي إذا جاء الوقت الموقوت لقضاء الله، «قضى بالحق» أي حكم بالحق، بين الرسول وقومه المكذبين به.. وفى هذا القضاء بالحق تقع الواقعة بالمبطلين، وينزل بهم بلاء الله، على حين ينجّى الله الرسول والذين آمنوا معه.. قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ» ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة تهددت المشركين بوقوع ما توعدهم الله به، إن عاجلا، أو آجلا، إذا هم ظلوا على ما هم عليه من ضلال وعناد.. فجاءت هذه الآية، تفتح طريقا لهؤلاء المشركين إلى الهدى، إن كان بهم متجه إليه، بعد أن سمعوا هذا التهديد.. ففى قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ» تذكير لهم بنعم الله فيهم، وإحسانه إليهم، وأنه سبحانه- لا أصنامهم- هو الذي سخر لهم هذه الأنعام، ليركبوا منها، ما يركبون، ويأكلوا منها ما يأكلون.. «ومن» هنا تبعيض، أي لتركبوا بعض هذه الأنعام، وتأكلوا بعضها.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1273 ويجوز أن تكون «من» للتعدية، أي ليكون من هذه الأنعام ركوبكم، ويكون منها أكلكم.. بمعنى أن هذه الأنعام مادة صالحة للركوب، كما هى مادة صالحة للأكل.. كالإبل مثلا.. وقوله تعالى: «وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ» إشارة إلى فوائد أخرى لهذه الأنعام غير الركوب، وغير الأكل، فيما ينتفع به من أصوافها وأوبارها، وجلودها، وفيما يحقق به الإنسان من اقتنائها، وتربيتها وتثميرها من آمال وغايات ورغائب فى صدره، فيقتنى من ثمنها ما يشاء من أثاث ومتاع.. وفى تعدية الفعل «تبلغوا» بحرف الاستعلاء «على» إشارة إلى أنها المطية إلى تحقيق هذه المطالب.. وقوله تعالى: «وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ» إشارة أخرى إلى ما ينتفع به من هذه الأنعام، وهى حمل الأثقال، كما يقول سبحانه: «وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ.» وقد قرنت بها الفلك، التي هى نعمة أخرى فى حمل الأثقال والناس إلى أماكن بعيدة فوق ظهر الماء، الذي لا سبيل إلى اجتيازه بالإبل، أو الخيل، ونحوها من دواب الركوب.. فهذه للبر، وتلك للبحر.. وهكذا تتم النعمة! قوله تعالى: َ يُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ» أي ويريكم الله من هذه النعم آياته الدالة على قدرته، وفضله وإحسانه.. فأىّ آية من هذه الآيات ترون أنها ليست من عند الله، وأنها ليست ذات فضل عظيم عليكم.؟ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1274 قوله تعالى: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» هو تهديد للمشركين، بعد هذا العرض الذي رأوا فيه آيات الله، وما أمدهم الله به من نعم.. فكما أن لله سبحانه وتعالى نعمه وفضله وإحسانه، كذلك له- سبحانه- نقمه، وسطوانه، بالمكذبين الجاحدين.. ولو أنه كان لهؤلاء المشركين عيون تبصر، وعقول تعقل، لرأوا ما أنزل الله سبحانه وتعالى من بلاء ونقم بالمكذبين الضالين قبلهم، وقد كانوا أكثر منهم مالا وولدا، وأشد منهم قوة وبأسا، وأعظم منهم آثارا وعمرانا فى الأرض.. فلما أخذهم الله ببأسه لم يغن عنهم شىء مما كان فى أيديهم، من مال، ورجال، وما أقاموا من دور وقصور وحصون.. قوله تعالى: «فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» الفاء فى «فلما» للسببية، ولمّا، بمعنى حين.. أي فإنه حين جاءتهم رسلهم بالبينات، استخفوا بهم وبما معهم، واغتروا بما فى أيديهم من أباطيل، وفرحوا بها، واطمأنوا إليها.. فأحاطت بهم خطيئتهم، ووقع بهم البلاء، جزاء لاستهزائهم بهذه الآيات البينات.. وفى قوله تعالى: «فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ» إشارة إلى قوله تعالى: «ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ» .. فهم قد فرحوا بهذا الباطل الذي بأيديهم، وعدوه كل حظهم من الحياة.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1275 قوله تعالى: «فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ» البأس: العذاب، والبلاء الواقع بالمكذبين. أي وحين رأى هؤلاء المكذبون برسل الله نذر العذاب تطلع عليهم آمنوا بالله، وقالوا: آمنا بالله وحده، لا شريك، وكفرنا بتلك المعبودات التي كنا بسبب عبادتها مشركين بالله.. فالباء فى «به» للسببية. قوله تعالى: «فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ» .. بهذه الآية تختم السورة الكريمة، وفى هذا الختام عرض لموقف الضالين جميعا، حين يرون بأس الله يحيط بهم.. إنهم إذ ذاك يقولون: آمنا بالله ولكن لا يقبل منهم هذا الإيمان، وقد حل بهم البلاء. فتلك هى سنة الله.. إنه لا ينفع إيمان فى غير وقته، وإنما لذى ينفع هو حين يكون الإنسان فى سعة من أمره، وفى قدرة على امتلاك الأمر فيما يختار من إيمان أو كفر.. أما هذا الإيمان الذي يقع تحت حكم الاضطرار والقهر، فهو إيمان باطل، لا إرادة للإنسان فيه.. ومن ثمّ فلا يحسب له، ولا يعدّ من كسبه.. وفى هذا يقول الله تعالى: «يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً» .. (158: الأنعام) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1276 41- سورة فصلت وتسمى: «السجدة» نزولها: مكية.. بلا خلاف. عدد آياتها: أربع وخمسون آية. عدد كلماتها: سبعمائة وست وتسعون. عدد حروفها: ثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمسون. مناسبتها لما قبلها كان مما ختمت به سورة غافر، قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» .. ثم جاءت الآيات بعد هذا لتذكّر بآيات الله الممثلة فى نعمه التي أنعم الله بها على عباده من الأنعام.. وتلتها آيات أخرى، تذكر بآيات الله فيما أخذ به الظالمين المكذبين من نقم، وقد كانوا أشد قوة وأكثر جمعا من هؤلاء المشركين، فما أغنى عنهم ذلك من بأس الله من شىء، وأنهم حين رأوا بأس الله فزعوا إلى الإيمان، ولكن بعد فوات الأوان، فلم يكن ينفعهم إيمانهم هذا.. ثم جاءت سورة فصلت، لتصل هذا الحديث، الذي يذكّر بآيات الله، وينذر المكذبين الضالين بعذاب شديد، فتبدأ السورة بذكر القرآن الكريم وما يحمل من آيات بينات، فصّلت بلسان عربى مبين.. فإذا كان المشركون قد عموا عن أن ينظروا فى هذه النعم التي بين أيديهم، والتي تتمثل فى الأنعام، التي منها ركوبهم، ومنها يأكلون، ثم عموا كذلك عن أن يروا ديار القوم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1277 الظالمين، وما نزل بها من نقم، الله وأنها قد أصبحت ترابا يمشون عليه، وقد اختلط فيه الآدميون بالحيوان، والنبات، والأثاث- إذا كان المشركون قد عميت أبصارهم عن أن ترى هذه الآيات، أو تلك، فليسمعوا بآذانهم هذه الآيات، التي هى كلمات الله إليهم، تدعوهم إليه بلسان عربى مبين، وتكشف لهم معالم الطريق إلى الهدى ودين الحق.. بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 8) [سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) التفسير: «حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «حم» مبتدأ، وخبره «تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .. أي أن «حم» هذه، تنزيل من الرحمن الرحيم، أي هى من كلمات الله وآياته.. وفى هذا ردّ على الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1278 من يقول إن الحروف التي بدئت بها أوائل السور ليست من القرآن، وإنما هى إضافات ألحقت ببعض السور فى الدور المكي من نزول القرآن، وقد وضعت على رأس هذه السور، لتدلّ على عدد آياتها، محسوبة بحساب «الجمل» للحروف، الذي كان معروفا للعرب.. فقد كان من تدبير النبي- كما يزعمون فى هذا الدور من نزول القرآن أن يضبط عدد آيات السورة، ويقيّدها بهذه الحروف التي توضع على رأسها، حتى لا تختلط بغيرها، وذلك أن عملية كتابة الوحى لم تكن قد انتظمت، ورتب لها كتابها، وأدواتها فى هذا الدور المبكّر من نزول القرآن.. وهذا الزعم، باطل من وجوه: فأولا: أنه إن أخذ به، لا يحقق الغاية التي قيل إنه جاء من أجلها، وهو ضبط عدد آيات السورة.. وذلك أنه ليس كل سور القرآن المكي بدئت هذا البدء بالحروف المقطعة، حتى يمكن حصر كل سورة فى العدد الذي تدل عليه هذه الحروف القائمة على رأس كل سورة.. وعلى هذا يمكن إذا سقطت آية أو آيات من السورة التي ضبط عددها أن يستجلب لها ما سقط منها من سورة أخرى من السور التي لم يضبط عددها.. وإذن يكون هذا التدبير، غير محقق للغرض الذي قصد منه.. وثانيا: لو صحّ هذا الزعم بأن تلك الحروف كانت لضبط عدد آيات السور فى القرآن المكي- لكان من تمام التدبير أن يشمل ذلك القرآن المكي كله، بل كان أولى به، تلك السور التي كانت أول القرآن نزولا، وهذا غير وارد فى القرآن.. وثالثا: إذا صح هذا الزعم أيضا، بالنسبة للقرآن المكي الذي قيل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1279 إن عملية كتابة القرآن فيه لم تكن مستكملة، ولا متوفرة الكتاب، ولا أدوات الكتابة- فإنه لا يصح فى القرآن المدني، وفيه كثير من السور بدئت بالحروف المقطعة، كسورة البقرة، وآل عمران.. مثلا. قوله تعالى: «كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» .. هو بدل من قوله تعالى: «تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» بدل كل من كل.. أي هذا الذي نزل من الرحمن الرحيم، هو كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون.. وفى قوله تعالى: «مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» إشارة إلى أن منزل هذا القرآن هو الله سبحانه وتعالى، تجلى به سبحانه على العباد، رحمة لهم، وإحسانا إليهم.. وفى قوله تعالى: «كتاب» - إشارة إلى أن هذه الرحمة المنزلة من عند الله كتاب، يقرأ، ويدرس، وتتلقّى منه الحكمة والمعرفة، فهو من حظ العقول والقلوب والأرواح، وليس متاعا كالأنعام ونحوها، مما هو من حظ الأبدان، والجوارح، والبطون!. وفى قوله تعالى: «فُصِّلَتْ آياتُهُ» - إشارة ثالثة، إلى أن هذا الكتاب ليس ذا موضوع واحد، شأن الكتب المعروفة، فهو ليس كتاب فلك، أو حساب، أو قصص، أو تاريخ، أو نحو هذا مما هو موضوع كل كتاب.. وإنما هو كتاب الوجود كله، يحمل بين دفتيه كل علم، وكل فن، حيث هو جامعة العلوم والمعارف كلها، لمن آتاه الله عقلا مبصرا، وبصيرة مشرقة، وقلبا سليما، وروحا صافية.. ففى هذا الكتاب قطوف دانية من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1280 كل علم، وثمار شهية طيبة، مختلفة الألوان والطعوم من كل فن.. وفيه يقول الله تعالى «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» (9: الإسراء) . ويقول الرسول الكريم: «القرآن مأدبة الله.. فتعلموا من مأدبته» .. إنه مأدبة سماوية، لا ينفد عطاؤها، ولا ينقص ما عليها، مهما كثرت الأيدى المتناولة منها.. وقوله تعالى: «قُرْآناً عَرَبِيًّا» - حال من الكتاب، وهى حال واصفة لهذا الكتاب، وهو أنه قرآن عربى، أي يقرأ بلسان عربى.. وفى هذا امتنان من الله سبحانه وتعالى على الأمة العربية، وتنويه بها، ورحمة من الله اختصّت بها، إذ كانت هذه المأدبة ممدودة للعرب فى ساحتهم، وكانوا هم أهلها، والداعين إليها.. وفى قوله تعالى: «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» - حثّ للأمة العربية، أصحاب هذه المأدبة، أن يأخذوا نصيبهم الأوفى منها، وإنه لا سبيل إلى الإفادة من خيرها الممدود، إلا بالعلم، فمن كان على علم ومعرفة، كان حظه من هذا القرآن أوفى وأعظم.. ومن حرم العلم والمعرفة، فلا نصيب له منه.. قوله تعالى: «بَشِيراً وَنَذِيراً» .. حال أخرى، من هذا الكتاب، تكشف عن موضوعه، بعد أن كشفت الحال الأولى: «قُرْآناً عَرَبِيًّا» عن صفته.. فهو بشير، ونذير، بشير لأهل الإيمان والتقوى، بالفوز برضوان الله، والخلود فى جنات النعيم، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1281 ونذير للكافرين والضالين والمكذبين، نذير لهم بسخط الله، والخلود فى نار الجحيم.. وقوله تعالى: «فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ» .. بيان لما تكشّفت عنه الحال من أمر هؤلاء الذين أنزل الله سبحانه عليهم هذه الرحمة، ومدّ مائدتها بين أيديهم.. «فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ» عنها، وأبى أن يمد يده إليها.. «فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ» إذ قد أصموا آذانهم عن دعوة الداعي، فلم يلتفتوا إلى ما يدعون إليه من خير، وما يمدّ لهم من إحسان.. قوله تعالى: «وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ، فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ» . الأكنّة: جمع كن، وهو ما يستكنّ فيه ويستتر عن الأعين، والوقر: الصمم. ومن ضلال هؤلاء الضالين المعرضين عن دعوة الخير التي يدعوهم هذا القرآن إليها، على لسان النبي الكريم- أنهم أحكموا إغلاق الطرق والنوافذ، بينهم وبين هذا الرسول، فلم يدعوا منفذا تنفذ منه كلماته إليهم.. ولقد أحكموا إغلاق قلوبهم حتى إذا سمعت آذانهم شيئا من هذا القرآن- عرضا من غير قصد- لم تنفذ إلى قلوبهم، التي هى موطن الوعى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1282 والإدراك، ثم- زيادة فى الاحتياط، وحراسة لآذانهم من أن يقع فيها شىء من القرآن عفوا- جعلوا بينهم وبين النبي حجابا، بالبعد عنه، واجتناب أىّ مكان يكون فيه، حتى يأمنوا أن تطرق كلمة من كلماته أسماعهم..! وقد يبدو- فى ظاهر الأمر- أن النظم الذي جاء عليه القرآن فى ترتيب هذه المغالق- أنه قد جاء بها على غير الترتيب الطبيعي، الذي يألفه الناس، فى التدبير لما يحرصون عليه، ويعملون على صيانته وحراسته، من الآفات، والعوارض التي تعرض له.. حيث يتجه الإنسان أول ما يتجه إلى إقامة سور حول بيته، ثم يتخير فى داخل هذا السور المكان الذي يقيم فيه البيت، ثم يتخير من هذا البيت المكان الأمين الذي يحفظ فيه الغالي الثمين، مما يحرص عليه من مال ومتاع..! هكذا يبدو وجه التدبير فى مثل هذه الحال.. ولكن القرآن الكريم، بدأ- كما نرى- من حيث انتهى التدبير البشرى.. فتحدث عن القوم بأنهم أحكموا إغلاق ما بداخلهم، قبل أن يحكموا إغلاق المنافذ الخارجية التي يمكن الوصول منها إلى هذا الذي فى الداخل: «وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ» فما سر هذا؟ السر فى هذا- والله أعلم- هو أن القوم لم يكونوا مع القرآن الكريم فى سعة من أمرهم، وفى فسحة من الوقت للاختيار، والتدبير.. فلقد كان لهم مع القرآن الكريم لقاء من قبل أن يحكموا أمرهم معه، ويلقوه بالتدبير الذي يرونه.. وكانت الكلمات التي سمعوها من القرآن الكريم ذات قوة نفاذة هزت قلوبهم من أقطارها، وكادت تستولى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1283 عليهم، وقد وقع كثير منهم تحت سلطانها القوىّ الآسر، وأحس الهزيمة تكاد تنزل به، وتحطم صخرة كبره وعناده.. فكان همه حينئذ أن يمسك قلبه، وأن يدفع عنه هذا الخطر الذي يتهدده.. إن المعركة هنا بينهم وبين النبي، وما دخل على قلوبهم من كلمات الله التي سمعوها منه.. وإذن فلتغلق هذه القلوب، ولتقم عليها حراسة قوية منهم.. «قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ» .. فهذه قلوبنا التي رميتها بما رميتها به من سهام، قد وضعناها فى أكنّة من إرادتنا المتحدية، بما أصابها من جراح.. وإن الزمن لكفيل بأن تلتئم معه جراحها!. هذا أول ما ينبغى أن يكون من القوم، فى دفع هذا الخطر الذي دهمهم.. وهذا هو أول ما يكون ممن يدهمه خطر يتهدد وجوده أو يتهدد الشيء الذي يحرص عليه.. إن همه الأول هو الدفاع عن هذا الذي يتهدده الخطر منه، سواء أكانت حياته، أو كان متاعه! حتى إذا استشعر النجاة من هذا الخطر، كان له بعد ذلك أن ينظر فى المنافذ الأخرى التي يهبّ عليه الخطر منها، فيبدأ بالقريب منها أولا، ثم بالذي يليه، وهكذا.. ومن هنا كان نظرهم بعد هذا إلى أقرب شىء يجىء منه الخطر إلى قلوبهم، وهى آذانهم، فأحكموا إغلاقها، ووضعوا عليها سدّا يحول بين الكلمات، وبين النفاذ منها إلى القلوب: «وَفِي آذانِنا وَقْرٌ» .. ثم كان التدبير بعد هذا، أن يبعدوا بأنفسهم- وما معهم من آذان وقلوب- عن مواطن الخطر جملة.. «وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ» .. فذلك هو الذي يقطع كل صلة بينهم وبين موطن الخطر..! الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1284 وقد جاء النظم القرآنى: «وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ» بزيادة حرف الجر «من» ولم يجىء: «وبيننا وبينك حجاب» وذلك للمبالغة فى أن ما بينهم وبين النبي قد سدّ بحجاب كامل، ملأ المسافة التي بينهم وبين النبي، فكل ما بينهم وبين النبي حجاب غليظ كثيف.. ولو جاء النظم القرآنى: «وبيننا وبينك حجاب» لما أدّى هذا المعنى، ولكان مفهوم الحجاب هنا أنه مجرد ستر بينهم وبين النبي!. واقرأ الآية مرة أخرى، وانظر إليها نظرة مجدّدة، على ضوء هذا الفهم الذي فهمناها عليه.. وإنك لتجد لتلك الآية فى هذا الترتيب إعجازا من إعجاز القرآن الكريم، وآية من الآيات التي تشهد له، بأنه من تنزيل من حكيم حميد.. «وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ.. وَفِي آذانِنا وَقْرٌ.. وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ» ! فسبحان من هذا كلامه، وتلك آياته!. وقوله تعالى: «فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ» .. لقد أمن القوم، أو هكذا خيّل إليهم أنهم قد أمنوا.. إذ قد فرّوا من وجه هذا النهار، ودفنوا رءوسهم فى الرمال!. «فاعمل» ما تشاء، واقرأ من قرآنك ما تقرأ.. فلن تجد لما تقرأ أذنا تسمع، أو قلبا يقع فيه شىء مما تقرأ «إننا عاملون» .. ولقد عملنا ما ترى، من إقامة هذه الحواجز بيننا وبينك.. فافعل ما شئت!. قوله تعالى: «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1285 وماذا يعمل النبي؟ إنه لا يملك شيئا لرفع هذه الحواجز التي أقاموها على أنفسهم، وإنه لن يستطيع أن يخرجهم من أجحارهم تلك التي دفنوا أنفسهم أحياء فيها.. وفى قوله تعالى: «إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» - إشارة إلى خطأ ما يظنه المشركون فى النبي، وأنه إنما يستعلى عليهم بما فى يديه من هدى، وما يتلوه عليهم من آيات ربه.. فهو- صلوات الله وسلامه عليه- بشر مثلهم قبل كل شىء، وأن هذا الذي آتاه الله من فضله لن يخرجه عن بشريته.. إن الإنسان هو إنسان قبل كل شىء، وما يؤتاه من الله سبحانه، من بسطة فى فى الجسم، أو سعة فى الرزق، أو روعة فى الجمال والحسن، أو نفاذ فى البصيرة والإدراك- لن يخرجه ذلك عن أن يكون إنسانا.. وفى هذا عزاء للناس الذين لم يكن لهم حظ موفور، من هذا الذي مع غيرهم، من ماديات الحياة ومعنوياتها، إذ أنهم- لو عقلوا- لعلموا أنهم شركاء فى هذا الذي يرون أنفسهم أنهم حرموا منه وهو البشرية.. إنه ملك الإنسانية كلها، يضاف إلى رصيدها، مما هو مرغوب فيه عندها.. كما أن ما فى بعض الناس من نقص وعيب، هو مما يحسب على الإنسانية كلها، ومما تخفّ به موازينها.. وإذن، فإن الذي ينبغى أن يأخذ به الإنسان نفسه، ليكون عضوا فى هذه الشركة العامة، هو أن يدخل فيها برصيد طيب، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، حتى يأخذ بمقدار ما يعطى.. وإلا كان معتديا ظالما.. والنبي- صلوات الله وسلامه عليه- هو بشر مثلهم، وقد أكرمه الله بهذا الرزق السماوي العظيم، الذي بين يديه من كتاب الله، والذي يدعو إليه الناس جميعا، ليشاركوه فيه، وليأخذوا ما استطاعوا حمله منه.. وإن الشقي من حرم نفسه من هذا الغذاء الذي هو حياة الأرواح، وغذاء العقول والقلوب. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1286 وقوله تعالى: «يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» هو صفة أخرى للنبى، إلى جانب صفته البشرية، وهو أنه رسول يوحى إليه من ربه، وأن موضوع هذا الوحى، هو تقرير وحدانية الله، وأنه لا إله إلا هو، وأن كل محامل الوحى هو تقرير هذه الحقيقة، وتأكيدها، والعمل فى ظلها.. وقوله تعالى: «فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ، وَاسْتَغْفِرُوهُ، وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ» هو تعقيب على هذه الحقيقة التي جاءت بها رسالة الرسول، ونزلت بها آيات الله، وحيا إليه من ربه.. «فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ» أي اتجهوا إلى إلهكم الواحد دون أن تلتفتوا إلى وراء، أو يمين، أو شمال، نحو ما تعبدون من آلهة.. بل اجعلوا وجوهكم إلى الله وحده، واسعوا إليه فى استقامة وجدّ «واستغفروه» لما كان منكم من ضلال عنه، وشرك به. وقوله تعالى: «وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ» وعيد للمشركين الذين يمسكون بشركهم، ولا يتحولون عنه إلى الإيمان بالله وحده.. وهو معطوف على محذوف، تقديره: فإن استقمتم واستغفرتم ربكم، غفر لكم ونجاكم من عذابه، والويل للمشركين الذين لا يتحولون عن شركهم. قوله تعالى: «الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ» هو وصف لهؤلاء المشركين، الذين تهددهم الله سبحانه وتعالى بالويل، وسوء المصير.. وفى اختيار عدم إتيان المشركين الزكاة، وجعلها الصفة البارزة فيهم- ما يسأل عنه، وهو: كيف تكون الزكاة المعلم الأول للإيمان بالله، حتى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1287 يكون عدم أدائها المعلم البارز من معالم المشركين؟ ثم كيف يكون هذا شأن الزكاة فى هذه المرحلة من الدعوة، التي لم تكن الزكاة قد فرضت فيها على المسلمين، إذ أن السورة مكية، والآية مكية كذلك، والزكاة إنما فرضت فى المدينة! فكيف هذا؟ والجواب- والله أعلم- من وجوه: فأولا: ليس المراد بالزكاة، هو الزكاة المفروضة، وإنما المراد بها الإنفاق فى سبيل الله، وفى وجوه الخير ابتغاء وجه الله.. فكل ما ينفق فى سبيل الله وابتغاء وجه الله، هو زكاة، وطهرة للمنفق.. وثانيا: أن الزكاة بهذا المعنى لم تجىء صفة أصلية، وإنما جاءت حالا من أحوال الذين لا يؤمنون بالآخرة.. «الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ» .. فهذه الحال- وهى عدم إيمان المشركين بالآخرة- هى التي جعلتهم لا يؤتون الزكاة.. فلو أنهم كانوا يؤمنون بالآخرة، لأعدوا لها عدتها ولسخت أيديهم بالإنفاق فى وجوه الخير، ليكون لهم من ذلك زادا ما يتزودون به لهذا اليوم.. وثالثا: أن الإتيان للزكاة، يشمل الإتيان لكل طيب، ولكل ما يتطهر به الإنسان، ويزكو، ولا طهر ولا زكاة، مع الشرك.. فيكون من المعاني التي يشير إليها قوله تعالى: «الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ» أي الذين لا يؤمنون بالله.. ويكون «الإتيان» هنا بمعنى التسليم، وإعطاء الولاء لله ولرسول الله.. ويروى عن ابن عباس فى هذا: «أنهم لا يقولون: لا إله إلا الله» . قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1288 هو فى مقابل قوله تعالى: «وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ» . فإذا كان الويل للمشركين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر فإن الثواب العظيم، والجزاء الكريم للذين آمنوا وعملوا الصالحات.. فهؤلاء لهم أجر غير ممنون.. أي جزاء حسن، متصل لا ينقطع أبدا حيث جنات النعيم، هم، فيها خالدون. الآيات: (9- 12) [سورة فصلت (41) : الآيات 9 الى 12] قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) التفسير: قوله تعالى: «قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ، وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ.. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها، وَبارَكَ فِيها، وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ» . بعد أن تهددت الآيات السابقة المشركين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1289 الآخر- جاءت هذه الآيات لتلقاهم بما لله سبحانه وتعالى من علم وقدرة وسلطان، حتى يكون لهم من ذلك ما يفتح مغالق عقولهم، فينظروا إلى جلال الله، ثم لينظروا إلى آلهتهم على سنا هذا الجلال، ثم ليحكموا عليها، ماذا تكون هذه الدّمى إزاء ربّ الأرباب، خالق الأرض والسموات! وفى قوله تعالى: «قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ.. الآية» .. تهديد لهؤلاء المشركين، الذين يكفرون بالله، ويعبدون هذى الدّمى الجاثمة على التراب! والاستفهام إنكارى.. أي ما كان لكم أن تكفروا يمن هذه قدرته، وتلك آثاره.. وفى قوله تعالى: «خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ» قلنا فى أكثر من موضع فى تفسيرنا للآيات التي تشير إلى زمن محدّد لما خلق الله من مخلوقات، مثل قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» (54: الأعراف) - قلنا إن هذا الزّمن إنما هو منظور فيه إلى طبيعة المخلوق لا إلى قدرة الخالق.. وإلى أن هذا الزمن، هو الذي قدّره الخالق سبحانه وتعالى لينضج فيه المخلوق، ويستوفى فيه تمام خلقه، كالجنين فى الرحم، حيث يتم تكوينه فى تسعة أشهر، فى عالم الإنسان، وفى زمن أقل أو أكثر فى العوالم الأخرى من الأحياء.. فالزمن جزء من وجود كلّ موجود، وفى تطوره من حال إلى حال.. سواء فى هذا، الحيوان، والنبات، والجماد.. فقوله تعالى: «خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ.. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1290 وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ» .. إشارة إلى الزمن الذي نضجت فيه الأرض، وتمّ تكوينها، وتهيأت لاستقبال الحياة فيها.. والأيام هنا هى أيام الله.. أي الأيام التي يحويها فلك هذا الوجود، فكل فلك له زمن معلوم، تتم فيه دورته، وتلك الدورة هى يوم، كيوم عالمنا الأرضى.. ففى يومين من أيام الله.. ولا يعلم قدر هذا اليوم إلا الله- ثمّ تكوين جرم الأرض، فكانت أشبه بالعلقة فى رحم الأم.. ثم بعد ذلك بدأت تظهر عليها الجبال، وتجرى فيها الأنهار، وتتحدد عليها كميات الهواء، والحرارة، إلى أن أصبحت صالحة لأن تلد الكائنات الحيّة، وأن تمدّها بالغذاء الذي يحفظ عليها حياتها.. وذلك فى مدى يومين آخرين من أيام الله.. فكانت حضانة الأرض فى كيان الكون أربعة أيام، من أيام الله، قبل أن تتهيأ لاستقبال الحياة، وظهور الكائنات الحية على ظهرها.. وقوله تعالى: «وَبارَكَ فِيها» إشارة إلى توالد الأحياء على الأرض، وتكاثرها بما توالد فيها من عوالم النبات والحيوان والإنسان» .. فهذا من بركة الله سبحانه وتعالى على هذه الأرض! وقوله تعالى: «وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها» .. أي وقدّر على هذه الأرض الأقوات التي تضمن الحياة لهذه المواليد المتكاثرة فيها.. وذلك بما أودع فيها من هواء، وماء، وطعام.. وقوله تعالى: «سَواءً لِلسَّائِلِينَ» هو حال من الأقوات، أي أن هذه الأقوات مقدّرة بقدر معلوم، وموزونة بميزان دقيق.. فالهواء مثلا، لو زادت نسبة الأوكسجين فيه عن قدر معلوم لاحترق الأحياء، ولو نقصت تلك النسبة عن قدر معلوم كذلك لاختنق الناس والحيوان والنبات.. وهكذا كلّ ما فى هذه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1291 الأرض، وما عليها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ» (19: الحجر) والسائلون هنا، هم أصناف الأحياء، الذين يسألون، أي يطلبون ما يمسك عليهم حياتهم.. فكل حىّ يسأل، ويطلب ما تطلبه حياته، سواء أكان هذا إنسانا أو حيوانا أو نباتا. وفى التعبير بالسائلين، إشارة إلى أن هذه المخلوقات- ومنها الإنسان- إنما تقف جميعها سائلة من فضل الله وإحسانه، الذي بثّه فى هذه الأرض.. هذا، وقد رأى بعض المفسرين أن مدة خلق الأرض هى ستة أيام، أخذا بما ذكر فى هذه الآية، من اليومين، والأربعة الأيام.. ولما كانت مدة خلق السموات يومين، فتكون مدة خلق السموات والأرض، هى ثمانية أيام.. والقرآن الكريم صريح الدلالة فى أن خلق السموات والأرض كان فى ستة أيام، وذلك بما نطق به فى أكثر من موضع منه.. ولا يمكن أن يقع هذا الاختلاف فى كتاب الله.. «وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» .. والذي ينظر فى قوله تعالى: «قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ» - الذي ينظر فى هاتين الآيتين، يرى أن مدة خلق الأرض هى أربعة الأيام، وهى التي ذكرت فى الآية الثانية، ويدخل فيهما اليومان اللذان ذكرا فى الآية الأولى.. ولهذا عطف قوله تعالى: «وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ» على قوله تعالى: «خَلَقَ الْأَرْضَ» .. أي خلقها وجعل فيها رواسى من فوقها الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1292 وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها فى أربعة أيام.. منهما يومان كان فيهما خلق جرم الأرض.. أما ذكر اليومين فللدلالة على أن الخلق غير الجعل.. فخلق الأرض، كان له زمن تمّ فيه هذا الخلق.. ثم كان لتلك الإضافات التي دخلت على الأرض بعد خلقها، زمن آخر، ومجموع هذا وذاك هو أربعة أيام من أيام الله.. وهذا مثل قوله تعالى: «وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً» (15: الأحقاف) وقوله فى آية أخرى: «وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ» (14: لقمان) . قوله تعالى: «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» . استوى إلى السماء، أي نظر إلى السماء، نظر تمكن واستعلاء.. وهى دخان: أي بخار. أي أنه بعد أن تمّ خلق الأرض، وتهيأت لاستقبال الحياة، بعد هذا نظر سبحانه وتعالى إلى السماء، نظرة تمكن واستعلاء، وكانت دخانا، أي بخارا غير متماسك، «فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» - أي دعا الأرض والسماء أن يأتياه، أي يستجيبا له، ويخضعا لمشيئته، ويستقيما على ما أراد منهما، إما طائعتين أو مكروهتين أي أن تأتيا إما مستسلمتين بلا إرادة، أو مكرهتين، فتكون إرادتهما تبعا لإرادة الله سبحانه وتعالى: «قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» أي مستسلمين، دون أن نخرج على النظام الذي أقمتنا عليه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1293 «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ» (72: الأحزاب) .. فقد خيرت السموات والأرض فى أن تأتيا طوعا أو كرها، فاختارتا أن تأتيا طائعتين، وذلك معناه، إباؤهنّ قبول الأمانة التي عرضت عليهن، وتلك الأمانة هى أن يوكل إليهن تصريف شئونهن بإرادتهن.. فأبين ذلك، وأسلمن الأمر كله لله.. أما الإنسان، فهو وحده الذي حمل الأمانة، وهو الذي يأتى ما أراد الله منه سواء أكان طائعا أو عاصيا، لأن إرادة الله تعلو إرادته، وكل ما يفعله الإنسان وإن كان بإرادته، هو من إرادة الله له، ومشيئته فيه.. فهو مكره فى صورة مريد!. قوله تعالى: «فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» . أي فدبّر أمرهن وقضى فيهن بما شاءت إرادته، فكنّ سبع سموات.. والضمير فى «قضاهن» هو للسبع السموات، وقد قدم الضمير هنا للدلالة على أن التدبير والقضاء قد وقع عليهن بعد أن خلقن، وكنّ سموات سبعا.. فالضمير يعود إلى وجود قائم، وإن لم يجر له ذكر، وذلك أدل على وجوده وتحققه.. وسبع سموات بدل من هذا الضمير، كما تقول: أكرمته عليا، وأكلته عنبا.. وقوله تعالى: «وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها» أي أوحى، وأنزل فى كل سماء ما أمرها به، وما قدره لها من نظام تجرى عليه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1294 وقوله تعالى: «وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً» .. السماء الدنيا، هى السماء التي تعلو هذه الأرض، وهى السماء الأولى، وفوقها بقية السموات.. والمصابيح، هى الشمس، والقمر، والنجوم، التي تظهر ليلا، فتبدو وكأنها معالم زينة فى هذا السقف المطلّ على العالم الأرضى.. وقوله تعالى: «وَحِفْظاً» معطوف على محذوف، هو مفعول لأجله، وتقديره «زينة» أي زينا السماء الدنيا بمصابيح للزينة والحفظ، أو زينة، وحفظا.. والحفظ، هو ما تقوم به النجوم من حراسة السماء من الشياطين، إذا أرادوا التسمع لما فى الملأ الأعلى، كما يقول سبحانه: «وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ» (5: الملك) وقوله تعالى: «ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» أي هذا النظام الذي قام عليه الوجود فى أرضه وسماواته، هو من تدبير «العزيز» ، أي ذى العزة والقوة «العليم» الذي يحيط علمه بكل شىء.. فلا يقضى بأمر إلا عن علم كاشف لكل أمر.. الآيات: (13- 18) [سورة فصلت (41) : الآيات 13 الى 18] فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1295 التفسير: قوله تعالى: «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ» . أي فإن أعرض هؤلاء المشركون، بعد أن عرضت عليهم هذه الآيات، ونصبت لهم تلك المعالم الدالة على قدرة الله، وعلى تفرده- سبحانه- بالملك والسلطان- إن أعرضوا فقل لهم منذرا: إنى أتوعدكم بعذاب الله، وأن يحلّ بكم ما حل بعاد وثمود من قبلكم، وقد رماهم الله بالصواعق فأهلكوا، فلم تبق منهم باقية. روى أن قريشا- وقد ضاقت بالنبي، وبدعوته- جاءت إلى النبي تعده وتمنّيه، وتعرض عليه ما قدّرت أنه يطلبه من هذه الدعوة القائم عليها، من مال وسلطان، فانتدبت لذلك عتبة بن ربيعة، فجاء عتبة إلى النبي، يقول له: إنك قد أحدثت فى قومك ما ترى من فرقة وشقاق، فإن كنت تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا ما تشاء حتى تكون أكثر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1296 رجال قريش مالا، وإن كنت تريد ملكا ملّكناك علينا، وإن كنت تريد وتريد.. فلك عندنا ما تريد، على أن تدع آلهتنا، ولا تعرض لها بذكر! فقال له النبي صلوات الله وسلامه عليه: وقد قلت، فاسمع منّى، فقال هات: فقرأ عليه النبي- صلوات الله وسلامه عليه-: «حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» ... حتى إذا بلغ النبي قوله تعالى: «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ» فزع عتبة واضطرب، وقام فوضع يده على فم الرسول الكريم، خوفا من أن يقع هذا النذير به وبقومه..! إن القوم كانوا يعرفون صدق النبي، ولكنهم كانوا يكابرون ويعاندون، ويأبى عليهم كبرهم وعنادهم أن يذعنوا للحق.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» (33: الأنعام) . قوله تعالى: «إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ» . «إذ» ظرف، هو قيد للوقت الذي وقعت فيه الواقعة بعاد وثمود.. فالصواعق التي رموا بها إنما كانت بعد أن جاءتهم رسلهم بالبينات، فكذبوهم، وأعرضوا عنهم.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1297 وقوله تعالى: «مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ» أي جاءوهم من كل ناحية، والتقوا بهم بكل سبيل.. وقوله تعالى: «أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ» أي أن رسلهم التقوا بهم من كل وجه بهذه الدعوة، يعرضونها عليهم، ويقيمون لهم الحجج عليها، وهى ألا يعبدوا إلا الله.. وقوله تعالى: «قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ» .. هو بيان لما استقبل به القوم دعوة الرسل، وهو أنهم ردوهم، وكذبوهم، وقالوا: ما أنتم إلا بشر مثلنا، تريدون أن تتفضلوا علينا، ولو شاء ربنا أن يبعث رسلا لبعث ملائكة من عنده، فهم أولى بهذا الأمر منكم، وهم أهل لأن نقبل منهم، وتصدق أنهم رسل من عند الله، وإذن فنحن بما أرسلتم به كافرون.. لا نقبل منكم ما جئتم به، ولا نصدقه.. قوله تعالى: «فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ» .. هو بيان كاشف لما كان عليه القوم من ضلال، حتى عمّيت عليهم السبل إلى الله، واستبد بهم منطق سفيه.. فهؤلاء عاد.. استكبروا فى الأرض، وتطاولوا على العباد، بغير الحق، إذ لم يكونوا أهلا لما رأوا فى أنفسهم من هذا الرأى الفاسد، وهم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1298 غارقون فى هذا الضلال.. لقد غرتهم هذه القوة الجسدية الحيوانية التي وجدوها فى كيانهم، فطاروا بها فرحا وزهوا، وقالوا: من أشد منا قوة؟ إنها القوة الجسدية وحدها، هى التي يملكونها..فماذا عندهم من تلك القوة؟ أو لم يروا أنهم مخلوقون من هذا التراب؟ أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة، إن كانوا لا يرون فى مخلوقات الله، من هو أشد منهم قوة؟ إنهم لو نظروا لوجدوا أن قوتهم تلك لا وزن لها بين تلك القوى الهائلة التي يرونها فى مخلوقات الله.. فكيف بقوة الله سبحانه وتعالى؟ وفى قوله تعالى: «وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ» هو معطوف على قوله تعالى: «وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً» .. ويصح أن يكون معطوفا على محذوف هو جواب لهذا الاستفهام الإنكارى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً» ؟ أي لم يروا هذا ولم ينظروا فيه «وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ» .. قوله تعالى: «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ» . هذا مصير عاد، وتلك عاقبة تكذيبهم لرسلهم وكفرهم بآيات الله» لقد أرسل الله سبحانه وتعالى عليهم ريحا صرصرا، أي شديدة عاتبة، ذات صرير وزئير.. «فى أيام نحسات» أي فى أيام طلعت عليهم بالشؤم، والبلاء، على حين طلعت على غيرهم بالعافية والخير.. وذلك «لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» حين يعصف بهم هذا البلاء، وتقهرهم الريح، التي كانت تهب عليهم نسيما عليلا، وتصفعهم هذه الصفعة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1299 التي تذل كبرياءهم وتفضح قوتهم، وهى خلق ضعيف ليّن، من خلق الله! .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى موضع آخر: «وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ» (5- 8: الحاقة) .. «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى» أي والعذاب الذي ينتظرهم فى الآخرة أشد خزيا لهم، وأوقع نكاية بهم من هذا العذاب الدنيوي.. إن هذا العذاب الدنيوي ما هو إلا جرعة يتجرعونها قبل أن يعبوا عبّا من عذاب يوم القيامة «وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ» بقوتهم تلك التي طغووا بها، ولا بأية قوة أخرى يستنصرون بها.. «وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» .. وهذه ثمود.. هداهم الله، أي دعاهم إلى الهدى، ونصب لهم معالمه بما بعث فيهم من رسول كريم، يحمل بين يديه أقباس الهدى والنور، فأغمضوا أعينهم، واستحبوا العمى على الهدى، ومضوا فى ظلمات يتخبطون.. «فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» أي رماهم الله بصاعقة من عذاب، أذلّهم بها، وجعلهم عبرة ومثلا للظالمين المكذبين، جزاء ما كسبوا من سيئات، وما لجوا فيه من ضلال.. قوله تعالى: «وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1300 أي أنه حين أخذ العذاب هؤلاء المكذبين الضالين، نجى الله الذين آمنوا، وكانوا يتقون الله، ويخشون بأسه، فلم يصبهم من هذا المكروه شىء، بل سلموا من كل سوء. الآيات: (19- 24) [سورة فصلت (41) : الآيات 19 الى 24] وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) التفسير: قوله تعالى: «وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ» . الواو للاستئناف، وانتقال من حال إلى حال.. فالحال الماضية هى حال عاد وثمود.. وهذه حال أعداء الله جميعا فى الآخرة.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1301 وسمّى الكافرون والمشركون أعداء الله، لأنهم حرب على الله بحربهم أولياءه، ورسله، والحقّ الذي جاءوهم به.. وفى وصفهم بالأعداء تهديد لهم ووعيد من الله سبحانه الذي يقف منه هؤلاء موقف الأعداء المحاربين.. فليأذنوا بحرب من الله ورسوله، وسيرون ما يطلع عليهم من هذه الحرب، من خزى وهوان، وما ينتهى إليه أمرهم من هلاك ودمار، ثم من عذاب أليم فى جهنم خالدين فيها.. فقوله تعالى: «وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ» .. عرض لما يلقى أعداء الله من عذاب الله يوم البعث، يوم يحشرون إلى النار حشرا، ويساقون إليها سوق الأنعام «فَهُمْ يُوزَعُونَ» أي يزجرون، فلا يشرد منهم شارد إلا زجر زجرا عنيفا، ليأخذ مكانه بين هذا القطيع المتدافع، الذي يركب بعضه بعضا.. قوله تعالى: «حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» . «حتى» غاية إلى ما يحشر إليه أعداء الله، وهى النار.. أي أنهم يساقون هذا السوق العنيف إلى النار، حتى إذا ما جاءوها، وبلغوا مشارفها، نصبت لهم موازين الحساب، وعرضت عليهم أعمالهم فى كتاب يلقاه كل واحد منهم منشورا.. ثم قام من كيان كل منهم شهود يشهدون عليه بما كان منه من منكر وضلال.. وكلّ شىء فيهم ينطق شاهدا عليهم إلا ألسنتهم التي لم تنطق فى دنياهم غير الكفر والشرك.. فهذه الألسنة تخرس عن أن تقول شيئا، كما يقول تعالى «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» (65. يس) . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1302 فالأيدى، والأرجل، تتكلم، ولا تقول اليوم إلا حقّا.. والأيدى إنما تشهد بما أخذ بها أصحابها من حقوق وما سلبوا من أموال، وما أوقعوا بها من أذى فى عباد الله.. والأرجل تشهد بما كان منهم من سعى إلى كل مأثم ومشى إلى كل باطل.. وفى قوله تعالى: «شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» .. بيان لشهود آخرين، غير الأيدى والأرجل، يقومون من كيان الإنسان نفسه، ليؤدوا شهادة الحق عليه.. فهناك السّمع، وهو يشهد بما سمع من آيات الله، فلم يجد لها عند صاحبه مجيبا، وما سمع من منكر القول وضلال الحديث، فوجد السامع المستجيب! وهناك البصر.. الذي رأى ما رأى من آيات الله الكونية، فلم يجد عند صاحبه الوعاء السليم الذي يحفظ فيه ما رأى، بل إنه كان يرى ما يرى، فيلقى بما رأى فى إناء مخروق لا يمسك شيئا، ولا يحتفظ بشىء.. على حين كان هذا البصر إذا علق بشىء من الباطل، وجد من صاحبه المشاعر التي تجسد هذا الباطل، وتقيمه تمثالا يعبده من دون الله! ثم هناك «الجلد» وهو هذا الثوب الذي يكسو الإنسان، ويحوى كيانه كله، وهو موضع الإحساس فيه، ويمثل حاسة اللمس، إلى جوانب الحواس الأخرى، من السّمع، والبصر، والذوق، والشم، التي يحويها كلها الوعاء الجلدى.. وقد فسر بعض العلماء «الجلد» بالفرج، وهو تأويل بعيد، لا تساعد عليه اللغة، وإن كانت الفروج من الجوارح التي تهدد الناس بأقدح الأخطار وأشنعها.. فكان حمل الجلود عليها منظورا فيه إلى إقامة أفصح الشهود الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1303 وأكثرهم دلالة على جرم المجرمين.. وهذا ما نرى أن القرآن الكريم لم يقصد إليه هنا، وإلّا لأنطق القلوب التي هى موطن الفساد، وقائدى الضلال عند أهل الفساد والضلال والكفر! كذلك فسّر بعض العلماء المحدثين «الجلد» ببصمات الأصابع، حيث لكل إنسان بصمة أصابعه التي لا يشاركه فيها إنسان غيره!! وهذا التأويل محمول فيه الجلد على أنه الذي يكشف عن شخصية الإنسان، وينادى عليه أن هذا هو فلان «المجرم» فخذوه.. وهذا المعنى أيضا غير وارد فيما سيقت الآية الكريمة له، وهو أن الله سبحانه وتعالى أقام على الكافرين والمشركين والضلّال شهودا عليهم من الجوارح التي كانت فى الدنيا من القوى المسخرة لهم، والتي كانت نعما من نعم الله الجليلة عندهم، لو أنهم أحسنوا الانتفاع بها.. ولكنهم وجّهوها غير وجهتها التي خلقها الله لها.. وكان ذلك عدوانا على هذه الجوارح ذاتها، بتكليفها ما لو كانت لها إرادة لأبت أن تفعله.. فلما جاء يوم الحساب، ولم يكن للإنسان سلطان عليها فى هذا اليوم، لأن إرادته قد تعطلت- تمثلت هذه الجوارح شخوصا، تقف من صاحبها موقف الخصومة، وتنطق بما ارتكب بها صاحبها من منكرات، ليقتص لها الله سبحانه من صاحبها، المعتدى عليها.. والجلود هنا هى- كما قلنا- الثوب الذي يكسو الكيان الإنسانى كله، ويحوى فى داخله هذا الهيكل البشرىّ، وما حوى من مشاعر، وأحاسيس ووجدانات.. فشهادة الجلد، شهادة شاملة لكل ما شهدت به هذه الجوارح من الألسنة، والأيدى، والأرجل، تستدرك ما فات هذه الجوارح أن تشهد عليه، مما لم يكن داخلا فى نطاق وظيفتها.. ولهذا فإنهم- أي أهل الضلال- يتجهون إلى جلودهم وحدها بالاستنكار عليها أن تؤدّى هذه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1304 الشهادة التي تدينهم وتدين جلودهم معهم.. «وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» . والجلود قد أنطقها الله سبحانه الذي أنطق كل شىء.. فكل شىء ناطق لله سبحانه وتعالى، كما أن كل شىء مسبح بحمده، كما يقول سبحانه: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» (44: الإسراء) .. فليس المراد بالنطق، هنا، نطق اللسان، وإنما المراد هو إفصاح الموجود عن وجوده، والإبانة عن ولائه لخالقه، بأية صورة من الصور، ومن هذه الصور انتظام الموجود فى نظام الوجود، وجريانه على ما أقيم عليه.. وقوله تعالى: «وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ» .. يجوز أن يكون هذا من قول الله سبحانه وتعالى لهم، تعقيبا على مقول الجلود لهم، وتقريرا لهذا القول. ويجوز أن يكون ذلك من مقول الجلود، ويكون ذلك من شهادتها على أصحابها، الذين لم يلتفتوا إلى هذه الحقيقة، بل غفلوا عنها، فلم يؤمنوا بأن لهم خالفا واحدا هو الذي خلقهم، وخلق كل شىء.. إذ لو عرفوا هذه الحقيقة، لآمنوا بالله وحده، ولما عبدوا هذه الآلهة التي عبدوها من دونه، ولما صاروا إلى هذا المصير المشئوم الذي ألقى بهم فى جهنم.. والمراد بالخلق أول مرة، هو الخلق الذي كان عليه الإنسان، قبل الموت، وهو ميلاده فى الحياة الدنيا.. وفى هذه إشارة إلى خلق آخر، وهو البعث.. فالبعث، وهو نشر الموتى من القبور، هو خلق جديد، كما يبدو للأنظار وخاصة أنظار الذين ينكرون البعث، ويظنون أن الموت هو رحلة فى محيط الفناء الأبدىّ، ولهذا كانوا يقولون فى أسلوب إنكارى ما حكاه القرآن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1305 عنهم فى قوله تعالى: «أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ» (5: الرعد) .. وفى قوله تعالى: «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» .. إشارة إلى هذا الخلق الآخر، وهو البعث بعد الموت.. قوله تعالى: «وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ» .. يجوز أن يكون هذا من قول الله سبحانه وتعالى، كما يجوز أن يكون من قول الجلود لأصحابها، على نحو ما أشرنا إليه فى قوله تعالى: «وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» . وقوله تعالى: «أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ» .. هو فى تأويل مصدر مجرور بلام التعليل، أي لشهادة سمعكم وأبصاركم وجلودكم وهو تعليل لنفى استتارهم، أي ما كنتم تستترون عن الله بأفعالكم المنكرة حتى استدعى هؤلاء الشهود منكم ليشهدوا عليكم، «وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ» فأراكم الله سبحانه وتعالى من هؤلاء الشهود بعض مظاهر علمه وقدرته وأن له سبحانه وتعالى جنودا فى كلّ ذرّة فيكم، هى ألسنة تنطق بكل ما تعملون من صغيرة وكبيرة.. وفى قوله تعالى: «وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ» .. هو إشارة إلى سوء ظنهم بالله، وأنهم كانوا يظنون أن الله سبحانه لو كان يعلم ما يعملون فى جهر، فإنه لا يعلم ما يسرّون من أقوال، وأعمال.. ولهذا استتروا وهم يأتون المنكرات من أعمالهم وأقوالهم، ظنّا منهم بأن الله سبحانه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1306 لا يرى. ولا يسمع ما كان منهم فى خفاء وستر. ولهذا أراهم الله سبحانه كذب هذا الظن وبطلانه، فأنطق سبحانه وتعالى جلودهم التي لا يبدو منها أي عمل، فكانت ألسنة فصيحة، تنطق بكل ما كان منهم من مشاعر وأحاسيس، وخلجات.. فإنطاق الجلود هنا، هو فى مواجهة هؤلاء الذين يظنون بالله سبحانه وتعالى هذا الظنّ، الذي يقوم عندهم بأن الله يعلم جهرهم ولا يعلم سرّهم، وهذا ما يشير إليه سبحانه فى موضع آخر: «وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» (13: الملك) .. ولهذا لم يجر ذكر للألسنة هنا، وهى من الجوارح التي تشهد على أصحابها، كما يقول الله تعالى: «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» (24: النور) .. إذ كانوا- حسب ظنهم هذا- يظنون أن الله يعلم ما ينطقون به.. وهو ظنّ لا يبلغ مرتبة اليقين عندهم.. هذا، ويجوز أن يكون المعنى، وما كنتم لتستتروا لو أنكم علمتم أن معكم شهودا يشهدون عليكم، وهى أقرب شىء إليكم، بحيث لا يفوتها همسة خاطر، أو قشعريرة جلد، أو ذوق لسان، أو حركة يد أو رجل.. ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون، فلذلك اجتراؤكم على اقتراف المنكرات سرّا، وما دريتم أن لله جنودا قائمين عليكم يسكنون بين العظم والجلد منكم! قوله تعالى: «وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ» .. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1307 أي هذا الظن الذي ظننتموه بربكم من أنه قد يعلم ما تبدون، ولا يعلم ما تكتمون.. هذا الظنّ هو الذي أفسد عليكم معتقدكم فى ربّكم، فلم تروه سبحانه إلا على ما ترون به بعض أصحاب الجاه والسلطان، ممن لهم جنود وعيون، يرون القليل، ولا يرون الكثير.. فكان إيمانكم بالله هو هذا الإيمان الفاتر الفاسد، الذي لا يفرده بالألوهية المطلقة، والعلم المطلق. قوله تعالى: «فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ» أي فإن يصبر هؤلاء المشركون على هذا البلاء الذي هم فيه من ظنهم بالله هذا الظنّ السيّء، فالنّار هى موعدهم، وهى مأواهم الذي يأوون إليه.. وإن يستعتبوا أي يطلبوا العتبى فى طلب الصفح وإصلاح ما أفسدوا، فلن يعتبوا، ولن يقبل منهم تصحيح معتقدهم، بعد أن فات الوقت، وأفلتت الفرصة من أيديهم وهم فى الدنيا. أما اليوم- يوم الحساب- فلا يقبل عمل، ولا تنفع معذرة! كما يقول الله سبحانه: «لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ.. إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» 7: التحريم الآيات: (25- 29) [سورة فصلت (41) : الآيات 25 الى 29] وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1308 التفسير: «قوله تعالى: «وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ» . قيضنا: أي هيأنا، ويسرنا، وسلطنا.. قرناء: جمع قرين، وهو الصاحب الملازم، كأنه وصاحبه فى مقود واحد أي أن الله سبحانه وتعالى، جمع هؤلاء الضالين، بأهل الضلال، فالتقوا بهم على طريق الضلالة، فلم يجدوا منهم ناصحا، بل وجدوهم دعاة سوء يدعونهم إلى المنكر، ويزينونه لهم، ويغرونهم به.: وهذا من خذلان الله.. نعوذ بالله منه.. إذ لو أراد الله سبحانه بهم خيرا لجمعهم بأهل الاستقامة والصلاح، فانتفعوا باستقامتهم وصلاحههم، وأفادوا من هديهم وإيمانهم. وقوله تعالى: «فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ» أي أن هؤلاء القرناء قد زيّنوا، وحبّبوا إلى هؤلاء الضالين الوافدين عليهم «ما بين أيديهم» أي ما هم فيه من ضلال «وما خلفهم» أي ما كان عليه آباؤهم من منكرات وضلالات ورثوها عنهم حتى لقد كادت تكون طبيعة لازمة لهم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1309 وقوله تعالى: «وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ» أي وجب ولزم أن يحلّ بهم ما قضى الله سبحانه وتعالى به فيهم من قوله تعالى: «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» فهو حكم عام على أصحاب النار، أنهم أصحاب النار قبل أن يخلقوا. وقوله تعالى: «فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ» متعلق بمحذوف هو حال من هؤلاء الضالين.. أي حالة كونهم داخلين فى أمم الضالين الذين خلوا ومضوا من قبل، من الجنّ والإنس.. ويجوز أن يكون «فى» بمعنى مع، أي حق عليهم العذاب مع أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس، وفى تعدية الفعل بحرف الجر «فى» الذي يفيد الظرفية- إشارة إلى أنهم وأهل النار جميعا مظروفون فى ظرف واحد يحتويهم جميعا.. وقوله تعالى: «إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ» - الضمير فى «إنهم» يعود إلى هؤلاء الضالين، بمعنى أن الله سبحانه قد أضلهم، وقيض لهم هؤلاء القرناء الضالين، لأنهم كانوا خاسرين، أي لا يقبلون إيمانا، ولا يطلبون هدى.. ويجوز أن يكون الضمير للضالين جميعا.. من سابقين ولاحقين، من جن وإنس. قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ» .. أي أن هؤلاء الضالين من المشركين، وقد اجتمع بعضهم إلى بعض، وتلاقوا على طريق الضلال- تشكل منهم هذا الكيد الذي أجمعوا أمرهم عليه، ليكيدوا به للنبى الكريم، وللقرآن الذي يتلوه عليهم، وهو أن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1310 يشوّشوا على النبي وهو يتلو القرآن، ويكثروا من اللفظ، واللغط، حتى لا تنفذ كلماته إلى الآذان، ولا تصل إليها إلا مختلطة مضطربة.. وقد ظنوا أنهم بهذا العبث الصبيانى يسدون منافذ الضوء من تلك الشمس الساطعة إذا هم مدّوا أيديهم إليها، وحجبوها عن عيونهم..! قوله تعالى: «فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ» .. هو تهديد، ووعيد لهؤلاء الذين يكبدون لآيات الله، ويلقونها هازئين ساخرين.. وفى إقامة الظاهر مقام المضمر فى قوله تعالى «الَّذِينَ كَفَرُوا» بدلا من قوله تعالى: «فَلَنُذِيقَنَّ» - إشارة إلى سوقهم مع جريمتهم، وهى الكفر، إلى جهنم، وفى هذا مضاعفة لآلامهم، حيث يرون وجه جريمتهم يصحبهم فى كل مكان.. إنهم أشبه بالقاتل الذي يحمل جثة قتيله وهو مسوق إلى ساحة الإعدام.. وقوله تعالى: «وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ» - إشارة إلى أن أعمالهم سيئة كلها، وأنها درجات متفاوتة فى السوء، وأن الكبائر منها تجمع الصغائر فى كيانها، وأن الكفر وهو رأس الخطايا كلها هو الذي يدانون به، ويلقون أشد العذاب عليه، فإنه ليس بعد الكفر ذنب، ولا وراء عذاب الكافر عذاب.. ولهذا سيقوا إلى جهنم بجريمة الكفر، «فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً» !. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1311 قوله تعالى: «ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ» . والكافرون هم أعداء الله، بل هم أعدى أعدائه، وليس لهم جزاء عند الله إلا النار، حيث تكون دار خلود لهم، لا يخرجون منها.. إذ كانوا يجحدون بآيات الله، ويكذبون رسله، ويكفرون بربهم.. قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ» . هو عرض لمشهد من مشاهد القيامة لأهل الضلالة جميعا، من تابعين ومتبوعين.. وفى هذا المشهد، حيث النار وقد احتوتهم جميعا، وأوصدت عليهم أبوابها- لا يرى التابعون سبيلا للانتقام من الذين اتبعوهم، إلا أن يدعوا الله سبحانه أن يريهم إياهم، ويجمعهم بهم، ويمكنهم منهم، ليجعلوهم تحت أقدامهم! وفى هذا شفاء لما فى صدورهم من موجدة ونقمة عليهم.. وإن كان ذلك لا يخفف عنهم من العذاب شيئا!. الآيات: (30- 35) [سورة فصلت (41) : الآيات 30 الى 35] إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1312 التفسير: قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» . هو عرض للوجه الآخر، من وجوه الإنسانية، وهو وجه المؤمنين بالله، المستقيمين على طريق الهدى، بعد أن عرضت الآيات السابقة أهل الضلالة والكفر، وما أعد الله لهم من عذاب أليم. فالذين قالوا ربنا الله، وحده، لا شريك له، ولا نعبد إلها غيره، ولا نتخذ معه شركاء، ثم إنهم مع إيمانهم هذا، قد عملوا بمقتضى هذا الإيمان فاستقاموا على ما يدعو إليه الإيمان بالله، من امتثال ما يأمر به، واجتناب ما ينهى عنه- هؤلاء المؤمنون تتنزل عليهم الملائكة بالرحمات والبركات من ربهم، فيلقونهم عند كل مطلع من مطالع القيامة، وعند كل شدة من شدائدها، بما يملأ قلوبهم أمنا وسكينة ورضا، قائلين لهم: ألّا تخافوا مما أنتم مقدمون عليه من حساب وجزاء، ولا تحزنوا على فائت فاتكم فى الدنيا، فقد أخذتم خير ما فيها، وهو الإيمان بالله، والعمل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1313 الصالح الذي تقبله الله منكم، وأعد لكم الجزاء الطيب عليه، وهو الجنة التي وعدكم.. والله منجز وعده.. قوله تعالى: ى: «نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ» . وإنه لكى يأنس المؤمنون بالملائكة الذين يلقونهم لأول مرة، يكشف لهم الملائكة عن تلك العلاقة التي كانت بينهم فى الدنيا، إذ كان الملائكة- من غير أن يشعر المؤمنون- أولياء لهم، تجمع بينهم جامعة الولاء لله، والطاعة له.. فهم والملائكة كانوا إخوانا فى الله، ومن هنا كانوا يستغفرون للمؤمنين، كما يقول الله سبحانه: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» (7: غافر) . ثم إن الملائكة كانوا فى الدنيا جندا من جنود الله، يقاتلون فى سبيل الله مع المقاتلين فى سبيله من المؤمنين، كما يقول سبحانه: «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ» (12: الأنفال) .. قوله تعالى: «وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ» . الضمير فى «فيها» للجنة التي جاء ذكرها فى قوله تعالى: «وَأَبْشِرُوا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1314 بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» .. أي أبشروا بهذه الجنة التي لكم فيها ما تشتهى أنفسكم ولكم فيها ما تدعون، أي ما تتمنون، مما يطوف بخيالكم، ويقع فى عالم الأمانى، فكل ما تتمنونه تجدونه حاضرا بين أيديكم.. وإنه ليس أهنأ للإنسان، ولا أسعد لقلبه، من أن يجد كل ما يتمناه حاضرا بين يديه، فتلك هى السعادة المطلقة، الخالية من كل شائبة من شوائب الحرمان، الكلّى أو الجزئى.. قوله تعالى: «نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ» أي منزلا من غفور رحيم، قد أعده الله لكم وقد غفر لكم ذنوبكم، وأنزلكم منزل رحمته.. ومن نزل هذا المنزل فهو فى ضيافة رب كريم، ينال من فضل الله ما يشاء.. وفى هاتين الصفتين الكريمتين من صفات الله سبحانه- إشارة إلى أن المغفرة والرحمة، هما اللتان أنزلتا المؤمنين هذا المنزل الكريم.. أما الإيمان والأعمال الصالحة، فهى وسائل يتوسل بها المؤمنون إلى مرضاة الله.. وفى الحديث «لا يدخل أحد الجنة بعمله» قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله برحمته» .. فاللهم تغمدنا برحمتك يا أرحم الراحمين.. قوله تعالى: «وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ» .. الاستفهام هنا مراد به الخبر، أي أنه لا أحد أحسن فى الناس قولا ممن دعا إلى الله، وعمل صالحا وقال إننى من المسلمين.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1315 والآية تنويه بالمؤمنين، الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا.. فقولهم ربنا الله، هو أحسن قول نطق به لسان.. والمراد بالدعاء إلى الله، الانجاه إلى الله، بأن يدعو الإنسان نفسه إلى ربه، وأن يخلص بها من مواقف الضلال، ومجتمع الضلالة، وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى على لسان إبراهيم: «وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ» (99: الصافات) . وفى عطف العمل الصالح، على الدعاء إلى الله: «دعا إلى الله وعمل صالحا» إشارة إلى أن الدعاء إلى الله، وهو الإيمان به، لا يؤتى ثمره الطيب، إلا بالعمل الصالح.. فإذا اجتمع الإيمان بالله، والعمل الصالح، فقد أمسك المؤمن بالخير من طرفيه، واستمسك بالعروة الوثقى من صميمها، وفى هذا يقول الرسول الكريم لمن جاءه يسأله عن طريق النجاة: «قل ربى الله.. ثم استقم» .. وفى قوله تعالى: «وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ» - إشارة إلى أن ثمرة الإيمان بالله والعمل الصالح، إنما تظهر آثارها فى المجتمع الإنسانى، وفى العطاء والأخذ بين الناس.. فالإيمان والعمل الصالح إذا أمسك بهما إنسان ثم عاش بهما فى نفسه، منعزلا عن الناس، منقطعا عن الحياة، فذلك إنسان قد عطل الخير الكثير الذي معه، وأمسك به عن أن ينمو ويزدهر فى مزرعة الحياة، وخير منه ذلك الإنسان الذي يعيش بإيمانه وبعمله الصالح مع الناس، فيتبادل معهم الخير، الذي يخصب وينمو بهذا التبادل! وهذا ما تشير إليه الآية التالية: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1316 قوله تعالى: «وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» . فهذه الآية تشير إلى التطبيق العملي للإيمان والعمل الصالح، حيث يحتسب الإنسان نفسه واحدا من جماعة المسلمين، فيعيش معهم، ويلقاهم بإيمانه وبعمله الصالح، فلا يجزى السيئة بالسيئة، بل يلقى السيئة بالحسنة.. إذ لا تستوى الحسنة ولا السيئة.. ومن شأن المؤمن أن يأخذ بالأحسن دائما.. وقوله تعالى: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» أي ردّ السيئة بالتي هى أحسن، وهى الإحسان فى مقابل الإساءة.. فإن من حقّ الإنسان إذا أسىء إليه أن يردّ السّيئة بالسيئة، كما يقول الله تعالى: «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» ثم يعقب ذلك بقوله: «فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» .. فردّ السيئة بمثلها، ليس حسنا ولا سيّئا، والعفو عن السيئة حسن، وأحسن من هذا الحسن أن تردّ السيئة بالحسنة.. فهذه درجات ثلاث، والمؤمن بالخيار فيها.. وخير المؤمنين من أخذ بالدرجة الثالثة، وهى دفع السيئة بالحسنة.. وقوله تعالى: «فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» بيان للأثر الطيب، الذي يجىء من هذا العمل الطيب، وهو دفع السيئة بالحسنة، وهو أنه بالإحسان إلى المسيء، تنطفىء نار الفتنة التي كان يمكن أن تشتعل من احتكاك السيئة بالسيئة.. ثم إن هذا المسيء الذي كان يتوقع الإساءة ممن أساء إليه- حين يرى أن اليد التي مدّها بالإساءة قد عادت إليه ملأى بالإحسان ممن أساء إليه، يستخزى من نفسه وتخفّ موازينه حين ينظر إلى فعله، وفعل المحسن إليه، فيذلّ، وينقاد.. إن لم يكن عاجلا فآجلا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1317 والخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم، وهو خطاب لكل مؤمن بالله ورسوله.. وقد كان النبي صلوات الله وسلامه عليه المثل الكامل فى امتثال هذا الأمر الإلهى، وتطبيقه على أكمل صورة وأنمها، وحياة الرسول كلها مليئة بالشواهد لهذا.. فعلى كل خطوة من خطواته الشريفة على طريق دعوته، يقوم شاهد يحدّث بإحسان الرسول الكريم إلى من يسيئون إليه، ويؤذونه وحسبنا أن نذكر هنا موقفه فى أحد، وقد أثخنه المشركون جراحا، فما زاد صلوات الله وسلامه عليه، على أن قال: «اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون» .. ثم بحسبنا أن نذكر موقفه يوم الفتح، وقد أصبح المشركون فى قبضته، وفيهم كثيرون ممن آذوه بالقول وبالعمل، بل إن فيهم «وحشيّا» قاتل عمّه حمزة.. وقد لقى الرسول الكريم هؤلاء المشركين جميعا بالصفح الجميل، وقال لهم قولته الخالدة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» . قوله تعالى: «وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» . فى الآية الكريمة إشارة إلى أن هذا العمل، وهو دفع السيئة بالحسنة، ليس بالأمر الهيّن الذي تستطيع كل النفوس احتماله، وإنما هو من صنيع النفوس الكبيرة، التي آتاها الله قوة على الصبر والاحتمال، فلا يعكّر صفوها هذا المكروه الذي ورد عليها.. ما يضير البحر أمسى زاخرا ... أن رمى فيه غلام بحجر! وفى قوله تعالى: «وَما يُلَقَّاها» .. إشارة إلى هذه الدرجة من العظمة الإنسانية، وإلى أن متنزلها من عل، وأنها هبة من هبات الله سبحانه، وعطاء من عطاياه. «وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» من فضل الله وإحسانه.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1318 وهنا سؤال: إذا كان المؤمن فى مجتمع المؤمنين مطالبا بأن يدفع السيئة بالحسنة، حتى ينال درجة الكمال والإحسان.. فهل يتوقع أن يرى- فى مجتمع المؤمنين، من يأتى بالسيئة ابتداء، فيسىء إلى من لم يسىء إليه؟ والجواب على هذا، من وجهين: أولا: أن القرآن الكريم حين دعا إلى دفع السيئة بالحسنة، إنما خاطب بذلك مؤمنا فى جماعة المسلمين، وليس فى جماعة المؤمنين، وذلك فى قوله تعالى: «وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ» .. فالمسلمون أعمّ من المؤمنين، وقد يكون الإسلام باللسان دون القلب، وقد يكون باللسان والقلب وليس معه عمل، أما الايمان، فهو قول باللسان، واستيقان بالقلب، وتصديق بالعمل.. وعلى هذا يكون كل مؤمن مسلما، وليس كلّ مسلم مؤمنا.. فقوله تعالى: «وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» - وإن كان دعوة عامة للمسلمين جميعا، إلّا أنه منظور فيه إلى القمة العالية فيهم، وهم الذين أشار إليهم قوله تعالى: «وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» . وثانيا: أن المؤمنين ليسوا درجة واحدة فى مقام الكمال والإحسان.. ففى بعضهم من يسىء ابتداء، وفى بعضهم الآخر من يردّ الإساءة بالإساءة، وفيهم من يردّ الإساءة بالعفو، وفيهم من يردّ الإساءة بالإحسان، وهذا أعلى درجات الإيمان.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1319 الآيات: (36- 43) [سورة فصلت (41) : الآيات 36 الى 43] وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43) التفسير: قوله تعالى: «وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» .. النزغ: المسّ والنخس، ويراد به ما يكون من لمّة يدخل بها الشيطان على الإنسان ليعد به عن سواء السبيل.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1320 ومناسبة الآية لما قبلها أن الآية السابقة دعت إلى دفع السيئة بالحسنة، وإنه لن يقوم بالوفاء بهذه الدعوة إلّا من كان على درجة عالية من وثاقة الإيمان وقوة العزيمة.. وللشيطان هنا مداخل يدخل بها على من يجمع أمره على دفع السيئة بالحسنة، فيكون له نخسات ينخس بها فى صدر المؤمن، كى يخرج به عن هذا الموقف الكريم.. وهنا لا يكون للمؤمن- كى يردّ كيد الشيطان ويخزيه- إلا أن يستعين بالله منه.. فالاستعاذة بالله من الشيطان خزى للشيطان، ودحر له، إذ يرى المؤمن وقد دخل فى هذا الحمى الذي لا ينال، فيرتدّ مذموما مدحورا. قوله تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» . هو معطوف على قوله تعالى: «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» .. أي وإن من آيات الله السميع العليم، الليل والنهار والشمس والقمر.. فهذه العوالم، هى بعض الآيات التي تشهد بجلال الله، وقدرته، وأن المستعيذ بالله إنما يستعيذ بمالك الملك، ربّ الأرباب، فلا يصل إليه أذّى، ولا يناله مكروه.. و «من» هنا للتبعيض.. أي ومن بعض آيات الله الليل والنهار والشمس والقمر.. وهناك آيات كثيرة لا تحصى، وإنما خصت هذه الآيات بالذكر لأنها تجمع الناس جميعا تحت لوائها، وكل إنسان داخل تحت سلطانها طوعا أو كرها.. وقوله تعالى: «لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ» نهى عن عبادة هذين الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1321 الكوكبين- الشمس والقمر- واختصاصهما بالذكر لأنهما أظهر الكواكب وأكثرها أثرا فى العالم الأرضى.. فهما بهذا السلطان، قد فتنا كثيرا من الناس، حتى لقد اتخذهما بعض الشعوب آلهة يعبدونها من دون الله، فى صور وأشكال شتّى من المراسم والطقوس. وقوله تعالى: «وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ» أمر بعبادة الإله المستحق للعبادة، وهو الخالق، لا المخلوق.. فالشمس والقمر مما خلق الله، وعبادتهما ضلال.. وفى عود الضمير على الشمس والقمر جمعا للمؤنث العاقل فى قوله تعالى: «الَّذِي خَلَقَهُنَّ» - فى هذا أكثر من إشارة: فأولا: الإشارة ضمنا إلى النهى عن عبادة الليل والنهار، لأن النهى عن عبادة الشمس والقمر، يتضمن- من باب أولى- النهى عن عبادة الليل والنهار، إذ كان الليل والنهار من مواليد الشمس، فهذا أشبه بالمخلوقين التابعين لهما، فإذا وقع النهى على عبادتهما، شمل ذلك النهى عن عبادة توابعهما، ولهذا جاء الضمير جمعا: «الَّذِي خَلَقَهُنَّ» . وثانيا: الإشارة إلى أن هذه المخلوقات الليل والنهار والشمس والقمر، وإن بدت جمادا صامتا فى نظر الإنسان، فإنها عند الله سبحانه وتعالى تسمع، وتبصر، وتعقل، وتتلقى أمر الله سبحانه وتستجيب له فى ولاء مطلق.. ولهذا جاء الضمير للعقلاء. وثالثا: الإشارة إلى أن هذه العوالم من ليل ونهار، وشمس، وقمر، وإن بدت ذات سلطان قائم على الناس، إلا أنها إلى جانب قدرة الله مستسلمة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1322 لا تملك من أمرها شيئا.. ولهذا لبست ثوب الأنوثة، الذي يدل غالبا على الضعف، وخاصة عند الجاهلين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى، فى موضع آخر: «أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ» (18: الزخرف) وقوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ» - إشارة إلى أن إخلاص العبادة لله وحده، هو الذي يعتبر عبادة مقبولة.. أما أن يعبد الله فى صورة هذه المخلوقات، أو أن تعبد معه هذه المخلوقات تقربا بها إليه، فهذا ليس من عبادة الله فى شىء. قوله تعالى: «فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ» أي إن استكبر هؤلاء المشركون عن عبادة الله، وأبوا أن يعطوا ولاءهم خالصا مطلقا له، فالله سبحانه وتعالى فى غنى عنهم، وإن استكبارهم هذا سيوقعهم تحت غضب الله، الذي لا يرجون له وقارا، ولا يخشون له بأسا.. وهذا ضلال مبين منهم، باستخفافهم بقدرة الله وبأس الله.. فالملائكة الذين هم أقرب خلق الله إليه سبحانه- وهم الملائكة المقربون- لم يكن لهم من هذا القرب ما يخليهم من خوف الله وخشيته لحظة واحدة، بل لقد كان خوفهم من الله وخشيتهم لله على قدر قربهم منه.. فكلما ازدادوا قربا من الله ازدادوا خوفا وخشية، لأنهم يرون من جلال الله، ويشهدون من عظمته وقدرته مالا يشهده غيرهم.. وإنه على قدر المعرفة والشهود، تكون الخشية ويكون الولاء، ولهذا فهم يسبحون الليل والنهار، فى صورة متصلة دائمة، «لا يسأمون» من هذا التسبيح، ولا يملّون، بل يزدادون مع دوام التسبيح نشاطا وقوة، لما يجدون من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1323 لذة ورضا بهذا الذكر المتصل الذي لا ينقطع به أنسهم وحبورهم فى مناجاة ربهم.. قوله تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» هو معطوف على قوله تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ» أي ومن آيات الله الدّالة على بسطة سلطانه، وكمال قدرته، ما تراه العين من هذه الحياة التي تلبس الأرض الميتة.. فبينما تقع العين على عالم فسيح من الأرض الجديب، والأصقاع الموات الهامدة، إذا هى- وقد أصابها الغيث، وجرى على وجهها الماء- حياة تموج فى أعصابها، ودماء تتدفق فى شرايينها، وإذا هى جنّات وزروع ونخيل وأعناب. وقوله تعالى: «تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً» - إشارة إلى ضراعة الأرض، فى جدبها، ومواتها، وما تكون عليه من شحوب الفقر والمسغبة. إنها أشبه بالكائن الحىّ حين تنقطع عنه موارد حياته، فيضرع ويخشع، ويذل..! وقوله تعالى: «فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ» - إشارة إلى تلك التفاعلات العجيبة، التي يحدثها التقاء الماء بالأرض الميتة.. فهذا الاهتزاز هو فرحة الحياة التي تسرى فى هذا الجسد الهامد، وهذا الرباء والنماء هو من فعل تلك الحرارة التي تملأ كيان هذا الجسد المنكمش المقرور.. وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى.. إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» - هو تعقيب على هذه الحقيقة التي يشهدها الناس من أمر الأرض الميتة، وما يلبسها من حياة دافقة، وشباب ناضر.. وإن هذه المقدرة التي أحيت تلك الأرض الميتة، لا يعجزها أن تعيد الأجسام الميتة الهامدة إلى الحياة مرة أخرى.. فهذا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1324 من ذاك سواء بسواء: فالله سبحانه الذي «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ» بقدرته.. «إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» . قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ.. إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» هو تهديد لأولئك الذين أشار إليهم سبحانه فى قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ» .. وقد هدّدوا من قبل بعذاب الله، فى قوله سبحانه: «فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ» .. ثم ها هم أولاء يتهددهم عذاب الله مرة أخرى بعد أن تليت عليهم آيات الله، وفيها معارض كثيرة لقدرة الله سبحانه، وما تملك هذه القدرة من اقتدار على البعث الذي ينكرونه، ولا يعملون له حسابا.. «إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا» أي الذين يستخفون بها، ويسخرون منها ويتعابثون عند الاستماع إليها- هؤلاء: «لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا» بل إن علم الله سبحانه محيط بكل ما يسرون وما يعلنون، لا تخفى على الله منهم خافية.. ثم إنهم لمحاسبون، ومجزيون بأسوأ ما كانوا يعملون.. «أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ» - أي أفهذا العذاب وهذا البلاء، الذي يلقاه هؤلاء المجرمون- خير، أم جنات الخلد التي وعد المتقون؟ لا يستويان أبدا؟ وفى النظم الذي جاء عليه القرآن هنا من الاختلاف بين المتعادلين، ما يجعل هذا النظم على إيجازه يتسع للكثير من المعاني، حيث يرى فى المعادل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1325 الأول، أن الذين يلقون فى النار لم يلقوا فيها إلا بعد أن قطعوا طريقا طويلا مضنيا إليها، تطلع عليهم فيه المخاوف من كل جانب.. على حين يرى فى المعادل الآخر، أن من يأتى آمنا يوم القيامة قد انتهى به هذا الأمن إلى أمن دائم، وهو الجنة التي طابت لأهلها مستقرا ومقاما: «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» (103: الأنبياء) .. «يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» (12: الحديد) . وقوله تعالى: «اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ.. إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» - هو تهديد بعد تهديد لهؤلاء المشركين، الذين لا يريدون أن يتحولوا أبدا عن هذا الموقف الضال من آيات الله، ومن رسول الله.. فليعملوا ما شاءوا.. إن الله بما يعملون بصير.. وإنهم لمحاسبون على ما يعملون، ومجزيّون بأسوأ الذي كانوا يعملون. قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» الذكر: هو القرآن الكريم: وسمى ذكرا، لأنه يذكّر بالله، ويكشف طريق الهدى إليه. وخبر «إن» محذوف، وفى حذفه إشارة إلى أن يفسح المكان لكل وارد من واردات العذاب، والبلاء، ولكل صورة من صور الانتقام والنكال فيمكن أن يقال: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ» سيحشرون على وجوههم إلى جهنم.. لهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق- ويمكن أن يقال هنا، كلّ ما جاء فى القرآن من صور العذاب والنكال لأهل الكفر، والإلحاد.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1326 وقوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ» جملة حالية، تكشف عن هذا القرآن الذي يكفر به الكافرون، ويلحدون فى آياته.. أي أنهم يكفرون بهذا القرآن مع أنه كتاب عزيز، أي منيع: «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ» وكيف يلم به الباطل من أية جهة، وهو «تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» ؟ فالحكيم لا يدخل على عمل من أعماله دخل أو فساد، فكيف بأحكم الحاكمين رب العالمين؟ والحميد المستحق لأن يحمد ويمجد، لا يكون حمده وتمجيده إلا لما هو قائم على الحكمة والسداد.. فكيف بمن هو المحمود وحده، حمدا مطلقا فى السراء والضراء؟ قوله تعالى: «ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ.. إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ» أي أنك أيها النبي لست بدعا من الرسل، وإنما أنت رسول الله إلى عباد الله، تحمل دعوة الحق إليهم، أن يؤمنوا بالله وحده، وألا يشركوا به شيئا.. فهذا هو مجمل رسالة رسل الله جميعا، وهو مجمل رسالتك، وعنوانها، وصميمها.. فالقول هنا بمعنى الوحى: أي ما يوحى إليك إلا ما أوحى إلى الرسل من قبلك، كما يقول الله سبحانه: «إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (163- 164: النساء) ويجوز أن يكون معنى قوله تعالى: «ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ» أي ما يقال ذلك من هؤلاء المشركين من قومك، من تكذيب لك الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1327 واتهام بالسحر والجنون إلا مثل ما كان يقال للرسل من قبلك من أقوامهم.. وفى هذا عزاء للنبى صلوات الله وسلامه عليه.. ودعوة له إلى الصبر على ما يكره من قومه، كما صبر الرسل على ما رماهم به أقوامهم من سوء.. وقوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ» - هو تعقيب على هذا الخبر، وهو أن الرسول ليس بدعا من الرسل، وأنه إنما يدعو بما دعا به رسل الله من قبله، من الإيمان بالله وحده، من غير شريك له.. وفى هذا التعقيب دعوة إلى المشركين إلى الإيمان بالله، وأنهم إذا آمنوا، وتابوا إلى الله، ونفضوا أيديهم مما يعبدون من آلهة، وما يفعلون من منكرات، تقبل الله توبتهم، وغفر لهم ما كان منهم.. وفى هذا التعقيب مع هذه الدعوة إلى الإيمان، والإغراء بالمغفرة تهديد بالعذاب الأليم، والعقاب الشديد، لمن لم يستجب لدعوة الإيمان، ولم يرجع إلى الله منيبا، تائبا.. ويجوز أن يكون قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ» هو مقول القول لله سبحانه وتعالى: «ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ» أي ما يقال لك إلا هذا القول، وهو: «إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ» وهو ما قيل لكل رسول من قبل.. فهذا هو الإله الذي يدعو إلى الإيمان به كل رسول من رسل الله.. إنه ذو مغفرة لمن تاب وآمن وعمل صالحا، وذو عقاب أليم لمن صد عن سبيل الله، وكفر به، وسعى فى الأرض فسادا.. الآيات: (44- 46) [سورة فصلت (41) : الآيات 44 الى 46] وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46) الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1328 التفسير: قوله تعالى: «وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ؟ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ؟ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» . مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة ذكرت القرآن الكريم، ونوهت به، وأشارت إلى علو متنزله، وأنه عزيز من عزيز حكيم، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتوعدت الذين كفروا به، وألحدوا فيه، فناسب ذلك أن يذكر عن المشركين الذين كفروا بهذا الذكر بعض إلحادهم فيه، وتعلّاتهم عليه، مما كان سببا فى صدهم عنه، ومجافاتهم له.. فمن ضلالاتهم أنهم كانوا ينكرون أن يكون الرسول الذي يرسل من عند الله إليهم رجلا منهم، يتكلم باللسان الذي يتكلمون به.. إن ذلك ممكن أن يدعيه كل واحد منهم، فما يحدثهم به الرسول على أنه كلام الله هو من جنس ما يتكلمون به.. فهل كلام الله من جنس كلامهم؟ أهذا مما يعقل؟ وما الدليل على أن هذا كلام الله؟ ثم ما الدليل على أن هذا الإنسان هو رسول الله؟ وما الجديد الذي جاءهم به؟ إن بضاعته كلها كلام من كلامهم! فإذا كان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1329 ثمة كلام من الله إليهم، فليكن بلسان غير لسانهم حتى يكون ذلك شاهد صدق على أن ما يحدثهم به محمد ليس من كلامه هو، بل من كلام الله.. فهذا أقرب إلى التصديق!! هكذا كان شعورهم نحو القرآن الكريم أول الأمر.. ما إن سمعوه كلاما عربيا مما يتكلمون به، حتى قامت تلك التهم عندهم له، وللرسول الذي جاء به.. ولهذا جاءهم القرآن الكريم بما يكشف عن فساد منطقهم هذا، وذلك فى قوله تعالى: «وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ» (199: الشعراء) أي أنه لو جاءهم أعجمى لا يتكلم العربية أبدا، فجعله الله سبحانه وتعالى رسولا إليهم، يتلو عليهم هذا القرآن بلسان عربى مبين لكان موقفهم معه كموقفهم مع النبي العربي، ولقالوا فيه مقالا، ولما كان نطقه باللسان العربي- وهو الأعجمى- شاهدا يشهد له عندهم بأنه رسول الله.. ففى مجال المماحكة والجدل متسع لأهل الزيغ والضلال!. ومن جهة أخرى، فإن هؤلاء الضالين، لو استمعوا إلى آيات الله، وعقلوها، ووزنوا كلامهم على ميزانها لوجدوا أن كلامهم بالنسبة إليها أشبه بلكنة الأعاجم ورطاناتهم.. إن الشبهة قائمة عندهم، لا تزول، لو جاءهم القرآن باللسان الأعجمى، كما أنها قائمة عندهم كذلك لو كان الرسول إليهم ملكا لا بشرا.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ» (9: الأنعام) .. فلو جاءهم القرآن الكريم بلسان أعجمى لكانت علّتهم عليه، أنه ليس بلسانهم، وأنهم لا يفهمون هذه الرطانة، ولقالوا: «لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ» أي هلا وضحت آياته، واستبانت مغالق كلماته، حتى نعلم منطوقها الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1330 ومفهومها؟ وإن لهم فى هذا القول لمنطقا لو كانوا يطلبون الحق أو يبتغون الهدى.. وقد ردّ الله سبحانه عليهم بقوله: «أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ» ؟ أي كيف يتفق أن يكون اللسان الأعجمى مفصحا مبينا عند من لا يحسن إلا العربية؟ فإما أن يكون الكلام بغير العربية التي لا يحسنونها، أو بالعربية التي هى لسانهم.. أما أن يكون الكلام غير عربى، ثم ينطق بما يفهمه العربي فهذا ما لا تحتمله طبيعة اللغة، أي لغة..! وقوله تعالى: «أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ» استفهام إنكارى لهذا المقترح الذي يقترحونه على النبي- صلوات الله وسلامه عليه- وهو أن يكون اللسان الذي يخاطبهم به لسانا أعجميا عربيا معا!. أي بلغة غير لغتهم، ثم تكون تلك اللغة مفهومة لهم!! قوله تعالى: «قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ» أي هذا القرآن هو هدى وشفاء للذين آمنوا، يجدون فى آياته وكلماته ما يهديهم إلى الحق والخير، وما يذهب بما فى عقولهم وقلوبهم من زيغ وضلال.. وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى» أي أن الذين لا يقبلون الإيمان، ولا تستجيب طبيعتهم له- هؤلاء لا حظ لهم من القرآن، إلا الصمم فى آذانهم، وإلا العمى فى أعينهم، فلا يسمعون ما يتلى عليهم منه، ولا تستضىء أبصارهم بما فيه من هدى.. فقوله تعالى: «فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ» متعلق بمحذوف، هو خبر الذين لا يؤمنون.. أي والذين لا يؤمنون يقع فى آذانهم صمم عند سماع القرآن.. وقوله تعالى: «وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى» أي ويرد عليهم من القرآن عمى يصيبهم فى أبصارهم وبصائرهم.. وقوله تعالى: «أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» .. الإشارة هنا إلى هؤلاء الذين لا يؤمنون.. وفى الإشارة إليهم مناداة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1331 عليهم بما يسوءهم، وإعلامهم بهذا الحكم على مشهد من الناس.. وقوله تعالى: «يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» - إشارة إلى أن هؤلاء الذين لا يؤمنون، لا تتقبل طبيعتهم الإيمان ولا تستجيب له.. إذا تلى عليهم القرآن لم يقع لآذانهم التي أصموها عنه إلا كما يقع الصوت الوارد من مكان بعيد، خافتا ضعيفا، غير واضح الدلالة، فلا يتبين السامع شيئا لما سمع. قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» . هو عزاء للنبى، وتسرية لهمومه التي يعالجها، من خلاف قومه عليه، وإعراضهم عما يتلو عليهم من آيات ربهم.. فهذه ليست حال هؤلاء القوم وحدهم، بل هى حال كثيرين من أهل الضلال، فى كل أمة وكل جيل مع رسل الله وآيات الله.. وأقرب مثل لهذا مالقى موسى من قومه هؤلاء الذين يراهم المشركون بينهم من اليهود.. فلقد آتى الله موسى الكتاب، أي التوراة، فيها هدى ونور، «فَاخْتُلِفَ فِيهِ» أي فاختلف القوم فى هذا الكتاب، ولم يستقيموا على طريق واحد معه، بل تفرقت بهم السبل، فسلك كل فريق شعبة من شعب الضلال، وإذا هم ثلاث وتسعون فرقة، كما جاء فى الحديث الشريف.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ» (4: البينة) ويقول سبحانه: «وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ» (19: آل عمران) .. وإذن فلا يحزن الرسول الكريم إذا رأى خلاف قومه على هذا الكتاب الذي بين يديه، فكان منهم المؤمنون، وكان منهم الكافرون فتلك هى سنة الله فى خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1332 الْهُدى» (35: الأنعام) .. ثم لا يحزن النبي إذا وقع الخلاف بين المؤمنين، فكانوا فرقا فيما بعد.. فتلك هى سنة الله فى خلقه.. قوله تعالى: «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ» تلك الكلمة هى ما وعد الله تعالى به النبي صلى الله عليه وسلم ألا يعذب قومه وهو فيهم، كما يقول الله تعالى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» (33: الأنفال) . وقوله تعالى: «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» أي لولا هذه الكلمة لأخذهم الله بعاجل عذابه، ولأوقع بالظالمين المكذبين بأسه الذي حلّ بالمكذبين من قبلهم. وقوله تعالى: «وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» أي أن هؤلاء المشركين فى شك وارتياب من أمر هذا القرآن، فلم تقع آياته وكلماته موقع اليقين منهم، لأنهم لم يفتحوا آذانهم له، ولم يوجهوا عقولهم وقلوبهم إليه، فلم يستمعوا إليه إلا بآذان صماء، ولم يلقوه إلا بقلوب مريضة، وعقول سقيمة، فكان حكمهم عليه هذا الحكم الفاسد، الذي ملأ قلوبهم شكا وارتيابا.. قوله تعالى: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» .. هو عزاء بعد عزاء من الله سبحانه وتعالى لنبيه الكريم، ودعوة إليه من ربه سبحانه أن يتخفف من هذا الحزن الذي يجده فى نفسه من خلاف قومه عليه، ومن تهافتهم على موارد الهلاك وهو يمسك بحجزهم، ويشدهم إليه، ليأخذ بهم إلى طريق النجاة، وهم يتفلتون منه، ويلقون بأنفسهم بالنار، ويتساقطون فيها تساقط الفراش.. فلا على النبي من بأس، إذا هو بلّغ دعوته فلم يستجب لها هؤلاء المشركون.. «مَنْ عَمِلَ صالِحاً الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1333 فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها» - فإنهم لو آمنوا وعملوا الصالحات فإنما ذلك لخيرهم، وسعادتهم، وإن هم أمسكوا بكفرهم وضلالهم فذلك لشؤمهم وشقائهم.. فكل إنسان مجزى بما عمل «لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» . وقوله تعالى: «وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» أي أنه سبحانه وتعالى لا يظلم مثقال ذرة، كما يقول سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً» (40: النساء) كما أنه سبحانه لا يأخذ المطيع بذنب العاصي.. «ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ» (52: الأنعام) . وفى التعبير بصيغة المبالغة فى قوله تعالى: «بظلام» - إشارة إلى أمور.. أولا: أن كثرة الناس هلكى، وقليل منهم هم الناجون.. هكذا قضت مشيئة الله فى عباده، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» .. فلو نظر ناظر إلى كثرة الواردين على جهنم، لداخله شعور بأن هؤلاء الناس واقعون تحت سلطان مستبدّ قاهر- فجاء قوله تعالى: «وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ» ليدفع ذلك الشعور الخاطئ.. وثانيا: أن العذاب الواقع بأهل الضلال، عذاب شديد، لم يقع فى تصور إنسان، فإذا اطلع مطلع على ما يلقى أهل النار من بلاء، خيل إليه أن لا ذنب يستحق هذه العقوبة التي لا يعرفها أحد.. فجاء قوله تعالى «وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ» ليدفع هذا التصور الخاطئ كذلك.. وثالثا: أن الله سبحانه وتعالى يملك التصرف المطلق فى عباده، وأنه قادر على أن يضاعف عقاب المذنبين أضعافا كثيرة، وأن يجزى السيئة بعشر أمثالها، كما يجزى الحسنة بعشر أمثالها، ولو فعل ذلك لما كان ظالما، ولا ظلاما، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.. فإن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1334 الظالم، أو الظلّام، هو من يعتدى على حقوق الغير، والله سبحانه إنما يتصرف فيما يملك، وليس لأحد ملك معه.. ورابعا: تقرر فى مواضع كثيرة من القرآن الكريم أن الله لا يظلم مثقال ذرة. كما فى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها» (40: النساء) وكما يقول جلّ شأنه: «وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» (160 الأنعام) .. فالظلم منفىّ قطعا عن الله سبحانه وتعالى، لأن الذي يظلم إنما يكون فى حاجة إلى مزيد مما هو فى يد غيره.. والله سبحانه وتعالى مالك كل شىء، وبيده كل شىء.. فإلى من يتجه بالظلم وكل شىء ملكه وصنعة يده؟ .. «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» .. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1335 فهرس الموضوعات الموضوع الصفحة. داود.. ما خطيئته؟ 1065. سليمان والشمس.. والجسد الملقى على كرسيه 1079. بين النفس.. والروح.. والجسد 1161. مؤمن آل فرعون.. أنبيّ هو؟ 1125 ثم الجزءان: الثالث والعشرون والرابع والعشرون، ويليه الجزءان: الخامس والعشرون والسادس والعشرون.. إن شاء الله، والله الموفق والمعين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1336 [الجزء الثالث عشر] [تتمة سورة القمر] الآيات: (47- 54) [سورة فصلت (41) : الآيات 47 الى 54] إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) التفسير: قوله تعالى: «إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 3 مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة قد توعدت المشركين بقوله تعالى: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» وهؤلاء المشركون لا يصدقون بيوم القيامة، ولا يؤمنون بالبعث، وكانوا يسألون النبيّ عن يوم البعث سؤال المنكر بقولهم: متى هو؟ .. فكانت هذه الآية جوابا عن سؤال يدور فى رءوسهم، منكرا هذا اليوم.. وقد جاء الجواب على سبيل القصر، وجعل علم السّاعة من أمر الله وحده، لا يعلمها إلا هو، كما يقول الله تعالى: «قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي.. لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ» (87: الأعراف) .. فقوله تعالى: «إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ» حكم قاطع بأن علم الساعة، وتحديد وقتها، هو من أمر الله وحده، لا يعلمها إلا هو.. وقوله تعالى: «وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ» هو توكيد لعلم الله الشامل الذي يقع فى محيطه كلّ شىء فى هذا الوجود، لا علم الساعة وحده.. فهذه الثمرات التي تخرجها الأرض، هى فى علم الله.. ثمرة ثمرة، بل قبل أن تكون ثمرة.. فهو سبحانه الذي أخرج نبتها من الأرض، وهو سبحانه الذي أطلع من النّبتة هذا الزّهر، وهو سبحانه الذي أخرج من هذا الزهر، الثمر، وأنضجه.. والأكمام جمع كمّ، وهو كأس الزهرة قبل أن تتفتح.. هذا فى عالم النبات، وكذلك الشأن فى عالم الحيوان والإنسان.. فما حملت أنثى حملا، ولا وضعته، إلا والله سبحانه وتعالى عالم بما تحمل كل أنثى، وما تضع من حمل، كما يقول سبحانه فى آية أخرى: «اللَّهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 4 يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ.. وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ» (8: الرعد) . وعلم الله بما تحمل كل أنثى وما تضع من حمل، لا يمنع من أن يعلم الناس من هذا العلم، ما يقع لحواسهم، من حمل الحوامل من إنسان وحيوان.. فعلم الله سبحانه علم قديم، واقع قبل أن يقع الحمل وبعده، وهو علم شامل لكل ذات حمل، ووضع.. على خلاف علم العلماء، فإنه علم حادث بعد أن يقع الحمل، ثم هو علم محدود، لا يقع إلا على ما يكون تحت حواسهم، وهو قليل قليل إلى ما يقع لحواسهم، مما فى عالم البحار، والطير، والوحش، والهوامّ والحشرات.. وغيرها كثير كثير.. فالعلم الشامل الكامل، هو علم الله وحده. قوله تعالى: «وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي؟ قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ» أي ويوم القيامة ينادى الحقّ سبحانه وتعالى هؤلاء المشركين الضالين: أين شركائى الذين كنتم تعبدون من دونى؟ فيخرسون عن الجواب، ويقوم شركاؤهم الذين عبدوهم من دون الله، فينطقون عنهم قائلين: «آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ» أي تبرأنا إليك يا الله منهم، من قبل أي فى الدنيا، وليس الآن منّا من شهيد يشهد معهم موقفهم هذا، ويقف إلى جوارهم.. وهذا هو بعض السر فى التعبير بالفعل الماضي: «قالُوا» بدلا من يقولون، الذي يعبّر به عما يتوقّع.. يقال: آذنه بكذا.. أي أعلمه وأخبره. قوله تعالى: «وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ» . أي وغاب عنهم، أي عن هؤلاء العابدين الضالين، ما كانوا يعبدون الجزء: 13 ¦ الصفحة: 5 من دون الله، حيث يتلفتون فلا يجدون لهم أثرا فى هذا اليوم الذي يرجونهم له.. وأيقنوا أن لا محيص لهم، ولا نجاة من العذاب الواقع بهم، وقد تخلى عنهم أولياؤهم الذين كانوا يعبدونهم من دون الله.. والظّنّ هنا بمعنى العلم واليقين. والمحيص: المفرّ، والخلاص من هذا المأزق. قوله تعالى: «لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ» . تشرح هذه الآية والآيات التي بعدها، النفس الإنسانية، وتكشف عن داء الطمع والشّره، وحب الاستكثار من المال والمتاع، المتمكن منها، دون أن يقف بها الأمر عند حدّ القناعة، أو الشبع.. بل إنها كلّما كثر لديها ما تشتهى من مال ومتاع، ازدادت جوعا وطلبا.. كالحوت لا يكفيه شىء يلقمه ... يصبح ظمآن وفى البحر فمه - «لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ» أي لا يمل من طلب الخير لنفسه، من مال ومتاع، وولد، وجاه وسلطان.. إلى غير ذلك مما يطلبه الناس، ويتنافسون فيه.. وسميت هذه المطالب خيرا، لأنها فى أصلها من نعم الله، وهى فى ذاتها خير، ولكنها حين تصبح غاية لا وسيلة، تكون فتنة وبلاء. والمراد بدعاء الخير، هو طلبه واستدعاؤه، والسّعى الجادّ لتحصيله، لأنّ هذه الأشياء إنما يطلبها الإنسان، لأنها غائبة عنه، فهو يستدعيها إليه، ويهتف بها من أعماقه أن تجيبه، وتدنو منه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 6 - «وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ» أي وإن ألمّ به الشرّ- مجرد إلمام، مع هذه النعم الكثيرة التي بين يديه- جأر بالشكوى، وعلا صياحه بالسخط والضيق، وكاد يؤدّى به ذلك إلى إعلان الحرب على ربه! لأنه يائس من رحمة الله، سيىء الظن بفضل الله وإحسانه.. فهذا موقف من لا يؤمن بالله، ولا يحسن الظن به، ولا يعلّق الأمل والرجاء فيه.. إنه يقيس الأمور ويقدّرها، حسب مجرياتها بالنسبة له، وحسب الأسباب التي بين يديه منها، غير ناظر إلى قدرة الله، وإلى تعلق مصائر الأمور بمشيئته.. أما للؤمن الذي يعمر الإيمان بالله قلبه، فإنه إذ يسعى سعيه فى الحياة، يتقبّل فى رضى واستسلام، كلّ ما يقع له من خير أو شر.. فهو مع الخير قانع، راض، شاكر، ومع الضّر صابر، مترقب مواقع رحمة ربه من قريب، لا يبيت فى كل شدة إلا مع أمل، فى رحمة من ربه تكشف هذا الضرّ الذي نزل به.. «إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ» (87: يوسف) . قوله تعالى: «وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ» . أي أن هذا الإنسان الذي مسه الضر، فبات يائسا قانطا من رحمة الله- إذا أذاقه الله سبحانه رحمة منه، وكشف عنه الضر الذي مسه، لم يجعل هذا إلى الله سبحانه، ولم يضفه إلى فضله وإلى فضله وإحسانه، بل يزيّن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 7 له ضلاله وغروره، أن هذا الخير الذي أصابه بعد الضرّ- هو من عمله، وحسن تدبيره، فيقول: «هذا لِي» أي هذا من كسبى، وحسن تدبيرى، فهو لى، وليس لله فيه شىء، فلا يكون منه حمد لله، ولا ذكر لفضله وإحسانه.. ثم يمضى فى غروره وضلاله، فيدخل على نفسه الشكّ فى أمر البعث والحساب والجزاء، كى يطلق العنان لشهواته ونزواته، غير عامل أي حساب ليوم الحساب: «وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً» !. ثم إذا به بعد أن ألقى بذور الشك فى يوم القيامة، وغرسها فى مشاعره، يعود فيروى هذه البذور بالآمال الكاذبة، والأمانىّ الباطلة، حتى يخيل إليه منها أنها قد استوت على سوقها، ثم أزهرت وأثمرت.. فيحدّث نفسه بهذا الحديث الكاذب: «وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى» ! هكذا ينتقل به الضلال، من وهم إلى وهم، ومن خداع إلى خداع، حتى يرد موارد الهلاك!. «وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً» !. إنه مجرد ظنّ! يحتمل أن تقوم الساعة، أو لا تقوم!. وماذا لو قامت الساعة!. إنه لا خوف عليه منها! وماذا يخيفه؟ إن له عند الله فى الآخرة- إن كانت هناك آخرة- مثل ما كان له فى الدنيا أو أكثر!! .. وهكذا يزين الضلال لأهله! وقد أبطل الله سبحانه هذه الأمانى الباطلة، وردّها على أهلها حسرة وندامة، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 8 فقال سبحانه: «فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ» .. فهذا ما يلقاه الكافرون فى هذا اليوم.. إنهم سيلقون أعمالهم السيئة حاضرة بين أيديهم، وسيحاسبون عليها، ثم يقضى عليهم بالعذاب الغليظ، الذي يغشاهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، خالدين فيه أبدا. قوله تعالى: «وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ» . وهذه صورة من صور الإنسان، ومكره بنعم ربه.. وكفره بإحسانه إليه.. فهذا الإنسان- وله فى الإنسانية أشباه كثيرون- إذا أنعم الله عليه نعمة منه، شغل بالحياة مع هذه النعمة عن الله، ونسى ما لله من حقوق عليه، بل ربما ذهب إلى أبعد من هذا، فاتخذ من هذه النعمة سلاحا يحارب به الله سبحانه، ليفسد فى الأرض، ويقطع ما أمر الله به أن يوصل.. فإذا مسّ هذا الإنسان ضرّ، عاد إلى الله، يدعوه لجنبه أو قاعدا أو قائما، ويقطع على نفسه العهود والمواثيق، لئن أنجاه الله من هذا البلاء، وكشف عنه هذا الضرّ، ليكونن من المؤمنين الشاكرين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ» أي يستكثر من الدعاء والتضرع إلى الله، والإنابة إليه.. إنه لا يذكر الله ولا يعرفه إلّا فى الشدّة.. أما فى الرخاء. فهو معرض عن الله، أو محارب لله.. قوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 9 هو رد على تلك الأمانى الباطلة، التي يعيش فيها أهل الغواية والضلال، ممن يقيمون أمرهم فى الإيمان باليوم الآخر- على حرف.. فيقولون إن كانت هناك آخرة- ولا نظن- فإن لنا عند الله هناك ما كان لنا فى الدنيا، من مال وجاه وسلطان.. وإن لم تكن آخرة- وهو ما نظن- فقد أخذنا أمرنا على هذا، فلا يضيرنا أنه لم يجىء هذا اليوم، فليس لنا شىء فيه، ولا متعلّق لنا به. وهنا فى هذه الآية يكشف الله سبحانه وتعالى للمشركين عن موقفهم من رسول الله، ومن كتاب الله الذي بين يديه.. فهم فى شك من رسول الله، وفى حيرة من أمرهم فيه، بين التصديق والتكذيب، أشبه بهذه الظنون التي تدور فى رءوس المشركين عن يوم البعث، وقد جاءهم القرآن، وهم على هذا الشعور، يحاسبهم به، ويسفّه منطقهم فيه. فهم قد وقفوا من الرسول موقف الشك والارتياب، بين التصديق والتكذيب، كما كان ذلك شأنهم مع اليوم الآخر.. فليكن هذا.! ولكن لماذا يرجّحون جانب التكذيب على جانب التصديق؟ هذا هو الذي لا يقبله منطق! فهل يقبلون مثلا إذا جاءهم من يخبرهم أنه رأى جيشا مغيرا وراء هذا الجبل، يريد الهجوم عليهم- هل يقبلون أن يقيموا أمرهم على الشك، فى هذا الخبر، ولو كان كاذبا من كاذب؟ وهل يقبلون أن يخلو شعورهم من كل حذر وحيطة؟ إن منطق الحياة يدعوهم إلى الأخذ بالأحوط، وإلى أن يعدّوا العدّة كاملة للقاء هذا العدو.. فإن كان هناك عدو، كانوا قد أعدوا العدة للقائه، فلم يبغتهم بخيله ورجله.. وإن لم يكن هناك عدوّ، فلا خسران عليهم فيما فعلوا.. وهنا، إنسان يقول لهم: إنه رسول الله، وإنه يحمل إليهم كتابا من ربهم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 10 يدعوهم فيه إلى الإيمان بالله، واليوم الآخر، وينذرهم عذاب يوم عظيم، هو يوم القيامة.. وهذا الرسول، إما أن يكون صادقا، أو كاذبا. فإن هم أقاموا أمرهم معه على أنه صادق، وآمنوا بالله وباليوم الآخر، وأعدّوا العدة للقاء هذا اليوم، فإن كان صادقا حقّا فقد نجوا، وخلصوا بأنفسهم من عذاب هذا اليوم.. وإن كان كاذبا، فما خسروا شيئا.. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى فى قوله جل شأنه، على لسان مؤمن آل فرعون: «أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ» (28: غافر) . وفى هذا المعنى يقول أبو العلاء المعرى. قال المنجّم والطبيب كلاهما ... لا تبعث الأجساد قلت إليكما إن صحّ قولكما فلست بخاسر ... أو صحّ قولى فالخسار عليكما وقوله تعالى: «مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ» . الاسم الموصول «مِنْ» مفعول به لقوله تعالى: «أَرَأَيْتُمْ» أي أعلمتم من أضل منكم، إن كان هذا الرسول من عند الله، ثم كفرتم به؟ ويكون قوله تعالى: «إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ» جملة اعتراضية شرطية، وجواب الشرط محذوف، دلّ عليه السياق. وقد جىء بهم مع ضمير الغائب بدلا من ضمير المخاطب فى قوله تعالى: «مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ» ليروا بأعينهم العبرة فى هذا الذي يعرض عليهم من أهل الشقاق، وهو صورة منتزعة منهم.. وفى هذا ما يدعوهم إلى أن ينظروا فى وجه هذا الغريب. وأن يطيلوا النظر إليه، والحال أنهم إنما ينظرون إلى أنفسهم فى شخصه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 11 ولو جاء النظم هكذا: قل أرأيتم من أضل منكم إن كان هذا الرسول من عند الله، ثم كفرتم به- لنفروا نفار الحمر الوحشية، ولما استقبلوا هذه الدعوة التي يدعون إليها، إلا بالصد والإعراض، أو بالسب والشمّ، فيفوت بذلك الغرض المقصود من الإمساك بهم فى هذا الموقف، لينظروا فى تلك المرآة، التي يرون شخوصهم مائلة فيها! قوله تعالى: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ.. أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ..» أي أن هؤلاء المشركين، الذين شكّوا فى رسول الله، وفى آيات الله التي بين يديه- سيريهم الله آياته فى الآفاق البعيدة عنهم، وفى ذات أنفسهم، وستكشف لهم هذه الآيات التي يرونها، أن هذا الرسول حق، وأن الكتاب الذي بين يديه حقّ. والآيات التي رآها المشركون فى الآفاق وفى أنفسهم كثيرة.. منها هذا المجتمع الجديد الذي قام لدعوة الإسلام فى المدينة، واجتمع فيه المهاجرون والأنصار.. ومنها ازدياد قوة الإسلام، وشوكة المسلمين، يوما بعد يوم.. ومنها انتصار المسلمين يوم بدر وهم قلة، وانتصارهم يوم الخندق بغير حرب.. ومنها جلاء اليهود عن المدينة، وإنزالهم من صياصيهم.. ومنها فتح خيبر.. ثم منها فتح مكة.. ففى هذه الآيات رأى كثير من المشركين أن هذا الدين هو دين الله، وأن الرسول رسول الله، وأن الكتاب كتاب الله، فجاءوا من كل فج يطلبون الإسلام، ويدخلون فى دين الله أفواجا. وقوله تعالى: «أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» الجزء: 13 ¦ الصفحة: 12 هو دعوة للنبىّ الكريم أن يصبر على أذى قومه، وعلى موقفهم المتعنت منه وحسبه فى هذا أن الله شهيد على ما يعملون، وسيجزيهم عليه.. قوله تعالى: «أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ» . بهذه الآية تختم السورة الكريمة، وفيها كشف عن الداء الذي يخامر المشركين، ويفسد عليهم رأيهم فى رسول الله، وفيما يدعوهم إليه، وهذا الداء هو إنكارهم للبعث، واستبعادهم إعادة الأجساد بعد أن تصير عظاما ورفاتا.. وفى قوله تعالى: «أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ» إخبار من الله سبحانه وتعالى بما فى نفوس هؤلاء المشركين من أمر البعث من شك وريبة فهم لهذا فى شك من لقاء ربّهم، ومن محاسبتهم ومجازاتهم على ما يعملون فى دنياهم.. وقوله تعالى: «أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ» .. تهديد لهؤلاء المشركين بما يلقاهم من شكّهم فى لقاء ربّهم يوم القيامة، حيث يرون أعمالهم، وقد أحصاها الله عليهم، وحاسبهم على كل صغيرة وكبيرة منها.. فالله سبحانه وتعالى محيط بكل شىء علما. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 13 42- سورة الشورى نزولها: مكية.. بإجماع. عدد آياتها: ثلاث وخمسون آية. عدد كلماتها: ثمانمائة وست وستون كلمة.. عدد حروفها: ثلاثة آلاف وخمسمائة وثمان وثمانون حرفا. مناسبتها لما قبلها تكاد سور الحواميم تكون سورة واحدة فى نظمها وفى مضمونها.. فهى جميعها مكية النزول، وقد خلت من القصص، ومن التشريع، وجاءت مساقاتها كلّها فى مواجهة المشركين بشركهم وضلالهم، وتكذيبهم لرسول الله، وشكّهم فى البعث، وفى لقاء ربهم.. ولقد لقيهم القرآن الكريم فى هذه السّور بكل طريق، ودخل على مشاعرهم وتصوراتهم من كل باب، فلم يدع خاطرة تدور فى رءوسهم من خواطر الشكّ والارتياب إلّا كشف لهم عنها، وأراهم باطلها وضلالها.. ثم نصب لهم معالم الهدى، ودعاهم إلى أخذ الطريق القاصد إليه.. وإلا فالنار موعدهم.. وهذه السورة - سورة الشورى- تتصل بسورة فصلت التي سبقتها اتصالا وثيقا، فتعيد على أسماع المشركين عرض تلك القضايا التي عرضتها السورة السابقة من شركهم بالله، وتكذيبهم لرسول الله، وارتيابهم فى البعث، والحساب والجزاء.. وفى هذا العرض المتجدّد، يرى المشركون تلك القضايا، وقد طلعت عليهم بمعاول جديدة، تهدم تلك الجدر المتداعية من بناء معتقداتهم الفاسدة، حتى لتكاد تسقط عليهم، وتدفنهم تحت أنقاضها.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 14 بسم الله الرحمن الرحيم الآيات: (1- 12) [سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 15 التفسير: قوله تعالى: «حم عسق.» هذه أحرف خمسة بدأت بها السورة الكريمة.. وذلك العدد هو غاية ما بدىء به من حروف مقطعة، على حين قد بدئت بعض السور بحرف واحد مثل «ص» و «ق» و «ن» كما بدئت بعض السور بحرفين مثل: «طه» و «طس» و «يس» و «حم» وبعضها بثلاثة أحرف مثل: «الم» و «الر» و «طسم» وبعضها بأربعة أحرف مثل «المص» و «المر» .. ومما يلفت النظر فى هذا، أن الكلمة العربية قد تبنى على حرف واحد، مثل «ق» فعل أمر من «وقى» أو حرفين مثل «قل» فعل أمر من قال، أو ثلاثة أحرف.. مثل «قرأ وسجد» أو أربعة أحرف مثل «بعثر» وزلزل أو خمسة أحرف مثل «تلعثم» .. وعلى هذا يمكن أن ينظر إلى هذه الحروف المقطّعة على أنها أفعال، أو أسماء، ذات دلالات خاصة، يعرفها النبىّ ويرى فى أضوائها ما لا يراه غيره وقد يشاركه فى هذه الرؤية بعض المؤمنين الراسخين فى العلم منهم.. وفى هذه الرؤية ينكشف كثير من الأسرار والمعارف، التي تحويها هذه الأحرف فى كيانها.. فهى أشبه بصناديق مغلقة على كنوز من الأسرار والمعارف، يأخذ منها النبىّ ما شاء، على حين لا تأذن بشىء منها إلا لذوى البصائر من عباد الله الصالحين المقرّبين، ثم تظل مغلقة على أسرارها دون من ليسوا من أهلها.. وعلى هذا الفهم، نستطيع أن نردّ الإشارة فى قوله تعالى: «كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. إلى هذه الأحرف، وأن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 16 الله سبحانه وتعالى قد أوحى إلى نبيه الكريم بهذه الأحرف التي تحمل فى كيانها دلالات يعرف النبىّ تأويلها، بما آتاه الله من علم، شأنه فى هذا شأن الأنبياء من قبله، الذين أوحى الله سبحانه وتعالى إليهم بمثل ما أوحى إليه به من هذه الأحرف، التي هى رموز إلى أمور يعرفون هم تأويلها، ويشاركهم بنسب مختلفة فى المعرفة بعض أتباعهم وحواريهم، من الراسخين فى العلم. فالمراد- والله أعلم- بما يوحى به الله سبحانه وتعالى إلى النبىّ هنا، هو بعض ما يوحى إليه، لا كلّه، وهو تلك الحروف المقطعة التي بدئت بها بعض السور، لا كلّ ما أوحى به إليه. وفى قوله تعالى: «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ» .. إشارة إلى أن هذا الوحى الذي تلقى به النبىّ صلوات الله وسلامه عليه هذه الأحرف، لم يكن عن طريق الملك الذي اعتاد أن يلقاه، فيتلقّى منه ما أذن الله بوحيه إليه من آياته وكلماته. وإنما كان كلاما من ربّه، على تلك الصفة التي أشار إليها سبحانه فى قوله: «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً» .. أي إلهاما منه سبحانه، حيث يجد الرسول كلمات ربّه قائمة فى صدره، مستولية على كيانه كلّه.. وهذا ما يشير إليه الرسول فى قوله: «إن روح القدس نفخ فى روعى» .. ومن هنا كان لهذه الأحرف هذا المقام الكريم، فى كتاب الله الكريم، فكانت تلك الأحرف على رأس السّور التي نزلت معها.. هذا، وسنزيد الأمر بيانا فى آخر السورة، عند تفسير قوله تعالى: «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 17 قوله تعالى: «لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ» .. إشارة إلى ما لقدرة الله سبحانه وتعالى، من سلطان قاهر، يخضع له كل موجود فى هذا الوجود.. فهو- سبحانه- الخالق المالك المدبّر لكل ما فى السموات وما فى الأرض.. وهو «الْعَلِيُّ» الذي يعلو بسلطانه على كل سلطان.. العظيم الذي تذل لعظمته كل عظمة، وكل عظيم.. قوله تعالى: «تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» . أي إنه لجلال الله سبحانه ولعظمته ورهبوته، تكاد السماوات يتفطرن من «فَوْقِهِنَّ» أي يتشققن ويسقطن من علوّهن، فيقع بعضهن على بعض. فالضمير فى «فَوْقِهِنَّ» يعود إلى السموات.. أي أنها تكاد تسقط من عليائها، هيبة وجلالا لله سبحانه.. وان الانفطار، وهو التشقق، هو من الخشية والجلال لهذا القرآن الموحى به إلى النبي، والذي لا يتأثر به هؤلاء المشركون، أصحاب القلوب القاسية.. وأن التشقق الذي يكاد يفتت السماوات، لا يقع- وحسب- من الجهة المواجهة للأرض، لما نزل عليها من كلام الله، بل يبلغ أقطارها العليا، وينفذ إلى أعلى سماء فيها.. وقوله تعالى: «وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ» أي أن الملائكة وهم من عالم السماء. - عالم النور والطهر-. يسبحون بحمد ربّهم، ويتقربون إليه، ويبتغون مرضاته، بالعبادة والتسبيح: «يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ» .. «وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 18 وقوله تعالى: «وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ» .. أي أن من عبادة الملائكة وتسبيحهم لله، استغفارهم لمن فى الأرض.. إذ كان أهل الأرض متلبسين بالخطايا والذنوب.. فهم النقطة السوداء فى هذا الوجود النورانى، المشّع ولاء وخضوعا لله رب العالمين.. والمراد بمن فى الأرض هم المؤمنون، كما يقول الله سبحانه وتعالى فى آية أخرى: «وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ» (5: الشورى) وكما يقول سبحانه: (يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا) (7: غافر) وقوله تعالى: «أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» .. أي أنه سبحانه يقبل استغفار الملائكة لمن يستغفرون لهم من المؤمنين، فيغفر الله سبحانه وتعالى لهم، فهو سبحانه «الْغَفُورُ» أي كثير المغفرة «الرَّحِيمُ» ، أي واسع الرحمة، تسع رحمته كل شىء. قوله تعالى: «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ» .. هو معطوف على محذوف مفهوم من قوله تعالى: «أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» - أي أنه سبحانه يغفر للذين تابوا وآمنوا، وأما الذين أشركوا بالله، واتخذوا من دونه أولياء، ولم يدخلوا فى دين الله، ولم يتوبوا إليه- فالله «حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ» أي ممسك بهم، قائم عليهم، متول حسابهم وجزاءهم.. وليس النبي بمسئول عنهم بعد أن بلغهم رسالة ربه.. «فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» (40: الرعد) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 19 قوله تعالى: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ.. فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» . فى هذه الآية إشارة إلى أن هناك وحيا من نوع آخر، غير الوحى الأول الذي جاء فى مطلع السورة فى قوله تعالى: «كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. وقد قلنا- حسب فهمنا- إن الوحى الذي أشار إليه قوله تعالى: «كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» هو وحي من الله بدون وساطة ملك، وأنه المشار إليه فى قوله تعالى: «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ، إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ» فهذا الوحى، وحي من الله بدون وساطة.. وقلنا إن هذا الوحى من الله سبحانه، هو واقع على الحروف المقطعة التي بدئت بها بعض سور القرآن الكريم.. أما الوحى بوساطة الملك فقد أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا» .. وهذا يشمل القرآن الكريم كلّه، عدا تلك الحروف المقطعة.. ولهذا وصف بأنه قرآن عربى، أي يقرأ ويفهم عند من يحسن العربية ويفهم لغتها.. ولهذا أيضا اتبع بالعلة التي من أجلها كان وحي هذا القرآن، وهى التبليغ والإنذار: «لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى» أي أهل مكة «وَمَنْ حَوْلَها» أي ومن حولها من أهل القرى والخيام.. ووصف مكة بأنها أم القرى، إشارة إلى أنها ستكون قبلة المسلمين فى صلاتهم، ومجتمعهم فى حجّهم.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 20 وقوله تعالى: «وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ» .. أي وتنذر الناس بلقاء ربهم «يَوْمَ الْجَمْعِ» أي يوم القيامة، حيث يبعث الله الناس من قبورهم، ويحشرون إلى ربهم، فيجتمعون جميعا، لا يغيب فرد واحد منهم. وقوله تعالى: «لا رَيْبَ فِيهِ» الجملة حال من يوم الجمع، أي أن هذا اليوم آت لا شك فيه.. وقوله تعالى: «فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» أي أن هذا الجمع الذي يضم الناس جميعا، سينقسم هناك إلى فريقين: فريق فى الجنة، وفريق فى السعير.. فلينظر الإنسان إلى نفسه، وإلى أىّ فريق من الفريقين ينتسب.. فإن كان من المؤمنين المصدّقين بالله وبرسوله، وباليوم الآخر- فهو من فريق أهل الجنة، وإن كان من المكذبين الضالين، فهو فى الفريق المدعوّ إلى السعير.. قوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» . أي أن الله سبحانه وتعالى، قد قضى فى عباده أن يكون فريق منهم فى الجنة، وفريق فى السعير، كما يقول سبحانه: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (2: التغابن) .. هكذا كانت مشيئة الله فى عباده.. ولو شاء الله سبحانه لجعل الناس أمة واحدة، ولأدخلهم يوم القيامة مدخلا واحدا.. وقوله تعالى: «وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ» أي أنّ من أراد الله سبحانه بهم خيرا، هداهم إلى الإيمان، وأدخلهم فى رحمته، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 21 وأنزلهم منازل جناته ورضوانه.. فضلا منه وإحسانا، وكرما.. جعلنا الله منهم.. وقوله تعالى: «وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» .. اختلف فيه النظم، فجاء على غير ما يقتضيه ظاهر المقام، الذي يقضى بأن يكون المعادل لقوله تعالى: «وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ» - هو: «ويحرم من يشاء منها» .. فما سرّ هذا؟ السرّ- والله أعلم- هو أن الله سبحانه، هو صاحب المشيئة المطلقة التي لا معقب لها، وهو سبحانه بهذه المشيئة يفعل ما يشاء فى خلقه، فيعذّب من يشاء، ويرحم من يشاء.. «مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (39: الأنعام) .. تلك هى مشيئة الله المطلقة الغالبة «وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ» (68: القصص) .. ومع هذه المشيئة الغالبة المطلقة لله سبحانه، فقد جعل جلّ شأنه للإنسان- فضلا منه وكرما- مشيئة، تقود فطرته، لتلقى مع مشيئة الله، وتجرى فى محيطها العام المتدفق.. ولكن الإنسان- وبمشيئة الله الغالبة- أفسد فطرته، فجمعت به إرادته عن أن يستقيم على سواء السبيل، فكان بهذا ظالما، جائرا عن قصد السبيل القويم.. فالظالم هو الوصف الذي يرد على كل إنسان عاقل رشيد مريد، إذا هو كان فى موقع انحرف فيه عن طريق الحق الذي قام عليه الوجود كلّه.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 22 وهذا الانحراف، هو بمشيئة لله سابقة غالبة، ولكنّ للإنسان كسبا فى هذا الانحراف، ومشيئة متلبسة به.. فالأمر فى ظاهره، هو: أن هذا الظلم والانحراف من كسب الإنسان، وهو فى باطنه بمشيئة غالبة لله، وقدر سابق! ولله سبحانه الأمر من قبل ومن بعد: «لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ» (23: الأنبياء) .. قوله تعالى: «أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» . أي أن هؤلاء الظالمين، قد اتخذوا من دون الله أولياء يرجون نصرهم.. ويبتغون العزّة عندهم.. «فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ» وحده، لا يملك معه أحد نصرا، ولا عزّا.. «هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً» (44: الكهف) . وقوله تعالى: «وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى» إشارة إلى البعث، وأنه حقيقة مقررة، وأن إنكار المنكرين لا ينفعهم من لقاء هذا اليوم، ولا يصرفه عنهم، بل إنهم مبعوثون، ومحاسبون حسابا عسيرا.. «أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ» (8: هود) . وقوله تعالى: «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» تأكيد للبعث، وأن إحياء الموتى واقع فى قدرة الله التي لا يعجزها شىء. قوله تعالى: «وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ، ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 23 هو معطوف على قوله تعالى: «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .. الذي هو من صفات الله سبحانه وتعالى، الذي يحيى الموتى، وبقدر على كل شىء، وإليه مردّ الحكم فيما اختلفتم فيه.. فهو سبحانه الذي يقضى فى هذا الاختلاف الذي خرجتم به أيها الظالمون عن دعوة الحقّ، وعن طريق الإيمان. وقوله تعالى: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» .. أي قل لهم أيها النبي: ذلكم المتصف بتلك الصفات، هو ربى الذي آمنت به، والذي أدعوكم إليه، الذي عليه توكلت، فجعلت ولائى له، ومعتمدى عليه، والذي إليه أرجع فى كلّ أمورى، وأتوب إليه من كل ذنب. قوله تعالى: «فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» . هو من عطف البيان على قوله تعالى: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي» .. أي ربى الذي عليه توكلت وإليه أنيب، هو «فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ، أي خالقهما، وموجدهما ابتداء، على غير مثال سبق.. ومنه الفطرة، وهى أصل الخلقة. ويمكن أن يكون هذا وما بعده من قول الرسول الكريم، استكمالا لقوله: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» .. ويمكن أن يكون من كلام الله سبحانه وتعالى، تعقيبا على إقرار الرسول بوحدانية ربّه، وتوكّله عليه.. أي أن هذا الرّبّ الذي اتّخذه الرسول ربّا له، وتوكّل عليه، وأناب إليه- هو فاطر السماوات والأرض. وقوله تعالى: «جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً» أي هذا الربّ الذي خلق السموات والأرض، هو الذي خلقكم، وهو الذي «جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً» أي جعل لكم من جنسكم، ومن طبيعتكم أزواجا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 24 لتسكنوا إليها، وتألفوا الحياة معها، كما أنه سبحانه قد جعل لكم من الأنعام أزواجا، ذكرا وأنثى لتتوالد، وتتكاثر، وتنتشر بينكم، وتتسع لحاجتكم منها، ركوبا، وحملا، وطعاما. وقوله تعالى: «يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ» . الذّرء: إظهار عوالم المخلوقات، التي كانت مكنونة فى علم الله سبحانه وتعالى- ومنه الدّرأة، وهى بياض الشيب، لأنه ظهر بعد خفاء. ومعنى الآية الكريمة، أن الله سبحانه بهذا التزاوج بين الرجل والمرأة، كثرّ نسل الإنسان، وأظهر به ما قدّر من مخلوقات بشرية، من أصلاب الآباء، وأرحام الأمهات. والضمير فى «فِيهِ» يعود إلى مصدر مفهوم من قوله تعالى: «أَزْواجاً» أي تزاوجا بين الذكر والأنثى، فى عالم الأحياء، من إنسان وحيوان.. فكأن هذا التزاوج هو الظرف، أو الوعاء الذي تتشكل فيه عوالم الأحياء، أي يكثّركم فى هذا التزاوج.. وقوله تعالى: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» . هو مبالغة فى نفى المثلية عن الله سبحانه وتعالى، وذلك ينفى المثلية عن مثله- تعالى الله سبحانه أن يكون له مثل.. فإذا انتفت المثلية عن المثل، وهذا المثل- أيا كان- لا يساوى من يماثله- فإن انتفاءها عن الأصل الذي يقاس عليه المثل- أولى- بمعنى أنه ليس كمثل مثل الله شىء فى هذا الوجود، فما بالك بمن يطلب ليكون مثل الله ذاته؟ ذلك مستحيل بعد مستحيل.. قوله تعالى: «لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 25 المقاليد: جمع مقلد، وهو ما يحيط بالشيء، ومنه القلادة، لأنها تحيط بالعنق. أي أن الله سبحانه وتعالى، له السلطان القائم على السموات والأرض، وبيده سبحانه تصريفهما، لا يملك أحد معه من الأمر شيئا. الآيات: (13- 16) [سورة الشورى (42) : الآيات 13 الى 16] شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16) التفسير: قوله تعالى: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 26 بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ» . أي ومن نعم الله سبحانه وتعالى، الذي خلقكم وجعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من الأنعام أزواجا- أنه شرع لكم دينا هو دينه الذي ارتضاه، وهو الدين الذي وصّى به نوحا، وهو الذي جاءكم به نبيكم محمّد، وحيا من ربه، وهو ما وصى به الله سبحانه الأنبياء، إبراهيم وموسى، وعيسى، عليهم السلام. وقوله تعالى: «أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» هو بيان لما وصى الله سبحانه به أنبياءه عليهم السلام، وهو أن يقيموا الدين، وأن يبلّغوه أقوامهم، وأن يكونوا جميعا على هذا الدين، دين الله الذي ارتضاه لهم جميعا، والّا يتفرقوا فيه، فيكون لكل نبى، ولكل قوم دين.. إن دين الله واحد، هو الإسلام، كما يقول سبحانه: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» (19: آل عمران) وكما يقول سبحانه: «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» (153: الأنعام) .. وكما يقول جل شأنه فيما أخذه من ميثاق على الأنبياء جميعا: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ» . (81: آل عمران) وكما يقول النبي الكريم: «الأنبياء أبناء علّات، أمهاتهم شتّى ودينهم واحد» . وهذه الوصاة للأنبياء، هى وصاة ملزمة لأقوامهم باتباع دين الله هذا، وهو الإسلام الذي كمل به الدّين، والذي أدركوه وبين أيديهم بعض منه.. ومطلوب من أهل الكتاب- اليهود والنصارى- أن يؤمنوا بهذا الدين كلّه، وألا يتفرقوا فيه، فيذهب كل فريق ببعض منه، فيكون لكل جماعة دين من دين الله الواحد. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 27 وهنا سؤال، وهو: لماذا اختلف النظم فى هذا المقطع من الآية الكريمة، فلم يجر على نسق واحد؟ فقال تعالى: «ما وَصَّى بِهِ نُوحاً» ثم قال سبحانه: «وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى» ولم يجىء النظم هكذا: «وما وصّيناك به» بل جاء هكذا: «وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» .. فما سر هذا؟ الجواب: - والله أعلم- من وجوه: فأولا أن ما أوحى الله به سبحانه وتعالى إلى النبي من آياته وكلماته، لم يكن مجرّد وصاة.. بل إنه يحمل مع هذه الوصاة المعجزة التي تدلّ على أنه كلام الله، على حين أن ما كان يوحى إلى الأنبياء من وصايا لم يكن كلاما يحمل فى طياته معجزة متحدية.. وهذا هو بعض السر فى كلمة «أَوْحَيْنا» المقابلة لكلمة «وَصَّيْنا» .. إذ أن الوحى فيه إشارات، ولطائف، لا تنكشف إلا لذوى البصائر والأفهام، على خلاف الوصاة فإنها تجىء صريحة واضحة الدّلالة، تعطى كلماتها كلّ ما فيها مرة واحدة. وثانيا: أن هذا الوحى يحتاج إلى عقل بتدبّر هذه الكلمات الموحى بها، وهذا يعنى أن المبلّغ إليهم هذا الوحى، ينبغى أن يتدبروه ويعقلوه، وأن يستخلصوا منه مواقع العبر والعظات، وأن يأخذوا منه الأدلة والبراهين على ما يدعوهم إليه من الإيمان بالله، واليوم الآخر، والتصديق برسوله، وملائكته وكتبه ورسله.. وهذا يعنى- من جهة أخرى- أن المبلّغين برسالات الرسل السابقين لم يكونوا مطالبين باستخلاص الدليل والبرهان على صدق الرسول، وعلى صدق ما جاءهم به من وصايا، إذ كان مع الرسول آية صدقه التي بين يديه من المعجزة أو المعجزات المادية، التي يمكّن الله سبحانه وتعالى له منها.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 28 وثالثا: فى الوحى بالشيء رفق ولطف بالموحى إليه، ومخاطبته بالإشارة دون العبارة.. وهذا يعنى أن الذين يخاطبون بهذا الوحى هم فى درجة من الفطنة والذكاء وكمال العقل، بحيث لا يؤخذون بالزجر والقهر، وإنما يقادون بالحكمة، والمنطق، وهذا ما يتفق والرسالة الإسلامية، التي كمل بها دين الله، والتي من شأنها أن تلتقى بأوفر الناس حظّا من الكمال الإنسانى.. وسؤال آخر.. وهو: لماذا لم يجىء ذكر الأنبياء على نسق فى الترتيب الزمنى، فجاء ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد نوح، وقبل إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام؟ .. ثم لماذا وقد سبق ذكره- صلوات الله وسلامه عليه- إبراهيم وموسى وعيسى-لماذا لم يسبق نوحا أيضا؟ والجواب- والله أعلم- من وجوه كذلك: فأولا: قدّم النبىّ صلوات الله وسلامه عليه، على إبراهيم وموسى وعيسى، لأن رسالته هى مجمع رسالات الأنبياء عليهم السلام، وكتابه الذي أنزل عليه هو المهيمن على الكتب السماوية.. إذ قد جمعت الرسالة الإسلامية ما تفرق فى الرسالات السابقة، فكان الإسلام هو الدين كلّه، دين الله الذي كان لكل نبى نصيب منه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» (19: آل عمران) وقوله سبحانه: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ» (33: التوبة) وقوله سبحانه: «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 29 مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً» (68: المائدة) وقوله تبارك وتعالى: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ» (85: آل عمران) . وهذا يعنى أن من آمن بالرسالات السابقة، وأقامها على وجهها، لا بد أن يسلمه ذلك إلى الإيمان بالإسلام، لأنها من الإسلام، مادة وروحا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ» (48: المائدة) . وثانيا: قدم نوح- عليه السّلام- لأنه أول الأنبياء أصحاب الرسالات، وقد كانت له دعوة إلى الله، وكان له قوم يدعوهم إلى الله، وقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما كما ذكر القرآن.. وبهذا تعتبر رسالته مفتتح الرسالات إلى دين الله، وهو الإسلام.. فكان تقديمه لازما لهذا الاعتبار.. وثالثا: أن تقديم نوح لم يكن إلا لمجرد الإشارة إلى أن دعوة الإسلام دعوة قديمة قدم الإنسانية، يوم بلغت الإنسانية مبلغ الخطاب والتكليف، ولم يكن لنوح حين جاء الإسلام، قوم أو كتاب، حتى يكون لتقديم الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- على دعوة نوح حجة على قومه، وهيمنة على كتابه، على خلاف من هم من أتباع إبراهيم وموسى وعيسى، فقد كانوا بمشهد من عصر النبوة، وبمسمع من دعوة النبي، وهم لهذا مطالبون باتباع هذا النبي والإيمان به، وبكتابه المهيمن على ما فى صحف إبراهيم، وعلى التوراة والإنجيل.. فقد كان اليهود أتباع موسى، وكتابه التوراة، وكان النصارى أتباع عيسى، وكتابه الإنجيل، وكان المشركون على دين الجزء: 13 ¦ الصفحة: 30 إبراهيم، وإن كانوا جميعا قد تنكّبوا الطريق السّوىّ للدين الذي يدينون به.. وقوله تعالى: «كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ» - هو نحس للمشركين وتبكيت لهم، وازدراء لغرورهم الذي أراهم فى أنفسهم هذا الذي باعد بينهم وبين كتاب الله، ورسول الله، فأنفوا أن يستجيبوا لبشر مثلهم، وأن يتناولوا من يده الدواء الذي يشفى عللهم، ويذهب بأسقامهم.. لقد كبر عليهم هذا، ورأوه مما ينزل بقدرهم وينال من مكانتهم.. وإنه لعجيب غاية العجب، أن يكون هذا موقفهم من كتاب هو المهيمن على الكتب السماوية كلها، ومن رسول هو خاتم الرسل، ورسالته خاتم رسالات السماء، ومن دين هو مجتمع دين الله؟ «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» .. فهذا هو الدين الذي شرعه الله سبحانه وتعالى لهم. واصطفى لحمله إليهم صفوة أنبيائه، وخاتم رسله.. فكيف يستقبلون هذه المنّة العظيمة بهذا الكبر الأحمق، وهذا الغرور السفيه؟. وقوله تعالى: «اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ» .. هو تعقيب على موقف هؤلاء المشركين من دعوة الله سبحانه وتعالى، التي يدعو بها رسوله الناس إلى الله.. إذ ليس كلّ مدعوّ مستجيبا لهذه الدعوة، ولكن الله سبحانه وتعالى يختار من بين المدعوين من يدخلهم فى ضيافتهم، ويأخذ بيدهم إلى رحاب كرمه وإحسانه، فيستجيبون للداعى مسرعين، فى غير تردّد أو إبطاء، وهناك آخرون من بين المترددين والمبطئين سوف يلحقون بهؤلاء السابقين، ويدخلون فى ضيافة الله سبحانه، إذا هم نزعوا أقدامهم من هذا الموقف المتردد الذي هم فيه، وأخذوا طريقهم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 31 إلى الله.. إن الله سبحانه- سيهديهم إليه، وبيسر لهم سبل الوصول إلى رحاب فضله وإحسانه.. «وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ» .. وهكذا تختلف منازل الناس عند الله.. فأناس يجتبيهم ويختارهم، ويحملهم حملا على مطايا الفضل ومراكب الإحسان.. وأناس ينتظر بهم حتى يكون منهم سعى إليه، واتجاه إلى مواقع رحمته.. وعندئذ تلقاهم عناية الله على أول الطريق، فتقودهم إليه، وتنزلهم منازل رضوانه.. وأناس قعدوا حيث هم فأركسوا فى ضلالهم.. إنهم لم يكونوا من أهل الاجتباء، فتخف بهم مراكب اللّجا إلى الله، ولم يكونوا من ذوى القدرة على السباحة والعوم، الذين تمسك أيديهم بحبل الله، فيسلمهم ذلك الحبل إليه.. بل كانوا من غير هؤلاء وأولئك، ممن لم يرد الله لهم النجاة، فكانوا من المغرقين. «أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ» . قوله تعالى: «وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» . أي أن أهل الكتاب- من اليهود والنصارى- كانوا على حال واحدة من الكفر والضلال، قبل مبعث الرسل إليهم، فلما بعث الله فيهم الرسولين الكريمين- موسى وعيسى- وجاءهم العلم على يديهما، وبيّنا لهم الهدى من الضلال- تفرقوا شيعا، فكانوا يهود ونصارى، وما كان اليهود: مؤمنين، وكافرين، ومنافقين، وكان النصارى: مؤمنين وكافرين ومشركين.. وهكذا تنازع القوم أمرهم، وفرقوا دينهم، كما يقول الله سبحانه وتعالى فيهم: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ.. ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ» (159: الأنعام) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 32 وقوله تعالى: «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» .. أي ولولا ما سبق من قضاء الله، فى أن يؤخر حساب هؤلاء المختلفين من أهل الكتاب، إلى أجل مسمّى، موقوت لهم، وهو يوم القيامة- لولا هذا الذي سبق من قضاء الله «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» ، أي لفصل بينهم، وأخذ كل منهم بما يستحق من جزاء فى هذه الدنيا، فنجّى الذين آمنوا، ووقع بأس الله بالقوم الظالمين. وقوله تعالى: «وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» - الضمير فى «مِنْهُ» يعود إلى «الدِّينِ» فى قوله تعالى: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً» وهو دين الإسلام، الذي يدعو إليه رسول الله بالكتاب الذي أنزل إليه من ربه.. والذين أورثوا الكتاب من بعدهم، هم أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، الذين عاصروا الدعوة الإسلامية، فهؤلاء الذين يدينون باليهودية والنصرانية، هم الذين أوتوا الكتاب من بعد آبائهم الذين أورثوهم- مع هذا الكتاب الذي فى أيديهم- فرقة فيه، واختلافا عليه، وهم لما ورثوا من فرقة وخلاف فى دينهم- فى شك وارتياب من هذا الدين الإسلامى الذي يدعون إليه، إذ كان دينهم الذي هو من هذا الدين، قد تغيرت معالمه، وطمست وجوهه، فلما التقى بدين الله الذي يردّ أصل دينهم إليه- لم يجدوه ملتئما معه، ولا آخذا سبيله، فكان ذلك الشك المريب منهم فى دين الله! قوله تعالى: «فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ، وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 33 اللَّهُ مِنْ كِتابٍ، وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ، اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ، لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ، اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ» . «الفاء» فى قوله تعالى: «فَلِذلِكَ» - للسببية، والإشارة إلى هذا الخلاف الذي وقع بين أهل الكتاب فى دينهم، والذي أدى بهم إلى الشك والارتياب فى النبي وفيما يدعو إليه من دين الله.. أي فلأجل هذا فلا تلتفت إلى أهل الكتاب، ولا تقف طويلا معهم، إذ كانوا وتلك حالهم من الشك والارتياب.. «فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ» أي فقم بدعوتك، واصدع بما تؤمر، مستقيما عليه، غير ناظر إلى ما يجىء إليك من القوم من جدل ومراء.. «وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ» فإن ما يجادلون به، هو أهواء وضلالات.. «وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ» أي قل آمنت بهذا الكتاب، وبما أنزل الله من كتاب سماوى سابق لهذا الكتاب الذي بين يدىّ. كما يقول الله تعالى لنبيه الكريم: «قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» (84: آل عمران) . وتنكير الكتاب فى قوله تعالى: «مِنْ كِتابٍ» وجرّه بمن الدالة على الاستغراق- للإشارة إلى أن النبي مؤمن بكل كتاب نزل من عند الله. قوله تعالى: «وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ» أي أمرت لأدعوكم إلى دين الله، بالعدل والإحسان، لا أكرهكم عليه، ولا أجادلكم إلا بالتي هى أحسن. وقوله تعالى: «اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ» أي أن الرب الذي أدعوكم إليه ليس ربىّ وحدى، حتى يكون لى مصلحة خاصة فى دعوتكم إليه، فهو سبحانه ربكم كما هو ربى.. وفى هذا تعريض باليهود الذين يجعلون الله سبحانه وتعالى ربّا لهم وحدهم، يؤثرهم بما عنده من خير وإحسان، فيسمونه ربّ إسرائيل، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 34 ويسمونه رب الجنود، ويجعلونه قائدا لجيشهم فى الحرب، كما تصرح بذلك التوراة التي فى أيديهم، فى أكثر من موضع منها.. وقوله تعالى: «لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ» أي أن ما نعمله من خير أو شر، هو لنا وحدنا، ومجزيّون به، على الخير خيرا والسوء سوءا.. وكذلك ما تعملونه أنتم، هو لكم، تجزون به، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.. «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» (38: المدثر) . وقوله تعالى: «لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ» أي لا جدل بينا وبينكم حتى تحاجونا ونحاجّكم.. «لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ» . وقوله تعالى: «اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ» أي أن الله سبحانه وتعالى، هو الذي يقضى فيما بيننا وبينكم من خلاف، يوم يجمع بيننا جميعا، يوم القيامة، فيقضى بالحق، ويجزى كلّا بما هو أهل له.. «وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ» والمرجع.. قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ، حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ، وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ» . «الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ» أي يجادلون فى دينه، وفى كتابه الذي أنزله على رسوله.. «مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ» أي يجادلون فى دينه من بعد أن استجاب له الناس، وآمنوا به، واطمأنوا إلى دين.. فهذا الجدل وإن كان قد يقبل من غير المؤمنين بالله، فإنه غير مقبول من المؤمنين به، المستجيبين له من أهل الكتاب إذ لا يتفق إيمان بالله، وجدل فيه. واليهود هم المقصودون بهذا الحديث، وهم الذين وقع عليهم غضب الله فى الدنيا، والعذاب الشديد فى الآخرة.. فهم مؤمنون بالله، ولكن إيمانهم هذا مشوب بالباطل والضلال، بما بدلوا وحرفوا فى دين الله.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 35 ولقد كانوا يعرفون صدق النبي، ويعرفون صدق الدين الذي جاء به،. ولكنهم جحدوا هذا، حسدا وبغيا، فأوردوا أنفسهم موارد الهلاك، وماتوا ظمأ دون أن يردوا الماء الحاضر بين أيديهم.. وفى هذا يقول الله تعالى فيهم: «وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ» (89- 90 البقرة) . وفى إسناد الفعل: «اسْتُجِيبَ لَهُ» إلى غير فاعله، ولم يسند إلى الفاعل هكذا: «من بعد ما استجابوا» - إشارة إلى أن استجابتهم لم تكن استجابة خالصة من الشك والارتياب، ولهذا لم يسند فعل الاستجابة إليهم. وقوله تعالى: «حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ» أي هذا الجدل الذي يجادل به أهل الكتاب من اليهود، وهذه الحجج التي يوردونها للاحتجاج على الرسول بها- هى حجج داحضة، أي باطلة، توقع الممسك بها فى مزالق الكفر والضلال.. والدّحض من الأرض: الزلق، الذي تزلّ به الأقدام.. وعليهم غضب فى الدنيا، ولهم عذاب شديد فى الآخرة الآيات: (17- 20) [سورة الشورى (42) : الآيات 17 الى 20] اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 36 التفسير: قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ» .. مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآية التي قبلها توعّدت الذين يجادلون فى الله وفى آيات الله، من بعد ما استجابوا له، وآمنوا به- توعدتهم ببطلان حجتهم عند الله، وبحلول غضبه سبحانه عليهم فى الدنيا، وعذابه الشديد لهم فى الآخرة- فكان قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ» - كان ذلك بيانا لمضمون ما تقرر فى الآية السابقة، وأن الذين يحاجون فى الله وفى الكتاب الذي أنزله من بعد ما استجيب لله منهم- حجتهم واهية باطلة، وعليهم غضب ولهم عذاب شديد، لأن الله سبحانه هو الذي أنزل هذا الكتاب بالحق، وأقامه فى الأرض ميزان عدل وحق بين الناس.. وبهذا الميزان- ميزان الحق والعدل- ستوزن أعمال الناس يوم القيامة «فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ» (6- 9: القارعة) . وقوله تعالى: «وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ» استفهام يراد به التقرير، والإنذار بقرب الساعة، وأن المؤمنين بها، على رجاء اللقاء بيومها.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 37 قوله تعالى: «يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها، وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ» . أي أن الذين لا يؤمنون بالآخرة، ولا يرجون لقاء الله، يستعجلون الساعة، استعجال التكذيب والتحدّى، ويقولون: «أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ» ؟ أي متى هذا اليوم؟. وفى تعدية الفعل «يَسْتَعْجِلُ» بحرف الجر «الباء» وهو فعل متعد بنفسه، إذ يقال مثلا: يستعجل الذين لا يؤمنون بالآخرة الآخرة- والله يقول: (أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) (1- النحل) - إشارة إلى تضمين الفعل معنى المطالبة بها للتعجيز.. أي يطالب بالآخرة، ويستعجلون يومها، أولئك الذين لا يؤمنون بها.. واستعجال الذين لا يؤمنون بالآخرة ليوم القيامة، لأنهم يستعبدون وقوعه، كما أنهم لا يدرون ما يأتيهم منه من أهوال إذا وقع.. «يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ» (13- 14: الذاريات) .. وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ» - هو بيان لموقف المؤمنين من يوم القيامة، وهو موقف الخائف المشفق، لأنه يوم الحساب والجزاء، ويوم الأهوال والشدائد: «يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ» (2: الحج) . وفى النظم القرآنى ما يبدو فى ظاهره، أنه جاء على غير الترتيب الذي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 38 يقع فى نفس المؤمن، من مشاهد القيامة.. فالظاهر أن يؤمن المؤمن أولا بأن الساعة حق، ثم تكون خشيته، ويكون إشفاقه من لقائها.. ولكن النظم القرآنى قدم الخشية للقيامة، والإشفاق منها، على العلم بها وبأنها حق.. هذا ما يبدو فى ظاهر الأمر.. والذي ينظر فى النظم القرآنى، يرى أن الإشفاق قد تقدمه الإيمان، فالذين يشفقون من الساعة هم الذين آمنوا بالله وباليوم الآخر.. كما يقول سبحانه: «وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها» .. إذ لا يكون المؤمن مؤمنا بالله إلا إذا كان مؤمنا باليوم الآخر.. أما العلم فهو مادة من المعرفة التي يؤيدها الدليل، ويدعمها البرهان، حيث يجىء إلى الإيمان الغيبى، فيؤكده، ويثبت دعائمه فى القلب.. وقوله تعالى: «أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ» - هو حكم على الذين يشكّون فى الساعة، ويكذبون بها، ويمارون ويجادلون فيها- حكم عليهم بالضلال البعيد عن الحق: «فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ؟» (32: يونس) وماذا بعد الضلال إلا البلاء وسوء المصير؟. قوله تعالى: «اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ» . مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ» يشير إلى ما لله سبحانه وتعالى من لطف بعباده، ورحمة بهم، إذ بعث فيهم رسوله، وأنزل إليهم كتابه هدّى ورحمة.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 39 وقوله تعالى: «يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ» - إشارة إلى أن هذا الرزق الذي يسوقه الله سبحانه من لطفه ورحمته، هو رزق الإيمان، والهدى، ففى هذا الرزق تزكية النفوس وطهارتها بالإيمان وتقبلها للهدى، واتصالها بالملأ الأعلى، واستعدادها لدخول هذا الملأ، فى جنات النعيم.. وقوله تعالى: «وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ» - إشارة إلى أنه سبحانه هو صاحب السلطان، المتصرف فى ملكه كما يشاء، لا ينازعه أحد فيما يسوق من لطفه ورحمته إلى من يشاء من عباده. قوله تعالى: «مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ» . أي هذا رزق الله- من هدى ونور- ممدود مبسوط.. فمن كان يريد الهدى والإيمان، ويعمل للآخرة، ويغرس فى مغارس الإحسان، يزد له الله سبحانه وتعالى فيما غرس، ويبارك عليه، ويضاعف له الجزاء أضعافا مضاعفة.. ومن أعرض عن الآخرة، وعمل للدنيا، وغرس فى مغارسها، أخذ ثمر ما غرس فى دنياه، واستوفى نصيبه منه، حتى إذا جاء إلى الآخرة، جاءها ولا نصيب له فى خيرها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ، لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً» ! (18- الإسراء) الآيات: (21- 26) [سورة الشورى (42) : الآيات 21 الى 26] أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 40 التفسير: قوله تعالى: «أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» . هو إضراب على موقف المشركين من قوله تعالى: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى» . ففى هذا دعوة للمشركين إلى الإيمان بهذا الدين الذي شرعه الله لهم، وإذ هم أبوا أن يستجيبوا لهذه الدعوة، فقد أضرب الله سبحانه عن دعوتهم إلى هذا الدين الذي شرعه لهم، ثم كشف سبحانه عن العلة التي تمسك بهم عن الاستجابة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 41 لهذه الدعوة، وهى أنهم على شريعة شرعها لهم رؤساؤهم، وسادتهم، وهى شريعة باطلة من مبتدعات أهوائهم، ونضيح ضلالانهم، لم يأذن بها الله، ولم يرسل بها رسولا من عنده.. وفى إطلاق الشركاء على زعماء الباطل، ودعاة الضلال، إشارة إلى أنهم يدينون بهذه الشريعة الباطلة، ويسبحون فى ضلالها، مع أتباعهم.. فهم جميعا- أتباعا ومتبوعين- على سواء فى هذا الضلال.. وقوله تعالى: «وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» - كلمة الفصل، هى الكلمة التي سبقت من الله سبحانه وتعالى بأن يؤجل عذابهم إلى يوم القيامة «إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً» (17: النبأ) ولولا هذه الكلمة لقضى بينهم فى الدنيا، ولأخذهم العذاب كما أخذ الظالمين قبلهم.. وقوله تعالى: «وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» أي أن هؤلاء الظالمين إذا لم يقع بهم العذاب الدنيوي، فإنه ينتظرهم عذاب أليم فى الآخرة.. قوله تعالى: «تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» هو انتقال بهؤلاء المشركين الظالمين من موقفهم فى هذه الدنيا، إلى يوم القيامة، حيث يرون العذاب، فيقع فى نفوسهم أنهم صائرون إليه، وأن ما أنذروا به فى الدنيا قد وقع.. فقد كانوا لا يؤمنون بالبعث، ولا يؤمنون بالعذاب.. وها هو ذا يوم البعث.. ومن ورائه العذاب المرصود لهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً» (53: الكهف) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 42 وقوله تعالى: «وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ» الضمير للعذاب الذي جاء ذكره فى الآية السابقة فى قوله تعالى: «وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» ... وفى عدم ذكره، والإشارة إليه بضميره- إشارة إلى أنه شىء مهول، وأن ما رأوا منه ليس إلا إشارة دالة عليه، أما ما غاب عن أعينهم منه، فهو الذي سيعرفونه حين يلقونه ويعيشون فيه، وهو مما لا يحدّه وصف، من هول وبلاء.. قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ» .. هو بيان لما يلقى الذين آمنوا وعملوا الصالحات فى هذا اليوم، من نعيم فى روضات الجنّات، التي عرضها السموات والأرض «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ» من عطائه الممدود، بلا حساب. وقوله تعالى: «ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» - الإشارة هنا، إلى ما ينال المؤمنون من عطاء ربّهم، وما يتلقون من فضله وإحسانه.. فذلك هو الفضل الكبير حقا، الذي يعدل القليل منه كلّ ما فى الدنيا من مال ومتاع.. والله ذو الفضل العظيم. قوله تعالى: «ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.. قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ» الإشارة بذلك، بدل من الإشارة فى قوله تعالى: «ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ» أي ذلك الفضل الكبير، هو ذلك الذي يبشر الله به عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات ... يبشرهم به على لسان رسوله فيما ينزّل عليه من آيات ربّه، ويبشرهم به عند لقاء الموت حيث تلقاهم الملائكة بما أعدّ الله لهم من نعيم فى الآخرة، وحيث يرون بأعينهم مقامهم فى الدار الآخرة، ويبشرهم به يوم البعث، حيث الجزء: 13 ¦ الصفحة: 43 يقومون ونورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، كما يقول الله تعالى: «يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (12: الحديد) قوله تعالى: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» . أي أن هذا الخير الكثير الذي يحمله النبىّ إلى المؤمنين، ويسوق إليهم ما يبشرهم به ربهم، من فضل وإحسان يلقونه فى الآخرة «فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ» - هذا كله لا يطلب النبي منهم عليه أجرا، فإن يكن ثمة أجر فهو رعاية حرمة القربى بينه وبينهم، وما ينبغى أن يكون بينه- صلوات الله وسلامه عليه- وبينهم من رحمة ومودة،. وها هو ذا- صلوات الله وسلامه عليه- يصلهم بأعظم صلات الودّ بما يقدم إليهم من هذا الخير العظيم الذي يكفل لهم حياة طيبة كريمة فى الدنيا، ونعيما ورضوانا فى الآخرة.. ثم هاهم أولاء يلقونه- صلوات الله وسلامه عليه- بالقطيعة، ويرمونه بالعداوة، غير مراعين للقرابة حقّا، أو حافظين لها عهدا، أو مبقين على شىء من الإنصاف معه.. فلو أنهم أنصفوا القرابة، لما كان لهم أن يذهبوا إلى هذا المدى الذي ذهبوا إليه، من قطيعة النبي، والكيد له، والتربص به.. لأنه صلوات الله وسلامه عليه- لم يكن قاطعا لهم، أو متوجها بكيد إليهم، أو متربصا بسوء بهم، بل إنه ليمد إليهم يدا كريمة بالخير والمعروف، ويوجه إليهم دعوة رفيقة حانية، تدعوهم إلى هذا الخير والمعروف.. وكان من شريعة الإنصاف إن لم يقبلوا هذه الدعوة، أن يردّوها برفق وأن يدعوا صاحب الدعوة وشأنه مع من يستجيبون لدعوته، ويطعمون الجزء: 13 ¦ الصفحة: 44 من مائدته، لا أن يزعجوه ويزعجوا ضيف الله الذين دعاهم إليه!. هذا وجه من وجوه تأويل هذا المقطع من الآية الكريمة.. ووجه آخر.. وهو أن النبي- صلوات الله وسلامه عليه- لا يسأل قومه أجرا على ما يحمله إليهم من رحمة الله، وفضله وإحسانه، وإنما ذلك منه صلوات الله وسلامه عليه- هو مودة فى سبيل القربى، إذ آثرهم على غيرهم، وجعلهم أول من يمد يده الكريمة إليهم بالنور الذي معه.. فهو منهم، وهم أولى الناس ببرّه وإحسانه.. وفى هذا يقول الله تعالى: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» (128: التوبة) .. وقد بدأ النبىّ رسالته، وما تحمل من هدى وخير، بدعوة قومه إليها، فكانوا أول من استفتح بهم النبي الكريم دعوته، كما أمره الله سبحانه بذلك فى قوله: «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» (214: الشعراء) . هذا، ومن بعض التأويلات لهذا المقطع من الآية الكريمة أن المراد بالمودة فى القربى، هى مودة آل البيت رضى الله عنهم، وهى الأجر الذي يطلبه النبي- صلوات الله وسلامه عليه- من المؤمنين.. أي لا أسألكم أيها المؤمنون من أجر لى، ولكن أسألكم المودة لآل بيتي. فهو الأجر الذي أسألكم إياه، على ما أقدم إليكم من خير، وما أحمل لكم من هدى.. وهذا التأويل بعيد.. وذلك من وجوه: فأولا: أن مودة المؤمنين بعضهم لبعض، هى من دين المؤمنين، فالمؤمنون الجزء: 13 ¦ الصفحة: 45 كما يقول الله تعالى: «بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» .. وهم بهذا الولاء متوادّون، أو ينبغى أن يكونوا متوادين.. وأولى المؤمنين بمودة المؤمنين وولائهم، أقربهم إلى رسول الله.. فآل بيت رسول الله داخلون فى هذه المودة العامة التي بينهم وبين المؤمنين، من باب أولى.. «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ» ! فحبّ آل بيت رسول الله ومودتهم، من إيمان كل مؤمن، فلا يحتاج هذا إلى ذكر خاص.. وثانيا: الأجر الذي يطلبه النبي- صلوات الله وسلامه عليه- ينبغى أن يكون لحساب الدعوة الإسلامية، لا لشخصه، ولا لذى قربى منه.. وهذا التأويل يجعل الأجر محصورا فى هذا المعنى المحدود، الذي يذهب بكثير من جلال هذا الأجر الذي لا يوفّيه أجر مما فى هذه الدنيا من مال ومتاع. فالأجر الذي يطلبه النبىّ إنما يطلبه من الله، كما يقول سبحانه على لسان أنبيائه. «وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ» . (109، 127، 145، 164 180: الشعراء) وثالثا: هذه الآية مكية، وكان من آل بيت رسول الله كثيرون ممن لم يدخلوا فى الإسلام، كعميه أبى طالب، والعباس، بل ومنهم من كان يؤذى النبي أذى، بالغا، ويكيد له كيدا عظيما، كأبى لهب، فلم يكن من المقبول- والأمر هكذا- أن تجىء دعوة السماء بمودة آل البيت الذين لم تتضح معالمهم فى الإسلام بعد.. وأولى من هذا أن تكون الدعوة بالمودة عامة، بين النبي وقومه جميعا، وخاصة المشركين منهم، ويكون معناها الدعوة إلى التخفف من عداوتهم للنبىّ، وكيدهم له، وتركه وشأنه، مراعاة لتلك القرابة التي بينه وبينهم.. إذ لم يكن منه مساءة لهم، بل كان ودودا لهم، رحيما بهم، يريد لهم الخير، ويؤثرهم به.. ورابعا: أن الخطاب عام موجه إلى المشركين بصفة خاصة، الذين الجزء: 13 ¦ الصفحة: 46 يحاجهم القرآن، ويتهددهم بالنار، ويعرض لهم فى مقابلها الجنة، وما يلقى المؤمنون فيها.. «أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» .. أي لا أسالكم أجرا على هذا الخير الذي تنالونه من هذه الدعوة التي أدعوكم إليها، والتي إن استجبتم لها بلغتم منازل الرضوان، ونزلتم حيث ينزل عباد الله المكرمون فى جنات النعيم.. وذلك كله فى غير مقابل منّى، إلا أن ترعوا ما بينى وبينكم من قرابة، هى التي جعلتنى أبدأ بكم، وأوثركم على غيركم، وهذا من شأنه أن يحملكم على رعاية هذه القرابة، فلا تكونوا أنتم أول كافر بي، ثم لا تكونوا أنتم أول من يسعى بالضر والأذى إلىّ.. وقوله تعالى: «وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً» .. هو دعوة إلى المشركين الذين يقفون هذا الموقف العدائى من النبي، أن يأخذوا جانب الخير الذي يدعوهم إليه، وأن يتقبلوا منه هذه المودة التي يؤثرهم بها.. فمن استجاب منهم لهذه الدعوة، وآثر الإحسان على السوء، والإيمان على الكفر، فإنه سيلقى جزاء إحسانه إحسانا مضاعفا من الله.. وفى قوله تعالى: «يَقْتَرِفْ» وفى استعمال هذا الفعل فى مقام الإحسان، على أنه يستعمل غالبا فى مجال الشرّ والمساءة «إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ» (113: الأنعام) فى هذا إشارة إلى أن اليد الجزء: 13 ¦ الصفحة: 47 التي تعمل السوء، تستطيع أن تفعل الإحسان، وأن الإنسان الذي يسلك طريق الشر، هو نفسه يمكن أن يسلك طريق الخير.. وإذن فإنه لا حجاز بين المشركين وبين الإيمان، وأنهم إذا كانوا يلبسون رداء الشرك الآن، فإنهم قادرون على أن ينزعوا هذا الثوب، وأن يتزبّوا بزىّ الإيمان.. فى لحظة واحدة. وهذا ما يشير إليه التعقيب على هذا بقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ» فهذه مغفرة الله الواسعة، مبسوطة لمن يجيئون إليه، تائبين من ضلالهم، متبرئين من شركهم، حيث تشملهم الرحمة والمغفرة.. وحيث يشكر الله لهم ما صنعوا بأنفسهم من إحسان.. «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ» وإنه ليس أخسر صفقة، ولا أضلّ سبيلا، ممن يرى- وهو المذنب الغارق فى الذنوب- يد المغفرة مبسوطة له، ويد الإحسان ممدودة إليه، ثم يحمد حيث هو، متلطخا بآثامه، غارقا فى ضلاله. قوله تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» . هو إضراب على موقف المشركين الذين دعوا إلى أن يخرجوا من موقفهم العدائى للرسول- إلى المحاسنة والمودة، إن لم يكن لأنه رسول الله، فلأنه منهم، وهم قومه، وأولى الناس به- ولكنهم أبوا أن يستجيبوا لهذه الدعوة التي تأتيهم من جهة القرابة والنسب، بعد أن رفضوا الدعوة التي جاءتهم من قبل السماء، هدى ونورا. فهاهم أولاء ماضون فى كيدهم للنبىّ، وعدوانهم عليه، واتهامهم له بالكذب: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» .. فهذا هو كل ما استقبلوا به الدعوة الكريمة إلى المودة فى القربى. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 48 إنه اتهام صريح للنبىّ بأنه كاذب افترى هذا القرآن الذي يدعوهم إليه، بدعوة الله.. وقوله تعالى: «فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ» .. هو تهديد للمشركين بقبض هذه اليد الممدودة لهم بالهدى، ورفع هذه المائدة المبسوطة لهم بالخير.. وإذا هذا القرآن الذي نزل على النبي قد ختم عليه فى قلبه- صلوات الله وسلامه عليه- فاحتواه كله، وغربت شمسه فيه، فلم يخرج منه شىء لهؤلاء المشركين، بل يتركون وما هم فيه من ظلام وضلال، وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى فى قوله: «وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً» (86- 87: الإسراء) .. والله سبحانه وتعالى قادر على أن يمحو هذا الباطل المجسد فى هؤلاء المشركين ويقطع دابرهم، فلا ترى منهم أحدا، فبكلمة من كلمات الله، يمحو سبحانه هذا الباطل، ويقضى على أهله، ويحقّ الحق، ويثبت دعائمه. وقوله تعالى: «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» أي أنه سبحانه إذ يقضى قضاءه فى هؤلاء المشركين، فإنما يقضى بعلمه الذي يكشف ما تنطوى عليه الصدور، فيهلك الضالين الظالمين، وينجّى المؤمنين المتقين. والمشيئة هنا فى قوله تعالى: «فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ» مشيئة غير واقعة، لأنها معلقة بشرط غير واقع.. فالله سبحانه لم يشأ أن يختم هذا الختم على قلب النبي.. وهذا مثل قوله تعالى: «وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» وقوله سبحانه: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ» (112: الأنعام) . وقوله جل شأنه: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً» (118: هود) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 49 قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ، وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ، وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» هو بيان شارح لقوله تعالى: «وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ» فهذه الآية- كما قلنا- دعوة للمشركين الذين اقترفوا السيئات، أن يعودوا إلى أنفسهم، ويقيموها على طريق الهدى، ويقترفوا الحسنات، كما اقترفوا السيئات.. ثم كان أن تهدّدهم الله بما يقولون من منكر القول فى رسول الله، وذلك ما حكاه القرآن الكريم عنهم فى قوله تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» ، ثم تهددهم بذهاب هذا النور الذي طلع فى ظلام ليلهم إليهم، فقال تعالى: «فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ.. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» . وفى قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ، وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ، وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» عودة إلى المشركين بعرض هذا النور عليهم بعد أن آذنهم الله بزواله عنهم، وفى هذا وصل لتلك الدعوة التي دعوا إليها باقتراف الحسنة، وبيان شارح لها، على اعتبار أن هذا التهديد اعتراض واقع فى ثنايا هذه الدعوة.. ففى قوله تعالى: «وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً.. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ» دعوة إلى التوبة، وإلى اقتراف الحسنات بعد اقتراف السيئات.. وفى قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ» بيان للجهة التي يتوجه إليها التائبون بتوبتهم.. إنها إلى الله وحده.. فهم إنما يقدمون أعمالهم إلى الله، ويتوجهون بتوبتهم إليه، وعندئذ يجدون الله سبحانه هو الذي يتلقاها منهم. وفى هذا إغراء باللّجأ إلى الله، وإطلاق الإنسان من أىّ ولاء لغير الله.. وذلك الجزء: 13 ¦ الصفحة: 50 فى أول الطريق إلى الله.. فإذا آمن بالله، آمن برسول الله، وجعل ولاءه لله ولرسوله، وللمؤمنين. وفى تعدية الفعل (يقبل) بحرف الجر «عن» مع أنه يتعدى بمن، فيقال قبل فلان من فلان كذا، ولم يقبل منه كذا- فى هذا إشارة إلى تضمين الفعل معنى الحمل، بمعنى أن الله سبحانه هو الذي يحمل التوبة عن عباده التائبين، وإن جاءت توبتهم محملة بالذنوب، مثقلة بالأوزار، فإن التوبة ترفع عن كاهلهم ما أثقلهم من ذنوب قد حملها الله عنهم. وقوله تعالى: «وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ» أي أنه سبحانه إذ يحمل التوبة عن عباده، ويتلقاها بما تحمل من أوزار وسيئات، فإنه سبحانه، يعفو عن تلك السيئات ويتجاوز عنها، ويغفرها لأصحابها.. فهو سبحانه الذي يقبل التوبة، وهو سبحانه الذي يملك العفو عن السيئات.. وهو سبحانه الذي يعلم ما يعمل الناس من خير أو شر.. وفى الآية الكريمة دعوة إلى العصاة والمذنبين أن يلوذوا برحمة الله، ومغفرته، وأن يوجهوا وجوههم إليه تائبين من ذنوبهم، نادمين على ما فرط منهم، فالله سبحانه وتعالى يلقاهم بالرحمة والمغفرة.. ففى الصحيح، من رواية عبد الله بن مسعود، رضى الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لله تعالى أشدّ فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه، من أحدكم، كانت راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع فى ظلها، قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدى وأنا ربك» !! (أخطأ من شدة الفرح) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 51 هذا، وليست التوبة، كلمة يلفظ بها اللسان، وإنما هى نية منعقدة على الندم على ما وقع من ذنوب، وعلى العزم على تجنب المعصية. روى عن جابر بن عبد الله، أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «اللهم إنى أستغفرك وأتوب إليك، وكبر (أي تكبيرة الإحرام للصلاة) - فلما فرغ من صلاته، قال له علىّ كرم الله وجهه: يا هذا، إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين، وتوبتك تحتاج إلى توبة! فقال: يا أمير المؤمنين.. وما التوبة؟ قال: اسم يقع على ستة معان: على الماضي من الذنوب بالندامة، ولتضييع الفرائض، الإعادة، وردّ المظالم، وإذابة النفس فى الطاعة كما ربيتها فى المعصية، وإذاقة النفس مرارة الطاعة، كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته» . قوله تعالى: «وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ» . هو معطوف على قوله تعالى: «وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» - أي وهو سبحانه، يستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات أي أنه سبحانه يقبل على عباده التائبين، ويقبلهم.. فمعنى الاستجابة هنا القبول، ولهذا عدّى الفعل «يستجيب» لتضمنه معنى القبول.. أما الكافرون فلا يقبل عليهم الله سبحانه ولا يقبلهم ولهم عذاب شديد.. ويجوز أن يكون الفعل مسندا إلى «الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» أي أنهم يستجيبون لله، ويقبلون عليه تائبين.. وفى هذا إشارة إلى أن تقديم توبته سبحانه وإقباله على التائبين قبل أن يتوبوا- هى دعودة من الله سبحانه وتعالى إلى العصاة، وقد قبلت توبتهم قبل أن يتوبوا، وما عليهم إلا أن يستجيبوا لله، ويقبلوا هذا العطاء العظيم، من الرب الكريم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 52 الآيات: (27- 35) [سورة الشورى (42) : الآيات 27 الى 35] وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) التفسير: قوله تعالى: «وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ، إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ» . [الناس: بين الغنى والفقر] ما معنى بسط الرزق هنا؟ ولماذا يقع البغي من الناس مع بسط الرزق لهم؟ بسط الرزق معناه فى اللغة، سعته وكثرته، من مال ومتاع. والمراد ببسط الرزق هنا سعته وكثرته للناس جميعا، بحيث لا يكون هناك فقير أو محتاج، بل كل إنسان مكفول له الرزق الواسع، الذي يعيش فيه مستغنيا به عن غيره.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 53 ويبدو فى ظاهر الأمر أن المجتمع الإنسانى الذي بسط له الرزق وكفلت فيه حاجة كل فرد- يبدوا أنه مجتمع سعيد، يعيش فى رفه ورغد، ويحيا فى سلام وأمن.. إذ ماذا يبتغى الإنسان أكثر من أن تسدّ مطالبه وتقضى حوائجه؟ .. ولكن نظرة وراء هذا الظاهر، تكشف عن أن هذا المجتمع الإنسانى- إذا كان له وجود- تفسده سعة الرزق، وتحيل حياته إلى حرب دائمة وعدوان متصل.. إذ ليست كلّ حاجة الإنسان فى أن يأكل ويشرب، وأن يجد المأوى والملبس، وإنما حاجاته ومطالبه أوسع من هذه المطالب القريبة التي لا تعد شيئا إلى جانبها.. فهناك وراء مطالب الجسد، مطالب العواطف، والنزعات، وهناك جوع أشد ضراوة وأكثر إلحاحا من جوع البطون.. هو جوع الأثرة، والتعالي، وحبّ التملك والسلطان.. والإنسان فى سبيل إشباع هذا الجوع لا يشبع أبدا.. ومن هنا يكون بغى الإنسان على الإنسان، لا ليسدّ جوع بطنه، وإنما ليشبع جانبا من جوع أثرته، وتسلطه، وقهره، وتعاليه.. فهو لا يرضيه أبدا أن يكون فى مستوى الناس.. إنه يريد الامتياز عليهم، والتعالي فوقهم، وهو فى سبيل هذا يسلب غيره، بل يسفك دمه إن استطاع. وهذا واقع الحياة والمشاهد فيها.. فالمجتمعات ذات الغنى والثراء، هى موطن الفتنة المتحركة، التي توقد نار الحروب، فيما بينهما، فإذا انفرد مجتمع منها بالغنى والسلطان تحول إلى عاصفة مدمرة تجتاح المجتمعات الفقيرة، وتمتصّ البقية الباقية من دمها، وتأخذ اللقمة من فمها.. هكذا الناس فى أفرادهم، وجماعاتهم وأممهم.. الأغنياء يتسلطون على الفقراء، والأقوياء يعتدون على الضعفاء.. لا لشىء إلا إشباعا لشهوة التسلط والعدوان.. وفى هذا يقول الشاعر العربي الجاهلى، الذي يضرب المثل بقبيلة «بِكْرٌ» حين أخصبت أرضها وكثر خيرها، فبغت وتسلطت.. يقول: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 54 إن الذئاب قد اخضرّت براثنها ... والناس كلّهم بكر إذا شبعوا فكان من حكمة الله سبحانه وتعالى، أن وزع الأرزاق بين الناس بقدر، فلم يعط الناس جميعا حاجتهم، فوسّع على بعض، وضيّق على بعض، حتى يعمر الكون، ويتخذ بعضهم بعضا سخريا، وحتى يشغلوا بمطالب العيش، وحتى يكون فى هذا الشغل ما يصرف جانبا من عدوان بعضهم على بعض إلى السعى والعمل فى وجوه الأرض.. إذ لو أنهم كفوا جميعا السعى فى طلب الرزق، لكان شغلهم كله، هو البغي والعدوان.. فالذين بسط الله سبحانه وتعالى لهم الرزق، هم غالبا مثار بغى وعدوان، وقليل منهم من يشكر الله، ويذكر فضله، فيرعى حق الله فيما خوّله من نعم، وبسط له من رزق. وهذا مشاهد فى الدول الاستعمارية الآن.. إنها مصدر إزعاج لأمن الإنسانية وسلامتها.. وقد ضرب الله سبحانه مثلا لطغيان أصحاب المال وتسلطهم، بقارون، فقال تعالى: «إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ» (76: القصص) ! كما ضرب سبحانه وتعالى مثلا بالخصمين اللذين اختصما إلى داود- عليه السلام- فقال تعالى على لسان أحدهما: «إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ، فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ» (23: ص) وفى قوله تعالى: «وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ» أي أنه سبحانه ينزل من الرزق ما تقضى به حكمته، فيبسط الرزق لمن يشاء ويقدره لمن يشاء، كما يقول سبحانه: «اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ» (62: العنكبوت) . وقوله تعالى: «إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ» - إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى إنما لم يبسط الرزق لعباده، لأنه خبير عليم بهم، بصير مقدّر لما هو أصلح لهم.. ولو أنه سبحانه بسط لهم الرزق لبغوا فى الأرض، ولما صلح لهم أمر فيها.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 55 قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ» .. والغيث- وهو رزق من رزق الله- إنما ينزل بقدر، وحساب، حسب تقدير حكمة الله.. فهذا الغيث ينزل فى مواقع دون مواقع، فيكون حيث نزل الغيث، الخصب والنماء والخير الكثير. ويكون حيث لا غيث، الجدب والقحط.. وهكذا يكون الغنى والفقر، والرخاء والشدة.. وبهذا يعتدل ميزان الناس فى الحياة، ويتوازن موقفهم على جانبى الرجاء واليأس، والأمن والخوف فلا يكونون على حال واحدة أبدا، إذ لو كانوا على هذه الحال أو تلك، لا يتحولون عنها لملوا هذه الحياة، ولسئموا المقام فيها، ولجمدت مشاعرهم عليها. وقوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ» أي ينزل الغيث على عباده بعد أن يئسوا، وظنوا أن لا غياث لهم مما هم فيه، من جدب يسوقهم إلى التهلكة.. فإذا أصابهم الغيث بعد هذا الكرب العظيم، زغردت فى صدورهم بلابل البهجة والمسرة، وأقبلت عليهم الحياة بمواكب الأعراس، تزف إليهم بشائر الرزق والرحمة.. «وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ» أي ببثها هنا وهناك، فيكون فيها الحياة للأرض، والغذاء والرّى للإنسان، والحيوان، والنبات.. وقوله تعالى: «وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ» أي أن الله سبحانه هو «الْوَلِيُّ» أي الناصر والمعين، لا ناصر لكم غيره، ولا معين لكم سواه، حين تمدون أيديكم إلى من ينصر، وترفعون أبصاركم إلى من يعين.. وهو سبحانه «الْحَمِيدُ» أي المستحق للحمد وحده، على ما أنعم من نعم، وما أفاض من خير. وفى الحديث الشريف: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لوفد الجزء: 13 ¦ الصفحة: 56 «فزارة» وقد شكوا إليه الجدب: «إن الله عز وجل ليضحك من شعفكم وأزلكم «1» وقرب غياثكم» فقال أعرابى منهم: أو يضحك ربنا عز وجل؟ قال: «نعم» فقال الأعرابىّ: لا نعدم من ربّ يضحك خيرا، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم من قوله. قوله تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ» . أي ومن آثار قدرة الله ورحمته، أنه خلق السموات والأرض، وخلق ما بث ونشر فيهما من مخلوقات.. وهو سبحانه قادر على جمع هذه المخلوقات المنتشرة فى عوالم الوجود، فى السموات وفى الأرض.. ثم إذا شاء سبحانه، جمعهم جميعا من أقطار السموات والأرض، وهم أحياء، ثم بعد أن يموتوا ويبعثوا.. وفى الآية إشارة إلى أن فى العوالم الأخرى- غير عالم الأرض- مخلوقات حية، على صور وأشكال لا يعلمها إلا الله، وأنها تموت وتحيا.. وهى فى سلطان الله سبحانه.. يبسطها ويقبضها، ويميتها ويحييها.. وليس ما على هذه الأرض من صور الحياة إلا صورة من صور لا حصر لها، من صور الحياة، فى هذا الوجود العظيم. قوله تعالى: «وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» .   (1) الشعف: اللهفة، والحرقة من التطلع إلى الشيء الذي تريده النفس. - والأزل، الشدة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 57 أي أن الله سبحانه وتعالى لا يسوق لعباده إلا الخير، وهذا شأنه سبحانه وتعالى فيما خلق من مخلوقات فى هذا الوجود.. ولكنّ الناس لهم إرادة عاملة، ولهم كسب هو ثمرة هذه الإرادة.. وهم بهذه الإرادة يحسنون ويسيئون، ويستقيمون على طريق الحق، ويركبون طرق الضلال.. فما كان منهم من إحسان، قابلهم معه إحسان من الله إليهم، وما كان منهم من إساءة ردّت إليهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى للنبى الكريم: «ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ» (79: النساء) . أما قوله تعالى فى سورة النساء: «وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ..» (78: النساء) فهذا ردّ على المشركين، الذين كانوا يتطيرون بالنبيّ.. ولهذا جاء قوله تعالى: بعد ذلك: «ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ» ليروا فى هذا أن ما أصابهم من سوء لم يكن من النبىّ، الذي لا يملك دفع سوء عن نفسه، كما لا يستطيع سوقه إلى أحد، وإنما الذي يملك هذا وذاك هو الله وحده.. وأن ما أصابهم أو يصيبهم من سوء، هو من عند أنفسهم ابتداء، وأنه من عند الله ابتداء وانتهاء!! وقوله تعالى: «وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» .. إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى، يعفو عن كثير من السيئات، ويتجاوز عن كثير من الذنوب، إذ لو أخذ سبحانه الناس بذنوبهم لأهلكهم جميعا، كما يقول سبحانه: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» (61: النحل) . وكما يقول «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» (45: فاطر) . قوله تعالى: «وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 58 أي أن الله سبحانه وتعالى إذ يعفو عن كثير من الذنوب، ولم يعجّل بجزاء أهلها عليها- فليس ذلك لما يكون للمذنبين من جاء أو سلطان، فسلطان الله فوق كل سلطان، وقوته فوق كلّ قوة، وليس لأحد عاصم يعصمه من بأس الله، أو يدفع عنه عذابه، فى الدنيا أو فى الآخرة، ولكنّ الله سبحانه يمهل الظالمين، ويمدّ لهم فى الضلالة، ليزدادوا إثما.. وفى هذا يقول الله تعالى: «قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا» .. (75: مريم) ويقول سبحانه: «وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» (178: آل عمران) . روى عن الإمام أحمد عن عقبة بن عامر، رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «إذا رأيت الله يعطى العبد من الدنيا ما يحبّ فإنما هو استدراج «1» » ثم تلا قوله تعالى: «فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» (44: 45 الأنعام) . قوله تعالى: «وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» . أي ومن الآيات الدالة على قدرة الله، وعلى بسطة سلطانه، وعلى فضله وإحسانه على عباده، هذه «الْجَوارِ» أي السفن الجارية على الماء، كالجبال فى ضخامتها، وارتفاعها فوق سطح الماء.. فهى المعالم الوحيدة القائمة فوق وجه الماء، كما تقوم الجبال على اليابسة.. فهذه الجواري، إنما تجرى بقدرة الله سبحانه وتعالى، بهذه الرياح   (1) استدراج الله تعالى العبد، أنه كلما جدد خطيئة جدد له نعمة وأنساه الاستغفار أو أن يأخذه قليلا قليلا ولا يباغته. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 59 المسخرة، التي تجريها وتدفعها فوق الماء.. ولو شاء الله سبحانه لأمسك هذه الريح، فسكنت وسكن مع سكونها جريان هذه الفلك، فتظل رواكد على سطح الماء.. لا تتحرك.. وقوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» .. أي إن فى هذه السفن الجارية على الماء لآيات، لا آية واحدة، لكل صبار، أي كثير الصبر، يجد من صبره ما يعينه على الوقوف الطويل، الدارس، المتوسم، فى آيات الله، فيرى فى كل معلم من معالم هذا الوجود آيات من قدرة الله، وشواهد من إبداعه، وحكمته، وتدبيره.. وهذا هو بعض السرّ فى جمع الآيات، إذ لا يمكن أن يرى فى هذه الفلك وجريها على الماء، تلك الآيات منها، إلا الدارس، المتأمل، الذي يعينه صبره على الوقوف الطويل، والنظر المتفحص.. أما من ينظر نظرا عابرا فى معالم هذا الوجود، فإنه لا يرى إلا صورا وأشباحا.. إنه نظر جامد، أشبه بالمرءاة تظهر عليها صور الأشياء، ثم لا تمسك منها بشىء.. والله سبحانه وتعالى يقول فى أصحاب هذا النظر البارد الفاتر، الساهم: «وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ» (105: يوسف) .. وفى قوله تعالى: «شَكُورٍ» إشارة أخرى إلى أنّ هذه الآيات التي يراها المتأملون الدارسون، لا تكون آيات وشواهد إلا إذا صادفت قلبا مؤمنا، يردّ هذه الآيات التي تكشفت له، إلى قدرة الله، وتدبيره، وحكمته، فيفيض قلبه تسبيحا بحمد الله وشكرا له.. أما من يرى هذه الآيات بعين لا تكتحل بنور الإيمان، فإن هذه الآيات لا تحيا فى وجدانه، ولا تعيش فى مشاعره، فلا ينفعل بها، ولا يهتز لروعتها وجلالها، الذي يرى فيه المؤمنون بعض جلال الله، وروعة حكمته! الجزء: 13 ¦ الصفحة: 60 قوله تعالى: «أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ» . هو معطوف على قوله تعالى: «يُسْكِنِ الرِّيحَ» أي إن يشأ الله سبحانه يسكن الريح فلا تتحرك، وتظل السفن رواكد على ظهر الماء، أو إن يشأ «يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا» . ويوبقهن: أي يهلكهن، والضمير يعود إلى الجواري وهى السفن.. وأصله من الإباق، وهو الفرار والهروب، يقال أبق العبد، أي هرب، وأفلت من سلطان صاحبه.. ومعنى هذا أن هذه السفن وهى تجرى على سطح الماء، لا ممسك لها إلا الله سبحانه، وأنه سبحانه لو شاء لأفلت زمامها من يد أصحابها، بأن يرسل عليها ريحا عاصفة، يضطرب لها البحر، ويفور، فتغرق، أو لا يستطيع أحد أن يمسك زمامها ولا يدرى أحد أين وجهتها.. وفى هذا الهلاك لراكبيها.. وفى قوله تعالى: «بِما كَسَبُوا» إشارة إلى أن ما يحدث لهذه الجواري من غرق، أوتيه، إنما هو بما كسب أصحابها من سيئات، كما يقول سبحانه فى آية سابقة: «وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» . (30) وقوله تعالى: «وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ» - معطوف على قوله تعالى «أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا» أي وإن يشأ الله يعف عن كثير من سيئات المسيئين، فلا يعجل لهم الجزاء فى الدنيا، فتمضى سفنهم فى ريح رخاء حتى تبلغ مأمنها.. ثم يكون الحساب والجزاء فى يوم الحساب والجزاء.. ويجوز أن يكون المعنى: ويعفو عن كثير من ذنوب هؤلاء المذنبين الجزء: 13 ¦ الصفحة: 61 الذين أخذوا ببعض ذنوبهم، لا كلّها، لأن ذنوبهم أكثر من أن تستوفى منهم بأى عذاب ينزل بهم فى هذه الدنيا، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» (45: فاطر) . قوله تعالى: «وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ» .. هو معطوف على محذوف مفهوم من قوله تعالى: «وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ» أي ويعف عن كثير من ذنوب هؤلاء المذنبين فى الدنيا فلا يعجل لهم العذاب، وذلك ليعذبهم فى الآخرة، وليعلم الذين يجادلون فى آيات الله، ويكذبون بالبعث والجزاء- ليعلموا يومئذ ما لهم من محيص، أي ما لهم من مفر، ولا ملجأ.. الآيات: (36- 43) [سورة الشورى (42) : الآيات 36 الى 43] فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 62 التفسير: قوله تعالى: «فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى، لِلَّذِينَ آمَنُوا، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» . فى الآية الكريمة تهوين من شأن الدنيا، واستخفاف بمتاعها، إلى جانب ما فى الحياة الآخرة من جزاء كريم، ونعيم خالد لا يفنى. فقوله تعالى: «فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا» - هو حكم على هذه الحياة الدنيا، بأن كل ما يناله الإنسان منها من مال أو جاه أو سلطان- هو متاع، أي زاد لا يلبث أن ينفد، أو ثوب لا بد أن يبلى.. فكل ما فى الحياة الدنيا إلى نفاد، وزوال.. وإن كثر وعظم.. وقوله تعالى: «وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى» أي والذي يبقى ولا ينفد، هو ما تقبّله الله من أعمال صالحة، حيث يكون ثوابها عند الله نعيما لا يفنى، ورزقا لا ينفد.. وقوله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» - أي أن هذا الذي عند الله من جزاء حسن، هو للذين آمنوا، وتوكلوا على ربهم، وأسلموا أمرهم له.. وهو كأنه جواب عن سؤال تقديره: لمن هذا الذي عند الله فكان الجواب: للذين آمنوا، وعلى ربهم يتوكلون. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 63 قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ، وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ» . هو معطوف على قوله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» - أي هذا الذي عند الله من خير، هو للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، وهؤلاء هم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، وإذا ما غضبوا هم يغفرون. وكبائر الإثم، هى كبائر الذنوب، كالقتل، والربا، وشرب الخمر، والزنا، ونحوها.. والفواحش: هى المنكرات، من قول، أو فعل.. وصورتها البالغة فى الفحش، تتمثل فى الزنا، ولهذا غلب على الزنا، الوصف بالفاحشة. وفى قصر التجنب على كبائر الإثم، وكبائر الفواحش- إشارة إلى أن الصغائر معفوّ عنها، فضلا من الله وإحسانا، كما يقول سبحانه: «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى» (32: النجم) . فكل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، وليس من طبيعة الإنسان أن يتجنب الخطأ تجنبا مطلقا، ولكن الذي تحتمله الطبيعة البشرية هو أن يكون منه الإحسان إلى جانب الإساءة، وأن يتجنب الكبائر، إذ كان وجهها القبيح ظاهرا ظهورا بينا.. أما الصغائر، فإنها كثيرا ما تعرض للإنسان، وكثيرا ما يختلط عليه أمرها.. ولهذا يقول الرسول الكريم: «فقاربوا وسدّدوا» أي اجتهدوا فى أن تكونوا أقرب شىء إلى الاستقامة والسداد. وقوله تعالى: «وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ» هو صفة أخرى من صفات الجزء: 13 ¦ الصفحة: 64 الذين آمنوا.. وهى أنهم إذا ما استغضبوا، وغضبوا، غفروا لمن كان منه المساءة التي أغضبتهم. وفى قرن المغفرة بالغضب، إشارة إلى أن المغفرة التي تكون والإنسان فى حال الاستثارة والغضب، هى المحمودة فى باب المغفرة، لأنها تجىء عن مجاهدة ومغالبة للنفس، إذ يقهر فيها الإنسان شهوة الانتقام، وبلوى فيها زمام هواه إلى حيث الصفح والمغفرة: «وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» (35: فصلت) . وقرن المغفرة بالغضب، أبلغ من قرنها بالإساءة.. فقد يساء إلى الإنسان، ولا يغضب، ولا تتحرك فى نفسه داعية الانتقام، فتكون مغفرته حينئذ مغفرة لم يتكلف لها الإنسان مجاهدة، ولم يحمل فى سبيلها مئونة.. وفى ذكر المغفرة هنا، إغراء بها، إذ كانت فى معرض مغفرة الله سبحانه وتعالى لما يقع من الإنسان من اللمم، ومن صغائر الذنوب. قوله تعالى: «وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» هو استكمال لصفات الذين آمنوا.. فهؤلاء المؤمنون، من صفاتهم أن يستجيبوا لربهم، أي يمتثلوا أوامره، ويجتنبوا نواهيه.. ومن امتثالهم لأمر، أنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة.. وإقامة الصلاة، هى الركن الأول من أركان الدين بعد الإيمان بالله. وإيتاء الزكاة، هو الركن الثاني بعد إقامة الصلاة.. وفى قوله تعالى: «وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ» - إشارة إلى أن من صفات الجزء: 13 ¦ الصفحة: 65 المؤمنين أن يكونوا على كلمة سواء فيما بينهم من شئون.. فتكون طريقهم واحدة، ووجهتهم واحدة، ويدهم واحدة، وموقفهم واحدا، فلا يذهب كل واحد منهم مذهبا، ولا تركب كل جماعة طريقا.. فهذا من شأنه أن يوهن قوة الجماعة الإسلامية، ويفتّ فى عضدها، ويوقع الشحناء بين جماعاتها وأفرادها.. هذا، ولم تجىء الدعوة إلى وحدة المجتمع الإسلامى، دعوة قاهرة ملزمة، من غير أن يقوم إلى جانبها الوجود الذاتي للإنسان، والهاتف الشعورى المنبعث من ذاته، إلى هذه الوحدة، بل قام مع هذه الدعوة، بل أمام هذه الدعوة، دعوة إلى الشورى بين الجماعة الإسلامية، فى الأمر الذي يعرض لها، ويتطلب وحدة جماعتها.. فهذا الأمر يتلقاه المسلمون جميعا، ويتدارسونه فيما بينهم، ويقلّبون الرأى فيه، وفى هذا العرض للأمر، ما يكشف لهم عن وجه الرأى فيه، وما يأخذون أو يدعون منه.. وعندئذ يكون رأيهم قائما على وجهة واحدة، هى الوجهة التي رضيها الجميع، ونسجوا رايتها من تلك الخيوط التي اجتمعت من آرائهم، فكان لكل إنسان مكانه من هذه الراية التي يسير تحت ظلها.. وبهذا تكون مسيرة المسلمين تحت هذه الراية، مسيرة ينتظمها شعور واحد، ويحكمها رأى واحد، وتحتويها عزيمة واحدة، فيكون منهم بهذا نسيج واحد متلاحم، أشبه بنسيج هذه الراية التي تشكلت من مجتمع آرائهم. وهذا هو بعض السر فى أن جاء النظم القرآنى: «وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ» بدلا من أن يجىء مثلا هكذا: وكانوا أمة واحدة، أو مجتمعا واحدا.. ذلك أنه لن تكون الأمة أمة واحدة، ولن يكون المجتمع مجتمعا واحدا، إلا إذا توحدت المشاعر، ولن تتوحد المشاعر، إلا إذا تلاقت الآراء وتوحدت، ولن تتلاقى الآراء وتتوحد، إلا مع عرضها، وتنخّلها، وذلك لا يكون إلا بالتشاور بينهم، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 66 وعرض رأى كل ذى رأى، فى صراحة مطلقة، وحرية كاملة.. [الشورى فى الإسلام.. منهجا وتطبيقا] ولا بد هنا من وقفة مع هذا المبدأ العظيم، الذي قرره الإسلام، ليكون مادة أولى، من مواد هذا الدستور السماوي الذي يحكم الجماعة الإسلامية، ويدين به الفرد والجماعة على السواء.. ذلك هو مبدأ الشورى. فالشورى شريعة من شرائع الرسالة الإسلامية، حيث ينعقد بها الإجماع، الذي هو أصل من أصول التشريع الأربعة، المعتمدة فى الإسلام، وهى الكتاب، والسنة، والقياس، والإجماع.. حيث لا يكون الإجماع على أمر إلا بعد تمحيصه وتقليب وجوه الرأى فيه، وتقديم الحجج والأدلة بين يدى كل رأى، حتى ينتهى الأمر الذي يجمع عليه بالتقاء آراء ذوى الرأى فيه من المسلمين، وهم الذين أطلق عليهم أهل الحل والعقد.. وليس المراد بأهل الحلّ والعقد طبقة خاصة من الناس، أو طائفة معينة من طوائفهم، بل هم فى كيان المجتمع الإسلامى كله، فى كل زمان ومكان، لا يختص بهم موطن، ولا يحصرهم زمن.. فحيث كان المسلمون فهم جميعا المجتمع الإسلامى، وفيهم أهل الحل والعقد.. أي أصحاب الرأى والنظر.. فكل ذى رأى ونظر، هو من أهل الحل والعقد، وله أن يأخذ مكانه فى الأمر الذي يعرض للمسلمين، وأن يدلى برأيه، وبحجته التي تدعم هذا الرأى، كما أن له أن ينظر فى رأى غيره، وأن يقول رأيه فيه، معدّلا أو مجرّحا.. كل ذلك بالحجة القائمة على الحق والعدل، لا الهوى وحبّ الغلب.. والرأى الذي ينتهى إليه المسلمون، أو أولو الحل والعقد فيهم، هو ملزم لجماعتهم، لا يجوز لأحد منهم الخروج عليه.. وليس فى هذا الإلزام جور على ذاتية الفرد، أو عدوان على حقه فى النظر فى الأمور، ووزنها بميزان إدراكه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 67 وتقديره، بل إن هذا الإلزام هو حماية للشخص من أن يتّبع هواه، أو أن يذهب مذهبا غير مأمون العاقبة، لو أنه أخذ برأيه، وترك رأى الجماعة، إذ كان رأيها هو الرأى الذي تلاقت عنده الآراء، ونخلته العقول.. وإذا كان الإجماع هو الوجه البارز من وجوه الشورى، فإن للشورى وجوها أخرى.. إذ ليس كل أمر يعرض للجماعة الإسلامية، ينتهى بالتشاور فيه، إلى إجماع فى الرأى، على نحو الإجماع المعروف فى الشريعة.. بل قد يقع الخلاف فى الرأى على أمر من الأمور، ثم يرجح جانب فيه على جانب، فيؤخذ بالجانب الراجح، ويترك الجانب المرجوح..! على أن الذي يعنينا هنا ليس هو صور الشورى، وأشكالها، وإنما الذي يعنينا، وله المقام الأول، هو مبدأ الشورى ذاتها، من حيث اعتبارها حقيقة من حقائق الإسلام، وحكما من أحكامه العاملة التي يأخذ المسلم نفسه بها، ويقيم حياته عليها.. ففى قوله تعالى: «وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ» خبر يراد به الأمر، من حيث اقترن بركنين من أركان الدين، وتوسطهما، وهما إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، المأمور بهما شرعا.. فكان حكم الشورى حكمهما، من حيث الوجوب والإلزام.. وفى مجىء الشورى بعد إقامة الصلاة، وقبل إيتاء الزكاة، إشارة إلى أمور: أولا: أن الصلاة أقوال وأفعال، والشورى كذلك أقوال تعقبها أفعال.. أما الزكاة فهى أفعال خالصة.. فناسب أن تقترن الشورى بالصلاة لمشاكلتها فى صورتها، وأن تتقدم من أجل هذا على الزكاة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 68 وثانيا: أن الصلاة يؤديها المؤمن منفردا، أو فى جماعة.. وهو فى حال انفراده يؤديها على الصورة التي يراها، من حيث الطول والقصر فى أفعالها، قياما، وركوعا، وسجودا.. أما فى حال أدائها فى جماعة، فإنه ليس له هذا الخيار، بعد أن يأخذ مكانه فى الجماعة، وينتظم فى عقدها، فهو والجماعة من وراء الإمام، الذي يجب أن يلزموا متابعته فى كل حركاته وسكناته.. والشورى، صورة مقاربة للصلاة من هذا الوجه الذي صورناها به.. فإذا كان الإنسان خاليا مع رأيه إزاء أمر من الأمور العارضة له، كان له أن يتصرف فى هذا الأمر على الوجه الذي يراه بعقله، ويؤديه إليه اجتهاده.. أما إذا دخل مع جماعة المسلمين فى أمر عام، وأخذ مكانه بينهم وانتظم رأيه مع آرائهم على طريق سواء، لم يكن له أن يخرج عن هذا الرأى الذي انتظمت وراءه آراؤهم، والذي يتمثل لهم حينئذ فى صورة الإمام الذي يأتمون به فى الصلاة.. فكما لا يخرج المأموم فى الصلاة عن متابعة الإمام، ولا يجوز له أن يستجيب لإرادته فى أن بطيل أو يقصّر، فى قيام، أو ركوع، أو سجود- كذلك لا يجوز أن يخرج المؤمن عن الرأى الذي اجتمع عليه المسلمون بعد تشاورهم فيه، وإن كان على خلاف ما يرى. فالرأى الذي أجمع عليه المسلمون هنا هو من رأى الإسلام، والسبيل التي يسلكها المسلمون- متابعة لهذا الرأى- هى سبيل الله.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً» (115: النساء) . وثالثا: أن الصلاة فريضة عامة، تجب على كل مسلم ومسلمة وجوب عين، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 69 - وكذلك التشاور بين المسلمين، أمر ملزم لهم جميعا، وحقّ يؤديه كل مسلم ومسلمة للجماعة الإسلامية، وإنه ليس لأحد أن يحول بين المسلم وبين أخذ مكانه بين الجماعة الإسلامية وإبداء الرأى الذي يراه، فى أي أمر يعرض لهم، كما أنه ليس لأحد أن يحول بين المسلم وبين أن يأخذ مكانه فى صلاة الجماعة بين الصفوف المنتظمة فى الصلاة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ» .. ففى تنكير الشورى دليل على إطلاقها وعمومها.. وأنها ليست شورى على صفة خاصة معروفة بأهلها.. فكل مسلم ومسلمة أهل للشورى، كما هو أهل للصلاة فى جماعة.. ورابعا: أن الصلاة يجب أن يسبقها من المسلم قبل الدخول فيها إعداد لها، وذلك بالتطهر، والوضوء.. وكذلك الشورى، يجب أن تسبقها طهارة النفس من الهوى، وخلوها من الدخل.. وهذا ما يشير إليه الحديث الشريف «الدين النصيحة» قيل لمن يا رسول الله؟: قال: «لله ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم» .. ولن تكون النصيحة نصيحة إلا إذا جاءت من قلب سليم، وعن نية خالصة من الغش والنفاق.. وخامسا: أن للصلاة وقتا، فإذا جاء وقتها أذّن المؤذن بها، ودعا المسلمين إليها.. وكذلك للشورى وقتها.. فإذا حزب المسلمين أمر، تنادوا به، واجتمعوا له، وتشاوروا فيه.. ذلك هو بعض السر فى قرن المشورة بإقامة الصلاة.. ووراء ذلك أسرار وأسرار لا تنتهى.. أما وصلها بالزكاة من طرفها الآخر، فإنه يشير كذلك إلى أمور.. منها: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 70 أولا: أن القرآن الكريم لم يعبّر فى هذا المقام عن الزكاة بلفظ الزكاة، بل جاء بها فى هذا النظم الكريم: «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» فجعلها إنفاقا من رزق، وهذا الرزق من الله سبحانه وتعالى.. وكذلك «الشورى» هى إنفاق من رزق، هو مما وهب الله من عقل، ومما رزق أهل العقل من علم ومعرفة.. وهذا يعنى أن إبداء الرأى من ذوى الرأى، أمر واجب عليهم، وهو الزكاة المطلوبة منهم فى هذا المقام، لما آتاهم الله من فضله، من علم، وحكمة، وحسن تدبير.. فمن رأى فى أمر من أمور المسلمين خللا، وكان عنده من الرأى والتدبير حا يصلح به هذا الخلل ثم أمسك رأيه، وحبس نصحه، كان آثما.. شأنه فى هذا شأن من كان ذا مال وسعة، ثم لم ينفق من ماله فى سبيل الله، وفى سدّ حاجات ذوى الحاجة من المؤمنين.. وثانيا: لم يقيد النص القرآنى هنا الإنفاق بالشيء الذي ينفق منه، من مال أو نحوه، بل جعله، إنفاقا مطلقا، يشمل كل ما يرزقه الله الإنسان من خير.. فسمّاه سبحانه رزقا، ليشمل المال وغير المال، من رأى، وعلم، وفنّ.. خلا يستبد المؤمن وحده، برزق رزقه الله إياه، وفيه فضل وسعة لغيره من المسلمين.. وثالثا: كذلك لم يقيد النص القرآنى ما ينفق من هذا الرزق بحدّ محدود، كالزكاة، بل جعله إنفاقا مطلقا.. لأنه فى مقام «الشورى» لا يكون الإنفاق بقدر محدود مما يملك الإنسان من علم، ومما عنده من معرفة، بل إنه مطلوب منه فى تلك الحال أن ينفق كل ما لديه، وأن يبذل كل ما عنده، غير ممسك بشىء من رأيه، أو محتجز شيئا من جهده، واجتهاده.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 71 ونقرأ الآية الكريمة: «وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ، وَأَقامُوا الصَّلاةَ، وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ، وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» . وننظر مرة أخرى فى قوله تعالى: «وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ» وفى مقام هذا المقطع من الآية، بين ما سبقها، وما جاء بعدها من كلمات الله، فنرى كيف احتفاء الإسلام بالشورى، وكيف أنه أفسح لها مكانا بين فريضتين من فرائضه، هما الصلاة والزكاة، اللتان آخى بينهما فى كل موضع جاء فيه ذكرهما فى القرآن الكريم.. كما يقول سبحانه: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» (3: البقرة) ويقول جلّ شأنه: «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ» (43: البقرة) ويقول سبحانه: «وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ» (55: مريم) ويقول عزّ من قائل: «وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا» (31: مريم) .. ويقول تبارك اسمه: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ» (1- 4: المؤمنون) .. والفصل بين الصلاة والزكاة بقوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ» - ليس فصلا، لأن الإعراض عن اللغو هنا، هو من تمام الصلاة التي يحفها الخشوع والخشية.. أما الفصل بين الصلاة والزكاة بالشورى، فهو لما للشورى من منزلة فى ذاتها، وأنها جديرة بأن تكون فى هذا المقام، وأن تتوسط أعظم فريضتين من فرائض الإسلام، وأهم ركنين من أركانه، بعد الإيمان بالله. والسؤال هنا: لماذا كانت الشورى بهذه المنزلة من الإسلام؟ ولماذا تلتفت إليها الشريعة الإسلامية بهذا القدر، وتنوّه بها إلى هذا الحدّ؟ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 72 ولقد أشرنا من قبل إلى ما للشورى من آثار فى بناء المجتمع، وفى حياطة هذا البناء، وفى دفع العوارض التي تعرض له، وتهدّد وجوده.. ونريد هنا أن ننظر إلى المجتمع الإسلامى، الذي يقوم أمره على الشورى، وما للشورى من آثار مادية، ونفسية، وروحية، وعقلية. فى حياطته، ودعم بنائه. فالمسلمون مطالبون.. ديانة.. كما هم مطالبون سياسة وتدبيرا.. أن يقيموا أمرهم كله على الشورى.. وهذا من شأنه أن يجعلهم دائما فى تواصل وفى تواص بالنصح، ومشاركة فى السراء والضرّاء، حيث يجد المرء أنه مطالب بأن يكشف لأخيه عن المشكلات التي تعرض له، فيجد من صاحبه الرأى والنصيحة يبذلها له فى إخلاص، بل ويسعى معه فى دفع الضرّ عنه، ما استطاع، حسبة لله، وأداء لحق وجب عليه.. فإذا كان الأمر العارض من البلايا العامة، التي تمسّ المجتمع، أو طائفة من المجتمع، تنادى لها المسلمون جميعا، وتداعوا عليها بالرأى، والعمل معا، وحمل كلّ منهم همها، وشارك فيها بكل ما وسعه من جهد.. هذا ما يقضى به الدّين، إلى جانب ما تقضى به ضرورات أخرى كثيرة.. وآثار هذه المشاركة كثيرة عميقة.. فأولا: أنها توحّد مشاعر المجتمع الإسلامى وتشدّ المسلمين بعضهم إلى بعض.. وتجعل منهم جسدا واحدا، فلا يشعر أحدهم أنه بمنجاة من الخطر الذي يهدّد أي عضو من أعضاء الجماعة.. وهذا ما يشير إليه الرسول الكريم فى قوله تعالى: «مثل المؤمنين فى توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمّى والسهر» .. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 73 وثانيا: فى عرض مشكلات المجتمع على الجماعة، وطلب الرأى والنصيحة من أفرادها- تربية للفرد على أداء وظيفته الاجتماعية معها، وإفساح مكان له فيها.. وهذا من شأنه أن يهيىء للفرد فرصا طيبة، يبرز فيها وجوده، ويربّى فيها ملكاته، وينمى قواه المدركة، حتى يكون أهلا لأن يأخذ مكانه منها، وهذا بدوره، داعية قوية تدعوه إلى طلب العلم والمعرفة، وإلى لقاء الجماعة بما حصل من علم، وما وعى من معرفة.. وثالثا: فى عرض الآراء، وفى تقليب وجوهها، تصحيح لكثير من الآراء الخاطئة، وبالتالى تصحيح للمشاعر التي تتوالد عن هذه الآراء، والتي لو شارك المرء الجماعة فى عمل من الأعمال، وهو بهذه الآراء، وتلك المشاعر، لكان آلة متحركة بغير وعى، عاملة بغير شعور، إن لم يكن جسدا غريبا، يعوق مسيرة الجماعة، ويقلل من جهدها.. ولهذا كانت دعوة الله سبحانه إلى النبىّ الكريم، بأن يقيم أمره فى المسلمين على الشورى، فيقول سبحانه: «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ.. فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» (159: آل عمران) .. والرسول صلوات الله وسلامه عليه- بما أراه ربه- فى غنى عن المشورة، وعن أخذ الرأى من أحد، فإنه- صلوات الله وسلامه عليه- كما وصفه الحق جلّ وعلا: «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى» (3: النجم) .. ولكن هكذا أقام الله سبحانه أن النبىّ مع الجماعة الإسلامية على المشورة، حتى تصحح الآراء الخاطئة على ضوء المشورة، وحتى يشترك الجميع مع النبىّ فى إقامة الرأى، وفى حمل تبعة العمل، وتحمل المسئولية فيما ينجم عنه.. وقد رأينا النبىّ صلوات الله وسلامه عليه- بين يدى غزوة «بدر» يدعو الناس إليه قائلا: «أيها الناس.. أشيروا علىّ» .. وذلك أنه صلوات الله وسلامه عليه، حين خرج الجزء: 13 ¦ الصفحة: 74 بالمسلمين من المدينة للقاء عير أبى سفيان، لم يكن مخرجه لحرب قريش.. فلما أفلتت العير، جاءت قريش لتستنقذ العير أولا، ثم لتحارب النبي ثانيا.. فلما خلصت لها العير اتجهت إلى الحرب.. فكان هذا موقفا جديدا بالنسبة للنبى والمسلمين، ولم ير صلوات الله وسلامه عليه أن يلزم المسلمين رأيا فيه، فطلب رأيهم فى الحرب ولقاء قريش، أو العودة إلى المدينة.. فكان الرأى الذي أجمع عليه المسلمون، هو الحرب، ولقاء العدوّ.. وقد كانت الحرب، وكان النصر! هذه هى بعض ملامح الشورى، فى الإسلام. وهى.. كما ترى.. وثيقة من أروع الوثائق، ودستور من أقوم الدساتير فى بناء المجتمع. وفى وصل مشاعر أفراده بعضها ببعض، وفى صبّ آراء أفراده فى مجرى واحد يفيض بالخير والبركة عليهم جميعا.. قوله تعالى: «وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ» . هو استكمال لصفات الذين آمنوا.. فإن من صفاتهم- إلى جانب ما ذكر لهم من صفات- أنهم لا يقبلون الظلم، ولا ينزلون على حكم الظالمين، بل إنهم حرب على الظلم وأهله، يبذلون فى سبيل ذلك كل جهدهم وما ملكت أيديهم حتى إنهم ليقدّمون أنفسهم، ويبيعونها بيع السماح من أجل إقرار الحق، وإعلاء كلمته، والضرب على يد الباطل، وتنكيس رايته.. وليس الجهاد فى سبيل الله، والاستشهاد فى ميدان الجهاد، إلا صورة من صور دفع الظلم فى أبشع صوره وردّ البغي فى أقبح وجوهه.. لأن حرب الشرك والكفر هى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 75 حرب على الظالمين والباغين، الذين يسعون فى الأرض فسادا، ويبغون فى الأرض بغير الحق.. وسواء أكان البغي الذي يصيب المؤمن بغيا واقعا عليه هو فى ذات نفسه، أو واقعا على الجماعة الإسلامية، فإن المؤمن مطالب- ديانة، إن لم يكن حمية وأنفة- أن يدفع هذا البغي، ويرد ذلك العدوان.. فالبغى منكر غليظ، والمؤمن حرب على المنكر، أيّا كان، وبأى سلاح يقدر عليه، وفى الحديث الشريف: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه.. وذلك أضعف الإيمان» .. فأدنى منازل الحرب للظلم، هو إنكاره بالقلب، وازدراؤه وازدراء أهله.. وهذه منزلة لا يصير إليها المؤمن إلا إذا أعجزته القدرة عن الجهر باللسان، والتشنيع على الظلم والظالمين، كما أنه لا يقف المؤمن عند حدّ الحرب باللسان، إلا إذا لم يملك القوة المادية التي يضرب بها فى وجه البغي والباغين.. وفى قوله تعالى: «هُمْ يَنْتَصِرُونَ» .. وفى الإتيان بضمير الفصل «هم» - إشارة إلى أن من وقع عليهم البغي يجب أن يكونوا هم أول المتصدين له، العاملين على دفعه، لا ينتظرون حتى يتولى عنهم غيرهم الأخذ بحقهم، والانتصاف لهم ممن ظلمهم، وإن كان هذا لا يمنع المؤمنين جميعا أن يساندوهم ويشدوا ظهرهم.. وفى إسناد دفع الظلم، ورد البغي، إلى من وقع عليه ظلم وبغى- هو إعلان لإنكار هذا المنكر، ممن وقع عليه، وإلا كان سكوته عليه، هو رضا به، وتقبلا له، الأمر الذي لا يقيم حجة لغيره أن ينتصر له، ويقف فى المعركة معه.. وفى التعبير عن التصدّى للعدوان، ودفع البغي بقوله تعالى: «يَنْتَصِرُونَ» الجزء: 13 ¦ الصفحة: 76 بدلا من التعبير بلفظ مثل: يدفعون، أو يردّون، أو نحو هذا- تحريض لمن وقع عليه البغي أن يتحرك لرد هذا العدوان- لأنه، إن فعل- فسيكون على موعد مع النصر، الذي وعده الله سبحانه وتعالى إياه فى قوله جل شأنه: «ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ. إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ» (60: الحج) قوله تعالى: «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ.. إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» . هو تحريك لمشاعر أولئك الذين بغى عليهم أهل البغي أن يأخذوا بحقهم، وأنه إذا كان العفو سنّة كريمة، وعملا مبرورا، فإنه لا يكون كذلك حتى يجىء عن قدرة على من بغى، فيكون العفو هنا، عن فضل وإحسان، ممن بغى عليه، الأمر الذي يرى منه الباغي أن هناك يدا قادرة على أن تقطع هذه اليد التي بغت، فلا يتمادى بعد هذا فى بغيه، بل ينزجر ويندحر، ولا يطل برأسه من جحره بعد هذا أبدا.. ففى وصف البغي بالسيئة، إشارة إلى أنه من المنكر الذي ينبغى على المؤمن محاربته.. وفى وصف ردّ العدوان ودفع البغي بالسيئة، إشارة إلى أن من أساء، لا ينبغى أن يتحرج المؤمن من الإساءة إليه، وإلحاق الضرر به، كما أساء هو إلى غيره. وساق إليه الضرّ والأذى.. فالسيئة هنا، إنما هى سيئة بالإضافة إلى من بدأ بالإساءة.. فما هى إلا عمله قد ردّ إليه.. وفى قوله تعالى: «سَيِّئَةٌ مِثْلُها» إشارة إلى أن الجزاء، هو من جنس العمل.. وقوله تعالى: «فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» - إشارة إلى الأخذ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 77 بما هو أولى من جزاء السيئة بسيئة مثلها، وهو العفو عن المسيء، وذلك بعد القدرة عليه، ووقوعه ليد من بغى عليه.. فإن العفو مع القدرة- كما قلنا- هو عقوبة للمعتدى، ووقعها على النفوس الحية أقسى وأمر من كل عقوبة.. وفى قوله تعالى: «وَأَصْلَحَ» - إشارة إلى أن لمن أراد أن يأخذ بالعفو أن يسلك الطريق الذي يراه فى هذا المقام، فله أن يعفو عفوا عامّا، وأن يعفو عن بعض، ويأخذ ببعض، حسب ما يرى من المعفوّ عنه، ومن الظروف والأحوال المحيطة به.. وفى قوله تعالى: «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» - إشارة إلى المنتصر بعد ظلمه، ألا يتجاوز حدود الأخذ بحقه ممن ظلمه، وإلا كان ظالما، وانتقل بذلك من مبغىّ عليه إلى باغ، ومن مظلوم إلى ظالم، وقد كان الله سبحانه نصيرا له، فأصبح مخذولا من الله، مذموما: «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» . قوله تعالى: «وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» . هو عرض شارح لقوله تعالى: «وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها» .. وهو تحريك أيضا لمشاعر الثورة على البغي، ودفع لما يجد أهل السلامة والصلاح فى صدورهم من حرج فى أن ينالوا أحدا بسوء، حتى ولو كان مسيئا.. وهذا خروج على سنن العدل، ومجافاة لطبيعة الحياة، وإطلاق لأيدى السفهاء أن يعيثوا فى الأرض فسادا، وأن يبتلى بهم الأنقياء والأبرار ابتلاء عظيما.. ولهذا جاء الإسلام يقرر هذه الحقيقة، ويعطى أهله حق الدفاع عن أنفسهم، بلا بغى أو عدوان، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 78 حتى يكون لهم من ذلك وقاية من آفات ذوى الشر والعدوان.. ولقد كانت دعوة المسيح- عليه السلام- إلى اليهود، أن «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، ومن نازعك رداءك، فاخلع له ثوبك أيضا» - كانت تلك الدعوة بلاء من الله لليهود، ونقمة منه سبحانه، بعد أن بغوا وأفسدوا فى الأرض.. وكانت تلك الجرعات المرة القاسية التي قدمها السيد المسيح لهم- هى من بقايا الكئوس المرة القاسية، التي تجرعها الناس من سموم كيدهم، ومكرهم!. فليس ثمة من سبيل ولا لوم، على من انتصر من بعد ظلمه، فانتصف ممن ظلمه. وأخذ بحقه منه.. وإنما السبيل واللوم على من بدأ بالظلم، وبغى على الناس.. أو على من انتصر من بعد ظلمه، فجاوز الحد، وانتهى به ذلك إلى أن يكون من الظالمين الباغين.. فهؤلاء لهم عذاب أليم، هو قصاص من العدل الإلهى، ينتصف فيه سبحانه للمظلوم من ظالمه.. قوله تعالى: «وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» . الواو للقسم، واللام واقعة فى جواب القسم.. والإشارة إلى الصبر والمغفرة. أي إن الصبر والمغفرة من عزم الأمور. وعزم الأمور، هو موجبها، ولازمها، الذي هو ملاكها، الذي تقوم عليه، بحيث لا يتم لها وضع صحيح إلّا به.. فلكل أمر عزيمة، هى السبب أو الأسباب الموصلة إليه.. وفى الحديث: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحبّ أن تؤتى عزائمه» .. وهى فرائضه، وما أوجبه الله سبحانه على عباده. وفى إسناد عزم الأمور إلى الفاعل، أي فاعل الصبر والمغفرة، بدلا من إسناده إلى ذات الصبر والمغفرة- إشارة إلى أن المعوّل عليه فى إعطاء القيمة للصبر الجزء: 13 ¦ الصفحة: 79 والمغفرة هو الفاعل لها، وأنه بقدر صبره ومغفرته يتحقق للصبر والمغفرة، الصفة المناسبة التي تكون له منهما.. ومن حكم العرب: «خير من الخير معطيه، وشر من الشر فاعله» .. والآية الكريمة تعقيب على هذه القضية العامة، التي تنتظم الناس جميعا، فهم بين ظالمين معتدين، ومتتصفين من الظالمين المعتدين.. وهذا يعنى أنهم فى حرب متصلة لا تنقطع أبدا.. يوقد الظالمون المعتدون نارها، ويزيدها المظلومون المعتدى عليهم ضراما، بالاشتباك فى صراع مع من ظلمهم واعتدى عليهم.. وهذه فتنة وابتلاء للناس.. وأنه إذا كان من حقّ المظلومين أن ينتصفوا من ظالميهم، فإن عليهم أن يذكروا أنهم فى وجه فتنة وابتلاء، وأنه من الحكمة أن يعالجوا الأمر برفق، وأن يأتوا إليه لإطفاء ناره، لا لتأججها.. وهذا أمر متروك لتقدير الإنسان، على ألا يخرج به الحال أبدا إلى الظلم والبغي. فإن شاء صبر، وعفا، وإن شاء انتصف وانتصر.. الآيات: (44- 50) [سورة الشورى (42) : الآيات 44 الى 50] وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 80 التفسير: قوله تعالى: «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ» . مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، عرضت قضية الظلم، وما يقع من بغى الناس بعضهم على بعض، وتوعدت الظالمين الباغين بالعذاب الأليم.. وهنا فى هذه الآية، إشارة إلى أن المصدر الأول للظلم والبغي، إنما يأتى من جهة الكفر بالله، والضلال عن سبيله، وأن الكافرين الظالمين هم الذين لا يجدون لله وقارا، ولا يخشون له بأسا، فهم لذلك يطلقون العنان لقوى الشر الكامنة فيهم، فيعتدون على حرمات الله، وعلى عباد الله، فى غير تحرج أو تأثم.. فهؤلاء الظالمون المعتدون، هم ممن أضلهم الله.. «وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ» أي ليس له نصير ينصره من بعد ضلاله وخذلان الله له.. وقوله تعالى: «وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ» هو عرض للظالمين فى موقف الحساب والجزاء، وأنهم فى هذا الموقف الجزء: 13 ¦ الصفحة: 81 فى كرب وبلاء، يتنادون بالويل والثبور، وينظر بعضهم إلى بعض فى يأس قاتل، متسائلين: «هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ» ؟ أي هل هناك من سبيل إلى الخروج مما نحن فيه، والعودة إلى الحياة الدنيا، لنصلح ما أفسدنا، ونعمل صالحا غير الذي كنا نعمل؟ وهيهات هيهات!! قوله تعالى: «وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ» أي وفى هذا الموقف- موقف الحساب والجزاء- يرى الرائي، الظالمين وهم يعرضون على النار، ويقفون بين يديها- يراهم خاشعين فى مهانة وذلة وضراعة.. «يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ» أي لا يستطيعون أن يفتحوا أبصارهم على هذا الهول الذي يغفر لهم فاه، بل إن أبصارهم ليصعقها هذا الهول، فترتدّ عنه، ويدعوها الخوف منه، ومحاذرة الوقوع ليده، أن تنظر لترى أين موقعها منه، فلا تكاد تلمحه حتى ترتد عنه.. وهكذا تظل أبصارهم مشدودة إلى هذا الهول، تتحسسه، فى مخالسة، كما يتحسس الأعمى حية التفت بعنقه.! قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ.. أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ» أي أن المؤمنين حين يرون هذا الموقف الذي يكون عليه الظالمون يوم القيامة.. ينظرون إلى أنفسهم، فيحمدون الله أن عافاهم من هذا البلاء، ويقولون فيما يقولون: «إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» أي أنه ليس خسرانا هذا الخسران الذي يفوت الإنسان من حظوظ الحياة الدنيا، فى نفسه، وأهله، وماله.. وإنما الخسران حقّا هو هذا الخسران الذي يلقاه الظالمون الجزء: 13 ¦ الصفحة: 82 فى هذا اليوم، حيث قد صفرت أيديهم من كل شىء، وتقطعت بينهم وبين أهليهم الأسباب، فلا يلقاهم أحد من أولادهم وأهليهم إلا معرضا عنهم، مشغولا بنفسه وبما يعانيه- إن كان من أهل النار- أو مشتغلا عنهم بنعيم الجنة، ومنازعة أهلها طيّب الأحاديث، وكئوس النعيم- إن كان من أهل الجنة.. وفى التعبير بالماضي عن حديث المؤمنين فى هذا اليوم، إشارة إلى أن هذا الحديث، واقع من نفوس المؤمنين موقع اليقين وهم فى هذه الدنيا.. فهم يؤمنون بأن هذا هو الذي لا بد أن يكون يوم القيامة.. قوله تعالى: «وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ» - هو من قول المؤمنين فى الآخرة، وهو قولهم فى الدنيا، وإيمانهم به.. فالمؤمنون على يقين بأن الظالمين لا نصير لهم، ولا مدافع عنهم فى هذا اليوم، فإنهم ممن أضلهم الله، وسلك بهم مسالك الطريق إلى جهنم، فليس لهم سبيل إلى طريق آخر إلى غير هذا المورد الذي هم مساقون إليه.. قوله تعالى: «اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ.. ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ» هو دعوة إلى الظالمين، المنحرفين عن طريق الهدى، أن يستجيبوا لربهم، وأن يقبلوا على ما دعاهم إليه من الإيمان به على لسان رسوله، وذلك «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ» أي لا مرد لهم فيه إلى الحياة الدنيا، وليس لهم فيه من ملجأ يفرون إليه من هذا العذاب المحيط بهم فيه، وليس لهم فى هذا اليوم من يقوم فيهم مقام المنكر عليهم، ما هم فيه من ضلال، فقد انتهت رسالة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 83 الرسل. فلا وعد ولا وعيد، ولا بشير ولا نذير.. قوله تعالى: «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ» أي فإن أعرض هؤلاء الظالمون المدعوون إلى الاستجابة لله، عن قبول هذه الدعوة: «فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً» أي فإنك أيها النبي لست مرسلا إليهم لتقوم على حفظهم من شرور أنفسهم وسيئات أعمالهم: «إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ» أي ما عليك إلا أن تبلغهم رسالة ربك، وتدعوهم إليه، وتحذرهم بأسه وعقابه، وتبشرهم برحمته ورضوانه.. فإن هم استجابوا لله، بعد أن تبين لهم الرشد من الغى، فقد رشدوا ونجوا، وإن أبوا أن يستجيبوا لله، فليس لك أن تتولى حفظهم، وتأخذ بهم قسرا إلى طريق النجاة.. فإنه «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» .. وإنّ على كل إنسان أن يتولى حفظ نفسه، ووقايتها، وإقامتها على الطريق الذي يختاره لها.. وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه: «إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ» (4: الطارق) أي ما كل نفس إلا قائم عليها حافظ، مطلوب منه أن يتولى حفظها، وهو هذا العقل الذي أودعه الله فيها، فإذا لم يوقظ الإنسان هذا الحارس، وينبهه إلى أداء وظيفته، ثم دخل عليه من يستبدّ به، ويستولى عليه، ويورده موارد الهلاك، فلا يلومنّ إلا نفسه.. قوله تعالى: «وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ» . مناسبة هذا لما قبله، هى أن ما سبق من قوله تعالى: «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما الجزء: 13 ¦ الصفحة: 84 أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ» - يشير ضمنا إلى ما فى بعض النفوس من فساد، لا تجد معه مساغا لطعم الخير، ولا اشتهاء له، وأن ذلك طبيعة غالبة فى الإنسان، كذلك من طبيعة الإنسان أنه إذا مسته رحمة من عند الله، وأصابه خير- كسعة فى الرزق، أو نماء فى الثمر، والولد- لبسته الفرحة، وإن مسه ضر بما قدمت يداه نسى ما ألبسه الله تعالى إياه من نعم، ولم يعد يذكر لله إلا هذا الضرّ الذي أصابه بما صنعت يداه.. وفى إفراد الإنسان فى قوله تعالى: «وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً» - إشارة إلى كل فرد من أفراد هذا الجنس البشرى- فأل هنا للجنس- إذ أن كل إنسان أيا كان- مؤمنا كان أو كافرا- يفرح بالخير إذا أصابه، ويهشّ له، وتطيب نفسه به.. أما عود الضمير جمعا على الإنسان فى قوله تعالى: «وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» فذلك لأنه ليس كل إنسان فى حيّز هذا الشرط وجوابه، فيكفر بالله، أو يسىء الظن به فى حال الضر، بل إن الواقعين فى حيز هذا الشرط وجوابه، هم الذين لا يؤمنون بالله مطلقا، أو لا يؤمنون به إيمانا وثيقا، مثل أولئك الذين يعبدون الله على حرف، كما يقول الله تعالى فيهم: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ» (11: الحج) فكثير من الناس يقفون هذا الموقف من ربهم.. إن أصابهم خير، رضوا به واطمأنوا إليه، وإن أصابهم شر بما قدمت أيديهم، أنكروا من الله ما كانوا يعرفون.. وقليل من الناس، وهم المؤمنون بالله حقّا- لا تختلف حالهم مع الله أبدا.. فهم على إيمان به، وحمد له، فى السراء الجزء: 13 ¦ الصفحة: 85 والضراء على السواء.. كما يقول الله سبحانه وتعالى فيهم: «وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ، أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ» (177: البقرة) .. وجواب الشرط هنا هو قوله تعالى: «فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ» أي وإن يصبهم شر بما قدمت أيديهم، فهم جميعا هذا الإنسان الكافر الجحود.. وقد جىء بالجواب جملة اسمية، للإشارة إلى أن هذا الحكم ليس حدثا عارضا فى مجرى حياة الإنسان، بل إن ذلك جبلّة وطبيعة فيه، وأنه إذا كان ثوب النعمة الذي لبسه حينا من الزمن قد ستر منه هذه الطبيعة- فإن الضر الذي أصابه ونزع عنه هذا الثوب- قد كشف عنه ما كان مستورا منه، فظهر على حقيقته، وهو الكفران والجحود! .. وفى قوله تعالى: «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» - إشارة إلى أن ما يصيب الإنسان من ضرّ هو من صنع يده.. كما يقول الله تعالى: «ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ» (79: النساء) .. وأنّ تبدّل أحوال الناس من نعمة وعافية إلى سوء وبلاء، هو بما كسبت أيديهم.. «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» (53: الأنفال) .. قوله تعالى «لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 86 ومناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآية السابقة أشارت إلى ما يصيب الناس من خير وشر، وقد أضافت الخير إلى الله سبحانه، وأضافت الضرّ إلى كسب الناس، وحتى لا يقع فى وهم الناس- وخاصة من لا يعرفون الله ولا يقدرونه حقّ قدره- أن ما يصيب الناس من ضرّ هو مسوق إليهم من عند غير الله- حتى لا يقع هذا الوهم، جاء قوله تعالى: «لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» ليدفع هذا الوهم، وليقرر أن كل ما فى السموات وما فى الأرض، وما يجرى فيهما من أمور- هو من عند الله: «قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» (78: النساء) .. فالله سبحانه يخلق ما يشاء، ويهب ما يشاء لمن يشاء.. فيعطى ويمنع، ويثيب ويعاقب.. «يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً» .. فهذا بعض تصريف الله فيما تتعلق به نفوس الناس، من حبّ الولد.. فبعض الناس يهبهم الله إناثا، وبعضهم يهبهم ذكورا، وبعضهم يهبه الذكور والإناث معا: «يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً» أي يجعلهم أزواجا، ذكرا وأنثى، لا أن يتزوج بعضهم بعضا، وقد جاء النص القرآنى: «ذُكْراناً وَإِناثاً» للإشارة إلى ما يقع فى نسبة الذكور والإناث من اختلاف، عند من يرزقون الذكور والإناث.. فقد يرزق الإنسان ذكرا وأنثى، أو ذكرا وعددا من الإناث، أو عددا من الذكور وأنثى، أو أعدادا متساوية من الذكور والإناث.. وقوله تعالى: «وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً» - إشارة إلى الصنف الرابع الجزء: 13 ¦ الصفحة: 87 الذي تكمل به الصورة، التي يكون عليها حال الناس جميعا فى هذا الرزق المقسوم من الولد.. فالناس فى هذا الرزق أربعة أصناف، لا يتجاوزونها.. بعضهم يرزق الإناث، ولا ذكور، وبعضهم يرزق الذكور، ولا إناث.. وبعضهم يرزق الذكور والإناث، وبعضهم عقيم، لا يرزق ذكورا ولا إناثا.. وفى قوله تعالى: «إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ» تعقيب على هذا الرزق الذي بين يديه سبحانه، والذي يهب منه ما يشاء لمن يشاء.. فهو العليم، بما يهب، ولمن يهب، وهو القدير على ما يشاء من عطاء ومنع.. «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» (54: الأعراف) .. الآيات: (51- 53) [سورة الشورى (42) : الآيات 51 الى 53] وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 88 التفسير: قوله تعالى: «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ» .. [مفهوم جديد.. للحروف فى أوائل السور] بهذه الآية، والآيتين التي بعدها، تختم السورة الكريمة.. وبهذا الختام، يتم التلاقي بين بدئها وختامها.. فقد بدئت السورة بقوله تعالى: «حم عسق كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» وختمت ببيان الصور التي يتم بها الاتصال بين الله ورسله، والتي يتلقّون بها كلماته وآياته.. وأن هذه الصور لا تخرج عن أحوال ثلاث.. الصورة الأولى: أن يكون ذلك الاتصال بين الله ورسله «وَحْياً» أي رمزا وإشارة، بحيث لا يعرف دلالة ما يوحى الله سبحانه به إلى الرسول- إلا الرسول وحده.. والصورة الثانية: أن يكون الاتصال بأن يكلم الله الرسول بكلماته التي يريد سبحانه إلقاءها إليه، وذلك من وراء حجاب، أي من غير أن يرى الرسول ذات المتكلم، سبحانه وتعالى، حيث لا يمكن أن تقع هذه الرؤية لأبصارنا المحدودة الكاملة، التي لا تتعامل إلا مع ما هو محدود، والله سبحانه وتعالى منزّه عن التجسد، والحدّ.. ولهذا كان قول الله لموسى حين قال: «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» .. «قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» (143 الأعراف) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 89 الصورة الثالثة: أن يكون ذلك بوساطة رسول من عالم الرّوح، يرسله الله سبحانه وتعالى، حاملا آياته وكلماته التي أذن بها له- إلى الرسول البشرى، فيتلقاها النّبى من رسول السماء. وقد أشرنا فى أول هذه السورة، عند تفسير قوله تعالى: «حم عسق» .. إلى أن هذه الأحرف المقطعة، هى صورة من صور الوحى، وهى الصورة الأولى التي أشار إليها الله سبحانه وتعالى بقوله: «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً» فهى- أي هذه الأحرف- من هذا الوحى الرمزى، الذي هو سرّ بين الله سبحانه وتعالى وبين رسوله صلوات الله وسلامه عليه..! وهذا يعنى أن هذه الأحرف معروفة الدّلالة لرسول الله، وإلا لما كان لوحيها إليه حكمة.. وهذا بدوره يدعونا إلى القول بأن الحروف المقطعة التي بدئت بها بعض السّور القرآنية- يجرى عليها هذا المفهوم الذي فهمنا عليه هذه الأحرف المقطعة هنا فى تلك السورة. والسؤال هنا، هو: إذا كانت هذه الأحرف وحيا خاصا من الله سبحانه وتعالى إلى رسوله الكريم، لا يعرف دلالتها إلا الرسول، فلماذا كانت قرآنا، يتلى، ويتعبد به؟ وكيف يتعبد بما لا مفهوم له؟ وقبل أن نجيب على هذا نسأل: أكان الرسول صلوات الله وسلامه عليه، يعرف دلالة هذه الحروف؟ والجواب على هذا بالإيجاب، وذلك من وجهين: فأولا: فى قوله تعالى فى أول السورة: «حم عسق كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. وقد عاد اسم الإشارة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 90 إلى هذه الأحرف، وإلى أنها صورة من صور الوحى، التي يتصل فيها النبىّ بربّه جلّ وعلا. وثانيا: فى قوله تعالى: فى ختام السورة: «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ... الآية» .. إشارة إلى أن هذا الوحى هو مما كلم الله به نبيه.. والكلام لا يكون كلاما حتى تكون له دلالة مفهومة عند من يلقى إليه هذا الكلام.. لأن الكلام نقد متداول بين معط وآخذ، ولن تنم عملية المبادلة حتى يكون لهذا النقد قيمة معترف بها بين الطرفين، أو الأطراف المتعاملة به.. وقيمة اللغة هى فى دلالتها، وفى تحديد مفهومها بين المتخاطبين بها.. فكلام الله سبحانه وتعالى لرسله، سواء كان وحيا، أو من وراء حجاب، أو عن طريق رسول سماوى ينقله إلى الرسول البشرى- هذا الكلام الإلهى لا بدّ أن يكون واضح الدلالة، بيّن المفهوم عند الرسول المتلقى لهذا الكلام، قبل كل شىء.. ثم لا يمنع ذلك من أن يكون للناس- وخاصة قوم الرسول- مشاركة فى هذا الفهم، على اختلاف فى درجات هذا الفهم. من الألف إلى الياء.. على حين تبقى للرسول درجة خاصة من الفهم لا يشاركه فيها غيره! ونعود إلى الاجابة على سؤالنا آنفا، وهو: إذا كانت هذه الأحرف المقطعة، وحيا خاصا من الله سبحانه وتعالى إلى رسوله الكريم- فلماذا كانت قرآنا يتلى ويتعبد به؟ وكيف يتعبد بما لا مفهوم له؟ والجواب على هذا.. والله أعلم.. هو: أولا: أن اختصاص الرسول الكريم، بفهم خاص، لبعض كلمات وآيات الجزء: 13 ¦ الصفحة: 91 من كلمات الله وآياته، التي يتلقاها وحيا من ربه- ليس هذا الفهم الخاص بالذي يعزل هذه الآيات أو الكلمات عن آيات القرآن وكلماته.. إذ أن هناك آيات وكلمات، تختلف مفاهيم أهل اللغة فيها، وفى تحديد دلالتها، وهى من المتشابه الذي أشار إليه سبحانه وتعالى فى قوله: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ.. وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ.. فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ» (7: آل عمران) - ومع ذلك فهى قرآن يقرأ ويتعبد به. وثانيا: حكمة هذه الحروف المقطعة- وهى المتشابه- أنها دعوة إلى الايمان بالغيب، والتسليم بالتعبد بهذه الأحرف، دون أن يكون للعقل سلطان معها، بعد أن استوفى العقل حقّه، وأعمل كلّ سلطانه مع المحكم من الآيات، واستبان له- بما لا يدع مجالا للشك- أنها من عند الله.. فكان حمله على الإيمان بما لا مفهوم له عنده من كلمات الله، وإحالة ما لم يفهمه على ما فهم- كان ذلك دعوة مجددة له إلى الإيمان القائم على الولاء والتسليم المطلقين.. فذلك هو الإيمان فى صميمه، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: «وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا» .. وهذا ما نجده فى بعض أعمال الحج التي يقف العقل أمامها دون أن يجد لها مفهوما يلتقى مع منطقه.. كالطواف، والسعى، ورمى الجمرات، ولمس الحجر الأسود أو تقبيله.. وهذه كلها، وكثير غيرها من أعمال الحجّ، هى من الإيمان القائم على التسليم المطلق لأمر الله، وبمعزل عن سلطان العقل، بعد أن امتلأ القلب إيمانا ويقينا بما تلقى من العقل من إشارات مضيئة من الحجج والبراهين، أضاءت له معالم الطريق الى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 92 الله، وإقامته مقاما آمنا مطمئنا على الإيمان به «1» . وثالثا: فى اختصاص الرسول صلوات الله وسلامه عليه بهذا العلم الذي تحمله إليه هذه الأحرف المقطعة، وغيرها من الآيات المتشابهة.. فى هذا- فوق أنه مزيد فضل وإحسان من الله سبحانه لنبيه الكريم- هو تثبيت للنبىّ، فى مقام الدعوة إلى الله، وفى الصبر على ما يكابد من آلام فى سبيل هذه الدعوة، وما يلقى من ضرّ فيما يسوق إليه المشركون والمعاندون من كيد.. ففى هذه الأحرف، يرى الرسول- فيما أراه الله منها، من أنباء الغيب- الطريق الذي تسير فيه دعوته، وما يلقى على هذا الطريق من مواقع الهزيمة والنصر، وما ينتهى إليه هذا الطريق من إعزاز لدين الله، وانتصار لجند الله، وإعلاء لكلمة الله.. وفى هذا ما يعين الرسول الكريم على احتمال الخطوب والأهوال، حيث يجد النصر قريبا منه، يلوح له برايات الأمان، وينتظر سفينته التي تزأر من حولها الأمواج، وقد أعدلها مرفأ الأمن والسلام.. هذا، ويلاحظ أن هذه الحروف المقطعة التي بدئت بها بعض سور القرآن الكريم- قد انتظمها جميعا أمران: الأمر الأول: أنها جاءت على رأس هذه السور.. وهذا يعنى أنها مفاتح لها، يفتح بها هذا الخير الذي تحمله كل سورة فى آياتها وكلماتها من مواعظ، وأحكام.. ثم يعنى- من جهة أخرى- أنها ذات منزلة خاصة، إذ كانت وحيا مباشرا من الله سبحانه، على خلاف ما تلقى الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- من آيات ربه وكلماته، بواسطة الرسول السماوي، جبريل عليه السلام. الأمر الثاني، الذي انتظم هذه الأحرف، أنه قد أعقبها، واتصل بها،   (1) وقد عرضنا لهذا فى مبحث خاص. (انظر تفسير سورة الحج) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 93 ذكر القرآن، تنويها به، أو بيانا لما يحمل من هدى ونور، أو إشارة إلى منّة من منن الله على عباده المتقين. أو قسما بجلاله وعظمته، أو تشريفا للأدوات التي تخدم هذا الكتاب، وتعمل فى كتابته. وما ورد من الحروف المقطعة فى أوائل السور، هو قوله تعالى: «الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» . (البقرة) - «الم. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ» .. (آل عمران) - «المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» (الأعراف) .. «الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ» (يونس) .. «الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» (هود) . «الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» (يوسف) «المر، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ» (الرعد) «الر. كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ» (إبراهيم) «الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ» (الحجر) .. «كهيعص ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا» (مريم) .. «طه» ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى (طه) - «طسم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» (الشعراء) .. «طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ» (النمل) «طسم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ» (القصص) «الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ» (العنكبوت) «الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ» (الروم) . «الم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ» (لقمان) .. «يس.. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ» (يس) .. «ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ» (ص) .. «حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» (غافر) .. «حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» الجزء: 13 ¦ الصفحة: 94 (فصلت) .. «حم. عسق. كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (الشورى) .. «حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ» (الزخرف، والدخان) «حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» (الجاثية، والأحقاف) .. «ق. وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ» (ق) .. «ن.. وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ» (ن) . هذا ويلاحظ عند النظر فى هذه المفاتح.. أمور.. منها: أولا: اشتراك بعض السور فى صورة الحروف التي بدئت بها، مثل «الم» فقد بدئت بها «البقرة وآل عمران والعنكبوت والروم ولقمان» .. و «الر» التي بدئت بها سور: «يونس وهود ويوسف وإبراهيم والحجر» ، و «طسم» وقد بدئت بها سورتا «الشعراء والقصص» و «حم» التي كانت بدءا لست سور، هى: غافر، وفصلت، والزخرف، والدخان، والجاثية. والأحقاف. والسؤال هنا هو: إذا كانت هذه المفاتح، تحمل دلالات خاصة، هى سرّ بين الله سبحانه وتعالى وبين الرسول الكريم، على هذا التأويل الذي تأولناها عليه- فكيف يتفق أن تتكرر هذه المفاتح؟ وما داعية تكرارها إذا كان السر الذي تحمله، هو فى أىّ منها؟ والجواب على هذا- والله أعلم- هو، أن هذا التكرار فى صورة الحروف، لا يعنى أن تكون محامل الأسرار فيها متماثلة من كل وجه.. وقد قلنا إن هذه الحروف، هى إشارات موحية، وإيماءات دالة.. وعلى هذا، فإنه ليس من الحتم اللازم أن تتحد الإشارتان أو الإشارات فى الصورة، ثم لا يكون اختلاف فى المحتوى والمضمون.. فالكلمة مثلا تختلف دلالتها باختلاف الحال المتلبس بها، والحركة بالعين أو اليد، قد تقع على صورة واحدة ولكن مفهومها يختلف، حسب تأويل المتلقى لها.. والأحلام مثلا، تتفق فى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 95 صورتها ويختلف تأويلها.. حسب الأشخاص، وحسب الأحوال الشخص الواحد.. هذه صورة تقربنا من فهم ما نقول به، من أن الاتفاق فى صورة الحروف المكرّرة، لا يعنى الاتفاق فى دلالتها.. بل إن لكل صورة منها دلالة خاصة.. مع العلم بأن الله سبحانه قد وصف هذه الكلمات بأنها وحي، وأنها مما كلم الله به رسله، وقد قلنا إن الكلام لا يكون كلاما إلا إذا كان ذا دلالة مفهومة بين المتكلم، والمتلقى لهذا الكلام.. فكيف بكلام الله سبحانه وتعالى، وما يبلغه من موقع الفهم عند من يكرمه الله، وبكلمة بكلماته..؟ وسؤال آخر.. وهو إذا كان لكل صورة من صور هذه الحروف المكررة تأويلا خاصا، ودلالة خاصة.. أفما كان من الأولى- وفى اللغة متسع لهذا- أن يكون لكلّ دلالة صورة من اللفظ خاصة بها؟ والجواب على هذا- والله أعلم- أن هذا الاشتراك فى اللفظ والاختلاف فى المعنى، هو من مظاهر اللغة العربية التي نزل القرآن بلسانها، بمعنى أن الكلمة الواحدة قد تحمل دلالتين أو أكثر، مثل كلمة العين، التي تدل على عين الماء، والعين المبصرة. وهذا الاشتراك ليس عن قصور فى مادة اللغة، وإنما هو من بلاغة هذه اللغة وذكاء أهلها.. حيث يفرّقون فى اللفظ المشترك بين المعنى الذي تقتضيه داعية الحال، وبين المعنى الذي لا مقتضى له فى تلك الحال، كما أنهم إذ يأخذون بالمعنى المراد للفظ المشترك فى الحال الداعية له، لا يقطعونه عن المعنى أو المعاني الأخرى التي يحملها فى كيانه.. فإذا جاء القرآن الكريم مستعملا اللفظ المشترك فى تلك الحروف المقطعة- كان جاريا فى هذا على أسلوب اللغة التي نزل بها، وأنه كما جاء باللفظ المشترك الجزء: 13 ¦ الصفحة: 96 فى الوحى الموحى به بوساطة الملك السماوي، جاء كذلك فى الوحى الموحى به من عند الله سبحانه وتعالى، بغير واسطة.. والله أعلم. قوله تعالى: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ» . الإشارة هنا إلى قوله تعالى: «أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ..» أي وكما أرسل الله رسولا علويّا يوحى بإذنه ما يشاء إلى أنبيائه، كذلك أرسل هذا الرسول، إلى النبىّ الكريم، يحمل إليه من آيات ربه وكلماته، ما أذن الله سبحانه وتعالى به من وحي.. وفى هذا إشارة إلى الصورة الثالثة من صور الوحى، والتي كانت هى الصورة الغالبة على تلقّى رسول الله ما يتلّقى من وحي ربه.. أما الصورة الأخرى التي كان يتلقى فيها النبي كلمات ربه، فهى ما أشار إليه سبحانه وتعالى فى أول هذه السورة بقوله: «حم عسق كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. فالإشارة هنا، إلى هذه الأحرف المقطعة التي تلقاها النبي- صلوات الله وسلامه عليه- وحيا من ربه، دون وساطة رسول سماوى.. على ما ذهبنا إليه من تأويل لهذه الآية، والذي نرجو أن يكون على منهج الحق والصواب. والروح فى قوله تعالى: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» يحتمل دلالتين: أولاهما: الدلالة على رسول الوحى، وهو جبريل عليه السلام، فهو روح من عند الله.. كما يقول الله سبحانه وتعالى فيه: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ» (193- 194 الشعراء) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 97 وثانيتهما: الدلالة على القرآن الكريم، فهو كلام الله.. وكلامه سبحانه وتعالى روح منه. كما يقول سبحانه وتعالى عن مريم: «وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا» (12: التحريم) .. ثم يقول سبحانه عن هذه النفخة: «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ» (171: النساء) فالنفخة التي تلقتها مريم من روح الله، هى الكلمة التي ألقاها الله سبحانه وتعالى إليها.. وهذا يعنى أن القرآن روح، من روح الله، وأن الذي حمله إلى الرسول روح من روح الله كذلك.. فهو روح، يحمله روح.. وهذا يعنى من جهة أخرى، أن القرآن الكريم حياة وروح تلبس النفوس المستعدة لاستقبالها، كما تلبس الحياة والأرواح الأجساد، بعد أن يتم تكوينها، وتصبح مهيأة لاستقبالها.. وكما أن كل جسد يلبس من الأرواح بقدر ما هو مستعدّ له، كذلك النفوس، يفاض عليها من روح القرآن، على قدر ما هى مستعدة له، ومهيأة لقبوله.. وقوله تعالى: «ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ» - هو بيان لحال النبي قبل أن يتلقى رسالة السماء، وما تحمل إليه من كلمات ربه.. وأنه- صلوات الله وسلامه عليه- لم يكن قبل هذا التلقي يدرى شيئا عن هذا الكتاب، أي القرآن الذي تلقاه من ربه.. كما يقول الله سبحانه: «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ» (3: يوسف) وفى قوله تعالى: «وَلَا الْإِيمانُ» - ما يسأل عنه، وهو: ما الإيمان الذي كان لا يعرفه النبي قبل النبوة؟ وعلى أي دين كان يدين؟ ولا شك أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- كان على دين الفطرة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 98 وهو دين إبراهيم عليه السلام.. فقد كان- صلوات الله وسلامه عليه- مؤمنا بإله واحد، قائم على هذا الوجود، متفرد بالخلق والأمر.. أما ما لم يكن يعرفه النبي من الإيمان، فهو ما يتصل بالشريعة التي تتصل بهذا الإيمان، والتي جاء القرآن الكريم مبيّنا لها.. فالإيمان: قول، وعمل.. عقيدة، وشريعة.. وقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يعرف الجانب العقيدى، ويتعبد لله عليه، قبل البعثة.. أما الجانب التشريعي، فلم يكن يعلم منه شيئا إلى أن تلقاه وحيا من ربه، فى أحكام الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وفيما أحل الله، أو حرم.. فنفى علم النبي بالإيمان قبل الوحى، ليس على إطلاقه، وإنما هو نفى لتمام العلم بالإيمان كله، عقيدة وشريعة.. قوله تعالى: «وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا» .. الضمير فى جعلناه، يعود إلى الروح الموحى به من أمر الله، أو إلى الكتاب.. وفى قوله تعالى: «جَعَلْناهُ نُوراً» - إشارة إلى ما يحمل القرآن من هدى ونور، يكشف معالم الطريق إلى الله.. وفى قوله تعالى: «نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا» - إشارة أخرى إلى أن هذا النور، لا يهتدى به إلا من شاء الله سبحانه وتعالى له الهداية من عباده، فهو رزق من رزق الله، «وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ» وفى قوله سبحانه: «وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» - إشارة ثالثة إلى أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- هو نور من هذا النور، وأنه معلم من معالم الحق، يهدى إلى الحق، وإلى طريق مستقيم، وذلك فى سنته القولية والعملية.. وهذا يعنى أن السنة المطهرة- قولية وعملية- هى من هذا النور السماوي. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 99 وقوله تعالى: «صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» هو بدل من «صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» - أي أن هذا الصراط المستقيم الذي يهدى إليه الرسول من شاء الله سبحانه وتعالى لهم الهداية من عباده- هذا الصراط، هو صراط الله، ودينه القويم، الذي رضيه لعباده، كما يقول سبحانه: «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» (153 الأنعام) وقوله تعالى: «أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ» تعقيب على ما تقرر فى قوله تعالى: «الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» وهو أنه سبحانه- بما له من سلطان مطلق فى هذا الوجود كله، فى أرضه وسمائه- يردّ إليه كل أمر، ويرجع إليه كل شىء.. فلا يقع أمر إلا يإذنه، وعلمه وتقديره. «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» .. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 100 43- سورة الزخرف نزولها: مكية.. إجماعا. عدد آياتها: تسع وثمانون آية. عدد كلماتها: ثمانمائة وثلاث وثلاثون.. كلمة. عدد حروفها: ثلاثة آلاف وأربعمائة.. حرف: مناسبة السورة لما قبلها جاء فى أول سورة الشورى: «حم، عسق كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. وقد قلنا فى تأويل هذه الآية: إن الوحى المشار إليه هنا، هو الوحى بتلك الحروف المقطعة، التي هى من كلام الله سبحانه وتعالى، لنبيه الكريم، من غير وساطة ملك، وإن هذا الوحى هو أشبه بالرمز والإشارة، بحيث لا يفهم ماوراء الرمز والإشارة إلا الرسول صلى الله عليه وسلم.. ثم جاء قوله تعالى: فى أول سورة الزخرف هذه: «حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» فكان فى هذا إشارة إلى ما يوحى إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- من آيات الله وكلماته، عن طريق الرسول السماوي، جبريل عليه السلام، مع ما تلقاه وحيا مباشرا من ربه.. وهذا الوحى به عن هذا الطريق، - طريق الرسول السماوي- هو الذي يشارك أهل اللسان العربي، النبىّ- صلى الله عليه وسلم- فى فهم دلالات ألفاظه، ومعانى آياته، لأنه بلسانهم الذي يتكلمون به، وبألفاظهم التي يتعاملون بها.. فليس إذن كلّ القرآن من هذا الوحى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 101 الرمزى، الذي اختصّ النبي- صلوات الله وسلامه عليه- بفهمه والعمل به، دون أن يطالب غيره من المؤمنين بالبحث عن دلالته، وإن كانوا مطالبين بالتعبد بتلاوته. ومن جهة أخرى، فإنه قد جاء فى ختام سورة الشورى: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ» .. ثم كان قوله تعالى فى مفتتح سورة الزخرف: «إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ» - بيانا لهذا النور، الذي يهدى إلى صراط الله، وهو أنه قرآن كريم، بلسان عربى مبين، وأنه بهذا اللسان هو نعمة جليلة أنعم الله بها على العرب، الذين كان معهم وحدهم مفاتح الطريق إلى هذا النور، وكان إليهم قيادة الناس جميعا إلى الهدى.. ثم كان قوله تعالى بعد ذلك: «أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ» - تهديدا لهؤلاء الذين جعل الله إلى أيديهم مفاتح هذا النور أن يصرف عنهم هذا العطاء الجزيل، إذا هم لم يقبلوه، ويحسنوا الانتفاع به.. وبهذا، وبكثير غيره مما سنراه عند وقوفنا بين يدى هذه السورة، نجد التآخى بين السورتين، ذلك التآخى الموصول بين آيات القرآن كلها، وسوره.. آية آية، وسورة سورة.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 102 بسم الله الرحمن الرّحيم الآيات: (1- 8) [سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) التفسير: قوله تعالى: «حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ» . ورد هذا المقطع: «حم» بدءا لست سور من القرآن الكريم، هى: غافر، وفصلت، والزخرف، والدخان، والجاثية، والأحقاف.. وهذا الاتفاق فى اللفظ- كما قلنا- لا يلزم منه الاتفاق فى المحتوى والمضمون، الذي ينكشف للنبى منها.. فهذه الأحرف، هى رمز وإشارة إلى معان وأمور يعرفها النبي، على حين تظل هذه المعاني وتلك الأمور، غيبا لا يعلمه إلا هو، والراسخون فى العلم من أمته. وقوله تعالى: «وَالْكِتابِ الْمُبِينِ» .. معطوف على قوله تعالى: «حم» المقسم به.. وبين المتعاطفين، اختلاف، واتفاق.. فهما مختلفان: لأن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 103 أحدهما رمز وإشارة، وهو «حم» والآخر، كلام بيّن القصد، واضح الدلالة، وهو «الْكِتابِ الْمُبِينِ» .. وهما متفقان لأنهما- الخفي والجلى- كلاهما من عند الله، ومن كلام الله.. هذا، وأوثر أن أفهم قوله تعالى: «فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» (38- 43: الحاقة) - أوثر أن أفهم القسم بما يبصرون وما لا يبصرون، على أن ما يبصرون، هو ما تتضح لهم دلالته من ألفاظ القرآن، وما لا يبصرون، هو ما لا يرون له دلالة أصلا، وهى تلك الحروف المقطعة، وقد أقسم الله سبحانه وتعالى بهما معا، كما جاء القسم فى قوله تعالى: «حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ» وفى أمثالها.. فهو قسم بالخفّى والظاهر من آيات الله.. ثم إنه ليس هذا بالذي يمنع أن يشمل القسم، ما يبصرون وما لا يبصرون، من آيات الله القرآنية والكونية.. على السواء.. ومما يستأنس به فى هذا المقام، أنه قد جاء بعد هذا القسم، نفى صفة الكهانة عن الرسول الكريم، وأن ما يقوله من ألفاظ لا يفهمون دلالتها- كهذه الحروف المقطعة- ليس هو من قبيل كلام الكهان الذي يجىء كله رموزا، وطلاسم، وإنما هو قول رسول كريم، تلقاه وحيا منزلا من رب العالمين. قوله تعالى: «إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» . أي أن الله سبحانه، وتعالى قد أكرم هذه الأمة العربية، ببركة هذا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 104 النبىّ الذي هو صفوة خلق الله، فجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، وجعل لغتها هى اللغة التي تحمل دين الله كاملا، وهو الإسلام، فجاء القرآن الكريم بلغة العرب، ليكون لهم حظّهم الكامل منه، وليكونوا هم أول من يقطف من كرمه، ويطعم من ثمره.. وفى قوله تعالى: «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» - إشارة إلى الحكمة من جعل القرآن الكريم قرآنا عربيا، وهى لكى يتمكن العرب من الاتصال به، وإدراك معانيه، وعقلها، حتى يفيدوا منه، وينتفعوا بما فيه من خير.. وهذا يعنى أن العقل هو الوسيلة التي يتوسل بها إلى الإفادة من القرآن، وأن من يجىء إليه متخليا عن عقله، غير متدبر لآياته، لا ينال من خيره شيئا.. قوله تعالى: «وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ» . هو وصف للقرآن الكريم، وأنه مودع فى أم الكتاب عند الله، وحسبه بهذا علوّا وشرفا، وإنه علىّ فى ذاته، حكيم فى أحكامه، ومن شأن من يتصل به أن يستعلى بإنسانيته عن مستوى أهل الجهالة والضلال، وأن يتزيّا بزىّ الحكمة، التي هى العقل المتحرر من الأوهام والخرافات، المستنير بنور العلم والمعرفة.. وقد وصف القرآن الكريم هنا بصفتين من صفات الله سبحانه وتعالى، هما، العلىّ والحكيم.. لأن القرآن كلام الله، من صفات الله.. فكل ما لله سبحانه وتعالى من صفات الكمال، هو لكل صفة من صفاته.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 105 هذا هو القرآن الذي يدعى العرب إلى تعقله، وتدبره، والحياة معه بعقولهم وقلوبهم..فماذا كان منهم إزاء هذه الدعوة؟ لقد تلبّثوا كثيرا، ووقفوا طويلا على حال من التردد بين الإقدام والإحجام، حتى إذا تبخرت سحب الضلال المتكاثفة حولهم، تحت أشعة هذه الشمس الطالعة فى سمائهم- صحوا صحوة مشرقة، اهتزت لها أنفسهم من أقطارها، فاندفعوا وراء راية القرآن، اندفاع السيل الهادر، وقد اكتسح بقوته ما بين يديه من حواجز ومعوقات. قوله تعالى: «أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ» . هو استفهام يحمل التهديد لهؤلاء المشركين من العرب، الذين لم يلتفتوا إلى هذا القرآن الذي بين أيديهم، ولم يمدّوا أيديهم إلى تناول قطوفه الدانية-فماذا يظنون؟ أيحسبون أن هذا الخير سيظل محبوسا على قوم لم يربدوه، وهناك نفوس كثيرة تشتهيه، وتنتظر حظها منه؟ إنهم إن لم يبادروا إلى هذا الخير، ويمسكوا به، فإنه يوشك أن يتحول عنهم، وإذا هم إن طلبوه وجدوا غيرهم قد سبقهم إليه، وأخذ مقام الصدارة التي كان من شأنها أن تكون لهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ» (38: محمد) والذكر: هو القرآن الكريم.. وضرب الذكر عنهم صفحا: صرفه عنهم.. أي تحوّل القرآن الكريم عنهم، وتنحيته جانبا.. وصفحة الوجه، وصفحة السيف: جانبه، وكذلك الصفحة من كل شىء.. وفى التعبير عن صرف القرآن عن المشركين، وتحوله عنهم- فى التعبير عن هذا بضربه عنهم- إشارة إلى أن القرآن الكريم متجه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 106 إليهم، راغب فى الاتصال بهم، والحياة معهم، وأنه لا يتحول عنهم إلا مكرها.. وهذا يعنى أن هذه النعمة لا تتحول أبدا عن الأمة العربية لأن القرآن لا يضرب أبدا، لمقامه العظيم عند الله، ولأنه صفة من صفاته جل وعلا، وأنه إذا كان هؤلاء المشركون قد استقبلوا القرآن الكريم هذا الاستقبال العدائى، فإنه سيجد منهم آخر الأمر، الأمة التي تحتفى به أعظم احتفاء، وتنزله من نفسها أكرم منزل.. وهذا هو بعض السر فى التعبير بضرب الذكر عنهم صفحا، أي جانبا.. بمعنى أنه لا ينصرف عنهم انصرافا كاملا، بل ينصرف عنهم بجانب منه، أشبه بالمغاضب، الذي يريد العتبى ممن أغضبه، وينتظر مصالحته..! وقد صالح العرب القرآن، وأعتبوه، وأدّبوا المتطاولين عليه، وقتلوا من أجل ذلك أبناءهم، وآباءهم، وإخوانهم، وباعوا أنفسهم بيع السماح لله، فى سبيل نصرة دين الله الذي جاء به.. وفى الاستفهام بقوله تعالى: «أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً» إنذار وتنبيه، يشعر بالحرص على هداية هؤلاء المشركين، مع أنّ إسرافهم فى الضلال والعناد، كان يقضى بأن يصرف القرآن عنهم، من غير إنذار، أو إعذار! قوله تعالى: «وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» هو عزاء للنبى- صلوات الله وسلامه عليه- وتسلية له مما يلقى من تأتى قومه عليه، وسخريتهم منه، واستهزائهم به.. فهو- صلوات الله وسلامه عليه- ليس بدعا من الرسل فى هذا الذي يناله من قومه من أذى.. فهذا شأن أنبياء الله ورسله جميعا مع أقوامهم: «وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» . «وَكَمْ» هنا خبرية، يراد بها التكثير.. أي ما أكثر ما أرسلنا من نبى فى الأولين، أي السابقين.. فكانت حالهم أنهم لا يلقون النبي المرسل إليهم إلا بالاستهزاء، والتحدّى، والأذى.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 107 قوله تعالى: «فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ» . هو تهديد، ووعيد للمشركين، فقد أهلك الله المكذبين بالرسل من قبلهم، وقد كانوا أشد منهم قوة وبطشا.. فهل ينتظر هؤلاء المشركون إلا أن يحل بهم ما حل بالظالمين المكذبين من قبلهم؟ أم أنهم أخذوا على الله عهدا أن يكونوا بمنجاة من عذاب الله؟. وقوله تعالى: «وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ» - أي مضى المثل الذي يرى فيه المشركون العبرة والعظة، وهو ما حدثهم به القرآن الكريم من مصارع القوم الظالمين، كقوم نوح، وعاد، وثمود، وأصحاب مدين، وقوم لوط..! كما يقول الله سبحانه: «فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ.. فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً.. وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ.. وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ.. وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا.. وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» (40: العنكبوت) الآيات: (9- 19) [سورة الزخرف (43) : الآيات 9 الى 19] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 108 التفسير: قوله تعالى: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ» أي أن هؤلاء المشركين يختانون أنفسهم، ويخادعون عقولهم، فهم- مع علمهم بأن الله سبحانه هو خالق هذا الوجود، والقائم عليه- لا يقيمون أنفسهم على هذا العلم، ولا يأخذون به، بل يتبعون أهواءهم، ويتجهون مع الريح التي تهبّ عليهم من أهوائهم.. فلو سألهم سائل: «مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟» لقالوا فى غير تردد: خلقهن الله.. ثم إنهم من جهة أخرى لا يعطون الخالق ما ينبغى له من صفات الكمال والجلال، والتفرد بالخلق والأمر، بل يجعلون له أندادا وأعوانا، وينسبون إليه بنين وبنات.. بغير علم.. وفى قوله تعالى: «الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ» - إشارة إلى ما ينبغى أن يكون عليه الإقرار الصحيح منهم، بعد أن أقروا بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض.. فإن الذي خلق السموات والأرض، ينبغى أن يكون عزيزا متفردا بالعزة، فلا يحتاج إلى معين من صاحبة أو ولد، ولا يدخل على عزته ضيم بمشاركة شريك.. كما ينبغى أن يكون عليما محيطا علمه بكل شىء.. «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ؟» (14: الملك) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 109 فقوله تعالى: «خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ» - هو- وإن لم يكن مما نطق به القوم مقالا، فقد نطقوا به حالا والتزاما.. فإن إقرارهم بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض، يقضى بأن يكون لله العزة المطلقة، والعلم الشامل. قوله تعالى: «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» هو إلفات لهؤلاء المشركين، وهم فى موقف الاعتراف الملجئ لهم، إلى القول بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض- إلفات لهم إلى أن الله الذي خلق السموات والأرض، هو الله الذي جعل لهم هذه الأرض مهدا، أي موطنا ممهدا، كأنه المهد الذي يهيأ للوليد ساعة يولد، حيث يقوم على هذا المهد من يرعى هذا الوليد، ويسهر على راحته. فهذه الأرض هى المهد الذي يحتوى الناس، والذي تحفه عناية الله ورعايته، بما يمدهم به- سبحانه- من نعمه، وما يفيض عليهم من فضله، وأنه لولا هذه الأمداد لم يكن للناس حياة.. وفى قوله تعالى: «وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» - إشارة إلى بعض هذه النعم التي أنعم الله سبحانه بها على الناس، وهم فى هذا المهاد الممهّد.. فمن هذه النعم، تلك السبل، وهذه المسالك التي فى البر وفى البحر، والتي بها يعرفون وجوه الأرض، وينتقلون من مكان إلى مكان دون أن يضلوا.. فهم يضربون فى كل وجه من وجوه الأرض، ثم يعودون إلى مواطنهم، كما تعود الطير آخر النهار إلى أعشاشها.. قوله تعالى: «وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ» . أي ومن نعم الله العزيز العليم، هذا الماء الذي ينزله من السماء بقدر الجزء: 13 ¦ الصفحة: 110 وحساب، حسب علمه وحكمته.. وهذا الماء المنزل من السماء، هو الذي يبعث الحياة فى كل حى، ويمسك الحياة على كل حى.. وفى قوله تعالى: «فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً» إشارة إلى أن هذه البلاد العامرة، بما تزخر به من عوالم الحياة من نبات، وحيوان، وإنسان- هذه البلاد، قد كانت مواتا، لا أثر للحياة فيها، شأنها فى هذا شأن المقابر.. فلما نزل هذا الماء بقدرة القادر وتقديره، دبّت الحياة فى الأرض الموات، وقامت المدن والقرى، وهذا هو بعض السر فى قوله تعالى: «فَأَنْشَرْنا» الذي يشير إلى أن هذه البلاد العامرة نشرت من عالم الموات، وأنها كانت مطوية فى التراب فنشرها الله، وأخرج منها هذه الحياة الدافقة.. وقوله تعالى: «كَذلِكَ تُخْرَجُونَ» - إشارة إلى أن بعث الموتى من القبور، هو صورة من هذا النشور، الذي نشرت به الحياة فى الأرض الموات.. وفى وصف البلدة بأنها ميتة، إشارة إلى أن هذا الموت يحوى فى كيانه حياة، ولكنها حياة ميتة، وستظل هكذا ميتة إلى أن يأذن الله لها بالحياة والنشور، بما ينزل من السماء من ماء فتحيا به الأرض بعد موتها.. وفى إفراد البلدة، وتنكيرها- إشارة إلى الوقوف بالنظر عند بلدة واحدة من تلك البلاد القائمة، حتى تستخلص منها العبرة والعظة، من غير أن يتشتت النظر ويتوزع فى كل بلد.. فإذا وقعت للإنسان العبرة والعظة فى البلد الواحد، كانت كل بلدة بعد هذا، هى هذا البلد.. فهى أولا بلدة، ثم هى بعد ذلك بلاد كثيرة، تشمل ما وقع عليه النظر وما لم يقع!. قوله تعالى: «وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 111 ما تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ» . أي ومن نعم الله العزيز العليم، كذلك، أنه خلق الأزواج كلها، من جميع ما على الأرض من مخلوقات، من عوالم النبات، والحيوان، والإنسان- فهذه المخلوقات كلها متزاوجة من ذكر وأنثى، وهى بهذا التزاوج تتوالد فتتكاثر، كما يتوالد ويتكاثر الإنسان.. وبهذا يعتدل ميزان الحياة بين الأحياء، ويكون تكاثر النبات والحيوان فى البر والبحر مكافئا لتوالد الإنسان وتناسله، وبهذا يجد الإنسان كفايته مما على الأرض. وفى قوله تعالى: «وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ» - إشارة إلى ما سخر الله سبحانه للإنسان من أدوات الركوب، فى البر والبحر، والتي بها ينتقل الإنسان من مكان إلى مكان لم يكن ليبلغه مشيا على رجليه إلا بشق النفس. وقوله تعالى: «لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ» . الضمير فى ظهوره يعود إلى الاسم الموصول «ما» أي لتستووا على ظهور ما جعل الله لكم من الفلك والأنعام من أدوات حمل وركوب. والاستواء على الظهور، هو التمكن منها، والاقتدار عليها، واقتيادها من زمامها إلى الوجهة التي يريدها الإنسان.. ففى قوله تعالى: «وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ» - إشارة إلى أن هذا الجعل يحمل معه تذليل هذه المخلوقات وتسخيرها للإنسان، وأنه لولا هذا لما كان للإنسان أن ينتفع بها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 112 «وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ» (32: إبراهيم) أي ذللها لتجرى بسلطانه لا بسلطانكم عليها.. كما يشير إليه قوله تعالى: «ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ» أي ما كنا قادرين على قيادة هذه المخلوقات، التي هى أقوى قوة منا، لولا أن سخرها الله سبحانه وتعالى لنا، وملّكنا أمرها، والتصرف فيها.. فاللام فى قوله تعالى: «لِتَسْتَوُوا» هى لام التعليل الكاشفة عن العلة التي من أجلها سخر الله هذه المخلوقات.. فقد سخرها سبحانه ليستوى الإنسان على ظهورها، ويملك تصريفها حيث يشاء.. وفى العطف بثم فى قوله تعالى: «ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ» - إشارة إلى أن ذكر هذه النعمة، إنما يكون على أتمه وأكمله، حين يكون الإنسان متلبسا بها، معايشا لها، مستظلا بظلها، طاعما من ثمرها.. عندئذ يكون إحساسه بهذه النعمة كاملا، ويكون ذكر المنعم بها قائما على شعور مدرك، يقدّر هذه النعمة، ومالها من أثر بالغ فى الحال التي هو فيها مع هذه النعمة، فيجد لذلك قلبا منشرحا، ولسانا رطبا طلقا، يسبح بحمد الله، ويشكر له.. ولهذا جاء العطف بالحرف «ثم» الذي يفيد التراخي، والذي يشير إلى أن الإنسان إذا غفل عن ذكر الله، والنعمة غائبة عنه، فإنه لا ينبغى أن يغفل والنعمة حاضرة بين يديه، يعيش فيها وينعم بها.. قوله تعالى: «وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ» . معطوف على قوله تعالى: «وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا» .. فهو من مقول القول.. أي وتقولوا.. إنا إلى ربنا لمنقلبون.. أي راجعون إليه، بعد رحلتنا فى هذه الحياة الدنيا.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 113 وذكر الرجوع إلى الله فى هذا المقام، هو أنسب الأوقات الداعية إليه، حيث المشابهة قوية بين هذه الرحلة التي يقطعها الإنسان على ظهر السفينة أو الدابة، ثم يعود بعدها إلى مستقره، الذي خرج منه. فكذلك الحياة الدنيا، هى رحلة بدأها الإنسان من يوم أن كان له وجود فيها، هذا الوجود الذي خرج من عالم قائم وراء هذه الدنيا، ثم لا يلبث أن يعود من حيث بدأ إلى هذا العالم الذي خرج منه. «إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى» (8: العلق) قوله تعالى: «وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ» . هو معطوف على محذوف، هو جواب لسؤال مقدر، وهو: ماذا كان من أمر المشركين إزاء هذه النعم التي بين أيديهم؟ وهل قالوا ما هو مطلوب منهم وهذا المقام، من ذكر الله، والتسبيح بحمده، حين استووا على ظهور هذه الأدوات المسخرة لهم؟ وكان الجواب: إنهم لم يقولوا هذا، بل استقبلوا تلك النعم بالجحود والكفران.. فلقد جعل سبحانه وتعالى لهم من الفلك والأنعام ما يركبون، وجعلوا هم له من عباده جزءا، بأن أشركوا به، وأضافوا إليه معبودات أخرى يعبدونها معه، ونسبوا إليه الولد.. وهذا ضلال عظيم، وكفران مبين، إذ كيف يكون المخلوق بعضا من الخالق؟ وكيف يكون الله أبعاضا، وأجزاء فالولد بضعة من أبيه، وفلذة من أفلاذه!. قوله تعالى: «أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ؟» . استفهام إنكارى، يكشف عن ضلال المشركين، وفساد منطقهم.. فإنهم- وفد أراهم ضلالهم المبين أن ينسبوا الولد إلى الله- استغواهم الغى، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 114 فنزلوا بقدر الله سبحانه عن أن يكون مساويا لهم، فجعلوا لله البنات، وجعلوا لهم هم البنين وقالوا إن الملائكة بنات الله، ولم يروا أن يكون هؤلاء الملائكة ذكورا.. وهذا منطق سقيم إذ كيف يكون الذكور والإناث من خلق الله، ثم يكون لهم هم أن يختاروا ما يشتهون منها، ويدعون لله ما لا يشتهون؟ «أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟ ما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» (153: 154 الصافات) . «لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ.. سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4: الزمر) . قوله تعالى: «وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ» هو تسفيه للمشركين، ولقسمنهم تلك الجائرة. إنهم لا يرضون أن يكون البنات ممن يولد لهم فإذا ولد لأحدهم أنثى امتلأت نفسه غمّا وكمدا.. فكيف ينسب إلى الله من هو- حسب تقديرهم هدا- مصدر همّ وغم؟ أهذا أدب مع الله، عند من يعترف بوجود لله؟ إنهم لو أنكروا الله أصلا، ولم يعترفوا بوجوده، لكان لذلك منطق عندهم أما أنهم يعترفون بالله، ثم ينزلونه من أنفسهم هذه المنزلة التي لا يرضونها لأنفسهم، فذلك هو الضلال المبين، الذي لا يمكن أن يقام له منطق، حتى من الضلال نفسه! وفى قوله تعالى: «بُشِّرَ أَحَدُهُمْ» إشارة إلى أن «بِالْأُنْثى» نعمة من نعم الله، وأن ورودها على لإنسان من البشريات المسعدة، التي من شأنها أن تشرح الصدر، وتسر القلب. ولكن القوم لجهلهم وضلالهم، يضيقون بهذه النعمة، ويشقون بلقائها. وقوله تعالى: «بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا» - إشارة إلى ما نسبه المشركون الجزء: 13 ¦ الصفحة: 115 إلى الله من ولد، حين جعلوا الملائكة بنات الله، وأن هذه النسبة من شأنها أن تجعل تماثلا بين الله، وبين خلقه. إذ كان الوالد والأولاد على صورة متشابهة أو متقاربة، أو متماثلة.. جنسا، وهيئة، ولونا، وشكلا.. قوله تعالى: «أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ» . ينشأ: يربى، ويشبّ، ويكبر.. والحلية: الزينة، وما يتحلّى به من حلى، وثياب.. وهذا من شأن النساء غالبا.. والآية تنكر على المشركين- فى أسلوب استفهامى- أن يجعلوا لله سبحانه الجانب الضعيف، من المخلوقات وهو جانب الأنوثة، على حين يجعلون لأنفسهم الجانب القوى، وهو جانب الذكورة.. إذ المعروف فى عالم الأحياء، أن الذكر أقوى من الأنثى، وأشدّ بأسا، فى مجال الصراع والخصام.. والمراد بالإبانة فى قوله تعالى: «وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ» الكشف والتجلية والإفصاح عن القوة، حين تدعو دواعيها، وتعرض فى مجال الامتحان. والآية معطوفة على قوله تعالى: «أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ» .. أي أم اتخذ ممن ينشأ فى الحلية وهو فى الخصام غير مبين، وترك لكم أن تتخذوا من تجعلون منهم فرسان قتال وأبطال حروب؟. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 116 قوله تعالى: «وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ» . هو معطوف على قوله تعالى: «وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ» . وهو بيان شارح للعباد الذين جعلهم المشركون جزءا من الله، فهذا الجزء هو الملائكة، وقد جعلوا هؤلاء الملائكة إناثا.. فالمشركون يعملهم هذا، قد اقترفوا جرما غليظا، يضم فى كيانه ثلاث جرائم: نسبة الولد إلى الله، وجعل أولاد الله إناثا، ووصف الملائكة بأنهم إناث.. وكل هذا زور وبهتان.. لا منطق له من العقل، ولا مستند له من الكتاب. وقوله تعالى: «أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟» إنكار لهذا القول الذي يقوله المشركون فى الملائكة، إذ قالوه بغير علم.. إنهم لم يشهدوا خلقهم حتى يعلموا من أمرهم شيئا يقولونه فيهم.. وقوله تعالى: «سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ!» تهديد ووعيد للمشركين وأنهم سيحاسبون على هذا القول الذي يقولونه فى الملائكة، والذي سيكتب على أنه شهادة منهم فى هذا الأمر.. وإذ كانت تلك الشهادة زورا، فإنهم سيماقبون عليها عقاب شاهد الزور! الآيات: (20- 25) [سورة الزخرف (43) : الآيات 20 الى 25] وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 117 التفسير: قوله تعالى: «وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» .. هو معطوف على جرائم المشركين التي عرضتها الآيات السابقة.. وجريمتهم هنا أنهم يذهبون مذهب السفسطة، والمماحكة، فيعترفون بأن الله سبحانه مشيئة عامة غالبة.. وهذا حق، ولكنه حق أرادوا به باطلا، فجعلوا عبادتهم الملائكة مشيئة لله فيهم، وأن الله لو شاء لهم أن يعبدوا غيرها لعبدوه.. فهم- والحال كذلك- قائمون على أمر الله، غير خارجين على مشيئته.. وهذا مكر سيىء منهم، ولا يحيق المكر السيّء إلا بأهله.. ونعم إن لله سبحانه وتعالى كلّ شىء.. وإنهم لن يملكوا مع الله نفسا يتنفسونه إلا بأمره ومشيئته.. ولكن أين مشيئتهم هم؟ أليست لهم مشيئة عاملة، يأخذون بها الأمور أو يدعونها؟ إنهم لو عطلوا مشيئتهم فى كل أمر لكان لهم أن يقولوا هذا القول.. ولكنهم إذا حضرهم الطعام مدوا أيديهم إليه، وأخذوا منه ما يسد جوعهم، فإذا شبعوا رفعوا أيديهم عنه.. فلم يمدّون أيديهم إلى الطعام، ولا يقولون لو شاء الله أن نأكل لأكلنا؟ هذه أقرب الجزء: 13 ¦ الصفحة: 118 صورة من صور مشيئتهم، إلى ما لا يحصى من السور التي تتحرك فيها تلك المشيئة، فى أقوالهم وأفعالهم.. فكيف يجعلون أفعالهم الضالة وأقوالهم المنكرة من مشيئة لله، ولا يجعلون لمشيئتهم وجودا هنا، مع أنها موجودة فى كل حال معهم؟ إن ذلك- كما قلنا- مكر بالله، وتبرير لكل جناية يجنونها على الناس أو على أنفسهم.. ومن جهة أخرى، فإن هؤلاء الغواة الضالين لو جروا على منطقهم الذي يجعلون به لله سبحانه وتعالى مشيئة عامة شاملة، لكان مؤدّى هذا أن بعبدوا الله وحده، وأن يتبرءوا من كل شريك له، إذ كان سبحانه، صاحب السلطان المطلق، والمشيئة النافذة.. وإنه لضلال سفيه أن يعبد المرء من لا سلطان له ولا مشيئة، ويدع صاحب السلطان، ورب المشيئة! ولكن هكذا يزيّن الضلال لأهله سوء أعمالهم، فيرونها حسنة.. وفى هذا يقول الله سبحانه على لسان أهل الضلال: «سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ» (148: الأنعام) ويقول سبحانه على لسانهم كذلك: «أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ؟» (47: يس) . وقوله تعالى: «ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ» .. الإشارة بذلك إلى هذا القول الذي يقولونه باطلا وزورا، ويضيفون فيه عبادتهم الملائكة إلى مشيئة الله.. فهذا الذي يقولونه لا علم لهم به.. لأنهم لا يعلمون ما هى مشيئة الله، ولا يقدرونها قدرها، فهم إذا أساءوا، ووضعوا موضع المساءلة والحساب قالوا هذا من مشيئة الله فينا، وإذا كانوا فى عافية من أمرهم، لم يلتفتوا إلى هذه المشيئة، ولم يضيفوا إليها شيئا مما هم فيه، بل جعلوه من كسب أيديهم، كما قال قارون: «إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي» (78: القصص) .. وكما يقول الجزء: 13 ¦ الصفحة: 119 الضالون فيما ذكره الله تعالى على لسان كل ضال: «وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي» (9- 10: هود) وقوله تعالى: «إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» توكيد لجهل القوم وضلالهم، وسفاهة منطقهم فيما يقولون عن مشيئة الله.. فهو قول لا مستند له من علم، أو عقل، وإنما هو قائم على الوهم والتخمين.. «إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» أي ما هم إلا يخرصون، أي يرجمون بالغيب.. وإن من يبنى معتقده، ويقيم دينه على مثل هذه الأوهام والظنون، لا يصل إلى حق أبدا، والله سبحانه وتعالى يقول: «قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ» (10- 11: الذاريات) . قوله تعالى: «أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ» . هو معطوف على قوله تعالى: «ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ» أي ليس عندهم بما يقولون علم ذاتىّ، اهتدوا إليه بعقولهم، ولا علم من كتاب آتاهم الله إياه، قبل هذا الكتاب الذي يتلوه عليهم رسول رب العالمين.. فالمراد بالاستفهام هنا، النفي.. قوله تعالى: «بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ» أي إنه ليس لهم علم من ذات أنفسهم، ولا من كتاب جاءهم قبل هذا الكتاب، وإنما كل ما عندهم، هو ضلال ورثوه عن آبائهم، وقالوا لمن يسألهم عن دينهم الذي يدينون به، ويعبدون عليه الملائكة من دون الله، على اعتبار أنهم، بنات الله- قالوا: «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ» أي على دين.. فالأمة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 120 فى اللغة تجىء بمعنى الدين، حيث تجتمع الجماعة عليه، وتكون أمة تنتسب إليه، كما تنتسب بقومينها، فكما يقال الأمة العربية، يقال كذلك الأمة الإسلامية.. يقول النابغة الذبياني: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع؟ أي وهل يحلفنّ كاذبا متأثما من كان ذا دين؟ وفى قوله تعالى: «وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ» - إشارة إلى ما بلغ بهم استسلامهم لموروثات آبائهم من ثقة، فيما ورثوه عنهم، فتلقوه فى اطمئنان، دون أن ينظروا فيه بعقولهم، وأن يكشفوا عما فيه من حق أو باطل.. وإن هذا لا يكون إلا من سفيه أحمق، يعطل عقله، ويزهد فيه، ويسترخصه، فلا يعيش إلا من هذا الغذاء الذي هو فضلة مما ترك الآكلون، وقد تعفّن وفسد!! فهل هذا شأنهم مع ما ورثوا عن آبائهم من أموال ومتاع؟ ألم يقلّبوا هذه الأموال والأمتعة بين أيديهم؟ ألم يطرحوا منها ما هو غير صالح؟ ألم يأخذوا الصالح منها، ويعملوا على الإفادة منه؟ فما بالهم مع ما تلقوا عن آبائهم من عادات ومعتقدات هى مما يتصل بعقولهم، - ما بالهم قد قبلوه على علاته، وأخذوه دون نظر فيه: «أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ؟ (170: البقرة) قوله تعالى: «وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ» . أي ليس هذا شأن هؤلاء المشركين وحدهم، بل هو شأن أهل الضلال جميعا فى الأمم السابقة، ما جاءهم من نذير إلا تلقوه بهذا القول الضالّ المضلّ: «إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ» ! وهكذا يقيم الضلال له مجرّى آسنا، يتوارد عليه من منبعه إلى مصبّه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 121 أصحاب العقول السقيمة، والنفوس الخبيثة، كما يسقط خسيس الطير على الجيف. واختصاص المترفين بالذكر هنا، لأنهم هم الذين يقومون دائما فى وجه كل دعوة تخرج بالنّاس عما هم فيه من حال إلى حال، فإن هذا التحول يؤذن أهل الترف والغنى بأن يخرجوا عما هم فيه.. ومن هنا كان أكثر الناس حربا وأشدهم عداوة لدعوات الإصلاح، هم أصحاب المال، والجاه والسلطان، حيث لا يريدون تحوّلا عن حالهم التي هم فيها. قوله تعالى: «قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ؟ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ» . أي أنه إذا جاء الرسول، يحاجّ هؤلاء المترفين، ويردّ عليهم قولهم هذا الذي يقولونه عن موروثاتهم من آبائهم، فقال لهم: «أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ؟» أي أنظلّون ممسكين بهذا الذي ورثتموه عن آبائكم، ولو دعوتكم إلى ما هو خير منه طريقا، وأهدى سبيلا؟ - فلا يتلقى الرسول منهم إلّا إصرارا على ما هم فيه، وإلّا كفرا وتكذيبا بما يدعوهم إليه.. وفى مخاطبة الرسول لهم فردا، وردّهم على الرسل جمعا- فى هذا إشارة إلى أن هذا هو الجواب الذي تلقاه الرسل جميعا من المترفين من أقوامهم. قوله تعالى: «فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ» . هو إنذار لهؤلاء المشركين، وتهديد لهم بأن يلقوا ما لقى المكذبون قبلهم من نقمة الله، ومن عذابه فى الدنيا والآخرة.. وفى هذا وعد كريم للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- بالنصر والتأييد. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 122 الآيات: (26- 35) [سورة الزخرف (43) : الآيات 26 الى 35] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) التفسير: قوله تعالى: «وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ» . مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الله سبحانه قد ذكر فى الآيات السابقة ما كان من الأقوام السابقين من تكذيب لرسلهم، وكفر بما أرسلوا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 123 به إليهم.. فناسب أن يجىء ذكر إبراهيم- أبى الأنبياء- وموقفه هو من قومه، بعد أن كذبوه، وأنكروا عليه ما يدعوهم إليه من عبادة الله رب العالمين.. فإبراهيم عليه السلام، يتبرأ من دين أبيه وقومه، كما تبرءوا هم من الدّين الذي يدعوهم إليه.. «إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ» .. وقوله تعالى: «إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ» . إلا هنا بمعنى لكن.. أي لكن الذي «فَطَرَنِي» أي خلقنى ابتداء، هو الذي سيهدين إلى الحقّ، ويقيمنى على طريق الهدى.. ويجوز أن تكون «إِلَّا» دالة على الاستثناء، وفى هذا إشارة إلى أن هذه الأصنام التي كانوا يعبدونها، لم تكن عندهم إلا أربابا مع الله.. فهم كانوا يعبدون هذه الأصنام لتقربهم إلى الله. ولهذا صحّ عندهم أن يدخل الله سبحانه وتعالى فى معبوداتهم التي يتبرأ إبراهيم من عبادتها. ثم يجىء الاستثناء منها لله، سبحانه، الذي هو المعبود الحقّ الذي يعبده إبراهيم، ويطلب الهداية منه.. قوله تعالى: «جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» . الضمير فى جعلها يعود إلى مضمون قوله: «إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ» .. فمضمون هذا القول هو الإيمان بالله وحده، والإقرار بتفرده سبحانه بالخلق والأمر.. لا شريك له.. ومضمون هذا المضمون، كلمة واحدة هى «التوحيد» فالكلمة التي جعلها إبراهيم ميراثا منه لذريته من بعده الجزء: 13 ¦ الصفحة: 124 هى كلمة التوحيد، وهى الإسلام، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» (132: البقرة) وقوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» .. أي لعلّ ذرية إبراهيم يرجعون إلى هذا الميراث الذي تركه فيهم، ويذكرون ما وصّاهم به من الإيمان بالله وحده، والا يموتوا الا وهم مسلمون.. وإذ كان مشركو العرب، من ذرّيّة إبراهيم- عليه السلام- فإن لهم ميراثهم من كلمته تلك، وإنهم إذا كانوا قد وجدوا آباءهم على دين غير دين أبيهم الأكبر إبراهيم- فإن أباهم هذا قد ترك فيهم ميراثا خيرا من هذا الميراث، ودينا أقوم من هذا الدين الذين تلقوه عن آبائهم.. إن آباءهم قد ضيّعوا هذا الميراث، فليمدّوا هم أيديهم لتلقيه، والانتفاع به.. «بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ» . «بَلْ» إضراب عن كلام محذوف، دلّ عليه قوله تعالى: «وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» .. وهنا كلام كثير يقتضيه المقام، فكان سؤال، وهو: هل رجع عقب إبراهيم إلى كلمته تلك؟ وهل أقاموا دينهم عليها؟ وكان جواب: «كلا» لم يرجعوا إلى كلمته، ولم يستقيموا على دينه.. ثم كان سؤال، وهو: «ماذا فعل الله بهم؟» وكان جواب هو: كلا.. «بل متّعنا هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحقّ ورسول مبين» أي أن الله سبحانه وتعالى قد ترك هؤلاء المشركين كما ترك آباءهم من قبل، فلم يبعث فيهم رسولا، فعاشوا كما تشاء لهم أهواؤهم، مطلقين من كلّ قيد، يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، غير منذرين، أو مبشّرين.. وقد ظلّوا هكذا، معفين من التكاليف الجزء: 13 ¦ الصفحة: 125 الشرعية حتى جاءهم الحق، وهو القرآن الكريم، وجاءهم رسول مبين.. هو رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه. وهذا الإعفاء من التكاليف للشرعية، هو دليل مرض، وليس علامة صحة.. فهو يشير إلى أنّ الذين اعفوا من هذه التكاليف ليسوا أهلا للتكاليف.. شأنهم فى هذا شأن أصحاب الأعذار من الأطفال، والمرضى، والبلهاء والمجانين.. وفى دعوة هؤلاء المشركين إلى دين الله، وإلى حمل ما يدعون إليه من التكاليف الشرعية، إشارة إلى أنهم أهل لهذه الدعوة، وأنهم قد بلغوا مبلغ الرجال القادرين على حمل المسئوليات، وتلقى الجزاء عليها ثوابا، وعقابا.. قوله تعالى: «وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ» . أي أنه حين جاءهم الحقّ، وهو القرآن الكريم، لم ينظروا فيه، ولم يقفوا عنده، بل بادروا بالإعراض عنه، والتكذيب له، وتحديد موقفهم منه، وهو الكفر بكل ما جاء فيه.. قوله تعالى: «وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» . أي وقالوا تعليلا لتكذيبهم بالقرآن، وبأنه سحر.. «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» ؟ أي لو كان هذا القرآن من عند الله، فلم لم يكن المبعوث به إليهم من السّماء، سيّدا من ساداتهم فى مكة أو الطائف؟ ولم يقع الاختيار على رجل نشأ فيهم يتيما فقيرا، لم يكن له فيهم رياسة فى سلم أو حرب؟. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 126 وقوله تعالى: «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» . هو رد على هذا المنطق السقيم السفيه، الذي تجرى عليه مقابيس الأمور عند هؤلاء المشركين، وأنهم لا يفرّقون بين مطالب الجسد وحاجة الروح، ولا ما هو من غذاء الأجسام، وغذاء العقول..! فالإنسان العظيم عندهم هو من جمع ما جمع من مال، وما استكثر من عتاد ورجال، وإن كان لا حظّ له من عقل سليم، أو خلق قويم. وقوله تعالى: «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ» . إنكار على المشركين ما أنكروه على النبىّ أن يكون موضع هذا الإحسان العظيم، وحامل هذا النور القدسىّ السماوي.. إنهم ليسوا هم الذين يقسمون هذه الرحمة، بل هى بيد الله سبحانه وتعالى، يضعها حيث يشاء، وتختصّ بها من عباده من يشاء. وهذه هى حظوظهم التي بين أيديهم من الدنيا.. هى بيد الله.. يعطى منها ما يشاء لمن يشاء.. فليست حظوظهم منها على سواء.. فكل له منها ما قسم الله له.. فبعضهم غنىّ واسع الغنى كثير المال، وبعضهم فقير، لا يملك شيئا، وبعضهم كثير المال لا ولد له، وبعضهم كثير الأولاد ولا مال له، وبعضهم سقيم امتلأت يداه بالمال، وبعضهم صحيح صفرت يداه من المال. وهكذا.. هم فى معيشة الحياة الدنيا درجات بعضها فوق بعض.. وذلك لأمر أراده الله، وهو أن يعيش النّاس فى هذه المستويات المختلفة، حتى يملأوا كلّ فراغ فيها، وحتى تتدافع بهم تيارات الحياة، كما تتدافع الأمواج على صدر المحيط. وقوله تعالى: «لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا» .. إشارة إلى أن هذا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 127 الاختلاف بين الناس فى حظوظ الحياة، هو الذي جعل لكل واحد منهم مكانه فيها.. فهذا خادم، وذاك مخدوم، وذلك مرءوس، وهذا رئيس.. وهذا ينسج وذلك يلبس، وهذا يخبز وذاك يأكل.. وهكذا.. كلّ إنسان يخدم ويخدم، من طريق مباشر أو غير مباشر: الناس الناس من بدو ومن حضر ... بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم قوله تعالى: «وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» .. الرحمة هنا هى القرآن الكريم، الذي هو رحمة من رحمة الله، التي أشار إليها سبحانه فى قوله: «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ» فهذا القرآن، وما يحمل إلى الناس من خير، هو خير من كل ما يجمع الناس جميعا من مال، وما يقتنون من متاع، وما يرزقون من بنين.. قوله تعالى: «وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَزُخْرُفاً» . تكشف هذه الآية وما بعدها عن الطبيعة البشرية التي يستهوبها حبّ المال، وتفتنها شهوته.. فالنّاس جميعا- إلا من عصم الله- أضعف من أن يقاوموا شهوة المال، وأن يقهروا سلطانه المتمكن من نفوسهم.. وفى قوله تعالى: «وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ» بيان لتجربة عملية يمكن أن يمتحن بها الناس، ويرى فيها هذا الطبع الغالب عليهم، من حبّ المال وفتنته.. وتلك التجربة هى أن يساق المال بغير حساب، لكل من يكفر بالرحمن، حتى يتخذ هؤلاء الكافرون لبيوتهم سقفا من فضة، ومعارج- أي سلالم- من فضة، عليها الجزء: 13 ¦ الصفحة: 128 يظهرون، أي يصعدون بها على ظهور هذه البيوت، كذلك يتخذون لبيوتهم أبوابا من فضة وسررا من فضة كذلك، يتكئون عليها، ويسمزون فوقها، كما يجلبون إلى هذه البيوت ألوانا من المتاع والزخرف حتى تفيض وتمتلىء.. هذه هى التجربة المفترضة.. فماذا يكون الشأن لو أنها وقعت فعلا، فكان لكل من يكفر بالرحمن، هذا العطاء، يساق إليه بغير حساب؟. والجواب الذي تعطيه التجربة، هو أن يتحول الناس إلى الكفر، ويتزاحموا على طريقه، حتى يكون لهم هذا المال الذي يعطاه كل كافر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً» .. فالأمة التي سيكون الناس عليها، هى أمة الكفر، والدّين الذي سيدينون به هو الكفر، لو فرض ووقع جواب هذا الشرط، وهو أن يكون لبيوتهم سقف من فضة ومعارج عليها يظهرون.. ولكن الله سبحانه وتعالى أراد لعباده الخير، فعافاهم من هذا الابتلاء، ودفع عنهم تلك الفتنة، فجعل متاع الدنيا قسمة بينهم، ينال منه الكافرون والمؤمنون على السواء.. كلّ حسب ما قدّر له.. دون أن يكون المال من حظ المؤمنين وحدهم، أو الكافرين وحدهم.. فإنه لا حساب للإيمان أو الكفر، فيما يساق إلى الناس من متاع الدنيا، لأن هذا المتاع- مهما كثر- لا يصح أن يكون معيارا يقوم عليه ميزان الإيمان أو الكفر.. وقوله تعالى: «وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ» .. أي ما كل ذلك مما يساق إلى الناس من مال، وما يقيم لهم هذا المال من زينة الحياة الدنيا وزخرفها- ما كل ذلك إلا متاع هذه الحياة الدنيا وزاد أهلها.. أما الآخرة فلها زاد غير هذا الزاد، هو التقوى.. فالمتقون وحدهم هم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 129 الذين ستكون لهم الآخرة، وما فيها من نعيم مقيم.. أما من سواهم، فلا شىء لهم من هذا النعيم.. وليس لهم فى الآخرة إلا النار.. والجنة ونعيمها، لا يقوم متاع الدنيا كلها بلحظات قليلة منه، والنار وعذابها، لا يكفى مال الدنيا كلها لدفع ساعة منه.. الآيات: (36- 44) [سورة الزخرف (43) : الآيات 36 الى 45] وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) التفسير: قوله تعالى: «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» .. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 130 عشا عن الشيء يعشو، عشوا: فعل فعل الأعشى، وهو كليل البصر.. والعشو عن ذكر الرحمن، الإعراض عنه، مع قيام الحجج والبراهين بين يديه، كما يعشو بعض الناس فى ضوء النهار لآفة تعرض لأبصارهم.. فالذى يعرض عن ذكر الرحمن هنا، هو من قامت بين يديه الدلائل، والحجج على صدق الرسول، وصدق ما جاء به من عند الله.. فهذا المعرض عن ذكر الله، يقيّض الله له شيطانا، أي يسوق ويهيىء له شيطانا «فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» أي ملازم له، مسلط عليه، يقوده إلى حيث يشاء.. فهو شيطان مع الشيطان حيث يكون.. وفى اختصاص صفة الرحمن بالذكر هنا من بين صفات الله سبحانه وتعالى- تذكير بهذه الرحمة المنزلة من الرحمن، وهى القرآن، وهى التي يعرض عنها أصحاب القلوب المريضة، فيتسلط عليهم الشيطان، ويملك أمرهم.. وإنها لمفارقة بعيدة أن يرى الإنسان يد الرحمن الرحيم تمتد إليه بالرحمة، ثم ينظر فيرى يد الشيطان الرجيم تمتد إليه بالبلاء والشقاء.. ثم يكون له- مع هذا- موقف للنظر والاختيار.. ثم يكون فى الناس من يمد يده إلى الشيطان مبايعا على أن يصحبه إلى حيث ما يرى رأى العين من شقاء وبلاء!. قوله تعالى «وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ» .. الضمير فى «إِنَّهُمْ» للشياطين، أي وإن الشياطين ليصدون المشركين عن سبيل الله، ويدفعون بهم إلى طرق الغواية والضلال، ويزينونها لهم حتى ليحسبون أنهم مهتدون. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 131 فقوله تعالى: «وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ» جملة حالية، تكشف عن الحال الشعورية التي يكون عليها المشركون وهم يركبون طرق الضلال.. فهم يساقون إلى الضلال وقد خيل إليهم أنهم قائمون على الهدى، مستمسكون بالعروة الوثقى!. قوله تعالى: «حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ» .. حتى: حرف غاية، لما تضمنه قوله تعالى: «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» - أي أن الشيطان يظل فى هذه الحياة قرينا لصاحبه هذا الذي لزمه، وأمسك بزمامه- إلى أن يجىء يوم الحساب والجزاء.. وهنا يتخلى الشيطان عن صاحبه، ويتخلى صاحبه عنه، ويتولى كلّ منهما رجم صاحبه بكل منكر، وقذفه بكل تهمة.. وفى هذا يقول الله تعالى، عن الكافرين أصحاب الشياطين: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ» (29: فصلت) ويقول سبحانه عن الشيطان: «وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ» (22: إبراهيم) ويقول سبحانه وتعالى عن إخوان السوء، ورفاق الضلال: «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» (67: الزخرف) .. وقوله تعالى: «يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ» - هو بيان لما الجزء: 13 ¦ الصفحة: 132 فى نفس هذا الضال الذي عشى عن ذكر الرحمن، وأصبح من قرناء الشيطان- من ضيق بصاحبه، ومن حسرة وندم على تلك الصلة التي كانت بينهما، والتي أوقعته فيما هو فيه اليوم من بلاء وعذاب.. ولهذا فهو يتمنى أن لو لم يجمعهما فلك، وأن لو كان كلّ منهما فى عالم غير العالم الذي يعيش فيه صاحبه.. فقوله تعالى: «بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ» - إشارة إلى استحالة الالتقاء بينهما، كما يستحيل التقاء مشرق الشمس شتاء بمشرقها صيفا.. مثلا.. وأما قوله تعالى: «وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ» - فهو اعتراض بين الآيتين، يراد به الإلفات إلى أن الحكم الذي يقع على الواحد من أتباع الشيطان، هو حكم عام يشمل أتباع الشياطين جميعا، وأنهم كلهم قرناء سوء، كلما كثرت أعدادهم زاد إغواؤهم، وإضلال بعضهم بعضا، حيث تشتد داعية الإغراء والإغواء، كلما كثرت الأعداد المتزاحمة على موارد الغواية والضلال. قوله تعالى: «وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ» . الخطاب هنا للفريقين.. التابعين والمتبوعين.. إنه لن ينفعهم اشتراكهم جميعا فى العذاب.. ولن يشفى ما بصدور الضالين من نقمة وحنق على من كانوا سببا فى إغوائهم وإضلالهم- أن يلقى هؤلاء المغوون ما يلقون من عذاب وبلاء.. وفى هذا يقول الله تعالى على لسان التابعين، وهم يطلبون مزيدا من العذاب لمن كانوا سببا فى فتنتهم وبلائهم: «قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ» فيجيبهم سبحانه بقوله: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 133 «قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ» (38: الأعراف) ويقول سبحانه على لسان أئمة الكفر، ودعاة الضلال، وهم يردّون على أتباعهم الذين يتمنون لهم عذابا فوق العذاب: «إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ» (48: غافر) . فالمراد بقوله تعالى: «وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ» ليس نفى مجرد النفع، وإنما المراد به النفع الذي يخلصهم من هذا العذاب، ويخرجهم من هذا البلاء.. إذ لا شك أن فى رؤية التابعين مشاركة سادتهم لهم فى العذاب، بعض العزاء لهم، وإن كان هذا لا يخفف من العذاب الذي هم فيه شيئا. قوله تعالى: «أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» . الاستفهام هنا يراد به النفي.. أي إنك أيها النبىّ لن تسمع الصمّ، ولن تهدى العمى، ولن تنقذ من كان فى ضلال مبين.. وفى هذا عزاء للنبىّ الكريم عن مصابه فى هؤلاء الضالين المفسدين من قومه.. الذين ركبوا رءوسهم، ومضوا يتخبطون فى طرق الغواية والضلال، غير ملتفتين إلى الداعي الذي يدعوهم إلى النجاة، ويرفع لهم بين يديه نورا كاشفا من نور الله.. وفى هذا أيضا تهديد ووعيد لهؤلاء الضالين الذين اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله، ويحسبون أنهم مهتدون.. فليتركهم النبىّ مع قرنائهم هؤلاء، فإنه- صلوات الله وسلامه عليه- لم يبعث ليسمع الصمّ أو يهدى العمى.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ» (81: النمل) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 134 قوله تعالى: «فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ» . أي أن هؤلاء الصمّ، العمى، الذين ختم الله على قلوبهم، وعلى سمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة- هؤلاء هم واقعون تحت بأس الله، مأخوذون بعذابه.. فى الدنيا وفى الآخرة.. ففى قوله تعالى: «فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ» - إشارة إلى أنهم لن يفلتوا من قبضة الله، ولن يخلصوا من العقاب الراصد لهم، سواء أكان ذلك فى حياة النبىّ أو بعد موته.. فإنه إن ذهب الله سبحانه بالنبيّ- صلوات الله وسلامه عليه- ورفعه تعالى إليه، فإن انتقام الله سبحانه واقع بهم، وليس على النبىّ أن يشهد هذا الانتقام، وإنما حسبه أن الله سبحانه آخذ له بحقه من هؤلاء الذين ظلموه، وبغوا عليه.. وقوله تعالى: «أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ» إشارة أخرى إلى ما قد يحل بالمشركين من انتقام الله فى الدنيا، مما توعدهم الله به، ومما يراه النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- فيهم، وذلك بما كان من قتل رءوس المشركين يوم بدر، ومن خزيهم يوم الخندق، ثم ذلّتهم وانكسارهم يوم الفتح.. فالله سبحانه وتعالى قادر على كل شىء، غالب على أمره.. ولكن أكثر الناس لا يعلمون.. قوله تعالى: «فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» . هو تعقيب على ما توعد الله سبحانه وتعالى به المشركين، من انتقام على الجزء: 13 ¦ الصفحة: 135 تكذيبهم للرسول، واستهزائهم به، واستكثارهم عليه أن يكون مبعوث الله إليهم، دون سادتهم وأشرافهم. وفى هذا التعقيب دعوة من الله سبحانه إلى النبي الكريم ألّا يحفل بهؤلاء المشركين، وألا يفتّ ذلك من عزمه، وألا يقف به ذلك عن المضىّ فى سبيله، مستمسكا بالذي أوحى إليه من ربه.. وفى هذا يقول له الله تعالى: «وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا» (10: المزمل) . ويقول له سبحانه: «وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا» (48: الأحزاب) . وفى قوله تعالى: «إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» تحريض للنبىّ، وتثبيت لقلبه.. ليمضى فى طريقه، مع كتاب الله الذي بين يديه.. فإنه به على صراط مستقيم.. صراط الله الذي له ما فى السموات وما فى الأرض.. ومن كان على هذا الصراط فهو على طريق النجاة، والفلاح.. إنه على نور من ربه.. «وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» (40: النور) . قوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ» هو تحريض كذلك، وشدّ لعزم النبىّ على الاستمساك بهذا الكتاب الذي بين يديه، فإن فيه ذكرا للنبىّ، ولقومه، وتمجيدا له ولهم على مرّ الأزمان.. إذ كان القرآن بلسان النبىّ ولسان قومه، وكان الرسول المبلغ لرسالة القرآن عربيا من هؤلاء العرب.. وإنه مادام للقرآن ذكر، ولرسالة القرآن ذاكرون- وهذا ما قدر الله له أن يكون إلى آخر الزمان- فإن ذكر الرسول باق، وذكر قومه باق كذلك.. فما آمن مؤمن بالله، ولا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 136 دان ذو دين بالإسلام، إلا كان إيمانه برسول الله، وبكتاب الله، من تمام إيمانه بالله.. وهذا فضل عظيم من الله سبحانه وتعالى على النبىّ صلوات الله وسلامه عليه، إذ رفع فى العالمين ذكره، وأعلى فى المصطفين من عباده منزلته، كما يقول سبحانه: «وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ» (4: الانشراح) .. كما أنه إحسان عظيم، ونعمة سابغة على الأمة العربية، التي اختارها الله سبحانه وتعالى، لتكون الأفق الذي تطلع فيه شمس الهداية المرسلة إلى العالمين، وليكون لسانها اللسان الذي ينقل إلى الناس هذا الهدى المرسل إليهم من ربهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى. «إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» (3: الزخرف) وقوله تعالى: «وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ» .. إلفات إلى هذه النعمة العظيمة التي امتنّ الله بها على الأمة العربية، إذ اختارها لحمل هذه الأمانة العظيمة.. وإنها لمسئولة عن حفظ هذه الأمانة، وعن حراستها من كل عاد يعد وعليها، كما أنها مسئولة عن أداء هذه الأمانة إلى أهلها، وإزاحة المعوقات والعلل من طريقها، وإلا كان الحساب العسير على أي تقصير أو تفريط يقع من أولئك الذين حملوا هذه الأمانة.. أفرادا وجماعات. إن الدعوة إلى الإسلام، هى مسئولية هذه الأمة التي جاءت شريعة الإسلام بلسانها.. وإنه لشرف عظيم لهذه الأمة، يكسو أفرادها وجماعاتها على مدى الأجيال، أثواب العزّة والفخار.. ولهذا الشرف العظيم ثمن عظيم، يؤديه كل من يريد أن يتحلى بهذا الشرف، بما يبذل من جهد، ومال، وجهاد فى سبيل الله، وتضحية بالنفس من أجل الدفاع عن دين الله، وكتاب الله.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 137 قوله تعالى: «وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ» .. مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة أشارت إلى هذه النعمة العظيمة التي أنعم الله بها على الأمة العربية، بأن جعل خاتم الرسل منها، وجعل خاتم الرسالات دينها وشريعتها، وجعل لها القوامة على هذا الدين، وتلك الشريعة.. وهذا من شأنه أن يثير فى نفوس العرب حمية وغيرة على هذا الدين واجتماعا على نصرته والدعوة له، لا أن يكون منهم العدوّ الراصد له، المتربص به، الخارج على طريقه..!! فقوله تعالى: «وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ» - إلفات إلى هؤلاء المشركين الذين يعبدون ما يعبدون من دون الله، من أوثان، وكواكب، وملائكة، وإلى أن ما هم عليه من هذا المعتقدات ليس من دين الله فى شىء.. وأن دين الله هو إفراده سبحانه وتعالى بالعبودية المبرأة عن الشريك، والصاحبة والولد.. فمن أىّ رسول من رسل الله تلقى المشركون هذا الدين الذي يدينون به؟ أكان من رسل الله من دعا إلى عبادة غير الله؟ وحاش لله أن يحمل رسول من رسل الله دعوة إلى عبادة غير الله!! إذ كيف يكون رسولا لله من يدعو لغير الله؟ والسؤال من النبىّ لرسل الله هنا، ليس سؤالا مباشرا، بحيث يسأل الرسل ويتلقى الجواب منهم.. وإنما هو سؤال بالنظر فيما قصّ الله سبحانه وتعالى على الرسول من قصص الرسل، ومحامل رسالاتهم إلى أقوامهم.. فقد كانت دعوة كل رسول إلى قومه: «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» . فهذا نوح- عليه السلام- يقول لقومه: «أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ» (26: هود) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 138 وهذا هود- عليه السلام- يقول لقومه: «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» (50: هود) . وصالح- عليه السلام- يقول لقومه: «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» (61: هود) .. وإبراهيم- عليه السلام- يقول لأبيه وقومه: «ماذا تَعْبُدُونَ؟ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ» (85 86: الصافات) . وشعيب- عليه السلام- يهتف بقومه: «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» (84: هود) . وهكذا كانت دعوة الرسل إلى أقوامهم، تدور كلها حول تصحيح معتقدهم فى الله، وإقامة وجوههم إلى الله وحده لا شريك له.. وفى نظر الرسول- عليه الصلاة والسلام- إلى أخبار الرسل مع أقوامهم يجد أن دعوتهم قائمة على توحيد الله، وتحرير العقول من ضلالات الشرك به. وكأنه- عليه الصلاة والسلام- بهذا، قد سأل الرسل، وتلقى الجواب منهم. وليس الرسول- عليه الصلاة والسلام- فى حاجة إلى أن يسأل عن أمر هو عالم به، ولكن هذا السؤال منه، هو دعوة إلى هؤلاء المشركين أن يشاركوا فى هذا السؤال، وأن يتلقوا الجواب عليه، حتى يكون لهم من ذلك علم يصححون به معتقداتهم الفاسدة، التي جاء رسول الله- عليه الصلاة السلام- لعلاج ما بها من أدواء، كما جاء رسل الله جميعا بدواء تلك الأدواء. الآيات: (46- 56) [سورة الزخرف (43) : الآيات 46 الى 56] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 139 التفسير: قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ» .. مناسبة هذه القصة هنا، هو هذا الشبه القريب بين فرعون، وبين فراعين قريش، الذين كانوا ينظرون إلى النبىّ من سماء عالية، من الغرور الكاذب، والوهم الخادع، فيكذّبون رسول الله، ويهزءون به، لا لشىء إلا لأنه ليس أكثرهم مالا، ولا أوسعهم غنى، وإنهم لينكرون أن يختار الله لرسالته من لا يختارونه هم للرياسة عليهم، والسيادة فيهم.. «وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ!» (31: الزخرف) . وقصة موسى مع فرعون، هنا، هى مرآة يرى المشركون على صفحتها الجزء: 13 ¦ الصفحة: 140 وجوههم المنكرة فى شخص فرعون، وماركبه من غرور واستعلاء، حتى أورده ذلك وقومه موارد الهلاك.. قوله تعالى: «فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ» .. هو رجع لصدى هذه الضحكات الهازئة الساخرة التي كان المشركون يلقون بها النبي، كلما طلع عليهم بآية من آيات الله.. كما يقول الله تعالى فى آية تالية من هذه السورة: «وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ» أي يضجون بالضحك الهازئ، الساخر.. وكما يقول سبحانه: «أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ؟ وَتَضْحَكُونَ؟ وَلا تَبْكُونَ؟» (59- 60: النجم) . قوله تعالى: «وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» . هو إشارة إلى ما كان بين يدى موسى من آيات عجبا، عرضها على فرعون وملائه، آية آية.. ليكون لهم فى هذا مزدجر، فلم يزدهم ذلك إلا كفرا، وضلالا.. وفى قوله تعالى: «إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها» - إشارة إلى الآثار التي كانت تحدثها هذه الآيات فى حياة القوم.. فكانت تنتقل بهم من سيىء إلى أسوأ.. كما يقول الله سبحانه: «فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ» (42: الأنعام) . والمراد بالآيات هنا هى تلك الآيات التي أرسلها الله عليهم بالبلاء بعد البلاء.. كما يقول سبحانه: «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ» (133: الأعراف) . قوله تعالى: «وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 141 أي أنهم كانوا كلما نزل بهم البلاء، وأحاط بهم الكرب، جاءوا إلى موسى يسألونه أن يرفع عنهم هذا البلاء، على أن يؤمنوا بالله الذي يؤمن به هو، ويدعوهم إليه.. وفى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا السَّاحِرُ» - إشارة كاشفة عما فى نفوسهم من إصرار على الكفر، وإن نطقت ألسنتهم بالإيمان.. فهم لا يرون فى موسى إلا ساحرا كبيرا. وأنه قادر بسحره هذا على أن يسوق إليهم البلاء، وأن يمسكه إذا شاء.. فهم بهذه الصفة يتعاملون معه.. أما دعواه بأنه رسول من رب العالمين، فهذا ادعاء لم يصحّ عندهم، وإن قبلوه منه، فهو إلى أن ينكشف البلاء عنهم.. «وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ» (134- 135: الأعراف) . وفى قوله تعالى: «رَبَّكَ» - اعتراف ضمنى منهم، بأنهم على ما هم عليه من كفر بالله.. فهو رب موسى.. وليس ربّهم.. وهو الذي عهد إلى موسى بهذا السحر الذي بين يديه، وعلّمه إياه.. قوله تعالى: «فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ» . أي فلما استجاب الله لموسى فيما طلبه من رفع البلاء عنهم، لم يستقيموا على العهد الذي عاهدوا موسى عليه، من الإيمان بالله، بعد رفع البلاء عنهم.. بل نكثوا العهد، وأمسكوا بما هم عليه من كفر.. قوله تعالى: «وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 142 هو معطوف على قوله تعالى: «إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ» .. أي لم يكتفوا بنكث العهد، بعد أن رفع عنهم البلاء، الذي كان مشتملا عليهم، ولم يشكروا الله على العافية، بل ازدادوا كفرا وضلالا، فجمع فرعون قومه، وحشدهم بين يديه، ليعيد إليهم ثقتهم فيه، وإيمانهم به، بعد هذه الزلزلة العاتية التي أصابتهم من هذا البلاء الذي لم يجدوا من فرعون حيلة يحتال بها لدفعه، حتى اضطروا إلى الوقوف بين يدى موسى موقف التذلل والرجاء، طالبين إليه كشف الضر عنهم، فكان لهم ما طلبوا!! وهذا موقف من شأنه أن يذهب بهيبة فرعون، ويتحيّف سلطانه القائم فى قومه، فكان هذا التدبير الذي جاء عقب هذه التجربة التي دخل فيها القوم بيد موسى، ثم أخرجوا منها بيد موسى أيضا.. «وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ.. قالَ يا قَوْمِ: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ.. وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي.. أَفَلا تُبْصِرُونَ؟» . ومن أنكر على فرعون هذا الملك الذي له؟ إنه هو الذي ينكر على نفسه هذا الملك، بعد أن رأى كيف تهزه الأحداث، وتزلزله النكبات، وتكاد تبتلعه الأمواج المضطربة، وهو لا يملك لذلك دفعا!! فأين سلطانه؟ وأين جبروته؟ لقد تعرّى من كل شىء، وأصبح فى هذه المحنة نبتة هزيلة، تعصف بها الرياح فيما تعصف به من نبات وأعشاب! إنه يلوذ بموسى عدوّه، طالبا أن يمد إليه يده ليدفع عنه هذا البلاء الذي نزل به.. إن فرعون هنا يفكر بصوت عال- كما يقولون- فهو بهذا الحديث إلى قومه، يكشف عما يشعر به من ضياع لسلطانه، وذهاب لهيبته. وهو بهذا الحديث يتحسس وجوده الذي ذهب، وسلطانه الذي ضاع.. تماما كما يفعل من صحا من حلم مزعج، رأى فيه أنه سقط من قمة جبل فتحطم، وتبدّد الجزء: 13 ¦ الصفحة: 143 أشلاء، إنّه ليتحسس جسده ليرى إن كان حيّا أو هو فى عالم الأموات، وإن كان هو فى يقظة أو فى حلم!. وفى قوله تعالى: «أَفَلا تُبْصِرُونَ» طلب من فرعون لمزيد من الصفعات على وجهه، ليتأكد له أنه موجود على قيد الحياة، وأنه لا يزال قائما على كرسى الملك.. وإن من شك فى ذلك فلينظر.. فها هو ذا فرعون.. وها هو ذا عرش فرعون.. وها هو ذا قائم على كرسى مملكته!! إنه الغريق الذي احتواه اليمّ، وقد بئس الذي ينظرون إليه من نجاته،. وهو يهتف بهم: أنا هنا.. ما زلت حيّا.. فلا تهيلوا التراب علىّ!!. قوله تعالى: «أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ» .. أم هنا للإضراب على تلك المشاعر التي يراها فرعون تتحرك فى صدور قومه، من استخفاف به، وإكبار لموسى.. فهو يقول لهم: لا تظنوا هذه الظنون بموسى، ولا تجعلوه معى على كفة ميزان.. إنه ليس مثلى، ولا خيرا منّى.. بل أنا خير من هذا الذي هو مهين، لا ملك معه، ولا سلطان له، ولا منطق مستقيم على لسانه.. ومن قال من القوم إن موسى خير منه؟. إن فرعون نفسه هو الذي يقول هذا، وإنه ليرى موسى، وقد نازعه سلطانه، بل وانتزعه منه.. وإن فرعون لينزل من سمائه العالية، ويرضى أن يكون هو وموسى على كفتى ميزان.. على أن تكون كفته أرجح من كفة موسى.. أنا خير منه!!. لقد نفذ القرآن الكريم بهذه الكلمات القليلة، إلى أغوار النفس الإنسانية الجزء: 13 ¦ الصفحة: 144 ورصد حركاتها وسكناتها، وكشف عما يندس فى مساربها من خواطر وتصورات، وما يزدحم فى أعماقها من رؤى وخيالات.. وهذا وجه من وجوه الإعجاز القرآنى، يطالع من ينظر فيه متأملا، آيات بينات، تشهد بأن هذا القرآن هو من كلام رب العالمين، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. تنزيل من حكيم حميد.. قوله تعالى: «فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ» . إن فرعون إذ يجلس على كرسى عرشه، فزعا مضطربا، ليرى- بلمح الخاطر- يد موسى تكاد تمتد إليه وتنتزعه من هذا العرش، ثم يرى هذه اليد عطلا من كل حلىّ، على حين يرى يديه هو قد حليتا بأساور من ذهب، مما يدل على أنه الملك الجدير بالجلوس على هذا العرش- وهنا يجدها فرعون فرصة ليضع فى كفة ميزانه ثقلا جديدا تثقل به كفته، على حين تخف كفة موسى.. فيقول: «أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ» .. ثم أنا خير من هذا الذي لم تحلّ يده بحلية من ذهب، شأن الملوك وأصحاب السلطان.. فلو أن هذا الإنسان كان رسولا من عند الله حقّا لما ضنّ عليه ربه بأن يلقى عليه أسورة من ذهب، كأمارة على أنه موفد من جهة عالية، ذات بأس، وذات سلطان! فإن لم يكن أهلا لأن ينال من ربه هذه المكرمة، أفلا جاء معه ملك أو ملائكة من السماء، يشهدون له أنه رسول من عند الله؟ فإذا لم يكن هذا أو ذاك، فبأى وجه يكون لموسى مقام بيننا ومكانة فينا؟. واقتران الملائكة: هو اتصالهم ومرافقتهم لموسى. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 145 قوله تعالى: «فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» . أي أن فرعون استخف بعقول قومه، واستصغر أحلامهم، فتحدث إليهم بهذا الحديث الذي لا يقبله عقل، ولا يستسيغه عاقل.. ومع هذا فقد تلقاه القوم بالتسليم والطاعة، ولم يقم من بينهم قائم ينكر هذا القول المنكر، ويسفه هذا المنطق السفيه.. «إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ..» أي كانوا على ما كان عليه فرعون من سفاهة، وجهل، فراجت عندهم هذه البضاعة الفاسدة! وهكذا يستغلظ الضلال، وتنتشر سحبه القائمة فى المواطن التي تقبل الباطل، وتستجيب له.. تماما كالبرك والمستنقعات، تتداعى عليها الهوامّ والحشرات، وتتوالد وتتكاثر فى أعداد لا تعدّ ولا تحصى.. وإنها ليست مسئولية داعية الضلال وحده، بل هى كذلك مسئولية.. الذين يستجيبون له، ولا ينكرون عليه المنكر الذي يدعوهم إليه.. ومن هنا كان الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر مسئولية منوطة بكل مجتمع إنسانىّ، فى أفراده وجماعاته، إذ كانت الجماعة أشبه بالجسد، فيما يعرض له من عوارض العلل والآفات.. فأى عضو فى الجماعة، يعرض له عارض من عوارض الفساد، يهدد الجماعة كلها بتلك الآفة، التي إن لم تجد من يطبّ له منها، سرت عدواها فى المجتمع كله، وتهددت وجوده.. قوله تعالى: «فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ» . وهكذا كانت عاقبة الجماعة كلها.. داعية الضلال، ومن ضلّ بضلاله.. لقد أخذهم الله جميعا بعذابه، فأغرقهم كما أغرق فرعون.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 146 وفى قوله تعالى: «فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ» .. إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى، قد أمهل هؤلاء الضالين، ومدّ لهم فى ضلالهم، حتى يكون لهم فسحة من الوقت، يراجعون فيها أنفسهم، ويعدّلون موقفهم المنحرف.. فلما لم يكن لهم فى هذا الإمهال، وفى تلك المطاولة، إلا الإمعان فى الضلال، والإسراف فى العناد- أخذهم الله بذنوبهم، ولم يكن لهم من دون الله من ولى ولا نصير. فقوله تعالى: «آسَفُونا» أي أسخطونا عليهم.. والله سبحانه وتعالى «حليم» فلا يغضب الله إلا على من أخذه بحمله ثم لم يزده الحلم إلا سفها وجهلا.. قوله تعالى: «فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ» . أي أن العذاب الذي أخذ به هؤلاء الضالون، المسرفون فى الضلال، كانا عذابا يضرب به المثل من بعدهم، ويرى الخلف عبرة وعظة فيما نزل بهذا السلف.. الآيات: (57- 65) [سورة الزخرف (43) : الآيات 57 الى 65] وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 147 التفسير: قوله تعالى: «وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ» . يصدّون: أي يتصايحون، ويكثرون من الضجيج، شأن الجماعة يطلع عليها أمر على غير ما تتوقع، وهى فى مأزق حرج، فتتعلق بهذا الأمر الذي ترى فيه فرجا ومخرجا، فتصيح بصيحات الفرح المجنون، الذي تختلط فيه الأصوات، فلا يعرف الكلمات مدلول، وإن عرف للإشارة والحركات مفهوم، يدل على الفرحة والابتهاج. ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن قصة موسى مع فرعون انتهت بتلك النهاية التي كانت مثلا فيما تنتهى إليه طريق الضالين، المكذبين بآيات الله وبرسل الله.. وإن فى هذا المثل لعبرة لمعتبر، وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. وفى عيسى بن مريم مثل بارز، لمن يتعقل الأمثال، وينتفع بها.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 148 ففى ميلاده هذا الميلاد العجيب، من غير أب- مثل شاهد على قدرة الله، وعلى أنه سبحانه يخلق ما يشاء، على غير مثال سبق من تلك المخلوقات، التي تجرى على طريق الأسباب الظاهرة لنا.. فالله سبحانه وتعالى خالق الأسباب والمسببات جميعا.. وفى هذا الميلاد العجيب، الذي يبدو لنا من خلق عيسى عليه السلام من غير أب، إشارة دالة على أكثر من أمر.. فأولا: أن صفة هذا الميلاد الذي يكاد ينفرد به عيسى من بين بنى الإنسان لا يصحّ أن يكون داعية لبعض الناس إلى عبادته، وإلى رفعه عن مقام المخلوقين من مخلوقات الله.. فما هو إلا عبد من عباد الله، وخلق من خلقه.. وأنه إذا كان قد ولد من غير أب، فالإنسان- أصلا- خلق من غير أب وأم.. «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (59 آل عمران) فعيسى وآدم عند الله على سواء.. كلاهما مخلوق لله.. سواء منهما من خلق ابتداء من غير أب ولا أم، أو من خلق من أمّ دون أب.. ومن هنا، فلا يكون لأولئك الذين يعبدون عيسى، ويجعلون له نسبة خاصة بالله- لا يكون لهم حجة يتخذونها من ميلاده الذي جاء على تلك الصفة.. وأنه إذا كانت لهم حجة، فهى من واردات الأوهام والضلالات، كتلك الحجج التي يقيمها عبّاد الأحجار والأصنام والكواكب، والملائكة على معبوداتهم.. فالذى يعبد الحجر لا يعدم أن يجد له منطقا يعبده عليه، تماما كالذى يعبد الشمس، أو القمر، أو الملائكة، أو الجن.. فكل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 149 معبود من تلك المعبودات له عند من يعبده وجه يعبده عليه، ومنطق يتعامل به معه.. وثانيا: أن ميلاد عيسى على غير الأسلوب الذي ولد عليه سائر الناس، دليل على قدرة الله التي لا تحكمها الأسباب.. وأن الله سبحانه قادر على كل شىء.. وأنه سبحانه بهذه القدرة قادر على أن يبعث الموتى من قبورهم، وأن يحيى هذه الأجساد بعد أن أبلاها البلى، وذهب التراب بمعالمها.. وفى قوله تعالى: «ابْنُ مَرْيَمَ» دون ذكر عيسى باسمه، أو لقبه «المسيح» - فى هذا إشارة إلى أنه ابن امرأة، هى مولود من مواليد الإنسانية.. فهو- أيّا كان ميلاده- ثمرة من شجرة الإنسانية، موصول نسبه بنسبها.. أيّا كان لون هذه الثمرة، أو طعمها!!. وفى قوله تعالى: «إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ» - إشارة إلى هذا اللغط والصخب، الذي أثاره المشركون عند ضرب هذا المثل فى تشبيه خلق عيسى بخلق آدم، كما يقول الله تعالى: «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (59: آل عمران) .. فقد انتهزها المشركون فرصة يشغبون بها على النبي، ويأخذون منها الحجة عليه من لسانه، بهذا المثل الذي ضربه.. فهو سبحانه يقول لهم: إن عيسى بشر مثل سائر البشر، وإنه مولود من الإناء الذي يولد منه كل إنسان، وهو رحم الأم.. وهم- أي المشركون- يقولون للنبى: هذا عيسى، هو بشر- كما تقول- وقد عبده من هم أهل كتاب سماوى، ولا بد أن تكون هذه العبادة عن دعوة من الله لهم- وإذن فعبادة غير الله الجزء: 13 ¦ الصفحة: 150 جائرة عند الله.. ونحن إنما نعبد الملائكة الذين هم بنات الله.. والذين نتمثلهم فى هذه الأصنام التي نسميها بأسمائهم، كهبل، واللّات، والعزّى، ومناة.. فأىّ خير؟ آلهتنا تلك التي هى بنات الله؟ أم المسيح الذي هو ابن مريم؟ وإذا كان الله قد رضى لأهل الكتاب أن يعبدوا ابن امرأة، أفلا يرضى الله لنا أن نعبد الملائكة.. وهن بنات الله؟. هذا منطق القوم الذي استخرجوه من هذا المثل الذي ضرب لهم فى خلق عيسى.. وهو منطق قائم على المماحكة والسفسطة.. إنهم أمسكوا بمقدمات باطلة، ثم خلصوا منها إلى نتائج فاسدة.. فمن قال لهم إن عبادة الذين يعبدون المسيح قائمة على الحق؟ إنها كفر وشرك بالله، مثل كفرهم وشركهم، بما يعبدون من هذه الآلهة التي أقاموها بأيديهم، وسموها بأسماء الملائكة كما يقول الله تعالى: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى» (19- 22 النجم) .. إن عبادة الذين يعبدون المسيح قضية أخرى.. لم يكن من شأن الدعوة الإسلامية أن تعرض لها فى هذا الدور الذي تواجه فيه هؤلاء المشركين من قريش.. وتعلّق المشركين بهذه القضية فى هذا الوقت، ودعوة النبي إلى الدخول معهم فى مناقشتها والفصل فيها- هو مما يجعل المعركة بين النبي وبين المشركين تنتقل إلى ميدان آخر، يقفون هم فيه موقف المتفرجين.. وهذا من شأنه أن يغمد سيوف الحق التي تضرب فى وجوههم، من قبل أن توقع الهزيمة بهم.. ولهذا جاء القرآن الكريم مبطلا مكرهم هذا بقوله سبحانه: «ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا.. بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ» .. أي ما ضربوا هذا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 151 المثل الذي يوقع الشبه بينهم وبين أتباع المسيح الذين يعبدونه، من جهة، وبين آلهتهم التي يعبدونها، وبين المسيح- من جهة أخرى- ما ضربوا هذا المثل إلا جدلا، أي لأجل الجدل الذي يصرف عن الحق، وبعمّى السبل عنه.. وهذا شأن القوم فى أكثر أمورهم.. فهم قوم خصمون.. أي شديد والجدل فى الخصومة.. كما يقول الله سبحانه وتعالى فيهم: «وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا» (97: مريم) أي شديد والدد والعناد فى الخصومة.. وفى قوله تعالى: «قَوْمُكَ» إشارة إلى قوم آخرين، لهم خصومة فى ابن مريم، وهم أتباع المسيح الذين يعبدونه.. قوله تعالى: «إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ» .. هذا هو مقطع القول فى المسيح، بلا جدل، ولا مماحكة.. ما هو إلا عبد من عباد الله، ورسول من رسله، أنعم الله عليه بالرسالة، وجعله معلما من معالم الهدى لبنى إسرائيل، بعد أن ماجوا فى الفتن، وغرقوا فى الضلال.. فإذا ضل فيه الضالون، وفتن به المفتتنون، فليس فى هذا حجة يحتج بها المشركون على النبي، ويتخذون منها ذريعة لتبرير منكرهم الذي هم فيه، من عبادة الملائكة الذين نصبوا لهم هذه التماثيل، وأطلقوا عليها ما أطلقوا من أسماء.. قوله تعالى: «وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ» . هو ردّ على المشركين الذين ينظرون إلى الملائكة نظرة ترفعهم إلى مقام الجزء: 13 ¦ الصفحة: 152 الألوهية.. بهذا النسب الذي ينسبونهم به إلى الله.. وهذا نظر فاسد.. فإنه مهما يكن مقام المخلوق فى المخلوقات، فإنه عبد من عباد الله، وخلق من خلقه، يعبد الله ويسبح بحمده، شأنه فى هذا شأن كل مخلوق لله.. «لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» (172- 173: النساء) . فهذا هو المسيح- على ما يرى الناس من عجيب مولده- وهؤلاء هم الملائكة- على ما يرى الناس من عظمة خلقهم، وقربهم من ربهم- إنهم جميعا عبيد لله: «لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» (6: التحريم) .. فكيف يعبد العبد مع السيد، ويؤلّه المخلوق مع الخالق! وقوله تعالى: «وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ» - أي أنه لو شاء الله لجعل الناس على صورة الملائكة، خلقا وتكوينا، ولأقامهم على خلافة الأرض ملائكة لا بشرا.. فإن الذي خلق الملائكة جندا فى السماء قادر على أن يخلق ملائكة ليكونوا خلفاء فى الأرض.. وفى هذا تذكير للناس بهذه الخلافة التي لهم على هذه الأرض.. وأن الله سبحانه وتعالى قد جعلها للناس دون الملائكة الذي طمعوا فيها، ورأوا أنهم أحق من البشر بها، كما يقول الله سبحانه وتعالى: «وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ» (30: البقرة) وفى هذا ما يرى منه هؤلاء المشركون الذين يعبدون الملائكة أنهم إنما يعبدون خلقا مثلهم، أرادوا مرّة أن يكون لهم ما للإنسان من هذا السلطان الذي له فى هذه الأرض.. فكيف يجوز فى عقل عاقل أن يعبد الإنسان من كان يطمع فى أن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 153 يكون فى منزلته؟ .. أليس ذلك تدلّيا وسقوطا؟ وبلى إنه التدلّى السفيه، والسقوط المهين! قوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» . هو تعقيب على قوله تعالى فى شأن عيسى: «وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ» . وهذا التعقيب يجب أن يكون من كل عاقل على ما سمع من قول الله تبارك وتعالى فى شأن عيسى، وأنه عبد من عباد الله، وأنه إذا كان المشركون المعاندون قد تعلقوا بحبال الضلال من هذا المثل، واستخرجوا منه هذا المنطق الفاسد الذي تصابحوا به فرحا- فإن العاقل ليجد فى هذا المثل دليلا يستدلّ به على البعث، فيزداد إيمانا به، ويقينا بأن الساعة آتية لا ريب فيها.. أي «وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ» أي وانه، أي ابن مريم- فى الميلاد الذي ولد به- ليفيد علما بالساعة، أي بالبعث، حيث يتجلى فى خلقه على تلك الصورة بعض من مظاهر قدرة الله، وأن البعث الذي ينكره المشركون، استعظاما له، إذ يقولون: «مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ» (78: يس) . ويقولون: «أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ» (3: ق) - هذا البعث، هو أمر واقع تحت سلطان قدرة الله التي لا يعجزها شىء.. فمن نظر إلى ميلاد المسيح الذي جاء على غير تلك الأسباب التي يعرفها الناس، لم ينكر البعث وإعادة الحياة إلى من فى القبور، وإن جاء على غير ما يعرف الناس من أسباب.. وهذا هو العلم الذي يستدل به أولو النظر، على إمكان البعث، والحساب، والجزاء، إذا هم نظروا نظرا مستبصرا فى ميلاد المسيح على تلك الصورة الفريدة التي ولد بها.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 154 وقوله تعالى: «فَلا تَمْتَرُنَّ بِها» هو تعقيب على قوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ» .. بمعنى أنه إذا كان ميلاد المسيح يفيد علما بإمكان البعث، ومجىء الساعة- فإنه يجب الا يمترى فيها الممترون، وألا يجادل فيها المجادلون، وألا يكذب بها المكذبون، وبين أيديهم الدلائل والشواهد عليها.. وقوله تعالى: «وَاتَّبِعُونِ.. هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» معطوف على قوله تعالى: «فَلا تَمْتَرُنَّ بِها» أي فدعوا المراء والجدل فى الساعة، والتكذيب بها، واتبعون فيما أدعوكم إليه أيها المشركون من الإيمان بالله، واليوم الآخر.. فهذا هو الصراط المستقيم، الذي يسلك بمن يأخذ طريقه عليه، إلى غايات الأمن، والسلامة، والنجاة.. قوله تعالى: «وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ.. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» .. هو معطوف على قوله تعالى: «وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» أي اتبعونى ولا تتبعوا ما يدعوكم إليه الشيطان، الذي يصدكم عن اتباع هذا الصراط المستقيم الذي أدعوكم إليه.. فأنا أدعوكم إلى الخير، وأرتاد لكم طريق النجاة، لأنى محبّ لكم، حريص على سلامتكم ونجاتكم.. أما الشيطان، فهو عدو ظاهر العداوة لكم، لا يدعوكم إلا إلى ما فيه بلاؤكم وهلاككم. قوله تعالى: «وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ» .. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 155 أي أنه لما جاء عيسى إلى بنى إسرائيل بالآيات البينات، بما أجرى الله سبحانه وتعالى على يديه من معجزات، وبما أجرى على لسانه من الكلم الطيب الحكيم، الذي يشفى سقم العقول، وآفات القلوب- لما جاء إلى بنى إسرائيل «قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ» أي أن هذا الذي جئتكم به من آيات بينات، هو مما أمرنى الله سبحانه وتعالى أن أحمله إليكم من عنده لأطبّ لكم به من عللكم وأدوائكم العقيلة والروحية والجسدية.. «وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ» - أي ولأكشف لكم عن مواقع الحق فيما اختلفتم فيه من التوراة، وأحكامها.. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى فى آية أخرى على لسان المسيح: «وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ» (50: آل عمران) . فالمسيح لم يجىء إلى بنى إسرائيل داعيا لهم أن يعبدوه من دون الله، كما ذهب إلى ذلك أهل الضلال ممن عبدوه، وجعلوه إلها.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (116- 117: المائدة) . قوله تعالى: «فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ» أي أنه قد وقع الخلاف بين بنى إسرائيل فى شأن المسيح، وفى مفهوم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 156 دعوته التي جاءهم بها، فكانوا فى ذلك أحزابا وشيعا. ففريق منهم بهته وكذبه، ورماه وأمه بالفحش والزور من القول.. وقالوا إنه ابن زنى، وإن أمه جاءت به من سفاح! وفريق غالى فيه، ورفعه إلى مقام الألوهية.. فقالوا إنه الله تجسد فى مريم، وجاء على صورة المسيح! وهكذا هلك الفريقان فيه.. وبين هذين الفريقين فرق أخرى كثيرة، بعضها مبالغ، وبعضها مقتصد.. وفى قوله تعالى: «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ» وعيد لهذه الفرق المنحرفة جميعها.. فكلّ جائر، حائد عن طريق الحقّ فى المسيح، وفى المفهوم الذي فهموه عليه.. فهو ليس إلها ولا ابن إله، كما زعم أنصاره وأتباعه.. وهو ليس ابن زنى، ولا كذابا، ولا دجالا، كما رماه بذلك المفترون الضالون من اليهود.. وإنما هو كما قال الله سبحانه وتعالى: «إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ» . الآيات: (66- 73) [سورة الزخرف (43) : الآيات 66 الى 73] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 157 التفسير: قوله تعالى: «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» . هو عودة بالخطاب إلى المشركين، بعد أن ضرب لهم المثل بالمسيح بن مريم، وبما كان منهم من شغب فى هذا المثل، وما كان من بنى إسرائيل من خلاف فى شأنه.. وفى هذا الخطاب الاستفهامى تهديد للمشركين بما سيحل بهم، إذا هم أمسكوا بما هم عليه من شرك وضلال.. فماذا ينتظرون؟ إنه ليس وراء هذا الانتظار إلا أن يموتوا على شركهم، وإلا أن يجدوا أنفسهم فجأة، وعلى غير توقع منهم- أنهم بين يدى عذاب الله، الذي أعدّ للضالين المكذبين.. قوله تعالى: «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» الأخلاء: جمع خليل.. وهو الصاحب الذي اتصل الودّ بينه وبين صاحبه.. والمعنى: أنه فى يوم القيامة يشغل كل إنسان بأمر نفسه، لما يرى من أهوال هذا اليوم.. «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» (34- 37: عبس) .. هذا شأن الناس جميعا.. أما أهل الضلال، وإخوان السوء، فإن لهم إلى هذا الشأن شأنا آخر.. وهو أنهم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 158 يترامون بالتهم، ويتقاذفون باللعنات.. كل منهم يلقى باللأئمة على صاحبه ويقول له أنت الذي دعوتنى إلى كذا وكذا من المعاصي، وأنت الذي زينت لى كذا وكذا من الشرور، كما يقول الله سبحانه على لسان المستضعفين، ونقمتهم على سادتهم وكبرائهم: «رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ» . (38: الأعراف) . وكما يقول سبحانه عن أهل الضلال جميعا: «ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ» (25: العنكبوت) .. وقوله تعالى: «إِلَّا الْمُتَّقِينَ» استثناء من هذا الحكم العام: «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» .. فليس كل الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو.. وإنما هذا الحكم واقع على إخوان السوء، وأهل الضلال.. أما أهل الإيمان، والتقوى، المتحابون فى لله، المجتمعون على ذكره وطاعته- فهؤلاء يلقى بعضهم بعضا بالحمد والثناء، حيث كان بعضهم لبعض ناصحا وهاديا.. قوله تعالى: «يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ» .. هو دعاء من رب كريم، لعباده المتقين، الذين استخلصهم سبحانه من بين هذه الجموع المتخاصمة الملاعنة من أهل الفسق والضلال.. فأهل المحشر جميعا بعضهم عدو لبعض إلا المتقين، الذين ينادون من قبل الرحمن بقوله تعالى: «يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ» .. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 159 وفى نداء المتقين من بين هذا المعترك الصاحب من حولهم، وفى إضافتهم إلى الله سبحانه وتعالى: «يا عِبادِ» لطف من لطف الله بهم، حيث تسكن بهذا النداء الكريم نفوسهم المضطربة، وتطمئن قلوبهم الواجفة، لما يرون من تناهش أهل الضلال حولهم، وتراميهم بالعداوة والشنآن.. فإذا سمعوا هذا النداء الكريم بأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون أمنوا من خوف، واطمأنوا من فزع.. إنهم ناجون وحدهم من بين الركب الذي تتخبط به السفينة فى متلاطم الأمواج، وتوشك أن تهوى إلى القاع!. قوله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ» . هو وصف لهؤلاء العباد، الذين ناداهم الحق جل وعلا بقوله: «يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ» .. فهم إنما استحقوا هذا التكريم من الله سبحانه وتعالى، بندائهم، وبإضافاتهم إلى ذاته جل وعلا.. لأنهم آمنوا بآيات الله.. وكانوا مسلمين.. وفى وصفهم بالإيمان، ثم وصفهم بأنهم كانوا مسلمين قبل أن يكونوا مؤمنين- فى هذا إشارة إلى أنهم قبل أن يؤمنوا على يد الرسل، ويصدّفوا بآيات الله التي فى أيديهم- كانوا مسلمين، أي على فطرتهم السليمة، التي لم تفسدها الأهواء الموروثة، لقل كانوا على السلامة والبراءة، حتى إذا التقوا برسل الله، ونظروا فيما معهم من آيات، استجابوا لدعوة الحق، وآمنوا بآيات الله.. أشبه بالأرض الطيبة، التي احتفظت بكل ما فيها خير، حين لم تجد الماء الذي يحيى مواتها، حتى إذا غائها الغيث، اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج كريم.. وليس كذلك الأرض الخبيثة، فإنها حين الجزء: 13 ¦ الصفحة: 160 لا تجد الماء، حيث تنضح بكل ما فيها من خبث، فتصبح منبتا للحسك والشوك، ومأوى للآفات والهوام.. وقوله تعالى: «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ» . بعد أن يجتمع المؤمنون على هذا النداء الكريم من ربهم، يدعوهم الله سبحانه وتعالى إلى ضيافته فى الجنة.. «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ» أي حيث تلقون المسرة والحبور مع أزواجكم اللاتي آمنّ معكم.. وبهذا يكمل أنسهم، ويتم نعيمهم.. قوله تعالى: «يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ» .. فى الانتقال من الخطاب فى قوله (أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ) إلى الغيبة، فى قوله تعالى: «يُطافُ عَلَيْهِمْ» بدلا من «يطاف عليكم» - فى هذا إلفات للأنظار إلى هذا النعيم الذي يساق إلى عباد الله المتقين، الذين استضافهم سبحانه وتعالى فى رحاب كرمه، وأنزلهم منازل رضوانه.. وفى هذا ما يبعث فى قلوب المكذبين والضالين، من حسرات، إلى ما هم فيه من آلام، وأحزان، كما أنه يضاعف من نعيم أهل هذا النعيم، حيث ينظرون إلى أنفسهم وإلى ما هم فيه من عافية، وحيث يلقى غيرهم صنوف البلاء والهوان.. وفى قوله تعالى: «بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ» - إشارة إلى الطعام الجزء: 13 ¦ الصفحة: 161 وهو فى آنية الطعام، وهى الصحاف، جمع صحفة.. وإلى الشراب وهو فى آنية الشراب، وهى الأكواب: جمع كوب.. وهى جميعا من ذهب.. وقوله تعالى: «وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ» - إشارة أخرى إلى أن وراء هذه الأطعمة والأشربة التي يطاف على أهل الجنة بها- وراء هذه الأطعمة كل ما تشتهى الأنفس من طيبات.. فلا يطلب أحد شيئا إلا وجده حاضرا بين يديه، كما يقول الله تعالى: «وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ» (31: فصلت) .. وقوله تعالى: «وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ» - إشارة ثالثة إلى ما للأعين من متع خاصة، تجدها فيما ترى من آيات الله، وبديع صنعه فى هذه المنازل الكريمة، التي استضافهم الله سبحانه وتعالى فيها.. هذا، وقد تأول بعض المفسرين قوله تعالى: «وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ» بأنه النظر إلى الله سبحانه وتعالى، حيث لا يكمل نعيم أهل الجنة إلا بالنظر إلى الله سبحانه، فيتجلى الله سبحانه وتعالى على أهل الجنة، فيكون لهم من ذلك ما لا يحيط به الوصف من رضا ورضوان.. هذا وقد أشرنا فى أكثر من موضع إلى أن هذه الأوصاف الحسية التي يذكرها القرآن لنعيم الجنة، من ألوان الطعام والشراب، وأنواع اللباس والحلىّ- كلها مما يساق إلى أهل الجنة، الذين كانوا يشتهون هذه الأمور فى الدنيا، ثم تقصر أيديهم عنها، أو كانوا يحرمون أنفسهم منها، ابتغاء مرضاة الله!. فكان من تمام إكرامهم، أن يجدوا بين أيديهم كل ما كان من نعيم الدنيا، الذي فاتهم حظهم منه.. عجزا، أو استعلاء.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 162 قوله تعالى: «وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ» . الإشارة إلى الجنة هنا، هى دعوة لأهلها إلى أن يزفّوا إليها، وأن ينالوا منها ما يشاءون.. فقد أصبحت ملكا لهم، يتصرفون فيها تصرف المالك فيما ملك.. وقد عبّر القرآن عن الملك بالميراث، لأمرين: أولا: أن الوارث لا يبخل على نفسه بالتمتع بكل ما ورث، حيث لا يشتد حرصه عليه، لأن ما ورثه قد جاء إليه من غير عناء.. وفى هذا دعوة إلى أهل الجنة أن ينالوا من هذا النعيم الموروث ما يشاءون، غير مضيقين على أنفسهم فى شىء.. وثانيا: أن هذه الجنة التي نزل المؤمنون رحابها، وورثوا نعيمها- هى فضل من فضل الله عليهم، وإحسان من إحسانه إليهم، وأن أعمالهم الصالحة التي عملوها فى الدنيا ليست هى الثمن الذي يكافىء هذا النعيم العظيم.. وأن هذه الأعمال لم تكن إلا سببا ووسيلة يتوسلون بها إلى مرضاة الله.. كما يتوسل الوارث إلى مورثه بسبب من قرابة ونسب، فتكون هذه القرابة سببا لميراث ما يرث، وإن لم يكن له فيما ورثه من عمل.. أما قوله تعالى: «بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» - فهو لتحقيق أمرين كذلك.. أولهما: الاحتفاء بالأعمال الصالحة، والإشارة بقدرها، وإلى أنها تثمر ثمرا طيبا.. وأن من يغرس فى مغارسها لا بد أن يجنى منها ثمرا طيبا مباركا.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 163 وثانيهما: تكريم العاملين، وإطعامهم من ثمرة عملهم.. ففى هذا لذة مضاعفة لهذا الثمر الذي غرسوا مغارسه، وتعهدوها بالعمل.. على خلاف ما يناله الإنسان عفوا من غير عمل له.. فإنه وإن كان طيبا كريما، يجد فيه المرء هناءته وسعادته- فإنه يقوم معه شعور فى النفس بأنه ليس ملكا خالصا لصاحبه، وأنه أشبه بالضيف الوارد عليه.. وفى هذا ما يزعج الإنسان عما يجد فيه من هناءة وسعادة.. وفى التعبير القرآنى: «وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ما يجعل هذه الجنة ونعيمها، ملكا، مصفّى من كل شائبة، معزولا عن كل شعور يعزل الإنسان عن هذا النعيم، أو يقطعه عنه.. فهى ميراث ينفق منه الإنسان كيف يشاء، وينال منه ما يريد.. وهى ثمرة عمل وجهد.. ومن حق العامل أن ينعم بما عمل!. الآيات: (74- 83) [سورة الزخرف (43) : الآيات 74 الى 83] إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 164 التفسير: قوله تعالى: «إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ» . هو بيان لما يلقى أهل الضلال والكفر من عذاب وبلاء فى الآخرة، بعد هذا البيان الذي كشف عما للمؤمنين المتقين عند الله من جنات ونعيم.. فالناس فى الآخرة فريقان: فريق فى الجنة، وفريق فى السعير.. فريق يتلقى الكرامة والتكريم، وفريق يلقى الهوان والعذاب.. وفى التعبير عن أهل الضلال بالمجرمين، إشارة إلى أنهم أصحاب جنايات جنوها على أنفسهم وعلى غيرهم من عباد الله.. وأن هذا العذاب الذي يعذّبون به فى الآخرة بالخلود فى نار جهنم- إنما هو جزاء لهذه الجرائم التي اقترفوها فى دنياهم.. قوله تعالى: «لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ» . هو صفة للعذاب الذي يخلد فيه المجرمون.. فهو عذاب لا ينقطع عنهم أبدا، ولا يفتر أو يضعف أبدا، بل هو متصل دائما، وعلى حال واحدة من الشدة والبلاء، وإن اختلف صورا وألوانا. وقوله تعالى: «وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ» حال كاشفة عن هؤلاء المجرمين وهم يصلون هذا العذاب الأليم.. والإبلاس: هو الوجوم، والجمود، من شدة الحزن واليأس.. فهم أجسام قد تبلدت فيها العقول، وجمدت منها المشاعر، وذهلت النفوس.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 165 قوله تعالى: «وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ» . أي أن هذا العذاب الذي هم فيه، لم يكن لظلم وقع عليهم، حيث يراهم الرائي فيستفظع هذا العذاب، الذي لا ينقطع أبدا، ويخيل إليه أنه ليس هناك من ذنب يستحق هذا العذاب الذي لا تحتمله السموات والأرض.. وكلا فإنهم لم يظلموا، وإنما هم الذين ظلموا أنفسهم، فأوردوها هذا المورد، وسعوا بها إلى هذا البلاء، فكفروا بالله، وحاربوا الخالق، وخرجوا بهذا على الولاء لله، والانقياد لرب العالمين، الذي انقاد له الوجود كله.. قوله تعالى: «وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ، قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ» . مالك، هو الملك الموكّل بالنار من عند الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يقوم على أهل النار، كما يقوم السبحان على المسجونين.. وفى قولهم: «يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ» ما يكشف البلاء النازل بهم، كما يكشف اليأس الذي وقع فى نفوسهم من أن ينالوا من الله خيرا.. فهم لا يرجون الله فى هذا اليوم، ولا يطمعون فى رحمته، حتى إنهم لينادون مالكا: «يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ» ولم يقولوا «ليقض علينا ربنا» - إنهم على يأس من أن ينسبوا إلى الله، وأن يقبل الله منهم قولا.. وذلك من ضلالهم الذي صحبهم فى آخرتهم. فلم يقدروا الله قدره.. ولم يروا سعة رحمته.. وقوله تعالى: «قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ» - هو ردّ مالك على ما طلبوه منه أن يسأل ربه القضاء عليهم، وإهلاكهم، حتى ينقطع عنهم هذا العذاب.. وقول مالك: «إِنَّكُمْ ماكِثُونَ» .. أبلغ من قوله إنكم لن تموتوا أو لن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 166 يقضى عليكم، لأن قوله: «إِنَّكُمْ ماكِثُونَ» يدل على أنهم لن يموتوا، ولن يقضى عليهم، كما يدل فى نفس الوقت على أنهم لن يتحولوا عن حالتهم تلك التي هم فيها.. إنهم ماكثون فيما هم فيه من عذاب أليم، وعلى تلك الحال التي هم عليها.. أما لو قيل لهم لن يقضى عليكم، أو لن تموتوا، فقد يظلون أحياء، ولكن فى غير صحبة هذا العذاب الذي معهم! وإن كان ذلك بعيدا عن محامل اللفظ، إلّا أن المكروب يتعلق بأوهى الأسباب، وفى هذا القول متعلق لهم، وإن كان متعلقا كاذبا.. فجاء قوله تعالى: «إِنَّكُمْ ماكِثُونَ» ليقطع حتّى هذا الوهم الذي يتعلقون به!. قوله تعالى: «لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» .. يكاد يجمع المفسرون على أن هذا الخطاب موجه إلى أهل النار، وأنه من مقول القول الذي ردّ به مالك عليهم، وأن جمع الضمير فى قوله «جِئْناكُمْ» لأن مالكا إنما يتحدث إليهم بلسان الملائكة الذين هو منهم، والذين جاوءا إلى هؤلاء المشركين بالحق من ربهم، فيما حملوا إلى رسل الله من آيات الله! وهذا مردود من وجهين: فأولا: فى قوله تعالى: «وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» ما يشير إلى أن بعضا من المخاطبين بهذا الحديث غير كارهين للحق، بل هم مستعدون لقبوله، والانتفاع به.. وهذا لا يتفق مع أهل النار، الذين قيل إن هذا الخطاب موجّه إليهم، إذ ليس فيهم أحد لم يكن كارها للحق، مجانبا له، بل ومحاربا لكل من الجزء: 13 ¦ الصفحة: 167 يتجه إليه.. ولو كان على غير تلك الصفة لما ورد هذا المورد، ولما لقى هذا المصير المشئوم!! وثانيا: أن قوله تعالى فى الآية التالية: «أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ» . - هو- وبإجماع المفسرين- خطاب إلى المشركين! وهذا الخطاب- كما ترى متصل بالكلام الذي سبقه، إذ هو إضراب عنه، وإنشاء لخطاب آخر معهم.. كما سنرى.. وعلى هذا، فإن قوله تعالى: «لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» - هو خطاب. من الله سبحانه وتعالى للمشركين، على لسان النبي صلوات الله وسلامه عليه.. وفى هذا الخطاب ردّ على هؤلاء المشركين، الذين يدعون إلى هذه النار التي يعذّب فيها المجرمون، الذين نادوا مالكا قائلين: «لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ» هؤلاء المشركون يدعون فى هذه اللحظة إلى تلك النار، وهم إذ يطلبون وجها للفرار منها، يلقاهم هذا القول الذي يمسك بهم، ويدفعهم دفعا إلى جهنم: «لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» .. والمخاطبون بهذا إنما هم أكثر المشركين الذين كانوا إلى هذا الوقت يقفون من الله هذا الموقف العنادي، فأبوا أن يستمعوا لآيات الله، وأن يستجيبوا لها.. أما الذين استجابوا للرسول، وآمنوا بالله، فقد كانوا قلة قليلة منهم.. ولهذا صح أن يخاطبوا بقوله تعالى: وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» .. قوله تعالى: «أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 168 هو إضراب عن هذا الخطاب الذي وجه إليهم، والذي كان من شأنه أن يحدث لهم ذكرا، وأن ينقادوا للحق، ويذعنوا له.. وأما ولم يكن لهم من هذا الحديث عبرة وعظة، فقد كان من التدبير الحكيم أن يطوى عنهم هذا الحديث، وأن يواجهوا بهذا الواقع الذي هم فيه، وهو أنهم قد أبرموا أمرهم وأحكموه على هذا الضلال، والله سبحانه قد أحكم أمره، على أن يأخذ المجرمين يجرمهم.. وفى هذا وعيد لهم بما سيلقون من عذاب أليم، يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون. قوله تعالى: «أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ؟ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ» . هو إضراب أيضا عن الخطاب الذي وجه إليهم فى قوله تعالى: «أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ» .. حيث أن هذا الوعيد الذي يحمله الخطاب إليهم لم يلق منهم إلا استهزاء، واستخفافا، لأنهم على ظنّ بأن لا بعث، ولا حساب، ولا جزاء.. وأنه إذا كان بعث وحساب وجزاء- فأين هى أعمالهم التي يحاسبون عليها؟ ومن رآها منهم وأحصاها عليهم؟ وإذا كان هناك من يرى أعمالهم الظاهرة التي يعملونها على مشهد من الناس، فأين من يعلم ما يعملونه فى الخفاء، وما يضمرونه فى الصدور؟. فجاء قوله تعالى: «أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ؟» ليكشف عن هذا الوسواس، الذي توسوس به لهم ظنونهم الكاذبة، عن علم الله سبحانه وتعالى، وليقرر لهم الحقيقة التي غابت عنهم، وهى أن كل شىء عملوه فى السرّ أو فى الجهر، يعلمه الله الذي لا تخفى عليه خافية.. بل وليس هذا فحسب، بل إن أعمالهم كلها- سرها وجهرها- مسجلة فى كتب يكتبها رسل من عند الله موكّلون بهم.. «ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» (18: ق) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 169 قوله تعالى: «قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ» . هو بيان للموقف الذي يتخذه النبي من دعوى المشركين بأن لله ولدا، وهم الملائكة الذين نسبوهم إلى الله، ثم عبدوهم من دونه.. فلو أنه سلّم بهذا الأمر جدلا، وكان للرحمن ولد كما يزعمون- فهذا لا يجعل للولد مكانا متقدما على الوالد، حتى يؤثر بالعبادة من دونه.. فالوالد مقدّم على الولد رتبة وزمانا.. فهو بهذا معبود قبل أن يوجد الولد.. فإذا وجد الولد بعد هذا، فليس له أن يزيل الوالد عن مكانه! وعلى هذا، فإنه لو سلّم للمشركين بما يقولونه من أن لله ولدا، فإن هذا لا يعطيهم حجّة على عبادة الولد دون الوالد.. ولهذا كان أن واجههم النبي بما ينبغى أن يكون عليه الأمر- على فرض التسليم بدعواهم الباطلة- وهو أن النبىّ أول العابدين لله، دون التفات إلى هذا الولد على فرض التسليم به..! وهذا الأسلوب فى محاجّة الخصم، هو أبلغ الأساليب فى إفجامه، وقطع حجته، وذلك بإقامة الحجة عليه من واقع إقراره واعترافه، عملا بالمثل القائل: «من فمك أدينك» . قوله تعالى: «سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ» . هو تنزيه لله سبحانه وتعالى عن هذا القول الذي يقوله المشركون بالله، من نسبة الولد إليه، والذي سلم به جدلا، لإظهار فساد منطقهم حتى مع هذا المدعى الباطل الذي يدّعونه على الله.. أما الله سبحانه وتعالى فهو منزه عن أن يكون له ولد.. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 170 قوله تعالى: «فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ» .. هو استصغار لأحلام هؤلاء المشركين، وأنهم أشبه بالأطفال، يخوضون ويلعبون، فلا معتبر لما يقولون.. لأنهم يرمون بالكلام على عواهنه، دون أن يكون لعقولهم نظر فيه، أو تقدير له، ولهذا فإن الأولى بالنبي- صلوات الله وسلامه عليه- أن ينصرف عنهم، وأن يدعهم لما هم فيه من لهو ولعب، حتى تقع بهم الواقعة، ويأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون.. الآيات: (84- 89) [سورة الزخرف (43) : الآيات 84 الى 89] وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) التفسير: قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ» . هو بيان لقدرة الله، وجلاله، وعظمة ملكه، واقتدار سلطانه.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 171 فهو سبحانه، المتفرد بالألوهة فى السماء.. لا شريك له فيها.. وبهذا يدين له أهل السماء بالعبودية.. وهو سبحانه، المتفرد بالألوهة فى الأرض.. لا شريك له فيها.. وبهذا يدين له أهل الأرض بالولاء ويخصّونه بالعبادة.. وأنه إذا كان فى الناس من ضلّ وغوى، فانحرف عن هذا الوضع الذي يتخذه أهل السماء والأرض، فإنهم- مع هذا- مقهورون لله، واقعون تحت سلطانه.. طوعا أو كرها، كما يقول سبحانه: «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» (93: مريم) وكما يقول جل شأنه، «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً» (15: الرعد) . وقوله تعالى: «وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ» - إشارة إلى الصفتين الكريمتين اللتين يتجلّى الله سبحانه وتعالى بهما على ملكه فى السموات والأرض.. وهما: الحكمة والعلم فكل ما خلق الله سبحانه، موزون بميزان الحكمة، مقدر بقدرها.. وكل ما فى السموات والأرض، واقع فى علم الله «لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ» (3: سبأ) وهكذا كل أمر- صغر أو كبر- إنما ملاكه الحكمة والعلم.. فبالحكمة يقوم الأمر، وبالعلم تضبط مصادره وموارده، ولهذا كان مما طلب به «يوسف» القيام على تدبير خزائن الأرض- أنه حفيظ عليم، فقال للملك: «اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ.. إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» (55: يوسف) والحفظ شعبة من شعب الحكمة!. قوله تعالى: «وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 172 هو تسبيح بحمد الله وتقديس لجلاله، بلسان كل مخلوق فى السموات والأرض.. فهو سبحانه- المتفرد بالألوهة فى السماء، والأرض.. ومن ثمّ كان كل من فى السموات والأرض لسان حمد لله، وتسبيح لله، وولاء لجلاله. وفى قوله تعالى: «وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» تذكير للناس- وهم يشهدون جلال الله، وعظمته فى هذا الملك العظيم الذي له وحده- تذكير لهم بيوم الحساب والجزاء، الذي لا يعلمه إلا هو.. وذلك يوم يرجعون إلى الله، ويجزى كل امرئ بما عمل.. قوله تعالى: «وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» المراد بالمدعوّين من دون الله هنا، هم الملائكة، الذين يعبدهم المشركون فى هذه الأصنام التي سموها بأسماء أطلقوها على بعض الملائكة، مثل اللات، والعزى، ومناة، وغيرها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى» (27: النجم) وهؤلاء الملائكة الذين يعبدهم المشركون فى تلك الأصنام التي يتمثلونها فيهم- وبتلك الأسماء التي يسمونهم بها- هؤلاء الملائكة، لا يملكون الشفاعة لأحد، كما يتوهم هؤلاء المشركون إذ يقولون عنهم: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» (3: الزمر) ويقولون فيهم: «هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» (18: يونس) . وقوله تعالى: «إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ» هو استثناء من عموم النفي الواقع على شفاعة الملائكة.. أي أن الملائكة لا يشفعون إلا لمن شهد بالحق، فآمن بالله، ويرسل الله، وباليوم الآخر.. كما يقول الله تعالى: «لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ» (78: الزخرف) .. فهؤلاء الذين كرهوا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 173 الحق وأنكروه ليس للملائكة شفاعة فيهم.. وهم أكثر المشركين.. أما من شهد بالحق من هؤلاء المشركين- وهم أقلية- وآمنوا بالله، وأخلصوا دينهم لله له، فإن للملائكة شفاعة فيهم، تنال العاصين منهم.. وتلك الشفاعة، هى الاستغفار لهم كما يقول الله تعالى: «وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» (7: غافر) . فهذا من شفاعة الملائكة للعصاة من المؤمنين.. وهى شفاعة مقبوله عند الله سبحانه وتعالى.. وقوله تعالى: «وَهُمْ يَعْلَمُونَ» يمكن أن يكون حالا من الاسم الموصول «الذين» أي أن الملائكة لا يملكون الشفاعة إلا لمن شهد بالحق.. وهم يعلمون هذا.. أي يعلمون أنهم لا يملكون الشفاعة إلا لمن شهد بالحق. ويمكن أن يكون حالا من الاسم الموصول «مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ» أي لا تشفع للملائكة إلا لمن شهد بالحق، أي شهادة قائمة على علم، يملأ القلب إيمانا واطمئنانا، لا مجرد شهادة ينطق بها اللسان دون أن تقع من القلب موقعا.. قوله تعالى: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ» . أي أن هؤلاء المشركين إذا سئلوا عمن خلقهم، لما وجدوا بين أيديهم إلا جوابا واحدا، وهو أن الله هو الذي خلقهم.. إنهم لا يستطيعون أن يقولوا إن الملائكة الذين يعبدونهم، هم الذين خلقوهم، وخلقوا من فى السموات والأرض.. بل إنهم ليعلمون أن الملائكة من خلق الله، وإن كانوا أبناء لله عندهم. ومع هذا الإقرار منهم بخلق الله لهم، فإنهم لا يعبدون رب السموات والأرض، الذي خلقهم ويعبدون خلقا من خلقه.. وهذا منطق معكوس، لا يلتقى أوله مع آخره.. ولذا جاء قوله تعالى: «فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ» منكرا على هؤلاء الجزء: 13 ¦ الصفحة: 174 المشركين هذا الإفك والافتراء الذي جعلوا منه دينا يدينون به، ولا مستند له من منطق، حتى منطقهم هم الذي ينتزع قضاياه من الوهم والضلال.. قوله تعالى: «وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ» . القيل: معناه القول.. والضمير المضاف إليه هذا القول، هو للنبى صلوات لله وسلامه عليه.. ومقول القول هو قوله تعالى: «يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ» . وهو مثل قوله تعالى: «وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً» (30: الفرقان) وقد اختلف المفسرون اختلافا كبيرا فى الربط بين هذه الآية وما قبلها.. كما اختلف القرّاء فى قراءة «وَقِيلِهِ» فقرىء بفتح اللام، وقرىء بكسرها، وقرىء بضمها.. ولكل قراءة تأويل تؤول عليه.. ولا نريد أن نعرض لهذه المقولات، فهى مبسوطة فى كتب التفاسير، يرجع إليها من شاء مزيدا من العلم، أو الرياضة الذهنية.. والذي نراه فى تأويل هذه الآية، ونرجو أن يكون بتوفيق الله صوابا، هو- والله اعلم- أن الواو فى قوله تعالى: «وَقِيلِهِ» .. هى بمعنى «مع» .. وعلى هذا تكون الآية مرتبطة بقوله تعالى: «فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ؟» .. فهذا الاستفهام ينكر عليهم أن يعبدوا غير الله، وأن ينصرفوا إلى غير خالفهم وخالق السموات والأرض، الذي شهدت له بذلك ألسنتهم.. ومع هذا فهم يعبدون غير الله، بشهادة الواقع الذي هم فيه، وبشهادة الرسول الذي خبر حالهم، وعرف الداء المتمكن منهم، فقال شاكيا إلى ربه: «يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ..» الجزء: 13 ¦ الصفحة: 175 وتحرير المعنى، هو: إلى أين ينصرف هؤلاء المشركون، مع شركهم الذي هم فيه، ومع ما يرى الرسول من حالهم فى المستقبل، وأنهم ممن لا يرجى صلاحهم، أو يتوقّع شفاؤهم من هذا الداء الذي معهم؟. ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك: «فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» . - جاء رداّ على قول النبي: «يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ» وداعيا له إلى الرفق بهم، ومقابلة جهلهم بالحلم، وسفاهتهم بالمغفرة والصفح.. وأنهم كلما قالوا فحشا وهجرا قال لهم سلاما ومغفرة، كما يقول سبحانه فى وصف عباد الرحمن: «وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً» (63: الفرقان) وكما يقول جل شأنه لنبيه الكريم: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» (199: الأعراف) . وفى هذا ما يشير إلى أن هؤلاء المشركين ينتظر منهم خير كثير، وسيكون منهم بناة الإسلام، ومادة دولته التي ستظهر عما قريب.. وقد كان، فدخل كثير من هؤلاء المشركين فى دين الله، حتى أنه إذا جاء يوم الفتح لم يبق مشرك من قريش- خاصة- لم يدخل فى الإسلام. وفى قوله تعالى: «فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» أي أنهم هم الآن على جهل يزيّن لهم هذا الباطل الذي هم فيه، ويغذيهم بهذا السفه الذي ترمى به أفواههم.. ولكنهم مع الزمن، ومع ما يأخذهم به الرسول الكريم من حلم، وصفح ومغفرة، سيعلمون بعد جهل، ويؤمنون بعد كفر.. ويصبحون جندا من جنود الله، ورايات من رايات الإسلام التي تخفق فى آفاق الأرض.. وليس هذا من الوعيد، كما يذهب إلى ذلك جمهور المفسرين.. فإن السورة قد ختمت بهذا الختام الذي يدعو النبي إلى الصفح والمغفرة والمسالمة.. ولا يتفق مع هذا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 176 أن يلقى النبىّ المشركين بالصفح والمسالمة، ثم يلقاهم الله سبحانه بعد ذلك بالوعيد.. هذا، والله اعلم. ونود هنا، بعد ختام هذه السورة أن نشير إلى أمر كان ملفتا للنظر.. فقد كثر فى هذه السورة ذكر الاسم الكريم «الرَّحْمنِ» الذي تكرر فى سبعة مواضع من السورة هى: «وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ... » الآية: (17) «وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ... » الآية: (19) «وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ... » الآية: (20) «وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ ... » الآية (33) «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ... » الآية: (36) «وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ..» (45) . «قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ ... » الآية: (81) ولذكر «الرَّحْمنِ» موقعه فى الآية التي ذكر فيها، كما له حكمته التي تلتمس من هذا الذكر فى هذا الموضع.. فحيث ذكر «الرحمن» جلّ وعلا، كانت تجليات الرحمة، ورحمات الرحمن، مبسوطة لكل طالب، طالبة لكل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 177 معرض فمن فاته حظه من رحمة الله فى هذا المقام فهو الشقي المحروم من كل خير.. ولكن الذي نريد أن نقف بين يديه موقف النظر والاعتبار، هو هذا الإكثار من ذكر هذا الاسم الكريم فى تلك السورة.. وبادىء ذى بدء، فإن تكرار هذا الذكر للاسم الكريم «الرَّحْمنِ» هو تأكيد لتلك الدعوة التي يدعو إليها الرحمن عباده، ويبسط بها يده تبارك وتعالى إليهم بالرحمة، يلقاهم بها على كل طريق من طرق الغواية والضلال التي يركبونها.. فهذا الذكر نداءات متتابعة، إلى موارد هذه الرحمة الواسعة.. وهذا التكرار فى ذاته، هو رحمة من رحمة الله.. ثم إنه- من جهة أخرى- كانت السورة كلها معرضا لمواجهة المشركين بعبادتهم الملائكة، على أنهم أبناء الله، وأنهم كانوا يعرفون الله تعالى، ويعترفون بأنه خالق السموات والأرض- كما أنه كان من أكثر أسماء الله عندهم هو اسم «الرَّحْمنِ» ولهذا كان الحديث إليهم عن الله باسم (الرحمن) إشارة إلى أنه هو الإله لذى يدعون إلى عبادته، وأن اسمه «الرَّحْمنِ» وأنه ليس له ولد.. ولهذا أنكروا أن يكون الرحمن الذي يعرفونه، هو الرحمن الذي يدعوهم النبي إلى عبادته، كما يقول الله سبحانه: «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ؟. أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا؟ وَزادَهُمْ نُفُوراً» (60: الفرقان) إن الرحمن فى تصورهم هو أب لقبيلة كبيرة، هى الملائكة!!. ومن جهة ثالثة، فإن موقف هذه السورة من المشركين، هو موقف ملاطفة، وموادعة، على مسيرة لدعوة التي كثرت فيها القوارع التي يقرع بها الجزء: 13 ¦ الصفحة: 178 القرآن عناد المشركين، ويسفّه أحلامهم، ويفضح جهلهم.. فكانت هذه السورة أشبه بالهدنة التي يراجع فيها المتحاربون موقفهم، وقد ينتهى الأمر إلى الصلح، والسلام.. ومن أجل هذا كثر فى السورة ذكر الرحمن الذي يذكّر بالرحمة التي ينبغى أن تكون بين النبي وأهله.. ولهذا دعى النبي إلى أن يصفح عنهم، وأن يلقاهم بالموادعة والسلام، وقد وعد بأنهم سيعلمون بعد الجهل، ويؤمنون بعد الكفر، فكان ختام السورة قوله تعالى: «فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ.. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» .. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 179 44- سورة الدخان نزولها: مكية.. باتفاق. عدد آياتها: تسع وخمسون.. آية.. عدد كلماتها: ثلاثمائة وست وأربعون.. كلمة. عدد حروفها: ألف وأربعمائة وواحد وثلاثون.. حرفا. مناسبتها لما قبلها ختمت سورة «الزخرف» التي سبقت هذه السورة بقوله تعالى: «فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» .. وقد قلنا إن هذا الختام يتّسق مع السورة التي كانت تمثّل مرحلة من مراحل الدعوة الإسلامية فى مواجهة المشركين، وأن هذه المرحلة كانت أشبه بالهدنة بعد هذا الصراع الذي كان محتدما بين النبي والمشركين.. وقد بدئت سورة «الدخان» ، بذكر القرآن الكريم، وأنه نزل فى ليلة مباركة، يفرق فيها كل «أَمْرٍ حَكِيمٍ» وهذا البدء، هو تحريك لمسيرة الدعوة، بعد تلك الهدنة، ومن أول المسيرة يواجه المشركون بالقرآن الكريم، وما يحمل إليهم من خير وبركة، وأنه إذا كان قد أنذرهم وتوعدهم بالعذاب، فإنما ذلك لأنه حريص على هدايتهم، ضنين بهم على النار التي أعدت للكافرين.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 180 بسم الله الرحمن الرّحيم الآيات: (1- 16) [سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 16] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) التفسير: قوله تعالى: «حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ» .. الليلة المباركة هى ليلة القدر، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 181 فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» .. وليلة القدر ليلة من ليالى شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، كما يقول الله سبحانه: «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» (185: البقرة) .. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أنها ليلة النصف من شعبان. تلك الليلة التي اعتاد كثير من المسلمين الاحتفاء بها، وتلاوة بعض الأدعية المرتبة لها، باعتبارها الليلة التي بفرق فيها كل أمر حكيم، وتقدر فيها الأرزاق والأعمار.. وهذا بعيد عن مفهوم الآيات الكريمة التي تنطق صراحة بأن الليلة المباركة التي نزل فيها القرآن هى ليلة القدر، وأن شهر رمضان هو الذي أنزل فيه القرآن، وليس لشهر شعبان ولا ليلة النصف منه أي إشارة فى القرآن الكريم.. وعلى هذا، فإن ليلة النصف من شعبان، ليست من الليالى الإسلامية ذات الشأن الخاص، وإنما هى ليلة من ليالى الزمن، غير موسومة بسمة خاصة، تمتاز بها على غيرها من الليالى.. أما ليلة القدر، وهى الليلة التي أنزل فيها القرآن، فهى ليلة باركها الله سبحانه وتعالى، واصطفاها من بين الليالى، كما يصطفى من يشاء من عباده للنبوة.. فهى ليلة مباركة، لأنها كانت ظرفا حاويا للرحمة المنزلة من السماء إلى الأرض، وهى القرآن الكريم.. ومعنى: «أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» أي ابتدأ نزوله فى ليلة القدر، وابتداء النزول مؤذن بنزوله كله تباعا بعد ذلك.. وقوله تعالى: «إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ» - إشارة إلى أن إنذار الناس، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 182 وتنبيهم من غفلتهم، بإرسال الرسل، وإنزال الكتب- هو مما اقتضته رحمة الله بعباده.. والمراد بالإنذار ما تحمله كلمات الله وآياته من تحذير من عذابه، وتخويف بعقابه، وذلك ليستقيم الناس على الطريق السوىّ، وليرجعوا إلى الله، بعد أن تقطعت بهم السبل إليه.. وفى الاقتصار على الإنذار، مع أن رسالات السماء تحمل بين يديها- مع النذر التي تحملها إلى المشركين، والمكذبين- بشريات برضوان الله، وجنات عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين- فى هذا إشارة إلى أن رسالات السماء إنما تجىء وقد ركب الناس رءوسهم، وتنكبوا عن طريق الحق، وجرفهم تيار الضلال إلى حيث بشرف بهم على الهلاك، فكان من شأن من يخفّ للنجدة، والإنقاذ، أن ينفخ نفخة النذير، وأن يصرخ فى هذا الموكب المتجه إلى حافة الهلاك: أن قفوا، وإلا فهو الهلاك وسوء المصير.. فإذا كان من هؤلاء الضالين استماع لهذا النذير، واستجابة لدعوته- كان للحديث عن الحياة الجديدة التي يحياها الناس مع الايمان بالله والاستقامة على طريق الحق، وما وراء هذه الحياة من نعيم مقيم فى جنات عرضها السموات والأرض، أعدت للمتقين- كان لهذا الحديث آذان تسمع، وقلوب تفقه، وصدور تنشرح، ونفوس تتهيأ للبذل والتضحية فى سبيل هذا المعتقد الذي اعتقدته، واطمأنت إليه.. هذا، ومن مبادئ الشريعة: أنّ دفع المضار مقدم على جلب المصالح. وعلى هذا فالإنذار من الخطر هو المطلوب أولا.. ثم يكون الاتجاه بعد هذا إلى جلب المنافع.. قوله تعالى: «فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 183 فرق الأمر: قطعه، والفصل فيه.. ومنه الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل.. والمعنى: أنه فى هذه الليلة المباركة يقضى ويفصل كل أمر حكيم، أي محكم، لا ينقض، ولا يبدل.. والمراد بالأمر الحكيم هنا، هو القرآن الكريم، الذي ابتدأ نزوله فى ليلة القدر، وسمّى حكيما، لأنه قائم على الحكمة الإلهية، مقدر بقدرها، ولأنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ..» (64: يونس) . وما يضاف إلى هذه الليلة المباركة، من البركة، ومن القضاء بكل أمر حكيم فيها، هو خاص بهذا الكوكب الأرضى، وبالإنسان الذي يقوم على خلافة الله فيه، حيث لكل عالم نظامه الزمنى، وأوقاته المباركة.. وقوله تعالى: «أَمْراً مِنْ عِنْدِنا» منصوب على الاختصاص، أي أخص وأعنى بهذا الأمر الحكيم- أمرا صادرا من عندنا، هو القرآن الكريم.. وهنا سؤال، وهو كيف خصّ وصف الأمر بالحكمة هنا، مع أن كل أمر يقضى به الله هو موصوف بالحكمة من غير وصف؟ والجواب على هذا- والله أعلم- أن وصف الأمر بالحكمة ليس وصفا مخصصا له، وإنما هو وصف مؤكد للوصف القائم فى ذات الأمر ومبين له.. كما يقال فى وصف العسل مثلا بأنه حلو، وفى وصف المسك بأنه طيّب الريح.! .. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 184 وسؤال آخر.. وهو: كيف خصصت هذه الليلة بأنها يفرق فيها كل أمر حكيم؟ وهل يعنى هذا أنها الليلة التي يقضى فيها الله سبحانه وتعالى بما يقضى، ثم لا يكون له سبحانه قضاء فى غيرها؟ وكيف وهو سبحانه يقول: «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ؟» (29: الرحمن) . والجواب على هذا- والله أعلم- أن هذه الليلة، كما قلنا، خاصة بالعالم الأرضى، وعلى هذا، فإن ما يقضى به فى هذه الليلة من عند الله يكون خاصا بهذا العالم، وبالمخلوقات، والكائنات الموجودة فيه.. وهذا يعنى أن مقدرات ما يجرى على هذا العالم الأرضى فى مدة عام مقبل يفرق، ويقضى به فى هذه الليلة إلى مثلها فى العام القادم.. وهذا الذي يقضى وإن كان قد قضى به أزلا، فإن القضاء به فى تلك الليلة معناه نقله من اللوح المحفوظ إلى جند الله من الملائكة الموكلين بإنفاذ ما قضى الله به.. وقد كان مما قضى الله سبحانه وتعالى فى تلك الليلة نزول القرآن، وبعثة الرسول الكريم، وذلك فى عام البعثة النبوية.. ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك: «إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ» ، مشيرا إلى أنه مما قضى الله به فى عباده أن يبعث فى هؤلاء الأميين رسولا منهم، يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة.. وذلك ليقيم الحجة على عباده، وليأخذهم بذنوبهم إذا هم عصوا رسله وردوا الهدى الذي يحملونه من الله إليهم.. كما يقول سبحانه: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (15: الإسراء) وقوله تعالى: «رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» .. تعليل لبيان الحكمة التي من أجلها يرسل الله سبحانه وتعالى الرسل إلى عباده.. فهو سبحانه إنما يرسلهم رحمة منه، وفضلا وإحسانا.. وإلا فإن مع كل إنسان رسولا يدعوه إلى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 185 الإيمان بالله، وهو عقله، الذي لو أحسن النظر به، ووجهه نحو الاتجاه الصحيح لعرف ربه، وآمن به.. ولكن من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده ولطفه بهم، أنه لم يدعهم لعقولهم التي قد تضل وتزيغ، فبعث إلى هذه العقول رسولا من عنده، ينبه الغافل منها، ويوقظ النائم، ويهدى الضال الحائر.. «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» (165: النساء) وفى وصف الله سبحانه وتعالى بأنه: «السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» - إشارة إلى إن هاتين الصفتين اللتين لله سبحانه، قد جعل منهما للإنسان ما يقابلهما، رحمة منه وفضلا وإحسانا.. فالإنسان من شأنه أن يسمع، وأن يكون سميعا، ومن شأنه أن يعلم وأن يكون عليما.. وبهذا يرتفع إلى هذا المستوي الكريم، الذي أقامه الله سبحانه وتعالى فيه، خليفة له على الأرض.. وإن خير ما يسمعه الإنسان، من كلام، وخير ما يتعلم من علم، هو العلم المودع فى كتاب الله.. فمن كانت له أذنان فليسمع، ومن كان له قلب فليعقل!. قوله تعالى: «رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» . هو بدل من قوله تعالى: «مِنْ رَبِّكَ» .. أي إنا أرسلناك رحمة من ربك، رب السموات والأرض وما بينهما.. وفى قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ» - استدعاء لهؤلاء المشركين الجزء: 13 ¦ الصفحة: 186 الذين سئلوا من قبل فى آخر السورة السابقة: «الزخرف» : «مَنْ خَلَقَهُمْ» فقالوا: «اللَّهُ» . (الآية 87) - دعوة لهم أن يصححوا قولهم هذا الذي أنطقهم الواقع به، من غير أن يكون له رصيد من وعى، وإدراك، ونظر فى ملكوت السموات والأرض.. ولهذا، فإن هذا القول لم يقع من أنفسهم موقع اليقين، أي المستيقن، المحقق، الذي تدعمه الأدلة والبراهين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ» ؟ (20- 21: الذاريات) . فالآية الكريمة دعوة إلى العلم الذي يقوم على النظر المتأمل، والعقل المتيقظ، والإدراك الفاقة.. فهذا العلم هو الذي يقيم فى كيان الإنسان يقينا بما علم، وعن هذا اليقين تتحرك نوازع الإنسان، وتتجه إرادته، وتمضى عزيمته، وفى صحبته شعلة من هذا العلم، تضىء له الطريق، وتكشف له معالم الحق والخير.. وفى قوله تعالى: «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» - هو منطق المستيقن، الذي علم عن يقين، أن الله رب السموات والأرض وما بينهما.. فمن علم هذا واستيقنه، أسلمه هذا العلم إلى أن يعلم ويستيقن أن رب السموات والأرض وما بينهما، ينبغى أن يكون الإله المتفرد بالألوهة: «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» وأنه سبحانه هو الذي يحيى ويميت، وأنه سبحانه رب الناس جميعا.. السابقين والحاضرين واللاحقين.. قوله تعالى: «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ» .. هو إضراب عن الحديث إلى هؤلاء المشركين، الذين دعوا ليسمعوا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 187 كلام الله، وليكونوا من السامعين- فلم يسمعوا، ولم يعقلوا.. فكان أن صرف الله سبحانه، النبىّ عنهم، لأنهم ليسوا أهلا لأن يقوم فيهم هذا المقام.. فهم فى شك يفسد عليهم كل أمر يتصل بالرسول، وما يتلوه عليهم.. وهم لهذا لا يستمعون إليه إلا استماع الأطفال الذي يشغلهم اللعب عن كل حديث فيه جدّ.. قوله تعالى: «فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ، يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ» .. اختلف المفسرون فى هذا العذاب الذي يغشى الناس.. وأكثر المفسرين على أنه كان ضربا من العذاب أخذ الله به المشركين، استجابة لدعوة يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بها على مضر، فقال: «اللهم اشدد وطأت ك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف «1» » وقد اشتد القحط وعم الجدب، حتى أكلوا الجيف والعلهز «2» . قالوا وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان، وكان يحدّث الرجل صاحبه ولا يراه لكثرة الدخان.. ثم إنهم جاءوا إلى الرسول مستشفعين، فشفع لهم، وكشف الله الضر عنهم.. فما زادهم ذلك إلا طغيانا وكفرا..   (1) يستشهد النحاة بهذا الحديث على أن جمع سنين- مفرد سنة- يعامل معاملة المفرد وأن نونه أصلية تظهر عليها حركات الإعراب، ولا تحذف عند الإضافة. (2) العلهز: هو الصوف أو الوبر يغمس فى الدم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 188 وقيل- وهو رأى قلة من المفسرين- إن هذا الدخان الذي يغشى الناس هو ما يطلع على الناس يوم القيامة من أهوالها ومرجفاتها.. والرأى الأول هو الذي نقول به، وذلك لأمرين: أولهما: ما جاء بعد ذلك من قوله تعالى: «إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ..» وعذاب الآخرة لا يكشف عن أهل النار ليختبر بهذا الكشف ما عندهم من وفاء أو نكث بما عاهدوا الله عليه، إن كشف الضر عنهم.. فالآخرة دار جزاء، وليست دار ابتلاء واختبار.. وهذا يعنى أن الكشف المراد هنا، هو كشف عذاب وقع بالقوم فى الحياة الدنيا.. وثانيهما: ما جاء بعد ذلك أيضا فى قوله تعالى: «يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى.. إِنَّا مُنْتَقِمُونَ» .. فهو وعيد من الله سبحانه وتعالى لهؤلاء المشركين الذين نقضوا ما عاهدوا الله عليه، بأن يؤمنوا إذا كشف الضرّ عنهم.. فلما كشف عنهم الضرّ عادوا إلى ما نهوا عنه. وهذا يعنى أن الفعل الذي وقع الوعيد عليه كان فى الدنيا، لأنه لا وعيد على ما يقع من الناس فى الآخرة.. وقد يسأل سائل فيقول: كيف يقع عذاب على هؤلاء المشركين، وقد وعد الله سبحانه وتعالى النبي الكريم ألا يعذّب قومه وهو فيهم، كما يقول الله تعالى. «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» (33: الأنفال) فكيف هذا؟. والجواب- والله اعلم- أن هذا العذاب الذي لقيه المشركون من قحط أو قتل، ليس هو العذاب الذي كان يؤخذ به أقوام الرسل من قبل، والذي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 189 كان بلاء شاملا يستأصل القوم، ويأتى على كل شىء، فلا تبقى منهم باقية.. كما حلّ بقوم نوح، وعاد، وثمود، وأصحاب مدين، وقوم لوط.. وإنما هذا العذاب الذي نزل بالمشركين، لم يكن إلا وجها من وجوه الحياة التي كانوا يتقلبون فيها.. فإذا نزل بهم قحط، فقد عرفوا هذا القحط من قبل وذاقوا العذاب منه.. وإن أصيبوا فى أنفسهم فى معركة، من المعارك كيوم بدر فما أكثر المعارك التي أريقت فيها دماؤهم وأزهقت أرواحهم.. ولكن الذي يجعل لهذا العذاب الذي ينزل بالمشركين طعما جديدا، هو أنه يأتى على يد النبىّ، بدعائه عليهم، وذلك فيما أصابهم من قحط، أو على يد أصحابه يوم بدر.. فهذا هو الذي يجعل لهذا العذاب حسابا خاصا عندهم، وأثرا مضاعفا فى نفوسهم. هذا ما يشير إليه القرآن الكريم فى قوله تعالى: «قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ» (52: التوبة) .. فالنبىّ والمسلمون معه، إنما يتربص بهم، وينتظر أن يحلّ بهم عذاب من عند الله، وهو هذا القحط الذي حلّ بهم، أو أن يحلّ بهم عذاب بأيدى المؤمنين، وهو ما أصابهم على أيدى المسلمين من خزى وهو ان فى ميادين القتال، حتى لقد انتهى الأمر بدخول المسلمين عليهم، مكة، واستسلامهم للنبىّ، وإسلامهم لله رب العالمين.. ومن جهة أخرى، فإن هؤلاء المشركين قد دخلوا جميعا فى الإسلام، ولم يمت منهم على الكفر إلا أعداد قليلة بالنسبة لمجموعهم، سواء من مات منهم فى ميدان القتال بأيدى المسلمين، أو من مات حتف أنفه.. وهذا من شأنه ألّا يوقع حكما عاما على هؤلاء المشركين بالعذاب الأليم يوم القيامة، وذلك لأنهم سيصبحون عما قليل فى عداد المؤمنين بالله.. وعلى هذا فإن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 190 ما يتهددهم به القرآن من عذاب، هو العذاب الدنيوي، الذي يرونه رأى العين، والذي يكون فيه عبرة وعظة، تفتح لهم الطريق إلى الإيمان بالله، كما يقول الله سبحانه عن غزوة بدر: «قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا، فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ» (13: آل عمران) . وقوله تعالى: «أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ» .. هو استبعاد لأن يقع فى نفوس المشركين شىء من العبرة والتذكر من هذا الابتلاء الذي ابتلوا به من القحط، الذي كان آية على صدق النبىّ، وعلى صلته بربّه، إذ كان هذا القحط دعوة مستجابة له من الله، كما كان رفع هذا البلاء عنهم استجابة أخرى للنبىّ من الله سبحانه وتعالى.. فهو معجزة من معجزات النبىّ، المادية، بعد أن ملأ النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- الدنيا عليهم، بالمعجزة الكبرى، التي تطلع عليهم من آيات الله وكلماته.. فماذا تفعل هذه الآية فى نفوس تحدّت الرسول وما بين يديه من كتاب مبين، تنطق آياته وكلماته بالمعجزات التي لا تنتهى؟ لقد تولوا عنه، وأعرضوا عن الاستماع إليه، والنظر فيما بين يديه، واتهموه بالكذب والافتراء والجنون، وقالوا «مُعَلَّمٌ» أي علمه غيره، و «مَجْنُونٌ» يهذى بهذا الذي اختطفه من علم العلماء!! وفى وصف الرسول الكريم بأنه «مُبِينٌ» ، إشارة إلى القرآن الكريم الذي بين يديه، والذي فيه البيان المبين إلى الهدى ودين الحق، وأنه بهذا القرآن يقدم الحجة الدامغة، والسلطان المبين، كما يقول سبحانه: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» (44: النحل) . وقوله تعالى: «إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ» .. هو حكم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 191 كاشف عن حال هؤلاء المشركين مع تلك التجربة، وأنهم سينكثون هذا العهد الذي عاهدوا الله عليه، لو أنه كشف عنهم العذاب.. وفى قوله تعالى: «إِنَّكُمْ عائِدُونَ» .. هو إشارة إلى أنهم كانوا أثناء تلك المحنة قد اتجهوا إلى الله، وأخذوا طريقهم إلى الإيمان به، فلما كشف الضرّ عنهم عادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر، وانسحبوا من هذا الطريق الذي وضعوا أقدامهم عليه.. وهكذا شأن أهل الضلال، إذا مسّهم الضر دعوا الله مخلصين له الدين، فإذا كشف الضرّ عنهم تولوا عنه معرضين.. وفى هذا يقول الله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها، رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ» (22- 23: يونس) . وقوله تعالى: «يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ» أي إننا منتقمون منكم أيها الضالون الناكثون للعهد، وذلك يوم نبطش بكم البطشة الكبرى، وهذه البطشة الكبرى هى يوم بدر، حيث قتل من رءوس المشركين وسادتهم سبعون قتيلا، وأسر منهم سبعون مقاتلا..! الآيات: (17- 33) [سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 33] وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 192 التفسير: قوله تعالى: «وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ» قلنا فى أكثر من موضع، إن القرآن الكريم يجمع فى كثير من المواقف، بين مشركى قريش، وبين فرعون وآله، وذلك لما بين الفريقين من تشابه كبير فى الكبر، والاستعلاء والعناد، مع الجهل الذي يدفع بهذه القوى الغاشمة الجامحة، إلى حيث يلقون مصارعهم على يديها.. وإنه كما فتن قوم فرعون بأنفسهم، وبما زين لهم الجهل والغرور، فرأى فرعون فى نفسه أنه إله، ورأى الملأ من حوله أنهم أشباه آلهة- كذلك فتن المشركون من قريش بأنفسهم، ورأوا أنهم أكبر من أن يتلقوا شيئا من إنسان، ولو كان هذا الإنسان مرسلا من رب العالمين.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 193 وفى قوله تعالى: «وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ» إشارة إلى موسى- عليه السلام- وأنه الرسول الكريم الذي جاء إلى فرعون وملائه.. وفى وصف موسى بالكرم، لما فى يديه من معجزات كثيرة، عاد على الناس خيرها، فعاشوا فى ظلها كما يعيش الناس فى ظل جناب كريم معطاء.. فقد كان بين يدى موسى من المعجزات: العصا، التي أخرج بها بنى إسرائيل من العذاب المهين، والتي فجر بها الماء من الحجر.. كما كان من معجزاته المنّ والسلوى، الذي كان طعام بنى إسرائيل إلى أن عافوه، وزهدت فيه نفوسهم الخبيثة.. وقد كان يمكن أن يكون لفرعون نصيب عظيم من هذا الخير الذي بين يدى موسى، لو أنه صدّقه، وآمن بالله.. قوله تعالى: «أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ» هو بيان لمضمون الرسالة التي حملها هذا الرسول الكريم إلى قوم فرعون، وهو أن يؤدّوا إليه عباد الله، أي يطلقوهم، ويرسلوهم معه إلى حيث يخرج بهم من هذا البلاء الذي هم فيه.. وفى التعبير عن بنى إسرائيل بقوله تعالى: «عِبادَ اللَّهِ» - إشارة إلى أنهم ليسوا عبيدا لفرعون، ولا لقوم فرعون، وإنما هم عبيد لله.. وهذا رسول الله يطلبهم لينقلوا من هذه العبودية للناس، إلى العبودية لله. وفى التعبير عن إرسال بنى إسرائيل مع موسى بقوله تعالى: «أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ» - إشارة إلى أنهم أمانة لله فى يد القوم، وأن عليهم أن يؤدوا هذه الأمانة عند طلبها.. وهذا يعنى أن الضعيف أمانة فى يد القوى، وأن عليه أن يرعاه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 194 ويحفظه، وألّا يضيّع إنسانيته بالقهر والبغي، فيتحول فى يده إلى إنسان قد فقد وجوده.. إنسان قد مسخت إنسانيته فاستخذى وذلّ.. وهذا هو الضياع، الذي هو الموت بالحياة! وفى وصف موسى بالأمانة فى قوله تعالى: «إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ» - إشارة أخرى إلى أنه سيحفظ أمانة الله فى عباده، إذا صاروا إلى يده، وألا يضيّعهم كما ضيعهم فرعون، بل إنه سيصلح ما أفسد فرعون منهم، ويطبّ لما رماهم به من داء اغتال كل معانى الإنسانية فيهم.. قوله تعالى: «وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» هو من مضامين هذه الرسالة، ومن مقول القول الذي واجه به موسى القوم.. وهو أنه قد جاءهم بسلطان مبين، أي سلطان ظاهر، يعلو كل سلطان.. ومن كان هذا شأنه فلا يصحّ أن يلقاه القوم متعالين.. فإنه- وهو أعلى منهم سلطانا وأقوى قوّة- قد جاءهم طالبا راجيا، ولم يأتهم آمرا مستعليا.. وفى التعبير عن السلطان الذي يلقى به القوم- فى التعبير عن هذا بفعل المستقبل «آتِيكُمْ» - إشارة إلى أن هذا السلطان الذي معه لم يره القوم بعد، وأنهم إذا شاءوا أن يروه أراهم إياه.. وفى هذا يقول الله تعالى، فيما كان بين فرعون وموسى: «قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ؟ قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ! فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ» (30- 33: الشعراء) فالسلطان المبين الذي جاء به موسى، هو عصاه، ويده، ولم يكن فرعون الجزء: 13 ¦ الصفحة: 195 ومن معه يرون فى العصا واليد سلطانا.. فلما سألوا موسى أن يريهم هذا السلطان- ألقى عصاه، ونزع يده.. فكانتا آيتين من آيات الله!! قوله تعالى: «وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ» هو أيضا من مقول القول من موسى إلى فرعون وملائه. يقول لهم.. إنى مستعيذ بالله، ومستجير بربي وربكم أن تأخذكم العزة بالإثم، فتمتد أيديكم إلىّ بالأذى، أو أن تتطاول علىّ ألسنتكم بالفحش من القول، فترجمونى بقوارص الكلم، وبذيئه.. فالمراد بالرجم هنا، القذف بالكلمات البذيئة، من غير حساب.. وفى قوله: «وَرَبِّكُمْ» مع أنهم لا يعترفون بربّ موسى ربّا لهم- إلزام لهم بالاعتراف برب موسى، وإن لم يقبلوه ربّا لهم.. فذلك هو الحق الذي يقال، سواء قبله القوم أم رفضوه.. وقوله تعالى: «وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ» أي وإن لم تصدقونى، وتسلّموا بما جئتكم به، ودعوتكم إليه، فليكن الأمر بينى وبينكم على ما كان عليه من قبل، وهو أن تكفّوا عنى، وتدعونى وشأنى، بعد أن بلغتكم رسالة ربى.. قوله تعالى: «فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 196 أي دعا موسى ربه: أن هؤلاء قوم مجرمون، وأنهم قد استحقّوا بإجرامهم أن يلقوا جزاء المجرمين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان موسى فى موضع آخر: «وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» (88- 89 يونس) .. وقوله تعالى: «فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ» - هو جواب لنداء موسى ربّه، ودعائه إياه أن يأخذ هؤلاء المجرمين بجرمهم.. ولم يصرح القرآن الكريم بالجزاء الذي طلب موسى من ربه أن يجزى به القوم المجرمين، وإنما اقتصر على عرض القوم وهو فى تلبسهم بالكفر الذي هو الجريمة التي يدانون بها.. وفى هذا ما يشير إلى أن عقابهم على هذا الجرم أمر مفروغ منه، وأنه لا يحتاج إلى طلب، إذ كانت تلك الجريمة الشنيعة تنادى بالويل والهلاك لمن ألمّ بها.. ولهذا جاء قوله تعالى: «فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ» معطوفا بالفاء التي تدل على الترتيب والتعقيب- على قوله تعالى: «فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ» - وذلك مما يشعر بأن الدعاء واستجابة الدعاء، أمر واحد.. بمعنى أن الجريمة وعقابها مترابطان متلازمان.. فحيث كانت هذه الجريمة، كان العقاب مصاحبا وملازما لها.. وفى قوله تعالى: «فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا» بذكر الليل مع أنّ السّرى، لا يكون إلا ليلا- فى هذا ما يشير إلى ما ينبغى أن يكون عليه موسى وقومه، من الحذر، وهم يأخذون طريقهم ليلا، فارّين هربا من وجه فرعون.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 197 فقد يكون السير ليلا فاضحا لأهله، إذا هم أحدثوا جلبة وضوضاء.. وأصل السّرى من السرّ، وسمى السير بالليل سرّى لأن الليل يكتم تحرك الأشياء، ويسترها عن الأعين.. وقوله تعالى: «إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ» بيان للحكمة من السير ليلا، إذ أن هناك من يتربص بالقوم، ويتتبع آثارهم وأخبارهم.. قوله تعالى: «وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ» .. الرهو: المستوي، المتسع، من كل شىء. وهذا أمر لموسى من ربه، أن يترك البحر قائما فيه الطريق الذي أحدثه بعصاه.. لأنه سيطبق وشيكا على فرعون وجنوده، بعد أن يجاوزه موسى وقومه.. وسمى فرعون وقومه هنا جندا، لأنهم كانوا فى معركة مع موسى، وقد انتهت هذه المعركة، وكانوا من المفرقين.. والآيات هنا تختصر الأحداث، وتطويها طيّا، لأن تفصيل هذه الأحداث، قد جاء به القرآن فى مواضع أخرى، فكانت الإشارة إليها هنا مغنية عن الشرح والتفصيل. قوله تعالى: «كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ» . هذا بيان لما خلّف هؤلاء الهالكون غرقا، فقد خلقوا وراءهم جنات مثمرة، وعيونا جارية، وزروعا مونقة، وحياة طيبة، ومعيشة راضية.. وهو الجزء: 13 ¦ الصفحة: 198 شىء كثير أفاضه الله على القوم من فضله، فما زادهم ذلك إلا طغيانا وكفرا.. وها هم أولاء قد خلّفوه وراءهم، يعيش فيه غيرهم، وينعم به سواهم.. فما أغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله من شىء..! قوله تعالى: «كَذلِكَ.. وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ» . أي بمثل هذا الإحسان العظيم إليهم، كان عقابنا الشديد لهم، فنزعنا هذه النعم من أيديهم، وأورثناها قوما آخرين من بعدهم، وهم أبناؤهم الذين صارت إليهم هذه الأرض، وما خلّف المفرقون فيها من جنات وعيون، وزروع ومقام كريم.. وسمّى الأبناء الوارثون لهؤلاء المغرّقين- سمّوا قوما آخرين، لأن آباءهم كانوا على حال من الضلال، بحيث لا يكاد يجمعهم بأبنائهم أي وجه من وجوه الشبه.. فمهما ورث أبناؤهم من بعدهم من الكفر والضلال، فإن المسافة بينهم وبين أبنائهم ستظل دائما بعيدة، لأن آباءهم قد بلغوا فى هذا الضلال غاية لا يبلغها أحد.. هذا ويذهب كثير من المفسرين إلى أن القوم الآخرين، هم بنو إسرائيل.. وهذا غير معقول، لأن بنى إسرائيل قد خرجوا من هذه الأرض، فرارا من العذاب، الذي سلّط عليهم فيها، وقد تحدث القرآن عن تيههم فى الصحراء أربعين سنة، ثم عن حياتهم فى أرض كنعان، بعد موت موسى.. ثم إن المراد بالميراث هنا ليس هو الوارث، ولهذا جاء مجهلا بقوله تعالى «قَوْماً آخَرِينَ» .. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 199 وإنما المراد، هو الإخبار عن هلاك فرعون، وإخلاء يده مما كان يعتزّ به من ملك وسلطان، كما يقول الله سبحانه على لسانه: «أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي؟» (51: الزخرف) فلقد ذهب كل ذلك، ولم يغن عنه شيئا، بل وصار ميراثا لغيره.. قوله تعالى: «فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ» . أي لقد أهلكهم الله وأخذهم بعذابه، فلم يأس عليهم أحد، ولم تبكهم عين، ولم يحزن من أجلهم قلب.. بل ذهبوا كما يذهب الوباء، يتنفس بعده الناس أنفاس العافية والرجاء.. فليس لهؤلاء الهلكى أولياء فى السماء، ولا فى الأرض.. فهم أعداء الله، وأعداء ملائكته، وأعداء رسله، وأعداء الإنسانية كلها.. راحوا فما بكت الدنيا لمصرعهم ... ولا تعطّلت الأعياد والجمع وقوله تعالى: «وَما كانُوا مُنْظَرِينَ» - أي لم يكونوا ممن يمهلون بالجزاء إلى يوم القيامة، بل كان عذابهم معجّلا فى الدنيا، ولهم فى الآخرة عذاب عظيم.. وهذا يعنى أمرين: أولهما: أنّ جرم هؤلاء المجرمين قد بلغ من الشناعة حدا بحيث لا يسعه عذاب الآخرة، فكان عذابهم فى الدنيا، وفى الآخرة جميعا.. وثانيهما: أن هؤلاء المشركين من قريش، لن يعجّل لهم العذاب، كما عجّل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 200 لقوم فرعون، بل إنهم منظرون إلى يوم القيامة.. وفى هذا رحمة من الله بهم، وإكرام لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- من ربه فى قومه.. فإن هذا الانتظار بهم، سيفسح لهم مجالا لإصلاح ما فسد منهم، واللحاق بإخوانهم الذين سبقوهم إلى الإيمان.. وقد كان.. فدخل هؤلاء المشركون فى دين الله، وكانوا جندا من جنود الله، للجهاد فى سبيل الله، وإعلاء رأية دين الله.. قوله تعالى: وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ» فى هذا بيان لما كان لله سبحانه وتعالى من فضل وإحسان، فى نجاة بنى إسرائيل، أجداد هؤلاء اليهود الذين يقفون من دين الله موقف المتربص به، والمتحفز للانقصاض عليه.. فقد نجّى الله سبحانه وتعالى آباءهم الأولين من العذاب المهين الذي أخذهم به فرعون.. فليذكر اليهود نعمة الله عليهم، وليكونوا أولياء لأوليائه.. وإلا فالويل لمن يحادّ الله، ورسل الله! قوله تعالى: «وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ» أي ومن نعم الله وإحسانه على بنى إسرائيل أنه سبحانه قد اختارهم على أهل زمانهم، ليكونوا موضع امتحان وابتلاء، فجعل فيهم الأنبياء الذين جاءوهم بالآيات البينات من عند الله.. وفى هذه البينات ابتلاء لهم أي ابتلاء.. فقد تتابعت آلاء الله عليهم، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 201 وكثرت نعمه فيهم.. وإنه على قدر الإحسان يكون الحساب.. وقد خرج بنو إسرائيل من هذا الامتحان بأخسر صفقة، إذ كشف ذلك منهم عن نفوس خبيثة، وقلوب مريضة، وطبائع شرسة- فكان أن أخذهم الله بالبأساء والضراء، وأنزل بهم الضربات القاصمة، فكانوا عبرة وعظة لمن يكفر بنعم الله، ويستنبت من إحسانه وفضله أنيابا ومخاب ينهش بها عباد الله.. فلقد لعنهم الله وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت.. وفى هذا يقول الله تعالى: «فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ» (13: المائدة) .. ويقول جل شأنه: «لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ» (78: المائدة) .. ويقول سبحانه فيهم: «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ.. إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» (167: الأعراف) .. وفى قوله تعالى «عَلى عِلْمٍ» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى، إنما كان اختياره لبنى إسرائيل، واختصاصهم بكثرة الأنبياء الذين أرسلوا فيهم، والآيات التي جاءوهم بها، وتظاهر النعم عليهم- إنما كان ذلك على علم منه سبحانه وتعالى بما سيكون من هؤلاء المناكيد، من كفر بهذه الآيات، وتكذيب لرسل الله، وإعنات لهم، كما يقول سبحانه وتعالى فيهم: «أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ» (87: البقرة) .. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 202 ففى قوله تعالى: «عَلى عِلْمٍ» ردّ على من لا يعرف قدر الله سبحانه وتعالى، ولا يعنو لجلاله وعظمته، فيسوء ظنّه بالله، حين يرى آثام بنى إسرائيل، وشناعاتهم، ومفاسدهم فى الأرض، ثم يرى كثرة الرسل الذين بعثهم الله فيهم، وكثرة الآيات التي جاءوهم بها، مما لم يكن لأمة من الأمم، أو شعب من الشعوب.. فكان قوله تعالى: «عَلى عِلْمٍ» ردّا على من يظن هذا الظن فى الله، ويرى- عن جهل- أن اختيار الله سبحانه لهؤلاء القوم، واختصاصهم بالرسل والشرائع والمعجزات، لم يكن واقعا موقعه الصحيح، إذ لم يثمر إلا هذا الثمر النكد الخبيث!! وكلا.. ثم كلا.. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.. فقد كان اختيار هؤلاء القوم لرسالات السماء ابتلاء لهم وامتحانا، وتجربة للإنسانية، تعمل فيها السماء أسلحتها فى النفس البشرية، لتخرج منها ما كمن فيها من آفات وعلل.. وقد تخيرت السماء لهذه التجربة أخبث ما فى الإنسانية من نفوس، وأرذلها من جماعة، فبعثت بالأطباء والأساة يحملون الدواء لكل داء.. فلم تتقبل نفوسهم الخبيثة أي دواء، ولم تستجب له.. فعاشت بدائها.. وماتت به! .. الآيات: (34- 48) [سورة الدخان (44) : الآيات 34 الى 50] إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 203 التفسير: قوله تعالى: «إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ» . الإشارة هنا «هؤُلاءِ» إلى مشركى قريش، الذين استمعوا إلى هذا الحديث من أمر فرعون وموسى، وما كان من استكبار فرعون وعتوّه، وما أخذه الله به من عذاب ونكال.. ثم ما كان من إحسان الله سبحانه إلى بنى إسرائيل وفضله عليهم، ثم مكرهم بآيات الله، وتكذيبهم لرسله.. فكان أن لعنهم الله، ومزّق شملهم، وفرق جماعتهم.. وقطّعهم فى الأرض أمما.. وهؤلاء المشركون.. ماذا هم فاعلون مع رسول الله، وما يحمل إليهم من آيات ربه؟ فهذا سؤال يسأله الذين استمعوا إلى هذا الحديث الذي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 204 تحدث به القرآن عن فرعون وموسى، وعن بنى إسرائيل وآيات الله إليهم.. فكان الجواب: «إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ» - هذا هو الداء المتمكن من القوم، وهو إنكارهم للبعث، والحساب والجزاء، وذلك لاستبعادهم أن تعود الحياة مرة أخرى إلى الموتى، بعد أن يصيروا عظاما ورفاتا.. إنهم على يقين من أنهم لم يبعثوا، وإنهم ليقولون لمن يحدثهم عن البعث: «إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ» .. أي ما هى إلا موتة واحدة، لا حياة بعدها.. وهم بهذا يردّون على تصور خاطئ للبعث- ففى تصورهم هذا، أن البعث بعقبه موت.. لأنه حياة بعد موت، وهذه الحياة- فى تصورهم- سيعقبها موت.. ثم حياة.. ثم موت، وهكذا.. ولهذا جزموا بأنه لا موت بعد أن يموتوا، بمعنى أنه لا بعث، ولا موت بعد البعث. إن كان هناك بعث!! وفى التعبير عن الحياة بعد الموت بالنشر، تشبيه للموت بأنه طىّ لحياة الإنسان، كما تطوى الصحف على ما ضمّت عليه من كلمات.. فإذا أريد النظر فى هذه الكلمات مرة أخرى، نشرت هذه الصحف، بعد طيّها.. فالموت ليس إلا طيّا لصفحة الحياة، مع بقاء الحياة كامنة فى هذه الصحف المطوية، ونشر الصحف بعد طيّها أمر هين، لا يحتاج إلى عناء ومعالجة، كما أنه لا يدعو إلى استبعاده وإنكاره!!. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 205 قوله تعالى: «فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» . هو من تحدّيات المشركين المنكرين للبعث، لمن يحدثونهم عن البعث، ويدعونهم إلى الإيمان.. إنهم يؤكدون أنه لا موت إلا الموتة الأولى، التي تنهى حياتهم تلك، ثم لا حياة ولا موت بعد هذا.. ثم إن لهم على هذا شهودا من الواقع.. فهؤلاء آباؤهم الذين أودعوهم القبور، لم يعد أحد منهم. فإن كان الذين يقولون بالبعث على يقين من هذا القول، فليأتوا على هذا ببرهان، وذلك بأن يجيئوا لهم بآبائهم هؤلاء الذين ذهبوا.. فإذا لم يرجع هؤلاء الذين ذهبوا، فكيف يرجعون هم إذا ذهبوا؟ ذلك منطقهم الذي جعل البعث عندهم أبعد من أن يتصوّر.. إنهم كانوا يؤمنون بأن لهذا الوجود ربّا قائما عليه، هو الذي خلقه، وهو الذي يدبر أمره، وإن كان هذا الإيمان قد اختلط بشوائب كثيرة أو قلبلة من الأهواء الفاسدة.. ولكن الشيء الذي لا يتصورونه، ولا يصدقون به، هو البعث.. وهو الداء الذي أفسد عليهم إيمانهم بالله، وأقامهم فى هذه الدنيا مقاما قلقا مضطربا، بتهددهم فيه الفناء الأبدى المطلّ عليهم من كل وجه.. وهذا قسّ، بن ساعدة الإيادى، من حكماء العرب، وخطبائهم المعدودين وقد نسب إليه أنه كثيرا ما كان يخطب فى الناس فيقول: «إن فى السماء لعبرا، وإن فى الأرض لخبرا.. سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج،.. البعرة تدلّ على البعير، والأثر يدلّ على المسير..» الجزء: 13 ¦ الصفحة: 206 ومن هذا العبارات وأمثالها يقيم قسّ الأدلة والبراهين على وجود إله قائم على هذا الكون.. فإذا جاء إلى الموت لم ير فيه إلا حكما واقعا على الأحياء، وأنه سفر بلا عودة، وذهاب ولا إياب.. وينسب إليه أنه كان يقول: فى الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائر لما رأيت مواردا للموت ليس لها مصادر ورأيت قومى نحوها ... يمضى الأكابر والأصاغر أيقنت أنى لا محا ... لة حيث صار القوم صائر لا يرجع الماضون لا ... ولا يبقى من الباقين ناظر فهو- كما ينطق هذا الشعر- لا يرى عودة للموتى، وإن كان يرى أن لا بقاء لحىّ فى هذه الحياة.! قوله تعالى: «أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ» . هو تهديد لهؤلاء المشركين المكذبين برسول الله، وبما يتلو عليهم من آيات الله،. وأنهم ليسوا أحسن حالا من قوم تبع الذين أهلكهم الله وبدد شملهم، فلم يغن عنهم ما كانوا فيه من عزة وقوة ومنعة.. وقوم تبع، هم الذين كانوا يسكنون اليمن، قبل أن يشملها الخراب والدمار، بانهيار سدّ مأرب.. وتبّع هو الجدّ الأعلى لقومه.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 207 وقد ذكر القرآن الكريم فى موضع آخر ما أخذ الله به هؤلاء القوم- قوم تبع، من نكال وبلاء، بعد أن كفروا بنعمة الله، وبطروا معيشتهم.. وفى هذا يقول الله تعالى: «لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ» : (15- 17: سبأ) . وليس قوم تبع إلا جماعة من تلك الجماعات الكثيرة التي أهلكها الله سبحانه وتعالى، وأخذها بعذابه الأليم فى الدنيا، ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون.. فمن قبل قوم تبّع، أهلك الله قوم نوح، وأهلك عادا، وثمود، وأصحاب مدين وقوم لوط.. وهؤلاء ممن ذكر القرآن أخبارهم.. وهناك كثيرون من الأفراد والجماعات لم يذكروا.. إذ ليس المقصود من الذكر إلا العبرة والعظة. وفى هذا القليل الذي ذكر، عبرة وعظة لأولى الألباب.. قوله تعالى: «وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» . مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، ذكرت إنكار المشركين للبعث، وما لهم على هذا الإنكار من حجج باطلة.. وقد تهددهم الله سبحانه وتعالى وتوعّدهم بالهلاك فى الدنيا، كما أهلك الظالمين المكذبين قبلهم.. وهذه الآية، والآية التي بعدها، هى تعقيب على ما هدّد له به المكذبين من الجزء: 13 ¦ الصفحة: 208 بلاء.. وذلك أن الله سبحانه أقام هذا الوجود على الحق، كما خلقه بالحق الذي ينتظم كل ذرة فى هذا الوجود.. ولهذا فقد اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يجعل سلطان الحق قائما على هذا الوجود، وأن يقطع دابر الباطل إذا هو طاف بحمى الحق، واعترض سبيله.. وهذا ما يشير إليه القرآن الكريم فى أكثر من موضع، فيقول الله سبحانه وتعالى: «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ» (18: الأنبياء) ويقول سبحانه: «وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ» (7- 8: الأنفال) وإذن، فهذه الضربات التي تنزل بأهل الباطل، فى هذه الدنيا، هى وقاية للحق من أن يغتاله الباطل.. فإذا كانت الآخرة، كان القضاء المبرم على الباطل وأهله جميعا.. وفى هذا اليوم ينطق الوجود كله بحمد الله، أن قضى على الباطل والشر والضلال، وكل ما من شأنه أن يخرج على طريق الحق.. «وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» (75: الزمر) قوله تعالى: «إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» . الميقات: اسم زمان، والمراد به وقت الموعد الذي يكون فيه الحساب والجزاء.. وهو يوم القيامة. ففى هذا اليوم- يوم القيامة- يصفّى حساب الناس جميعا.. فيجمع أهل الباطل على مختلف صورهم، ويلقى بهم فى جهنم ليكونوا حطبا لها.. وبهذا يتخلص الحق من كل ما علق به من شوائب.. وفى هذا اليوم يتعرّى أهل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 209 الضلال من كل سلطان يدفع عنهم هذا المصير، الذي هم صائرون إليه.. إنه لا ناصر لهم من دون الله، يخلصهم من هذا العذاب الأليم.. وقوله تعالى: «إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ» هو استثناء من الضمير فى قوله تعالى: «وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ» .. أي لا ناصر لأحد فى هذا اليوم، ولا مخلّص له من عذابه إلا من رحمه الله من عباده، فهذاه إلى الإيمان، ووفقه لطاعته.. فكل من زحزح عن النار وأدخل الجنة، فذلك برحمة من الله وفضل وإحسان.. وفى هذا يقول النبي الكريم: «لا يدخل أحد الجنة بعمله» (قيل ولا أنت يا رسول الله) قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله برحمته» وقوله تعالى: «إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ» .. فهاتان الصفتان من صفات الله، التي يتجلى بها الله سبحانه وتعالى على أهل المحشر يوم القيامة.. فبعزته- سبحانه- يملك أمر هذا اليوم، ويقضى فيه بما شاء فى الظالمين، وأهل البغي والعدوان، فلا يكون لهم مع سلطان الله سبحانه سلطان، ولا مع عزته عزة.. وبرحمته- سبحانه- يدخل من يشاء من عباده الجنة، ويصفى عليهم ما يشاء من فضله وإحسانه.. كما يقول سبحانه: «يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» (31: الإنسان) . قوله تعالى: «إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ» .. تحدّث هذه الآيات عن صورة من صور العذاب الذي أعد للظالمين، يوم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 210 القيامة.. وقد جاءت هذه الصورة من العذاب، مفردة، حيث تحصر فى إطارها إنسانا ظالما، باغيا، من هؤلاء الظلمة الباغين.. فيبدو فى هذه الصورة وكأن العذاب الجهنّمى قد احتواه وحده، وفى شخصه هذا يرى كل ظالم أثيم أنه هذا الإنسان الشقي المنكود، يتقلب وحده فى هذا العذاب الذي تقشعر من هوله الجبال!. وشجرة الزقوم، كما وصفها القرآن الكريم هى شجرة: «تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ» .. وإن شجرة تغتذى من جهنم، وتمتد أصولها وفروعها بين جمرها ولهيبها، لهى شجرة أقوى من جهنم، وأعتى من النار.. فكيف بثمرها هذا الذي تختصر وجودها كله فيه؟ إن هذا الثمر هو طعام الأثيم!! .. وإنه كالمهل، أي خثارة الزيت بعد غليانه.. وقوله تعالى: «خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ» - هو تنكيل بهذا الأثيم، ومضاعفة لما يلقى من ذلة وهو ان فى هذا اليوم، حيث يساق إلى جهنم بين زبانيتها سوقا عنيفا، ثم يعتل عتلا، ثم لا يلقى به حيث يقع، بل يدفع به دفعا حتى يبلغ سواء الجحيم، أي وسطها، ومركز دائرتها.. وبهذا يتلّقى من العذاب أقساه وأشده.. وقوله تعالى: «ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ» - هو عذاب إلى هذا العذاب، الذي يأكل هذا الأثيم أكلا، ثم يلفظه، ثم يأكله.. وهكذا.. وما يصبّ فوق رأسه ليس ماء، وإنما هو عذاب.. ولكنه من حميم، أي من ذوب جهنم، ونضيج عرقها!! .. والحميم: الماء الحار الذي يغلى.. ومنه الحمّى، لاشتداد حرارة المريض بها.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 211 وقوله تعالى: «ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ» - هو مما يساق إلى هذا الأثيم، من ألوان العذاب.. فهو إذ يشوى بنار جهنم، يصبّ فوق رأسه ما ينضح عليه من لهيبها من عرق، ليتبرّد به. ثم يلقى فى أذنه بهذه التحايا التي كان يتلقاها فى دنياه من ندمائه وأتباعه.. وإنها لتحايا تملأ قلبه حسرة وكمدا.. «ذُقْ» ! وأي شىء يذوق؟ مهلا يغلى فى بطنه، وحميما يصبّ فوق رأسه، ونارا تقطّع له منها أثواب فوق أثواب!. هذا هو نعيمه الذي ينعم به، وتلك هى التحايا التي يحيّا بها، والكؤوس التي يتناولها من يد السقاة والندمان!! وإنه مع هذا هو العزيز الكريم.. يحضره فى هذا البلاء المشتمل عليه- ما كان له فى دنياه من عزة ومنعة فى قومه، وما كان له من كرامة فيهم، وإكرام منهم.. فهذان شاهدان من أهله- عزته وكرامته- يشهدان هوانه، وذلته.. وإنه ليس أشد إيلاما للنفس، ولا إزعاجا للفؤاد، من أن يفتضح المرء فى أهله، وأن يعرّى على أعينهم، مع ما كان له فيهم من عزة وكرامة.. قوله تعالى: «إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ» . عاد الخطاب إلى الجماعة، بعد أن شهدوا أنفسهم فردا فردا، فى شخص هذا العتلّ الأثيم، الذي تجرع كئوس العذاب والهوان ألوانا مترعة.. فهذا العذاب، هو الذي كان يمترى فيه، أي يجادل فيه هؤلاء الضالون، الذين كانوا يجادلون من يحدثهم عن اليوم الآخر، ويحذرهم من لقاء ربهم فيه، على ما هم عليه من شرك وضلال.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 212 الآيات: (51- 59) [سورة الدخان (44) : الآيات 51 الى 59] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59) التفسير: قوله تعالى: «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ» . هذه الآيات والتي بعدها، تعرض الصورة المقابلة لأهل الضلال والمنكر، وما يلقون فى جهنم من عذاب وهوان.. وفى المقابلة بين الصورتين تتضح المعالم فى كلّ منهما، ويرى كلّ فى الصورة المقابلة، ما يضاعف ما هو فيه من بلاء أو نعيم.. فأهل النار، إذ يرون أصحاب الجنة، وما هم فيه من نعيم ورضوان، يزداد بلاؤهم وتتضاعف محنتهم، ويشتد عذابهم وحسرتهم.. وأصحاب «الجنة» إذ يرون أهل النار، وما هم فيه من محن وشدائد، يعظم نعيمهم، ويتضاعف رضوانهم، فلا يجدون غير أن يسبّحوا بحمد ربهم أن عافاهم من هذا البلاء.. «وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ.. إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ» (34- 35: فاطر) . ولهذا كان أصحاب الجنة وأصحاب النار، على مشهد من بعضهم، حيث يرى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 213 بعضهم بعضا، ويتحدث بعضهم إلى بعض، دون أن يصل إلى أصحاب الجنة شىء من عذاب أهل النار، ودون أن يصل شىء من نعيم الجنة وريحها إلى أهل النار.. «وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ.. قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ» (50: الأعراف) . قوله تعالى: «يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ.. مُتَقابِلِينَ» . وحيث يلبس أهل النار من النار أثوابا، يلبس أصحاب الجنة حللا من سندس وإستبرق. والسندس.. الرقيق من الديباج وهو ما كان سداه ولحمته من الحرير.. والإستبرق: الغليظ من الحرير.. وإذ يتدابر أهل النار، فلا ينظر بعضهم إلى بعض، لما وقع بينهم من عداوة، ولما يشهدون من العذاب الذي يعذب به المعذبون- فإن أصحاب الجنة، يواجه بعضهم بعضا، ويأنس بعضهم بالنظر إلى بعض، وبما يصافح أنظارهم من آيات الرضا والبهجة، التي تملأ الصدور، وتفيض على الوجوه.. «عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ» (23- 24: المطففين) قوله تعالى: «كَذلِكَ.. وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ» . أي كذلك شأنهم الذي هم فيه.. وأكثر من هذا، فقد زوجهم الله سبحانه وتعالى، بحور عين من حور الجنة، وعرائسها.. والحور: جمع حوراء.. وهى التي فى عينها حور، وهو شدة سواد العين مع شدة بياضها، وهذا من مفاتن المرأة، يقول جرير: إن العيون التي فى طرفها حور ... قتلننا ثم لا يحيين قتلانا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 214 والعين: جمع عيناه، وهى الواحدة من بقر الوحش، وذلك لسعة عينيها وجمالها، وبها تشبه المرأة الحسناء، ذات العيون الفاتنة. قوله تعالى: «يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ.. آمِنِينَ» . أي يرزقون فيها من كل فاكهة يطلبونها، مما تشتهيه أنفسهم.. وقد عبر عن الطلب بالدعاء، لأنه التماس ورجاء من رب كريم.. وعدّى الفعل بالباء مع أنه يتعدى بنفسه، لتضمنه معنى الهتاف بالفاكهة.. فما هى إلا أن يهتف بها أحدهم حتى تكون حاضرة بين يديه، من غير أن يحملها إليه أحد، أو يمد إليها هو يده.. بل يجدها بين يديه، وهو آمن، ساكن، لا يلتفت، ولا يتحرك. قوله تعالى: «لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» . هو تعليل لقوله تعالى: «آمِنِينَ» .. أي أنهم فى أمان من أن يزعجهم عن هذا النعيم الذي هم فيه، أىّ خاطر يخطر لهم، من انقطاع هذا النعيم بالموت، أو بالتحول عنه إلى غيره.. فهم فى أمان من الموت.. «لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ» أبدا، فإنها حياة خالدة، ونعيم خالد.. فلا يتحولون أبدا عن هذا النعيم إلى ما يقابله من عذاب الجحيم الذي يصلاه أهل النار، فقد وقاهم الله هذا العذاب وأنقذهم منه، فلا يتعرضون له أبدا.. وفى قوله تعالى: «إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى» إشارة إلى قول المكذبين باليوم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 215 الآخر: «إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ» .. أي أن أهل الجنة قد ذاقوا هذه الموتة الأولى، التي كانوا على إيمان بالحياة والبعث بعدها، فكان هذا الإيمان سببا فى خلاصهم من عذاب النار، كما كان سببا فى هذا النعيم الذي هم فيه.. ومذاق هذه الموتة عندهم، غير مذاقها عند من يكذبون بالبعث.. حيث يجد المؤمنون بالبعث، أن هذا الموت سبيل إلى الحياة الآخرة، وإلى لقاء الله، وإلى ما أعد الله للمؤمنين المحسنين من جزاء كريم، على حين يجد المكذبون باليوم الآخر، أن الموت هو حكم عليهم بالفناء الأبدى، الذي يتحولون بعده إلى تراب فى هذا التراب.. إنه الضياع الأبدى لهم، والفراق الذي لا لقاء بعده للأهل والولد! فهم يعذبون بالموت فى الدنيا، كما يقول الله سبحانه وتعالى: «وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ» (55: التوبة) وهم كذلك يعذبون بهذا الموت فى الآخرة، إذ كان هو الذي انتقل بهم إلى هذا العذاب الجهنمى الذي يتجرعون كئوسه ألوانا.. فهذا الموت، الذي ذاقه المؤمنون فى الدنيا، هو سبب مسراتهم التي يسرّون بها فى الجنة، إذ يذكرونه- وهم فى الجنة- فيذكرون أنه هو الذي أوصلهم إلى هذا النعيم، فلولا الموت لما كان البعث.. قوله تعالى: «فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» . هو تعليل لقوله تعالى: «لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» أي أن ما قضى الله سبحانه وتعالى به فى أهل الجنة، من أنهم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 216 لا يذوقون الموت، ولا يتحولون عن هذا النعيم الذي هم فيه، إنما كان ذلك فضلا من فضل الله، وإحسانا من إحسانه، ورحمة من رحمته، إلى عباده المؤمنين.. وحسبهم بهذا فوزا.. فذلك هو الفوز العظيم، الذي لا يعدله فوز.. قوله تعالى: «فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» .. الضمير فى «يَسَّرْناهُ» يراد به القرآن الكريم.. والمراد بتيسيره.. بلسان النبي، تمكين العرب من الالتقاء بهذا القرآن، والأخذ عنه، وتلقى الهدى منه، لأنه بلسانهم، الذي هو لسان النبي المبعوث فيهم.. وفى قوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» .. تذكير لهؤلاء المشركين بنعمة الله عليهم، إذ أنزل عليهم كتابا من عنده، باللسان الذي يتكلمون به.. ولو جاءهم بغير هذا اللسان، لما كان لهم سبيل إلى الاتصال به، والحياة فى رياضه النضرة، والاقتطاف من ثماره الطيبة المباركة.. فهذه نعمة جليلة من نعم الله على الأمة العربية، وإنه لجدير بها أن تلتقى بهذه النعمة، وأن تأخذ حظها منها.. فهو كتاب الله إليهم، ورحمته فيهم.. وقد ذكر القرآن بضميره، دون أن يكون لهذا الضمير مرجع، لأن القرآن أشهر من أن يذكر، إذ هو حجة قائمة على المؤمنين، وغير المؤمنين جميعا.. قوله تعالى: «فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 217 العطف بالفاء هنا يشير إلى أن الأمر بين النبي، وقومه، لم ينته إلى نهايته بعد، وأنهم مازالوا فى هذا الامتحان مع القرآن الكريم، فلينتظر النبي ما يكون منهم، وليصبر على أذاهم، ولا ييأس من استجابتهم له، وذلك لأنهم «مُرْتَقِبُونَ» لم يقطعوا برأى بعد فيما يدعوهم إليه، وإن كانوا مقيمين على كبر وعناد.. وهكذا كان شأن قريش مع النبي، إنهم لا يكذبون النبي، ولا يشكّون فى أنه رسول الله، ولكنّ كبرهم وعنادهم هو الذي كان يقطع عليهم الطريق إليه.. وإنهم لينتظرون ما تأنى به الأيام.. ولن تأتى الأيام إلا بما يسوء المعاندين والمكابرين منهم.. ويخيب ظنونهم، حيث يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون.. إنهم سيبعثون، وقد كانوا لا يتوقعون بعثا، وإنهم ليحاسبون، وقد كانوا لا يرجون حسابا، وإنهم ليعذبون فى النار، وقد كانوا فى تكذيب بهذا العذاب، وفى شك منه.. وإذا كان القوم لم يرتقبوا شيئا من هذا كله، فإنهم مكرهون على هذا الارتقاب، إذ لا مفرّ لهم منه.. ولقد أدّى بهم ارتقابهم فى الدنيا إلى أن رأوا كلمة الله تعلو، وشهدوا جند الحقّ ينتصرون، وإذا ظل الشرك ينسخ شيئا فشيئا حتى تدول دولته، ويجىء فتح الله والنصر، ويدخل الناس فى دين الله أفواجا.. وهنا يرى النبىّ قومه وقد استجابوا لدعوته، وأصبحوا جميعا جندا من جنود الحق الذي يدعو إليه.. فكان ذلك يوم النصر والفتح، الذي تحقق فيه للنبى ما وعده به ربّه يوم اصطفاه لحمل الرسالة، فقال سبحانه: «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 218 45- سورة الجاثية نزولها: مكية.. بإجماع. عدد آياتها: سبع وثلاثون.. آية.. عدد كلماتها: أربعمائة وثمانون آية.. عدد حروفها: ألفان ومائة وتسعون حرفا.. مناسبتها لما قبلها ختمت سورة الدخان بقوله تعالى: «فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ» .. وقد قلنا إن هذا الختام هو دعوة إلى النبي أن ينتظر ما ستأتى به الأيام من قومه، ولن ييأس منهم.. كما أن هذا الختام هو دعوة للمشركين أن يأخذوا حظّهم من هذه الرحمة المنزلة عليهم من السماء، والتي يسر الله سبحانه وتعالى مواردهم إليها، فجعل القرآن بلسان عربى مبين، ولو كان بغير اللسان العربي، لما كان لهم سبيل إليه.. وهنا تبدأ «سورة الجاثية» بالحديث عن هذا القرآن، وأنه كتاب منزّل من الله العزيز الحكيم.. ثم تعرض الآيات بعد هذا بعض ما اشتمل عليه هذا القرآن من هدى، ونور.. فكان هذا البدء متلاقيا مع ختام السورة قبلها، معانقا له. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 219 بسم الله الرحمن الرّحيم الآيات: (1- 5) [سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) التفسير: قوله تعالى: «حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» . مضى تفسير «حم» فى مطلع أكثر من سورة من الحواميم.. وقد جاء بدء سورة غافر، هكذا: «حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» . والاختلاف بين مطلع السورتين، فى وصف الله سبحانه وتعالى هنا بالحكمة بعد العزة، على حين جاء الوصف فى سورة غافر، بالعلم بعد العزة.. وهذا الاختلاف يقتضيه المقام هنا وهناك.. ففى سورة غافر، كان العلم مطلوبا للكشف عما يدور فى نفوس المشركين من هواجس، وما يبّيتون من مكر.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 220 وهنا الحكمة مطلوبة، حيث تعرض الآيات القرآنية مشاهد من هذا الوجود فى أرضه وسمائه،.. وكل مشهد منها تتجلّى فيه الحكمة الإلهية التي أبدعت هذا الوجود وأقامته على أكمل نظام وأروعه.. قوله تعالى: «إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ» .. هو عرض عام للوجود كله، فى السموات والأرض.. ففى كل نظرة ينظر بها المؤمن فى هذا الوجود، يرى آيات دالة على قدرة الله، وعلمه، وحكمته.. فالكون كله- فى نظر المؤمن بالله- هو كتاب مفتوح، يقرأ فى صفحاته آيات تحدث عن جلال الله، وعظمته، وكماله.. وفى كل شىء له آية ... تدلّ على أنه الواحد أما غير المؤمن فلا يرى فيما يرى من هذا الوجود، إلا أشباحا تتحرك، وكائنات تظهر وتختفى.. وقد ينبهر بما يرى، ويفتن بما يملأ عينيه من جمال، ولكنه يظل حيث هو فى تعامله مع كائنات الوجود وعوالمه، دون أن يصله شىء من هذا بخالق الكون ومبدعه! قوله تعالى: «وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» . وهذه نظرة فى أفق محدود من آفاق الوجود.. إنها نظرة ينظر بها الإنسان إلى نفسه.. وكيف خلق؟ ومن أين جاء؟ ثم نظرة أخرى يتجاوز بها حدود نفسه، إلى عوالم الأحياء التي تدب على الأرض وتعيش فيها. فهى عوالم كثيرة، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 221 مختلفة الأشكال والصور، بعضها يعيش على اليابسة، وبعضها يعيش فى الماء، وبعضها يسبح فى الجو.. وفى كل عالم منها أجناس كثيرة لا تكاد تقع تحت حصر.. ففى هذه النظرة القائمة على حدود الإنسان وما يحيط به من كائنات حية، يرى المؤمن ما يملأ قلبه يقينا بما لله سبحانه وتعالى من حكمة، وعلم، وقدرة، حيث تصنع القدرة الإلهية من تراب هذه الأرض، تلك الكائنات المنتشرة فى كل أفق من آفاقها، والتي تملأ وجه الأرض حياة، وحركة، وجمالا.. قوله تعالى: «وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» . وهذه نظرة أخرى فيما وراء الحياة وصورها المختلفة، فى الإنسان والحيوان.. نظرة فى هذه الحركة الدائمة بين الليل والنهار، حيث يخلف أحدهما الآخر، كما يقول الله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً» (62: الفرقان) . وعلى امتداد هذه النظرة فى الليل والنهار، حيث تلبس الأرض ثوبا من ضياء بالنهار، ثم تخلعه لترتدى ثوبا أسود بالليل- على امتداد هذه النظرة، ترى السماء وقد نزل منها الغيث الذي ينزع عن الأرض ثوب الموت، ويلبسها ثوب الحياة، كما ترى الرياح التي تدفع السحب، وتسوقها إلى كل اتجاه. فهذه النظرة تحوى فى أعماقها نظرات معطية لكثير من الدلائل والآيات الدالة على قدرة الله.. وإنها لن تتجلى إلا لأولى العقول السليمة، والمدركات الجزء: 13 ¦ الصفحة: 222 القوية النافذة.. الذين يتفكرون فى خلق السموات والأرض، ثم ينتهى بهم التفكير إلى الإيمان بالله، والإقرار بوحدانيته، وتفرده بالخلق والأمر.. الآيات: (6- 11) [سورة الجاثية (45) : الآيات 6 الى 11] تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) التفسير: قوله تعالى: «تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ» . آيات الله، هى تلك الآيات التي ذكرت من أول السورة.. وليست آيات الله محصورة فى هذه الآيات، وإنما عبّر عن هذه الآيات بما يفيد حصر آيات الله كلّها على هذا النمط العالي من الكمال والجلال، والإعجاز.. فكل آية من كتاب الله، تمثل آيات الله كلّها فى إحكامها وإعجازها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 223 وقوله تعالى: «نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ» جملة حالية من قوله تعالى: «آياتُ اللَّهِ» أي هذه آيات الله متلوّة عليك بالحقّ الذي تحمله فى كيانها. وفى إسناد تلاوة آيات الله على النبي، إلى الله سبحانه وتعالى، مع أن الذي يتلوها عليه هو جبريل- فى هذا تشريف للنبىّ، واحتفاء به، وتكريم له.. وحسبه- صلوات الله وسلامه عليه- من الشرف والرفعة، أن ينكشف الحجاب بينه وبين ربّه جلّ وعلا وأن يخلى جبريل مكانه بين الله سبحانه، وبين عبده محمد- صلوات الله وسلامه عليه- فلا يسمع الرسول إلّا كلمات ربّه، من ربّه وإن كان جبريل هو الذي يحملها إليه. وقوله تعالى: «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ» استفهام إنكارى تقريعىّ، يسفّه موقف المشركين من آيات الله، واتهامهم لها، وشكّهم فيها وتوقفهم عن الإيمان بها. فأى حديث بعد حديث الله، وأي آيات بعد آيات الله، ينتظر القوم أن يأتيهم ببيان أجلى من هذا البيان، وحجة أبلغ وأصدق من هذه الحجة، ليؤمنوا به، ويطمئنوا إليه؟. إن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتحدث بآياته تلك التي يتلوها الرسول عليهم.. فالله سبحانه وتعالى يتلوها على الرسول، والرسول يتلوها عليهم، ويبلغهم إياها.. ولو أنهم أحسنوا الاستماع، وفتحوا لما يسمعون آذانهم وقلوبهم، لسمعوا الحقّ جلّ وعلا، يتلو عليهم هذه الآيات التي يتلوها الرسول عليهم، ولا رتفع الحجاب بينهم وبين ربّهم.. فإن كلمات الله تأخذ طريقها مباشرة إلى القلوب المهيأة لها، المستعدّة لا ستقبالها. قوله تعالى: ْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 224 هو تهديد ووعيد بالويل والبلاء، لمن يسمع آيات الله تتلى عليه، ثم يلقاها ضائفا بها، متكرّها لها، مستعليا ومستكبرا، على الإقبال عليها، والنظر فى وجهها، فلا يأبه لما يتلى عليه منها، بل يمضى كأن لم يسمع شيئا، كان فى أذنيه صمما.. والأفاك: صيغة مبالغة من الإفك، والافتراء، وقلب الحقائق.. والأثيم: صيغة مبالغة كذلك من الإثم، وهو اقتراف المنكر، واجتراح السيئات.. وهاتان الصفتان هما الآفتان اللتان تتسلطان على أهل الزيغ والضلال، فلا يكون منهم قبول للحق، ولا تجاوب معه.. إذ كيف يجد الحق له مكانا فى نفوس لا تستمرئ إلا الإفك، ولا تستطيب إلا الإثم؟ .. وقوله تعالى: «ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً» .. إما أن يكون من الإصرار، وهو التمسك والتشبث بما مع المشركين من شرك.. ويكون المعنى: ثم يصر على الكفر، ويتشبث به، مستصحبا معه الكبر والاستعلاء.. وهذا مثل قوله تعالى فى قوم نوح: «وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً» (7: نوح) .. وإما أن يكون من الصرّ، وهو تجّهم الوجه، ضيقا وتكرها.. ومنه قوله تعالى: «فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ» (29: الذاريات) .. ومنه الصّر، وهى الريح الباردة التي يجمد منها الدم فى العروق.. ومنه الصّرصر، وهى الريح العاصفة الباردة.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 225 وقوله تعالى: «فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» - هو بيان لهذا الويل، الذي توعد الله سبحانه وتعالى به كل أفاك أثيم، ذلك الذي يسمع آيات الله تتلى عليه، ثم يلقاها متكرها مستكبرا.. فالذى يساق إلى هذا الأفاك الأثيم من بشريات فى يوم القيامة، هو العذاب الأليم.. فهذا هو النعيم الذي يبشّر به، ويزفّ إليه..! فكيف إذا انتقل من هذا النعيم الجهنمّى إلى العذاب الموعود به؟ .. وهذا أسلوب من الأساليب البلاغية التي تكشف عن جسامة الأمر، وفداحة الخطب، وذلك يوصفه بغير صفته. قوله تعالى: «وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» . هو معطوف على تلك الأوصاف التي وصف بها الأفاك الأثيم فى الآية السابقة.. فهو لا يسمع آيات الله، ولا يعقلها، ثم إنه إذا سمع شيئا من آيات الله- عرضا- ووقع له منها بعض العلم- عفوا، من غير قصد- لم ينتفع بهذا العلم، بل يتخذ منه مادة للسخرية والاستهزاء.. لأنه لم يكن حين استمع لآيات الله يقصد استماعا، ولا يبغى علما.. ومن هنا لم يكن لما وقع له من علم، ثمر ينتفع به، أو خير يرجى منه.. بل لقد فتح له هذا العلم طريقا جديدا من طرق الضلال التي يسلكها.. وفى قوله تعالى: «أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» بضمير الجماعة العائد على المفرد- فى هذا ما يشير إلى أن استهزاء المستهزئ، وسخرية الساخر بآيات الله، لم تكن تتحق صورتها، إلا بمشاركة ممن يستمع له، ويجرى معه فى استهزائه وسخريته، سواء أكان ذلك بمجرد الاستماع والاستحسان، أو بتجاذب حبل الحديث معه، ومدّه بمدد جديد من السخرية والاستهزاء.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 226 فالسخرية والاستهزاء، لا يكون لهما وجود بعمل فردىّ، وإنما الذي يعطيهما الحياة، هو المشاركة الصامتة، أو الناطقة، ومن هنا كانت كلمة السوء فى مجلس من المجالس، مأثما يحيط بأهل المجلس جميعا، إن هم سكتوا على كلمة السوء، ولم يقم فيهم من ينكرها على صاحبها، ويكبته ويخزيه.. وفى قوله تعالى: «أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» - وفى وصف العذاب بأنه عذاب مهين لهم، مذلّ لكبرهم- هو رد على استهزائهم بآيات الله، واستخفافهم بها.. قوله تعالى: «مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» . أي أن العذاب المهين، الذي سيأخذ المستهزئين بآيات الله، المستخفّين بها- هو عذاب جهنم، التي تطلع عليهم وهم فى غفلة عنها.. إنها تأنى من وراء تلك الحجب من الضلال التي حجبتهم عن اليوم الآخر، فلم يروه، ولم يعملوا على اتقائه، والفرار منه.. ثم إن فى وصف جهنم بأنها من ورائهم، وفيما يشير إليه هذا الوصف من غفلتهم عنها- تقريرا للحقيقة الواقعة، وهى أن جهنم وإن كانت أمامهم، تنتظرهم على الموعد الذي يلاقونها عنده- فإنها لا تأنى إلا بعد زمن متأخر عن يومهم هذا الذي هم فيه.. وقوله تعالى: «وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ» جملة حالية، تكشف عن تعرية القوم من كل واق يقيهم هذا العذاب الذي يمد يده لا ختطافهم، وهم فى غفلة عنه..! الجزء: 13 ¦ الصفحة: 227 وقد يكون الإنسان فى غفلة عن خطر يتهدده، ولكن هناك ما يحميه من هذا الخطر، ويردّه عنه، كأن يكون فى حصن قد أحكم بناءه، وأقام الحراس عليه، أو قد يكون له أولياء يخفّون لنجدته إذا دهمه خطر!. أما هؤلاء المشركون، المكذبون بآيات الله، والمستهزءون بها، فلا شىء لهم من هذا.. فهم عن هذا الخطر فى غفلة..، ولا حارس يقوم على حراستهم.. والمال الذي فى أيديهم، والذي كان من شأنه أن يكون ذا غناء لهم فى هذه الشدة- قد خلت أيديهم منه. وآلهتهم التي عبدوها من دون الله، وكان لهم متعلق بها، ورجاء فيها- قد أنكرتهم، وخلّت بينهم وبين ما حل بهم من بلاء.. فكيف يكون لهم نجاة من هذا العذاب الذي يسوقهم أمامه؟ وفى قوله تعالى: «وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» .. استكمال لصورة هذا العذاب الذي يلقاه هؤلاء المشركون.. فهو عذاب مهين، وهو مع ما يسوق إليهم من ذلة وهوان- عظيم فى وقعه، شديد فى بلائه.. قوله تعالى: «هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ» .. الإشارة هنا، إلى القرآن الكريم، وإلى ما تحمل آياته الكريمة المباركة من هدى ونور.. وفى هذا دعوة لهؤلاء الضالين الذين جلسوا مجلس الاستهزاء والسخرية بآيات الله، والذين تتهددهم جهنم بعذابها وهم فى غفلة عنها- فى هذا دعوة لهم إلى أن يهتدوا بهذا الهدى الذي بين أيديهم، وأن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 228 يأخذوا به طريق النجاة من النار، التي تكاد تمسك بهم من خلف.. فإن هم لم يفعلوا، فهذه جهنم، وهذا عذابها..! والرجز: القذر، والمنكر المكروه من كل شىء.. وفى وصف العذاب بأنه مخلّق من القذر، إشارة إلى ما يساق إلى أهل النار من طعام وشراب، هو فى أصله مستقذر تعافه النفوس.. فكيف به إذا كان مع استقذاره مقتطعا من النار. الآيات: (12- 15) [سورة الجاثية (45) : الآيات 12 الى 15] اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) التفسير: قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» .. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 229 مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة عليها، أشارت إلى القرآن الكريم، ونبهت إلى أنه الهدى لكل من طلب الهدى.. ثم تهددت الآية أولئك الذين يكفرون بربّهم، ولا يقبلون على هذا الهدى الذي أنزله الله سبحانه وتعالى إليهم.. وهذه الآية، تجىء بعد هذا، لتحثّ أولئك الذين استمعوا للآية السابقة، ووقفوا موقف التدبّر والتبصر- على أن يسرعوا الخطا إلى الله، وان يستجيبوا لما يدعوهم إليه الرسول، من خير وهدى.. وإنهم إذ يتجهون إلى الله ليجدون هذه الدعوة المجدّدة إليهم، والكاشفة لهم عن جلال ربهم وعظمته وقدرته، وماله من فضل وإحسان إليهم.. فهو سبحانه، الذي سخر البحر، ومكّن الناس من أن يجعلوه طريقا ذلولا تجرى الفلك عليه، كما تجرى الدواب على اليابسة.. كل هذا بأمر الله وحكمته.. فهو سبحانه الذي قدّر بحكمته أن تطفو بعض الأجسام على الماء، حسب قانون محكم لا يتخلف أبدا.. ومن عجب أنه بحكم هذا القانون، أن يلقى بالحصاة الصغيرة فى الماء فتغوص فيه، على حين أنه يلقى فوق ظهره بالسفينة محملة بالدواب، والناس، والأمتعة، فتظلّ سابحة فوقه! قوله تعالى: «وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» . وهذا الإله الذي يدعى إليه العباد، هو الذي سخر لهم ما فى السموات وما فى الأرض، وأتاح لهم الانتفاع به فى كل وجه من وجوه الانتفاع، حسب استعدادهم وقدرتهم على التصرف فيه.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 230 ففى السماء، النجوم، والكواكب.. وهى مسخرة بأمر الله سبحانه وتعالى، فى دورانها فى أفلاكها، على ما يرى الناس منها، فى جميع الأوقات.. وهى قائمة على ما أقامها الله عليه، من إرسال أضوائها، وأنوارها على الأرض، دون أن يكون للناس شأن، أو حول، فى تحويل مداراتها، أو تغيير نظامها.. ثم إن للناس مع هذا أن ينتفعوا بكل ما أمكنهم الانتفاع به منها.. فإذا كشف لهم العلم عن إمكان اختزان الطاقة الحرارية للشمس، واستخدام هذه الطاقة فى إدارة المحركات، وتسيير البواخر، والقاطرات، والسيارات، وغيرها- فذلك مما سخر الله للناس، ويسر لهم الانتفاع به.. وقل مثل هذا فى كل ما يمكن أن يحصل عليه الإنسان من عالم السماء.. وفى الأرض.. ما لا يحصى من قوى الطبيعة المختزنة فيها، والتي جعل الله مفاتحها فى يد الإنسان، بما يكشف له العلم من أسرار.. فهذا البناء الشامخ للمدنية، وما تزخر به الحياة فى هذا العصر من ألوان لا حصر لها- هو مما أودعه الله سبحانه وتعالى فى هذه الأرض، وهو ما استطاعت يد الإنسان أن تطوله.. وهناك ذخائر كثيرة لا تزال مطوّية فى صدر الطبيعة، تنتظر يد الإنسان القادر على الوصول إليها، وكشف الستر عنها.. وقوله تعالى: «جَمِيعاً مِنْهُ» حالان من لفظ «ما» فى قوله تعالى: «ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» أي سحر كل هذا مجتمعا، فى حال أنه من الله سبحانه وتعالى.. أي من فضله وإحسانه.. هذا وقد رأى بعض أصحاب الجدل والمراء، من طوائف المعتزلة والمتصوفة وغيرهم، أن فى قوله تعالى: «مِنْهُ» يشير إلى أن هذا الوجود فى أرضه وسمائه، هو من ذات الله، وأن هذه العوالم هى ظل الله، وتجلّياته، أو هى الله ذاته.. إلى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 231 غير ذلك من المقولات، التي تنتهى إلى القول بوحدة الوجود، وأنه ليس ثمة خالق ومخلوق.. ولا شك أن هذا تعسف فى التأويل، فضلا عن فساد المعنى المستنبط من هذا التأويل.. فإن الجار والمجرور «منه» متعلق بمحذوف، هو مضاف إلى الله سبحانه وتعالى، أي ذلك كله، من فضل الله، ورحمته.. وفى قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» دعوة إلى إعمال الفكر، فى مواجهة هذه القوى المسخرة، حتى ينسج الإنسان من هذه الخيوط المتنائرة هنا وهناك، ثوبا قشيبا، يتزين به، ويكون سمة له، وشارة تفرق بينه وبين عالم الحيوان، الذي يعيش على ما تعطيه الطبيعة، دون أن يكون له أثر يذكر فى تحوير شىء أو تبديله.. قوله تعالى: «قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» .. مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة قد كشفت عن بعض الوجوه المنكرة من المشركين الذين إذا علموا من آيات الله شيئا اتخذوها هزوا، ومع هذا فإن الله سبحانه وتعالى لم يمسك رحمته عنهم، بل ساق إليهم آياته، تحمل إليهم الهدى، وتدعوهم إليه، وتغريهم بالإيمان بالله، بما تعرض عليهم من دلائل قدرته، وسوابغ نعمه.. ثم إنه لكى يكون من المشركين الضالين إصاخة إلى هذه الدعوة الكريمة من الله سبحانه وتعالى لهم، ثم يكون منهم نظر فيما يدعون إليه من النظر فى آيات الله، وفيما سخر للناس فى السموات وفى الأرض من نعم- لكى يكون من المشركين هذا، كان على المؤمنين ألا يدخلوا معهم فى مجال الخصومة الحادة، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 232 والجدل العنيف، فإن ذلك من شأنه أن يثير فى القوم دوافع الكبر والاستعلاء، وأن يشغلوا بالمؤمنين، وبالانتصار عليهم فى المقاولة والمصاولة- عن النظر فى أنفسهم والإفادة من آيات الله التي تتلى عليهم.. ومن أجل هذا جاء قوله تعالى: «قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ» - جاء داعيا المؤمنين إلى أن يتجاوزوا عن سفاهة هؤلاء المشركين، وألا يلقوا سفههم بسفه مثله، حتى تتاح الفرصة لهؤلاء المشركين أن يستمعوا إلى آيات الله، فى جوّ لا تنعقد فيه سحب الجدل والخصام، التي تحجب عنهم الرؤية الصحيحة لآيات الله.. وبهذا تقام الحجة عليهم، بعد هذا البلاغ المبين لدعوة الله.. فإذا لم يستجيبوا بعد هذا، لم يكن لهم عذر يعتذرون به، ووقعوا تحت طائلة العقاب الذي هم أهل له.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» .. فلقد أزيلت الحواجز التي تحجز القوم عن الاستماع إلى آيات الله، حتى لقد احتمل المسلمون ما احتملوا من سفههم وتطاولهم عليهم، كى يهيئوا لهم الجوّ الصالح للاستماع، والنظر، والتأمل، فإذا كان بعد هذا ثمة حاجز يحجزهم عن الإيمان بالله، فهو من عند أنفسهم، وكان كفرهم وضلالهم من صنع أيديهم، التي حجبوا بها نور الحق عنهم.. وفى قوله تعالى: «لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» .. وفى تنكير «قوم» إشارة إلى قوم بأعيانهم، وأن أمرهم مع تنكيرهم، أظهر من أن يدلّ عليه، وأن يعرّف به.. وهؤلاء القوم، هم أولئك المشركون، الذين دعى المؤمنون إلى أن يغفروا لهم، وأن يتجاوزوا عن سيئاتهم وسفاهاتهم.. فهؤلاء القوم قد امتنّ الله سبحانه وتعالى عليهم بهذه المنة العظيمة، بفضل مقام رسول الله فيهم، فلم يعجّل الله سبحانه وتعالى لهم العذاب، بل أمهلهم إلى آخر لحظة من حياتهم، حتى تكون أمامهم فسحة من الوقت، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 233 يصلحون فيها أنفسهم، ويصححون عقيدتهم.. ثم إنه- سبحانه- بعد أن أفسح لهم المقام فى هذه الحياة الدنيا، صرف عنهم الدواعي التي تشغلهم عن الاستماع إلى آيات الله التي تتلى عليهم، أو تحول بينهم وبين النظر فيها، فدعا الله سبحانه وتعالى الذين آمنوا، أن يغفروا لهم، وألا يدخلوا معهم فى جدل.. وهذا كله دليل على مزيد من الفضل والإحسان إلى هؤلاء القوم.. فإذا لم يستقبلوا هذا الفضل وذلك الإحسان بالإقبال على الله، والاستجابة لما يدعوهم سبحانه وتعالى إليه، من هدى- لم يكن لهم بعد هذا إلا العقاب الأليم.. وأيام الله، التي لا يرجوها هؤلاء المشركون ولا يتوقعونها، هى الأيام الواقعة فى الحياة الآخرة، والمراد بها الحياة الآخرة، ذاتها، وإنما عبّر عنها بالأيام، لأن الأيام دلالة على وحدة من وحدات الزمن فى الحياة الدنيا، وهناك فى الحياة الآخرة أيام ذات دلالة على الزمن، وإن اختلفت تلك الأيام عن أيام الدنيا فى مقدارها.. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى فى قوله عن أهل الجنة: «وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا» (62: مريم) .. وفى إضافة أيام الآخرة إلى الله سبحانه وتعالى، مع أن الأيام كلها هى أيام الله- إشارة إلى شرف هذه الأيام، وإلى عظم قدرها، وأن أيام الحياة الدنيا إذا ووزنت بها لا تساوى شيئا، كما يقول الله سبحانه: «وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ» (64: العنكبوت) .. وكما يقول سبحانه: «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ» (26: الرعد) . فللأيام أقدار وأوزان عند الله، كأقدار الناس وأوزانهم، فالناس كلّهم عباد الله، ولكن الله سبحانه يضيف إلى ذاته أهل ودّه، ومحبته، تكريما لهم وتشريفا.. فيقول سبحانه: «فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ» (17- 18: الزمر) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 234 قوله تعالى: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ» . هو تعقيب على الآيات السابقة، وما حملت إلى المشركين من دعوة إلى الإيمان، وما دعت إليه المؤمنين من الرفق بالمشركين والتجاوز عن جهلهم وسفاهتهم.. فمن استجاب لأمر الله، وعمل صالحا، فله جزاء عمله، ومن أعرض عن الله سبحانه وتعالى، وركب طرق الباطل والضلال، فسيلقى جزاء كفره وضلاله.. فهناك يوم يرجع فيه الناس جميعا إلى الله، ويحاسبون على كل ما عملوا، ويجزون عن الإحسان إحسانا ورضوانا، وعن السوء عذابا ونكالا.. الآيات: (16- 22) [سورة الجاثية (45) : الآيات 16 الى 22] وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 235 التفسير: قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ» . مناسبة هذه الآية وما بعدها مما فيه ذكر لبنى إسرائيل، هى أن الآيات السابقة عليها قد وضعت بين يدى المشركين من قريش هذا الهدى الذي أرسله الله إليهم، وتلك الرحمة التي ساقها لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يقفون من هذا الهدى وتلك الرحمة، موقف الشك، والاتهام، والتردد، وإن ذلك يوشك أن يعرّضهم لعقاب الله، وينزلهم منازل سخطه وغضبه- فناسب ذلك أن يلفتوا إلى بنى إسرائيل الذين يجاورونهم، ويعيشون بينهم، وإلى ما آتاهم الله من الحكم والنبوة، وما رزقهم من طيبات، حيث أنزل عليهم المنّ والسلوى، وكانوا بهذا مثلا فريدا فى الناس بكثرة الأنبياء الذين بعثوا فيهم، وبالملوك الذين جمعوا بين الملك والنبوة، فحكموهم بسياسة الملك، وحكمة النبوة.. ثم يتلك المعجزات الكثيرة التي جاءتهم من الله سبحانه على يد الأنبياء والرسل.. فهذه الألطاف والنعم لم تجتمع لمجتمع كهؤلاء القوم، ومع هذا فقد تحولت تلك النعم فى أيدى القوم إلى بلاء ونقم، حيث مكروا بآيات الله وكفروا بها، فرماهم الله سبحانه وتعالى، باللعنة، وأمطرهم برجوم من سخطه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 236 وغضبه، وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، وأقامهم فى هذه الدنيا مقاما مضطربا قلقا، لا يجدون فيه إلى الأمن والسلام سبيلا، إذ قطّعهم فى الأرض أمما، وسلّط عليهم الناس فى كل مجتمع يعيشون فيه، كما يقول سبحانه: «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ» (167: الأعراف) . فهذا التفضيل الذي فضّل الله به بنى إسرائيل، هو ابتلاء لهم، كشف عن نفوسهم الخبيثة، وطباعهم الشرسة، كما يكشف الغيث المنزّل من السماء عن معدن الأرض السبخة التي يصيبها الماء الغدق، فإذا هى بعد قليل قد أصبحت مستنقعا آسنا متعفنا، يؤذى كل من يلم به.. ففى هذا المثل، يرى المشركون عاقبة من يكفر بنعم الله، ويمكر بآياته.. وها هم أولاء بين يدى نعم الله وآياته.. فماذا هم فاعلون؟ أيكفرون ويمكرون، فيلقوا جزاء الكافرين.. الماكرين.. أم يشكرون ويؤمنون، فيكون لهم جزاء الشاكرين المؤمنين؟ ذلك ما تكشف عنه التجربة التي لم يخرجوا منها بعد.. قوله تعالى: «وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» .. هو معطوف على قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ... » أي وآتيناهم كذلك بينات من الأمر.. والبينات: هى المعجزات التي تكشف لهم الطريق إلى الأمر الذي يدعون إليه، ويؤمرون باتباعه، وهو دين الله وشريعته.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 237 وقوله تعالى: «فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ» - أي أن هذه الآيات البينات، وهذا العلم الذي تحمله تلك الآيات البينات، قد كان سببا فى اختلافهم، فآمن فريق منهم، وكفر فريق، وشكّ فريق، وقد كانوا من قبل هذا العلم على طريق واحد، هو طريق الغواية والضلال.. وفى قوله تعالى: «بَغْياً بَيْنَهُمْ» - إشارة إلى أن هذا الاختلاف والتفرق الذي حدث بينهم حين جاءهم العلم، إنما هو عن بغى وعدوان منهم، وإلا فقد كان من شأن هذا العلم أن يجمعهم على الهدى، وأن يقيمهم على طريق الحق، لو سلمت نفوسهم من داء البغي والعدوان. وقوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» أي أن هذا الخلاف الذي وقع بينهم لن يذهب من غير حساب وجزاء، بل إن الله سبحانه وتعالى سيحكم بينهم يوم القيامة فيما اختلفوا فيه، فيجزى أهل الضلال بضلالهم، وأهل الإحسان بإحسانهم. قوله تعالى: «ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» .. هو معطوف على قوله تعالى: «وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ» .. أي ثم بعد أن آتينا بنى إسرائيل ما آتيناهم من بينات من دين الله وشريعته، جعلناك أيها النبي على شريعة من الأمر، فاتبعها.. وفى العطف بثم، إشارة إلى تراخى الزمن، بين ما أنزل الله سبحانه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 238 على بنى إسرائيل من آيات ومعجزات، وبين بعثه الرسول، وما أنزل الله الله سبحانه وتعالى عليه من آياته وكلماته.. وفى قوله تعالى: «ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ» - إشارة إلى أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- لم يؤت مجرد آيات، وبينات من الدين، وإنما أوتى الدّين كلّه، وأنه قد جعل القائم على شريعة هذا الدين، حيث يرد الواردون إليه، فيجدون الرّى من هذا المورد، ويحمل كل وارد ما استطاع حمله منه.. والشريعة: مورد الماء.. وفى تشبيه الشريعة الإسلامية بمورد الماء، إشارة إلى أمور: أولها: أن القرآن الكريم، الذي هو مصدر هذه الشريعة، هو شىء واحد، أشبه بالماء ... طبيعة واحدة، لا يختلف بعض عن بعض من حيث هو ماء يرده الواردون للسقيا منه.. وكذلك آيات الله وكلماته، كلها على سواء فى جلالها وإعجازها وما فيها للأرواح من حياة. وثانيها: أن إعجاز القرآن، يبدو فى كل آية من آياته، كما يبدو فى القرآن كله.. كالماء تكشف القطرة منه عن جوهره كله.. وثالثها: أن ما أوتيه الرسل من المعجزات، هو بينات من الدين الذي يدعون إليه، وليس بيّنة واحدة، إذ كانت كل معجزة تختلف عن أختها فى صورتها، وفى آثارها فى الناس.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى عن الآيات التي جاء بها موسى إلى فرعون وملائه..: «وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها» (48: الزخرف) .. أما ما أوتيه الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- فهو بيّنة واحدة، وآية واحدة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 239 مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ» (1- 3: البينة) كما يشير إليه الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- فى قوله: «ما من نبى من الأنبياء إلا أوتى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحى إلىّ، فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» . وفى قوله تعالى: «فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» - إشارة إلى أن هذه الشريعة، لا يتجه إليها، ولا يرد مواردها إلا من كانت معهم عقولهم التي ينظرون بها إلى هذه الشريعة، ثم يؤديهم هذا النظر إلى العلم الذي يكشف لهم الطريق إليها.. أما من زهد فى عقله، وصحب هواه، فلن يتعرف إلى هذه الشريعة، ولن يرد مواردها. قوله تعالى: «إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ» .. الضمير فى «إِنَّهُمْ» يعود إلى المذكورين فى قوله تعالى فى الآية السابقة «وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» .. وهم المشركون الذين استولى عليهم الجهل، واستبدّ بهم العمى، فانقادوا لأهوائهم، ولم يلتفتوا إلى هذا الهدى الذي يدعون إليه.. فهؤلاء الضالون، ينبغى على النبي أن يدعهم وما اختاروا لأنفسهم، بعد أن أنذرهم، ومدّ إليهم حبل النجاة، فأعرضوا عنه، وأن يستقيم هو على طريقه، وألا يشغل نفسه بهم.. فإنه مسئول عن نفسه أولا، وأن هؤلاء الضالين لن يغنوا عن النبي شيئا، إذا هو شغل بهم، وقصّر- وحاشاه- الجزء: 13 ¦ الصفحة: 240 فى حق ربه.. وأنه إنما يتولى المؤمنين، الذين استجابوا لله وللرسول، ويعمل على ما يعينهم على البر والتقوى.. أما الظالمون فإنما يتولى بعضهم بعضا.. لا ولاية لهم من الله، ولا من رسوله، ولا من المؤمنين.. أما المؤمنون فإن بعضهم أولياء بعض، والله ورسوله أولياء لهم، كما يقول سبحانه: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا» (55: المائدة) .. قوله تعالى: «هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» .. الإشارة هنا إلى القرآن الكريم، وهو الشريعة التي جعل الله- سبحانه وتعالى- النبىّ قائما عليها.. فهذا القرآن هو «بَصائِرُ لِلنَّاسِ» - أي مراد ومسرح للعقول، حيث يقيم لها من النظر فيه، بصائر، تتهدى إلى الحق، وتتعرف إلى مواقع الهدى.. والبصائر: جمع بصيرة، والبصيرة، قوة من قوى الإدراك المستنير المشرق.. يرى بها الإنسان من عالم الحق، ما يرى البصر من عالم الحسّ.. وفى تسمية القرآن بأنه «بَصائِرُ» إشارة إلى أنه هو ذاته عيون مبصرة، وأنه بقدر ما يفتح الله للناس منه، بقدر ما يكون لهم من نور تستبصر به عقولهم، وبقدر ما يحصلون من «هُدىً» وما ينالون من «رَحْمَةٌ» . وقوله تعالى: «لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» - إشارة إلى أن هذا القرآن، وما فيه من بصائر للناس جميعا وهدى ورحمة لهم- لا يرد مورده، ولا يرتوى من هذا المورد إلا من جاء إليه بقلب سليم، مهيأ لاستقبال الخير وتقبله.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 241 قوله تعالى: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ.. ساءَ ما يَحْكُمُونَ» .. هو تهديد لهؤلاء الذين دعوا إلى الحق، فلم يستجيبوا، ورفعت لهم معالم الاستبصار، فلم يبصروا- فهؤلاء لهم عذاب شديد، على حين أن الذين آمنوا واهتدوا سيلقون من الله سبحانه ورحمة ورضوانا.. فهذا هو ميزان الناس عند الله إنه ميزان عدل، لا يسوى فيه بين من «اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ» أي اقترفوا الآثام والمنكرات، وبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات.. فهؤلاء غير أولئك، فى الدنيا وفى الآخرة جميعا.. إنهم ليسوا سوآء عند الله فى الدنيا أو فى الآخرة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى موضع آخر: «أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ» (28: ص) .. فالمؤمنون على هدى من ربهم فى الدنيا، وفى الآخرة، يؤنسهم الإيمان فى الدنيا، ويملأ قلوبهم أمنا وطمأنينة، وهم بهذا الإيمان يلقون ربهم فى الآخرة، فينزلهم منازل رحمته ورضوانه. أما الكافرون وأهل الضلال، فهم من كفرهم وضلالهم، لا يجدون برد الطمأنينة فى الدنيا، ولا ريح الرحمة فى الآخرة.. وذلك هو الخسران المبين.. وفى قوله تعالى: «اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ» إشارة إلى أن اقتراف السيئات، لا يكون إلا بجرح فضيلة من الفضائل، وبعدوان على حق من الحقوق.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 242 فالاجتراح من الجرح، الذي يجىء عن طريق العدوان، والذي يوقع صاحبه تحت حكم القصاص منه، كما يقول سبحانه: «وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ» (45: المائدة) . قوله تعالى: «وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» - يمكن أن يكون معطوفا على قوله تعالى: «وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ» وتكون الآيات الواقعة بين المتعاطفين، اعتراضا يراد به الإلفات إلى موقف الناس من آيات الله الكونية أو الكلامية، وأنهم ليسوا سواء فى موقفهم من تلك الآيات، فبعضهم مؤمن مهتد، وكثير منهم فاسقون.. ولكلّ من الفريقين حسابه عند الله، حيث لا يسوّى بين المؤمنين، وبين الكافرين الظالمين.. ثم يجىء بعد هذا قوله تعالى: «وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ» استكمالا لعرض آيات الله الدالة على قدرته، وعلمه، وحكمته.. ويجوز أن تكون الواو هنا للحال، لا للعطف، ويكون الحال من الفاعل، وهو الله سبحانه، فى قوله تعالى: «أَنْ نَجْعَلَهُمْ» .. أي أيظن الذين كفروا بالله، واقترفوا ما اقترفوا من آثام- أن يجعلهم الله كالذين آمنوا وعملوا الصالحات على سواء فى الحياة، وفى الممات، وفيما بعد الممات؟. أيظنون هذا وقد خلق الله السموات والأرض بالحق؟ إن هذا ظنّ فاسد، وما يبنى عليه من تصورات وأحكام لا يكون إلا فاسدا.. فإن هذا الوجود الذي خلقه الله من مادة الحق، وأقامه على الحق، لا يمكن أن يدخل عليه ما يغيّر صورة الحق. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 243 وإن مما يغير صورة الحق أن يسّوى بين المحسنين والمسيئين.. وهذا ما لا يكون أبدا واقعا فى ملك الله. وقوله تعالى: «وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ» معطوف على محذوف دلّ عليه السياق، أي وخلق الله السموات والأرض بالحقّ، وأرسل رسله بالبينات، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، ولتقوم عليهم الحجة، «وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ» . وقوله تعالى: «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» جملة حالية من فاعل الفعل «كَسَبَتْ» المراد به الناس جميعا.. أي أن الجزاء الذي يجزى به الناس، لا يدخل عليه جور، ولا يتلبس به ظلم.. فالمحسن ينال جزاء إحسانه، من غير أن ينقص منه شىء.. بل سيضاعف له الجزاء.. والمسيء سينال جزاء إساءته وما كسبت يداه، دون أن يؤخذ بجريرة أحد.. «وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» (164: الأنعام) . الآيات: (23- 35) [سورة الجاثية (45) : الآيات 23 الى 35] أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 244 التفسير: قوله تعالى: «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ» . هو عرض لصورة واحد من صور هؤلاء الضالين، الذين عموا عن آيات الله، بعد هذا العرض العام الذي لا حت فيه صور المبطلين، الذين خرجوا عن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 245 سنن الحق الذي خلق الله سبحانه وتعالى به السموات والأرض، والذي فرّق به الله سبحانه بينهم وبين المؤمنين، فى الحياة الدنيا وفى الآخرة.. ففى هذه الصورة المفردة لواحد من آحاد الضالين المكذبين، يرى كلّ واحد من أهل الزيغ والضلال وجوده فى هذه الصورة، وينكشف له الداء المسلط عليه.. فهذا المكذب بآيات الله، المعرض عن دعوة الهدى التي يدعوه إليها رسول الله- إنما يتبع هواه، وينقاد له، انقياد المؤمنين لله.. فالإله الذي يعبده هذا السفيه الضال، هو ما يقيمه له هواه، ويصوره له سفهه، من معبودات يتخذها من دون الله، من أصنام وغير أصنام. والاستفهام هنا تعجبى، يراد به الاستهزاء والسخرية من هذا الضال، وفضحه على الملأ وهو عاكف على هذا الضلال الذي يعبده من دون الله.. أي إن لم تكن قد رأيت هذا الإنسان المنكود الضال الذي يعبد هواه، فها هو ذا، فانظر إليه!! واتخاذ الهوى إلها، إنما هو بالانقياد لهوى النفس، والامتثال لما تأمر به.. وفى الأثر: «الهوى إله معبود» . وقوله تعالى: «وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ» جملة حالية من فاعل «اتَّخَذَ» وهو هذا الذي اتخذ هواه إلها معبودا من دون الله.. أي أنه قد اتخذ إله هواه، فى الحال التي أضله الله فيها على علم.. وهذا يعنى أنه، مع ما جاءه من العلم الذي بلّغه الرسول إياه، وكشف له به معالم الطريق إلى الله- قد اتبع هواه، وركب مركب الضلال.. وفى إسناد الإضلال لهذا الضال إلى الله سبحانه وتعالى، إنما هو بسبب الجزء: 13 ¦ الصفحة: 246 ما كان من إعراض هذا الضال عن آيات الله، وعن العلم الذي جاءه منها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ» (115: التوبة) وقوله سبحانه: «فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ.. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» (5: الصف) . وقوله تعالى: «وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ» - معطوف على قوله تعالى: «وَأَضَلَّهُ اللَّهُ» أي وأضله الله إذ دعاه إلى الهدى فلم يستجب لدعوته، وختم على سمعه وقلبه، أي أغلقهما، وأطبقهما على ما فيهما من ضلال، فلم تنفذ كلمة الحق إلى أذنه، ولم يدخل نور الهدى إلى قلبه.. فالختم على الشيء: إغلاقه على ما فيه.. وقوله تعالى: «وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً» .. الغشاوة ما يغشى العين من ظلام، فيحجبها عن أن ترى الأشياء رؤية كاشفة.. وهذا من الأدواء التي رمى الله سبحانه وتعالى بها أهل الضلال، حيث يحجب أبصارهم عن النظر فى آيات الله، نظرا يكشف ما فيها من حق، وهدى، يهدى إلى الله، وإلى طريق مستقيم.. وقوله تعالى: «فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ» ؟ أي أنه لا سبيل إلى هداية هذا الإنسان التعس الشقي، بعد أن أضله الله سبحانه وتعالى، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة! إن الله سبحانه قد رماه بهذه الآفات، وحال بينه وبين أن ينال خيرا من هذا الخير الممدود على مائدة الهدى.. فمن ذا الذي يمكن أن يرد بهذا الضال موارد الهدى؟ ومن ذا الذي يفضّ هذا الختم الذي ختم الله به على سمعه وقلبه؟ ومن ذا الذي يرفع هذه الغشاوة التي ضربها الله على بصره؟ والله سبحانه وتعالى يقول: «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً» (17: الكهف) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 247 وقوله تعالى: «أَفَلا تَذَكَّرُونَ» - دعوة إلى الوقوف عند هذا المشهد، الذي يرى فيه هذا الإنسان الذي اتخذ إلهه هواه، وأضلّه الله بعد أن جاء العلم، وختم الله على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة.. فليأخذ كل إنسان لنفسه عظة من هذا المشهد، ولينظر إلى نفسه، فإن كان بالمكان الذي فيه هذا الضّال فليحاول أن ينخلع عن هذا المكان، وليمدّ يده إلى الله طالبا العون منه.. فإنه لا يطلب العون إلا منه، ولا يرحى الخلاص إلا على يده سبحانه. قوله تعالى: «وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ» . تلقى هذه الآية أصحاب الزيغ والضلال، بعد أن أرتهم أنفسهم فى واحد منهم، قد رماه الله بتلك الآفات المهلكة، التي حجبته عن كل هدّى، وحالت بينه وبين كل سبيل إلى النجاة.. والآية الكريمة معطوفة على محذوف، يفهم من قوله تعالى: «أَفَلا تَذَكَّرُونَ» . أي أن هؤلاء المشركين الضالين، لم يستجيبوا لهذه الدعوة التي تدعوهم إلى التذكر والتدبّر فى أمرهم.. فلم يتذكروا ولم يتدبروا، بل أمسكوا بكل ما فى كيانهم من ضلال، وقالوا ما كانوا يقولونه من قبل، من أنه لا بعث ولا حساب ولا جزاء، وأنه ليس إلا هذه الحياة الدنيا، ولا حياة بعدها. «وَقالُوا: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ» . أي إن حياتنا ما هى إلا هذه الحياة الدنيا.. «نَمُوتُ وَنَحْيا» .. أي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 248 لا نرى فيها إلا هذه الصور المكررة من حياة وموت، وموت وحياة.. أحياء يموتون، ومواليد يردّون إلى الحياة..! ولا شىء غير هذا.. «وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ» وهكذا تمضى بنا الأزمان والدهور، فتحتوى كلّ حىّ، وتضمّه فى كيانها، وتدرجه فى أكفان العدم الأيدى.. وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع وقوله تعالى: «وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ» أي إن هذا القول الذي يقولونه، ويقيمون تصوراتهم وأفكارهم عليه، إنما هو من واردات الظنّ الذي لا يستند إلى شىء من العلم. «إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً» (36: يونس) قوله تعالى: «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» . أي ومن مقولات هؤلاء الضّالين، القائمة على الظّن الفاسد، أنهم إذا تليت عليهم آيات الله تحدّثهم عن البعث، والحساب والجزاء أنكروا هذا الحديث، وردّوه بلا حجّة، إلا هذه الحجة الفاسدة، وهى أنهم لن يصدّقوا هذا الحديث، ولن يأخذوا به إلا إذا ردّ إليهم آباؤهم الذين ذهبوا، وأن يروهم رأى العين أحياء بينهم! وهذا منطق لا يقبله عقل.. إذ كيف يقوم الأموات من القبور، ويعودون إلى الحياة مرة أخرى، ويعيشون فى الناس، ويشاركونهم الحياة فى هذه الدنيا؟ أهذا مما تحتمله الحياة؟. وهل بعث الأموات من قبورهم ليكونوا فى هذه الحياة الدنيا مرة أخرى- مما لا تتسع له الحياة.؟. إن الحياة الدنيا لا تتسع إلا لأهلها الأحياء فيها، فإذا ذهبوا جاء غيرهم ليأخذ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 249 مكانهم.. وهكذا.. ولو أنه كان من تدبير الله سبحانه أن يردّ الموتى إلى الحياة الدنيا، ويجعل لهم مقاما فيها لما كان من هذا التدبير أن يموتوا، ولظلوا أحياء أبد الدهر.. وهذا لا يكون إلا إذا لم يكن من هؤلاء الأحياء الخالدين توالد.. لأن التوالد معناه أن يبقى الخلف ويذهب السلف.. وانظر كيف يمكن أن تكون الحياة ليومنا هذا، لو طلع علينا الأموات الذين ضمتهم الأرض، واحتواهم التراب، منذ كان للناس وجود على هذه الأرض؟ يقول المعرّى، وقد وقع فى خاطره هذا التصور: لو هبّ سكان القبور من الثرى ... أعيا المحل على المقيم الساكن لغدوا وقد ملأ البسيطة بعضهم ... ورأيت معظمهم بغير أماكن!! فأين هى الأرض التي تتسع لأجيال الناس، وهى تكاد تضيق بهذا الجيل من الناس؟. فهذا القول الذي يقوله المشركون، ويتحدون به دعوتهم إلى الإيمان بالحياة الآخرة- قول فاسد، لا منطق له.. بل إن هؤلاء المشركين أنفسهم لهم أول الذين يدفعونه لو أنه تحقق، وطلع عليهم موتاهم من الآباء والأجداد.. وسمّى قولهم هذا حجة، لأنه لا حجة عندهم إلا هو.. فهو كل بضاعتهم فى هذا المقام.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 250 قوله تعالى: «قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» .. هو ردّ على مقولة هؤلاء المشركين، وتقرير للحق الذي لا ريب فيه، دون إقامة وزن لهذه التّرهات التي يهذون بها.. «اللَّهُ يُحْيِيكُمْ» أي هو سبحانه الذي أوجدكم فى هذه الحياة، وأخرجكم من عالم الموات إلى عالم الحياة، وأمسك عليكم هذه الحياة التي ألبسكم إياها «ثُمَّ يُمِيتُكُمْ» وهو سبحانه الذي يميتكم، وينزع عنكم ثوب الحياة الذي ألقاه عليكم.. «ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ» - وهو سبحانه الذي يعيدكم إلى الحياة مرة أخرى، لا إلى هذه الدنيا، وإنما ليدعوكم إلى دار أخرى، غير تلك الدار ويجمعكم فيها.. «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» .. أي أن أكثر الناس هم الذين يكذبون بالبعث، وينكرون اليوم الآخر.. وذلك لما ركبهم من جهل، وما غشيهم من ضلال.. قوله تعالى: «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ» .. أي أن هذا الذي يكون من حياة وموت، وبعث، هو من تدبير الله، ومن تصريفه فى ملكه، لا يسأل عما يفعل.. فمن أسلم نفسه لله، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 251 فقد فاز ونجا، ومن أبى أن يسلم نفسه لله، فقد خاب وخسر.. وذلك يوم تنكشف له الحقيقة، ويجد اليوم الذي كان يكذب به، والنار التي توعّد الله بها المكذبين.. قوله تعالى: «وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. هو معطوف على قوله تعالى: «يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ» أي وفى هذا اليوم- يوم القيامة- يخسر المبطلون، وفى هذا اليوم، «تَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً» .. والخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم، وهو خطاب لكل من هو من شأنه أن يرى فى هذا اليوم، ويجد من نفسه القدرة على النظر إلى ما حوله، فى هذا الهول الذي يشتمل على الناس.. والجثو: الإناخة على الركب.. حيث تنحلّ عزائم الناس من الهول المحيط بهم فى هذا اليوم، فلا تحملهم أرجلهم، فيجثون على ركبهم.. أي فى هذا اليوم ترى كل أمة قد اجتمعت، وجنت على ركبها.. وقوله تعالى: «كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا» .. هو جواب عن سؤال يعرض لبيان سبب هذا الجثو، ولهذا وقع الفصل بين الجملتين.. فكأنه قيل: لم تجثو هذه الأمم؟ فكان الجواب: «كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا» أي أن هذا الاجتماع، والاستشهاد من الأمم، لأن كل أمة مدعوة إلى كتابها، الذي تحاسب به، على حسب شريعتها التي دعيت الجزء: 13 ¦ الصفحة: 252 إليها.. فلكل أمة شريعة، ولكل أمة حسابها على هذه الشريعة.. من حيث اتباعها والاستقامة عليها، أو تضييعها. والخروج عنها.. وقوله تعالى: «الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. لم تعطف هذه الجملة على ما سبقها، لأنها فى تقدير جواب على سؤال مقدر.. فكأنه قيل: لم تدعى الأمم إلى كتابها؟ فكان الجواب: «الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. فهذا هو يوم الحساب والجزاء، بما تنطق به هذه الكتب التي فى أيدى الناس من كل أمة.. قوله تعالى: «هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. أي أنه حين تجتمع الأمم، وتدعى كل أمة إلى تناول كتابها، يقال للناس وهم يأخذون كتبهم: «هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ» أي يتحدث إليكم بالحق.. وفى تعدية الفعل ينطق بحرف الاستعلاء «على» إشارة إلى أنه ينطق من علوّ، لأنه حق، وحيث كان الحق، فهو على رأس كل أمر.. وقوله تعالى: «إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» أي أن فى هذا الكتاب الذي فى أيديكم أعمالكم التي عملتموها فى دنياكم، فلا تعجبوا أن تجدوا فى هذا الكتاب كل شىء كان منكم، لأننا كنا نكتب ما كنتم تعملون، كما يقول سبحانه فى موضع آخر: «إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 253 وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ» (12: يس) .. والاستنساخ، نقل من أصل ينسخ منه، ويؤخذ عنه ما ينقل.. والأصل هو اللوح المحفوظ.. وهذا يعنى أن الملائكة الموكلين يحفظ أعمال الناس وتسجيلها إنما ينسخون هذه الأعمال من اللوح المحفوظ، التي سبق علم الله بها، فهى تجرى على ما كان فى علم الله، وعلى ما سجّل فى الكتاب الإمام، وهو اللوح المحفوظ، كما يقول سبحانه. «وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ» .. قوله تعالى: «فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ» .. ويبدأ بالذين آمنوا وعملوا الصالحات، فلا ينتظر بهم حتى يفصل فى الكافرين والضالين، وذلك ليروا وجه الخلاص والنجاة من أول الأمر، وبذلك تخلو نفوسهم من هواجس القلق، والفزع، لما يرون مما يحلّ بالظالمين، من بلاء.. فهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، يدخلهم ربهم فى رحمته، ويفيض عليهم من إحسانه، وينزلهم منازل رضوانه. و «ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ» الذي لا فوز مثله.. قوله تعالى: «وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ» .. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 254 وإذ يدعى الذين آمنوا إلى جنات النعيم، وإذ يخلو الموقف إلا من من الضالين والمكذبين والكافرين- عندئذ يدعى الضالون والكافرون، يدعون إلى المساءلة والحساب، وقد عرفوا مقدما المصير الذي هم صائرون إليه، فيقال لهم على سبيل التقريع والتنديم: «أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ» وفى هذا مواجهة لهم بالاتهام، وحكم عليهم بالإدانة فيما اتهموا به.. قوله تعالى: «وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ» . هو مما يقال للكافرين وأهل الضلال فى موقف الحساب.. وهو معطوف على قوله تعالى: «فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ» أي وكنتم إذا قيل لكم: «إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها» أنكرتم هذا القول، ورددتموه على قائليه، وقلتم فى تجاهل غبىّ: «ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ؟» إنها لا تقع فى تصورنا إلا من قبيل الظن، الذي لا يبلغ بصاحبه مبلغ اليقين. فكيف ندع حياة نحن فيها، ونتعامل مع حياة أخرى، لا نراها إلا من وراء أوهام وظنون؟. قوله تعالى: «وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» . أي أنه ظهر للكافرين ما كانوا يعملون من سيئات، وانكشف لهم وجهها القبيح الذي ينادى عليهم بالويل والثبور.. «وَحاقَ بِهِمْ» أي حل وأحاط بهم، هذا اليوم الذي كانوا يستهزئون به، وينكرون أن يكون واقعا أبدا.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 255 قوله تعالى: «وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ» .. أي ومما يقال للكافرين فى هذا اليوم، هذا القول الذي يملأ قلوبهم حسرة ويأسا.. إنهم سيتركون فى هذا الهول، كما يترك الشيء المنسيّ، وذلك لأنهم أهملوا النظر فى يومهم هذا، ولم يذكروا أبدا أنهم على وعد معه.. وإن النار لهى مأواهم، ومنزلهم الذي ينزلونه فى هذا اليوم، وإنه لا ناصر لهم يخرجهم من هذا البلاء النازل بهم.. قوله تعالى: «ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» . الإشارة إلى هذا العذاب الذي يعذّب به الكافرون، وأنه إنما كان بسبب اتخاذهم آيات الله هزوا، حيث كانوا، إذا تليت عليهم آيات الله أعرضوا عنها، واستخفوا بها، وأطلقوا ألسنتهم بالهذر من القول فيها.. إنهم يفعلون هذا وملء كيانهم كبر وغرور بالحياة الدنيا، وما يتقلبون فيه منها من متاع.. وفى قوله تعالى: «فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» وفى الانتقال من الخطاب إلى الغيبة- إشارة إلى تنوع مواقع المساءات التي تأتيهم من كل جهة.. فتارة يواجهون بما يسيئهم، وتارة تجيئهم المساءات من حيث لا يشعرون.. فهم إذ يواجهون بهذا التقريع لما كان منهم من الهزؤ بآيات الله، والغرور بدنياهم- يجيئهم صوت من بعيد بهذه الصاعقة التي تنصب على رءوسهم: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 256 «فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» أي أنه لا خروج لهم من هذه النار التي ألقوا فيها، ولا يسمع منهم عذر، ولا يقبل لهم اعتذار. الآيتان: (36- 37) [سورة الجاثية (45) : الآيات 36 الى 37] فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37) التفسير: بهاتين الآيتين الكريمتين تختم السورة، فيلتقى ختامها مع بدئها، ويكون أشبه بالتعقيب عليه.. فقد بدأت السورة بالإشارة إلى القرآن الكريم، وبأنه منزل من الله العزيز الحكيم. ثم تلا ذلك الإشارة إلى السموات والأرض وما فيهما من آيات المؤمنين.. وكان مؤدّى هذا، أن كثيرا من الناس، نظروا فى آيات الله القرآنية، والكونية، فرأوا فيها آيات من جلال الله، وعظمته، وقدرته، فآمنوا بالله، وانشرحت صدورهم، واطمأنت قلوبهم بهذا الإيمان، ومن أجل هذا فهم يحمدون الله، ويشكرون له، أن هداهم للإيمان.. فالحمد لله وحده، لا شريك له، هو سبحانه المستحق للحمد، لأنه رب السموات والأرض. وهو المتفرد بالحكم والسلطان فيهما، بعزته، وحكمته.. فالعزة، سلطان غالب قاهر، والحكمة، ميزان حق وعدل فى يد العزة الغالبة القاهرة، فلا ظلم ولا جور من سلطان العزة الغالبة القاهرة.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 257 46- سورة الأحقاف نزولها: مكية بإجماع عدد آياتها: خمس وثلاثون آية عدد كلماتها: ثلاثمائة وأربع وأربعون كلمة عدد حروفها: ألفان وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفا مناسبتها لما قبلها ختمت سورة الجاثية بحمد الله، من عباده المؤمنين، الذين نظروا فى آيات الله القرآنية والكونية، وفرأوا فيها دلائل قدرة الله، وعلمه، وحكمته.. ومن ثمّ كان إيمانهم بالله، وحمدهم له، أن هداهم إلى الإيمان.. وهنا تبدأ سورة الأحقاف، فتكشف عن الوجه الآخر من وجوه الناس، وموقفهم من آيات الله.. وهؤلاء هم المشركون، الكافرون، الذين عرضت عليهم آيات الله، فأعرضوا عنها، وتليت عليهم آياته، فصمّووا آذانهم عنها.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 258 بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 6) [سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6) التفسير: قوله تعالى: «حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» .. مضى تفسير هاتين الآيتين فى أول السورة السابقة: (الجاثية) . قوله تعالى: «ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ» . أي أن خلق السموات والأرض وما بينهما، كان خلقا قائما على الحق، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 259 متلبسا به، فما خلق شىء فى هذا الوجود إلا بحكمة وتقد. وما خلق شىء عبثا أو لهوا، كما يقول سبحانه: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ» .. فكل ذرة فى هذا الوجود، لها مكانها فيه، ولها وظيفتها التي تؤديها لانتظام نظامه، واتساق حركته: «ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ» (3: الملك) . وقوله تعالى: «وَأَجَلٍ مُسَمًّى» معطوف على قوله تعالى: «بِالْحَقِّ» أي ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وبتقدير أجل مسمّى لكل مخلوق خلق.. فكل مخلوق خلق لغاية، وحكمة.. وكل مخلوق له أجل ينتهى به دوره، كما يقول سبحانه وتعالى: «لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ» (49: يونس) وكما يقول سبحانه: «لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ» (38: الرعد) . وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ» .. جملة حالية، تكشف عن موقف بعض مخلوقات الله التي خرجت عن سنن الحق الذي قام عليه الوجود كله.. فهؤلاء الذين كفروا، لم يقفوا عند حدّ كفرهم، وانحرافهم عن جادة الطريق، بل إنهم- مع كفرهم وضلالهم- لم يقبلوا دعوة الهدى، ولم يستمعوا إلى هذا النذير، الذي جاء ينذرهم ويحذرهم عاقبة كفرهم وضلالهم.. وفى الجمع بين كتاب الله المنزّل من الله العزيز الحكيم، وبين السموات والأرض والحق الذي خلقا به- فى هذا الجمع، إشارة إلى أن آيات الله القرآنية، وآياته الكونية، على سواء، فى أنها جميعا من الحق، وأن ما يتلوه أصحاب الألباب من صحف الكون، هو شبيه بما يتلونه من كتاب الله، وآياته.. فمن لم تنفذ العبرة والعظة إلى قلبه عن طريق السمع، بما يتلى عليه من الجزء: 13 ¦ الصفحة: 260 آيات الله وكلماته كان له من نظره فى آيات الله الكونية، ما يفتح له الطريق إلى الله.. أما من أغمض عينيه عن آيات الله الكونية، وأصم أذنيه، عن آيات الله القرآنية فهيهات أن تنفذ إلى قلبه شعاعة من هدى، أو قبسة من نور.. قوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» .. المراد بالاستفهام فى قوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟» هو إلفات المشركين إلى هؤلاء المعبودين الذين يعبدونهم من دون الله، وإعادة النظر إليهم، نظرا فاحصا محقّقا، وذلك ليجيبوا على ما يسألون عنه فى شأن هؤلاء المعبودين.. وفى هذا إشارة إلى أن هؤلاء المشركين، كانوا فى غفلة عن معبوداتهم تلك، وأنهم إنما يعبدونها عن تقليد، بلا وعى أو تفكير.. ولهذا طلب إليهم أن يعيدوا النظر فى معبوداتهم تلك، وأن يتحققوا من صفاتها، وما تملك بين أيديها من قوّى.. وقوله تعالى: «أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ» .. هو السؤال الذي يطلب إلى المشركين الإجابة عليه، بعد أن استعدوا لهذا الامتحان، بالنظر إلى معبوداتهم، والكشف عن حقيقتها.. والسؤال هو: «ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ» ؟ أي ماذا لهؤلاء المعبودين من مخلوقات فى الأرض؟ وأىّ شىء خلقوه منها؟ «أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ؟» إنه لا شىء لهم فيما على هذه الأرض من مخلوقات، كبر شأنها أم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 261 صغر.. إنهم لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له.. كما يقول سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ» . (73: الحج) .. وقوله تعالى: «أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ» هو إضراب عن السؤال السابق، بعد أن عرف الجواب عنه، وهو الصمت والوجوم.. وإنشاء لسؤال آخر، فربما وجد المشركون جوابا له، بعد أن عجزوا عن الإجابة عن السؤال الأول.. «أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ؟» أي إذا لم يكن لهؤلاء المعبودين شىء مما خلق الله سبحانه وتعالى فى الأرض من مخلوقات.. فهل لهم شركة مع الله فيما خلق فى السموات؟ وإنه لا جواب على هذا إلا العجز الصامت، والوجوم المطبق! .. فإن كان هناك من يكابر، ويأبى إلا أن يجعل لهذه المعبودات سلطانا فى السموات أو فى الأرض، فليأت بكتاب من عند الله من الكتب التي سبقت القرآن الكريم، وتقدمت نزوله.. فإن لم يكن كتاب فليكن «أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ» أي أثر ولو قليل من علم، مصدره أهل الذكر والعلم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ» (8: الحج) .. وفى السؤال عما للمعبودين فى الأرض بلفظ «الخلق» وعما لهم فى السموات بلفظ «الشرك» - فى هذا مراعاة لمقتضى الحال التي عليها المشركون مع آلهتهم.. حيث يبدو لهم من معبوداتهم أن لها تدبيرا وتصريفا مستقلا فى شئون الحياة.. كما كان فرعون يدّعى أنه بألوهيته، هو الذي يمد قومه بأسباب الحياة، وما ينزل عليهم من مطر، أو ينبت من نبات.. وكما كان الجزء: 13 ¦ الصفحة: 262 يدهى «النمرود» أنه يحيى ويميت، وفى هذا يقول الله تعالى: «إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ» (258: البقرة) . أما العالم العلوي، فإن دعوى خلق شىء من عوالمه، أكبر من أن يتسع لها ادعاء، على حين يمكن أن تدّعى الشركة، وأن ينسج لها ثوب ملفق من الوهم والخيال.. حيث لا يطالب الشريك بالتصريف فى شىء، منفردا عن شريكه.. قوله تعالى: «وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ» .. هو تعقيب على هذا الموقف الذي وقف منه المشركون مع معبوداتهم، موقف امتحان وابتلاء.. وقد تكشف لهم من هذا الامتحان أن معبوداتهم تلك، لا تملك شيئا من هذا الوجود فى أرضه أو سمواته.. وإذن فما أضل من يعبدها، ويرجو العون منها.. إنها لا تستجيب لمن يدعوها، ولو امتد دعاؤه، وطال وقوفه بين يديها إلى يوم القيامة.. إنها لا تملك شيئا، ولن تملكه، حالا أو مستقبلا.. وطلب شىء ممن لا يملك شيئا، هو السفه الجهول، والضلال المبين.. وقوله تعالى: «وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ» جملة حالية، تكشف عن غفلة هذه المعبودات، عن دعاء من يدعونها.. إنها لا تسمع، ولو سمعت ما استجابت، لأنها فى قيد العجز المطلق، الذي لا تملك معه من أمر الله فى عباده شيئا.. وفى هذا يقول الله تعالى: «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا» (56: الإسراء) ويقول سبحانه: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 263 «إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ» (14: فاطر) . وفى التعبير عن عدم الاستجابة بالغفلة، إشارة إلى استخفاف هذه المعبودات بعابديها، وأنها لا تلتفت إليهم، ولا تأبه لدعائهم، حتى ولو كان من شأنها أن تسمع وتعقل. قوله تعالى: «وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ» . أي وليس هذا الذي تلقى به هذه المعبودات عابديها، من استخفاف بهم، وشغل عنهم- ليس هذا كل ما هنالك.. بل إن لهذا الحساب بقية فى الآخرة، حيث تنتظر هذه المعبودات من عبدوها فى موقف الحساب والجزاء، وهناك تقف منهم موقف العداوة والخصومة، حيث تشهد عليهم بأنهم كانوا كافرين بالله، مفترين عليها بتأليهها، وعبادتها، وجعلها أندادا لله سبحانه.. وهذه جريمة شنيعة، ألصقها هؤلاء المشركون بتلك المعبودات، وإن من حق هذه المعبودات أن تطلب القصاص من عابديها، الذين عرضوها فى معرض البهتان والضلال.. الآيات: (7- 14) [سورة الأحقاف (46) : الآيات 7 الى 14] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 264 التفسير: قوله تعالى: «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ» . أي أن هؤلاء المشركين الذين انكشف لهم ما عليه آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، من ضعف وعجز عن أن تملك لهم ضرا أو نفعا- لم يكن لهم من العقل والرأى ما يحولهم عن موقفهم هذا الذي جمدوا عليه مع آلهتهم، وحتى إنهم إذا تليت عليهم آيات الله بينة بيان الصبح، مشرقة إشراق الضّحى، خدعوا أنفسهم عنها، وقالوا هذا سحر الجزء: 13 ¦ الصفحة: 265 مبين.. إذ لم يستطيعوا أن ينكروا سلطان هذه الآيات، أو يدفعوا حجتها القائمة عليهم، إذ كان سلطانها أكبر من أن يدفع، وكانت حجتها أقوى من أن ترد- فكان هروبهم منها وفرارهم من بين يديها، مستندا إلى هذا الادعاء الباطل، بأن هذه الآيات من السحر المبين، الذي يملك «محمد» من أعاجيبه وحيله، مالا يملكون.. وفى إظهار الضمير فى «عليهم» «وآياتنا» كشف للحقيقة المنطوية فيهما.. فضمير المشركين، يطوى تحت كيانه وجها منكرا من وجوه الناس، هم «الَّذِينَ كَفَرُوا» .. وضمير الآيات البينات، يضم تحت جناحيه، الحق المبين.. وفى قوله تعالى: «قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ» - إشارة إلى أن هذا الحق الذي طلع على المشركين من تلك الآيات البينات التي تليت عليهم- كان من الظهور والبيان بحيث يرونه رأى العين، حتى إنه ليتمثل لهم منه كائن شخصى، عاقل، يجىء إليهم، ويخاطبونه، ويشيرون إليه قائلين «هذا سِحْرٌ مُبِينٌ» . قوله تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ.. قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» . هو إضراب عن مقولتهم عن القرآن، هذا سحر مبين» وعدول عن هذا القول إلى قول آخر، إذ لم يطمئنوا إلى هذا القول فى القرآن.. فهو آيات بينة المعنى، واضحة القصد، وكلمات محددة الدلالة، صريحة المعنى، فمن أين يكون بينها وبين السحر جامعة تجمعها به، والعهد بالسحر، أنه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 266 خفايا وأسرار، تطلع من وراء ستر محجبة، لا يعرف الطريق إليها إلا أصحابها، الذين يخيّلون للناس منها ما يخيلون.. فالقول بأن هذا القرآن مفترى على الله أقرب إلى القبول فى باب الجدل والمراء من القول بأنه سحر.. ولكن هذا القول لا يلبث أن ينكشف زيفه وبطلانه إذا وضع موضع الاختيار، إذا قيل لقائليه: ما لكم لا تأتون بعشر سور مثله مفتريات، أو بسورة واحدة مفتراة؟ وماذا يحول بينكم وبين الافتراء، والمجال فيه متسع فسيح لمن يشاء أن يرد موارده؟. وقد ردّ الله سبحانه وتعالى على مقولتهم تلك، فى غير هذا الموضع من القرآن الكريم، فقال تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ» (13: هود) .. وهنا، فى هذا الموقف يلقاهم، رد آخر فى قوله تعالى: «قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» .. وهذا الرد يتجه إلى الافتراء من حيث هو كذب على الله، وعدوان عليه سبحانه وتعالى، وأن من افترى على الله فقد تعرض لسخطه ونقمته، وأنه لا أحد يدفع عن المفترى على الله سخط الله، وعذاب الله! فلم يفترى النبي على الله، ولم يعرض نفسه لهذا البلاء؟ وما الثمن الذي أخذه من وراء هذه المجازفة؟. وقوله تعالى: «هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ» هو تهديد للمشركين بقولهم هذا الذي يقولونه فى كلمات الله وآياته.. وأفاض فى الحديث: توسع فيه، وأكثر منه.. حتى يجاوز الحدود، ويخرج عنها، كما يفيض السائل من الإناء، ويسيل فى كل مسيل.. وإفاضة القوم فى القرآن، هو مقولاتهم الكثيرة فيه، وهى مقولات الجزء: 13 ¦ الصفحة: 267 باطلة لا حدود لها، وهذا يعنى أن مقولاتهم فى القرآن مقولات باطلة، تتسع لكل قول.. ولو أنهم قالوا قولا حقا، لما كان لهم إلا قولة واحدة، هى أن هذا القرآن من عند الله، وأنه الحق من ربهم.. وقوله تعالى: «كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» .. تهديد ووعيد آخر للمشركين، وأنهم فى موضع الحساب والمسألة من الله تعالى، وأنهم مأخوذون بما يقولون من مفتريات على آيات الله، وعلى رسول الله. وقوله تعالى: «وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» - دعوة إلى هؤلاء المشركين أن ينظروا إلى أنفسهم، وأن يطلبوا النجاة من هذا الموقف المهلك الذي هم فيه، وأن يفرّوا إلى الله، وأن يطلبوا المغفرة والرحمة من رب غفور رحيم.. وفى هذه الدعوة- إشارة إلى أن الرسول الكريم، إنما جاء رحمة للناس من ربه، وأنّ ربه غفور رحيم، يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات.. وأن هؤلاء المشركين فى معرض المغفرة والرحمة، إذا هم طلبوا مغفرة الله ورحمته.. قوله تعالى: «قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ» .. هو دعوة أخرى إلى هؤلاء المشركين، أن يعيدوا النظر فى هذا النبىّ، وفيما يدعوهم إليه.. إنه بشر مثلهم، شأنه فى هذا شأن المرسلين من قبله إلى أقوامهم.. وهو إنما يبلغ ما يتلقاه من ربه، شأنه فى هذا أيضا شأن كل رسول قبله.. فهو ليس بدعا من الرسل، أي ليس على صورة غريبة، خارجة عما الجزء: 13 ¦ الصفحة: 268 جاء عليه الرسل من قبله، سواء فى شخصه، أو فى مضمون ما أرسل به.. فماذا ينكر القوم منه؟ وفى قوله تعالى: «وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ» .. هو تقرير لبشرية الرسول، وأنه ليس إلا عبدا من عباد الله، لا يعلم الغيب، ولا يملك لنفسه، ولا لأحد ضرّا ولا نفعا، إلا ما شاء الله.. «قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» (188: الأعراف) .. قوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» .. هو تحريض للمشركين من قريش على أن يسبقوا إلى هذا الخير الذي يدعوهم النبىّ إليه، وأن يسارعوا إلى أخذ حظهم منه، قبل أن يسبقهم إليه غيرهم من أهل الكتاب الذين يعرفون أنه الحقّ من ربهم، وأن بعضا منهم- ممن لا يستبد به الحسد، ولا تغلبه شقوته- سيؤمن بهذا القرآن، ويهتدى بهديه.. وتحرير معنى الآية.. ماذا يكون موقفكم أيها المشركون، إذا كان هذا القرآن من عند الله، وقد كفرتم به، على حين أن بعضا من اليهود قد عرف وجه الحق فيه، ورأى من آيات الحقّ منه، مثل ما رأى فى الكتاب الذي معه، فآمن بالله، وصدق بهذا القرآن واستكبرتم أنتم حين عرفتم الحقّ ولم تؤمنوا- ماذا يكون موقفكم، وقد فاتكم هذا الخير الذي أعطيتموه ظهركم؟ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 269 ألا يكون منكم إلّا الانطلاق فى هذا الضلال الذي أنتم فيه إلى غاياته؟ إن ذلك عدوان منكم على الحق، وظلم مبين منكم لأنفسكم، والله لا يهدى القوم الظالمين، الذين يرون الحقّ، ويأبون أن يأخذوا طريقهم معه! هذا، وقد كاد يكون إجماع من المفسرين على أن هذه الآية قد نزلت فى عبد الله ابن سلام، وهو من اليهود الذين دخلوا فى الإسلام، ويأتون على هذا بأخبار ومرويات من الأحاديث فى كتب الصحاح كالبخارى ومسلم، وغيرهما.. والسورة مكية، وليس هناك شاهد قوىّ يشهد بأن هذه الآية مدنية- كما يقول بذلك الذين يذكرون سبب نزولها- بل إن هناك أكثر من شاهد بأنها مكية.. فأولا: أن السياق متصل، بحيث يجعل الآية فى مواجهة هؤلاء المشركين الذين يخاجون النبىّ ويرمونه بالكذب والافتراء وفى هذه المواجهة يرى المشركون أن موقفهم من الرسول، ومن القرآن، سينتهى بهم إلى أن يسبقهم أهل الكتاب إلى هذا الرسول الذي كانوا يتمنون على لله أن يكون لهم كتاب مثل أهل الكتاب.. وكانوا يقولون ما حكاه القرآن عنهم: «لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ» (157: الأنعام) وها هم أولاء قد جاءهم الكتاب، ويوشك أن يفلت من أيديهم وثانيا: أن فى هذه لآية المكية، دعوة غير مباشرة إلى أهل الكتاب أن يؤمنوا بهذا الرسول، وبالكتاب الذي أنزل إليه من ربه وفى هذه الدعوة إرهاص بالمواجهة التي سيواجه فيها الرسول والقرآن أهل الكتاب، فيما بعد، وهذا أسلوب من أساليب القرآن فى دعوة أهل الكتاب إليه، وهو فى الطريق إليهم، قبل أن يلقاهم لقاء مباشرا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 270 وإذن فليس هناك داعية إلى القول بأن هذه الآية مدنية، وبالتالى أنها نزلت فى عبد الله بن سلام أو غيره.. وإن الذي ينظر فى الأحاديث والمرويات، التي ذكرت فى هذا المقام، يرى فيها اختلافا، وتضاربا، بحيث ينقض بعضها بعضها، ويهدم بعضها بعضا مما يجعل مجاوزتها والعدول عنها، أولى من الوقوف عندها، وأخذ شىء منها.. قوله تعالى: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ» .. أي ومن الشّبه والضلالات التي أضلت المشركين عن الإيمان بالله والاستجابة للرسول- أن كثيرا من الذين سبقوهم إلى الإيمان بالله، والاستجابة للرسول، كانوا من الفقراء، والمستضعفين، كبلال، وعمار، وصهيب، وغيرهم ممن سبقوا إلى الإسلام.. وهذا عند المشركين من الأدلة الناطقة بأن هذا الذي يدعو إليه محمد، ليس مما تهفو إليه نفوس أصحاب الجاه، والمنزلة.. فى الناس، وأنه لو كان كذلك لما سبق إليه الأرقاء والمستضعفون فيهم وكيف.. وهم السابقون إلى عايات السيادة والمجد، يسبقهم عبيدهم وإماؤهم إلى أمر، ثم يكونون هم وراءهم، يأخذون مكانهم فى الصفوف المتأخرة فيه؟ وإذن فهذا الذي يدعو إليه محمد ليس إلا إفكا مفترى، ولهذا كان المنخدعون به، هم أولئك الأرقاء والأدلاء من بينهم وهكذا تأمرهم أحلامهم، وتسوّل لهم أنفسهم!! قوله تعالى: «وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ» .. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 271 هو رد على مقولة المشركين فى القرآن بأنه إفك قديم. أي أن هذا القرآن ليس إفكا قديما كما يدعون.. فلقد سبقه كتاب موسى، الذي هو إمام أي هدى يهتدى به الناس، ورحمة من الله إليهم.. وهذا القرآن هو مصدق لما فى كتاب موسى، لينذر هؤلاء المشركين الذين ظلموا أنفسهم بالإعراض عنه، ويبشر المحسنين، الذين أحسنوا إلى أنفسهم بهذا الخير الذي ساقوه إليها من هذا الكتاب.. وفى قوله تعالى: «لِساناً عَرَبِيًّا» مقابلة لقوله تعالى عن كتاب موسى «إِماماً وَرَحْمَةً» .. أي أنه إذا كان كتاب موسى إماما ورحمة، فإن هذا للكتاب لسان عربى، ومن هذا اللسان العربي يتفجر ينابيع الهدى والرحمة.. وفى هذا تنويه باللسان العربي، من حيث هو لغة، فكيف إذا كان هذا اللسان يحمل آيات الله البينة، وكلمات الله المعجزة؟ قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» .. هو بيان للمحسنين، ولما يحمل إليهم القرآن الكريم من بشريات.. وقد جاء هذا البيان على تلك الصورة التقديرية المؤكدة، إظهارا لمزيد الاعتناء بهم والتنويه بشأنهم، وبشأن الجزاء الكريم الذي أعده الله سبحانه وتعالى لهم.. فالمحسنون، هم الذين قالوا ربنا الله، أي آمنوا به، ثم استقاموا على شريعة الله، فامتثلوا أوامره، واجتنبوا نواهيه.. فهؤلاء هم المحسنون، وهم الذين لا خوف عليهم مما يخيف أهل الشرك والضلال يوم القيامة، وهم الذين لا يحزنون يوم تمتلىء قلوب أهل الشرك والضلال حزنا وكمدا على ما فرطوا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 272 فى جنب الله.. إنهم أصحاب الجنة لهم فيها دار الخلد، فلا يتحولون عنها أبدا، جزاء ما عملوا فى دنياهم من طيبات.. الآيات: (15- 20) [سورة الأحقاف (46) : الآيات 15 الى 20] وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) التفسير: قوله تعالى: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 273 «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ، وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ» . فى هاتين الآيتين مباحث: أولا: مناسبتهما لما قبلهما: وتبدو هذه المناسبة فيما تضمنته الآيات السابقة من الإشارة إلى القرآن الكريم، وأنه يحمل النذير بالعذاب إلى الذين ظلموا، والبشرى بالجنة والرضوان للذين آمنوا وأحسنوا.. ثم ما جاء بعد ذلك من تعقيب بقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا ... » وما فى هذا التعقيب من بيان لما أعد الله للذين آمنوا واستقاموا من جزاء كريم فى الآخرة، وأنهم أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» ... ثم كان قوله تعالى: «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً..» دعوة مرافقة للدعوة إلى الإيمان بالله، وإحسان العمل فى سبيل مرضاته، وأن من الإحسان، الإحسان إلى الوالدين، فلن يكون الإنسان من المحسنين، إذا فاته الإحسان إلى أبويه.. وفى أكثر من موضع من القرآن الكريم، اقترن الأمر بطاعة الله، بطاعة الوالدين، والإحسان إليهما: «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» (23: الإسراء) .. «وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ» (13- 14 لقمان) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 274 وثانيا: المراد بالإنسان فى قوله تعالى: «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً» أهو مطلق الإنسان أم هو إنسان بالذات؟ .. أكثر المفسرين على أن هذه الآية نزلت فى أبى بكر رضى الله عنه، وأنه هو الإنسان المقصود هنا. ومستندهم فى هذا، أن أبا بكر رضى الله عنه، هو الذي آمن، وآمن معه والداه، أول الدعوة الإسلامية، وأنه- رضى الله عنه- كان فى أول الدعوة الإسلامية فى الأربعين من عمره، إذ كان- كما يقولون- أصغر سنّا من النبي- صلى الله عليه وسلم- بنحو عامين.. والذي نراه- ونرجو أن يكون صوابا- هو أن المراد بالإنسان، هو مطلق هذا الإنسان، الذي وصاه الله بوالديه إحسانا.. فهذه الوصاة بالإحسان إلى الوالدين موجهة إلى كل إنسان.. ولكن كما يتردد بعض الناس فى قبول دعوة إلى الله إلى الإيمان به، أو يرفض هذه الدعوة- كذلك يتردد بعض الناس فى امتثال أمر الله بالإحسان إلى الوالدين، أو لا يستجيب لهذه الدعوة أبدا.. وكما يتوب الله سبحانه وتعالى على العصاة ويتجاوز عن سيئاتهم، ويقبلهم فى أهل الإيمان والإحسان، كذلك يقبل الله سبحانه من يراجع نفسه، ويقبل بالإحسان إلى والديه بعد أن فرّط وقصر.. ففى قوله تعالى: «حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ ... » فى هذا ما يشير إلى شىء من التقصير فى حق الوالدين، وإلى مطاولة الزمن وعدم المبادرة بالإحسان إليهما منذ مطلع الصبا والشباب، حتى امتدّ هذا التفريط والتقصير إلى أن بلغ هذا الإنسان أشده، وبلغ أربعين سنة، حيث استوفى غاية ما يمكن أن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 275 يبلغه من سلامة إدراك، وحسن تقدير.. وعندها ثاب إلى رشده، وأقبل على والديه، يصلح من أمره معهما ما أفسده بتقصيره وتفريطه.. ثم هو فى هذا الموقف، وقد بلغ من العمر أربعين سنة، ينظر إلى ذريته نظرة أبويه إليه، فيذكر فضلهما عليه، وإحسانهما إليه، وما يؤثرانه به من خير وبرّ، كما يؤثر هو ذريته من خيره وبره.. وهذا من شأنه أن يحرك عاطفته الجامدة نحو أبويه، ويؤدى ما قصر فيه من حقهما، كما يود أن يؤدى له أبناؤه ما يجب عليهما له من طاعة وولاء.. فالإنسان هنا، هو الإنسان الذي قصر فى حق والديه، ثم عاد فأحسن صحبتهما، وأدى ما يجب عليه نحوهما.. وبهذا تقبل الله عنه أحسن ما عمل، وتجاوز عما كان منه من تقصير.. «أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ» .. ثالثا: فى قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا.. الآية» ما يدل على أن الآية السابقة ليست خيرا عن إنسان واحد بعينه، وإنما هى خبر عن كل إنسان كان على هذا الوصف من أبويه.. فرّط فى حقهما، وقصر فى الإحسان إليهما، ثم كانت منه توبة إلى الله، وإحسان إليهما.. وهذا مثل قوله تعالى: «إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» (70: الفرقان) . رابعا: من العبارات التي تحتاج إلى شرح: قوله تعالى: «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً» أي حملته واجدة ما تكره من آلام الحمل والولادة، لا ما تكره من الحمل نفسه، فهى- مع هذه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 276 الآلام التي تجدها- حريصة على أن تحمل جنينها، وأن تتحمل هذه المكاره فى سبيله.. فهى بهذا إنما ترضى طبيعة الأنثى فيها، وإن كانت تقاسى ما تقاسى من آلام فى الحمل، وفى الوضع.. وقوله تعالى: «وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً» أي مدة حمله وفطامه ثلاثون شهرا.. وقد جمع بين مدة الحمل ومدة الفطام معا، للإشارة إلى أن الأمّ تعالى من المشقات وتتحمل من الآلام فى مدة الرضاع والقيام على شئون وليدها، نفس المشقات والآلام التي كانت تعانيها وتحتملها أثناء الحمل والولادة، وإن اختلفت طعومها وألوانها.. قوله تعالى: «وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» .. فى هذه الآية بيان للصنف الثاني من الأبناء، وهم الذين مضوا فى عقوقهم لأبويهم إلى آخر أيام حياتهم، فلم يكن لهم عند بلوغهم غاية ما يبلغه الإنسان من كمال عقلى، وتوازن شعورى، بعد أن يبلغ أشده، وتذهب فورة الشباب، ويسكن جنون الصبا- لم يكن لهم عند هذا واعظ من أنفسهم، يعظهم، ويقيم وجوههم على الطريق القويم.. ثم إنه ليس الذي كان من عقوق هنا هو مجرّد التقصير فى حق الأبوين، بل تجاوز هذا إلى العدوان عليهما، إذ يدعوانه إلى الخير، ويمدان إليه أيديهما بالإحسان، حين يطلبان إليه أن يؤمن بالله، وأن يخرج من هذا الضلال الذي اشتمل عليه، وقاده إلى عذاب جهنم، فيلقاهما بهذا الردع الجزء: 13 ¦ الصفحة: 277 والزجر، ويرمى فى وجهيهما بهذه القولة الآثمة: «أُفٍّ لَكُما» !! وفى قوله تعالى: «أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي» - استفهام إنكارى، ينكر به هذا الابن الضال العاق، على والديه أن يدعواه إلى الإيمان بالله، وأن يحدثاه عن البعث والحياة بعد الموت، وأن هذا أمر لا يصدقه عقل، وقد مضت القرون، ولم يبعث الموتى من قبورهم.. فكيف يكون هناك بعث؟ ولو كان ذلك أمرا كائنا لبعث الذين ماتوا من آلاف السنين.. هذا هو منطق الضالّين الأغبياء! وقوله تعالى: «وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ.. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ» .. إشارة إلى ما فى قلب الوالدين من حرص على نجاة هذا الولد العاق، وإن رماهما بما يسوء من منكر القول.. إنه يقول لهما: «أُفٍّ لَكُما» وهما يستغيثان الله من أجله، ويطلبان من الله أن يهديه ويصلح أمره!. قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ» .. أي أن هذا الصف من الذين عقّوا آباءهم، وخرجوا عن طاعتهم، كما أنهم حادّوا الله، وحادوا عن طريق الهدى- هؤلاء قد حق عليهم القول، ووقعوا تحت حكم الله على أهل الضلال والكفر فى الأمم السابقة من الجن والإنس.. وأولئك هم الخاسرون، الذين خسروا أنفسهم، فكانوا من أصحاب الجحيم.. هذا، ويقال إن هاتين الآيتين، نزلتا فى عبد الرحمن بن أبى بكر، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 278 كما نزلت الآيتان السابقتان عليهما، فى أبى بكر رضى الله عنه.. وهذا مردود لما يأنى: أولا: لأن عبد الرحمن بن أبى بكر قد أسلم، وأنه لو صحّ منه هذا الموقف قبل إسلامه، لكان إسلامه دافعا عنه هذا الحكم الذي تضمنته الآية، والذي سلك أهله فى سلك الفاسقين الذين حق عليهم القول، ولكان ثوب الإسلام الذي لبسه، ساترا له، إلى أن يلقى ربه بما هو عليه من عمل.. وثانيا: لأن أبا بكر- الذي قيل إن الآيتين السابقتين نزلتا فيه- قد كان من دعائه قوله: «وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي» .. فكيف يكون من أبى بكر هذا الدعاء، ثم يكون من ذريته من يفضحه الله بهذا الخزي على الملأ، ويلبسه ثوب جهنم فى الدنيا؟ أيتفق هذا وما لأبى بكر عند الله من هذا المقام الكريم الذي سجله القرآن فى أكثر من موضع؟ قوله تعالى: «وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» . أي ولكل من هذين الصنفين من الأبناء، درجاتهم ومنازلهم عند الله، بحسب أعمالهم، التي يوفون جزاءها بالحق، فيجزى أهل الإحسان بالإحسان، وأهل الإساءة بالإساءة،.. ولا يظلم ربك أحدا.. قوله تعالى: «وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ» .. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 279 هو عرض لمشهد من مشاهد القيامة، يرى فيه الكافرون وقد وقفوا موقف الحساب، والمساءلة، على ما كان منهم فى حياتهم الدنيا، من بغى، واستكبار فى الأرض بغير الحق. إن الكافرين والضالين، إذ يعرضون على النار فى هذا اليوم، ويساقون إلى العذاب الأليم فيها، يقال لهم وهم على شفيرها: هذا جزاؤكم، فلقد أذهبتم طيباتكم فى حياتكم الدنيا، واستمتعتم بها، ولم تدخروا منها شيئا لهذا اليوم.. لقد كانت معكم عقول تعقلون بها، وآذان تسمعون بها، وأعين تبصرون بها، فما استعملتم شيئا من هذا فى سبيل التعرف على الله، والاهتداء إليه، بل صرفتم هذا كله إلى مواقع الكفر والضلال: «فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ» الذي تهدر فيه آدميتكم، وتذهب كرامتكم، فلا يكون لكم إلا الهوان والإذلال، إذ كنتم ولا عقل معكم، ولا سمع، ولا بصر! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى هذه السورة: «وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً، فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» (الآية: 26) . فالطيبات التي أذهبها الكافرون فى حياتهم الدنيا، هى تلك القوى التي أودعها الله سبحانه وتعالى فيهم، من عقل، وسمع، وبصر، ونحوها مما يكون به الإنسان إنسانا، والتي يكشف بها مواقع الهدى والخير.. وقد عطل الكافرون هذه القوى، وأفسدوها حين صرفوها فى وجوه الفساد، وفى اصطياد اللذات وجلب الشهوات.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 280 الآيات: (21- 28) [سورة الأحقاف (46) : الآيات 21 الى 28] وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28) التفسير: قوله تعالى: «وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 281 يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» .. كانت الآية السابقة مواجهة للمشركين، بما يلقى الكافرون من عذاب وبلاء فى الآخرة.. وهنا فى هذه القصة مواجهة لهم بما لقى الكافرون المكذبون بآيات الله ورسله من بلاء ونكال فى الدنيا.. فإذا لم يصدّق المشركون بالآخرة وبما ينتظرهم عندها من عذاب جهنّم، فإنه لا مفر لهم من أن يصدقوا بهذا الواقع الذي يرونه بين أيديهم من مصارع الضالين، وما رماهم الله سبحانه وتعالى به من مهلكات فى هذه الدنيا. وأخو عاد، هو «هود» عليه السلام، وعاد هم قومه، وسمّى أخاهم، لأنه منهم، وليس غريبا عنهم.. والأحقاف، جمع حقف، وهو الكثيب من الرمل، يستطيل، ويمتد فى غير استقامة.. وقد كانت منازل عاد على مثل هذه الأماكن، وهى فى جنوب اليمن، وفيها إرم، ذات العماد.. وقوله تعالى: «وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ» أي مضت النذر التي رآها القوم، أو سمعوا أخبارها من آبائهم.. فالنذر التي بين يديه هى الأحداث القريبة، والتي من خلفه، هى الأحداث البعيدة.. كما يقول الله سبحانه على لسان هود مذكرا قومه بما حدث لقوم نوح: «وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً» (69: الأعراف) . وقوله تعالى: «أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ» هو النذير الذي أنذر به هود قومه، وهو تحذيرهم من أن يعبدوا غير الله.. فإنهم لو عبدوا غير الله لساءت عاقبتهم، ولحل بهم العذاب الأليم فى الدنيا والآخرة جميعا.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 282 قوله تعالى: «قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» .. هذا هو رد القوم على دعوة رسولهم لهم، وتحذيرهم من الخطر الداهم الذي سيقع بهم، إذا هم أمسكوا بكفرهم وضلالهم، ولم يخلصوا دينهم لربهم.. «قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا» .. والاستفهام إنكارى، إذ ينكرون على هود هذه الدعوة التي يدعوهم إليها، ويتهمونه بأنه إنما جاء ليضلهم عن آلهتهم، ويصرفهم عنها، ويفسد ما بينهم وبينها.. وقوله تعالى: «فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» هو تحدّ لرسولهم، مع تكذيبهم له، واتهامهم إياه، وبأنه إنما جاء ليفسد عليهم دينهم الذي ارتضوه.. وأنه إذا كان صادقا فيما يهددهم به من عذاب الله، فليأت به! قوله تعالى: «قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ» .. هو ردّ «هود» على هذا التحذير.. إنه لا يعلم ما سيطلع عليهم فى غدهم من خير وشر، فذلك علمه عند الله، وإنما هو رسول يبلغ رسالة ربه إليهم.. وإن كان الذي يتوقعه فيهم، هو أن يحل بهم العذاب، لأنهم فى جهل مطبق، لا يرون معه طريق الحق أبدا.. ومن كان هذا شأنه، فهو فى معرض البلاء والنقمة من الله سبحانه.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 283 قوله تعالى: «فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا.. بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ» .. العارض: السحاب الذي اعترض فى الأفق فسدّه. والضمير فى قوله تعالى: «رَأَوْهُ» يعود إلى العذاب الذي أنذروا به، وقد جاءهم فى صورة رحمة، وهو السحاب المطر، وذلك ليكون العذاب أشد وقعا حيث يجيئهم على حال كانوا يتوقعون فيها الخير والعافية من جهته.. «فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ» أي فلما رأوا السحاب مقبلا نحو أوديتهم فرحوا واستبشروا، وقالوا هذا عارض ممطرنا..!! وقوله تعالى: «بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ» هو رد على قولهم هذا عارض ممطرنا، وهو بلسان الحال والواقع.. إنه ليس سحابا ممطرا بل إن الذي ترونه هو ريح عاصفة، محملة بالأتربة والرمال، حتى ليخيّل إليكم منها أنها سحاب مقبل بالغيث، وهى فى الحقيقة مرسلة إليكم بالعذاب الأليم.. وقوله تعالى: «تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ» .. أي أن هذه الريح لا تمر على شىء إلا دمرته، وذهبت بمعالم الحياة والخير فيه.. إنها آية من عند الله، مسلطة على أعداء الله، ترميهم بالهلاك والدمار.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 284 كما يقول الله سبحانه وتعالى فى وصف هذه الريح فى آية أخرى: «ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ» (42: الذاريات) وفيها يقول سبحانه أيضا: «وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ» (6- 8: الحاقة) .. وفى قوله تعالى: «كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ» وعيد وتهديد للمشركين، الذين يأخذون موقف قوم عاد، من التكذيب للرسول، والتحدي له.. وقد عرفوا ورأوا بأعينهم مساكن قوم عاد، وقد أصبحت معلما من معالم الخراب، وإن الذي حلّ بقوم عاد لموشك أن يحل بهم، إن لم يتحولوا عن موقفهم هذا الذي هم فيه.. قوله تعالى: «وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» .. الضمير فى «مَكَّنَّاهُمْ» يراد به قوم هود، وأما ضمير المخاطب فى «مَكَّنَّاكُمْ» فيراد به المشركون من قريش.. «وإن» هنا للنفى بمعنى «ما» أي ما مكناكم فيه.. والمعنى أن الله سبحانه وتعالى قد مكن لقوم عاد فى الأرض، وأمدهم بأنعام وبنين، وكانوا على حال من الأمن والكفاية أكثر مما عليه هؤلاء المشركون.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى موضع آخر: «مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 285 نُمَكِّنْ لَكُمْ» (6: الأنعام» ومع هذا فلم يغن عنهم ذلك شيئا، ولم يردّ عنهم بأس الله إذ جاءهم.. فهل يغنى ما مع المشركين- وهو قليل إلى جانب ما كان بين يدى قوم عاد- هل يغنى عنهم ما معهم شيئا من عذاب الله؟ .. ثم إن الله سبحانه وتعالى قد جعل لقوم عاد، سمعا، وأبصارا، وأفئدة، وهى نعم من نعم الله، كان من الخير لهم أن يفيدوا منها، وأن يرسلوها فى آفاق الوجود، فتجىء إليهم بالهدى يكشف لهم معالم الطريق إلى كل خير.. ولكنهم عطلوا حواسهم تلك، أو وجهوها إلى وجوه الشر والفساد، فلم يجئهم منها إلا ما هو شر وفساد.. وقوله تعالى: «إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ» - بيان العلة التي كان بسببها تعطيل هذه الحواس، وتلك المدركات، فلم تغن عن أصحابها شيئا، ولم تجلب لهم أي نفع، وهذه العلة هى ما كان فى كيان القوم من فساد، بحيث أفسد كل شىء كانوا يستقبلونه من حواسهم ومدركاتهم.. إنهم كانوا على إصرار لما حملوا من كفر وضلال.. ولهذا كانوا كلما تأتيهم آية من آيات الله، عن طريق سمعهم أو أبصارهم أو أفئدتهم- تغيرت معالمها، وانقلبت حقيقتها فى كيانهم، فرأوا النور ظلاما، والهدى ضلالا، والخير شرّا.. وهكذا النفوس الخبيثة، يخبث فيها كل طيب، ويعوّج على صفحتها كل مستقيم.. شأن المرايا المحدّبة، أو المقعرة، تتغير على صفحتها الصور الواقعة عليها، وتتبدل حقائقها.. وقوله تعالى: «وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» أي وأحاط بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به، ويستعجلون وقوعه، ويقولون لرسولهم فى استهزاء واستخفاف، وتحدّ: «فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 286 قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» الخطاب للمشركين، وهو تهديد ووعيد لهم بأن يصيروا إلى هذا المصير الذي حلّ بالقرى التي حولهم، كفرى عاد، وثمود، وقوم لوط.. وقوله تعالى: «وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» .. هو حديث عن أهل هذه القرى التي أهلكها الله.. فما أهلك الله سبحانه أهل هذه القرى حتى بعث إليها رسلا منهم، يبلغونهم رسالة ربهم، وينذرونهم بأسه وعذابه، إن لم يؤمنوا بربهم، ويستقيموا على طريقه المستقيم.. وتصريف الآيات، تنويعها، واختلاف وجوهها، وتباين معارضها، حتى تتوارد أنظارهم على هذه الآيات، فيكون لهم مع كل آية نظر، ويكون لهم من كل نظر عبرة ومزدجر.. وفى قوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» - إشارة إلى أن تصريف هذه الآيات وتنويعها، إنما كانت غايته أن تتيح للقوم أكثر من فرصة للتأمل والنظر، لعلهم ينتفعون بهذا، ويرجعون عما هم فيه من كفر وضلال.. ولكنهم لم ينتفعوا، ولم يرجعوا، فحق عليهم القول بما ظلموا، وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون.. والترجّى- كما أشرنا فى أكثر من موضع- إنما هو منظور فيه إلى الناس، وإلى أن هذا الذي يساق إليهم من آيات مختلفة الأشكال والألوان، كان يمكن أن يناط به الرجاء، وتتعلق به الآمال فى إصلاح القوم، ولكنهم قطعوا بأيديهم حبل الرجاء الممتد إليهم من تلك الآيات! .. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 287 قوله تعالى: «فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ» .. لولا، حرف تحضيض، بمعنى هلّا، وفى هذا استدعاء لآلهتهم التي عبدوها من دون الله، وحثّ لها على أن تخفّ لنجدتهم، واستنقاذهم مما رماهم الله به من عذاب، وما صب عليهم من بلاء!. فأين آلهتكم تلك؟ وهل هناك حال أدعى من هذه الحال لمدّ يد العون إليهم، وانتشالهم من بين هذه الأمواج المطبقة عليهم؟. وقوله تعالى: «قُرْباناً آلِهَةً» أي اتخذوها آلهة يتقربون بها إلى الله، كما يقول الله تعالى عن المشركين: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» (3: الزمر) .. وفى تقديم القربان على الآلهة، إشارة إلى أنهم لم يكونوا ينظرون إلى هذه المعبودات أول الأمر على أنها آلهة، وإنما كان نظرهم إليها على أنها وسائل يتوسلون بها إلى الله، ويتقربون بها إليه، ويقولون فيما يقولون: «هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» (18: يونس) .. ولكن ما إن يمضى الزمن بهم حتى تتحول هذه الوسائل إلى آلهة تعبد من دون الله، وتصبح مستأثرة بمشاعرهم، مستولية على عقولهم.. وليس لله سبحانه مكان فى شعورهم، أو موضع فى قلوبهم.. قوله تعالى: «بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ» - هو إضراب عن دعوة هذه المعبودات إلى نصرة عابديها.. إنهم لن ينصروهم، ولن يجدوا لهم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 288 ظلّا فى هذا الموقف.. فقد ضلوا عنهم، وتاهوا فى زحمة هذا الكرب العظيم.. وقوله تعالى: «وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ» - الإشارة إلى تلك الحال التي عليها هؤلاء الكافرون، وما أحاط بهم من بلاء لا يجدون له دفعا.. فهذا هو عاقبة كذبهم، وافترائهم على الله.. الآيات: (29- 35) [سورة الأحقاف (46) : الآيات 29 الى 35] وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 289 التفسير: [بيعة العقبة.. وليلة الجن] قوله تعالى: «وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ» .. مناسبة هذه الآية وما بعدها للآيات التي سبقتها، هى أن الآيات السابقة كانت تذكيرا بدعوة نبىّ من أنبياء الله هو هود عليه السلام، وموقف قومه من هذه الدعوة، وتكذيبهم له وتحدّيهم لما ينذرهم به.. ثم كان من هذا، البلاء الذي أحاط بهم، وأتى على كل عامر فيهم- فناسب أن يذكر فى هذا المقام موقف المشركين من دعوة النبي- صلوات الله وسلامه عليه- وتكذيبهم له، واستهزاؤهم به، وأخذه وأصحابه بكل ما استطاعوا من كيد وضر، حتى لقد هاجر كثير من المسلمين فرارا بدينهم، وحتى لقد ضاق صدر النبي، وغامت نفسه فى مكة، ولم يعد يحتمل لقاء المشركين، والنظر فى وجوههم المنكرة، فخرج إلى الطائف، يلتمس عند أهلها «ثقيف» شيئا من العزاء والرجاء فى تصديقه والاستجابة له.. وفى الطائف وجد النبي- صلوات الله وسلامه عليه- وحوها أشدّ ضلالا ونكرا من وجوه قريش، إذ رده القوم ردّا سفيها، ولم يكتفوا بهذا بل أغروا به صبيانهم وإماءهم وعبيدهم يرجمونه بأفواههم وبأيديهم.. وبين الطائف ومكة نزل الرسول الكريم منزلا يبيت فيه، عند موضع يقال له «نخلة» وكان معه غلامه زيد بن حارثة الذي صحبه فى رحلته إلى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 290 الطائف.. وفى هذا المنزل بات النبي- صلوات الله وسلامه عليه- مع آيات ربه، يرتّلها، ويتلقى منها أمداد الصبر، والعزم، بما يتلو من قصص الأنبياء السابقين، وما احتملوا فى سبيل الدعوة إلى الله من سفهاء قومهم وشياطينهم.. وما يكاد النبىّ تختم تلاوته، ويفرغ من صلاة الصبح، حتى يستقبل مع أضواء الفجر، سفير السماء إليه من ربه، يحمل إليه قرآنا ينبئه بما كان فى ليلته تلك، وأنه لم يكن وحده فى هذا المنقطع من الأرض، وأنه إذا كان قد وجد من الناس إعراضا عنه، وزهدا فيما بين يديه وعلى فمه من آيات الله- فإن لله سبحانه جنودا غير الناس، يعمر بها كل قفر.. فهاهم أولاء جند من جنود الله، قد جاءوا إليه يستمعون القرآن، ويحسنون الاستماع إليه، وينتفعون بما استمعوا منه، فيؤمنون برسول الله، ويصدقونه، ثم لا يقفون عند هذا، بل يصبحون دعاة يدعون بدعوته، ويبلغون رسالته إلى من لم تبلغه من قومهم.. «وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ» . وإذن، فالنبى- صلوات الله وسلامه عليه- لم يكن وهو فى هذا المكان المنعزل، بعيدا عن موقع الدعوة، بل إنه قائم عليها، حيث تجد آذانا تسمع، وعقولا تعقل، وقلوبا تؤمن.. وأنه إذا لم يكن الرسول هو الذي يسعى إلى من يدعوهم إلى رسالته، فإن طالبى الهدى قد سمعوا هم إليه، حين آنسوا بشائر النور، واستشعروا ريح الخير.. وهكذا شأن أهل الخير، وطلاب الكمال الإنسانى، ينشدون الهدى، ويرتادون مواقعه، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 291 ويستنبئون أنباءه، حتى إذا لا حت لهم بشائره، ولمعت بروق غيوته- أقبلوا عليه مسرعين، فى لهفة وشوق، لا يثيهم عن وجهتهم إليه بعد الشقة، ولا قلة الزاد، ولا تربص الأعداء.. وكما يسعى الكائن الحي إلى رزقه، ويطرق من أجله كل باب يخيل إليه أن وراءه شيئا يشبع جوعه، أو يطفىء ظمأه- كذلك يفعل الراشدون والعقلاء من الناس، حيث يسعون فى طلب غذائهم الروحي، والعقلي، كما يسعون فى طلب حاجة الجسد، وما يكفل له الحياة الهنيئة الطيبة.. وإذا كان النبي- صلوات الله وسلامه عليه- قد وجد فى هذا الخبر السماوي الذي يحمل له أنباء هذا الوفد الكريم، الذي بات فى ضيافته، يتلقى أكرم وأطيب ما يتلقاه ضيف من مضيفه، من بر وإحسان.. حيث قضى هذا الضيف ليلة مباركة يستمع فيها إلى ما يتلو الرسول من آيات الله، ويتلقى من أنوار هذه الآيات ونفحاتها حياة مجددة للأرواح، مطهرة للقلوب، مزكية للنفوس- وإذا كان النبي الكريم، قد وجد فى هذا الخبر السماوي ما آنس وحشته، وثبت فؤاده، وآسى جراح نفسه مما أصابه من يد السفهاء وأفواههم من رميات عمياء حمقاء- فإنه- صلوات الله وسلامه عليه- رأى فى نور هذه الآيات، ومضات مشرقة واضحة على طريق دعوته.. أن هذه الدعوة ستأخذ لها مطلعا جديدا تطلع منه، وأنها ستلتقى بوجوه أخرى لم يكن فى حساب الدعوة أن تلتقى بها فى هذه المرحلة من مسيرتها.. وأنه كما صرف الله إلى النبىّ نفرا من الجن يستمعون القرآن، ويؤمنون به، ويحملون دعوته إلى قومهم، كذلك سيصرف إليه نفرا من الناس، يجلسون إليه، ويستمعون إلى ما يكون من آيات الله، ويؤمنون بما يتلى عليهم، ثم ينقلبون الجزء: 13 ¦ الصفحة: 292 إلى قومهم منذرين، داعين إلى الله، فاتحين الطريق إلى تلك الدعوة لتأخذ مكانها بين من يؤمنون بها، ويدافعون عنها.. وفى بيعة العقبة الأولى، نرى هذا النفر الكريم من الأنصار، وقد انفرد برسول الله صلى الله عليه وسلم فى مكان منعزل خارج مكة، بعيد عن أهل الموسم الذين امتلأت بهم شعاب مكة وساحاتها، وعلى خوف من قريش، وعيونها الراصدة لحركات النبي، ولكل من يطلب لقاءه، أو ينشد أخباره من أهل الموسم.. ثم جلسوا بين يديه يستمعون فى رهبة وخشوع إلى آيات الله، التي كان قد وقع فى آذانهم بشىء منها، فيما كانت تتناقله الركبان، وتردده الألسنة.. ثم ما أن انتهى النبىّ من تلاوة ما تيسر من آيات الله، حتى وجدت الجماعة نور الإيمان يملأ قلبها، وبرد اليقين يثلج صدرها.. فمدوا أيديهم إلى الرسول الكريم، يبايعونه على الإيمان بالله، والدعوة إلى الله، والنصرة لدين الله.. ويحدث التاريخ أن رجال العقبة الأولى كانوا اثنى عشر رجلا، يذكرون بأسمائهم.. وأنهم كتموا أمرهم عمن شهدوا الموسم من قومهم، فلما انتهى موسم الحج، ورجعوا إلى المدينة، ذاع أمرهم، وكثر أعداد الداخلين فى الإسلام من أهل المدينة، من الأوس والخزرج.. ثم إنه لما كان الموسم التالي، جاء كثير من المسلمين إلى مكة ولم يكن همهم أن يشهدوا الموسم بقدر ما كان من همهم أن يلتقوا برسول الله، وأن يبايعوه، ويتلقوا هدى السماء منه.. وفى ليلة من ليالى الموسم كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه على موعد للقاء القوم عند العقبة، على نحو ما كان من لقائه إخوانهم فى الموسم السابق.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 293 وهناك فى أخريات الليل، توافد القوم أفرادا على هذا المكان، حتى إذا اكتمل جمعهم، وكانوا ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتين- كما يقول ابن إسحاق- تحدث إليهم الرسول الكريم، وتلا عليهم ما تيسر من آيات الله، ثم أقبلوا يبايعون رسول الله، على الإيمان بالله، والسمع والطاعة فى المكره والمنشط، والجهاد فى سبيل الله، وأن يمنعوا رسول الله يمنعون منه أنفسهم وأهليهم.. وهكذا تلتقى بيعة العقبة الأولى بليلة الجن فى «نخلة» ويستقبل النبىّ الكريم فى ليلة العقبة نفرا من الإنس، وقد صرفهم الله سبحانه وتعالى إليه ليستمعوا القرآن، فلما حضروه واستمعوا إليه، آمنوا به، ثم ولّوا إلى قومهم منذرين.. وكما أن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- لم ير الجن. ولم يعرف وجوههم، فإنه صلوات الله وسلامه عليه، لم يكد يرى شخوص هؤلاء النفر من الإنس، أو يعرف وجوههم، إذ جاءوا إليه فى ستر من الليل وفى تهامس وتخافت، أشبه بالحجاب المضروب بينهم.. ومن جهة أخرى، فإن فى قوله تعالى على لسان الجن: «يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ» - فى هذا إشارة أخرى إلى بيعة العقبة، وإلى تلك الدعوة التي حملها أهل البيعة إلى قومهم بالمدينة، حيث مجتمع اليهود، وحيث كان كتاب موسى «التوراة» هو الكتاب السماوي الذي يعرف أهل المدينة شيئا عنه، مما كان يحدث به اليهود عن كتابهم، وعن نبيهم موسى عليه السلام.. ولا شك أن حديث أصحاب البيعة إلى قومهم إنما كان يحمل إليهم مع أنباء النبي الجديد الذي ظهر فى العرب، ومعه كتاب منزل من ربه، يتلوه على الناس- كان يحمل إليهم مع هذا حديثا مقارنا لهذا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 294 الكتاب والكتاب الذي بين يدى اليهود، وهو التوراة.. ولعلّ هذا هو السرّ، فى اختصاص كتاب موسى بالذكر، دون الإنجيل، وهو أقرب عهدا بالقرآن..!! ومن عجب أننا لا نجد أحدا من المفسرين فيما بلغ علمنا- قد التفت إلى ما وراء ليلة الجن هذه، وما تومىء إليه من اتجاه مسيرة الدعوة الإسلامية، بعد تلك الليلة، وما بينها وبين بيعة العقبة من مشابه، وخاصة بعد أن أصبحت بيعة العقبة أمرا واقعا، يأخذ مكانه البارز فى حياة الدعوة الإسلامية.. من عجب ألا يلفت أحد من المفسرين إلى شىء من هذا، على حين اتسع لهم مجال القول، وانفسحت أمامهم آفاق الخيال.. فتحدثوا أحاديث عجبا عن هذا النفر من الجنّ الذين استمعوا إلى الرسول، فذكروا عددهم، وأسماءهم واحدا واحدا، والقبيلة التي ينتسبون إليها من قبائل الجنّ، والوطن الذي يعيشون فيه، وهو «نصيبين» من أرض الشام.. إلى غير ذلك من الأخبار التي تنطق الآيات القرآنية بكذبها.. فالقرآن يحدّث بأن النبي صلى الله عليه وسلم، لم ير لهؤلاء الجن وجها، ولم يحس لهم ركزا، حتى جاءه خبر السماء بقوله تعالى: «وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ..» فهذا إخبار للنبى بأمر لم يقع منه موقع الحس والمشاهدة.. وأكثر من هذا ما نجده فى قوله تعالى: «قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً» .. فهذا خبر صريح بأن النبي لم يكن يعلم من أمر هذا النفر من الجن شيئا، وأن الله سبحانه قد أوحى إليه بأن الجن قد استمعوا إليه» .. فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً» .. فعلم النبي عن هؤلاء الجن إنما كان بما أوحى إليه الله سبحانه وتعالى من خبرهم، وما أعلمه من أمرهم.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 295 فكيف يقال- مع هذا- إن عددهم كان كذا، وأن أسماءهم هى كيت وكيت، وأن موطنهم هو كذا، وأن قبيلتهم هى كيت؟. كيف يقال هذا، والنبي- صلوات الله وسلامه عليه- لم يحدّث بشىء منه قطعا، لأنه لا يحدث إلا بما يعلم، وهو لم يعلم من أمر هؤلاء الجنّ شيئا، حتى أعلمه الله سبحانه، أن جماعة من الجن قد استمعوا إليه، دون أن يراهم، أو يشعر بهم!. ونعود إلى شرح ما فى الآيات من مفردات، وعبارات.. قوله تعالى: «وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ» - صرف الشيء حوله من حال إلى حال، ومن موقف إلى موقف، وصرف الشيء إلى الشيء توجيهه إليه.. ومنه تصريف الرياح، أي إطلاقها من مهابتها التي تهبّ منها إلى الجهات الموجهة إليها.. وهذا يعنى أن الله سبحانه وتعالى، قد وجّه هؤلاء النفر من الجنّ، إلى حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم، يتلو القرآن.. النفر: الجماعة التي تصلح للنفير من ثلاثة إلى عشرة. قوله تعالى: «فَلَمَّا حَضَرُوهُ» أي كانوا بمحضر منه، بكيانهم كلّه، حسّا ومعنى، فالحضور هنا حضور تجتمع له ملكات الحاضر كلها.. ولهذا كان من الجن هذا الإدراك السّريع، والفهم الفاقة لما استمعوا إليه من آيات الله، وإنه ما إن وقع لآذانهم شىء من القرآن، حتى خشعوا بين يديه، وقالوا بلسان واحد: «أَنْصِتُوا» .. وهذا الإنصات الخاشع اليقظ، هو الذي يفتح المدركات إلى آيات الله، ويجعل للبصائر بصرا هاديا إلى مواقع العبرة والعظة منها، ولهذا جاء قوله تعالى: «وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 296 تُرْحَمُونَ» (204: الأعراف) .. فالرحمة إنما ترجى لمن يمتلىء قلبه بإيمان الله وخشيته، ولن يقع الإيمان والخشية إلا لمن يتلقاها من آيات الله وكلماته.. ولا يتلقى من آيات الله وكلماته شيئا إلّا من أنصت خاشعا، ونظر مفكرا، واستمع متدبّرا.. قوله تعالى: «فَلَمَّا قُضِيَ» أي فرغ من تلاوة ما كان يتلى من القرآن.. وفى التعبير، بالفعل «قُضِيَ» بدلا من فرغ، أو انتهى، ونحوهما مما يدلّ على بلوغ الغاية- إشارة إلى أن حقّا يقضى، ومطلوبا يطلب.. فالنبى صلى الله عليه وسلم كان يقصد بتلاوة القرآن فى ليلته تلك ذكر ربه، وإرواء قلبه، بكلمات الله ويأته.. والجنّ الذين استمعوا. قد كان مجلسهم للاستماع، إنما هو لا لنماس خير، وطلب هدى.. وقد قضى النبي الكريم مأربه، بتلاوة ما تيسر له من القرآن، كما قضى الجنّ طلبتهم فيما جاءوا له، من التماس الخير والهدى.. قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» . عاد القرآن الكريم إلى مواجهة المشركين، بعد أن ساق إليهم هذا الخبر العجيب الذي يحدّث عن استماع الجن لهذا القرآن، الذي، كذبوا به، وسخروا من الرسول الذي يتلوه عليهم، مع أن الكتاب كتابهم، واللسان الذي ينطق به لسانهم، والرسول الذي يتلوه عليهم بشر مثلهم، وواحد من قومهم! فهل بعد هذا الضلال ضلال؟ وهل بعد هذا الخسران خسران؟ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 297 ففى مواجهة القرآن للمشركين بعد هذا، وفى لقائهم بما شبّه عليهم من أمر البعث، الذي كان السبب الأول فى تكذيبهم للرسول، وإنكارهم لكل ما جاءهم به- فى هذا ما يجعل هؤلاء المشركين يلقون قضية البعث لقاء مجدّدا، قد يفتح لكثير منهم الطريق إلى الحق والهدى.. فقد رأوا ما بين يدى الله من قدرة قادرة، ملك بها هذا الوجود زمانا ومكانا وخلقا وتصريفا، وأنه سبحانه الذي خلق السموات والأرض، وما عليهما، وما فيهما، وما بينهما.. فكيف ينكر عاقل على الله- وتلك بعض مظاهر قدرته- أن يحيى الموتى، ويبعثهم من قبورهم؟ «أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً؟» فهؤلاء الموتى لم يكونوا شيئا، فإعادتهم إلى الحياة بعد الموت، أيسر، وأقرب- فى حدود النظرة الإنسانية- من خلقهم الأول، ولم يكونوا شيئا!! وقوله تعالى: «بَلى» أداة يجاب بها فى الإثبات للمستفهم عنه، الواقع فى حين استفهام منفىّ.. أي بلى، قادر على أن يحيى الموتى.. وهذا الجواب، هو الجواب الحق، الذي ينطق به الوجود كلّه، وهو حجة ملزمة للمشركين، سواء أنطقوا به أو لم ينطقوا.. وقوله تعالى: «إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» تقرير للجواب، وتأكيد له.. قوله تعالى: «وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» : الجزء: 13 ¦ الصفحة: 298 ومن هذه المواجهة للمشركين بأمر البعث، وتقريره على تلك الصورة القاطعة الملزمة- ينتقل المشركون المكذبون بالبعث فى سرعة خاطفة- لا إلى البعث، بل إلى ماوراء البعث، من حساب وجزاء، وإذا هم بين يدى جهنم التي كانوا يكذبون بها، ويكفرون بيومها-: «هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ» .. وقوله تعالى: «أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ» .. هو سؤال تأنيب، وتقريع، وإيلام للمشركين المكذبين بيوم الدين، وبما أنذروا به من عذاب الله فى هذا اليوم.. والمشار إليه هنا، هو العذاب.. أي أليس هذا العذاب بالحق؟ إنكم لم تظلموا شيئا، فهذا جزاء ما عملتم.. وقوله تعالى: «قالُوا بَلى!» هو إقرار منهم، يدينون به أنفسهم، وبأن هذا العذاب الواقع بهم هو من صنع أنفسهم، وبما كسبت أيديهم! وقوله تعالى: «قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» هو دفع بالمشركين إلى أودية جهنم، وإطعام لهم مما فيها من ألوان العذاب والنكال.. فليذوقوه حميما وغساقا، فليس لهم اليوم هنا هنا حميم، ولا طعام إلا من غسلين.. قوله تعالى: «فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ.. بَلاغٌ.. فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ» .. وبهذه الآية الكريمة تختم السورة بهذا التوجيه الكريم من الله سبحانه لرسوله- صلوات الله وسلامه عليه- يدعوه فيه إلى أن يصبر على ما يلقى من الجزء: 13 ¦ الصفحة: 299 أذى المشركين، وعنادهم، وألا يستعجل لهم العذاب فى الدنيا، فإن العذاب الذي ينتظرهم فى الآخرة قريب، وأنه حين يقع بهم، لا يحسبون حسابا لأيام الدنيا التي عاشوها، وقطعوا فيها أعمارهم، فإنه أيّا كانت أعمارهم تلك من الطول، فسيرونها يومئذ لم تكن غير ساعة من نهار.. وأنهم ولدوا صباح يوم، ثم أخذهم عذاب الآخرة فى ضحى هذا اليوم! فهل من يرى هذا الزمن على حقيقته يستعجل العذاب لأهل العذاب؟ .. وفى قوله تعالى: «كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ» - ما يسأل عنه.. فأولا: من هم أولو العزم من الرسل؟ وهل من الرسل ما لا يتصف بهذه الصفة؟ ثم ألا يكون عدم اتصاف الرسول بتلك الصفة مما ينافى المهمة المنتدب لها من السماء؟ .. اختلف المفسرون فى تحديد أولى العزم من الرسل.. والرأى على أنهم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، صلوات الله وسلامه عليهم.. ولا شك أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه، - وهو المقصود بهذا الأمر، كان يعرف عن يقين من هم أولو العزم من الرسل.. أما غير الرسول فإنه ليس مطالبا بأن يعرف من هم أولو العزم من الرسل، إذ لم يكن لغير الرسول شىء فى هذا الأمر الموجه إليه من ربه، إذ كان امتثال هذا الأمر، والوفاء به، هو مما يطالب به النبي وحده، لما أتاه الله من فضله، من نفس عظيمة تتسع لهذا الأمر العظيم، والله سبحانه وتعالى يقول: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» (286: البقرة) .. وإن كان هذا لا يمنع من أن يكون لنا فى رسول الله أسوة، فى مقام الصبر على ما نبتلى به من شدائد. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 300 أما أن يكون هناك من الرسل من لا يتصف بهذه الصفة، فذلك ما صرح به القرآن فى قوله تعالى عن آدم عليه السلام: «وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» (115: طه) وقوله تعالى عن يونس عليه السلام: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ» (48: القلم) .. فالرسل- عليهم الصلاة والسلام- وإن كانوا أكمل الناس كمالا، وأكرمهم مقاما، هم- فى كمالهم ومقامهم الذي لا يساميه أحد من البشر- درجات، بعضها فوق بعض، كما يقول سبحانه: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ» (253: البقرة) .. وإذا كان فى الرسل- عليهم السلام- الفاضل والمفضول، فإن هذا- كما قلنا- لا ينقص من قدر المفضول، إذ كان- وهو فى مقامه هذا- على هامة الكمال المتاح للبشر، من غير رسل الله.. وثانيا: فى دعوة الرسول إلى أن يتشبه فى الصبر بمن سبقه من أولى العزم من الرسل- فى هذا ما يفهم منه أن غاية الرسول من الصبر هو أن يكون كأحد هؤلاء الرسل الكرام- والسؤال هنا: كيف يكون الرسول صلوات الله وسلامه عليه فى مقام من يطلب الأسوة للحاق بغيره من أولى العزم، وهو خاتم النبيين، وإمام المرسلين؟. والجواب على هذا من وجهين: أولا: أن الأمر بالصبر هنا يحمل تهديدا للمشركين، وأن على النبي ألا يستعجل لهم العذاب، الذي هو قريب منهم.. فالمراد بالصبر ليس صبر المعاناة والاحتمال وحسب، وإنما المراد به أوّلا، هو صبر الانتظار، والإمهال، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 301 كما يقول سبحانه: «فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17: الطارق) .. وقد كان الرسل فى هذا فريقين، فريقا استعجل العذاب لقومه، بعد أن بلغهم رسالة ربه، كما يقول الله سبحانه على لسان نوح: «وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» (26: نوح) .. وكما فعل يونس، حين زايل موقفه من قومه قبل أن يؤمنوا بالله، وتركهم لمصيرهم، الذي يصير إليه الضالون المكذبون.. وفريقا صبر وانتظر، حتى جاء أمر الله فى قومه، كما فعل إبراهيم، وموسى، وعيسى، فلم يدع أحد منهم ربّه بأن يهلكهم، على كثرة ما ساقت إليهم أقوامهم من ألوان العنت والأذى.. أما النبي صلوات الله وسلامه عليه، فإنه قد جاوز هذه الغاية إلى غاية أخرى، فكان لسانه دائما داعيا إلى الله بهداية قومه، والصفح عنهم.. حتى فى أشد أحوالهم إعناتا وأذى له.. كما كان ذلك فى موقفه- صلوات الله وسلامه عليه- يوم أحد، وقد شجه المشركون، وأسالوا دمه، وكسروا رباعيته، فما زاد أن وجّه وجهه إلى السماء، وبسط يديه إلى ربه قائلا: «اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون» . وثانيا: أن فى قوله تعالى: «وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ» - إشارة صريحة إلى إلى أن الصبر المطلوب هنا، هو صبر الإمهال والانتظار، لا صبر الاحتمال والمعاناة، - كما أشرنا إلى إلى ذلك من قبل- وهذا يعنى أن الأمر بالصبر الموجه إلى النبي من ربه سبحانه وتعالى، إنما يراد به تهديد المشركين بالعذاب الذي ينتظرهم، والذي يطلب إلى النبي ألا يستدعيه لهم، ولا يستعجل وقوعه بهم، فهم سائرون إليه، وسيلقونه عما قريب.. إنها ساعة من نهار، ثم يلقاهم العذاب الذي يستعجلونه.. وعلى هذا، فإن الصبر المطلوب من النبىّ، منظور فيه إلى قومه، وإلى أنهم لن يعذّبوا فى الدنيا، وإنما سيؤجل عذابهم إلى الآخرة، كما فعل بأقوام أولى العزم من الرسل.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 302 47- سورة محمد نزولها: مدنية بالإجماع عدد آياتها: ثمان وثلاثون آية عدد كلماتها: خمسمائة وتسع وثلاثون كلمة عدد حروفها: ألفان وثلاثمائة وتسعة وأربعون حرفا مناسبتها لما قبلها ختمت سورة الأحقاف بقوله تعالى: «فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ» .. وبدئت سورة «محمد» بعدها بقوله تعالى: «الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» .. فكان هذا البدء- كما ترى- أشبه بالوصف الكاشف عن القوم الفاسقين، فهم الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله، الذين أضل الله أعمالهم.. فالسورتان، أشبه بسورة واحدة، فى تجاوب آياتها والتحام معانيها.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 303 بسم الله الرحمن الرّحيم الآيات: (1- 9) [سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9) التفسير: قوله تعالى: «الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» .. هكذا تبدأ السورة بهذه المواجهة، التي تلقى المشركين والكافرين الجزء: 13 ¦ الصفحة: 304 بهذا الخبر المشئوم، الذي يسدّ عليهم منافذ النجاة، ويدعهم فى متاهات الضلال يتخبطون، وقد تقطعت بهم الأسباب، وأفلت من أيديهم كلّ متعلق كانوا يتعلقون به، من أوهام وظنون.. ويبدو هذا اللقاء بالكافرين وكأنه أول وجه يلقاهم على طريق ضلالهم، ثم لا يكون منه إليهم إلا أن يلقى إليهم بهذا الخبر المزعج، وأنهم فى وجه عاصفة وشيك التقاؤهم بها، وهلاكهم بين يديها.. ذلك على حين أن هؤلاء الكافرين، قد كان لهم قبل هذا أكثر من لقاء مع آيات الله، ومع رسول الله، يدعوهم إلى الله، ويكشف لهم طريق الهدى، ويحذرهم عاقبة ما هم فيه من ضلال.. ولكن هكذا يجىء اللقاء بهم هنا، وكأنه يضرب صفحا عن كل هذه المواقف التي كانت لآيات الله ولرسول الله معهم إذ لم يكن لهذا كله، أثر فيهم، ولا نفع لهم.. وإذن فليستقبلوا ما كانوا.. يستحقون أن يستقبلوا به من أول الأمر.. فهذا هو حسابهم وجزاؤهم.. أما ما قدّم إليهم من قبل من وسائل الهداية، وسبل النجاة، فهو مما يقيم الحجة عليهم، ويقطع كل عذر لهم عند أنفسهم، كما أنه مما يملأ قلوبهم حسرة وكمدا، حين ينكشف لهم الأمر، ويحلّ بهم البلاء، ويرون أن وسائل النجاة من هذا البلاء، قد كانت بين أيديهم، وتحت سمعهم وأبصارهم، فلم يلتفتوا إليها، ولم يمدّوا أيديهم لها.. وإنه ليس أشدّ إبلاما للإنسان من أن تكون السلامة فى يده، ثم يلقى بنفسه إلى التهلكة!!. ثم إنه مما يزيد فى حسرة هؤلاء الذين كفروا، أنهم لم يهلكوا أنفسهم وحسب، بل إنهم أهلكوا أهليهم وإخوانهم، إذ كانوا دعوة من دعوات الضلال لهم، وبمحادتهم لله ورسوله. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» (15: الزمر) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 305 وقوله تعالى: «أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» هو حكم على الكافرين بفساد أعمالهم كلها، وردّ الله سبحانه وتعالى لها، وعدم قبولها منهم، حتى ولو كانت مما يحسب فى الأعمال الصالحة.. فكل عمل لا يزكيه الإيمان بالله، هو عمل ضائع، ضال.. لا يعرف له طريقا إلى مواقع الرضا والقبول من الله. قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ» . هو بيان للوجه الآخر من وجوه الناس، وهم الذين آمنوا بالله، ثم أتبعوا إيمانهم بالله، الأعمال الصالحة، التي هى ثمرة الإيمان بالله، فمن آمن بالله، كان مطلوبا منه، بمقتضى هذا الإيمان، أن يستجيب لله، وأن يستقيم على طريق الحق والخير، بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.. وقوله تعالى: «وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ» هو إيمانهم بالرسالة الإسلامية التي جاء بها النبىّ، بعد الإيمان الذي تلقاه المؤمنون من الرسالات السماوية السابقة، أو دلّتهم عليه عقولهم.. فمن كان مؤمنا بالله قبل الرسالة المحمدية، كان من شأن إيمانه هذا، أن يدعوه إلى الإيمان بتلك الرسالة لأنها دعوة مجددة إلى الإيمان بالله.. والإيمان بالله، طريق واحد، يلتقى عليه المؤمنون جميعا.. وإنه ليس للمؤمنين بالله طريقان، بل هو طريق واحد.. فمن كان على غير هذا الطريق فهو ليس من المؤمنين، كما يقول الله سبحانه: «وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً» (115: النساء) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 306 وعلى هذا، فإن من بلغته الرسالة الإسلامية، من المؤمنين، من أهل الكتاب، أو الفلاسفة والحكماء، ثم لم يؤمن بهذه الرسالة، فهو ليس مؤمنا وليس على طريق المؤمنين.. وقوله تعالى: «وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» .. إشارة إلى أن المؤمنين الذين آمنوا بالله، إنما يؤمنون- إذ يؤمنون بما أنزل على محمد- بالحقّ المنزل من ربهم.. فمن أنكر هذا الحق المنزل من عند الله، فليعلم أن ما عنده من إيمان ليس من الحقّ، إذ لو كان حقا لا لتقى مع هذا الحقّ، فالحقّ، لا يصادم الحق، ولا تختلف طريقه معه.. وقوله تعالى: «كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ» .. هو خبر لقوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» أي أن الذين آمنوا هذا الإيمان، وعملوا الصالحات، كفّر الله عنهم ما كان منهم من سيئات، قبل أن يؤمنوا بالرسالة المحمدية، فهو إيمان مجدّد لإيمانهم، ومصحح له، إذ كان هو الدّين كله، وبه تمّ الدين الذي جمع كلّ ما جاء به الرسل، كما يقول الله تعالى: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» (19: آل عمران) وكما يقول الله جل شأنه: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» (13: الشورى) وكما يقول جل شأنه: «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ» (85: آل عمران) . وفى قوله تعالى: «وَأَصْلَحَ بالَهُمْ» - إشارة إلى ما يثمره الإيمان بدين الإسلام، إذ يجمع قلوب المؤمنين به، ويقيم مشاعرهم على أمر واحد، فلا يكون منهم التفات إلى هذا الدين أو ذاك، إذ أن الإيمان بالإسلام إيمان بجميع رسالات السماء، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 307 وتصديق بكل رسل الله.. سواء أكان هذا الإيمان بالإسلام من أهل الكتاب، أو ممن لا كتاب لهم.. وبهذا الإيمان يستريح بال المؤمن، ويطمئن قلبه، ولا تنزع به نازعة من عداوة أو بغضة أو مجافاة، لأى دين من الديانات السماوية، إذ كانت كلّها مجملة فى الإسلام، مطوية تحت جناحه.. ولعلّ هذا معنى من معانى كلمة «الإسلام» التي كانت عنوانا لهذا الدين، الذي يجد من يدين به، السلام بين مشاعره، كما يجد السلام مع الناس! وذلك صلاح البال على تمامه وكماله.. والبال هو الحال والشأن، الذي يكون عليه الإنسان، يقال: ما بال فلان؟ أي ما شأنه؟ وما حاله؟. قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ» .. الإشارة هنا «ذلِكَ» مشاربها إلى ما تقرر فى الآيات السابقة، من أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد، سيهديهم الله ويصلح بالهم، وأن الذين كفروا قد أضل الله سعيهم، وأفسد مشاعرهم، وأزعج خواطرهم- فهذا الذي فيه المؤمنون من هدى وإصلاح بال، وما عليه الكافرون من ضلال وسوء حال، هو بسبب أن كلّا من الفريقين قد سلك الطريق الذي يصل به إلى هذا الذي هو فيه.. فالذين كفروا اتبعوا الباطل، فكان أمرهم إلى الخذلان والبوار، والذين آمنوا اتبعوا الحق المنزل عليهم من ربهم، وهو القرآن، فكان أمرهم إلى الأمن والهدى والسلام.. وقوله تعالى: «كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ» - الضمير فى «أَمْثالَهُمْ» الجزء: 13 ¦ الصفحة: 308 يصحّ أن يكون عائدا إلى الناس، بمعنى أنه بمثل هذه الأمثال يضرب الله للناس الأمثال، التي تكشف لهم أحوالهم.. ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى الكافرين، والمؤمنين، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى يضرب للناس أمثال الكافرين والمؤمنين، ليكون لهم العبرة والعظة، فيما يرون من هؤلاء وأولئك.. قوله تعالى: «فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ» .. بعد أن بينت الآيات السابقة حال كلّ من الكافرين والمؤمنين، وأن الكافرين قد أضل الله أعمالهم، وأفسد أحوالهم، وأنه سبحانه قد هدى المؤمنين وأصلح بالهم- بعد هذا جاءت النتيجة اللازمة لهذا البيان، وهو أن الناس فريقان: كافرون ومؤمنون، وأعداء لله، وأولياء لله.. ومن ثمّ كان لا بد أن يقف المؤمنون فى وجه أعداء الله، وأن يعملوا على حماية أنفسهم من شرهم، إذ كان أهل الشر والفساد- دائما- حربا على أهل الخير والسلامة، شأن المصاب بداء خبيث، فإنه يكون خطرا على من يخالطه أو يتصل به.. وعلى هذا، فإن على المؤمنين، إذا التقوا بالكافرين فى ميدان قتال، أن يوطنوا أنفسهم على أن تكون الغلبة لهم، فإن انتصارهم انتصار للحق والخير، وهو انتصار لله، ولدين الله، وأن هزيمتهم تمكين للباطل، وتسليط للبغى والعدوان، على مواقع الخير والحق.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 309 وقوله تعالى: «فَضَرْبَ الرِّقابِ» أي فاضربوا الرقاب.. وقد أقيم مصدر الفعل مقام الفعل، للإشارة إلى أنه لا يكون للمؤمنين فى لقاء الكافرين أي فعل أو شأن، إلا الضرب، والضرب للرقاب.. والمصدر هو أصل لما يشتق منه من أفعال وصفات، وأسماء.. وهذا يعنى أنه جامع لكل معنى يشتق منه.. وهذا يعنى أن تسليط المصدر على شىء، هو قصر كل معطيات المصدر على هذا الشيء وحده، دون التفات إلى شىء غيره.. وهنا فى هذا المصدر «فَضَرْبَ الرِّقابِ» .. قد سلّط المصدر على الرقاب، فكان هذا قاضيا بألا يكون للمؤمنين شأن فى موقف القتال مع الذين كفروا- إلا الضرب، والضرب فى الرقاب، دون غيرها.. والمراد بضرب الرقاب، الضرب فى موطن القتل، لا فى موطن آخر، كالأطراف ونحوها، حيث لا يكون القتل محققا بضربها.. هذا، وليس الضرب للرقاب أمرا لازما لا بد منه، إلا إذا أمكن، وسنحت الفرصة للمؤمن من ضرب الكافر الضربة القاتلة.. أما حين لا يمكن ضرب العنق، أو الضرب فى مقتل، فليضرب حيث أمكنه الضرب، فى الأطراف أو غيرها.. أما فائدة الأمر بضرب الرقاب، فهو لعزل شعور المسلمين عن الاستبقاء على من أمكنتهم الفرصة فيهم من الكافرين، وقدروا على قتلهم، يريدون بذلك أسرهم، وجعلهم من مغانم الحرب.. وهذا من شأنه ألا يقيم نظر المسلم على الجهاد فى سبيل الله، وجعله خالصا له، إذ كان ينظر إلى ما يقع ليده من مغانم، وهذا بدوره يدعو المسلم إلى الحرص على حياته، والنجاة من القتل، حتى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 310 يأخذ حظه من تلك المغانم، وهذا من شأنه أن يضعف من بلاء المسلم فى القتال، ومن نكابته فى العدوّ.. وهذا، وهذا، وكثير غيره، مما يخفّ به ميزان المجاهد فى سبيل الله، وتذهيب به ريح المجاهدين، إذا نظر المجاهد فى ميدان القتال إلى نفسه، وطلب لها السلامة، أو الغنيمة، ولم يكن مطلبه الأول هو الانتصار على العدوّ، أو الاستشهاد فى ميدان القتال.. وقوله تعالى: «حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ» .. «حَتَّى» حرف غاية، لبيان الحدّ الذي يجب أن يقف فيه المسلم عن قتل الكافر، فى ميدان القتال، وهو أن يرى الكافر وقد أثخنته الجراح، وسقط فى ميدان المعركة..، ولم يعد قادرا على المشاركة فيها- هنا لا يجوز للمسلم أن يقتل هذا المثخن بالجراح، بل كل ما يفعله، هو أن يتحقق من أنه لن ينهض ليحارب من جديد، وذلك بأن يشد وثاقه، أو يضربه ضربة تعجزه عن القيام، ولا تقضى عليه.. فشدّ الوثاق، قد يكون على حقيقته، إن أمكن، وقد يكون بتعجيز الجريح عن أن ينهض، ويعود إلى قتال المسلمين مرة أخرى، فى هذه المعركة.. وهذا وجه من وجوه الإسلام المشرقة- وكل وجوه الإسلام وضيئة مشرقة- وما فيه من معانى الإنسانية الرفيعة السامية، التي تراود أحلام الفلاسفة والأخلاقيين، ولا يجدون لها فى عالم الواقع مكانا.. فالإسلام فى حربه للكافرين- وهم حرب على كل حق وخير- لا يريد قتلهم، ولا يشتهى إراقة دمائهم، ولو كان من همّه هذا لما ردّ سيفه عمن كانوا لساعتهم حربا على المسلمين، يقتلونهم ويسفكون دماءهم، ثم أغمدت سيوفهم، وتكسرت رماحهم، وأصبحوا فى عجز قاهر لهم أن يضربوا بسيوفهم أو يطعنوا برماحهم! .. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 311 إن غاية الإسلام من حرب أعدائه هو دفع شرّهم، ووقاية المسلمين من الخطر الذي يتهددهم من جهة عدوّهم.. فإذا لم يكن ثمة خطر، فلا حرب، ولا قتل، فإذا كان خطر، فهى الحرب، والقتال والقتل.. فإذا زال الخطر غمدت السيوف، وأطفئت نار الحرب.. هذا هو الإسلام فى حربه.. إنها الحرب لطلب السلامة والسلام، وليست حربا للبغى، والتسلط.. فأى ميزان أعدل وأقوم من هذا الميزان فيما بين الناس والناس؟ وأي أمن وأي سلام كهذا الأمن والسلام، الذي يجده المجتمع الإنسانى فى ظل مبدأ كهذا المبدأ، الذي يفرضه الإسلام على أتباعه فى وجه العداوة وفى ردّ العدوان، مما تسوقه إليهم الحياة على يد الأعداء والمعتدين؟ يقول الرسول الكريم فى شرح هذا المبدأ، وتوكيده.. «لا تقتلوا شيخا فانيا، ولا طفلا صغيرا، ولا امرأت» وكان صلوات الله وسلامه عليه، يوصى من يبعثهم للجهاد بقوله: «اخرجوا باسم الله تعالى تقاتلون فى سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع» إنها حرب الإسلام، غايتها الإصلاح، ودفع الخطر، وبتر الأعضاء الفاسدة من المجتمع الإنسانى.. ولو كان من همّ الإسلام الحرب للغلب والقهر والتسلط، لما كان معها إلا التدمير لكل شىء، والقتل لكل نفس.. وقد تلقى المسلمون من دينهم، ومن هدى نبيهم هذا الأدب الإنسانى العالي، فى حرب عدوّهم، فلم تسكرهم حميّا النصر، ولم تجر على دينهم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 312 ومروءتهم شهوة الانتقام والتشفّى.. بل كانوا على هذا الأدب الرباني فى السلم والحرب، وفى حال الهزيمة والنصر.. يقول أبو بكر رضى الله عنه، وهو يودّع يزيد بن أبى سفيان وكان أحد القواد الأربعة، الذين وجههم أبو بكر لحرب الروم فى الشام: «إنى موصيك بعشر خلال.. لا تقتل امرأت، ولا صبيّا، ولا كبيرا هرما، ولا تقطع شجرا مثمرا، ولا تخرّب عامرا، ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمّا كله، ولا تعقرنّ نخلا ولا تحرقه، ولا تغلل، ولا نخن» . وقوله تعالى: «فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً» .. هو تعقيب على قوله تعالى: «حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ» .. إذ المراد بشدّ الوثاق- كما قلنا- هو عزل الذين يثخنون بالجراح عن القتال، ثم أخذهم فى الأسرى، وإنزالهم على حكم الأسر.. إذ ليس الجريح من الأسرى إلا واحدا منهم، فلا يؤخذ بحكم المقاتلين، فيجهز عليه.. وهذا ما جاء فى قوله تعالى: «فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً» .. لتقريره، ولدفع ما يقع من شبهة فى معاملة الجرحى، وإلحاقهم بالمحاربين الذين تضرب رقابهم.. فهؤلاء الجرحى من مقاتلى العدوّ، يؤسرون، ثم يؤخذون بحكم الأسرى على إطلاقه، وهو إما أن يمنّ عليهم، ويطلق سراحهم، تفضلا عليهم، وإحسانا إليهم، ومقابلة إساءتهم وعدوانهم بهذا الفضل والإحسان وإما قبول الفدية منهم، وهو عوض مالىّ، أو عيني، أو شخصىّ.. وذلك بأن يفرض على تخليص الأسير من الأسر قدر من المال، أو السلاح، أو المتاع، أو بتخليص أسير فى يد العدو من أسرى المسلمين.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 313 والأمر فى هذا كله متروك لولىّ الأمر، القائم على شئون الحرب الدائرة بين المسلمين، وبين العدوّ، فهو الذي يقدّر الأمر فى شأن أسرى العدو، أفرادا أو جماعات، بالعفو والمنّ، أو الفداء.. قوله تعالى: «حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها» - هو غاية للحكم الذي جاء به الأمر فى قوله تعالى: «فَضَرْبَ الرِّقابِ» .. فهذا الحكم قائم على المسلمين الذين يلتقون بالكافرين فى ميدان القتال.. إنهم مأمورون أمرا إليها بأن يضربوا الضربات القاتلة للأعداء، غير ملتفتين إلى أخذهم أسرى، الأمر الذي يحملهم على أن يتحروا ضرب المواطن غير المميتة منهم، حتى يكونوا مغنما من مغانم الحرب.. ومن جهة أخرى تشير هذه الغاية إلى أن حكم الضرب فى رقاب الكافرين، إنما هو فى حال الحرب، أما إذا انتهت الحرب، وخمدت نارها، فليس للمسلم أن يبدأ بعدوان، أو أن يقتل أحدا من الكافرين إذا لقيه وأمكنته الفرصة منه.. إذ لا يستباح دم الكافر إلا إذا كان فى حرب على المسلمين.. أما فى غير الحرب، فإن لدمه حرمة يجب على المسلمين رعايتها، وصيانتها.. وهكذا يقيم الإسلام فى نفوس أتباعه هذه المشاعر الإنسانية العالية حتى مع عدوهم، الذي كان فى وقت ما حربا عليهم، والذي لا يزال على فيه الحرب والعدوان، إذا أمكنته الفرصة.. وأوزار الحرب: أثقالها، وأعباؤها، وما يحمل المسلمون منها فى مصادمة عدوهم، ودفع شره عنهم.. فإذا انتهت الحرب، وأخلى العدو ميدان الجزء: 13 ¦ الصفحة: 314 القتال، بالفرار، أو الأسر.. فقد رفع عن المسلمين المقاتلين ما كانوا يحملون من أعباء ثقال.. وهنا تنتهى أحكام الحرب، ويعود المسلمون إلى موقفهم الأول من الكافرين.. وهو أن لا قتل ولا أسر لمن يقع لأيديهم من الكافرين فى غير الحرب.. وفى إسناد الفعل «تَضَعَ» إلى «الْحَرْبُ» مع أن الذي يضع الأوزار، والأعباء هم المحاربون- فى هذا إشارة إلى أن الحرب هى سبب هذه الأوزار وتلك الأعباء، وأنها هى التي جلبتها، وألقت بها على كاهل المحاربين.. وفى هذا تشنيع على الحرب، وتنفير منها، وتصوير لها فى صورة كريهة، حيث لا تحمل إلى المتلبسين بها إلا ما يبهظهم ويثقل كواهلهم.. ثم إن فى تسمية أعباء الحرب، وأثقالها، أوزارا، تشنيعا آخر على الحرب، وتأثيما لها، وأنها- أيّا كانت شىء- كريه، لا يطلبه المسلم، ولا يسعى إليه، ولا يرغب فيه، إلا إذا لم يكن منه بد، كدفع عدوان، أو إطفاء فتنة.. وهنا يدخل المسلم الحرب، من باب المحظور الذي يباح عند الضرورة، فيتعاطى منها بحساب، على قدر ما يدفع الضرر، فى غير شهوة، ولا إسراف.. أفرأيت وجها للحرب، أقرب إلى السلام، وأدنى إلى العافية، من هذه الحرب التي يكون الإسلام طرفا فيها؟ إنها حرب يتمنى أن يعيش فيها الناس، ما يعيش فيه السلام العالمى اليوم، الذي قل أن يمسى أو يصبح فى غير حرب.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 315 ذلك أن العالم اليوم إذا أظلّه صباح يوم أو مساؤه بغير حرب معلقة أو سافرة، كانت الحرب الخفية مشبوبة الأوار، فى صدور تغلى مراجلها بالعداوة والبغضاء، وفى نفوس تتحرق مشاعرها شهوة إلى إراقة الدماء، وإزهاق الأرواح، وإبادة الأمم والشعوب!. قوله تعالى: «ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ» - الإشارة هنا إلى ما يطالب به المؤمنون من لقاء العدو فى ميدان القتال، ومن توجيه الضربات القاتلة له، الفاضية على كل كيد يكيد به للإسلام والمسلمين، ولو كان فى ذلك تعريض كثير من المؤمنين للاستشهاد فى سبيل الله.. فذلك ابتلاء من الله للمؤمنين، وإنزالهم هذا المنزل الكريم الذي يلبسون فيه ثوب المجاهدين فى سبيل الله، الواقفين فيه موقف جنود الله، المدافعين عن حرماته.. ولولا هذا الصدام بينهم وبين أهل الكفر والضلال، لما وقفوا هذا الموقف الكريم، ولما نالوا هذا الشرف العظيم.. فهذه الحرب بين المؤمنين والكافرين، هى لحساب المؤمنين قبل كل شىء، إذ هى التي أنزلتهم هذه المنزلة العالية، وأحلّتهم هذا المحل الكريم.. وما كان الله سبحانه وتعالى بحاجة إلى جنود يجاهدون فى سبيله، ويقفون فى وجه هؤلاء الكافرين المحادّين له سبحانه.. إذ لو شاء الله سبحانه وتعالى «لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ» أي لسلط عليهم آفة مهلكة من الآفات، أو لما جاء بهم إلى هذه الحياة الدنيا، أو لهداهم إلى الحق، وكانوا فى المؤمنين.. ولكن هكذا شاءت مشيئة الله سبحانه.. فجعل الشرّ فى طريق الخير، وجعل الكافرين فى وجه المؤمنين، وذلك ليتيح للمؤمنين فرصة العمل لما يرفع منزلتهم عند الله، ويعلى قدرهم، وينزلهم منازل رضوانه.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 316 فهؤلاء الكافرون، والمشركون، والضالون، وهذه الآفات والشرور المبثوثة بين الناس، إنما هى القرابين التي يتقرب بها المؤمنون والصالحون من عباد الله، إلى الله، بالتصدّى لها، وإعلان الحرب عليها.. وبهذا ينالون من ثواب لله ورضوانه بقدر ما يعملون.. ولولا هذا لما كان ثمة عمل يمتاز به الخبيث من الطيب! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ» أي هذا الاختلاف بين الناس، وهذا الصدام الذي يقع بين المؤمنين والكافرين منهم، إنما هو ابتلاء وامتحان لهم، حيث يكشف احتكاك بعضهم ببعض عن معدن كل منهم، كما يقول الله تعالى: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ» (31: محمد) .. هذا، وأرى شفاها تتحرك عليها عبارات التساؤل أو الإنكار، لهذا الذي نقوله، من أن وجود أهل الضلال فى هذه الدنيا، هو سبيل من السبل التي يتخذها المؤمنون للتقرب إلى الله، ولرفع درجاتهم عند الله بجهادهم، وقتلهم، أو الاستشهاد فى سبيل الله على أيديهم.. وقد يقول قائل: ما ذنب هؤلاء الضالين فى تقديمهم على مذبح القربان لله؟ وأ لهذا كنت الغاية من خلقهم؟. وقول: وماذا ينكر المنكرون من هذا؟ ولم لا يكون هؤلاء المشركون والكافرون والضالون جميعا قربانا يتقرب إلى الله بجهادهم من أهل الإيمان؟. وقد يقول قائل: أهذا ممكن أن يكون فى شأن الإنسان، الذي كرمه الله سبحانه، ورفعه على سائر مخلوقات الأرض، وجعله خليفة له فيها؟. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 317 ونقول: نعم، هذا ممكن.. فإن هذا الإنسان الذي كرّمه الله سبحانه وتعالى، وفضله على كثير من خلقه، وجعله خليفة له فى الأرض- هذا الإنسان، قد نزع بيده هذا الثوب الكريم الذي ألبسه الله إياه، وتخلى عن عقله الذي هو التاج الذي نال به شرف الانتماء إلى الإنسانية.. وقد عطل وظيفة هذا العقل، فلم ينظر به فى آيات الله الكونية، ولم ير من خلال هذا النظر وجه خالقه، ولم يتعرف إلى ما للخالق سبحانه من جلال وقدرة، ثم إنه حين جاءته آيات الله على يد رسله لم يتنبه من غفلته، ولم يحد عن طريق ضلاله، بل ازداد كفرا بالله، ومحادّة له- فكان بهذا على غير صورة الإنسان الذي كرمه الله، وخلقه فى أحسن تقويم. إنه حينئذ هو الإنسان فى أسفل سافلين، ومن هنا كان إلى الحيوان أقرب منه إلى الإنسان، ومن هنا أيضا كان حيوانا يقدّم على مذبح التقرب إلى الله، إذا هو أعمل قرونه ومخالبه وأنيابه فى عباد الله.. وأولياء الله.. فإن هو أمسك شره، فلم يعرض لعباد لله بأذى، ترك وشأنه، كما تترك الوحوش فى الغابات. قوله تعالى: «وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ» . هو تنويه خاص بشأن الذين يستشهدون فى سبيل الله. فهؤلاء الشهداء لن يضل الله أعمالهم، بل سيقيمها على طريقه المستقيم، حيث تنزل منازل الرضا والقبول من الله رب العالمين.. فهم داخلون أولا فى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ» ثم هم مختصون ثانيا بهذا لذكر، الذي يقيمهم بعد موتهم، مقام الأحياء، الذين لم يفارقوا هذه الدنيا، وذلك بإصلاح بالهم، على حين يقيمهم مقام أهل الجنة قبل أن يدخلها أحد غيرهم، فهم ساعون إلى الجنة، آخذون طريقهم التي يعرفونها، إليها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلا تَحْسَبَنَّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 318 الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» (169: آل عمران) قوله تعالى: «سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ» - هو بيان لقوله تعالى: «وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ» .. أي أن الله سبحانه وتعالى سيهدى الذين قتلوا فى سبيل الله، ويقيم بين أيديهم من أعمالهم الدليل الذي يأخذ بهم إلى الجنة التي أعدها الله لهم، وعرّفهم الطريق إليها.. وهذا مثل قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ» (9: يونس) . فأعمل الشهداء، مستنيرة مبصرة، تعرف طريقها إلى مقام الرضا والقبول، وأصحاب هذه الأعمال، وهم الشهداء، يتبعون أعمالهم تلك، ويأخذون طريقهم على هديها، حيث تنتظرهم عند الله فى جنات النعيم التي أعدها سبحانه لأصحاب هذه الأعمال الطيبة كما يقول سبحانه: «يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ» (12: الحديد) فالذى يسعى بين أيديهم هو هذا النور المشع مما فى أيمانهم، وهو سجل أعمالهم، التي صارت كتبا تناولوها بأيديهم اليمنى. قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ» . هو التفات من الله سبحانه وتعالى إلى المؤمنين، ودعوة منه جل شأنه إلى أن يكونوا جميعا فى هذه المنزلة التي أعدها للمجاهدين فى سبيله.. فالمؤمنون الذين يقاتلون فى سبيل الله إنما ينصرون الله.. فهم جند الله، الذين يحاربون من حارب الله.. ونصر المؤمنين لله، إنما هو بنصر دينه، وإقامة شريعته، ودفع الضلال والشرك والإثم، وكل ما يعترض سبيل الله، ويخالف ما أمر به.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 319 وفى إسناد نصر الله إلى المؤمنين تكريم لهم، ورفع لقدرهم، وإنزالهم منزلة المعين لله، المؤيّد له، والله سبحانه غنى عن كل معين ومؤيد.. إذ كل شىء فى هذا الوجود هو منه، وله.. لا يملك أحد شيئا.. فكيف يطلب النصر من خلقه الذين لا يقوم وجودهم لحظة واحدة إلا بحفظه، ورعايته؟ إن ذلك- كما قلنا- هو تكريم للمؤمنين، وإحسان من الله إليهم. كما فى قوله تعالى: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» .. فالله سبحانه هو المعطى لكل ما فى أيدى الناس.. ثم هو سبحانه- فضلا وإحسانا منه- يدعوهم إلى أن يقرضوه مما أعطاهم!!. وفى قوله تعالى: «يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ» - إشارة إلى أن نصر المؤمنين لله، ليس نصرا على حقيقته، وإنما هو مظهر من مظاهر الطاعة والولاء لله.. وإلا فإن النصر الحقيقي هو الذي يمنحه الله سبحانه وتعالى المؤمنين، ويمدهم بالأسباب الممكنة لهم منه.. فهو سبحانه الذي ينصرهم على عدوهم، وثبت أقدامهم فى مواقع القتال على حين يملأ قلوب الذين كفروا رعبا وفزعا.. «وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (10: الأنفال) .. ومع أن هذا النصر من عند الله، فإنه محسوب للمؤمنين، يلقون عليه أحسن الجزاء فى جنات النعيم. قوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» . هو فى مقابل قوله تعالى للمؤمنين: «يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ» فإنه- سبحانه- إذ ينصر المؤمنين ويثبت أقدامهم- يخذل الكافرين، وينزلهم منازل البوار والتعس، ويبطل أعمالهم، فلا يقبل منهم عدلا ولا صرفا. فكل عمل للكافرين إلى ضلال، وضياع.. وإذ كان الإنسان من وراء عمله، ينظر إليه، ويتبع آثاره ليجى ثمرة ما عمل، فإن الكافرين ستقودهم أعمالهم التي أصلها الله، إلى الضلال، وإلى عذاب السعير. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 320 وفى التعبير عن التّعس والخسران، بالمصدر «فَتَعْساً لَهُمْ» ، وعن ضلال الأعمال، بالفعل «وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ» .. فى هذا ما يشير إلى أن التّعس والبوار والخسران، صفة ملازمة لهم، مستولية على كيانهم كله، فى أقوالهم وأفعالهم، وفى ماديات حياتهم ومعنوياتها.. فالمصدر- كما قلنا- يجمع كل معانى الأحداث المشتقة منه.. على نحو ما أشرنا إليه فى قوله تعالى «فَضَرْبَ الرِّقابِ» . أما ضلال أعمال الكافرين، فهو حدث متسلط على أعمالهم، فكن ما يقع منهم من عمل تسلط عليه الضلال، وطواه تحت جناحه.. وفى التعبير بالماضي «أضل» بدلا من المضارع «يضل» - إشارة أخرى إلى أن الكافر محكوم مقدما على كل عمل من أعماله بالضلال، دون نظر فى وجه العمل، فإنه يستوى فى ذلك الحسن والقبيح، والخير والشر، من أعمال الكافرين.. إذ كل أعمالهم قبيحة، وكل أفعالهم شر.. هكذا تقع أعمال المشركين تحت حكم الضلال، وقوعا مطلقا، فلا ينتظر فى الحكم عليها حتى ينكشف وجهها، ويعرف الحسن والقبيح منها.. إنها كلها قبيحة الوجوه، منكرة الوجود، قبل أن تولد! .. قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ» .. هذا بيان للسبب الذي من أجله كل الحكم عليهم بالبوار والخسران، وبإبطال كل عمل يعملونه، ولو كان مما يعدّ فى الأعمال الصالحة.. إنهم «كرهوا ما أنزل الله» .. وهو القرآن الكريم، الذي يدعوهم إلى الإيمان بالله، ويحمل إليهم الهدى والنور.. وكراهيتهم لما أنزل الله، هى التي دعتهم إلى اتخاذ هذا الموقف العدائىّ لرسول الله، ولآيات الله التي يتلوها عليهم.. فإن من كره شيئا تجنبه، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 321 وعاداه.. على خلاف من أحب الشيء، فإنه يدنو منه، ويقاربه ويختلط به، ويأنس إليه.. وإحباط الأعمال، هو إفسادها، ووأدها فى مهدها.. ومنه الحديث الشريف: «إن من الربيع ما يقتل حبطا أو بلمّ» .. والقتل الحبط، هو أن تأكل البهيمة حتى تنتفخ وتموت متخمة! الآيات: (10- 15) [سورة محمد (47) : الآيات 10 الى 15] أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 322 التفسير: قوله تعالى: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها» .. هو تهديد ووعيد للمشركين الذين كذبوا رسول الله، وأنكروا عليه ما دعاهم إليه من الإيمان بالله وحده، والإيمان باليوم الآخر، وبالحساب والجزاء.. وقد حمل هذا الوعيد إلى المشركين فى هذا الاستفهام الإنكارى الذي يرميهم بالعمى والغفلة عن النظر فيما حولهم، وفيما أصاب المكذبين برسل الله قبلهم، من عذاب ونكال.. لقد دمر الله على هؤلاء المكذبين، وأنى بنيانهم من القواعد، وأن للكافرين عند الله أمثال هذا التدمير.. وفى قوله تعالى: «دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» وفى تعدية الفعل بحرف الاستعلاء «على» - إشارة إلى أن هذا التدمير، قد وقع عليهم من جهة عالية، متمكنة، منهم، بحيث يكونون تحت رمياتها التي لا تخطىء الهدف أبدا.. وفى قوله تعالى: «وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها» بجمع أمثال، بدلا من قوله- مثلها- إشارة إلى أن ما يرمى به الكافرون من مهلكات، ليس على صورة واحدة، بل إن لكل أمة، ولكل جماعة لونا من ألوان الهلاك.. كما يقول الله تعالى: «فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا» (40: العنكبوت) .. فهى ألوان من الهلاك، مختلفة الأشكال، وإن كانت متفقة فى الآثار.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 323 قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ» .. فى الآية إشارة ضمنية إلى أن المؤمنين بالله واليوم الآخر، لا يصيبهم شىء من هذا البلاء المسلط على الكافرين.. وذلك بسبب «بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا» أي ناصرهم ودافع المكروه عنهم.. أما الذين كفروا فلا ناصر لهم ولا معين يعينهم.. فإنه لا يملك النفع والضر إلا الله سبحانه وتعالى، وقد لاذ المؤمنون بحمى الله، فلم يصل إليهم ضر، ولم يصبهم مكروه، على حين ركن المشركون والكافرون إلى ما يعبدون من دون الله، فلم تغن عنهم آلهتهم من الله من شىء.. قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» .. ومن آثار ولاية الله سبحانه وتعالى للمؤمنين أنه يدحلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار.. فهم فى الدنيا، فى أمن من أن يحلّ بهم ما يحل بالكافرين من البلاء العام الشامل الذي يأتى على كل شىء.. وهم فى الآخرة، ينعمون فى جنات تجرى من تحتها الأنهار.. وفى قوله تعالى: «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» - إشارة إلى أن الإيمان الذي يثمر هذه الثمرات الطيبة لأهله، إنما هو الإيمان الذي يصدّقه العمل الصالح فليس الإيمان مجرد قول باللسان، وتصديق بالقلب، فهذا إيمان لا ثمرة له، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 324 وإنما تظهر ثمرة الإيمان، فيما يكون عليه سلوك المؤمن، وما تكسب جوارحه.. وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» .. كان مقتضى السياق أن يكون نظم الآية هكذا مثلا.. والذين كفروا لهم عذاب جهنم.. ولكن النظم القرآنى، المعجز، يضع الأمر موضعه، فيصل حياة الكافرين فى الدنيا، بحياتهم فى الآخرة.. إنهم على طريق واحد فى دنياهم وأخراهم جميعا.. فهم فى الدنيا، يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، وهم فى الآخرة يلقون فى عذاب جهنم.. والناظر المدقق فى الحالين يرى أنهما على سواء، وإن بدا الاختلاف بينهما بعيدا فى عينى من لا بصيرة له.. فالإنسان ليس جسدا حيوانيا، غايته أن يأكل كما تأكل البهائم، وإنما الإنسان إنسان، لأن له روحا يهفو إلى الملأ الأعلى، ويتشوف إلى مطالع النور منه، ولهذا الروح مطالب يجب أن يؤديها الإنسان له، حتى تظل أسبابه موصولة بالملأ الأعلى، آخذة طريقها إليه.. وإلا انقطعت تلك الأسباب، وأصبح الإنسان جسدا حيوانيا، لا شىء من معالم الإنسانية فيه.. وهذا عذاب وبلاء للإنسان.. إذ أنه يعيش فى الناس حيوانا ممسوخا فى جسد إنسان، أو إنسانا مردودا فى طبائع الحيوان.. وفى قوله تعالى: «يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ» - إشارة إلى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 325 أن ما يتمتع به الكافرون من متع فى اتصال الرجال بالنساء، هو عند الكافرين متعة حيوانية، يستجيبون فيها لغريزة الحيوان لحفظ النوع.. على حين أن المؤمنين يجدون فى قضاء هذه المتعة شيئا أكثر من حفظ النوع.. إنهم يرونها نعمة من نعم الله، كما يرون فيها بعض قدرة الله فى خلق الإنسان، وتطوره فى هذا الخلق، من ماء دافق، إلى إنسان رشيد عاقل.. فقوله تعالى: «يَتَمَتَّعُونَ» أي يتناكحون، وينزو الذكر منهم على الأنثى كما ينزو ذكر الحيوان على أنثاه. فمتعتهم الجنسية متعة حيوانية، لإشباع حاجة الجسد، وحفظ النوع.. وأكلهم أكل حيوانى، لإشباع البطون، وحفظ الحياة.. وتبدو لنا من الآية الكريمة صورة مسعدة مشرقة، لأولئك الذين يعيشون فى هذه الدنيا على ذلك الزاد الطيب من المعاني الكريمة، والمثل الرفيعة، والمبادئ القويمة، وإن فاتهم كل شىء من ماديات الحياة ومتاعها.. إنهم فى نعيم يملأ حياتهم المقفرة من متاع الدنيا، بألوان من البهجة والمسرة، لا يجد أحد مثلها إلا فى الجنة التي وعد الله المتقين من عباده.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ» (26: الرعد) قوله تعالى: «وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ» .. هو تهديد للمشركين من قريش، الذين آذوا النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- وآذوا أهله وأصحابه، حتى اضطر- صلوات الله وسلامه عليه- إلى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 326 الهجرة من بلده، وأهله، والبيت الحرام الذي تعلّق به قلبه.. فكثير من القرى، كانت أشد قوة من هذه القرية- مكة- أهلكها الله ودمّرها على أهلها، ولم يكن لهم من ناصر ينصرهم من بأس الله إذ جاءهم.. وهذه القرية قد فعلت فعل القرى الظالمة التي أهلكها الله، فهل إذا أراد الله هلاك أهلها- أهناك من يدفع عنهم ما يرميهم الله سبحانه وتعالى به من إمهلكات؟ .. وفى إضافة القرية إلى النبىّ، إشارة إلى أنها قريته، وهو صاحبها، وأولى الناس بها، وإن أخرج منها.. إنها ستفتح عما قريب ذراعيها للنبىّ، وتستقبله استقبال الأرض الجديب جاءها الغيث، وإنها لتكون عما قريب البلد الإسلامى الأول، الذي يوجه النبىّ والمؤمنون معه، وجوههم إلى البيت الحرام فيه.. وفى الآية إشارة إلى أن هذه القرية لن يحل بها من الدمار والخراب ما حلّ بقرى القوم الظالمين، ففى إضافتها إلى النبىّ الكريم، ضمان لها من كل سوء إلى يوم القيامة، إنها قرية النبىّ، وستظل قريته إلى يوم الدين.. قوله تعالى: «أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» .. المراد بالاستفهام هنا، النفي، بمعنى أنه لا يستوى من كان على بينة من ربه، وعلى هدى منه، ومعرفة به- لا يستوى من كان هذا شأنه، ومن زين له سوء عمله، فرأى القبيح حسنا، والشر خيرا، والهدى ضلالا.. إنه لشتان بين هذا، وذاك.. «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» (9: الزمر) . «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟» (35- 36: القلم) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 327 وفى إفراد «فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ» إشارات: أولها: أن الذي يكون على بينة من ربه، وعلى هدى منه، إنما هو إنسان استقلّ بنظره، وأحقكم إلى عقله، ولم يكن منقادا لهوى غيره، أو منساقا وراء هوى نفسه. وثانيها: أن المؤمنين- وإن كانوا ذواتا كثيرة متعددة- كل منهم له كيانه ووجوده الذاتي المتحرر من التبعية الاعتقادية- هم جميعا ذلك المؤمن الذي على بينة من ربه.. فكل مؤمن يرى وجوده ووجهه فى هذا المؤمن.. وثالثها: أن المؤمن الذي يكون على بينة من ربه يرجح ميزانه موازين غير المؤمنين جميعا.. وفى إفراد «زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ» وجمع «وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» - فى هذا أكثر من إشارة كذلك.. فأولا: إفراد الذي زين له سوء عمله مع بناء فعله للمجهول، يشير إلى أن هذا التزيين، وإن كان يرد على الإنسان من جهة تزين له المنكر، وتغريه به، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ» (25: فصلت) .. - هذا التزيين وإن كان يرد على الإنسان من خارج- فإنه لا يدفع عنه حمل المسئولية، ولا يعفيه من الحساب والجزاء، إذ كان لكل إنسان ذاتيته ووجوده.. والله سبحانه وتعالى يقول: «كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ» (21: الطور) ويقول سبحانه: «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» (38: المدثر) . وثانيا: فى جمع «وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» - إشارة إلى أهل الضلال الجزء: 13 ¦ الصفحة: 328 والفساد، يغرى بعضهم بعضا، ويغوى بعضهم بعضا، وإذا هم جميعا يتبادلون أهواءهم بينهم، فكل منهم يأخذ بهوى الآخرين.. وهذا هو المصدر الذي يجىء منه التزيين، كما يقول سبحانه: «يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً» .. (112: الأنعام) . قوله تعالى: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ، فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى، وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ، وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ» .. هذا تعقيب على الآية السابقة: «أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ؟» .. ففى قوله تعالى: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ..» الآية- فى هذا، جواب على هذا السؤال الذي أثارته الآية السابقة.. وقد جاء هذا الجواب فى صورة سؤال يحتاج هو الآخر إلى جواب، ولكن جواب هذا السؤال قريب واضح، يكاد يمسك باليد.. فما هى إلا نظرة يلقيها الإنسان إلى أهل الجنة وما يلقون فيها من نعيم، وإلى أهل النار، وما يساق إليهم من عذاب، حتى يرى هذا البعد البعيد بين حال هؤلاء وأولئك.. أصحاب الجنة، وأصحاب النار.. من كان على بينة من ربه، ومن زين له سوء عمله فرآه حسنا.. ومن هنا كان من المناسب، ذكر الجنة، وما فيها من ألوان النعيم.. وقوله تعالى: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ» .. هو استفهام يردّ به على الاستفهام فى قوله تعالى: «أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ» .. والتقدير: كلا.. ليس من كان على بينة من ربه، كمن زين له سوء عمله، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 329 وكيف يكونان متماثلين؟ أمثل الجنة التي وعد المتقون، ينعمون فيها بما يشاءون كمثل النار التي يلقى فيها المجرمون، يطعمون من جمرها، ويشربون من لهيبها؟ ويلاحظ فى الآية الكريمة أن عرض المقابلة بين أصحاب الجنة وأصحاب النار، لم يكن متطابقا، فقد جاءت الجنة مقابلة لأصحاب النار هكذا: «مثل الجنة التي وعد المتقون.. كمن هو خالد فى النار؟ ولو جاءت المقابلة على وجه التطابق، لجاء النظم هكذا: أمثل الجنّة التي وعد المتقون.. كمثل النار التي وعد المكذّبون المجرمون؟ أو هكذا: أمثل أصحاب الجنة التي ينعمون بطيباتها.. كمثل أصحاب النار الذين يتقلبون على جمرها؟ فما وجه هذا؟ وما سرّه؟ الجواب- والله أعلم- من وجوه: فأولا: ليس المهمّ فى بلاغة المقابلة بين الأمور- لكى تتضح وجوه الخلاف بينها، ومن ثمّ تتضح سمة كل مقابل فى وجه مقابله- ليس المهم فى بلاغة المقابلة هنا، هو التطابق بين الصورتين، الموجبة والسالبة، كما فى العمل «الفتوغرافى» .. وإنما الصميم من البلاغة، هو أن يقع التطابق فيما وراء الغلاف الخارجي، أو السطح الظاهري للأشياء.. بحيث يبلغ أعماقها، وينفذ إلى جوهرها.. وثانيا: هنا فى هذه الصورة التطابقية التي جاءت بها الآية الكريمة، لأصحاب الجنّة وأصحاب النار- نرى صورتين متطابقتين أتم التطابق وأكمله وأروعه.. ففى صورة النعيم، نرى جنّة! وهذه الجنة موصوفة بصفتين: أولاهما: أنها للمتقين الذين وعدهم الله إياها.. وثانيهما: أن فيها أنهارا من ماء غير آسن، وأنهارا من لبن لم يتغير الجزء: 13 ¦ الصفحة: 330 طعمه، وأنهارا من خمر لذّة للشاربين، وأنهارا من عسل مصفّى، كما أن فيها ما يشتهى أهلها من الثمرات.. فاللون الغالب البارز فى هذه الصورة، هو لون الجنة.. أما أصحابها فهم لون أقل بروزا وظهورا من الجنة ذاتها.. وهذا يعنى- فى مقام الإحسان- المبالغة فى إكرام هؤلاء الضيف المدعوّين من الله سبحانه، الموعودين بالنعيم فى جناته.. فإنه بمقدار الاهتمام بالإعداد لاستقبال الضيف، يكون مقدار منزلته عند مضيفه. وفى صورة الإعداد لاستقبال الضيف- أي ضيف- يعرف- من لم يكن يعرف- قدر هذا الضيف ومنزلته، وإن لم يعرف من يكون، وما الجهة التي يجىء منها.. وفى الصورة المقابلة لصورة النعيم..ماذا نرى؟ نرى اللون الغالب فيها، والذي يكاد يغطى الصورة كلّها، هو أصحاب النار، وما يلقون فيها من عذاب ونكال.. فهناك أناس خالدون فى النار، مقيمون إقامة دائمة فيها، شرابهم ماء يغلى فيقطع الأمعاء.. هذا هو كل ما فى الصورة! ولكن كلمة «النار» ، وإن أخذت حيزا ضئيلا من الصورة، فإنها تلقى على الصورة كلها ظلالا كثيفة كئيبة، تتراقص عليها واردات جهنم كلها، وما يساق إلى أهلها من ألوان العذاب والنكال.. ومن تلك الواردات هذا الماء الجهنمى الذي يقطع أمعاء من يدخل إلى أمعائهم.. ومن جهة أخرى، فإن إبراز أصحاب النار فى النار، وتلونهم باللون الغالب الواضح فيها- إشارة إلى أن أصحاب النار قد أصبحوا بعضا من النار، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 331 بل إنهم الشاهد المبين عنها وعن أفعالها وآثارها.. إنهم حطب جهنم.. فهم إذن هذا اللهب المتسعّر منها، وأنه لولا هذا الخطب لما كانت هذه النار.. وهل نار بغير وقود؟ فإذا نظرنا إلى الصورتين: صورة النعيم، والصورة المقابلة لها على نحو نظرتنا هذه، وجدنا الجنة وأهلها، والنار وأصحابها، ورأينا التقابل كاملا بين الصورتين، وذلك بما يجريه العقل من عمليات منطقية، تقيم المتقابلين على ما يقضى به التطابق بينهما.. فإذا كانت هنا جنة، فليكن هناك نار.. وإذا كان فى النار أهلها وما يكابدون من عذابها، فليكن فى الجنة أهلها وما ينعمون به من خيراتها.. وهكذا تتبادل الصورتان، فتأخذ كل منهما من الأخرى عكس ما تعطى.. من الصفات أو الذوات.. قوله تعالى: «فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى» هو من صفات هذه الجنة، وما فيها من ألوان النعيم. فإذا كان فى جنات الدنيا، جداول تجرى، أو أنهار تتدفق.. فالجنة التي أعدت للمتقين فيها أنواع شتّى من الأنهار لم تعرفها الجنّات فى الدنيا.. ففى الجنة التي وعد المتقون: «أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ» ، أي غير متغير الريح أو الطعم، فهو ماء جار، صاف، طهور.. عذب فرات.. وفى هذه الجنة «أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ» أي لبن كأنما حلب لساعته، لم يمر به زمن ينقل فيه اللبن من حال إلى حال، أو أحوال، أخرى.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 332 وفى تلك الجنة «أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ» ، أي بلذّ طعمها للشاربين.. فليس فيها من خمر الدنيا هذا الطعم المرّ اللاذع، كما أنها لا تخامر العقل، ولا تذهب باللّب، كما يقول الله تعالى: «لا فِيها غَوْلٌ» (47: الصافات) . وفى الجنة أيضا أنهار من عسل مصفى أي خالص من أي شائبة تعلق به.. إنها جنة فيها مشابه مما عرف الناس من نعيم الدنيا، ولكن الفرق بعيد، والبون شاسع بين الحقيقة والمثال، بين الكائن الحىّ وظله الواقع على الأرض! الآيات: (16- 19) [سورة محمد (47) : الآيات 16 الى 19] وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19) التفسير: قوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً؟ أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» .. الضمير فى «مِنْهُمْ» يعود إلى مفهوم من الآيات السابقة، التي أشارت إلى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 333 المشركين، وتوعدتهم بالعذاب فى الدنيا والآخرة.. ففى قوله تعالى: «أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» - فى هذا إشارة إلى المشركين.. وقوله تعالى: «وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ» - فيه إشارة أخرى إليهم.. فهم الموصوفون بأنهم ممن زين لهم الشيطان أعمالهم واتبعوا أهواءهم، وهم المتوعّدون بأن يسقوا ماء حميما يقطع أمعاءهم.. فقوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ» أي ومن هؤلاء المشركين، منافقون، جاءوا يستمعون إليك.. لا يريدون الهدى، ولا يطلبون الإيمان، وإنما يريدون أن يشغبوا، وأن يشوشوا على النبي، إن وجدوا سبيلا إلى الشغب والتشويش، فإن لم يجدوا سبيلا إلى هذا فى مجلس النبي صلوات الله وسلامه عليه، تصيّدوا الأكاذيب والمفتريات، ثم أذاعوها فى الناس، متخذين من حضورهم مجلس القرآن، دليلا على أنهم يقولون عن علم، ويتحدثون عن وقع! .. وقوله تعالى: «حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً» ؟ .. «حتى» حرف غاية، أن غاية هؤلاء الذين يستمعون هذا الاستماع إلى النبي، وإلى ما يتلو من آيات الله- غايتهم هى أن يقفوا من الذين أوتوا العلم هذا الموقف، الذي يلقونهم فيه هازئين، مشككين فى آيات الله، وفى المعاني الكريمة التي بين يديها.. فلولا حضورهم مجلس النبي والاستماع إلى ما يتلو من آيات الله، لما كان لهم سبيل إلى أن يقفوا هذا الموقف من المؤمنين، الذين حضروا معهم هذا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 334 المجلس- فحضورهم مجلس النبي له غاية ينتهى إليها، وتلك الغاية هى الخروج من عند النبي، وموقفهم المؤمنين قائلين لهم: «ماذا قالَ آنِفاً؟» .. وواضح أن هؤلاء الذين أشارت إليهم الآية فى قوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ» - واضح أن هؤلاء من المشركين المنافقين الذين جاءوا إلى النبي يستمعون إلى ما يقول، وهم على شركهم، وإن أعلنوا إسلامهم، ودخلوا فى المسلمين.. ولذين أوتوا العلم فى قوله تعالى: «قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» هم المسلمون، الذين دخلوا فى الإسلام مؤمنين، وكانوا فى مجلس النبي يستمعون لآيات الله تتلى عليهم.. فهؤلاء المسلمون المؤمنون، هم أهل علم بما استمعوا إليه من آيات الله، وكلماته.. لأنهم استمعوا بآذان مصيغة، وقلوب واعية، وعقول متحررة من التبعية والتقليد الأعمى.. ومن هنا كان لهم هذا العلم الذي حصلوه من آيات الله التي استمعوا إليها.. وفى هذا تعريض بالمنافقين، ووصفهم بالجهل والغباء والبلادة.. وأنهم لو كانوا على حظ من العقل والإدراك، لكانوا من الذين أوتوا العلم، الذين جلسوا فى مجلسهم، واستمعوا إلى ما استمعوا إليه، ولكن شتان بين أذنين تسمعان.. أذن إنسان، وأذن حيوان!!. فهؤلاء المنافقون، الذين استمعوا إلى النبىّ، قد فضحوا أنفسهم، وكشفوا عن غبائهم، إذ جاءوا يسألون عن مضمون كلام استمعوا إليه، دون أن يدركوا له معنى، مع أن هذا الكلام قد أفاء على من استمعوا إليه، وأحسنوا الاستماع- قد أفاء عليهم علما، وخلع عليهم خلعة العلماء، فكانوا من الذين أوتوا العلم، يسألهم المشركون المنافقون هذا السؤال النبىّ: «ماذا قالَ آنِفاً» ؟ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 335 وهو سؤال المستهزئ.. و «آنِفاً» أي من قبل.. فهى كلمة تدل على الزمن الماضي.. منصوبة على الظرفية، كأنهم قالوا: ماذا قال عشية، أو غدوة، أو صباحا، أو مساء.. قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» هو الحكم الذي وقع على هؤلاء المنافقين، بعد موقفهم هذا من الاستماع إلى القرآن الكريم، يتلوه الرسول الكريم، ثم سؤالهم عما سمعوا، هذا السؤال المستهزئ المنكر.. فهؤلاء هم الذين طبع الله على قلوبهم، وختم عليها، فلا تقبل خيرا، ولا تأذن بخير يدخل إليها، ومن أجل هذا فقد أخلوا مع أهوائهم، تقودهم إلى حيث مواقع الضلال والهلاك، دون أن تمتد إليهم يد منقذة.. إنهم قطعوا كل سبب يصل بينهم وبين أية وسيلة من وسائل الإنقاذ.. قوله: «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ» . الذين اهتدوا هم أولئك المؤمنون الذين أوتوا العلم، وهم كل المؤمنين.. إذ لا يكون الإيمان إيمانا إلا عن علم.. والذين اهتدوا إنما اهتدوا لأنهم أوتوا علما، فكان هذا العلم طريقا فسبحا لهم إلى مزيد من العلم، ومزيد من الهدى.. فكلما ازداد الإنسان معرفة بربه ازداد هدى. وازداد تقوى.. «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ» (28: فاطر) .. وهذا يعنى أمورا: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 336 أولا: أن على الإنسان أن يلتمس الهدى ويطلبه من ذات نفسه.. وهو فى هذا إنما يستجيب لفطرته، ولداعى عقله.. فإذا لم يتجه إلى هذا الاتجاه، كان مصادما لفطرته، معطلا لمدركاته.. إنه حينئذ يكون أشبه بالحبّة التي أصابها السوس، أو مسّها العفن والعطن.. إنها تبذر مع غيرها من الحب، وتسقى الماء كما يسقى غيرها، ولكنها تظل جسما ميتا هامدا فى الأرض، يأكله الثرى، على حين يخرج غيرها نباتا، ثم يكون زرعا، مزهرا مثمرا.. إن كل حبة من تلك الحبات التي نبتت وازدهرت وأثمرت، لم تخرج إلى وجه الأرض إلا بما فيها من حياة كامنة، وإلا بمجهود ذاتى، بذلته الحبة حين اختلطت بالماء والتراب، حتى لكأنها الأنثى تضع حملها، فتعانى آلام الطلق، والوضع!. والذين «اهْتَدَوْا» أي بذلوا جهدا ذاتيا من أنفسهم، للاتجاه نحو النور، والدخول فى دائرته- هؤلاء يزيدهم الله هدى بهذا النور الذي وضعه بين أيديهم، فيرون على ضوء هذا النور أكثر مما رأوا، حيث تهديهم هذه الرؤية إلى نور أعظم، فيسعون إليه، ويدخلون فى دائرته.. وهكذا.. «نُورٌ عَلى نُورٍ.. يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ» (35: النور) وفى قوله تعالى: «وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ» - إشارة إلى أن التقوى التي يبلغها المؤمن بإيمانه، هى مطلب أعظم من مطلب العلم، وأنها إنما تنال بعد جهد، ومصابرة.. ولهذا، فإنه إذ يبلغ الإنسان الدرجة التي يدخل بها مدخل المتقين، يحتفى به فى الملأ الأعلى، وتخلع عليه خلعة التقوى من الله رب العالمين، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ» .. إنها هبة عظيمة من الله، وعطاء كريم، من رب كريم، لعباد كرام على الله، مكرمين فى رحابه.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 337 وفى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا» وقوله تعالى: «وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ» - ما يشير إلى أن تحصيل العلم ليس غاية فى ذاته، وإنما هو وسيلة إلى تحصيل الهدى، وبالهدى يكون تحصيل الصفات الطيبة، التي تكمّل الإنسان، وتجمّله، وإنه لا أكمل، ولا أجمل من التقوى.. كما يقول سبحانه: «وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ» (26: الأعراف) وقوله سبحانه. «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى» (197: البقرة) .. ومن أجل هذا- والله أعلم- جاء فعل الهدى محمولا على فاعله: «وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا» .. على حين جاء إتيان التقوى مسندا إلى الفعّال المريد، الله رب العالمين: «وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ» لأن التقوى مطلب مسير، ومقام كريم، تمتد به يد الرحيم الكريم، إلى من أخذوا بالأسباب إلى التقوى.. قوله تعالى: «فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ» . الاستفهام هنا إنكارى، تقريعى، تهديدى، ينكر على المشركين موقفهم هذا، من الإيمان بالله وبرسول الله، ويقرّعهم على أنهم لم يفتحوا أبصارهم ولا بصائرهم لهذا النور الذي بين أيديهم، ولا إلى هذه المثلاث التي حلّت بالأمم من قبلهم.. ثم يتهددهم بالعذاب الذي يلقاهم يوم القيامة، وقد قرب يومها، وجاءت أشراطها، أي العلامات المنذرة بمقدمها.. فهؤلاء المشركون..ماذا ينتظرون؟ هل ينتظرون- إن انتظر بهم- إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون؟ ... وإنها لآية لا ريب فيها.. فكيف يكون حالهم إذا جاءتهم، وقدّموا للحساب والجزاء؟ .. هل ينفعهم شىء فى هذا اليوم؟ وهل من سبيل إلى أن يصلحوا ما أفسدوا؟ كلا، فقد انتهى وقت الجزء: 13 ¦ الصفحة: 338 العمل، وجاء وقت الحساب والجزاء.. لقد انتقلوا من دار العمل والابتداء إلى دار الثواب والعقاب. وقوله تعالى: «فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ» .. أي فكيف تنقعهم الذكرى، إذا جاءتهم الساعة؟ والذكرى هى العبرة والعظة.. وفى يوم القيامة تكثر العبر والعظات، وتمتلىء القلوب بالندامة والحسرة على ما كان من الإنسان من تفريط فى جنب الله، وتقصير فى رعاية حقه.. فمن لم يكن مؤمنا قتل نفسه حسرة على أنه لم يكن فى المؤمنين، ومن كان مؤمنا ندم على ألا يكون فى المحسنين، ومن كان فى المحسنين، ندم على أنه لم يزدد إحسانا.. ولكن لا شىء ينفع فى هذا اليوم، إلا ما كان من عمل فى الدنيا. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى. «يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي» (23- 24: الفجر) . قوله تعالى: «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ» . المتقلب: ما يتقلب فيه الإنسان من شئون الحياة، والمراد به الحركة.. والمثوى المأوى، الذي يثوى إليه الإنسان، ويسكن إليه، والمراد به: السكون.. والآية التفات من الله سبحانه وتعالى إلى النبي الكريم، واستدعاء، واستدناء له من الله، ليتلقّى ما يوصيه به ربه، تاركا هؤلاء المشركين وما هم فيه من عمى وضلال.. إنهم استحبوا العمى على الهدى، وآثروا الضلال والشرك، على الإيمان.. فلبموتوا بشركهم، وليلقوا المصير الذي هم أهل له.. أما أنت أيها النبي «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ» .. فالألوهة مقصورة على الله وحده، لا يشاركه فيها أحد.. «إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ» .. «وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 339 والسؤال هنا: ماذا يراد بالعلم المطلوب من النبي أن يعلمه، من أنه لا إله إلا الله؟ وهل كان النبي إلى نزول هذه الآية الكريمة، لا يعرف هذه الحقيقة؟ إن النبي- صلوات الله وسلامه عليه- كان على التوحيد الخالص لله قبل أن يبعث، فكيف يراد منه أن يعرف هذه الحقيقة بعد أن بعث؟ وهل الخلاف بينه وبين قومه إلا على عبادة الله وحده، دون ما يعبدون من آلهة؟. فما مفهوم هذا الأمر بالعلم؟ الجواب- والله أعلم- من وجوه: أولا: أن دعوة النبي من الله سبحانه وتعالى للعلم بأن لا إله إلا الله- هو نداء قرب وأنس للنبى من ربه، يلقى إليه فيه بالوصف الذي ينبغى أن يعلمه من ربه، فيحققه، ويؤكده.. وثانيا: العلم المطلوب من النبي- صلوات الله وسلامه عليه- ليس هو العلم المجرد، وإن كان مستيقنا، وإنما هو العلم الذي يعطى ثمرا حاضرا.. والمراد بدعوة النبي هنا بأن يعلم أن لا إله إلا الله- هو ألا يأسى على هؤلاء المشركين والمنافقين، وألا يحفل بهم وبكثرتهم وقوتهم، فإن الله الذي لا إله إلا هو، معينه، ومؤيده، وناصره على كل عدو له، وللدين الذي جاء به.. إنه سبحانه صاحب الأمر، ومالك الملك.. وثالثا: إذا كان مطلوبا من النبي أن يذكر ربه، وأن يجدد له كل حين بهذا الذكر ولاء لربه، وخضوعا لجلاله وقدرته- إذا كان ذلك مطلوبا من النبي- صلوات الله وسلامه عليه- وهو الذي تنام عينه ولا ينام قلبه عن ذكر ربه- فإن غير النبي أولى بأن يقيم على نفسه من هذا الأمر حارسا يحرسه من أهواء نفسه، ووساوس شيطانه، حتى لا يلهو عن ذكر الله، ولا يقطع الصلة بينه وبين ربه، فتمتد غربته عن ربّه ساعات، أو أياما، أو شهورا، أو سنين!!. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 340 قوله تعالى: «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» .. أي اطلب المغفرة من الله سبحانه وتعالى، لذنبك، ولذنوب المؤمنين والمؤمنات، وذلك فى حال استحضارك ذكر ربك، والإقرار بتفرده بالألوهة.. فإذا كان ذلك، كان طلب المغفرة لذنبك، ولذنوب المؤمنين، طلبا واقعا موقع القبول، لأنه متوجّه به إلى من يملك الأمر كله.. [النبي.. وما ذنبه الذي يستغفر له؟] والسؤال هنا: هل للنبى- صلوات الله وسلامه عليه- ذنوب يطلب لها المغفرة من الله سبحانه وتعالى؟ وكيف يتفق هذا والعصمة الواجبة للنبى؟ والجواب على هذا- والله أعلم- من وجهين. فأولا: عصمة النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- لا تقطعه بحال أبدا عن البشرية، التي لا تسلم- مهما بلغت من السموّ والكمال- من عوارض الخطأ، والتقصير، وذلك كشاهد على بشريّتها. وما يقع من الأنبياء والرسل من خطأ وتقصير، هو من الهنات التي تمدّ حسنات إذا صدرت من غيرهم.. ومثل هذه الهنات لا تجور على عصمة النبىّ، فإنه- مع هذه الهنات- لا يزال على قمة الإنسانية فى أكرم صفاتها، وأنبل أخلاقها.. وقد استغفر كثير من الأنبياء من ذنوب سجلها القرآن الكريم عليهم.. كما فى قوله تعالى عن داود عليه السلام: «وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ، فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ» (34: ص) . وكسليمان- عليه السلام- إذ يقول سبحانه: «وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ» (144: الصافات) .. ويونس عليه السلام: «فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» (144: الصافات) .. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 341 وإبراهيم أبو الأنبياء، عليه السلام، يقول عن نفسه: «وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ» (82: الشعراء) .. فكل ابن آدم خطّاء، وخير الخطائين التوابون.. والأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- أبناء آدم.. وأخطاؤهم هى أخطاء على حدود الكمال المطلق، الذي لا تطوله يد بشر! وثانيا: أن فى دعوة النبي- صلوات الله وسلامه عليه- إلى الاستغفار لذنبه، إشارة إلى أن الإنسان مهما كان أمره من الإيمان والتقوى، لا يبلغ أبدا غاية الكمال المطلق.. فإنه كلما حثّ الخطا إلى هذا الكمال ارتفع صعدا فى منازله، ووجد منازل لا تنتهى.. وذكر الله، واستغفاره، يبعت فى شعور الذاكر المستغفر، أنه بين يدى الله الذي لا إله إلا هو، وأنه فى حضرة من يعلم السرّ وأخفى، فتأخذه لذلك خشية ورهبة من كل زلة زلها، أو هفوة وقعت منه.. فلا يجد غير الله ملجأ يلجأ إليه، ليغفر له ما كان منه.. «وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ» . (135: آل عمران) . فإذا كان النبي مطالبا بأن يستغفر لذنبه، فكيف حالنا نحن؟ وكيف بما نحمل من أوزار لا تستقلّ بحملها الجبال؟ ثم كيف بأولئك الذين يحسبون- إن صدقا وإن خداعا- أنهم على هدى، وتقوى من الله.. كيف بهم يخلون أنفسهم من التكاليف الشرعية، بدعوى يدّعونها لأنفسهم، أو يدّعيها لهم غيرهم- بأنهم من الواصلين.. أي الذين وصلوا إلى غاية الكمال، وتحرروا من القيود والحدود، وفنوا فى المطلق؟ إن من يفنى فى المطلق لا يكون إنسانا، ولا ينبغى أن يسكن إلى الناس، وأن يسكن إليه الناس..! وقوله تعالى: «وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» معطوف على قوله تعالى «لِذَنْبِكَ» أي استغفر لذنبك، ولذنب المؤمنين والمؤمنات.. وأعيد حرف الجر «اللام» الجزء: 13 ¦ الصفحة: 342 للإشارة إلى أن ذنب النبي غير ذنب المؤمنين والمؤمنات.. وأن ذنب النبي هو- فى باب الفضل والإحسان- عدم تحرّى الأخذ بما هو أفضل وأحسن. وفى اختلاف النظم القرآنى بين قوله تعالى فى شأن النبي: «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» وبين قوله تعالى فى شأن المؤمنين والمؤمنات: «وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» من غير أن يضيف إلى المؤمنين والمؤمنات ذنوبا- فى هذا الاختلاف أكثر من إشارة: فأولا: فى قوله تعالى فى شأن النبي: «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» - إشارة إلى أن ما كان من النبي صلّى الله عليه وسلّم من ذنب، هو معلوم له.. ذلك أن ما يعدّ من الذنب فى مقامه- صلوات الله وسلامه عليه- يشعر به النبي صلّى الله عليه وسلّم بمجرد وقوعه، لأنه شىء مظلم يدخل على هذا الوجود المشرق بنور الحق.. إنه سرعان ما يجد النبي فى نفسه نخسة لهذا الذنب، وسرعان ما يتجه إلى الله سبحانه، طالبا التوبة والمغفرة.. فإذا غفل النبي، عن ذنب وقع منه نبهه الله سبحانه وتعالى إلى ذنبه، وكشف له عنه، فى صورة عالية من الأدب الربانىّ.. ومن هذا عتابه سبحانه وتعالى لنبيه، فيما كان منه حين أعرض عن ابن أم مكنوم، الذي جاء يسأله عن شىء من أمر دينه، على حين كان النبي مشغولا بالحديث إلى جماعة من أشراف قريش، جاءوا يحاجّونه ويجادلونه.. فقال تعالى: «عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى» (1- 3: عبس) . ومن هذا أيضا عتابه سبحانه للنبى، وقد أذن لبعض المنافقين الذين جاءوا يستأذنونه فى التخلف عن الجهاد.. فقال سبحانه: «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ؟» (43: التوبة) . هذا هو مما يرى فى حق النبي ذنبا.. فقوله تعالى: «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» - إشارة إلى ذنب معلوم للنبى، قد علمه بمراجعة نفسه أو بإعلام الله إياه.. وهذا يعنى أن ذنب النبي شىء قليل، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 343 لا يمكن أن تجتمع منه ذنوب.. فهو ذنب قليل، كمّا وكيفا.. وثانيا: فى وقوع فعل الاستغفار على الذنب، فى قوله تعالى: «وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» ، إشارة أخرى، إلى أن هذا الذنب لم يدخل على النبي صلوات الله وسلامه عليه شىء منه، بل ظلت ذاتية النبي فى صفائها ونقائها، وظل هذا الذنب كائنا يحوم بأجنحته حول حمى النبوة، دون أن يقدر على اختراق هذا الحمى.. ففى إفراد الذنب، وعزله عن ذنوب المؤمنين- تكريم للنبى، وإعلاء لقدره، وتنويه بمقامه عند ربه، وأنه شىء، وهذا الذنب شىء آخر.. إن هذا الذنب هو الذي يحتاج إلى معالجة، أما النبي الكريم فهو على الصحة والسلامة. وثالثا: فى قوله تعالى: «وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» هو مقابل لذنبك.. فالنبى إذ يستغفر لهذا الذنب الذي كان منه، عليه كذلك أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات الذين هم غرس يده. وإن عمل النبىّ- أيّا كان هذا العمل- هو عمل مبرور.. وإن ما يعمله النبىّ ويحسب عليه من قبيل الذنب.. وعمل مبرور كذلك، وإن لم يستوف غاية البرّ.. شأن عمل النبي هنا، فى هذا شأن المؤمن أو المؤمنة، يتلبسان بالذنوب، ويختلطان بالآثام.. ثم هما- مع ذلك- أقرب إلى الله، وأدنى إلى رحمته ممن لا يؤمنون بالله، ولو لم يواقعوا إثما، أو يفعلوا منكرا.. فكما أن الإيمان يحمى المؤمن من غائلة المعاصي، التي تقع منه، وذلك بأن يتوب إلى الله فيتوب الله عليه، ويستغفر لذنوبه فيغفر الله له.. على حين أن غير المؤمن لا يقبل منه عمل أبدا- كذلك النبوّة تحمى النبىّ من أن يعلق به ذنب، أو تتحكك بحماه معصية.. إن ذنبه طاهر أشبه بطهر المؤمن أو المؤمنة. - الجزء: 13 ¦ الصفحة: 344 وكما يرى النبىّ المؤمنين أو المؤمنات فى حاجة إلى تطهير مما علق بهم من خطايا وآثام، كذلك يرى بعض أعماله التي تعدّ عليه ذنبا- فى حاجة إلى تعديل وتقويم وإن كان وجهها قائما على قبلة الحقّ، آخذا سمت العدل والإحسان.. ورابعا: استغفار النبىّ لذنبه.. استغفار لذات محدّدة معروفة، هى هذا الذنب، «اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ» .. أما استغفاره- صلوات الله وسلامه عليه- للمؤمنين والمؤمنات، فهو استغفار لتلك الذوات.. ذوات المؤمنين والمؤمنات.. وما تلبس بها من ذنوب، وهذا يعنى: أولا: أن النبىّ إذ يستغفر لذنبه، إنما يستغفر لذنب غفره له الله سبحانه وتعالى، من قبل أن يقع منه، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» (2: الفتح) وقوله سبحانه: «وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ» (2- 3 الانشراح) .. فالاستغفار هنا استغفار حمد وشكر، كما يشير إلى ذلك النبىّ الكريم، وقد سئل، كيف يجهد نفسه فى قيام الليل حتى تورمت قدماه، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فيقول صلوات الله وسلامه عليه: «افلا أكون عبدا شكورا» . ثانيا: أن استغفاره صلى الله عليه وسلم.. وللمؤمنين المؤمنات.. ذواتا وذنوبا، هو بركة، ورحمة، تتنزل عليهم، فتشيع فى قلوبهم السكينة، وتجلى عن أبصارهم غواشى الجهل والضلال.. فيثوب العاصي، ويهتدى الضال، ويزداد الذين اهتدوا هدى.. فاستغفار النبىّ للمؤمنين والمؤمنات، إنما هو دعاء لهم بالخير والهدى واستدناء لهم من رضا الله وتوفيقه.. وبهذا يكون للمؤمنين والمؤمنات، من الجزء: 13 ¦ الصفحة: 345 هذا الاستغفار، داع خفىّ يدعوهم إلى الله سبحانه، وينهج بهم مناهج الخير والهدى.. لا أنّ هذا الاستغفار من النبىّ للمؤمنين والمؤمنات، يغفر لهم ذنوبهم، ويمحو عنهم سيئاتهم، فإن غفران الذنوب ومحوها إنما يكون بعمل ذاتىّ من الإنسان نفسه بأن يتوب إلى الله ويستغفر لذنبه، كما يقول سبحانه: «وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ» (25: الشورى) . وكما يقول جل شأنه: «ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً» (110: النساء) أو بأن يعمل المرء عملا صالحا، فيكون ذلك العمل الصالح طهرة من العمل السيء، كما يقول سبحانه: «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» (114: هود) أو أن يكون ذلك بفضل من الله ونعمة. وهذا الذي ذهبنا إليه من أن استغفار النبىّ للمؤمنين والمؤمنات، لا يكفر عنهم ذنوبهم، وإنما يمدّهم بأمداد الهدى والاستقامة- هذا الذي ذهبنا إليه، هو ما يتفق وروح الشريعة الإسلامية، التي تحترم الإنسان، وتعلى ذاته، وتجعل إليه وجوده كله، من غير قوامة عليه من أحد.. فهو بهذا الوضع إنسان يحمل المسئولية كاملة، ماله، وما عليه.. ولو كان استغفار النبىّ للمؤمنين والمؤمنات مكفّرا عنهم سيئاتهم غافرا لذنوبهم وآثامهم.. لكان من هذا داعية إلى المؤمنين والمؤمنات إلى إخلاء أنفسهم من المسئولية، ولما كان للإساءة حساب عندهم، إذ كان هناك من يستغفر لهم، ويحمل عنهم ذنوبهم! ومن جهة أخرى، فإنه لو كان معنى استغفار النبي للمؤمنين والمؤمنات، هو طلب المغفرة لذنوبهم، لكان ذلك أمرا مقضيّا للنبى عند ربّه، ولغفر الله سبحانه وتعالى ذنوب المؤمنين والمؤمنات جميعا، لانه دعاء من النبىّ، وكل دعاء من النبىّ إلى ربّه، هو دعاء مستجاب، لا يتخلف أبدا.. وقد رأيت ما يقضى إليه غفران ذنوب كل مؤمن ومؤمنة، من غير عمل منهم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 346 واستمع بعد هذا إلى قوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ» (103: التوبة) .. ففى هذه الآية الكريمة، ترى المؤمنين فى مقام الإحسان، وهم يؤدون زكاة أموالهم إلى النبي، فيقبلها النبي منهم، فيكون لهم من هذه الزكاة طهرة لأنفسهم، وزكاة لأموالهم: «تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها» .. فإن زكاتهم تلك التي أخذها النبي منهم، يردّها عليهم طهرا لأنفسهم، ونماء لأموالهم.. فهذا إحسان إليهم، فى مقابل إحسان منهم و: «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ؟» (60: الرحمن) .. ثم بعد مقابلة هذا الإحسان بإحسان، دعا الله سبحانه وتعالى نبيه الكريم إلى أن يضيف إلى هذا الإحسان إحسانا، فضلا وكرما من الله سبحانه، وذلك بأن يصلى النبي على هؤلاء المتصدقين: «وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ» فهذه الصلاة، من النبي على المتصدقين، هى سكن لهم، واطمئنان لقلوبهم، وزاد من الإيمان يثبت أقدامهم على الخير، ويفتح أبصارهم إلى مواقع الإحسان.. أما غفران ذنوبهم- كلها أو بعضها- فهو موكول إلى الله، وبما يقدمون لله سبحانه وتعالى من طاعات وقربات.. «وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ» الآيات: (20- 30) [سورة محمد (47) : الآيات 20 الى 30] وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 347 التفسير: قوله تعالى: «وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ» . هذه لفتة من القرآن الكريم إلى مواقع المسلمين، ونظرة ينظر بها إلى مجتمعهم الذي أصبح يضم كثيرا من الجماعات. لقد كان القرآن الكريم منذ يوم نزل على النبي، وهو فى مواجهة دائمة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 348 للمشركين، يدعوهم إليه، ويقيم لهم معالم الطريق إلى الله، ويفنّد أباطيلهم، ويفضح سفههم.. وقد قطعت الرسالة الإسلامية إلى يوم نزول هذه السورة- سورة محمد- (وهى مدنية) - شوطا بعيدا على الطريق إلى غايتها، ودخل كثير من الناس فى دين الله، فكان من تدبير الحكيم العليم أن يلفت المسلمين إلى أنفسهم، وإلى أن يكتشفوا مواقع القوة والضعف منهم.. فهم ليسوا على حال واحدة من السلامة والعافية فى دينهم، وإن من الخير لهم- وهم على الطريق- أن ينظروا إلى أنفسهم، وألا يشغلهم النظر الدائم إلى عدوهم، عن النظر إلى أنفسهم، فإنه من الغبن والظلم معا، أن يرعى الإنسان غيره ويهمل نفسه، ففى ذلك تضييع للراعى ولمن يرعاه جميعا.. وقوله تعالى: «وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ» - إشارة إلى تطلع أنظار المؤمنين، إلى آيات الله، وتعلق قلوبهم بما ينزل من وحي السماء.. فهم على شوق دائم بهذا النور الذي ينزل من السماء، فإذا أمسك الوحى عنهم قليلا، هفت قلوبهم إليه، وشاقهم الحنين له، وباتوا يتمنون على الله أن ينزّل عليهم سورة! «لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ» !! فلولا هنا استفهام يراد به الرجاء والتمني.. هذا هو موقف المؤمنين من آيات الله.. يرصدون منازلها، ويشدّون قلوبهم وعقولهم إلى مطالعها، وينتظرون فى لهف وشوق هطول غيوثها.. أما من فى قلوبهم مرض من المؤمنين- فإن لهم مع آيات الله موقفا غير هذا الموقف، وشأنا غير هذا الشأن.. وقوله تعالى: «فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 349 إن مقام القول سهل ميسور، ومجال الكلام واسع فسيح.. وإن وضع القول على محكّ العمل، هو الذي يكشف عن معدنه، وما فيه من صدق أو كذب، وحق أو باطل، وصحيح أو زلف. فهذه السورة التي كان يتمناها المؤمنون، قد نزلت إليهم، وهى سورة محكمة، أي محددة المعنى، محكمة المفهوم، لا مجال فيها لتأويل، أو تخريج.. إنها على مفهوم واحد لا اختلاف فيه.. ولكن هذه السورة المحكمة تحمل إلى المسلمين ابتلاء واختبارا.. إنها تدعوهم إلى الجهاد فى سبيل الله، وإلى القتال والقتل فى سبيل الله.. وهنا تختلف بالمؤمنين مواقفهم من هذه السورة المحكمة، التي تحمل دعوة إلى الجهاد فى سبيل الله.. فأما المؤمنون الصادقون، الذين أخلصوا دينهم لله، فهم يستبشرون بما تلقوا من آيات الله، إذ يتلقون الأمر الصادر إليهم منها بالرضا والقبول.. وأما الذين فى قلوبهم مرض، فيأحذهم لهذا الأمر همّ ثقيل، إنهم يتمثلون فى تلك الحالة النبي صلى الله عليه وسلّم، وهو على رأس المؤمنين، يقودهم إلى الجهاد فى سبيل الله، فيتمثل لهم أنهم فى هذا الجيش الذاهب إلى ميدان القتال، وتتمثل لهم مصارعهم هناك، فيغشاهم لذلك ما يغشى الميت ساعة احتضاره.. إن آيات التي الله تنزل من السماء ليست أناشيد تردد، ولا مزامير ترتّل، ولكنها رسول هداية، ودليل خير، وقائد يقود إلى العمل فى مواقع الحق والخير، وداع يدعو إلى البدل، والتضحية والفداء.. وفى الآية الكريمة، إشارة كاشفة إلى أول عرض من أعراض النفاق، وأول سحابة تطلع فى سماء المؤمن من سحبه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 350 فقد يكون المؤمن على درجة من الإيمان.. فهو يؤمن بالله، وبكتاب الله وبرسول الله، وباليوم الآخر.. ولكن فى مجال الامتحان، تضمر هذه المعاني فى نفسه، وتخفّ موازينها فى كيانه.. وهذا من شأنه- إن تمكن فى قلب المؤمن- أن يذهب بإيمانه كلّه.. إن الإيمان ولاء مطلق.. فى السّرّاء والضرّاء، فى الرخاء والشدة.. أما الإيمان فى حال الميسرة والرخاء، والجزع والتشكك، أو التردد فى، حال الشدة والبلاء- فذلك هو الطريق إلى النفاق والكفر. وهذا أول مرض تكشف عنه الآية الكريمة فى نظرتها الأولى إلى الجماعة الإسلامية.. إنها أرت المسلمين بعضا من أنفسهم، وإن بهم خللا ينبغى أن يعالجوه فيما بينهم، وأن يتلافوه قبل أن يستفحل ويعظم، وتتولد منه مواليد كثيرة من المنافقين، الذين يكونون حربا خفية على المسلمين. وقوله تعالى: «فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ» - هو دعوة من الله سبحانه وتعالى إلى هؤلاء المؤمنين، الذين عرفوا أن فى قلوبهم مرضا، وذلك لما وجدوا فى أنفسهم من ضيق وهمّ، حين استمعوا إلى آيات الله التي تنزلت على النبي، داعية إلى القتال- هو دعوة من الله سبحانه إلى هؤلاء المؤمنين، أن يغيروا ما بأنفسهم، وأن يصححوا إيمانهم بالله، وأن يكونوا على ولاء مطلق لله، فيسمعوا، ويطيعوا، على المكره والمنشط.. فذلك هو الذي يمسك عليهم إيمانهم بالله، وفى هذا سلامة لهم، وصلاح لأمرهم فى الدنيا والآخرة جميعا.. هذا، وقد جاءت الجملة الخبرية: «فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ» - جاءت وأحد جزميها (المبتدأ) فى آية والجزء الآخر (الخبر) فى آية أخرى. فما سرّ هذا؟ أو ما بعض سره؟ يقول المفسرون، وعلماء البيان: إن ذلك لمراعاة الفاصلة القرآنية.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 351 فقوله تعالى: «فَأَوْلى لَهُمْ» هو فاصلة الآية، لتتسق مع فواصل الآيات فى هذه السورة، وهى تعتمد على اللام، والهاء، الميم: «لَهُمْ» أو الهاء والميم: «هم» أو الميم الساكنة وحدها.. مثل «أَعْمالَهُمْ» .. «بالَهُمْ» .. «أَمْثالَهُمْ» ... ومثل: «تَقْواهُمْ» .. «ذِكْراهُمْ» ومثل «مَثْواكُمْ» ... وهذا قول لا يستقيم مع إعجاز القرآن، ومع أوضح وجه من وجوه إعجازه، وهو النظم.. فهذا النظم، لكى يكون معجزا، ينبغى أن يعلو على حكم الضرورات، التي تتحكم فى أعمال البشر.. والقول بأن الوقوف بالآية عند قوله تعالى: «فَأَوْلى لَهُمْ» كان لرعاية الفاصلة- هو قول بإخضاع القرآن لحكم الضرورة، وعجزه عن أن يخرج من قيدها.. إنه لا بد أن يكون لهذا سر، بل وأسرار، ليس منها هذا الذي يقال، عن الفاصلة ورعايتها.. فما السر؟ وما بعض السر؟ نقول- والله أعلم-: إن هذا الفصل بين المبتدأ والخبر، مقصور قصدا من القرآن الكريم، وأنه بغير هذا الفصل لا يتحقق المعنى كاملا كما قصد إليه القرآن.. فالله سبحانه وتعالى، يلفت المؤمنين الذين فى قلوبهم مرض، إلى هذا المرض الذي اندس فى قلوبهم، ولا يكادون يعرفون أنهم مصابون به.. ولكن بعد أن نزلت السورة المحكمة التي تحمل أمرا محكما بالقتال- عرف الذين فى قلوبهم مرض، أن فى قلوبهم مرضا، لما عراهم من تلك الأوصاف التي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 352 وصفت بها الآية، من كان فى قلوبهم مرض.. «رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ» .. وفى قوله تعالى: «فَأَوْلى لَهُمْ» دعوة إلى هؤلاء المؤمنين الذين فى قلوبهم مرض- دعوة لهم إلى ما هو أولى وأوفق بهم أن يفعلوه فى هذا الموقف.. فإن كلمة «فَأَوْلى لَهُمْ» ، تعنى أن هناك انحرافا لا يصحّ للإنسان أن يظل فيه، وأن هناك ما هو أولى به، وأحق من هذا الموقف.. وهذا يعنى: أولا: أنهم على غير الطريق السوىّ، الذي ينبغى أن يكون عليه المؤمن.. وأنه من الخير لهم أن يعيّروا من وضعهم هذا الذي هم فيه.. وثانيا: أنهم- وهم مؤمنون- مطلوب منهم أن يكشفوا عن الآفات التي تعرض لهم، وتحاول أن تفسد عليهم إيمانهم، لأنهم أولى الناس وأجدرهم بأن يكونوا على الصحة والسلامة.. إنهم مؤمنون بالله، وإن المؤمن ليبلغ به إيمانه أقصى درجات الكمال البشرىّ، إذا هو كان على نية مخلصة، صادقة، وعلى وعى وإدراك للحقائق الدينية التي آمن بها.. وهنا سؤال: أين خبر المبتدأ: «فأولى لهم» ؟ هذا ما أراد النظم القرآنى أن يكون مثار بحث وتفكير.. حتى إذا أخذ العقل طريقه للبحث عن هذا الخبر، ثم اهتدى إليه، أو هدى إليه- كان له فى النفس موقعه الذي يحقق له وجودا ذاتيا متمكنا، فى إدراك الإنسان وشعوره.. ومرة أخرى.. أين خبر المبتدأ؟ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 353 إن كلمة «فَأَوْلى لَهُمْ» تشير إلى أن المخاطبين بهذا فى وضع غير صحيح مع إيمانهم.. وأنه من الأولى لهم أن يتحولوا عما هم عليه، وأن يتبدّلوا بحالهم حالا أحسن، وأجمل.. فما هى تلك الحال؟ قد تكون التوبة إلى الله، والاستغفار لما كان منهم من استقبال سيى لآيات الله المحكمات.. وقد تكون بالعمل الفورىّ، بطلب الجهاد فى سبيل الله، والغزو فى أي وجه يوجههم إليه الرسول.. وقد تكون، وتكون.. مما يراه المؤمن مصححا لإيمانه، بعد أن كشفت الآية عن ضعف هذا الإيمان.. وذلك على نحو ما فى قوله: «أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى» (34، 35: القيامة) . حيث جاء المبتدأ ولا خبر له! فهذه الحال التي يرى المؤمن التحول إليها ليصحح إيمانه- هذه الحال هى خبر المبتدأ.. أي فأولى لهم أن يرجعوا إلى الله، أو فأولى لهم أن يتلقّوا آيات الله سبحانه بالحفاوة والتكريم والولاء.. أما قوله تعالى: «طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ» .. فهو الدواء الذي تقدّمه السماء لأولئك المؤمنين، الذين يريدون أن يصححوا إيمانهم.. وهو خبر المبتدأ، الذي طلع من أفق جديد، فى سماء آية جديدة.. فإذا التقى به المؤمن بعد هذا ترك جميع الخواطر التي طرفته، وجاء إلى هذا الدواء السماوي الذي حملته الجزء: 13 ¦ الصفحة: 354 الآية الكريمة، ليكون الخبر الذي طال البحث عنه.. إن الخبر الصحيح للمبتدأ هو: «طاعة وقول معروف» .. وهو الذي يجمع فى كيانه كل ما وقع فى خاطر الإنسان، وهو يبحث عن الطريق التي يقيم عليها إيمانه، ويسلك به المسلك الذي هو الذي هو أولى بالمؤمن..! فالطاعة المطلقة، والولاء الخالص، والتسليم الكامل، هى الإيمان فى صميمه.. وإنه لا إيمان فى شىء، أو بشىء، إلا إذا سكن هذا الشيء فى ضمير الإنسان واستقر فى وجدانه، وخالط مشاعره، وملأ عليه وجوده.. ومن هنا يكون الولاء والتسليم، والطاعة.. ومن هنا أيضا، كان من أول مبادئ الإسلام التي قامت عليها دعوته، هو أنه: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» .. إذ لا يتفق الولاء والتسليم والطاعة مع الإكراه.. ونودّ أن تنظر بنفسك فى وجه الآية الكريمة على هذا المفهوم الذي فهمناها عليه.. فلعلك ترى هذا الذي رأيناه، أو يفتح الله سبحانه وتعالى لك أبوابا من المعرفة تطّلع منها على ما لا حصر له من الأسرار.. «فَأَوْلى لَهُمْ.. طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ» . إننا نرى- والله أعلم- أن الوقوف على فاصلة الآية، هو وقوف محمود، إن لم يكن لازما!!. فهات رأيك، أو خذ بما رأينا! قوله تعالى: «فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ» .. هو تعقيب شارح لقوله تعالى: «طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ» .. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 355 أي أن الأولى بالمؤمنين، هو الطاعة المطلقة، لما تدعو إليه آيات الله، وهو القول المعروف، أي الحسن الذي يلقى المؤمنون به ما يتنزل عليه من تلك الآيات- فهذا عمل باللسان.. يكشف به ليؤمن عن ظاهره.. فإذا جاء وقت الابتلاء والاختبار، استكمل المؤمن إيمانه، بأن يجعل هذا الكلام الذي نطق به اللسان، وكشف به عن ظاهر حسن له- أن يجعل هذا الكلام عملا واقعا، وأن يصدّق فعله قوله.. فإن قولا لا يصدّقه الفعل، هو باب من أبواب النفاق.. فقوله تعالى: «فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ» أي إذا جاء وقت الابتلاء، وهو الجهاد، الذي أمر الله به المؤمنين، أصبح هذا الأمر عزيمة لا يجوز للمؤمن أن يترخّص فيها، أو ينكل عنها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ» أي فإذا جاء أوان الجهاد نكشفت على محكّه حقيقة الإيمان، وظهر الصادقون والكاذبون، فلو أن هؤلاء المؤمنين صدقوا الله فيما أعطوا من إقرار بالإيمان به، وجاهدوا فى سبيله- لو أنهم فعلوا ذلك لكان خيرا لهم.. فالفاء فى قوله تعالى: «فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ» هى للتفريع، والتعقيب على كلام محذوف، هو جواب «إذا» فى قوله تعالى: «فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ» -، أي فإذا عزم الأمر انكشفت أحوال المؤمنين وأقوالهم، وظهر الصادق والكاذب.. فلو صدق هؤلاء المتخلّفون، أو الذين تحدّثهم أنفسهم بالتخلف- لو صدقوا الله وجاهدوا، لكان خيرا لهم.. ويلاحظ فى نظم الآية الكريمة، أنها لم تأخذ الخط الطبيعي الذي تقوم عليه العلاقات بين الكلمات، والترابط بين أجزاء العبارات والجمل.. كما الجزء: 13 ¦ الصفحة: 356 رأينا ذلك فى الفصل بين المبتدأ والخبر فى قوله تعالى: «فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ» وكما رأيناه فى هذا التدافع بين أداتي الشرط: إذا، ولو.. وقد كشفنا عن بعض السر فى هذا، وما يحمل هذا النظم الذي جاءت عليه الآية الكريمة من معان لا يمكن أن يستقلّ بها نظم آخر، على أي وجه كان من وجوه النظم، غير هذا النظم القرآنى.. ولكن الذي نريد أن نشير إليه بتلك الملاحظة، هو أن هذا النظم الذي جاءت عليه الآية الكريمة- بصرف النظر عن المعاني التي يحملها فى فى كيانه- هذا النظم يمثل فى صورته اللفظية، من تقطّع، وتوقّف، وتدافع، ما تكون عليه أحوال المؤمنين الذين لم يدخل الإيمان فى قلوبهم دخولا متمكمنا- من اضطراب، وخلخلة، وتردد، وتدافع بين مختلف العواطف، حين يدعى هؤلاء المؤمنون إلى الجهاد، وقد عزم الأمر، وجدّ الجد! فجاء النظم على صورة هذه المشاعر، يفرقها، ويجمعها، كما تتفرق وتجمع فى هذا المقام! .. فسبحان من هذا كلامه.. سبحانه.. عدد كلماته. قوله تعالى: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ» .. هو بيان للحال التي سينتهى إليها أمر هؤلاء المؤمنين، الذين فى قلوبهم مرض، وهو أنهم إذا لم يستجيبوا لدعوة الله سبحانه وتعالى لهم، ولم يسمعوا ويطيعوا، ويجاهدوا فى سبيل الله- فإن هذا سينتهى بهم إلى أخذ طريق الجزء: 13 ¦ الصفحة: 357 غير طريق المؤمنين، ثم يمضى بهم هذا الطريق رويدا رويدا إلى الخروج عن الإيمان، إلى ما كانوا عليه من كفر.. وفى إسناد فعل الرجاء «عسى» إلى هذه الجماعة من المؤمنين، إشارة إلى هذا الأمر الذي وقع عليه الرجاء، وهو الإفساد، وتقطيع الأرحام- وأنهم إنما يرجونه هم لأنفسهم، بتولّيهم، وإعراضهم عن الله.. وهذا لا يكون إلا ممن سفه نفسه، وخان إنسانيته، حتى لقد أصبح ما يتمناه لنفسه، ويرجوه لها، هو هذا الشر الصّراح: الإفساد فى الأرض، وتقطيع الأرحام!. وماذا يكون من شأن من لا يؤمن بالله، ولا يرجو لله وقارا؟ .. أتراه يرى لإنسان حرمة، أو يؤدى لذى رحم حقّا؟ إنه إنسان ضال، سفيه الرأى، غليظ القلب، متلبد الإحساس.. فهل يكون منه غير الإفساد، فى الأرض، وقطع كل سبب طيب يصل بينه وبين الناس، من قريب، أو بعيد.. واختصاص ذوى الأرحام بالذكر هنا- هو إشارة إلى أن هذا الذي تولّى وأعرض عن الإيمان بالله، لا يرجى منه خير لإنسان، ولو كان فيه خير يرجى، لكان ذلك فى أهله، ولما قطع صلة الرحم بينه وبينهم.. والمراد بالتولّى هنا- والله أعلم- هو الإعراض عن الاستجابة لدعوة الله والرسول إلى الجهاد.. قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ» .. هو حكم صادر على هؤلاء الذين دعوا إلى الايمان- قولا وعملا- الجزء: 13 ¦ الصفحة: 358 فأعرضوا، وتولّوا.. ثم مضوا على غير طريق الإيمان، فإذا هم فى الكافرين.. فهؤلاء قد لعنهم الله، فأصابهم بالصمم والعمى، فلم يسمعوا كلمة خير، ولم يروا طريق هدى.. وانظر: لقد كان هؤلاء المؤمنون فى موقف خطاب من ربّ العزة جلّ وعلا فى قوله تعالى: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ» - كانوا هنا فى موقف الخطاب، لأنهم كانوا فى جماعة المؤمنين، وكانت الدعوة إليهم ليصححوا إيمانهم، وليأخذوا السبيل التي يأخذها المؤمنون الصادقون.. أمّا هنا، فى قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ» فإنهم الآن بعد حكم صدر عليهم- وهو أنهم يولّون وجوههم إلى طريق آخر غير طريق الإسلام- فقذف بهم بعيدا عن هذا الموطن الكريم الذي كانوا فيه بين المؤمنين، ثم أتبعوا بهذا الحكم الذي يأخذ طريقه معهم إلى حيث انتهى بهم المطاف: «أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ، فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ» .. قوله تعالى: «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها» . هو سؤال يتردد فى صدور من ينظرون إلى هؤلاء الذين كانوا على طريق الإيمان، ثم لم يلبثوا أن انحرفوا عنه، وضلوا سواء السبيل.. ثم ألقى بهم بعيدا عن دائرة المؤمنين.. فكل من كان بمشهد منهم من المؤمنين، يسأل هذا السؤال: ما بال هؤلاء الأشقياء، قد ألقوا بأنفسهم فى مواقع الهلاك، وقد كانت آيات الله بين أيديهم؟ أمع آيات الله يكون عمى وضلال؟ وكيف وهى صبح مشرق، ونور مبين؟ .. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 359 أمران لا ثالث لهما، هما العلة التي جاء منها هذا البلاء الذي حلّ بهؤلاء الأشقياء المناكيد.. إما لأنهم لم يتدبروا القرآن، ولم يحسنوا الإصغاء إليه، والاتصال به، والأخذ عنه.. وإما لأنهم تدبروا وأصغوا، وحاولوا أن يتصلوا بالقرآن، ولكن كانت قلوبهم مغلقة، ومختوما عليها، فلا ينفذ إليها شعاع من هدى أبدا.. وسواء أكان هذا أو ذاك، فإن الداء منهم، وفيهم.. وليس من آيات الله، ولا فى آيات الله.. فما فى آيات الله هدى، وحق ونور.. وهذا مثل قوله تعالى: «أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ» (68: المؤمنون) .. ولا يصحّ أن يكون الاستفهام فى قوله تعالى: «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ» للتحضيض، يمعنى هلّا، لأن التحضيض إنما يكون لمن يرجى منه إتيان ما يحضّ عليه، وهؤلاء قد سبق الحكم عليهم بأن الله قد لعنهم فأصمهم وأعمى أبصارهم.. فكيف يدعون بعد هذا إلى تدبر القرآن؟ وفى قوله تعالى: «أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها» - جاء النظم على خلاف الظاهر، وهو أن يجىء هكذا مثلا: أم على قلوبهم أقفال.. وبذلك يتحقق إضافة هذه القلوب إلى أهلها، ونسبتها إلى أصحابها، هؤلاء الذين لم يتدبروا القرآن.. فما سرّ هذا النظم القرآنى؟ نقول- والله أعلم-: إن من بعض أسرار هذا النظم: أولا: فصل هذه القلوب عن أصحابها، وذلك يحقق للقلوب وجودا ذاتيا مستقبلا، فتقوم مقام أصحابها، وهذا يعنى أن القلب هو الإنسان مختصرا، وأنه السلطان القائم على كيان الإنسان، فإذا أفسد القلب فسد الإنسان، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 360 وإذا صلح القلب، صلح الإنسان.. وهذا ما يشير إليه الرسول الكريم- صلوات الله وسلامه عليه، فى قوله: «ألا وإن فى الجسد مضغة وإذا صالحات صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهى القلب» وثانيا: تنكير هذه القلوب، وفى هذا التنكير، إشارة إلى أنها قلوب فاسدة، لا يقام لها وزن بين القلوب السليمة، فهى- والحال كذلك- قلوب- مجرد قلوب- فى صورتها اللحمية، أما فى حقيقتها، فهى هواء، وهباء! وثالثا: فى إضافة الأقفال إلى القلوب «أَقْفالُها» - إشارة أخرى إلى أن لهذه القلوب أقفالا خاصة بها، مقدرة بقدرها.. فلكل قلب قفله الذي يلائمه.. قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى.. الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ» سوّل لهم: أي زين لهم الضلال، وأصله من السّؤل، وهو ما يسأل الإنسان غيره لتحقيقه، «قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى» .. وسوّل لهم الشيطان: أجاب سؤلهم بالخداع والتضليل.. وأملى لهم: أي مدّلهم فى حبال الأمل والرجاء فيما يمنّيهم به.. والآية ترجم أولئك الذين كانوا قد دخلوا فى الإيمان، ثم لم يحتملوا تبعاته، فعادوا إلى الكفر. ترجمهم الآية بهذه الرجوم والصواعق، التي تصبّ عليهم لعنة الله، وتجمع بينهم وبين الشيطان على مودة وإخاء!! وفى ارتدادهم على الأدبار إشارة إلى أنهم كانوا على الإسلام، وأنهم إذ يولّون وجوههم إلى المسلمين، يرجعون إلى الوراء شيئا فشيئا، على أدبارهم، على الجزء: 13 ¦ الصفحة: 361 حين أنهم كانوا يواجهون المسلمين.. ثم ما زالوا كذلك حتى بعدت الشّقّة بينهم وبين المسلمين، وانقطعت بينهم الأسباب.. فهم ينظرون إلى المسلمين، ويحسبون أنفسهم عليهم، ولكنهم- فى الوقت نفسه- يأخذون طريقا بعيدا عنهم، يسيرون فيه فى وضع مقلوب- على أعقابهم، فلا يدرون إلى أين تتجه بهم خطواتهم العمياء!! قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ» الذين كرهوا ما نزّل الله: هم اليهود، يقول الله سبحانه: «ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ» (105: البقرة) .. والذين قالوا، هم هؤلاء الذين نحولوا من الإيمان إلى النفاق، مرتدّين على أدبارهم.. والذي قالوه هو قولهم: «سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ» .. أي أنه التقى هؤلاء المنافقون مع اليهود لقاء الأولياء، تقدّموا إلى اليهود يعرضون عليهم أن يكونوا من ورائهم فى حربهم مع المسلمين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ» (11: الحشر) هكذا كان موقف المنافقين من النبي والمسلمين بعد غزوة الخندق (الأحزاب) وكان على رأس المنافقين عبد الله بن أبى بن سلول، الذي خذّل الناس عن القتال يوم أحد.. فلما أن ردّ الله الأحزاب على أعقابهم خاسرين، التفت رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى اليهود الذين كانوا قد حزبوا الأحزاب على رسول الله، وتحالفوا مع المشركين على أن يكونوا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 362 لهم ظهرا إذا التحم القتال. إن اليهود إذا ظلوا فى المدينة على ما هم عليه من كفر وحسد، أفسدوا على المسلمين أمرهم، وأوقعوا الفتنة بينهم إن هم عجزوا عن جلب الفتن إليهم من الخارج.. فكان أن ندب النبي المسلمين إلى حربهم، وألا يلقوا سلاحهم الذي كانوا يواجهون به الأحزاب.. فقال صلى الله عليه وسلم: «من كان سامعا مطيعا فلا يصلينّ العصر إلا فى بنى قريظة» وهناك حاصرهم النبي والمسلمون، ثم استسلموا لحكم النبي فيهم.. وفى أثناء الحصار الذي ضربه النبي والمسلمون على بنى قريظة، كان كثير من المنافقين يبعث إلى اليهود أن يثبتوا فى حصونهم، وألا يستسلموا، وألّا يخرجوا من ديارهم.. وأن النبي لو أخرجهم لخرج المنافقون معهم، احتجاجا على إخراج اليهود من المدينة، ولن يسمعوا لأحد قولا يفرق به بين اليهود وبينهم، وأن النبي والمسلمين لو قاتلوا اليهود، لكان هؤلاء المنافقون مقاتلين معهم.. وهكذا منّى المشركون إخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب- منوهم هذه الأمانى الكاذبة، التي فضحها الله سبحانه وفضح أهلها، فقال تعالى: «وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ» (11- 12: الحشر) قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ» أي ما أسرّ به المنافقون واليهود، بعضهم إلى بعض، وسيجزيهم عليه جزاء وفاقا.. قوله تعالى: «فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ» . الفاء هنا للتفريع على كلام سابق مقدّر، وتقديره: لقد كان جزاء هؤلاء الجزء: 13 ¦ الصفحة: 363 المنافقين السوء والخزي فى الدنيا، وأنهم إذا كانوا قد احتملوا السوء والخزي فى حياتهم، فكيف يكون حالهم إذا توفتهم الملائكة، وأخذوهم صفعا على وجوههم، ور كلا على أدبارهم؟ أيحتملون هذا البلاء، الذي يدفع بهم إلى جهنم، ويلقى بهم فى سعيرها؟. فالاستفهام هنا لتهويل العذاب الأخروىّ الواقع بهؤلاء المنافقين، وأنه عذاب لا يحتمل، وإنه لمن العجب أن يرى هؤلاء المنافقون فى النار، وفيهم أثر للحياة. وهذا مثل قوله تعالى: «فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ» . وقوله تعالى: «يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ» جملة حالية، من الملائكة، أي يتوفونهم وهم يضربون وجوههم وأدبارهم.. أي يضرنهم من أمام، إذا أقبلوا، ويضربونهم من خلف، إذا أدبروا.. قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ» . الإشارة هنا إلى هذا الذي يلقاه المنافقون، من السوء والخزي فى الدنيا، والعذاب والنكال فى الآخرة، وأن ذلك إنما هو بسبب زيغهم وانحرافهم عن الطريق المستقيم، واتباعهم ما أسخط الله، وأغضبه، وأوجب لعنته، بما أتوا من منكر القول، والعمل. وقوله تعالى: «فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى لم يقبل منهم عملا، حتى ولو كان مما يحسب فى الأعمال الصالحة للمؤمنين، لأنهم غير مؤمنين بالله، والإيمان بالله شرط أول فى قبول العمل! قوله تعالى: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 364 أي أوقع فى ظن هؤلاء المنافقين الذين فى قلوبهم مرض، أن الله تعالى سيستر عليهم نفاقهم، ولا يكشف هذا الخبث الذي دسّوه فى قلوبهم، والذي تغلى مراجله فى صدورهم، ضغنا على النبي والمؤمنين، وشنآنا لهم، وكيدا ومكرا بهم؟ - أحسب هؤلاء المنافقون أن يظل نفاقهم مستورا، دون أن يفضحه الله ويفضحهم به على أعين الناس؟ إبهم لواهمون، مخدوعون، بما يصور لهم هذا الوهم.. وقوله تعالى: «أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ» - أي لن يبدى هذه الأضغان، ويكشفها، فتظهر لأعين الناس، بعد أن كانت مخبوءة فى الصدور.. قوله تعالى: «وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ» . هو معطوف على محذوف يقدر جوابا على الاستفهام الواقع فى قوله تعالى: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ» .. أي أن ذلك ظنّ باطل منهم، وأن الله سبحانه سيخرج أضغانهم، ويفضحهم بها على الملأ، وأنه سبحانه لو شاء أن يسمهم بسمات مادية، بطبعها على وجوههم، فلا يراهم أحد إلا عرف أنهم منافقون- لو شاء الله أن يفعل ذلك بهم لفعله، ولرآهم النبي رأى العين، ولرآهم المسلمون معه.. ولكن الله سبحانه لم نشأ حكمته أن يشاء ذلك، إذ لو أنه حدث لكان فتنة للناس.. وكيف لا يفتن الناس إذا كان ما يسرونه فى أنفسهم، وما يودعونه ضمائرهم، يظهر مجسدا عليهم؟ ثم كيف لا يفتنون إذا فعل أحدهم فعلا قبيحا لم يطلع عليه أحد، ثم إذا هذا الفعل قد لبس صاحبه، وأخذ ينادى فى الناس بهذا المنكر الذي فعله صاحبه؟ كيف يكون حال الناس لو أن هذا كان حادثا فيهم؟ ترى أتحتمل الحياة الإنسانية- فى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 365 طبيعتها البشرية- إفرازات العواطف، والنوازع، والمشاعر، واستقبال كل ما هو مختزن فى الضمائر، ومستودع الصدور؟ إنه لو كشف للناس عما طوبت عليه صدورهم، لما جمعتهم جامعة أبدا، ولما التقى أحدهم بالآخر إلا على عداوة، وعدوان.. وفى هذا يقول أبو العتاهية الشاعر: أحسن الله بنا ... أن الخطايا لا تفوح أي أنه لو كان للذنوب التي نقترفها آثارا مادية تعلق بصاحبها، وتكشف للناس أمره، لكان ذلك، ابتلاء عظيما.. ولكن الله أحسن إلينا، إذ عافانا من هذا البلاء. فقوله تعالى: «وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ» - هو خطاب للنبى، وتهديد للمنافقين الذين ظنوا أن الله سبحانه لن يفضح نفاقهم، وينزع عنهم هذا الثوب الزائف الذي لبسوه، وظهروا به فى سمت المؤمنين.. فالله سبحانه وتعالى قادر على أن يخرج نفاق المنافقين من طوايا أنفسهم، وينسج منه وجوها يلبسها هؤلاء المنافقون بدلا من تلك الوجوه الآدمية التي لهم.. فإذا أطلّ أحد المنافقين بوجهه هذا الذي نسجه له الله سبحانه، من نفاقه- قال الناس جميعا: هذا منافق.. ولكن الله سبحانه لم يفعل هذا بالمنافقين، ليكونوا هكذا، فتنة للناس وتقريرا لهم بأنفسهم.. والسيما: السّمة، والعلامة.. وقوله تعالى: «وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ» .. هو معطوف على محذوف، تقديره: وإذ لم يشأ الله تعالى أن يريك- أيها النبي- المنافقين لتعرفهم بسيماهم، فإنه مطلوب منك أيها النبي أن تتعرف إلى المنافقين بنظرك الشخصي، وإنك الجزء: 13 ¦ الصفحة: 366 لتتعرف عليهم، من حديثهم، وما يجرى على ألسنتهم من زور وبهتان.. فإن كلمة الزور تخرج باهتة، عليها مسحة من الخزي والتخاذل.. فوقوع الفعل «تعرف» جوابا لقسم، الأمر الذي أوجب توكيده- إشارة إلى أن هذا الفعل واقع لا محالة، وخاصة إذا كان القسم الواقع عليه، من الله سبحانه.. ولهذا فإن هذه الجملة جملة خبرية، تحدّث عن أمر سيقع مستقبلا على سبيل القطع والتوكيد.. فهذا وعد موثق مؤكد من الله تعالى للنبى الكريم، بأنه سيعرف المنافقين من لحن القول.. والتوثيق والتوكيد لهذا الخبر، لا لإزالة شك من النبي فى تحقيق ما يخبر به من ربه، فإن الرسول الكريم على ثقة وإيمان مطقين بالله، وبقدرة الله.. ولكن توكيد هذا الخبر وتوثيقه، يحمل أكثر من دلالة: فأولا: إلفات النبي- صلوات الله وسلامه عليه- إلفاتا قويا إلى المنافقين. ومراقبتهم مراقبة دائمة، وخاصة فيما يجرى على ألسنتهم من كلام.. وثانيا: أنه إذا اشتبه على النبي أمر فى أحد مرضى القلوب من المسلمين، فلا يدعه معلقا فى حبال هذه الشبهة، بل ينبغى، أن يكشف عنه كشفا دقيقا، بهذا المشير الذي يعرف به أهل النفاق، مما يجرى على ألسنتهم من مقولات.. فإذا كشف هذا الاختبار عن هذا الإنسان أنه منافق، فهو من المنافقين، وإلا كان من المؤمنين، فإنه إذا برىء المؤمن من النفاق فقد سلم له دينه، على أي حال كان عليه.. ولحن القول، هو ما يندسّ فى الكلام من معان خفية، ذات دلالات وإشارات، يعرفها المنافقون فيما بينهم، ويتعاملون بها، وسمى هذا الضرب من الكلام لحنا، لأنه يخرج فى صورة خادعة من النظم، تتماوج فيها المعاني، وتتراقص الكلمات، فتتناغم العبارات، فتخرج أشبه باللحن الموسيقى الذي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 367 يسمع منطوقه، ولا يكاد يعرف مفهومه إلا لأهل العلم فى هذا الباب.. وقد كان للمنافقين من لحن القول هذا، نماذج، كشف القرآن الكريم عن بعض منها، لتكون للنبى وللمؤمنين معلما من معالم الكشف عن نفاق المنافقين، فى لحون أقوالهم.. فيقول سبحانه، عن مقولة من أقوالهم: «وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ، وَراعِنا.. لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ.. وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ» (46: النساء) فهم يقولون: «سَمِعْنا» .. يقولونها جهرة، ثم يتبعونها بقولهم سرا «وَعَصَيْنا» ! أي يعطون النبي تسليما بالسمع، لقد سمعوا ما قال، ويبدو من هذا أنهم مؤمنون، ولكن يضمرون فى أنفسهم، ويحركون على ألسنتهم العصيان لهذا الذي سمعوه.. وهم يقولون للنبى: «اسمع» أي اسمع منا ما نقول لك،.. يقولون ذلك جهرا، ثم يتبعون ذلك بدعاء خفى على النبي: «غير مسمع» أي أصمّ، لا تسمع.. وهو دعاءه أي اسمع.. لا سمعت.. لعنهم الله بما قالوا.. وهم يقولون فيما يقولون من خطابهم للنبى: «راعِنا» أي ارعنا، وانظر إلينا.. ويلوون بها ألسنتهم، فتخرج منطوقة هكذا «راعنا» بالتنوين المدغوم.. وهى من الرعونة، والطيش، يدعون بها على رسول الله.. أي ذا رعونة، مثل لابن، وتمر، أي صاحب لبن وتمر.. وقد رسم الله سبحانه وتعالى صورة سليمة مستقيمة لهذا الكلام السقيم المعوج، فقال تعالى: «وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ..» ومن هذه الأساليب وأمثالها مما ينطق به المنافقون- عرف النبىّ المنافقين، وعزلهم عن المجتمع الإسلامى.. وكان كثير من المؤمنين، يعرفون وجوه المنافقين الجزء: 13 ¦ الصفحة: 368 وجها وجها، ومن هؤلاء الصحابىّ حذيفة بن اليمان، رضى الله عنه.. وقد كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه- بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم- يسأل حذيفة أن ينظر إليه، ليرى إن كان فيه نفاق أم لا.. فيقول: يا حذيفة.. أنت صاحب سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت تعرف المنافقين، وتعهدهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر ما فىّ من النفاق، فعرفنى به، فيقول: يا أمير المؤمنين: لا أعلم فيك نفاقا.. فيقول عمر: انظر ودقق النظر، فيبكى حذيفة ويبكى عمر، رضى الله عنهما.. وقوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ» أي أنه سبحانه، لا يؤاخذ على ما تكنّه الضمائر، وما تخفيه الصدور، ولكنه يؤاخذ على ما يقع من أعمال، إذ هى التي يكون لها آثارها فى الحياة، وفى الناس.. وهذا هو بعض السرّ، فى جعل فاصلة الآية «أَعْمالَكُمْ» على حين جاء فاصلة الآية (26) : «وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ» .. لأن هنا مقاما، وهناك مقاما.. فهنا حساب للمنافقين على جرائمهم التي تقع من أعمالهم، أو أقوالهم، التي تجرى مجرى الأعمال.. وهناك محاسبة للمنافقين على أقوال جرت فى الخفاء بينهم وبين اليهود.. فهى سرّ بالنسبة إلى المؤمنين، لأنه جرى بعيدا عنهم، وقد كشف الله سبحانه هذا السرّ، وفضح أهله،.. فقال سبحانه «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ» .. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 369 الآيات (38- 31) [سورة محمد (47) : الآيات 31 الى 38] وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38) التفسير: قوله تعالى: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ» .. الواو: واو القسم.. والابتلاء: الاختبار.. ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى الآيات السابقة أشارت إلى أن هناك فى المجتمع الإسلامى منافقين، وأصحاب قلوب مرضى، وأن الله سبحانه لو شاء أن يكشف عنهم، ويفضح مستورهم لفعل، إذ لا شىء يصادم إرادته، أو يعطّل مشيئه- ولو شاء سبحانه- لأهلك هؤلاء المنافقين، أو لهداهم إلى الإيمان وقتل هذه الآفات الخبيثة التي ترعى كل نبتة خير فيهم.. ولكنه سبحانه لم يقدّر هذا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 370 ولم يشأه، بل كان مما قضت به حكمته أن يجعل إلى الناس أنفسهم مشيئة عاملة، وإرادة نافذة، وأن يكون لهم بتلك الإرادة، وهذه المشيئة رسالة يؤدونها فى هذه الحياة، وهى إصلاح الفاسد، وإقامة المعوج، ولا يكون ذلك إلا إذا كان فى الناس الفاسدون، والمعوجون.. وهنا يكون الابتلاء والامتحان، وحين يتصادم المصلحون والمفسدون، ويتلاقى المستقيمون والمعوجّون.. فقوله تعالى: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ» - هو خبر مؤكد من الله سبحانه وتعالى إلى المؤمنين بأنهم لم يتركوا هكذا، يتحلون بحلية الإيمان، وينزلون منازل المؤمنين دون أن يوضعوا موضع الامتحان والابتلاء.. فهذا الامتحان هو الذي يكشف عن حقيقة الإيمان فى قلوب المؤمنين، وهل هو إيمان صادق، انشرح به الصدر، واطمأن به القلب، أم هو مجرد صورة من الشارات والمراسم..؟ «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ» (2: العنكبوت) وقوله تعالى: «حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ» .. حتى غاية لهذا الامتحان أو الابتلاء.. بمعنى أنكم أيها المؤمنون واقعون- لا محالة- فى مواقع ابتلاء، وأنكم لن تتركوا حتى تدخلوا فى هذا الابتلاء، وتتجرعوا كؤوسه المرّة، فإن صمدتم فى هذا الابتلاء، وصبرتم على ما تلقون من بأساء وضراء، فقد أثبتم أنكم مؤمنون.. وهذا حسبكم من إيمانكم. وقدم الجهاد على الصبر، لأنه أعم منه.. فقد يكون فى المجاهدين من لا صبر له على الجهاد، فلا يثبت للأعداء إذا رأى الخطر محدقا به، ولا يقدم على القتال والهجوم إذا رأى الموت دانيا منه.. إنه مجاهد فى حواشى المجاهدين، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 371 وفى مؤخرتهم.. ومع هذا فلا يحرم أن يدخل تحت هذه الكلمة، التي تخلع على صاحبها خلعا سنية، من الرضا والرضوان.. وفى هذا دليل على شرف الجهاد، وعلى علوّ منزلة المجاهدين، وأن أقلهم فى الجهاد منزلة، وأبخسهم فى المجاهدين حظا- هو من المجاهدين، الذين لا يحرمون شرف الجند، وثواب المجاهدين.. أما الجهاد الذي يكون معه الصبر، فهو الجهاد الكامل، الذي تم عقده وتوثيقه، بين الله سبحانه، وبين المجاهدين، وفى هذا العقد يقول الله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ.. وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (111: التوبة) . وفى قوله تعالى: «وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ» - إشارة إلى أن الأفعال هى التي عليها المعوّل فى الكشف عن إيمان المؤمنين وصبر الصابرين.. فابتلاء الله سبحانه لأخبار المؤمنين، إنما هو ابتلاء لهم، وتعرف على أحوالهم، من أخبارهم، التي هى حكاية لأعمالهم، وتصوير لها.. وهذا يشير أيضا إلى أن للأعمال آثارها فى الحياة، وفى الناس، وأنها تقع تحت حكم الناس عليها والإخبار عنها بما يرضيهم أو يسخطهم منها.. وهذا يشير مرة أخرى إلى أن المجتمع الإنسانى له وزنه وله قدره، فى الحكم على أعمال الناس، وأن حكمهم على عمل بأنه حسن غير حكمهم عليه بأنه سيء.. فلهذا وزنه، ولذلك وزنه عندهم، وعند الله كذلك.. قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 372 ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ» . هو حديث إلى أولئك المنافقين، مرة أخرى، بعد أن تهددتهم الآيات السابقة بفضح نفاقهم.. فهذا وعيد للمنافقين، الذين يمسكون بما معهم من نفاق.. إنهم كفروا بعد أن آمنوا، وصدّوا أنفسهم عن سبيل الله بعد أن وردوا عليه، وشاقّوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى.. هكذا المنافق، لا تستقيم له على سبيل الإيمان طريق، ولا تثبت له فيه قدم! وقوله تعالى: «لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً» هو خبر عن هؤلاء المنافقين، الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى، أي أنهم بفعلهم هذا، وخروجهم من الإيمان إلى الكفر والنفاق- لن يضر الله شيئا من الضر، كما أن إيمان المؤمنين لن ينفعه شيئا من النفع.. وقوله تعالى: «وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ» أي يفسد تدبيرهم، ولا يقبل لهم أي عمل، ولو كان من الأعمال الحسنة فى ذاتها.. قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ» .. هو دعوة كريمة، والتفاتة رحيمة، من رب كريم رحيم، إلى عباده المؤمنين، وقد طال وقوفهم مع حديث الله سبحانه وتعالى إلى المنافقين، فشاقهم أن أن يسمعوا حديثا من الله سبحانه عنهم.. فناداهم الحق جل وعلا، واستدناهم منه، ثم أسمعهم ما فيه رشدهم، وصلاحهم، وفوزهم.. فى الدنيا والآخرة.. فقال سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.. الآية» الجزء: 13 ¦ الصفحة: 373 «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ» .. «وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ..» فطاعة الله وطاعة الرسول، شرط أول من شروط المؤمن، فإنه لا إيمان بغير طاعة، وتسليم، وانقياد.. وإن عصيان الله وعصيان رسوله، لا يبقى على إيمان، إذ لا يجتمع إيمان وعصيان.. وإذا أخلى الإيمان مكانه من القلوب، لم يبق غير الكفر، وغير بطلان العمل، لمن تبدل الكفر بالإيمان.. فالآية دعوة للمؤمنين أن يحفظوا إيمانهم، ويوثقوه، بالطاعة لله ورسوله.. وفى الآية تهديد للمؤمنين الذي لا يلتفتون إلى أنفسهم ولا يحرسونها من النفاق، أن يدخل عليهم فيطرد الإيمان من قلوبهم، ثم لا يكون لهم بعد هذا عمل إلا بطل وفسد! .. وقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ» . هو دعوة إلى هؤلاء المنافقين الذين كفروا بعد إيمانهم- أن يتوبوا إلى الله من قريب، وأن يؤمنوا بالله، حتى تنالهم مغفرته.. فإن هم أبوا إلا أن يمضوا على كفرهم إلى أن يموتوا، فإنهم يموتون على الكفر، ومن مات منهم على الكفر فلن يغفر الله له.. قوله تعالى: «فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 374 فلا تهنوا، أي لا تضعفوا، وتتخاذلوا.. وهو من الوهن، أي الضعف.. ولن يتركم أعمالكم: لا يبطلها كما أبطل أعمال المنافقين والكافرين.. وأصله من الوتر، وهو الفرد.. ومعنى هذا أنه لا يقطع أعمالكم عنكم، بل هى فى صحبتكم، تجدونها حاضرة يوم الجزاء. والآية تعود إلى أولئك المؤمنين الذي أسمعهم الله سبحانه وتعالى. قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ» .. ثم تركهم فى هذا الموقف. حتى يتدبروا هذا القول ويأخذ كل منهم موقفه منه.. إنهم مدعوون إلى أن يسمعوا ويطيعوا.. أما ما يدعون إلى أن يسمعوه ويطيعوه، فهو آت، ولكن بعد أن يأخذ هذا القول مكانه من العقول والقلوب.. وفى فترة الانتظار هذه، يسمع المؤمنون هذا الوعيد الذي يتهدد الله سبحانه وتعالى به أهل الكفر والنفاق.. «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ» .. إنها صورة كريهة للإنسان، ونهاية محزنة، تلك التي ينتهى إليها من يكفر بالله، ويموت على الكفر.. ومن هذا الوعيد يتدسس إلى مشاعر المؤمنين التي دخلت عليهم من قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ» - يتدسس إلى هذه المشاعر ما يدفع بها بعيدا عن مزالق الكفر.. ولن يكون ذلك إلا بالسمع والطاعة لله ورسوله.. وهنا يلقاهم قول الله تعالى: «فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ» . وكأن هذا الخطاب وارد على سؤال سأله الله سبحانه وتعالى المؤمنين، بعد الجزء: 13 ¦ الصفحة: 375 أن أمرهم بطاعته وطاعة رسوله، وبعد أن تركهم وقتا يتدبرون فيه ما أمرهم به.. وتقدير السؤال هو: هل سمعتم ما أمرتم به؟ وهل أنتم على السمع والطاعة؟ وهل اختبرتم ما فى قلوبكم من إيمان؟ .. إذن: «فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ..» فهذا أمر من الله إليكم، وهو ألا تهنوا، أو تتخاذلوا فى موقفكم من العدو، وألا تطلبوا السلم.. فإن طلب السلم لا يحمله أعداؤكم إلّا أنه ضعف منكم وشعور بالهزيمة، وهذا من شأنه أن يغرى العدو بكم، ويشدد وطأته عليكم، ولا يجيبكم إلى السلم الذي تدعون إليه، لأنه يراكم غنيمة ليده.. هذا ويلاحظ أن ما طلبه الله سبحانه وتعالى من المؤمنين فى قوله سبحانه: «فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ» - لم يلقهم سبحانه به لقاء مباشرا، بل جاء هذا الطلب إلى المؤمنين، بعد وقفة طويلة معهم على مجتمع الكافرين والمنافقين، حيث يرمو من الله بنذر من رجوم البلاء والهلاك، ثم بعد دعوتهم إلى أن يجعلوا إيمانهم بالله قائما على الطاعة والولاء لله ورسوله، وكان هذا كله تمهيدا لأن يتلقى المسلمون قوله تعالى: «فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ» ، وأن يستجيبوا له.. فلا يقع منهم فى ميدان القتال فتور أو تخاذل، وبهذا يحاربون، وقلوبهم على إيمان بالنصر الذي وعد الله المؤمنين، فلا يمدون أيديهم مستسلمين للعدو أبدا. وهذا الأسلوب الذي جاء عليه الطلب فى قوله: «فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ» - يدل على مزيد من العناية بهذا الطلب، وإلفات المخاطبين به إلى ما لهذا المطلوب من قدر وخطر.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 376 والحق أن قوله تعالى: «فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ» هو دعوة إلى ما لا يقوم الإيمان إلّا به، ولا تقوم للمؤمنين دولة إلا عليه، وهو الجهاد فى سبيل الله ومواجهة أعداء الله وأعداء المؤمنين- مواجهتهم بالقوة التي تردّ بأسهم، وتبطل كيدهم، حتى يسلم المؤمنون منهم، ومن أن يكونوا تحت يدهم، فيفتنوهم فى دينهم.. وإنه ليس هناك عدو يستطيع أن يقف فى وجه المسلمين المجاهدين فى سبيل الله، إذا هم أعطوا الجهاد حقه.. مهما كان قليلا عددهم وعدتهم، بالنسبة إلى عدد عدوهم وعدّته.. وحق الجهاد، هو أن يقوم على نية القتال والقتل فى سبيل الله.. ومن كان من المجاهدين على تلك النية، فإنه لا ينظر إلى كثرة العدو، ولا يقيم موازنة بين جيش المسلمين وجيش العدوّ، على أساس العدد والعتاد، فإن ذلك إن وقع فى شعور المجاهد، حارب بنفس متخاذلة، وبقلب يخفق خفقات الهزيمة.. فذلك كله يجب ألا يكون فى حساب المجاهد شىء منه.. فهو يجاهد، ويقاتل فى سبيل الله، ولن تبرأ ذمته من أداء هذه الأمانة- أمانة الجهاد- إلا إذا رجع من جهاده بإحدى الحسنيين، إما النصر على العدوّ، والفوز بالغنائم، وإما الموت والفوز بالشهادة.. فالمؤمنون بهذه المشاعر هم الأعلون دائما.. إن المجاهد- حقّ المجاهد- هو الذي يقاتل العدوّ بكل ما لديه من قوة، وأن يكون وجهه للعدو، ولأسلحة العدو، يضرب ويضرب، وينفذ ضرباته فى العدو، ويتقى ضربات العدو له، غير مبال إن وقع على الموت أو وقع الموت عليه..! الجزء: 13 ¦ الصفحة: 377 [الجهاد.. والحرب النفسية] والحرب النفسية أداة من أدوات الحرب، وسلاح ماض من أسلحة القتال.. وكم تركت هذه الأداة من آثار سجلها التاريخ لها، فهزمت الأبطال، ومزقت الجيوش، ومكنت الفئة القليلة من أن تغلب الفئة الكثيرة.. وهل كان ميزان المؤمنين ثقيلا فى ميدان القتال، حتى ليعد الواحد منهم بعشرة من عدوهم- هل كان هذا الميزان ثقيلا إلّا لما امتلأت به مشاعر المؤمنين من إيمان بالله، وثقة فى ثوابه، وتصديق بوعده الذي وعد المجاهدين؟ وهل استخف المؤمنون بالموت، إلا لما امتلأت به قلوبهم من إيمان بالحياة الآخرة، وأن حياتهم الدنيا هذه، ليست إلا مرحلة على طريق الحياة الأبدية الخالدة؟. النفس إذن، وما تحمل من مشاعر، هى التي تحدد موقف المحارب فى جبهة القتال، وهى التي تزين له الموت فى الميدان، أو تغريه بالنجاة والفرار.. فحبّ الجبان النفس أورده التقى «1» ... وحبّ الشجاع النفس أورده الحربا!! فكلا الجبان والشجاع محبّ لنفسه، ولكن شتان بين حبّ وحب.. فالجبان يحب نفسه لا بسة جسده، ولو كانت مهينة ذليلة، ترعى المهانة، وتسام الخسف! والشجاع يجب نفسه عزيزة كريمة، فإنه إن رأى أنها لن تسكن إليه إلا على مركب الذل والهوان، ضنّ بها على أن تلقى الإهانة والإذلال فى هذا المقام، مقام الجسد، فأوردها مورد القتل، لتخلص من هذا البلاء، وتأخذ طريقها إلى العالم الآخر..   (1) أورده التقى: أي دفع به بعيدا عن مواطن الخطر واتقاء ما يقع للمحاربين من قتل أو أسر. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 378 وليست الحرب النفسية سلاحا يتحصن به المحاربون، ضد عوامل الوهن والضعف، التي تدخل عليهم فى ميدان القتال، وإنما هى سلاح أيضا يستخدمه المحاربون فى التدسس إلى عدوّهم، وإشاعة الرعب فى نفوسهم، وإشعال نار الفتن بينهم.. وذلك مجال فسيح للعمل والتدبير، يحتاج إلى العقل الذكي، والبصيرة النافذة، والنظر المتفحص، وإلا ارتد هذا السلاح إلى اليد التي تضرب به.. ذلك أن المعركة هنا معركة هنا معركة داخل النفس البشرية، التي لا ساحل لها، ولا نهاية لأعماقها، والتي هى دائما فى معرض التقلب والتحول، وفى معاناة المدّ والجزر.. فمن جاءها على حال غير مواتية لها، غير جارية مع الريح التي تجرى فيها، لم يبلغ منها شيئا، بل ربما انقلبت حربا عليه. وقد اهتدى الإنسان بطبيعته، إلى أن تكون النفس ميدانا من ميادين الحرب التي يشتبك فيها مع غيره من بنى جنسه، وأن يتخذ منها درعا واقية له.. حيث يدخل المعركة، وقد صفىّ حسابه بينه وبين نفسه، وأجلى عنها كل نوازع الخوف من الموت، أو الإشفاق على ما يخلّف وراءه من ولد، وأهل، وصديق.. يقول قطرىّ بن الفجاءة: وقد راودته نفسه على أن يطلب السلامة، ويدع مواطن الحرب، وما يتعرض له المحاربون من قتل.. يقول: أقول لها وقد طارت شعاعا ... من الأبطال، ويحك، لن تراعى فإنك لو سألت بقاء يوم ... على الأجل الذي لك لم تطاع فصبرا فى مجال الموت صبرا ... فما نيل الخلود بمستطاع وفى الوقت الذي يتخذ فيه المحارب، من الحرب النفسية درعا حصينة، يتحصن بها، من عوارض الخوف والخور، التي تعرض له- فى الوقت الذي يفعل فيه هذا- يعمد إلى الهجوم على نفس عدوّه، فيريه من بأسه وقوته قبل أن يلقاه، ما ينخلع به قلبه، وما تطير منه نفسه شعاعا.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 379 سئل عنترة بن شداد- الفارس العربي الجاهلى المعروف- سئل عن هذا الرعب الذي يملأ قلوب الأبطال منه، وكيف يبلغ رعبهم منه إلى هذا الحدّ الذي يبطل عمل الأبطال، ويشل حركتهم؟ فقال عنترة: «أبدأ القتال بأن أعمد إلى أي فارس من عامة الفرسان، فأضربه ضربة ينخلع لها قلب الشجاع» !. ولهذا كان من سياسة الحرب أن تكون الضربة الأولى ضربة يرمى فيها كلّ من المتحاربين بثقله كله، حتى تقع الضربة موقعا قائما وراء تقدير العدو، الذي ما كان يحسب حسابا لها من هذا الوجه.. وهنا تكثر دواعى البلبلة والاضطراب، ثم التفكك والانحلال، ثم الهزيمة والاستسلام، إذا لم يكن الضارب قد تلقى ضربة كهذه الضربة.. وعندئذ تتعادل الكفتان، ثم يكون الغلب لمن أمسك بالثقة والطمأنينة فى قلبه، واحتمل فى صبر وجلد نار الحرب، وأهوالها.. إنها الحرب، وإنها ابتلاء في الأموال والأنفس والثمرات! إنها قتال وقتل..! يروى أن سائلا سأل عنترة: كيف كان منك أنك لم تفرّ فى معركة قط، على كثرة ما دخلت فى معارك، وما التقيت بأبطال؟ فقال عنترة لسائله: أعطنى يدك، وخذ يدى، وعضّ إبهامى وسأعض إبهامك!! ففعل الرجل، وفعل عنترة.. ولكن سرعان ما صرخ الرجل! فبادره عنترة قائلا: «إنك لو لم تصرخ أنت لصرخت أنا» !! وبهذا تلقى الرجل الجواب الوافي الشافي على سؤاله. إن عنترة إنسان قبل أن يكون بطلا، فهو يخاف، ويتألم، ويكره أن يقتل، أو يجرح.. شأنه فى هذا شأن الناس، أبطالا، وغير أبطال.. ولكنه لبس ثوب البطولة بصبره على المكاره، أكثر من خصمه.. فلو أن خصم عنترة صبر صبره على المكروه، الذي يسقيه كل منهما لصاحبه- لو أنه صبر الجزء: 13 ¦ الصفحة: 380 هذا الصبر، لما استسلم لعنترة، بل وربما كان عنترة هو الذي يستسلم له. وكثير من الحيوانات، فى مختلف أجناسها، تستخدم هذا السلاح فى لقاء عدوها.. فتستعرض كل ما عندها من قوّى جسدية، ظاهرة، أو خفية، حتى تبدو فى صورة مخيفة مفزعة للعدو.. وقد تكون هذه الحركات قاضية على العدو من غير قتال، فيجمد فى مكانه ويستسلم لعدوه!. وإذا كان الجهاد والقتال فريضة واجبة الأداء على كل قادر من المسلمين، متى دعت دواعى الجهاد، ولزم القتال- لأنه لا يقوم أمر الجماعة الإسلامية، فى المجتمع الإنسانى إلا إذا كانت ذا قدرة على حماية وجودها، ودفع الأيدى الباغية عليها- نقول إذ كان شأن الجهاد على تلك الصفة فى الإسلام، فقد كان من تدبير الإسلام أن التفت التفاتا قويّا إلى هذا الجانب من الحرب الذي يعرف فى عصرنا هذا، بالحرب النفسية، فوضع بين يدى جند الله، المجاهدين فى سبيله منهجا متكاملا للتدريب على هذه الحرب، واستخدام أسلحتها، والضرب بهذه الأسلحة حيث تقع الضربة، فتصيب الصميم مما وقعت عليه.. ومن تدبير الإسلام فى هذا: أولا: أنه هوّن على المؤمنين خطب الموت، وذلك بإيمانهم بالحياة الآخرة إيمانا يشعرون معه أن الموت ليس إلا انتقالا من عالم إلى عالم أرحب، وأفسح،. ومن هنا فلا ينظرون إلى الموت على أنه فناء أبدى للميت، وضياع لا نهائى لمن بموت، كما ينظر إلى ذلك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر.. إنه ليس معهم إلا هذه الحياة الدنيا، وأنهم إذا فارقوها، فارقوها إلى غير رجعة أبدا.. فهم لهذا أحرص ما يكونون على حياتهم هذه، وأشد ما يكون جزعا إذا ذكروا الموت، أو أحسوا قرب الأجل.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 381 وثانيا: أنه وعد المؤمنين المجاهدين فى سبيل الله، درجات عالية عند الله، سبحانه، حيث ينزلون منازل الأنبياء والصديقين، كما يقول سبحانه: «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً» (69: النساء) . وإنما تتجلى طاعة الله ورسوله على أتم وجه وأكمله فى ميدان الجهاد فى سبيل الله.. يقول سبحانه: «وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» (74: النساء) .. فالأجر العظيم الذي يناله المجاهد من ربه مشروط بأحد شرطين: أن يقتل فى ميدان القتال، أو ينتصر على عدوه.. فلا يعود المجاهد إلى أهله إلا منتصرا على العدو.. فإن لم يشهد نهاية المعركة، ومات قبل أن يحقق المسلمون النصر، فإنه يكون قد شارك بدمه المراق على أرض المعركة، فى كتابة كلمة النصر، التي يؤذن بها مؤذن الحق فى نهاية المعركة.. وثالثا: أنه توعد الذين ينتظمون فى صفوف المجاهدين، ثم إذا التحم القتال، وتساقطت الرءوس، وتناثرت الأشلاء، وسالت الدماء- ركبهم الفزع، واستبد بهم الجزع، والتمسوا وجوه النجاة فى الفرار من الميدان، أو النكوص على الأعقاب، أو الدعوة إلى السلم، والاستسلام- توعد الإسلام من كان فى المجاهدين، المقاتلين، ثم أخذ هذا الموقف المتخاذل- توعده بغضب من الله، وبعذاب أليم فى نار جهنم، كما يقول سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (15، 16: الأنفال) .. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 382 والجانب النفسي هو المنظور إليه هنا، فى هذا الوعيد الذي يأخذ به الله سبحانه من لبس ثوب الجهاد وانتظم فى صفوف المجاهدين المقاتلين، من بلاء ونكال، الأمر الذي يحبط إيمان المؤمن، ويبطل عمله، ويسلكه مع المنافقين والكافرين.. ذلك أن فرار المجاهدين من بين صفوف المجاهدين يحدث فتنة، ويثير خلخلة واضطرابا فى نفوس المجاهدين وفى صفوفهم، وسرعان ما تسرى عدوى هذا المقاتل الفارّ إلى كثير غيره، ممن لم يكن فى حسابهم أن يفروا.. إن هذا الفارّ إنما يمثل- من غير قصد- صرخة الانهزام فى صفوف المجاهدين، وإنه لخير له وللمسلمين المجاهدين، ألا يشهد مثل هذا الإنسان مواقف القتال، وألا يكون فى صفوف المقاتلين.. وأما وقد خرج، ودخل المعركة، فإن فراره من القتال، خيانة لله، ولرسوله، وللمؤمنين.. ومن أجل هذا، عزل الله سبحانه وتعالى المنافقين عن مواقف الجهاد، ونقىّ جيش المجاهدين من هذه الأجسام الغريبة التي تدخل على الجسد السليم بأعراض الحمى. من صداع، وعرق، وأرق! فقال سبحانه لنبيه الكريم. «فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ» (83: التوبة) .. ومن التطبيق العملي لهذا الذي تسميه الحرب النفسية- أن الرسول- صلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته عليه- حين رجع من غزوة أحد، وعلم أن قريشا تريد الكرة على المدينة، وتنتهز فرصة الهزيمة التي حلت بالمسلمين فى أحد، فتضرب ضربتها القاضية، والحديد ساخن، كما يقولون- تقول حين علم الرسول الكريم بهذا دعا أصحابه، إلى أن يخرجوا إلى ظاهر المدينة، للقاء عدوهم، إن هو سولت له نفسه أن يهجم على المدينة.. وكان مما الجزء: 13 ¦ الصفحة: 383 اشترطه الرسول فيمن يشهدون هذا الموقف معه، أن يكونوا ممن شهدوا القتال فى أحد، أما من كان فى المتخلفين ولم يشهد الحرب، فلا مكان له بينهم.. هذا والمسلمون الذين شهدوا أحدا كانوا مثخنين بالجراح، منهوكى القوى، يعانون من آلام نفسية وجسدية ما تنهدّ به عرائم الرجال.. ومع هذا، فقد رأى النبي فى هؤلاء المجاهدين- على ما بهم من آلام وجراح- خيرا كثيرا، وأن أيّا منهم- على ما به من ضعف- خير من مئات ممن فى قلوبهم مرض، من الذين يكثر بهم سواد المجاهدين بالقدر الذي يقلّ به غناؤهم..! وقد كان لهذا أثره النفسي عند المشركين، فإنهم ما إن علموا بأن محمدا قد خرج بأصحابه وراء القوم حتى توقفوا عن المسيرة نحو المدينة، وقد وقع فى أنفسهم أن محمدا يطلبهم ليثأر من هزيمة أمس فى أحد- وطالب الثأر هيهات أن يغلب، وحسبهم ما ظفروا به من المسلمين فى معركة الأمس، فقد تدور الدائرة عليهم فى الكرة التالية. ورابعا: من أساليب الحرب النفسية- تخويف العدو وإرهابه، بما يرى فى جيش المجاهدين من أمارات القوة، ووسائل الغلب.. وشبيه بهذا ما تقوم به الأمم من عرض قوتها فى تلك العروض العسكرية، التي تكشف بها عن بعض عدتها وعتادها، على حين أنها إذ تكشف عن بعض قوتها، فإنها تشير إلى أن وراء هذا الذي أعلنته قوى كثيرة خفية، أشد أثرا، وأقوى فتكا، من هذا الذي عرف الناس أمره، وأن ذلك سرّ من أسرارها الحربية، التي لا تظهر إلا عند الحرب!!. ولهذا الجانب من الحرب النفسية أثر كبير فى كسر شوكة العدو، وفى قتل مطامعه فى النّيل من عدوه، فلا يقدم على العدوان وهو يرى هذه القوى المهيأة للحرب، الراصدة لكل عدو.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ» (60: الأنفال) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 384 كل هذا الذي يراه العدو فى جيش المسلمين، من استخفاف بالموت، وإيثار للموت فى سبيل الله على الحياة، والثبات فى ميدان المعركة حتى النصر أو الموت، والإعداد الدائم لعدد الحرب ورجالها- كل هذا يبعث الرعب فى قلوب الأعداء الذين يواجهون مثل هذا الجيش، الذي لا يرجع من المعركة إلا منتصرا، أو مستشهدا.. وإلى هذا يشير الرسول فى قوله فى مقام تعداد فضل الله سبحانه وتعالى عليه، إذ يقول: «ونصرت بالرعب مسيرة عام» أي أن أعداءه المحيطين به، يجدون فى أنفسهم رهبة له، ولجيش المسلمين، وذلك على امتداد مسيرة عام بينه وبينهم، لما يتناقل الناس من أخبار المجاهدين المسلمين، واسترخاصهم لنفوسهم فى ميدان القتال، حتى ليكون ذلك حديث الدنيا كلها.. قوله تعالى: «إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ، وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ» . هو تعقيب على قوله تعالى: «فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ» .. وفى هذا التعقيب دعوة للمؤمنين إلى أن ينظروا إلى الحياة الدنيا نظرا جادّا متفهّما، فإنهم لو نظروا إليها هذا النظر، لعرفوا أنها لعب ولهو، وأنها متاع قليل وظل زائل، وأنها إذ كانت هكذا هزيلة باهتة، فإن الحرص عليها، والتشبث بالحياة فيها على أية صورة من صور الحياة، وإن كان فى ثوب الذل والمهانة- إن هذا غبن للإنسان، وجور على إنسانيته.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 385 وإذن، فإنه إذا كان هناك قتال بين المسلمين وبين عدوّ لهم، فلا ينبغى أبدا أن يقع فى نفوسهم وهن أو ضعف، أو أن يعطوا أيديهم لعدوهم، ويستسلوا له، فإن هذا لا يكون إلا من نفوس تحرص على الحياة، وتتشبث بالبقاء فيها، على أي وضع، ولو سيمت الخسف، ورعت المهانة والذلة.. قوله تعالى: «وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ» .. هو بيان لما هو مطلوب من الإنسان فى هذه الدنيا، حتى ينال الجزاء الطيب من الله سبحانه وتعالى، وينزل فى الآخرة منازل رضوانه.. وهذا المطلوب من الإنسان هو الإيمان، ثم العمل الصالح الذي يبلغ بالإنسان مبلغ التقوى.. فمن آمن واتّقى أخذ أجره كاملا فى الدنيا والآخرة.. وإتيان الأجر، هو الجزاء الحسن الطيب، للأعمال الحسنة الطيبة، كما فى قوله تعالى: «وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ» (27: العنكبوت) . وقوله تعالى: «لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» (30: فاطر) فالأجر هو جزاء عن عمل طيب، يؤجر عليه صاحبه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان ابنة شعيب عليه السلام: «يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ» (26: القصص) وقوله تعالى: «وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ» - هو واقع فى جواب الشرط، معطوف على قوله تعالى: «يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ» أي أنه إذا حقق المؤمن الإيمان والتقوى فإنه لا يسأل شيئا من ماله، الذي بين يديه، غير ما هو مفروض عليه فيه من زكاة.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 386 وهذا يعنى: أولا: أن أداء الفرائض على وجهها كاملة، هو غاية المطلوب من الإنسان.. وأنه يأخذ أجره كاملا، دون أن يقدم نظير هذا الأجر عوضا له من ماله.. وثانيا: أنه مهما حرص الإنسان على أداء الفرائض كاملة مستوفاة شرائطها، وأركانها- فإنه لا يمكن أن يتحقق له ذلك على كماله وتمامه، لما يعرض للإنسان من معوقات نفسية، ومادية، تحول بينه وبين الوصول إلى درجة الكمال.. ومن هنا كانت النوافل، التي تقوم إلى جانب الفرائض، ليجبر بها الإنسان ما يقع منه من تقصير فيها.. كما فى النوافل التي تصحب الصلاة والصوم، والزكاة، والحج.. فكل فريضة من هذه الفرائض تصحبها نوافل، هى فى حقيقة أمرها- تعويض وجبر لما قد يقع- ولا بدّ- فى أداء الفريضة من تقصير.. وثالثا: ما تجبر به الفرائض من نوافل قد يخفّ أمره على النفوس، إلا ما كان منها متصلا بالمال، الذي هو رغيبة النفوس، ومتعلق الآمال.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى فى الآية الكريمة بعد هذا.. «إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ» . يسألكموها: أي إن يسألكم إياها، أي يطلب إليكم مزيدا من الإنفاق من أموالكم، غير ما هو مفروض عليكم من زكاة فيها.. «فَيُحْفِكُمْ» : أي يشتدّ عليكم فى الطلب، ويطلب الكثير مما فى أيديكم. وأصله من الحفا والحفاء، وهو ما يصيب الراحلة من الإبل، من طول السفر، حتى تحفى أخفافها، ويتآكل جلدها ولحمها.. يقول الأعشى عن ناقته التي كان يتجه بها إلى الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- ليعلن إسلامه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 387 يقول: فآليت لا أرنى لها من كلالة ... ولا من حفى حتى تلاقى محمدا ويخرج أضغانكم: الأضغان: جمع ضغن، وهو ما تنطوى عليه الصدور من كراهية وحقد.. ومعنى الآية الكريمة أنه لما يعلم الله سبحانه وتعالى من طبيعة النفوس، وحرصها على المال، وتعلقها به، فقد كان من رحمته سبحانه وتعالى بالناس أن رفق بهم، ورضى بالقليل من أموالهم ينفقونها فى سبيل الله.. ولو أنه سبحانه وتعالى ألزم المؤمنين أن يقدموا المال فى مقابل الأجر الذي ينالونه من عند الله، لأتى ذلك على كل ما معهم من مال، ولما استوفت كلّ أموالهم بعض ما أخذوا من أجر، ولوقع المؤمنون فى حرج شديد، ولأخذوا مأخذ المخالفين المقصّرين.. فكان من حكمة الحكيم العليم، ورحمة الرحمن الرحيم، أن أعطى النفوس حظها من هذا المال، واكتفى بأخذ القليل منه، الأمر الذي لا تضيق به النفوس، ولا تحرج به الصدور، وذلك مع إعطائهم أجرهم كاملا، بما فى قلوبهم من إيمان وتقوى.. وفى الآية الكريمة، إشارة إلى أن هذا المال، هو مال الله سبحانه وتعالى، وأن لله سبحانه وتعالى أن يسأل هذا المال كلّه، وأن يأخذه جميعه، دون أن يكون فى هذا ظلم لأحد، لأنه سبحانه لم يأخذ شيئا ليس له!! ومع هذا، فإنه سبحانه، أعطى الكثير متفضّلا منعما، وأخذ القليل، رحيما مترفقا.. فسبحانه، سبحانه، يهب فضله وإحسانه لعباده، ثم يتقبل منهم بعض ما وهب، ليكون رصيدا لهم من الفضل والإحسان، يطهرون به نفوسهم، ويغسلون به أدرانهم.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 388 قوله تعالى: «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ» . بهذه الآية الكريمة تختم السورة، فتلتقى بالمؤمنين، بعد أن وضعتهم فى مواجهة أعدائهم من الكافرين والمشركين، الذين يحادون الله ورسوله، ويتربصون بالمؤمنين الدوائر، وأنه مطلوب من المؤمنين أن يعملوا على حماية أنفسهم من هذا العدو المتربص بهم، وذلك بالجهاد فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم.. ولمّا كان للمال سلطانه على النفوس، فقد جاءت الآيات السابقة تكشف عن هذه المشاعر، التي يجدها المؤمنون حين يمتحنون فى أموالهم، وأن الله سبحانه وتعالى قد شملهم برحمته، فلم يدعهم إلى الخروج عن أموالهم جملة، على سبيل الإلزام والفرض، بل جعل ذلك دعوة مطلقة، يأخذ منها الناس ما تتسع له نفوسهم، كلّ على حسب ما تسخو به نفسه، ويرضاه قلبه.. دون حرج أو إعنات. وفى قوله تعالى: «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» امتحان للمؤمنين، واستدعاء لما فى نفوسهم من إيمان، فى مقام البذل فى سبيل الله.. وقوله تعالى: «فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ» هو بيان لما كشف عنه هذا الامتحان من شحّ فى بعض النفوس، وضنّ بالبذل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 389 والإنفاق فى سبيل الله.. وهذا البخل إنما هو عائد على من بخل، إذ حرم نفسه هذا الخير الكثير الذي كان ينتظره لو أنه أنفق من هذا المال الذي حبسه، وضنّ به.. إنه هو المحروم، وهو الخاسر فى هذا الموقف، حيث آثر ما يفنى على ما يبقى.. وفى تعدية الفعل «يبخل» بحرف الجر «عن» بدلا من الحرف «على» الذي يستدعيه ظاهر النظم- فى هذا إشارة إلى أن هذا البخل هو حجز للخير عن النفس، التي كان من حقها على صاحبها أن يسوقه إليها من هذا المال الذي بخل به، وهو يظن أنه إنما فعل ذلك ابتغاء لخيرها وإسعادها.. وقوله تعالى: «وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ» - هو تعقيب على موقف أولئك الذين بخلوا بالإنفاق فى سبيل الله، ولم يستجيبوا الدعوة الله، الذي آتاهم من فضله، ووسّع لهم من رزقه- فالله- سبحانه- غنىّ عنهم، وهم الفقراء إليه.. ولو شاء سبحانه أن يعفيهم من هذا الامتحان، لفعل، ولحرمهم الثواب الذي ينالونه بما ينفقون من مال الله الذي بين أيديهم.. وقوله تعالى: «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ» .. هو تهديد ووعيد لهؤلاء الباخلين بأموالهم عن الإنفاق منها فى سبيل الله وأنهم إذا أصروا على موقفهم هذا، ولم ينفقوا فى سبيل الله، كان فى المؤمنين من يقوم مقامهم، ويسدّ هذا النقص الذي كان منهم.. ثم إن هؤلاء الذين يلبسون الإيمان ظاهرا وباطنا، لا يكون منهم تردد، أو نكوص عن تقبل البذل والإنفاق، كما كان من هؤلاء المترددين المنقلبين على أعقابهم، بل ستثبت أقدامهم على طريق الإيمان إلى النهاية.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 390 48- سورة الفتح نزولها: مدينة.. نزلت بعد صلح الحديبية.. عدد آياتها: تسع وعشرون آية.. عدد كلماتها: خمسمائة وستون كلمة عدد حروفها: ألفان وأربعمائة وثمانية وثلاثون حرفا. مناسبتها لما قبلها ختمت سورة «محمد» (عليه الصلاة والسلام) بدعوة المؤمنين إلى البذل والإنفاق فى سبيل الله، حاملة بين يدى هذه الدعوة، إشارة إلى أن هذه الدعوة لا تلقى قبولا من بعض ذوى النفوس التي لم يتمكن الإيمان منها، وأن هؤلاء سيخلون مكانهم لغيرهم من المؤمنين الذي صدقوا الله ورسوله، وهؤلاء المؤمنون هم الذين يتلقاهم الله سبحانه وتعالى بالقبول، ويمنحهم النصر والتأييد الذي وعد عباده المؤمنين.. وقد جاءت سورة «الفتح» تزف إلى المؤمنين هذه البشرى بالفتح والنصر الذي أعز الله به نبيه، وأعز به المؤمنين معه.. كما يقول سبحانه فى مطلع السورة: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ» .. وكما يقول سبحانه بعد ذلك: «وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً» .. ومن جهة أخرى، فإن سورة «محمد» (صلى الله عليه وسلم) قد حملت إلى النبي الكريم هذا الأمر الكريم من ربه: «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 391 وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ» - فجاءت سورة «الفتح» مفتتحة بقبول هذا الاستغفار، وشمول الرسول الكريم بهذا الغفران المطلق، الشامل لكل ما تقدم من ذنبه وما تأخر.. ومن جهة ثالثة- فإن محمدا- صلوات الله وسلامه عليه- الذي حملت السورة السابقة اسمه، يناسبه أعظم المناسبة أن يجىء فى أعقاب سورته سورة «الفتح» إذ كان هذا الفتح لمحمد عليه صلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته.. بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات (3- 1) [سورة الفتح (48) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) التفسير: قوله تعالى: «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً» الفتح: فى الأصل الحكم والقضاء بأمر من الأمور، ومنه قوله تعالى: «رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ» .. أي احكم، وقوله سبحانه: «ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها» أي ما يقضى به الله.. والفتح، قد غلب استعماله فى النصر على العدو، والاستيلاء على بلاده، التي كانت من قبل مغلقة فى وجه من يريد دخولها من غير أهلها- ومنه قوله تعالى: «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ» . والمراد بالفتح هنا: التأييد، والنصر، والتمكين.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 392 وقد نزلت هذه السورة الكريمة، بعد صلح الحديبية، الذي كان يرى كثير من المسلمين عند عقد هذا الصلح، أنه أشبه بالاستسلام.. فلقد كان النبىّ صلى الله عليه وسلم قد دعا أصحابه إلى أن يهيئوا أنفسهم لأداء العمرة، وكان ذلك فى السنة السادسة من الهجرة.. فلما تمّ لهم ذلك، سار بهم النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- إلى مكة، يسوقون الهدى أمامهم، ويحبسون سيوفهم فى أغمادها. فلما دنوا من مكة، كانت قريش قد استعدّت للحرب، إن دخل النبىّ والمسلمون عليهم مكة.. وقد بعث إليهم النبىّ أنه إنما جاء معتمرا لا محاربا.. ولكن القوم ركبوا رءوسهم، وأبوا إلّا أن تكون الحرب، إن دخل النبىّ والمسلمون مكة.. وقد كادت الحرب تقع، وخاصة حين جاءت إلى المسلمين شائعة بأن عثمان ابن عفان، رضى الله عنه، قد نالته قريش بسوء، وكان الرسول الكريم، قد بعث عثمان إلى قريش، يخبرهم بالأمر الذي جاء من أجله النبىّ والمسلمون.. ثم انتهى الأمر أخيرا إلى عقد صلح يقضى بأن يرجع النبىّ والمسلمون عامهم هذا، وأن يعودوا فى العام القابل، فتخلى لهم قريش مكة، فيدخلها النبىّ وأصحابه ثلاثة أيام يقضون فيها عمرتهم.. وقد كثرت مقولات المسلمين، رفضا لهذا الصلح قبل أن يتم، وتعقيبا عليه بعد أن تمّ.. حتى لقد خلا عمر بن الخطاب، بأبى بكر، رضى الله عنهما، وأسرّ إليه بما فى نفسه من هذا الصلح الذي يرى فيه غبنا على المسلمين، وحتى لقد جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: «يا رسول الله: ألسنا على الحق؟ أليس القوم على الباطل؟ قال رسول الله: بلى! قال عمر: فلم نعطى الدنية فى ديننا؟ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 393 فقال- صلوات الله وسلامه عليه..: «أنا عبد الله ولن أخالف أمر ربى ولن يضيّعنى» ! فلما تم الصلح ظلت كثير من المشاعر المتضاربة تنخس فى صدور المسلمين، خاصة، وأن الرسول صلوات الله وسلامه عليه، كان قد تحدث إليهم بأنهم سيدخلون مكة، وأنه رأى فى ذلك رؤيا، وفيها يقول الله تعالى: «وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ» .. ويقول الله سبحانه فى آخر سورة الفتح: «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً» .. فهذه الرؤيا التي رآها الرسول الكريم رؤيا صادقة، ولكنّ تأويلها لم يكن قد جاء زمنه بعد.. إن المسلمين سيدخلون مكة، آمنين محلّقين رءوسهم ومقصرين.. هذا هو مضمون الرؤيا، أما زمنها فلم تحدده الرؤيا، وقد عاد المؤمنون من صلح الحديبية، وهم على عهد مع قريش على دخول البيت الحرام فى العام القابل.. أما الفتح القريب الذي أشار إليه قوله تعالى: «فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً» فهو فتح خيبر، التي فتحها النبي بعد منصرفه من الحديبية، وفى طريق عودته إلى المدينة.. وصلح الحديبية فى يومه الذي وقع فيه، وقبل أن تتكشف الأحداث التي أعقبته- هذا الصلح هو فى ذاته فتح مبين كما يقول سبحانه وتعالى تعقيبا عليه: «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً» . وأي فتح أعظم وأظهر من أن يعود النبىّ بالمسلمين إلى البلد الحرام، وأن يقيموا على مشارفها، فلا تجرؤ قريش على الخروج للقائهم، بل تنتظر حتى يدخلها عليهم النبىّ والمسلمون، وهم الذين أخرجوا النبىّ والمسلمين منها، وهم الذين تهدّدوا النبىّ والمسلمين، وجاءوا إلى المدينة بجيوشهم يريدون أن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 394 يدخلوها على أهلها فى غزوتى «أحد، والأحزاب» ..؟ فأى فتح أعظم عند المسلمين من هذا الفتح، الذي أدلّ قريشا، وعرّاها من كل ما كان لها فى نفوس العرب من عزّة وسلطان؟ .. لقد ذلت قريش، وأعطت يدها للنبىّ والمسلمين، ولم يكن هذا الصلح فى حقيقته إلا حفظا لبقية من هذه العرّة الضائعة، وسترا لهذا الكبر المتداعى!! لقد انقلبت موازين القوى فقوى المستضعفون، وضعف الأقوياء، وتحول المدافعون إلى مهاجمين.. وإنه لو وقف الأمر بالمسلمين عند هذا الحدّ لكان ذلك نصرا لهم، وفتحا.. ولكن لم يكن هذا الفتح إلا مقدمة لفتوحات كثيرة، منها فتح مكة، ودخول أهلها فى دين الله.. وفى هذا يقول الرسول الكريم، وقد بلغه أن لغطا بين أصحابه يدور حول هذه القضية، وأنهم لم يتحقق لهم ما وعدهم الرسول به من دخول مكة. يقول الرسول الكريم: «بئس الكلام هذا!! بل هو أعظم الفتوح، وقد رضى المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح، ويسألوكم القضية، ويرغبوا إليكم فى الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا» وقوله تعالى: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً» .. هو بيان لما ترتب على هذا الفتح من سوابغ النعمة، وفواضل الإحسان، التي يفيضها بالله سبحانه وتعالى على نبيه الكريم.. إن هذا الفتح هو بداية الخاتمة لجهاد النبي.. صلوات الله وسلامه عليه، وهو القدم الأولى التي بضعها النبي على طريق النصر لدعوته، التي قام عليها الجزء: 13 ¦ الصفحة: 395 هذه السنين. والتي احتمل فى سبيلها ما احتمل من عنت قريش، وإخراجها له من بيته فى البلد الحرام، وما أصيب على يديها فى أحبابه وأصحابه الذين استشهدوا فى الحرب معها.. إنه وقد انكسرت شوكة قريش فى صلح الحديبية، فقد بات الأمر وشيكا بانتهاء هذا الصراع المحتدم، بين الدعوة الإسلامية، وبين المتربصين بها، وأنه بين يوم وليلة ستنحسر هذه السحابة السوداء من سماء الإسلام، ويدخل الناس فى دين الله أفواجا.. إذن، فقد أدّى النبي رسالته، وحقق ما ندبته السماء له، ودعته إليه.. وإذن فليتقبل النبىّ عطاء الله له، وليسعد بما سيلقى من جزاء كريم، على هذا الجهاد العظيم، الذي ظلّ قائما عليه نحو عشرين عاما، موصولا لبلها بنهارها.. فهذا الفتح، وإن كان من الله، فقد أضاف الله سبحانه وتعالى جزاء هذا الفتح إلى الرسول الكريم.. «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً» . فالفتح، فتح الله، وهو فتح للنبىّ، ومغفرة لما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهداية له إلى صراط الله، ثم نصر عزيز، تختم به الانتصارات التي بدأت بصلح الحديبية..! وقد وصف صلح الحديبية بأنه فتح مبين، على حين وصف فتح مكة الذي سيلى هذا الفتح، بأنه نصر عزيز.. وذلك لأن صلح الحديبية، لم يكن الفتح فيه من قوة غالبة قاهرة، إذ كان لا يزال فى قريش شىء من القوة، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 396 والاستعداد للقاء النبىّ والمسلمين.. أما فتح مكة فقد كان تحت قوة قاهرة، وسلطان غالب، فلم يكن فى قريش من تحدّثه نفسه بلقاء النبىّ والمسلمين، والتصدي لهذا الجيش الغالب الذي دخل مكة على أهلها، وأعطاهم الأمان على حياتهم وأموالهم، إذا هم دخلوا فى دين الله، وقد دخل القوم فى دين الله صاغرين.. فهو نصر عزيز غالب، لا يلقاه القوم إلا فى ذلّة وانكسار. إن صلح الحديبية يقدّم الحساب الختامى لجهاد النبىّ فى سبيل الدعوة، فيغفر له ربّه كلّ ما ألمّ بحمى النبوة، أو طاف بحرمها الطهور، من غبار هذا الاحتكاك المتصل بالحياة وأهلها. إن هذا الغفران، هو عملية اغتسال بتلك الأنوار القدسية المنزلة على النبىّ من السماء، فلا يعلق بها بعد هذا شىء من غبار هذه الأرض.. وبهذا تتم نعمة النبوة، وتخلص للنبىّ، علوّية، قدسية، لم يمسسها سوء. الآيات (7- 4) [سورة الفتح (48) : الآيات 4 الى 7] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 397 التفسير: قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً» . ومن هذا الفتح المبين، الذي فتحه الله للنبىّ الكريم، ومن هذا الخير العظيم المنزّل على النبىّ من ربّه بسبب هذا الفتح- من هذا وذاك، يأخذ المؤمنون نصيبهم، إذ كانوا قبسا من نور النبوّة، ومشاعل تنير الطريق للناس، من بين يدى كوكبها المتألق، ومن خلفه، فكان لهم نصيبهم من هذا الخير العظيم، وذلك النصر العزيز الذي ساقه الله سبحانه وتعالى إلى النبىّ الكريم قائد هذه الحملة السماوية المباركة. وقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ» - هو بشرى إلى المؤمنين، فى مقابل البشرى التي حملها القرآن إلى النبي الكريم فى قوله تعالى: «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً» .. أي إنا فتحنا لك فتحا مبينا، وأنزلنا السكينة فى قلوب المؤمنين.. وقوله تعالى للمؤمنين: «لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ» هو فى مقابل قوله تعالى للنبىّ: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» .. ولكلّ من النبىّ والمؤمنين، مقامه، ومنزلته من ربّ العالمين، ومن سوابغ رحمته، وفواضل إحسانه.. فالنبىّ له هذا الفتح المبين، والمغفرة الشاملة للعامة، التي لا تبقى على شىء يطوف بحمى النبوّة من هنات وهفوات، فيسوّى حسابه على أن تكون له النبوّة خالصة بجلالها وصفائها، بعد هذه الرحلة الطويلة التي طوّفت بها فى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 398 دنيا الناس، وخالطت فيها وجودهم، واحتكّت بخيرهم وشرّهم، وواجهت أخيارهم وأشرارهم.. أما المؤمنون، فإن لهم من هذا الفضل الإلهى ما يحفظ عليهم إيمانهم، ويزكّيه، وينقّيه، وينمّيه.. «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ» . والسكينة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى على قلوب المؤمنين، هى ما وقع فى قلوبهم من رضا وطمأنينة وسكينة، بعد هذه الموجات التي تدافعت فى صدورهم، من وساوس الحيرة والبلبلة، ساعة صلح الحديبية.. فلقد اضطربت كثير من القلوب، وزاغت كثير من الأبصار، وقصرت كثير من الأفهام عن أن ترى ما وراء هذا الصلح من خير كثير، وفتح مبين، فوقعت فيما وقعت فيه من حيرة وبلبال. وقد كانت هذه التجربة القاسية التي عاناها المؤمنون من أحداث الحديبية- باعثا يحرك فى قوة وعنف، ما فى كيانهم من مشاعر، وما فى عقولهم من مدارك، ليقابلوا بها هذه المتناقضات التي بدت لهم من ظاهر موقفهم الذي اتخذوه من النبىّ مع أحداث الحديبية، حتى إذا بلغ الأمر غايته من ضيق الصدور، وحرج النفوس، طلع عليهم من حيث لم يحتسبوا ولم يقدروا- ما وراء هذا الصلح من خير كثير، وفتح مبين، فكان لذلك من السلطان على العقول، والأثر فى النفوس، ما للقائه المكروب المضطرب فى محيط الصحراء، تطلع عليه من حيث لا يحتسب قافلة تنتشله من يد هذا الضياع المستبدّ به!! إنه بعث له من عالم الموتى، وحياة مجدّدة له بين الأحياء.. وإنها لحياة عزيزة غالية، تلك الحياة الجديدة التي لبسها، وإنه لواجد فيما يستقبل من حياة طعما جديدا لتلك الحياة، وحرصا شديدا على ألا ينفق شيئا منها فى غير النافع المفيد.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 399 كذلك تماما كان شأن المؤمنين أثناء صلح الحديبية، ثم بعد هذا الصلح، وما لقيهم على طريقهم من فتح مبين، ونصر عزيز.. فازدادوا إيمانا مع إيمانهم، ويقينا إلى يقينهم.. وهكذا يربى الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين، ويصنع لهم من الأحداث والمواقف ما يثبت به خطوهم على طريق الإيمان، فلا تنال من إيمانهم الأحداث، ولا تتسرب إلى مشاعرهم الوساوس.. وقوله تعالى: «وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً» هو تعقيب على هذا الخبر الذي تضمن هذا الخير الكثير والعطاء الجزيل، الذي أفاضه الله سبحانه وتعالى على النبي، ومن معه من المؤمنين.. فهذا العطاء وذلك الإحسان، هو من مالك الملك، ومن بيده ملكوت السموات والأرض.. وهو سبحانه إذ يخبر بهذا الخبر، وبعد به، فإنما هو خبر صادق، وعدة محققة، لأنها ممن له جنود السموات والأرض، كلها مسخرة له، عاملة بمشيئته.. مشيئة العليم الحكيم.. العليم الذي يقضى بعلم، الحكيم، الذي يمضى كل أمر بتقدير وحكمة.. قوله تعالى: «لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً» .. هو تعليل لقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ..» . فهذه السكينة التي أنزلها الله فى قلوب المؤمنين، هى التي أمسكت بهم على طريق الإيمان، وأمدتهم بعزائم قادرة على ملاقاة الشدائد والمحن التي ابتلوا بها من الجزء: 13 ¦ الصفحة: 400 الكافرين حتى استطاع المسلمون أخيرا أن يهزموا الشرك، وأن يدكّوا حصونه.. وفى هذا الصراع الذي احتدم بين المؤمنين والمشركين والمنافقين، كان الابتلاء، الذي أخذ به كل فريق مكانه، من الإيمان بالله، أو الكفر به، حيث يجزى كل فريق الجزاء الذي يستحقه من الثواب أو العقاب.. فالمؤمنون والمؤمنات، يدخلهم الله جنات تجرى من تحتها الأنهار، خالدين فيها، متجاوزا لهم عن سيئاتهم، التي لو حوسبوا عليها، فلربما حجزتهم عن الجنة، أو عوّقت مسيرتهم إليها.. وفى تقدم إدخال المؤمنين والمؤمنات الجنة على تكفير السيئات، وذلك على خلاف الظاهر، الذي يقضى بأن يكون تكفير السيئات أولا، ثم دخول الجنة، ثانيا، إذ لا دخول للجنة إلا بعد تكفير السيئات- فى هذا إشارة إلى أن دخول الجنّة أمر مقضىّ به لكل مؤمن ومؤمنة، سواء كان ذلك من غير عذاب، أو بعد أن يستوفى العصاة من المؤمنين عذابهم، فهم جميعا موعدون بالجنة، وحسب المؤمن- أيّا كان- أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، كما يقول سبحانه: «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» .. هذه هى القضية.. أما تكفير السيئات، فهو إلى رحمة الله سبحانه وتعالى، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى ختام الآية: «وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً» .. أي كان دخول الجنة، والقرب من الله، والنعيم برضوانه- «فَوْزاً عَظِيماً» .. أما تكفير السيئات والتجاوز عنها بالعفو والمغفرة، فذلك إلى حكمة الله، وإلى مشيئته فى عباده، إن شاء غفر، وإن شاء حاسب وعاقب. أما المنافقون، والمنافقات، والمشركون والمشركات، الذين لم يكن نفاقهم وشركهم إلا عن سوء ظن بالله، وأنه سبحانه لا يقوم على هذا الوجود، حسب تقديرهم، ولا يعلم ما تكن الضمائر وما تخفى الصدور- فهذا الظن الباطل، هو الجزء: 13 ¦ الصفحة: 401 الذي أفسد عليهم صلتهم بالله، فلم يرجوا له وقارا، ولم يعملوا له حسابا، فكان أن ساء مصيرهم، ووخمت عاقبتهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ» (23: فصلت) وقدم المنافقون والمنافقات على المشركين والمشركات، فى مقام الإساءة والبلاء- لأن النفاق، أغلظ إثما، وأشنع جرما من الشرك، لأن الشرك وجه واحد من وجوه الشر، أما النفاق فهو وجوه كثيرة من الشر، يعيش بها المنافق، ويلبسها وجها وجها، ويتبدّلها حالا بعد حال.. قوله تعالى: «وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» هو بيان لسلطان الله المتمكن فى هذا الوجود، وأنه سبحانه، بيده الأمر كله، يجزى المحسن إحسانا، ويضاعف له، ويجزى المسيء سوءا، ولا يظلمه: «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» (31: النجم) . الآيات (14- 8) [سورة الفتح (48) : الآيات 8 الى 14] إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 402 التفسير: قوله تعالى: «إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً» . هو استئناف لتقرير خبر آخر عن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- وما له عند ربه- سبحانه وتعالى- من العطايا الجليلة، والمواهب العظيمة.. فقد فتح الله سبحانه وتعالى عليه هذا الفتح المبين، ووعده بهذا النصر العزيز، وأتمّ عليه نعمته بغفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وذلك كله واقع من وراء إحسان سبق، وفضل تقدم من الله سبحانه وتعالى، وهو اصطفاؤه سبحانه عبده محمدا للنبوة، والرسالة، والتي استحق بقيامه بحق الرسالة، وحمل أعبائها، أن يعطى هذا العطاء الجزيل، وأن يفتح له هذا الفتح المبين.. فاصطفاء النبي الكريم للرسالة، منحة خالصة من الله سبحانه وتعالى، وإحسان مبتدأ، ليس لسعى النبي دخل فيه، ولا لجهاده ولا اجتهاده سبيل إليه. فذلك أمر لا يناله أحد بعمل، ومطلب لا يبلغه إنسان باجتهاد.. إنه رحمة من رحمة الله، وفضل من فضله، يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.. أما ما فتح الله به للنبىّ، وما مكّن له من نصر، وما غفر له من ذنب- الجزء: 13 ¦ الصفحة: 403 فهو- وإن كان من فضل الله ورحمته- فإن للنبى سببا متصلا به، بما كان منه من جهاد وبلاء، فى القيام بأمر ربه، والوفاء بأداء الأمانة التي حملها.. وقدم المسبّب على السبب، أي قدّم الفتح، والنصر، ومغفرة الذنب، على اصطفاء الرسول للرسالة، وعلى الجهاد الذي جاهده من أجل الوفاء بها- وذلك للإشارة إلى أن هذه الأسباب هى مجرد أمور ظاهرية، وأن ما يقضى به الله سبحانه وتعالى فى خلقه لا يتوقف على سبب، وأن ما قضى به سبحانه للنبىّ الكريم، من فتح ونصر ومغفرة لما تأخر من ذنبه وما تأخر، هو فضل خالص من فضل الله، وإحسان مطلق من إحسانه إلى رسوله الكريم، وأن الرسالة نعمة أخرى، وأن حمل أعبائها، هو شكر لتلك النعمة العظيمة، التي أقامت النبي مقام الإمام للناس جميعا.. قوله تعالى: «لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» .. عزّروه: أي نصروه، وعزّزوه، وأيدوه.. واللام فى قوله تعالى: «لِتُؤْمِنُوا» لام التعليل.. وقد قرىء بضمير الغيبة: ليؤمنوا، ويعزّروه، ويوقروه، ويسبحوه.. واختلف فى مرجع ضمير النصب فى الأفعال.. والرأى على أنها جميعا عائدة إلى الله سبحانه وتعالى.. فالتعزير، والتوقير، والتسبيح، كلها عائدة إلى الله سبحانه على هذا الرأى.. على أننا نخالف هذا الرأى، ونرى- والله أعلم- أن الضمائر، بعضها الجزء: 13 ¦ الصفحة: 404 عائد إلى الله سبحانه وتعالى، وبعضها عائد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فالتعزير، للرسول، وهو فى الوقت نفسه تعزير لله، ونصر لرسول الله، وتأييد لدينه.. ولكن إضافة هذا التعزير للرسول تكريم له، لأنه القائم على دين الله، وحامل راية الجهاد فى سبيل الله.. ويشهد لهذا قوله تعالى: «فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» .. (157: الأعراف) فالضمائر هنا كلها عائدة إلى الرسول الكريم من غير شك، والقرآن الكريم يفسّر بعضه بعضا.. وأما التوقير فهو لله، وللرسول.. وأما التسبيح بكرة وأصيلا، فهو خالص لله وحده.. قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ، وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» .. المفسرون على رأى واحد، بأن المراد بالمبايعة فى الآية الكريمة، هو بيعة الشجرة، وتسمى بيعة الرضوان، وهى التي تشير إليها الآية الكريمة بعد هذا، حسب هذا الرأى.. والآية هى قوله تعالى: «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً» .. والرأى عندى- والله أعلم- أن المبايعة هنا عامة، تدخل فيها البيعة على الإسلام، كما تدخل فيها بيعة الرضوان على القتال، وكلّ بيعة بين النبي والمؤمنين.. فقد كان الذين يستجيبون لرسول الله، ويدخلون فى دين الله، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 405 - كانوا يبايعون النبىّ، على الإيمان يا لله ورسوله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والجهاد فى سبيله، كما بايع الأنصار النبي- صلى الله عليه وسلم- بيعتى العقبة الأولى، والثانية، على هذا الإيمان، وعلى أن يمنعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم.. والذي رجّح عندنا هذا الرأى، أمور منها: أولا: أن بيعة الرضوان كانت لأمر عارض، وهو قتال المشركين، إذا ثبت أنهم اعتدوا على «عثمان» مبعوث رسول الله إليهم.. فلما ظهر أن المشركين لم ينالوا عثمان بأذى، بل إنهم عرضوا عليه أن يطوف بالبيت إن أراد، ولكنه أبى أن يطوف إلا أن يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم- لما ظهر هذا، انحلّ عقد هذه البيعة، وبقي المبايعون على عقدهم الأول الذي دخلوا به فى الإسلام.. فلم يقع فى هذه البيعة نكث، لأن المسلمين لم يدخلوا فى حرب مع المشركين تحت حكم هذه البيعة، ومن ثمّ لم يكن متّجه لهذا التهديد الذي جاء فى قوله تعالى: «فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ» وإنما متجهه هو إلى عموم النكث، وفى جميع المواقف والأحوال.. وثانيا: أن بيعة الرضوان، قد ذكرت ذكرا خاصا فى قوله تعالى: «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً» وفى الآية الكريمة أن الله سبحانه قد رضى عن جميع المؤمنين الذين بايعوا رسول الله تحت الشجرة، وأن الله سبحانه، قد علم ما فى قلوبهم من إذعان لدعوة رسول الله، وولاء وتسليم له، مع ما كانوا يجدون فى صدورهم من حرج، فى التوفيق بين ما جاءوا له، وهو دخول المسجد الحرام، وبين هذا الصلح الذي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 406 تمّ بينهم وبين قريش، ولهذا أنزل الله السكينة عليهم، وجزاهم جزاء طيبا، بهذا الفتح القريب، وهو فتح خيبر.. فالمؤمنون الذين بايعوا الرسول تحت الشجرة، دخلوا جميعا فى هذا الحكم، وهو رضا الله عنهم، وإنزال السكينة على قلوبهم.. وهذا يقطع بأن أحدا منهم لم ينكث أبدا.. وفى قوله تعالى: «إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ» - إشارة إلى أن مبايعة المؤمنين لرسول الله، ليست لحساب الرسول، ولا لشأن من شئونه الخاصة، وإنما هى بيعة خالصة لله، وللجهاد فى سبيل الله، وما الرسول صلوات الله وسلامه عليه، إلّا قائم بأمر الله، قائد للمجاهدين فى سبيله.. وقوله تعالى: «يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» - هو توكيد لهذه الحقيقة، وهى أن البيعة لله، وأن الذين أعطوا أيديهم مبايعين لرسول الله، إنما أعطوا أيديهم لله، ويد الرسول التي صافحت هذه الأيدى المبايعة، هى- من غير تشبيه- نيابة عن يد الله.. وهذا كله من قبيل التمثيل، كما فى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ» .. فالأمر فى ظاهره ليس بيعا ولا شراء، ولكنه فى واقعه بيع ربيح.. قوله تعالى: «سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» .. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 407 هو إخبار من الله سبحانه وتعالى للنبىّ الكريم، بما سيلقاه به الذين تخلفوا من الأعراب عن دعوة الرسول لهم، فى السير معه إلى مكة، لزيارة البيت الحرام، وليكثر بهم أعداد المسلمين، ليكون فى ذلك ما يرهب قريشا، فلا تعترض سبيل النبىّ والمسلمين لزيارة بيت الله.. ولقد تقاعس هؤلاء الأعراب الذين كانوا يعيشون قريبا من المدينة، وتعللوا بأعذار شتى، وفى تقديرهم أن الذين يصحبون النبىّ فى هذا المسير، لن يسلموا من القتل، ولن يرجعوا إلى أهليهم أبدا، وإنه لهو الهلاك المحقق لهذه الجماعة التي استجابت للرسول، وسارت معه.. إذ كيف يعقل- وهذا تقديرهم- أن يواجه النبىّ والمسلمون قريشا بهذا العدد من المسلمين، الذين لا يتجاوز عددهم ألفا، وأن يدخلوا عليهم ديارهم، ويطئوا بلدهم، وقد كانت قريش فى الأمس القريب، فى موقعة أحد، تهدد المسلمين، وتكاد تدخل عليهم المدينة، وتستولى على ديارهم؟ فلما سار النبىّ الكريم مسيرته بأصحابه الذين استجابوا له، وتم صلح الحديبية بينه وبين قريش، وأخذ النبىّ بأصحابه طريقه إلى المدينة، وفتح الله له «خيبر» من غير قتال، - لما كان هذا أخذ هؤلاء المخلّفون من الأعراب يدبرون أمرهم، ويعدّون المقولات التي يلقون بها النبىّ، والمعاذير التي يعتذرون بها إليه، عند رجوعه إلى المدينة.. ومن تلك المقولات ما ذكره الله سبحانه وتعالى عنهم فى قوله تعالى: «شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا» .. وقد فضح الله سبحانه وتعالى كذب هذا القول، وردّه على قائليه، فقال سبحانه: «يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ» أي أنه ليست الأموال والأهلون هى التي شغلت هؤلاء الأعراب عن الاستجابة لدعوة رسول الله، ولكن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 408 الذي أمسك بهم عن تلبية هذه الدعوة، هو ما وقع فى نفوسهم من شبح الخطر الذي يترصد كلّ من يسير هذه المسيرة، ويدخل على قريش ديارها.. وقوله تعالى: «قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً؟» - هو رد على هؤلاء المخلّفين، وعلى سوء ظنهم بالله سبحانه وتعالى، وجهلهم بما له جل شأنه من سلطان مطلق فى هذا الوجود، وأنه سبحانه هو الذي بيده مقاليد السموات والأرض، وأن أحدا لا يملك معه ضرّا أو نفعا.. وقوله تعالى: «بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً» ، هو تقرير لتلك الحقيقة التي خفيت على هؤلاء المخلفين، وأن الله سبحانه وتعالى يعلم ما يخفون وما يعلنون، علم الخبير الذي لا تخفى عليه خافية، فى الأرض ولا فى السماء.. قوله تعالى: «بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً» . هذا هو ما انطوت عليه صدور المخلفين من أوهام وظنون، تسلطت عليهم، فأخذوا هذا الموقف الخاسر، الذي عزلهم عن مواقع الخير، وحرمهم ما ناله المؤمنون الذين ساروا فى مسيرة رسول الله، من رضا الله عنهم، ومن هذا الخير الذي امتلأت به أيديهم من غنائم خيبر.. والبور: الهلاك.. والقوم البور، هم الهالكون، الذين خسروا الدنيا والآخرة جميعا، وذلك هو الخسران المبين.. قوله تعالى: «وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 409 هو بيان للجهة التي جاء منها هذا الهلاك والبوار لأولئك المخلّفين، وهو أنهم لم يكونوا مؤمنين بالله ورسوله، إذ لو كانوا مؤمنين حقّا لما كان منهم هذا التخلف عن دعوة الرسول لهم.. إذ الإيمان- فى حقيقته- ولاء مطلق، ومتابعة يلا تردد، ولا مراجعة.. قوله تعالى: «وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» .. هو إلفات إلى الإيمان الصحيح بالله سبحانه وتعالى، وهو الإيمان القائم على اليقين بأن الله سبحانه، له ملك السموات والأرض، وأنه وحده سبحانه، يملك الضر والنفع، فمن آمن بالله على هذا المفهوم واستيقنه، فإنه- فى سبيل الاحتفاظ بهذا الإيمان، والدفاع عنه- يتحدّى الناس جميعا، لا يخاف سلطانا، ولا يرهب قوة.. وقوله تعالى: «وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» - هو دعوة إلى الذين ساء ظنهم بالله، أن يقيموا إيمانهم بالله على هذا المفهوم، فإن هم فعلوا، غفر الله سبحانه وتعالى لهم ما كان من تقصير فى حق الله، وسوء ظنّ به. الآيات (17- 15) [سورة الفتح (48) : الآيات 15 الى 17] سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 410 التفسير: قوله تعالى: «سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا» . هو إخبار من الله سبحانه وتعالى، لما سيكون من هؤلاء المخلّفين، بعد أن يلتقوا بالنبي، وقد رجع من مسيرته منتصرا غانما، من حيث قدّروا الهزيمة، والهلاك.. إنهم سيعرضون على النبي أن يقبلهم فى المجاهدين إذا هو سار مسيرة كتلك المسيرة، التي يكون منها الغنم والظفر.. وهذا ما يكشف عما فى قلوبهم من إيمان زائف.. فهم إنما يكونون فى المؤمنين المجاهدين، إذا كان من وراء هذا الإيمان والجهاد، سلامة ومغنم.. والإيمان- فى حقيقته- هو بذل، وتضحية، غير منظور فيه إلى تحصيل كسب، أو ظفر بمغنم.. وقوله تعالى: «إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ» - الجزء: 13 ¦ الصفحة: 411 بيان للغاية التي يتغيّاها هؤلاء المخلفون من الأعراب، من هذا العرض الذي يعرضونه على النبي بالسير معه إلى الجهاد، وأنهم إنما يسيرون حيث تكون هناك مغانم يملئون أيديهم منها.. وقوله تعالى: «يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ» .. كلام الله: هو حكمه وقضاؤه، وهو أن تكون المغانم من حظّ المجاهدين، لا أولئك الذين يتصيدون الفرص لتقع إلى أيديهم الغنائم من غير قتال.. وهؤلاء المخلفون لا يخرجون مع المجاهدين إلا إذا كان الخروج إلى مغانم من غير قتال، وهذا من شأنه- لو حدث ولن يحدث- أن يبدل حكم الله الذي جعل الغنائم المجاهدين.. وفى هذا النظم الذي جاء عليه الخبر، تيئيس للمخلفين أن يكون لهم فى هذه المغانم نصيب، لأن أخذهم شيئا منها، فيه تبديل لكلمات الله، وإنه لا مبدّل لكلمات الله.. وقوله تعالى: «قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا» هو تعقيب على قوله تعالى: «يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ» وتصريح بالحكم الذي تضمنه، فإن من مضمون قوله تعالى: «يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ» أنهم لن يخرجوا مع المؤمنين، لأن فى خروجهم تبديلا لكلمات الله، ولا مبدل لكلمات الله.. وقوله تعالى: «كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ» .. الإشارة هنا هى إلى الحكم الذي جاء فى قوله تعالى: «لَنْ تَتَّبِعُونا» .. أي مثل هذا الحكم الذي قضينا به عليكم، وهو ألا تتبعونا، كان قضاء الله فيكم وحكمه عليكم من قبل هذا الحكم الصريح الذي واجهناكم به، أيها المخلفون، فقد قال الله الجزء: 13 ¦ الصفحة: 412 من قبل فيكم: «يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ» - ومضمون هذا أنكم لن تخرجوا معنا.. هذا، وقد اضطربت آراء المفسرين فى هذا، وكثرت مقولاتهم، ولم نر فيما رأينا من آراء ومقولات، ما نطمئن إليه.. فكان هذا رأينا الذي نرجو أن يكون صوابا.. والله أعلم.. قوله تعالى: «فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا» - هو من مقولات المخلفين التي يمكن أن يقولوها، ردّا على قول النبي والمؤمنين لهم: «لن تتبعونا» - وهو ردّ أحمق جهول، فيه مغالطة فاضحة.. إذ كيف يحسدهم المؤمنون، وقد دعوا من قبل إلى الجهاد، فأبوا وتخلفوا؟ وكيف وطريق الجهاد مفتوح على مصراعيه للمجاهدين حقّا، الذين يريدون بجهادهم وجه الله، وإعلاء دين الله؟. وقوله تعالى: «بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا» أي أن هؤلاء الأعراب المخلفين، إنما هم على عمى وجهل، ولو أنهم كانوا على شىء من العلم بدين الله، وبحقائق هذا الدين، لما وقفوا هذا الموقف من الجهاد، ثم لما كان منهم هذا الاعتراض فى طريق المجاهدين بهذا المنطق الجهول.. أما مالهم من فقه قليل، فهو ما كان من أمر الدنيا وشئونها، ومع هذا فهو قشور من الفقه، لا يصل إلى شىء من لباب المعرفة، وهذا مثل قوله تعالى: «يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ» (7: الروم) . قوله تعالى: «قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 413 تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ، فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً» . هذه دعوة إلى هؤلاء المخلفين، تقطع عليهم مقولتهم للمؤمنين: «بل تحسدوننا» .. وهم فى هذه الدعوة مدعوون إلى قتال قوم أولى بأس شديد، وأنهم مطالبون كذلك فى هذا القتال أن يقفوا موقف المجاهدين حقّا، وهو ألا يتحولوا عن القتال إلّا إذا استسلم لهم العدوّ، ودخل فى دين الله.. وقد اختلف المفسّرون فى هؤلاء القوم ذوى البأس الشديد، الذين سيدعى هؤلاء المخلفون إلى قتالهم، حين يندب المؤمنون إلى قتالهم.. ويذهب كثير من المفسرين، إلى أن هؤلاء القوم هم فارس، والروم.. وهذا غير صحيح من وجهين: أولهما: أن قتال فارس والروم لا يكون فيه قتالهم إلى أن يدخلوا فى الإسلام، بل إنه يكتفى منهم بقبول الجزية فى حال هزيمتهم، وإبائهم أن يدخلوا فى الإسلام، وإنما حكم القتل أو الإسلام هو فى حقّ العرب وحدهم، لأنهم هم الذين تقوم عليهم الحجة كاملة، بتلك المعجزة التي فى كتاب الله المعجز، الذي جاء بلسانهم.. والوجه الآخر، هو أن هؤلاء المخاطبين المخلفين، ينبغى أن تكون دعوتهم إلى قتال هؤلاء القوم بعد زمن قليل من وقت نزول هذه الآية.. حتى لا يذهب الموت بكثير منهم، إذ طال الزمن بهم، وقتال الفرس والروم جاء بعد نزول هذه الآيات، بنحو عشر سنين.. والذي يصحّ عندنا من هذه المقولات، هو القول بأن القوم ذوى البأس الشديد، هم بنو حنيفة، قوم مسيلمة الكذاب، الذين ارتدوا عن الإسلام، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 414 بعد وفاة النبي، صلوات الله وسلامه عليه، وكان ذلك بعد أربع سنين من نزول هذه الآية.. وبنو حنيفة، قد ارتدّوا عن الإسلام، بعد وفاة الرسول، فندب أبو بكر- رضى الله عنه- المسلمين إلى جهادهم، وقد حاربوا جيوش المسلمين حربا قاسية، حتى لقد استشهد من المسلمين أعداد كثيرة، كان من بينهم سبعون شهيدا من القرّاء وحدهم، كما يقول ذلك أصحاب المغازي.. وهذا كله حديث عن مستقبل لم يجىء بعد، وإنما هى أحداث ومواقف سوف تقع تباعا، ابتداء من نزول هذه الآيات.. قوله تعالى: «لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً» . رفع الحرج هنا عن هؤلاء الذين ذكرت الآية الكريمة صفاتهم، إنما هو فى مقام الجهاد فى سبيل الله.. فهؤلاء معفون من الجهاد، بحكم الأعذار التي معهم.. وقد رتّبوا ترتيبا تنازليا.. فالعمى عذر قاطع، لا شبهة فيه فى الحرب، والعرج عذر غير ظاهر، قد يكون معه عجز عن القتال أو قدرة عليه، وأمر ذلك موكول إلى تقدير ولىّ الأمر، وإلى ضمير صاحب الآفة ودينه.. أما المرض، فهو عذر يغلب عليه الخلفاء، وأمره متروك تقديره للمريض نفسه، وإلى ما يمليه عليه دينه.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 415 الآيات (26- 18) [سورة الفتح (48) : الآيات 18 الى 26] لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 416 التفسير: قوله تعالى: «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً» . المؤمنون الذين رضى الله عنهم، وشملهم بهذا الرضوان العظيم، هم الذين كانوا مع النبىّ فى الحديبية، والذين بايعوه على قتال المشركين، حين جاءت أخبار من مكة تقول: إن المشركين قد نالوا عثمان رضى الله عنه، بسوء، وقد كان الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- بعثه إليهم، ليخبرهم بأن الرسول وأصحابه إنما جاءوا معتمرين زائرين للبيت الحرام، ولم يجيئوا لقتال.. وقوله تعالى: «وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً» أي أن الله سبحانه وتعالى، مع هذا الرضوان الذي شمل به المؤمنين من أهل الحديبية- قد فتح عليهم خيبر وملأ أيديهم من مغانمها، وبهذا رجعوا ومعهم حظ الدنيا والآخرة جميعا.. ووصف الفتح بأنه قريب، وذلك لقرب زمانه، إذ كان على أيام من صلح الحديبية، ثم لقرب تناوله، إذ لم يلق المسلمون من أهل خيبر بلاء كثيرا، بل سرعان ما استسلم يهود خيبر ليد النبىّ، ونزلوا على حكمه.. قوله تعالى: «وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً» .. هو معطوف على قوله تعالى: «وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً» .. أي وأثابهم مغانم كثيرة يأخذونها، فى قتالهم المشركين، والكافرين والمنافقين، ومنها غنائم هوازن فى موقعة حنين، ثم تلك المغانم الكثيرة فى حرب فارس والروم.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 417 قوله تعالى: «وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً» .. هذا وعد من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين وهم على طريق الجهاد، بأنه سبحانه، سيمكّن لهم من مغانم كثيرة يأخذونها، وأن هذا الذي أخذوه فى «خيبر» ليس إلا ثمرة معجّلة من ثمار جهادهم، وإلا باكورة من بواكير هذا الثمر.. وقوله تعالى: «وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ» .. المراد بالناس هنا هم من واجههم النبىّ والمسلمون فى مسيرته تلك، وهم أهل مكة، وأهل خيبر، فهؤلاء، وهؤلاء، لم يدخلوا مع المسلمين فى حرب، بل عافاهم الله من هذا البلاء، وأعطاهم ثمرته، فسلّمت لهم قريش بحق دخولهم مكة، والطواف بالبيت الحرام، واستسلم لهم يهود خيبر، وسلّموا لهم ما بين أيديهم من أموال، وزروع.. وقوله تعالى: «وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ» معطوف على محذوف، يفهم من قوله تعالى: «فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ» أي لتكون هذه الغنائم جزاء طيبا لكم، وليكون منها آية للمؤمنين، يرون فيها أن الله سبحانه وتعالى غنىّ عن الجهاد، وأنه سبحانه قادر على أن يفتح لهم البلاد ويخضع لهم العباد من غير قتال.. ولكنّ هذا يحرم المجاهدين فضل الجهاد، ولا يجعلهم فى مكان هم أولى به من غيرهم، من رضوان الله، ومن الغنائم التي ينالها المجاهدون.. وقوله تعالى: «وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً» معطوف على قوله تعالى: «وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ» أي وليكون لكم من هذه الآية، من هذه الآية، ما يملأ قلوبكم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 418 إيمانا بالله، ويقينا بدينه، حيث ترون آثار لطف الله سبحانه، وشواهد قدرته.. قوله تعالى: «وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً» .. الأخرى: هى مكة.. وقوله تعالى: «لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها» صفة لمكة.. والمعنى، أنه إذا كان لكم فى مغانم خيبر، وفى غلبكم عليها- إذا كان لكم فى ذلك آية، فإن لكم فى أهل مكة آية أخرى، إذ كان المشركون فى صراع طويل معكم، وكانت الحرب بينكم وبينهم سجالا، وأنكم لم تقدروا أن تنالوا منهم الاستسلام لكم.. ثم هاأنتم هؤلاء ترون وقد جئتموهم لغير حرب، وفى عدد قليل، ومع هذا فقد ذلّوا بين أيديكم، وطلبوا عقد هدنة معكم، وليس ذلك إلا لأن الله سبحانه وتعالى قد أحاط بهم، وأخذ على أيديهم، وأوقع الرعب منكم فى قلوبهم.. قوله تعالى: «وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً» .. أي أنكم أيها المؤمنون لا تقاتلون عدوكم بكثرتكم، ولكن تقاتلونهم بإيمانكم بالله، وتوكلكم عليه، وإخلاص نيتكم له، وهذا هو ضمان النصر لكم من ربكم.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 419 ولو أن هؤلاء المشركين- وهم فى عددهم، وشوكتهم، وفى بلدهم وبين أهليهم- لو أن هؤلاء المشركين، قاتلوكم يوم الحديبية، لنصركم الله عليهم، ولولّوا الأدبار منهزمين، ثم لا يكون لهم ولىّ يقوم لهم، ولا ناصر يفزع لنصرهم.. وهذا حكم مطلق على ما سيكون بين المسلمين والمشركين، منذ نزول هذه الآية.. فإن أي لقاء سيلتقى فيه المسلمون بالمشركين، لن يكون للمشركين فيه إلا الهزيمة، التي لا يقيلهم منها ولىّ ولا نصير.. وقد تحقق هذا، فلم يكن بين المسلمين والمشركين بعد الحديبية حرب، وإنما كان من المشركين استسلام، وإسلام، فى يوم الفتح.. قوله تعالى: «سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» .. «سنة» منصوب بفعل محذوف، وتقديره، لقد سنّ الله سبحانه وتعالى بهؤلاء المشركين سنة الله التي قد خلت من قبل، وهى سنة الله فيما بين أولياء الله وأولياء الشيطان، بين أهل الحق، وأهل الباطل.. وسنة الله: هى حكمه، وقضاؤه.. وحكم الله وقضاؤه، هو نصرة الحق وخذلان الباطل، كما يقول سبحانه: «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ» - ويقول تعالى: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي.. إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ..» (21: المجادلة) قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً» .. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 420 يجمع المفسرون على أن ما تشير إليه الآية من كفّ أيدى المشركين عن المؤمنين، وكف أيدى المؤمنين عن المشركين- إنما هو عن صلح الحديبية.. ولكن قوله تعالى: «بِبَطْنِ مَكَّةَ» يردّ هذا القول.. فالمؤمنون لم يدخلوا مكة عام الحديبية، بل ولم يظفروا بالمشركين الظفر الذي يمكّن لهم منهم.. والذي نراه- والله أعلم- أن هذا إنما كان يوم الفتح، حيث دخل النبي- صلى الله عليه وسلم- مكة، على رأس جيش من عشرة آلاف مقاتل، وأن قريشا قد فزعت لهذا، واستسلمت من غير قتال، طالبة الأمان من رسول الله، بعد أن مكن الله له من رقابهم، فقال لهم صلوات الله وسلامه عليه قولته الخالدة: «ما تظنون أنى فاعل بكم» ؟ - إنهم الآن بين يديه، وفى متناول سيوف المسلمين، وإن النبي قد ملكهم ملكا مطلقا، يتصرف فيهم كيف يشاء.. ولم يجد القوم جوابا يجيبون به على هذا التحدّى، الذي يستئير الحمية، ولكن لم يكن للقوم بعد مارأوا من جيش المسلمين- لم يكن عندهم بقية من حمية تستثار، فكان جوابهم للنبى، هذا الجواب الذليل المستسلم: «أخ كريم! وابن أخ كريم!!» .. ألا لقد ذلّت جباه المتكبرين، ورغمت أنوف المتعالين!! وقد كان رد النبىّ الكريم، سمحا كريما، كما هو شأنه فى جميع أحواله.. فقال صلوات الله وسلامه عليه: «أذهبوا فأنتم الطلقاء» !! لقد أطلقهم بتلك الكلمة الطيبة الكريمة من الأسر، وحفظ عليهم دماءهم التي كانت مهدرة! ولا يعترض على هذا الرأى الذي ذهبنا إليه، بأن الآية تحدّث عن أمر الجزء: 13 ¦ الصفحة: 421 وقع فعلا، وذلك فى قوله تعالى: «كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ..» بلفظ الماضي.. والجواب على هذا من وجهين: أولهما: أن الإخبار عن المستقبل بالفعل الماضي، إشارة إلى تحققه، وأنه إن لم يكن قد وقع، فهو واقع لا شك فيه.. وثانيهما: أنه قد تكون هذه الآية نزلت بعد فتح مكة، ثم أخذت مكانها من السورة، لتكون إلى جانب أحداث الحديبية التي تلقّى فيها الرسول الكريم قوله تعالى: «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً» .. فهذا الفتح يطوى فى كيانه فتح مكة، وإن كان فتحها لم يقع بعد.. قوله تعالى: «هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً» .. هو بيان للسبب الذي من أجله أخذ سبحانه المشركين بالخزي والخذلان، وسنّ بهم سنته- سبحانه- فى الذين خلوا من قبل.. ذلك لأنهم كفروا بالله ورسوله، وصدّوا النبي والمسلمين عن المسجد الحرام، ومنعوا الهدى أن يبلغ محلّه من البيت العتيق.. والخطاب للنبى صلوات الله وسلامه عليه، وللمؤمنين معه، الذين واجههم المشركون يوم الفتح.. وفى هذا إلفات للنبى وأصحابه إلى حالهم التي كانوا عليها يوم الحديبية وإلى حالهم اليوم من القوّة، والتمكن من قريش، وأن سيف الباطل الذي كانت الجزء: 13 ¦ الصفحة: 422 تضرب به قريش فى وجوه المسلمين، وتلجئهم إلى الفرار من ديارهم- هذا السيف قد تحطم على صخرة الحق، وخذل أهله فى الموقف الحاسم، فى ساعة العسرة.. لقد استدار الزمن، وأصبح الضعفاء الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله- أصبحوا أصحاب هذا البلد الذي أخرجوا منه، وصار إلى أيديهم أن يخرجوا أو يقتلوا أولئك الظالمين الضالين الذين أخرجوهم بالأمس من ديارهم.. هذا بعض ما وقع فى مشاعر كل من المسلمين والمشركين من تلك المواجهة التي كانت بينهما يوم الفتح، كلّ منهما يراجع مسيرة الأحداث التي جرت بينهما، حتى إذا انتهوا إلى يوم الفتح هذا وجدوا مفارقات بعيدة بين بدء الأحداث ونهايتها، حيث انقلبت الموازين، وتبدلت الأوضاع، وأصبح الذين كانوا لا يملكون شيئا، يملكون كل شىء، وصار الذين كانوا يملكون كل شىء لا يملكون شيئا.. و «إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ» .. قوله تعالى: «وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً» هو معطوف على ضمير النصب فى قوله تعالى: «وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» أي وصدوكم وأنتم محرمون عن أن أن تطوفوا بالبيت الحرام، وصدوا الهدى وهو معكوف عن أن يبلغ محله.. والهدى، ما يهدى للبيت الحرام من بهيمة الأنعام.. والمعكوف: أي المحبوس على هذه الغاية، والموقوف عليها، فلا يتصرف فيه ببيع ولا بغيره.. قوله تعالى: «وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ» .. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 423 جواب لولا محذوف، دل عليه المقام، وهو مقام تهديد للمشركين، وتذكير لهم، بجناياتهم الشنيعة على الدعوة الإسلامية، وعلى المسلمين.. والتقدير: لولا هؤلاء الرجال المؤمنون والنساء المؤمنات الذين يعيشون مع هؤلاء المشركين ولم يعلنوا إيمانهم، وأنهم قد يؤخذون بما يؤخذ به المشركون لو وقعت الحرب بينهم وبين المسلمين- لولا هذا لسلطكم الله عليهم يوم الفتح، وهم تحت أيديكم، ولذهبت سيوفكم بكثير من تلك الرءوس التي كانت تكيد للإسلام وتسوق الأذى والضر إلى أهله.. وقوله تعالى: «لَمْ تَعْلَمُوهُمْ» هو صفة للمؤمنين والمؤمنات، أي أن هؤلاء الرجال المؤمنين والنساء المؤمنات، كانوا يسرّون إيمانهم، ويمسكون به فى قلوبهم.. خوفا من أهلهم المشركين- فهم فى نظر المؤمنين مشركون، يؤخذون بما يؤخذ به المشركون، لأنهم لا يعلمون عن إيمانهم شيئا.. وقوله تعالى: «فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ» .. المعرّة: المذمة، والعائبة التي تعيب الإنسان وتنقصه.. وفى إسناد المعرة إلى هؤلاء المؤمنين والمؤمنات الذين يسرون إيمانهم، فى قوله تعالى: «فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ» - فى هذا إشارة إلى أن الذي يتوجه إلى المسلمين باللوم والعيب هم أولئك المؤمنون والمؤمنات أنفسهم، لأنهم هم الذين يعلمون أنهم مؤمنون، وأنهم قتلوا بيد إخوانهم المؤمنين، الذين خفى عليهم إيمانهم.. وقوله تعالى: «لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ» - هو تعليل لمفهوم المخالفة من جواب الشرط المحذوف، أي لولا رجال مؤمنون، ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم، فتصيبكم منهم معرة بغير علم- لولا هذا لسلطكم الله على المشركين، ولكنه سبحانه لم يسلطكم عليهم، ليدفع عنكم المعرّة، بما تصيبون الجزء: 13 ¦ الصفحة: 424 من المؤمنين والمؤمنات، وليدخل فى رحمته من يشاء.. فإن لله سبحانه فى هؤلاء المشركين من يريدهم لدينه، ويدخلهم فى رحمته، ولهذا مدّ لهم فى الأجل، ودفع عنهم أيدى المسلمين من أن تقضى عليهم، وذلك ليقضى الله أمرا كان مفعولا، وليدخل فى رحمته من يشاء من هؤلاء المشركين.. وقوله تعالى: «لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً» أي لو انفصل هؤلاء المؤمنون والمؤمنات الذين أرادهم الله للإيمان- لو انفصل هؤلاء وهؤلاء عن كيان المشركين، الذين لن يؤمنوا بالله أبدا، لو انفصلوا عنهم لعذاب الله سبحانه الذين كفروا منهم عذابا أليما، بأن يسلطكم عليهم أو يرسل عليهم عذابا من عنده، ولكن الله سبحانه- حماية للمؤمنين والمؤمنات ودفعا لما يلحقهم من مكروه إذا نزل العذاب بهؤلاء المشركين الذين يخالطونهم ويمتزجون بهم- لم ينزل عذابه فى الدنيا بهؤلاء المشركين الذين لن يؤمنوا أبدا، وأنظرهم إلى يوم الدين.. وهكذا أكرم الله المؤمنين، فلم يفجعهم فى أهليهم من المشركين، ولم يرهم ما يسوءهم فيهم، وهكذا يصنع الله لأوليائه.. قوله تعالى: «إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً» .. الحمية الغيرة، والأنفة، وهى التي تحتمى بها الحرمات.. وهى محمودة إذا كانت فى جانب الحق، والعدل والإحسان، ومذمومة إذا كانت فى جانب الهوى والسّفه، والضلال.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 425 وحمية الجاهلية، حمية استعلاء، وتطاول بغير حق، لا يضبطها عقل، ولا تسوسها حكمة.. أي أنه على حين امتلأت قلوب المشركين الذين كفروا من حمية الجاهلية، وغذّوها بهذه المشاعر الكاذبة الفاسدة، بما كان لهم من قوة ظاهرة على المسلمين- فإن الله سبحانه وتعالى حين منح المسلمين القوة، ومكن لهم من هؤلاء الكافرين، حرس هذه القوة من أن تكون أداة بغى وعدوان، فأنزل السكينة على رسوله وعلى المؤمنين، ونزع ما فى قلوبهم من حفيظة على المشركين وألزمهم كلمة التقوى، وهى الكلمة التي عفا الرسول صلوات الله وسلامه عليه بها عن المشركين، حين قال لهم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» - فهذه الكلمة التي لا يقولها فى هذا المقام إلا رسول الله، وهو أحق بها وأهلها من دون الناس جميعا، والمؤمنون هم على هذا المورد الطيب الذي ورده الرسول، فهم بهديه مهتدون، وعلى سنته قائمون.. الآيات (29- 27) [سورة الفتح (48) : الآيات 27 الى 29] لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 426 التفسير: قوله تعالى: «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً» .. هو ردّ من الله سبحانه وتعالى على ما وقع فى نفوس بعض المسلمين من مشاعر القلق، والضيق، والاتهام، لما فاتهم من دخول المسجد الحرام يوم الحديبية، وقد جاءوا إليه وهم على يقين بأنهم داخلوه، تصديقا للرؤيا التي رآها النبىّ وأخبرهم بها.. فقوله تعالى: «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ» تصديق لرؤيا الرسول الكريم، وأنها رؤيا من الله، وأنها الصدق المطلق، والواقع المحقق، وإن كان تأويلها لم يجىء بعد.. وقوله تعالى: «لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ» - هو جواب لقسم محذوف، وهذا القسم هو لتأكيد هذا الخبر الذي يخبر الله سبحانه وتعالى به المؤمنين، وأنهم داخلون المسجد الحرام إن شاء الله آمنين، لا تعترضهم قريش، ولا يقع منها ما يسوؤهم، وأنهم سيقضون عمرتهم، ويحلّقون ويقصرون، إيذانا بالحلّ من العمرة وإحرامها.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 427 والتحليق، هو أن يحلق بعضهم لبعض شعورهم. والتقصير، هو قصّ الشعر.. ولو بضع شعرات منه. وقوله تعالى: «فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً» - أي أن الله سبحانه وتعالى لم يقدّر للنبى والمسلمين دخول المسجد الحرام هذا العام، لأمر أراده، وحكمة لا يعلمها إلا هو، فصرف المسلمين عن دخول مكة هذا العام، وجعل بين صرفهم عنها، ودخولهم إياها الذي وعدوا به- جعل بين هذا الوقت وذلك، فتحا قريبا، هو فتح خيبر.. فكان للمسلمين من ذلك فتحان: فتح قريب، هو فتح خيبر، وفتح يأتى بعده، هو فتح مكة.. قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً» أي الذي جعل من دون ذلك فتحا قريبا، هو الله سبحانه، الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ليكون على يديه تبليغ هذا الدين، الذي سيجعله الله فوق كلّ دين.. وهذا وعد من الله سبحانه، وكفى بالله شهيدا على هذا الوعد الذي لن يخلف أبدا.. قوله تعالى: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 428 بهذه الآية الكريمة تختم سورة «الفتح» . وبهذا الفتح الذي وعد الله المؤمنين تقوم دولة المسلمين، ويأخذ مجتمعهم مكانه فى الحياة، ويرى الناس وجه الإسلام فى هذا المجتمع. والصفة التي تغلب على هذا المجتمع، ويعرف بها فى الناس، أنه مجتمع شديد الغلظة على الكفار، الذين يحادّون الله ورسوله، فلا يكون بينه وبين الكافرين ولاء أو مودة يجار فيها على دين الله، أو ينتقص بها حق من حقوق المسلمين. هذا حالهم مع أعداء الله.. أما هم فيما بينهم فهم رحماء، تفيض قلوبهم حفانا ورحمة ومودة، تجمعهم أخوة بارّة فى الله، وفى دين الله.. هذا ما تنطوى عليه صدورهم، وتفيض به مشاعرهم، نحو أعداء الله، وأوليائه.. أما ما يراه الناس من ظاهر أمرهم، فهو اجتماعهم فى الصلاة، وتولية وجوههم جميعا لله.. يركعون معا، ويسجدون معا.. يريدون بذلك مرضاة الله، ويبتغون فضله وإحسانه.. فإذا لم يرهم الرائي فى مقام الصلاة، رأى منهم أثر هذه الصلاة، وما يترك السجود على جباههم من آثار، هى سمة المسلم المصلّى، وهى الشارة التي تشير إليه، وإلى الدين الذي يدين به.. وهذا يعنى أن الصلاة هى شعار المسلم، وأن من لا يؤديها لا نظهر عليه سمة الإسلام، ومن هنا كانت الصلاة الركن الأول الذي يقوم عليه الإسلام بعد الإيمان بالله.. وفى الحديث: «بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة» .. وفى الحديث أيضا: «العهد بيننا وبينكم الصلاة فمن تركها فقد كفر» .. يريد تركها عامدا منكرا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 429 وقوله تعالى: «ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ» أي هذه الصفة هى صفة المسلمين التي وصفهم الله بها فى التوراة.. والإشارة: إما أن تكون إلى جميع هذه الأوصاف، وإما أن تكون إشارة إلى قوله تعالى: «سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ» .. وقوله تعالى: «وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً» .. الشطء: أول ما يبدو من النبات على ظاهر الأرض، وشاطىء الشيء، حافته.. أي ومثل المؤمنين الذين مثّلهم الله سبحانه وتعالى به، فى الإنجيل، هو الزرع، يبدأ بذرة هامدة فى الثرى، فإذا أصابها الماء، اهتز كيانها، ودبّ دبيب الحياة فيها، وأخذت بهذا الرصيد القليل من الحياة التي سرت فيها- أخذت تحاول جاهدة أن تصافح النور، وأن تلتمس لها طريقا إليه، من بين هذا الظلام المطبق عليها، ثم سرعان ما يطلع لها لسان تتحسس به الطريق إلى النور، وتتذوق به نسمة الحياة، وإذ شىء أخضر صغير، لا يكاد يرى، يطل على الحياة فى استحياء ثم لا يلبث أن يؤازره آخر مثله، ثم ثالث ورابع.. وهذا هو الشط، وجمعه شطآن.. وشيئا فشيئا تنمو هذه الشطآن، وتعلو، وبتخلّق لها ساق تقوم عليه، وأوراق تكسو هذا الساق، وفروع وأغصان، وأزهار وثمار، حتى يكون من ذلك نخلة باسقة، أو دوحة عظيمة!. وهكذا المسلمون، بدءوا بذورا كهذه البذور التي طال حبسها عن الأرض، حتى إذا امتدت إليها يد الزارع فغرسها فى الأرض، وساق إليها الماء، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 430 وتعهدها بالرعاية والري، طالت، وانداحت، وأزهرت، وأثمرت، وملأت وجه الأرض المغبرّة، حسنا، وجمالا، وخيرا.. وشبه المسلمون بالزرع لأنهم كثير، ولأن كل واحد منهم له ذاتيته إلى جانب هذه الشجيرات الكبيرة التي يضمها الحقل.. وقوله تعالى: «لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ» - هو إشارة إلى هذا الزرع الطيب، الذي يملأ العين سرورا ورضا، وهو فى الوقت نفسه يملأ قلوب الكافرين حسرة وحسدا.. وقوله تعالى: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً» إشارة إلى أن وصف المؤمنين لا يتم إلا بالعمل الصالح وأن الذين لهم المغفرة والأجر العظيم من الله، هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، لا المؤمنون على إطلاقهم.. وهذا هو السر فى قوله تعالى: «مِنْهُمْ» الذي يعزل الذين آمنوا وعملوا الصالحات، عن الذين آمنوا ولم يعملوا الصالحات.. فهؤلاء غير أولئك.. «هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ» الجزء: 13 ¦ الصفحة: 431 49- سورة الحجرات نزولها: مدينة عدد آياتها: ثمانى عشرة آية.. عدد كلماتها: ثلاثمائة وأربعون كلمة. عدد حروفها: ألف وأربعمائة وأربع وسبعون حرفا. مناسبتها للسورة قبلها كان صدّ المسلمين عن البيت الحرام، وقد جاء بهم النبي صلوات الله وسلامه عليه إلى مكة معتمرا، واعدا إياهم أن يدخلوا المسجد الحرام، وأن يحلقوا ويقصروا، وقد كان النبي رأى فى منامه رؤيا تأوّلها هذا التأويل وأخبر أصحابه بها- كان هذا الصد داعية إلى إثارة هياج فى نفوس المسلمين، وإلى جريان كثير من اللغط على ألسنتهم- فجاءت سورة الحجرات، بعد أن رأوا من آيات الله مارأوا، وبعد أن صدقت رؤيا الرسول الكريم، ودخلوا المسجد الحرام آمنين ومحلقين- جاءت تحمل إليهم هذا الأدب الإلهى الذي يؤدبهم الله سبحانه وتعالى به، ويقيمهم على طريقه، مع النبي الكريم، وفى الإيمان به إيمان يقين، لا يخالطه شىء من ريبة أو شك، كما سنرى ذلك فيما جاء فى مطلع السورة. بسم الله الرحمن الرّحيم الآيات (1- 5) [سورة الحجرات (49) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 432 التفسير: قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» : التقديم بين يدى الله ورسوله، هو السبق بقطع الأمر دونهما، وبعيدا عن الحكم الذي يقرّره الله سبحانه وتعالى لهم فى كتابه، وسنة رسوله.. وفى الآية الكريمة عتاب للمؤمنين، الذي لغطوا بما لغطوا به فى صلح الحديبية، وهو فى الوقت نفسه تأديب عام لهم، وإقامتهم بالمكان الذي ينبغى أن يكونوا فيه من أمر الله ورسوله.. فإذا قضى الله ورسوله أمرا، لم يكن لمؤمن بالله ورسوله خيار فى هذا الأمر.. فإما المتابعة فى ولاء ورضا وغبطة، وإما حلّ لعقد الإيمان الذي عقدوه مع الله ورسوله.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ، إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً» . فقوله تعالى: «لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» أي لا يكن لكم أمر الجزء: 13 ¦ الصفحة: 433 تنفردون به دون أمر الله ورسوله، فلا تقطعوا أيها المؤمنون أمرا يقوم على خلاف ما أمر به الله ورسوله. وقوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ» أي استقيموا على تقوى الله، بطاعته وطاعة رسوله، وامتثال أمره، ومتابعة رسوله.. وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» أي يسمع ما تقولون، ويعلم ما لا تقولون مما تخفونه فى صدوركم.. فيجازيكم بما كان منكم من حسن أو سوء.. قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ» . هو من تمام أدب المؤمنين مع رسول الله، الذي ينبغى أن يكون صوته أعلى الأصوات، وكلمته رائدة الكلمات وهاديتها.. ورفع الصوت بين يدى النبي، فيه استخفاف، وفيه تجرد من مشاعر الهيبة والإكبار، وجفاف من عواطف الحب والولاء.. فالكلمات التي تصدر فى مقام الجلال والإكبار، كلمات ضامرة ضاوية، أمام ما يروعها من هيبة وجلال.. والكلمات التي تخرج من أفواه المحبين كلمات مستحيية ضارعة بين يدى من يحبّون.. والمسلمون فى حضرة النبي الكريم، يشهدون أروع آيات العظمة والجلال، وحديثهم إليه، إنما هو حديث يفيض من قلوب ملكها الحب، وخالط شغافها.. وإنه لا يجتمع مع هذا أن يرتفع صوت من مؤمن فى حضرة الرسول، فإن ارتفع فلن يكون إلا دون صوت النبي.. وقوله تعالى: «وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ» . المراد بالقول هنا، ما يكون بين الأصدقاء والإخوان من معاتبات تنحلّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 434 فيها عقد ألسنتهم، ويجهرون فيها بما يتحرجون من الجهر به فى غير خلواتهم مع من يكونون على شاكلتهم، وفى مستوى مكانتهم بين الناس.. فالجهر بمثل هذا القول، وإن لم يرتفع به الصوت فوق صوت النبي، فيه دلالة على عدم الاحتشام والحياء فى حضرة رسول الله، الأمر الذي لا يليق أن يكون من مؤمن بالله ورسوله، ولا يلتقى مع التوقير لرسول الله، الذي دعا الله سبحانه المؤمنين إليه فى قوله سبحانه: «لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» .. وقوله تعالى: «أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ» .. حبط الأعمال: إبطالها، وحرمان أصحابها الثمرة المرجوة منها.. والسؤال هنا: كيف تحبط أعمالهم بعمل يعملونه ولا يشعرون بالآثار المترتبة عليه؟ وهل يؤاخذ الإنسان على ما يعمله عن غفلة وجهل؟. والجواب على هذا- والله أعلم- أن هذا تحذير من أن يكون من المؤمنين شىء من هذا المنهىّ عنه، مستقبلا، بعد أن نهاهم الله سبحانه وتعالى عنه.. فالمؤاخذة على ما نهوا عنه، إنما تبدأ من بعد تلقّيهم هذا النهى.. ولأن مثل رفع الصوت، والجهر بالقول، مما قد يكون من بعض الناس طبيعة لازمة، أو عادة متحكمة، فقد جاء هذا التحذير ليتنبه المؤمنون وهم بين يدى النبي، وليحرسوا أنفسهم من أن ينزلقوا، تحت حكم الطبيعة أو العادة، إلى هذا المنزلق الذي تضيع فيه أعمالهم الطيبة من غير أن يشعروا أنهم يأتون منكرا، أو يقصدون إساءة أدب فى حضرة الرسول!. وهذا، وإن كان من غير قصد، هو مزلق إلى ما يكون عن قصد، ووعى، بعد أن يصبح ذلك عادة مألوفة.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 435 قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ» .. هو بيان لما لهذا الأدب الذي يأخذ به المسلمون أنفسهم بين يدى رسول الله، من ثواب عظيم، وأجر كبير عند الله.. وقوله تعالى: «يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ» أي يخفضونها حياء وإجلالا.. وفى التعبير عن خفض الصوت بالغض الذي هو من شأن النظر، إذ يقال غضّ فلان بصره ولا يقال غض صوته- فى هذا التعبير إعجاز من إعجاز النظم القرآنى، الذي تحمله كلمات الله متحدية الجنّ والإنس جميعا.. ذلك أن خفض الصوت إنما يكون عن مشاعر الحياء، التي من شأنها أن تنكسر معها حدة البصر، فلا يستطيع المرء أن يملأ عينيه ممن يهابه، ويجلّه، ويوقره.. فهو إذا نظر غضّ بصره، وإن هذا الغض من البصر يستولى على مخارج الصوت أيضا، فيحبس الصوت عن أن ينطلق إلى غاياته، بل يكسر حدته، كما كسرّ حدة النظر.. ففى قوله تعالى: «يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ» إشارة ضمنية إلى غض البصر حياء، وأن سلطان الحياء هو المتحكم فى هذا المقام. وهكذا يتسلط الغضّ على الأبصار، والأفواه جميعا. وقوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى» إشارة إلى أن قلوب هؤلاء المؤمنين الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله قد أعدها الله سبحانه وتعالى وأرادها لتكون مستقرا ومستودعا للتقوى، وهذا هو السر فى تعدية الفعل «امتحن» باللام، فى قوله تعالى «لِلتَّقْوى» مع أن الأصل فى فعل الامتحان أن يتعدى بالباء، فيقال: «امتحنه بكذا، لا لكذا» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 436 وفى هذا ما يشير إلى أن تلك القلوب التي يغضّ أصحابها أبصارهم عند رسول الله، قد امتحنت فعلا بالتقوى، وقد نجحت فى هذا الامتحان، فأصبحت قابلة للتقوى، متجاوبة معها.. فقد يمتحن الإنسان بالشيء، ولا يقبله، ولا يتجاوب معه.. أما إذا امتحن للشىء، واختير له، فإن ذلك يعنى أنه أهل لهذا الامتحان، وخاصة إذا كان المتخيّر له، هو الحكيم العليم، رب العالمين.. ولهذا، فإن قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى» هو خبر لقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ» بمعنى أن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله هم من أهل التقوى.. فهذا هو حكمهم عند الله.. وقوله تعالى: «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ» خبر ثان لقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ» بمعنى أنهم أهل التقوى، وأنهم مجزيّون من الله سبحانه وتعالى بالمغفرة والأجر العظيم.. وفى الآيات الكريمة ما يكشف عن جانب عظيم من أخلاقيات الإسلام، وآدابه العالية، فيما يعرف اليوم بالدبلوماسية السياسية، التي تفرض على الناس مراسم من الأدب فى حضرة الملوك، والرؤساء، والقادة، والزعماء، وأصحاب السيادة والسلطان.. ولكن شتان بين أدب الإسلام، الذي ينبع من مشاعر صادقة، ويفيض من قلوب عامرة بالحب، خفّاقة بالولاء، وبين هذا الأدب التمثيلى المصطنع، الذي لا يتجاوز الكلمات التي ترددها الألسنة، والحركات التي تصطنعها الأجسام!! إنه أدب أشبه بأدب القرود بين يدى مؤدبها!. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 437 وألا فلتخضع الرقاب، وتنخفض الجباه أمام هذا الأدب الإسلامى، ولتخرس الألسنة التي ترمى بالتهم فى وجه هذا الدين الذي جمع الفضائل كلها، والذي يقود ركب الحضارة فى أعلى مستوياتها، وأروع مظاهرها.. إنه ليس دين بداوة جافية غليظة، كما يتخرص المتخرصون، بل إنه دين المدنية الخالصة من شوائب الزيف، وطلاء الخداع!!. قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» - هو التفات إلى النبي الكريم بهذا العذر الذي يقدمه الله سبحانه وتعالى إلى الرسول العظيم، عن هذا الجفاء، وتلك الغلظة، مما يغلب على أهل البادية، الذين يجيئون إلى النبي، فينادونه من وراء الحجرات التي كان يتخذها النبىّ سكنا له مع أهله.. فهؤلاء الأعراب لم يتأدبوا بأدب الإسلام، بعد، ولم تظهر عليهم آثاره، وإنهم لجديرون بأن يقابلوا من النبي بالتسامح، وأن يعذروا لهذا الجفاء البادي منهم.. قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» هو إلفات إلى هؤلاء الأعراب، وتوجيه حكيم رفيق بهم، إلى هذا الأدب الذي لم يألفوه بينهم.. وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» - تطمين لهؤلاء الأعراب الذين قد يقع منهم هذا الفعل، وأنهم فى سعة من رحمة الله ومغفرته، إذا هم أخذوا بأدب القرآن، ونزعوا عما غلبتهم عليه طبيعتهم.. كما أنه دعوة إلى النبي الكريم، أن يغفر ويرحم، فقد غفر الله ورحم! .. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 438 الآيات (13- 6) [سورة الحجرات (49) : الآيات 6 الى 13] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 439 التفسير: فى هذه الآية استكمال للأدب الذي تحكم به الروابط التي ينبغى أن تقوم بين أفراد المجتمع الإسلامى، بعد أن بيّنت الآيات السابقة الأدب الذي ينبغى أن يتأدب به المسلمون فى حضرة النبي الكريم.. وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ» .. النبأ: الخبر ذو الشأن، وأصله من النبوّ وهو الظهور، والخروج عن المألوف.. قيل إن هذه الآية نزلت فى شأن الوليد بن عقبة، وقد بعثه النبىّ إلى بنى المصطلق، ليجمع مال الصدقة منهم.. فلما أشرف عليهم.. وكانوا قد علموا بمقدم مبعوث رسول الله إليهم خرجوا للقائه، ظنّ أنّهم إنما يريدون به شرّا، فقفل راجعا، وأخبر النبىّ والمسلمين أن القوم قد منعوا الزكاة، وأنهم همّوا بقتله، فأعدّ النبىّ العدة لقتالهم، وقبل أن يسير النبىّ بالمسلمين إليهم جاءه وفدهم يكذّب ما كان من مقولة الوليد بن عقبة فيهم، وأنهم على الإسلام، يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة.. فنزلت هذه الآية مصدقة لهم.. وأيّا كان سبب النزول، فإن الآية عامة مطلقة، تحذّر المسلمين من الأنباء الكاذبة التي يرجف بها المرجفون، ليشيعوا فى المسلمين قالة السوء، وليوغروا بها صدورهم على أهل الإيمان والسلامة فيهم، وأن هذا من شأنه لو وقع موقع الجزء: 13 ¦ الصفحة: 440 القبول والتسليم من المؤمنين، من غير تبصر أو تمحيص، لأفسد عليهم أمرهم، ولنزع الثقة والطمأنينة من بينهم.. فما أكثر ما كان يلقى به المنافقون، واليهود، فى محيط المسلمين من أكاذيب وأراجيف وشائعات، الأمر الذي يقضى على المسلمين بأن يمحصوا هذه الأخبار، وألّا يأخذوها مأخذ القبول والتسليم دون نظر فاخص لها.. وفى قوله تعالى: «فاسِقٌ» .. إشارة إلى أن المقولة إنما ينظر فيها إلى صاحبها الذي وردت منه، فإن كان من أهل الإيمان والثقة استمع لقوله، وأخذ به، وإن كان ممن يتهّم، استمع إليه ووضع قوله موضع التمحيص، فلا يحكم على قوله بالردّ ابتداء، فقد يكون فى قوله صدق، أو شىء من الصدق ينتفع به المسلمون.. وقوله تعالى: «أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ» هو بيان.. للعلة التي من أجلها كان الأمر بالتبين والتثبت لما يجىء للمسلمين من أنباء يحملها قوم لم يعرفوا فى المسلمين بالصدق، ووثاقة الإيمان.. وقوله تعالى: «بِجَهالَةٍ» إلفات للمسلمين إلى ألّا يقيموا أمرا من أمورهم على جهل، وعلى عدم رؤية واضحة لهذا الأمر، فذلك من شأنه إن أصاب مرة أن يخطىء مرات كثيرة. وقوله تعالى: «فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ» أي أن الأخذ بالنبإ الوارد من فاسق قبل التثبت منه، يعود على المسلمين بالحسرة والندم، لأنهم وضعوا الأمر فى غير موضعه، ورتّبوا على هذا القول الكاذب أمورا لا يمكن إصلاحها بعد أن وقع عليها ما وقع. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 441 قوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ» . هو إلفات إلى المؤمنين بأنهم مع الرسول، فى حراسة من السماء، وأنه قائم فيهم، يكشف ما يقع على طريقهم من خيانات الخائنين، وأراجيف المرجفين.. ولكن الأمر سيختلف بعد وفاة النبىّ، ويكون عليهم حينئذ أن يتدبّروا أمرهم بأنفسهم، وأن يتثبتوا من الأخبار التي تحمل إليهم.. وقوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ» توجيه للمسلمين ألّا يقدّموا بين يدى الله ورسوله، وأن ينتظروا بالأمر غير الجلّى الذي بين أيديهم، حتى يبينه الرسول لهم، فإن من الغبن والضلال معا، أن يتخبط المرء فى الظلام وهناك مصباح سماوىّ مضىء، يكشف له كل خافية، ويجلى له كل خفىّ.. وقوله تعالى: «لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ» .. بيان لما بين النبىّ وبين المسلمين من فرق بعيد، فى حكمه على الأمور، وحكمهم عليها.. فالنبى، يرى بنور الله، ويهتدى بهدى الله، فإذا قضى فى الأمر كان قضاؤه الحق، وحكمه العدل والخير والإحسان.. أما ما يقضى به المسلمون فى أمورهم، فهو قضاء قائم على مستوى الفهم البشرى، الذي قد يصيب وقد يخطىء.. ومن هنا كان على المؤمنين- ما دام الرسول فيهم- ألا يقطعوا أمرا ذا بال دونه، وألا يخرجوا عن أمر يدعوهم إليه، فإنهم إن فعلوا، وأكرهوا الرسول على أمر لم يكن موضع رضا منه- لم يجئهم من هذا الأمر إلا ما فيه إعنات لهم، وإلّا أصابهم منه ما لا يحبون.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 442 والمثل لهذا ما يذكره المسلمون من يوم أحد، وقد أكرهوا النبىّ على الخروج من المدينة، للقاء المشركين، وكان من رأيه- صلوات الله وسلامه عليه- أن يتحصّن بها، فإن دخلها عليه المشركون قاتلهم المسلمون، وقاتل معهم الصبيان والنساء، وكانت الدور حصونا لهم.. وقد خرج النبىّ بالمسلمين إلى أحد، على غير رضا، وكان الذي حدث! ومثل آخر، يذكره المسلمون من يوم الحديبية، فلو أن الرسول استجاب لما كان يراه المسلمون يومئذ من قتال المشركين، حتى يتمكنوا من دخول مكة، والطواف بالمسجد الحرام- لو أن الرسول فعل هذا وكان قتال بينهم وبين المشركين، لسالت دماء غزيرة، ولذهبت نفوس كريمة من المؤمنين وربما كانت الدائرة عليهم.. وهاهم أولاء يرون أن الطريق إلى البيت الحرام قد صار مفتوحا لهم من غير قتال، وأنهم قد غنموا خيبر أيضا، إلى جانب هذا الفتح الذي لم ترق فيه دماء، ولم تذهب فيه أرواح! قوله تعالى: «وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ» . أي ولكنكم أيها المسلمون لم تخالفوا رسول الله، ولم تخرجوا عن أمره، إذ قد حبّب الله سبحانه وتعالى إليكم الإيمان وزيّنه فى قلوبكم، وبهذا الحبّ للإيمان، والولاء لجماله وجلاله فى نفوسكم، كنتم على طاعة وولاء لرسول الله، لأن ذلك من ثمرات الإيمان الوثيق، الذي تعلقت به القلوب، وانتعشت به النفوس، وذلك الإيمان الذي غرسه الله فى قلوبكم، وحببه إليكم، وزينه لكم- قد كرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان.. إذ لا يجتمع إيمان وكفر، ولا يلتقى إيمان وفسوق عن أمر الله ورسوله، وعصيان لله ورسوله.. وقوله تعالى: «أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ» .. إشارة إلى هؤلاء المؤمنين الجزء: 13 ¦ الصفحة: 443 الذين حبب الله إليهم الإيمان، وزينه فى قلوبهم، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان.. فهؤلاء المؤمنون هم الراشدون، الذين قام أمرهم على الرشد والخير والفلاح.. وفى العدول عن الخطاب إلى ضمير الغيبة عند الإشارة إلى هؤلاء المؤمنين- فى هذا إلفات إليهم، وإلى علوّ مقامهم، وأنهم بحيث ترنو الأبصار إليهم، وتمتد مطارح النظر نحوهم.. حتى لكأنهم- وهم فى مقام الحضور أجسادا- هم بعيدون منزلة ومقاما.. قوله تعالى: «فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» - أي أن هذا الذي سكبه الله سبحانه وتعالى فى قلوب المؤمنين من حب الإيمان، وتزيينه فى قلوبهم، ومن كراهية الكفر، وما يجر وراءه من فسوق وعصيان- هو فضل من الله ونعمة أنعم بها على عباده المؤمنين.. «وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» ينزل فضله، ويوفد روافد نعمه حيث قضت حكمته المؤاخية لعلمه، الذي لا تخفى عليه خافية. قوله تعالى: «وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» . كانت الآيات السابقة دستورا فى الأدب للمسلمين مع النبي، ثم دستورا بين المسلمين وبين أعدائهم الذين يدسّون عليهم الأخبار الكاذبة.. وفى هذه الآية وما بعدها دستور من الأخلاق، والأدب والسياسة، فيما بين المسلمين أنفسهم.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 444 فالمسلمون، وقد فرغوا أو كادوا يفرغون من مواجهة العدو الذي كان يحيط بهم من المشركين، واليهود، والمنافقين- فإن ذلك من شأنه أن يتيح فرصة لطبيعة العدوان فى النفس البشرية، فإذا لم يجد المسلمون من يقاتلون من أعدائهم، لم يسلم الأمر من أن يقع الشر بينهم هم أنفسهم، ويقاتل بعضهم بعضا.. فتلك هى الطبيعة الإنسانية، والتي يمثلها قول الشاعر الجاهلى، وهو يتحدث عن الخيل التي أعدّها قومه للغارات: وكنّ إذا أغرن على جناب ... وأعوزهنّ نهب حيث كانا نزلن من الرّباب على حلول ... وضبّة إنه من حان حانا وأحيانا على بكر أخينا ... إذا ما لم نجد إلا أخانا!! ومن هنا نبه القرآن الكريم إلى حماية المسلمين من هذا الشر الذي قد يرد عليهم من ذات أنفسهم، ولم ينبه إلى عدم وقوع الشر والقتال أصلا، لأن ذلك مما لا تحتمله النفوس احتمالا لازما مطلقا.. فالقرآن يسلّم- وإن كان ذلك على غير ما لا يرضاه للمؤمنين- يسلّم بالأمر الواقع فى الحياة، ويفترض وقوع القتال بين المؤمنين، ولكنه يدعو إلى إطفاء وقدة هذا الشر، ويدعو المسلمين جميعا إلى المشاركة فى إخماده، قبل أن يتسع، ويستغلظ. فيقول سبحانه وتعالى: «وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما» .. فهاتان طائفتان من المؤمنين، قد وقع بينهما قتال، وهم مع هذا القتال مؤمنون، لم يخرجهم القتال عن الإيمان.. إنهم مؤمنون، وإن كانوا على هذا المكروه.. وواجب المؤمنين حينئذ، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 445 هو أن يعملوا على إصلاح ذات البين بين الطائفتين، وأن ينزلوهما على ما يقضى به كتاب الله وسنة رسوله.. وقوله تعالى: «فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ» .. يشير إلى الخطوة الثانية بعد دعوة الطائفتين إلى الصلح، وإلى النزول على حكم الله ورسوله الذي يقضى به المسلمون بينهما- والخطوة الثانية هى أنه إذا لم تقبل إحدى الطائفتين النزول على حكم الله ورسوله، كانت باغية معتدية، وكان على المؤمنين أن ينصروا الطائفة الأخرى، المبغىّ عليها.. وقوله تعالى: «فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» .. هو بيان للخطوة الثالثة، بعد أن ينتصر المؤمنون للطائفة المبغىّ عليها، وبعد أن تنزل الطائفة المعتدية على حكم الله ورسوله.. عندئذ لا يترك الأمر هكذا، باستسلام الفئة الباغية تحت حكم السيف.. فإن ذلك من شأنه أن يترك آثارا من الضغينة والبغضاء، لا ينحسم معها شر أبدا، وإن خمد إلى حين.. ومن هنا كانت الدعوة إلى المصالحة بين الفريقين، وجمعهما على الإخاء والمودة، ونزع ما فى النفوس من سخائم، وغسل ما نجم عن هذا القتال من آثار، ومداواة ما كان منها من جراح.. وفى قوله تعالى: «فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» .. إشارة إلى ما يكون قد وقع فى نفوس المسلمين الذين قاتلوا الفئة الباغية، من بغضة لها، وكراهية لموقفها المتعنت.. الأمر الذي قد يحمل المسلمين على أن يجوروا عليها، وينزلوها منزلة العقاب والانتقام.. إن ذلك من شأنه- وهو فى ذاته خارج على سنن الحق والعدل- أن يؤجج نار الحقد، والعداوة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 446 ولا يطفىء نار الفتنة التي قام المسلمون لإطفائها.. فوجب على المسلمين أن يأخذوا الفئة الباغية بالعدل، وأن يقسطوا أي يعدلوا فى حكمهم عليها «إن الله يحب المقسطين» فى كل حال، مع الأولياء والأعداء على السواء.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى» (8: المائدة) قوله تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» .. هو تعقيب على الآية السابقة، وعلى ما دعت إليه المؤمنين من حسم الخلاف الذي يقع بين جماعاتهم، ثم هو إلفات إلى أن الأخوّة القائمة بين المؤمنين لا تتغير صفتها، ولا تنقطع آثارها بتلك العوارض التي تعرض لهم فى حياتهم، فإنما هى موجات من ريح عابرة، لا تلبث أن تفتر، ثم يعود إلى البحر سكونه، وصفاؤه، وجلاله.. ومن جهة أخرى، فإن الفئة الباغية، لا يزال لها مكانها فى المؤمنين، ولا تزال لها أخوّتها فيهم، وإذن فلا يجار عليهم لأنهم جاروا، ولا يعتدى عليهم، لأنهم اعتدوا، وإنما يقبل منهم قبولهم لما قضى به المؤمنون عليهم، ثم إن لهم بعد هذا حقهم كاملا لا ينقص منه شىء.. فالمعتدون والمعتدى عليهم إخوان للمؤمنين جميعا.. قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 447 تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» .. إن من أفتك الآفات التي تغتال مشاعر الإخاء والمودة بين المجتمعات، استخفاف جماعة بجماعة، والنظر إليها نظرا ساخرا، فإن ذلك من شأنه أن يغرى هؤلاء المستخفّين المستهزئين بمن استخفوا بهم، ونظروا إليهم باستصغار واستهزاء، ثم هو من جهة أخرى يحمل الجماعة المستخفّ بها، المستصغر لشأنها- على أن تدافع عن نفسها، وأن تردّ هذه السخرية، وهذا الاستهزاء بالسخرية والاستهزاء، ممن سخروا منهم، وهزءوا بهم.. وهذا أول قدح لشرارة الحرب.. فإن الحرب أولها الكلام، كما يقولون.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن هؤلاء المستهزئين الساخرين قد يكونون أقل عند الله شأنا، من هؤلاء الذين اتخذوهم غرضا للهزء والسخرية.. فلا ينبغى الانخداع بالظاهر، ووزن الأمور عليها.. فكيف يكون الحال لو أن هؤلاء المستهزأ بهم كانوا عند الله أفضل وأكرم من هؤلاء المستهزئين؟ ألا يخافون أن ينتقم منهم الله لأوليائه؟ ألا يستحون أن يستخفّوا بمن هم أثقل منهم ميزانا، وأكرم منهم معدنا؟ إن هذا أمر لو لم يؤثمه الدين، لأنكره العقل، ورفضته المروءة، وجفاه المنطق، ولفظه العدل والإنصاف. وفى جمع الرجال والنساء، إشارة إلى أن هذه السخرية إنما تكون على غايتها من الشناعة والسوء، حين تكون فى صورة جماعية، إذ أنها تشد أعدادا كثيرة من الناس إلى هذا الشر، وتوقعهم فى هذا البلاء. وقوله تعالى: «وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» .. اللّمز هو الغمز بالمعايب، والتلويح بها.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 448 والتنابز بالألقاب: الترامي بها.. ومن الآفات التي تهدد كيان المجتمع، وتقوض بنيانه، شيوع الاستخفاف بأنفسهم، وعدم التحرج من ذكر بعضهم بعضا بالمقابح والمساويء، فهذا إنما يكون من إفرازات الجماعات المتحلّلة من القيم الخلقية، التي تتبادل المنكرات كما تتبادل السلع الرخيصة فى البيع والشراء.. ذلك أن الذي يعيب الناس، ويرميهم بما يسوء من الألقاب، لا يسوؤه كثيرا أن يعيبه الناس، وأن يرجموه بكل سوء.. وهذا- والله أعلم- هو ما قصد إليه قوله تعالى: «وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ» بأيقاع الفعل عليهم، فكأنهم إذ يلمزون غيرهم يلمزون أنفسهم ضمنا.. وقوله تعالى: «بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ» أي بئس الاسم الذي يطلق عليكم بعد أن ينزع عنكم الإيمان الذي خرجتم منه بما كان منكم من لمز لأنفسكم وتنابز بالألقاب بينكم.. فقد كنتم مؤمنين، ثم ها أنتم أولاء أصبحتم فاسقين، أي خارجين عن الإيمان، بهذا اللغو الساقط من الكلام.. فبئس هذا الاسم الذي سمّيتم به فاسقين، بعد أن كنتم مؤمنين.. قوله تعالى: «وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» .. أي ومن لم يرجع عن هذا الترامي بكلمات السوء، ويستقيم على ما يدعوه إليه دينه ومروءته، من القول المعروف، وتجنب اللغو والسّقط من الكلام- ومن لم يرجع عن هذا، ثم يرضى لنفسه أن يقيم على الفسق ويهجر الإيمان، فهو من الظالمين وللظالمين عذاب أليم، كما يقول سبحانه: «يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» .. (31: الإنسان) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 449 قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ» .. الظنّ: ما يقع فى نفس الإنسان من تصورات للأمر، من واردات خيالاته، وأوهامه، دون أن يكون بين يديه دليل ظاهر، أو حجة قاطعة.. والظنون التي ترد على الناس كثيرة لا تحصى، إنها خواطر تتردد فى صدور الناس، ويكون لها دور كبير فى تصرفاتهم.. ولهذا جاء النهى باجتناب كثير من الظن، لا كلّ الظن، وهذا يعنى ألا يأخذ الإنسان بكل ما يقع له من ظنون، بل يجب أن يكون حذرا فى مواجهة كل ظن، وعليه أن يمحصه كما يمحص النبأ الذي يرد عليه من فاسق.. فإن مورد الظنون متّهم، لأنه مورد يقوم عليه هوى النفس، ووساوس الشيطان.. وفى الحديث: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا..» وفى المأثور: «الظنّ أكذب الحديث» : أي أن الأحاديث الواردة من موارد الظنون، هى أحاديث يغلب عليها الكذب أكثر من أي أحاديث أخرى.. وفى قوله تعالى: «إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ» - إشارة إلى أن بعض الظن، هو الذي يقع تحت حكم المنهي عنه، لأنه إثم، إذ كان قائما على باطل، وفى الحديث: «إذا حسدت فاستغفر، وإذا ظننت فلا تحقّق، وإذا تطيرت فأمض» .. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 450 وقوله تعالى: «وَلا تَجَسَّسُوا» أي لا تتبعوا مساوئ بعضكم، ولا تكشفوا عما ستره الله من عيوبكم.. وقوله تعالى: «وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» أي ولا يتحدث بعضكم عن بعض بمكروه فى غيبته.. وقوله تعالى: «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ» .. هو تشنيع على الغيبة، وازدراء وتنديد بأهلها، إنهم أسوأ من أخس الحيوانات موقفا، وأنزلهم منزلة.. إنهم يأكلون لحم إخوانهم، والحيوانات تعاف أن يأكل الجنس لحم جنسه.. وليس هذا وحسب، بل إنهم ليأكلون هذا اللحم ميتا، متعفنا، وكثير من الحيوانات- كالأسود مثلا- تعاف أكل الميتة، ولو ماتت جوعا..!! فهذا مثل ضربه الله سبحانه وتعالى للمغتاب.. فإنه إذ يغتاب شخصا ما، فإنما ينهش عرضه، وهو غائب دون أن يملك صاحبه أن يدفع هذه السهام التي تفرى جلده، وتنفذ إلى عظمه.. تماما كشأنه لو كان ميتا، ثم جاء هذا المغتاب إلى جسده، وأعمل فيه أسنانه، وأكله كما تأكل الذئاب جريحها.. إنه لا يملك من أمره شيئا.. وقوله تعالى: «فَكَرِهْتُمُوهُ» .. هو تعقيب على هذا الجواب المحذوف الذي تنطق به الحال من قوله تعالى: «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً» ؟ والجواب على هذا، جواب واحد، لا خلاف عليه، وهو: «لا» .. فكان التعقيب على هذا الجواب: أما هذا «فَكَرِهْتُمُوهُ» .. وأما شبيهه ومثيله فما زال طعمه حلوا فى أفواهكم، فاكرهوه كما كرهتم مثيله طبيعة «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ» يقبل توبتكم إن أنتم نزعتم عن هذه المنكرات واستقمتم على طريق الإيمان.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 451 وفى الحديث: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه.. لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبّعوا عوراتهم، فإن من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه فى بيته..» قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» هو تعقيب عام على هذه الأحكام وتلك الآداب، التي كانت خطابا للذين آمنوا، ليرتلوها، ويأخذوا أنفسهم بها.. وليس هذا فحسب، بل إن عليهم أن يراعوا هذه الأحكام وتلك الآداب مع غير المؤمنين.. مع الناس جميعا، من كل أمة، ومن كل دين.. إنها أخلاق إنسانية، يجب أن تكون طبعا وجبلّة فى المؤمن، يعيش بها فى الحياة كلها، ومع الناس جميعا، فلا تكون ثوابا بلبسه مع المؤمنين، حتى إذا كان مع غير المؤمنين نزعه.. فإنه بهذا إنما ينزع كمالا خلعه الله عليه، ويتعرّى من جلال كساه الله إياه.. ولهذا جاء الخطاب هنا للناس جميعا: «يا أَيُّهَا النَّاسُ» والمستمع لهذا الخطاب، والعامل به، هم المؤمنون.. ثم أعقب هذا الخطاب، تقرير هذه الحقيقة التي ينبغى أن يعيها المؤمنون: «إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى» .. فأنتم أيها الناس- مؤمنين وغير مؤمنين- إخوة فى الإنسانية، إذ كنتم من طينة واحدة، ومن جرثومة واحدة: «كلكم لآدم وآدم من تراب» وأنه إذا كان للمؤمنين منزلة عند الله، وفضل على غير المؤمنين، فذلك رزق من رزق الله، وإن من الخير للمؤمنين أن ينفقوا من هذا الخير على الإنسانية كلها، وأن يكونوا الوجه الكريم الطيب، الرحيم، فيها.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 452 وقوله تعالى: «وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا» . الجعل، كما قلنا فى أكثر من موضع، هو إضافة جديدة تدخل على أصل الشيء، فهو من متعلقات الموجودات، وليس له هو وجود ذاتى.. فتوزّع الناس إلى شعوب وقبائل، ليس أمرا ذاتيا، تتغير به حقيقة الإنسانية فى الناس.. إنهم مهما اختلفوا شعوبا وأوطانا، فإنهم إخوة قرابة ونسبا، وقوله تعالى: «لِتَعارَفُوا» تعليل لهذا التقسيم الذي وقع فى محيط الناس، فكانوا شعوبا وقبائل، وذلك ليتعارفوا، وليكون لهم فى مجتمع الشعب أو القبيلة، تماسك وترابط، لأنهم فى هذا المحيط الضيق- نسبيّا- أقدر على أن يتعارفوا، ويتآخوا، الأمر الذي لا يقع- إن وقع- إلا باهتا، لا يكاد يحسّ، لو أن الإنسان كان فردا فى الإنسانية كلها.. فلما جعل الله سبحانه وتعالى لنا من أنفسنا أزواجا نسكن إليها، وأولادا تقرّ بهم أعيننا، وتصبّ فيهم روافد عواطفنا- جعل الله لنا المجتمعات التي ننتمى إليها، والأمم التي نرتبط بالحياة معها.. وكما أن الأسرة لا تعزلنا عن أمتنا، ولا تقطعنا عن مجتمعنا، كذلك ينبغى ألا تعزلنا أمتنا عن الأمم، ولا يقطعنا مجتمعنا عن المجتمعات الأخرى.. فالاختلاف الواقع بين الناس، وتمايزهم شعوبا وأمما، هو فى الواقع سبب تعارفهم، وداعية إلى قيام هذه الوحدات الحية فى كيان المجتمع الإنسانى، الممثلة فى الشعوب والأمم.. فهذه الوحدات هى التي غذّت مشاعر العصبية للقومية، ووثقت من روابط الجماعة التي تضمها وحدة، من وطن، أو لغة، أو دين، فتعاونت، وترابطت، وصارت أشبه بالكيان الواحد. وقوله تعالى: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» هو استكمال لوجه القضية الجزء: 13 ¦ الصفحة: 453 التي عرضها القرآن الكريم فى قوله تعالى: «إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا» - فقد كان من داعية هذا الانقسام بين الجماعات الإنسانية، وانحياز كل جماعة منها إلى موطن خاص بها، ولسان تتخاطب به، ودين تدين به، وحياة اجتماعية وسياسية تعيش فيها- كان من داعية هذا أن تمايزت الجماعات، وتفاوتت حظوظها فى الحياة. وكان من هذا تعالى بعض الشعوب على بعض، وتفاخرها بما جمعت بين يديها من أسباب القوة والسلطان- ولقد جاء قوله تعالى: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» ليصحح هذه المفاهيم الخاطئة، التي دخلت على الناس من مظاهر التفاوت المادي والعقلي بين جماعاتهم، وليقيم المفهوم الصحيح الذي هو ميزان التفاضل بين الناس، إن كان ثمّة تفاضل، وهو التقوى، فمن كان لله أتقى، كان عند الله- وينبغى أن يكون كذلك عند الناس- أفضل وأكرم، ففى مجال التقوى ينبغى أن يتنافس المنافسون، وعلى ميزان التقوى يجب أن تقوم منازلهم، وتتحدد مراتبهم.. وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» - إشارة إلى أن التقوى- ومحلها القلوب- أمر قد يخفى على الناس، فلا يعرفون من التقىّ، ولا مقداره من التقوى.. وإذ كان ذلك شأن الناس، فإن الله سبحانه وتعالى: «عَلِيمٌ خَبِيرٌ» يعلم ما تخفى الضمائر، وما تسرّ الصدور.. وفى هذا إشارة أيضا إلى أن السخرية بالناس ولمزهم وعيبهم، وسوء الظن بهم- قد يكون عن تقدير خاطئ وحساب مغلوط، قائم على حكم الظاهر، على حين تكون القلوب عامرة بالتقوى، مزهرة بالخير.. ولو اطلع هؤلاء اللامزون المتنابزون بالألقاب، على قلوب الناس، لتغيّر رأيهم فيهم.. وإذن فيجب ألا يأخذ الناس بحكم الظاهر، وألا يحكموا على الإنسان من ظاهره وحسب.. وهذا ما يشير إليه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 454 قوله تعالى: «لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ» (11: الحجرات) الآيات (18- 14) [سورة الحجرات (49) : الآيات 14 الى 18] قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) التفسير: قوله تعالى: «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» . الأعراب، هم سكان البادية، الذين يعيشون فى مضارب الخيام الجزء: 13 ¦ الصفحة: 455 ويشتغلون بالرعي، ويتتبعون مواقع الماء والكلأ.. وقد طبعتهم هذه الحياة المتبدّية، على الجفاء والغلظة، ومن هنا لم يجد الإسلام طريقه إليهم إلا وسط هذه الأحراش النابتة فى صدورهم، من النّفار والوحشة.. وفى هذا يقول الله تعالى: «الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ» (97: التوبة) .. وفى المأثور: «من بدا جفا» .. وقوله تعالى: «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ» .. هو تصحيح لما يفهمه الأعراب من الإيمان، ومن حقائقه التي ضمّ عليها، فهو ليس كلمة تقال، وإنما هو عقيدة، وعمل يقوم فى ظل هذه العقيدة وهدبها.. فقول الأعراب «آمنا» بمجرد تلفظهم بشهادة «أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله» هو قول غير صحيح.. إن هذا إسلام، لا إيمان.. وهم بالتلفظ بالشهادة، وإقرارهم بالإسلام، إنما يدخلون فى المسلمين، وتجرى عليهم أحكامهم، وتعصم بهذا دماؤهم، وأموالهم، كما فى الحديث الشريف: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإن قالوها عصموا منّى دماءهم وأموالهم، وحسابهم على الله» .. فقوله تعالى: «قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا» هو ردّ على قول الأعراب آمنا.. وقوله تعالى: «وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا» هو بيان للقول الحق الذي يقال فى هذا المقام.. فهم مسلمون، غير مؤمنين.. وقوله تعالى: «وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ» هو بيان للعلة التي من أجلها لم يكن الأعراب مؤمنين، بل كانوا مجرد مسلمين.. لأن الإيمان لم يدخل فى قلوبهم بعد، وأنه ما زال مجرد كلمة تجرى على ألسنتهم.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 456 وقوله تعالى: «وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً» لا يلتكم: أي لا ينقصكم، ولا يبخسكم حقكم.. وفى هذا دعوة إلى الأعراب أن ينتقلوا من الإسلام إلى الإيمان، وأن يجعلوا هذه الكلمات التي دخلوا بها فى الإسلام غرسا طيبا يغرسونه فى قلوبهم، ومشعلا هاديا يقودهم إلى طريق الخير والإحسان، آخذين بما يأمرهم به الله ورسوله، فإن هم فعلوا كانوا فى المؤمنين حقا، وكان لهم كل ما للمؤمنين عند الله من رحمة ورضوان.. وإن صفة «الأعراب» التي وصفوا بها، لا أثر لها فى أعمالهم، وإن كان لها أثرها فى تأبّيهم على الإيمان، وفتور خطوهم إليه، وتأخرهم عن اللحاق بركب المؤمنين.. ومع هذا فإنهم فى أي وقت يدخلون فيه إلى الإيمان دخولا صحيحا، ويستقيمون على أوامر الله ونواهيه- يلحقون فورا بالمؤمنين، ويجزون بأعمالهم جزاء من سبقوهم إلى الإيمان.. «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» يتجاوز لهم عن هذا الجفاء الذي كان بينهم وبين الإيمان.. قوله تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» . هذا هو الإيمان الذي فات الأعراب أن يحصّلوه، وتلك حقيقة المؤمنين التي لم يحققها الأعراب بعد بإسلامهم.. فالمؤمنون، هم الذين آمنوا بالله ورسوله فنزل هذا الإيمان فى قلوبهم منزلة اليقين، لا يزحزحهم عنه أي عارض من عوارض الحياة، ولا يغيّر وجهه فى قلوبهم ما يلقاهم على طريق الحياة من بأساء وضرّاء، ثقة منهم بالله، وركونا إليه، ورضاء بقضائه، وصبرا لحكمه.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 457 «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا» .. هذا هو الإيمان فى صميمه.. أمّا الإيمان الذي يهتزّ كيانه فى قلب الإنسان لأى عارض، ويتضاءل شخصه عند أي بلاء، فهو إيمان غير خالص، بل هو مشوب بآفات كثيرة من الشك، وسوء الفهم، فإذا وضع على محك التجربة والامتحان، ظهر ما فيه من ضعف، فلم يحتمل صدمة التجربة، ولم يصمد أمام تيار الامتحان. وقوله تعالى: «وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» .. وهذا هو مجال الامتحان لإيمان المؤمنين.. فمن آمن بالله ورسوله، ووقع منه هذا الإيمان موقع القبول واليقين، لم ينكل عن دعوة الجهاد فى سبيل الله بماله ونفسه، بل يقدم ماله ونفسه قربانا لله، فى رضا وغبطة.. وفى الآية الكريمة إشارة إلى أن الجهاد بالمال والنفس، هو الميدان الذي يمتحن به إيمان المؤمنين، والذي به تظهر حقيقة ما فى قلوبهم من إيمان.. فالمؤمن، قد يصلىّ، ويصوم، ويحجّ، ويزكى، ولكنه حين يمتحن فى ماله أو نفسه بالجهاد فى سبيل الله، يضنّ بماله، ويحرص على سلامة نفسه، وعندئذ يعلم حقيقة إيمانه، وأنه لم يستوف حقيقة الإيمان بعد.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ» ويقول سبحانه: «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ..» (2، 3: العنكبوت) . وقوله تعالى: «أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» .. هو الوصف الذي يستحقّه الذين آمنوا بالله ورسوله ولم يرتابوا، وجاهدوا فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وهو أنهم مؤمنون حقا.. قد صدّق فعلهم قولهم.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 458 قوله تعالى: «قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» .. هو إنكار على هؤلاء الأعراب، الذين ادّعوا تلك الدعوى، بأنهم مؤمنون، وهم فى حقيقة أمرهم غير مؤمنين، إذ أنهم أسلموا، ولم يدخل الإيمان فى قلوبهم بعد.. فلمن يقولون هذا القول؟ أيقولونه لله؟ وكيف يتفق قولهم هذا مع الإيمان بالله؟ إن الإيمان بالله حقا، يقضى على المؤمن ألا يقول غير الحق.. لأن الله سبحانه وتعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، وإنه لن يكذب على الله إلا من استخفّ بجلال الله وعظمة الله، وعلم الله، جهلا منه بما لله سبحانه من كمال مطلق. «ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (7: المجادلة) قوله تعالى: «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» . المنّ: الإدلال بالإحسان على من أحسن إليه.. وهو مما يذهب بثواب الإحسان، ويفسد مغارسه.. والله سبحانه وتعالى يقول: «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً» (262، 263 البقرة) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 459 وهذا من جفاء الأعراب، ومن بعدهم عن الإيمان، وفساد تصورهم له.. إنهم يمنّون على النبي والمؤمنين، أنهم آمنوا بالله، واستجابوا لما يدعوهم إليه الرسول، وإنهم ليعدّون هذا مأثرة لهم عند الرسول، ويدا يحسبونها لهم عليه.. وهذا وضع مقلوب للقضية.. إنهم إن كانوا مؤمنين حقا، فإن عائدة هذا الإيمان وثمراته راجعة إليهم، لأنهم خرجوا بهذا الإيمان من الضلال إلى الهدى، ومن الظلام إلى النور، ومن البلاء والهلاك والعذاب الأليم فى الآخرة، إلى العافية، والسلام، والخلود فى جنات النعيم.. وتلك نعمة أو نعم لا يقدر أن يقوم بشكرها إنسان.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها.. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» (103: آل عمران) .. فعجيب أن يمنّ الآخذ على المعطى، ويطلب المريض الجزاء من الطبيب الذي طبّ لمرضه، وشفاه من علته!! ولكن هكذا يفعل الجهل بأهله.. وفى قوله تعالى: «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا» - بدلا من أن يقال: يمنون عليك أن آمنوا، أخذا برأيهم فى أنفسهم، وبما نطقت به ألسنتهم- فى هذا تكذيب ضمنى لقولهم: «آمنا» بعد أن كذبهم الله تكذيبا صريحا فى قوله تعالى: «لَمْ تُؤْمِنُوا» .. فهو تقرير للأمر الواقع منهم، وهو الإسلام، لا الإيمان.. وقوله تعالى: «بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 460 صادِقِينَ» - هو دعوة لهؤلاء الأعراب أن يحقّقوا حقيقة الإيمان الذي يدّعونه، وأنهم إذا كانوا مؤمنين حقّا، فليحمدوا الله، وليشكروا له، لأنه سبحانه صاحب المنّة عليهم، أن هداهم للإيمان.. فهم مسلمون، وهم بهذا الإسلام يستطيعون أن يخطوا الخطوة التالية إلى الإيمان، وأن ينقلوا كلمة الإسلام من ألسنتهم إلى قلوبهم، وبهذا يكونون مسلمين مؤمنين.. قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» - هو تعقيب على قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ، وجواب على ما قد يتردد فى أنفسهم من تساؤلات، مثل أن يقولوا: ومن يعلم إن كنا صادقين أو كاذبين، إذا كان مرجع الإيمان إلى ما استقر منه فى القلوب؟ ومن يكشف ما فى قلوبنا من هذا الإيمان؟ .. فكان الجواب. إن الله يعلم غيب السموات والأرض، لا غيب القلوب وحدها، وهو البصير الذي يرى ما يعمل العاملون، مما هو مستقيم على طريق الإيمان، أو مائل عنه، فيجزى كلّا بما عمل.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 461 50- سورة «ق» نزولها: مكية عدد آياتها: خمس وأربعون آية.. عدد كلماتها: ثلاثمائة وخمس وسبعون كلمة عدد حروفها: ألف وأربعمائة وأربع وسبعون حرفا (مثل الحجرات) !! مناسبتها لما قبلها هذه السورة مكية، وسورة الحجرات قبلها مدنية، ومع هذا، فإن المناسبة بينهما قريبة، والجامعة بينهما وثيقة.. فأولا: كانت سورة «الفتح» - وهى مدنية أيضا- أول بشائر النصر، الذي تعلو به راية الإسلام، ويتم به دين الله، ويرى به النبي والمهاجرون والأنصار ثمرة الجهاد فى سبيل الله، وما احتمل النبي وأصحابه من بلاء عظيم.. ثم تلا هذه السورة، سورة «الحجرات» ، التي كانت أشبه بتعليق وتعقيب على سورة الفتح، وعلى ما وقع فيها من أحداث وخاصة فى صلح الحديبية.. فجاءت سورة «ق» تذكر النبي وأصحابه بما كان فى بدء الدعوة الإسلامية، من عناد المشركين وضلالهم وسفههم، وأن هؤلاء المشركين الضالين السفهاء قد تحولت بهم الأحوال، وأوشكوا أن يدخلوا فى دين الله، بعد أن كسرت شوكتهم، وبدأت غشاوة الضلال والسفه تنجلى عن أبصارهم، بما رأوا من إعزاز الله لدينه، ونصره لأوليائه.. وثانيا: جاء فى ختام سورة «الحجرات» ما كان من موقف الأعراب الجزء: 13 ¦ الصفحة: 462 من دين الله، وأنهم كانوا من الإسلام فى موقف أشد ضلالا، وأكثر بعدا من موقف إخوانهم المشركين أهل مكة.. إذ أن المشركين كانوا يعلمون صدق النبي، ويدركون حقيقة ما يدعو إليه من إيمان بالله. أما هؤلاء الأعراب، فإن جفاء طباعهم، وغلظة أكبادهم، حالت بينهم وبين أن يدركوا حقيقة هذا الدين، ولم تتسع عقولهم لاستيعاب مراميه، كما يقول سبحانه وتعالى فيهم: «الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ» (97: التوبة) - فجاءت سورة «ق» تحدثهم عن إخوانهم المشركين، وما كان لهم من تعلّات على دين الله.. ثم ها هم أولاء، وقد دخل كثير منهم فى الإسلام، ثم الإيمان، هاهم أولاء قد أصبحوا فى جند الله المجاهدين فى سبيل الله.. وإذن فليكن لهؤلاء الأعراب أسوة فى إخوانهم هؤلاء، الذين كانوا على الشرك والضلال، ثم أصبحوا وقد لبسوا الإسلام دثارا، والإيمان شعارا.. وهكذا تبدو سورة «ق» وكأنها تعقيب على سورة «الفتح» واستعادة للماضى وأحداثه، بين يدى هذا الحاضر المسعد، والمستقبل المشرق، فتعظم تلك النعمة التي يعيش المسلمون فيها مع هذا الفتح العظيم، الذي لم يكن يراود أحلامهم، فى يوم من الأيام.. بسم الله الرحمن الرّحيم الآيات (11- 1) [سورة ق (50) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 463 التفسير: قوله تعالى: «ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ» .. ما يقال عن «ق» هو ما قيل فيما مضى عن الحروف المقطعة.. ومطلع السورة هنا شبيه بمطلع سورة «ص» .. حيث بدئت السورة بالحرف «ص» ثم بالقسم بالقرآن ذى الذكر، ثم مواجهة المشركين بمقولاتهم المنكرة فى القرآن الكريم، وفى الرسول الذي يتلو آيات الله عليهم.. والواو فى قوله تعالى: «وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ» للقسم، والقرآن المجيد، مقسم به، ووصف القرآن الكريم بأنه مجيد، إشارة إلى صفاء جوهره، ومجادة ذاته، والمجيد صفة من صفات الله سبحانه وتعالى، كما يقول سبحانه: «وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ، ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ» (14، 15: البروج) وقد جعل الله سبحانه هذه الصفة لكلامه، لأن كلام الله سبحانه، صفة من صفاته، والصفة عين الموصوف. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 464 قوله تعالى: «بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ» .. هو إضراب عن تساؤلات تتردّد فى الوجود كله، حين يستمع إلى هذا القسم من رب العالمين، بكلامه المجيد.. حيث يتلفت الوجود كله إلى مواقع هذا القرآن، وإلى المتجه الذي يتجه إليه، وهل عرف الناس قدره؟ وهل اهتدوا بالنور الذي يطلع عليهم منه؟ .. فكان الجواب: كلّا.. «بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ» .. أي أن الذين جاء إليهم هذا القرآن لم يلتفتوا إليه، ولم يأخذوا بشىء منه، لا لشىء فى هذا القرآن، - لأنهم لم ينظروا فيه أصلا- وإنما لأن الذي جاءهم بهذا القرآن هو رجل منهم، فكان ذلك حجازا بينهم وبين أن ينظروا فى شىء من هذا القرآن، وأن يستمعوا إلى ما يتلى عليهم منه، لأن الذي يتلوه عليهم رجل منهم!! وكيف لرجل منهم أن يأخذ هذا المكان منهم، ويقوم بالسفارة بينهم وبين الله، ويصبح صاحب كلمة الله إليهم؟ وأين هم إذن؟ وأين أغنياؤهم وأصحاب السيادة فيهم؟ .. فلتتخطفهم العقبان، ولتحرقهم الرجوم.. فذلك أهون عليهم من أن يسودهم سيد، أو يقوم عليهم قيّم!! هكذا فكروا وقدروا: «بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ» ! وأخذوا يرددون مقولات الدهش والتعجب والإنكار: «أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا؟ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ» (25: القمر) «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» (31: الزخرف) .. «مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً» (7: الفرقان) . وقوله تعالى: «فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ» الإشارة هنا إلى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 465 ما أثار عجب الكافرين من هذا القرآن المجيد، وهو أن يجيئهم هذا القرآن على لسان رجل منهم.. فهذا- عندهم- مما يثير العجب والدهش، ثم الإنكار.. قوله تعالى: «أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ» .. هو مما تسلط عليه اسم الإشارة، هذا، فى الآية السابقة.. فقولهم «هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ» مشار به إلى ما سبقه من قوله تعالى: «بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ» .. ثم هو مشاربه إلى ما بعده من قوله تعالى: «أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً» أي أإذا متنا وكنا ترابا تعود إلينا الحياة مرة أخرى؟ «ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ» ! تفكره الحياة، ولا تصدقه العقول!! فما أبعد ما بين الحياة وهذا التراب الهامد الذي غربت فيه الحياة! هكذا يقولون، ساخرين، مستهزئين. قوله تعالى: «قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ» .. هو ردّ على استبعاد الكافرين لعودة الحياة إليهم مرة أخرى، بعد أن يذوبوا فى التراب، ويصيروا بعضا منه.. فالله سبحانه وتعالى يعلم ما أخذت الأرض منهم، وما أكلت من ذرّات أجسامهم، ذرة ذرة.. فإذا أراد الله سبحانه عودة الحياة إليهم دعا هذه الذرات المتنائرة فى الأرض، ونظم منها عقد الحياة من جديد، كما تنظم حبّات العقد فى خيط جديد بعد أن ينقطع خيطها الذي بلى فانقطع! فهذه الذرات التي تنائرت فى الأرض، هى محفوظة فى كتاب حفيظ، لا يضيع منه شىء.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 466 قوله تعالى «بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ» . هو إضراب آخر لبيان موقف الكافرين من آيات الله، بعد أن بين الإضراب السابق موقفهم من الرسول الذي حمل إليهم هذه الآيات.. إن جنايتهم جناية غليظة مزدوجة.. فهم يتهمون الرسول الذي حمل إليهم رسالة الله، وكلماته.. ثم دفع بهم هذا الاتهام إلى أن يخرجوا عن عقولهم، وأن يكذّبوا هذا الحق الواضح الذي يملأ عليهم الوجود من آيات الله.. فإذا كان اتهامهم للرسول مما يجدون له عذرا عند أنفسهم، متعللين لذلك بما يجدون فى صدورهم من حرج فى أن يستجيبوا لرجل منهم، وأن يمتثلوا الدعوة التي يدعوهم إليها- فإن اتهامهم لهذا القرآن الذي يتلى عليهم، والذي ينطق بالحق المبين الواضح، لا يقوم له عذر، حتى عند أنفسهم، فهم يكذبون عن عمد، ويذهبون مذهب الضلال على علم.. وهذا ما يجعل جرمهم أشنع الجرم وأغلظه.. وقوله تعالى: «فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ» . الأمر المريج: المختلط، الذي يموج بعضه فى بعض، ومنه قوله تعالى: «مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ» أي خلط بعضهما ببعض، وجمع بين الملح والعذب، فى هذه الأمواج التي تتضارب عند التقائهما.. ومنه قوله تعالى: «وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ» .. حيث يضطرب اللهب ويتماوج بيد الهواء الذي يسبب عملية الاحتراق. والأمر المريج الذي فيه هؤلاء الكافرون، هو اضطراب مقولاتهم فى الرسول الكريم، وفى القرآن المجيد.. شأنهم فى هذا شأن كل من يركب الجزء: 13 ¦ الصفحة: 467 متاهات الطرق، وطوامسها، فلا يدرى أىّ اتجاه يتجه.. إنه يتجه تارة يمينا وتارة شمالا، ومرة وراء، ومرة خلفا.. إنه لا يأخذ فى اتجاه حتى تساوره الشكوك. والظنون، فيعدل عنه إلى غيره، الذي يحسب أنه الطريق القاصد، ثم لا يلبث أن يتهم نفسه فيما حسب، فيعدل.. وهكذا.. هذا شأن الإنسان وحده مع نفسه.. فإذا كانوا جماعة على ضلال، كان لكل منهم وجهة، ولكل سبيل، ومع الوجهة وجهات، ومع السبيل سبل.. أما من كان على الحق، سواء أكان وحده أو فى جماعة، فإن الطريق واحد، له ولهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» (153: الأنعام) .. وقد شرح الرسول الكريم، هذه الآية الكريمة فى الحديث الشريف الذي يروى عن ابن مسعود، قال: «خطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطّا بيده ثم قال: هذا سبيل الله مستقيما» وخط عن يمينه وشماله، ثم قال: «هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه» .. ثم تلا الآية: «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً..» . قوله تعالى: «أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ» . فى هذه الآية لقاء مع الكافرين، بعيدا عن الرسول وعن القرآن الذي بين يديه.. إنه لقاء مع عقولهم، إن كانت لهم عقول- فليدعوا الرسول وما جاءهم به، ثم لينظروا نظرا مجردا، لا يرد عليهم منه هذه الشبه التي وردت عليهم من أهوائهم، حين نظروا إلى الله سبحانه وتعالى من خلال الرسول، الذي يدعوهم إلى الله، وما أثار هذا من الحسد ودخان الغيرة أن يكون لرجل منهم هذه النعمة التي أنعم الله بها عليه.. فليدعوا الرسول، وليدعوا ما يتلوه عليهم من آيات الله، وليكونوا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 468 هم رسل أنفسهم، فى دعوتها إلى الله، والتعرف عليه.. فلينظروا إلى السماء فوقهم.. إنها ليست بعيدة عنهم، بل هى قائمة فوق رءوسهم، لا تحتاج رؤيتها إلى أكثر من أن يفتحوا عيونهم عليها.. فإنهم إن فعلوا، كان عليهم- إن كانوا يريدون الحقّ والهدى- أن يجيبوا على هذه الأسئلة التي تطلع عليهم من وراء النظر إلى السماء: كيف قامت هذه السماء؟ ومن أقامها؟ ومن زينها بالكواكب؟ ومن أحكم نظامها، ونظام الجاريات فيها، فلم تتصادم كواكبها، ولم تنطفىء أضوؤها وأنوارها المنبعثة منها على آماد السنين وتطاول الأزمان؟ فهل نظروا إلى السماء فوقهم؟ وهل أثار هذا النظر عقولهم، فسألوا أنفسهم تلك الأسئلة؟ وهل بحثوا عن جواب لها؟ إنهم لم ينظروا، ولو نظروا ما رأوا شيئا من هذا كله، لأنهم ينظرون بعيون كليلة، وعقول سقيمة، وقلوب مريضة! وقوله تعالى «ما لَها مِنْ فُرُوجٍ» الفروج، الصدوع، والتشققات التي تكون بين الشيء والشيء.. والمراد بنفي هذا العارض من الفروج عن السماء أنها على امتدادها، واتساعها الذي لا حدود له، قد قامت بناء راسخا، متلاحم النسج، لا تفاوت فيه: «ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ.. فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ؟» (3: الملك) قوله تعالى: «وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» .. وإذا كان هؤلاء الكافرون المشركون قد كلّت أبصارهم عن أن ترى السماء وما فيها من دلائل القدرة، والحكمة، والعلم، فلينظروا إلى مواطىء أقدامهم.. إلى هذه الأرض التي يمشون عليها.. إنهم لو نظروا نظرا باحثا متفحصا لرأوا الأرض غير الأرض، ولرأوا فيها من آيات الله، ودلائل قدرته الجزء: 13 ¦ الصفحة: 469 وحكمته وعلمه، ما لم يروه، وهم يمشون فيها بعيون مقفلة، وقلوب فارغة، وعقول لاهية.. إنها كون فسيح ممدود إلى غايات بعيدة، تتجاوز هذا القدر المحدود الذي لا يتعدّى مواطىء أقدامهم، ولا يخرج عن محيط مغداهم ومراحهم.. وإن هذه الجبال التي تطاول السماء بين أيديهم، ليست مجرّد أكوام من الأحجار، بل هى أوتاد تمسك هذه الأرض أن تميد، وتضطرب بما عليها من موجودات.. وإن هذه الزروع والحدائق، والمروج التي تغطّى وجه الأرض، ليست إفرازا من إفرازاتها، وإنما هى حلل من الجمال، والبهجة والحسن، كساها الله سبحانه وتعالى بها، حتى تطيب للناس الحياة فيها، وحتى تفيض عليهم بهجة وحبورا، مما تنتعش به النفوس، وتسعد به القلوب، فلا يكون حظّ الإنسان من هذه الزروع مقصورا على الغذاء الذي يملأ البطون، كما هو حظ الحيوان، الذي لا يعنيه من أمر هذه الخيرات إلا أن يملأ بطنه منها.. قوله تعالى: «تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ» . هو بيان للعلة التي من أجلها قامت السموات والأرض على هذا النظام البديع المتقن، المحلّى بحلي الجمال والبهجة.. إن فى هذا كله ما يفتح البصائر إلى مطالع الحق، ويمدّ العقول بكمالات المعارف الموصلة إلى الله، وذلك حين تصادف الإنسان الذي لم تفسد فطرته، ولم تنطمس بصيرته، ولم تستول على عقله الضلالات والسفاهات.. والعبد المنيب، هو العبد المستعدّ لقبول الخير حين يدعى إليه، ولاتباع سبيل الحق حين يستبين له وجهه! الجزء: 13 ¦ الصفحة: 470 قوله تعالى: «وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ» . وهذا معرض ثالث من معارض النظر، ومراد من مرادات التدبر والتفكّر.. وأنه إذا كان هؤلاء الكافرون الضالون، قد كلّت أبصارهم عن أن تصافح السماء، وتقع على موقع العبرة والعظة منها، وأن يعموا أو يتعلموا عن الأرض وما بين أيديهم من آيات الله منها- إذا كان هذا شأنهم فيما فى السموات والأرض، فهذا معرض جديد من معارض النظر، ليس فى السماء، ولا فى الأرض، وإنما هو بين السماء والأرض، وفى مستوى النظر، لكل ذى نظر لا يتكلف له مدّ بصره إلى السماء، ولا إلقاء نظره على الأرض، بل حسبه أن يفتح بصره مجرد فتح، فيرى هذا المطر المتدفق من السماء إلى الأرض.. أفلا يرى هذا الماء أيضا؟ إنه إن لم يكن يراه، فإن الماء برجمه بهذه القطرات التي تتساقط عليه، حتى يستيقظ ويصحو من ذهوله وغفلته.. وهذا الماء.. ما شأنه؟ ومن أين جاء؟ ولم جاء؟ إنه لم يكن عن مصادفة، ولم يقع حيث وقع إلا ليبعث الحياة فى الأرض الهامدة ويخرج من بطنها هذه الجنات والزروع التي يحيا عليها، ويعيش من ثمرها وحبّها الإنسان والحيوان.. وفى وصف الماء بأنه مبارك، إشارة إلى ما يحمل هذا الماء الذي كثيرا ما تستخف به العيون، ولا تتملّاه الأبصار، من خيرات ونعم، ولا يحصيها المحصون، ولا يدرك أسرارها إلا أولو الأبصار من عباد الله.. إن قطرات هذا الماء المنزل من السماء، هى أرواح تلبس الأرض كما تلبس الجزء: 13 ¦ الصفحة: 471 الأرواح عالم الأجساد، فيكون منها هذا الإنسان الذي يبلغ به الغرور إلى أن يكون إلها فى الأرض، بأبى أن يعطى ولاءه لله رب العالمين..!! قوله تعالى: «وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ» . هو معطوف على قوله تعالى: «جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ» أي وأنبتنا بهذا الماء المبارك جنات، وزروعا، ونخلا باسقات.. وفى تعريف النخل، مع اختصاصها بالذكر من بين ما فى الجنات من أشجار- فى هذا إشارة إلى تكريم هذه الشجرة المباركة، لما فيها من منافع كثيرة تجتنى من كل شىء فيها.. من جذرها إلى جذعها، إلى ليفها، إلى جريدها، إلى سعفها، إلى تمرها، إلى نوى هذا التمر.. فهى شجرة كلها خير ونفع، ليس فيها شىء يلفظ، مع عظم جسمها، وامتداد طولها.. ولهذا كانت وصاة النبي الكريم بها فى قوله- صلوات الله وسلامه عليه-: «أكرموا عماتكم النخل، فإنهن خلقن من طينة آدم» . هذا، وتحتل النخلة مكان القمة فى المملكة النباتية، كما يأخذ الإنسان مكان القمة فى المملكة الحيوانية.. ولهذا كثر ذكرها فى القرآن، وخاصة فى معرض التذكير بنعم الله، وبما بين يدى الناس من هذه النعم، التي تتجلى فى الجنات والزروع.. فلا تكاد تذكر الجنات وما فيها من ثمر، حتى تأخذ النخل مكان الصدارة، أو تنفرد وحدها بالذكر، اكتفاء بها عن كل شجر غيرها، وحتى لكأنّ الجنة لا تكون جنة إلا إذا كانت النخل آخذة مكانها فيها.. يقول تبارك وتعالى: «أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 472 فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ» (26: البقرة) ويقول سبحانه: «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً» (32: الكهف) ويقول جل شأنه على لسان صالح عليه السلام، وهو يحاج قومه بنعم الله عليهم: «أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ» (146- 148: الشعراء) .. ويقول سبحانه: «يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ» (11: النحل) .. ويقول جل شأنه لمريم: «وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً» (25- 26 مريم) . فقد كانت النخلة قائمة بمشهد من هذه المعجزة التي ستطل على الوجود بميلاد المسيح عليه السلام، روح الله وكلمته إلى مريم.. فكانت متكأ لمريم، وصدرا حانيا تستند إليه فى شدتها التي كانت تعانى منها، كما كان ثمرها مائدة الله التي دعا مريم إلى أن تطعم منها.. إنها خير ثمر وأطيب ما تخرج الأرض من ثمر! وقوله تعالى: «باسِقاتٍ» أي عاليات، تطاول أعناقها السماء، فلا تكاد شجرة فى الأرض تبلغ المدى الذي تصل إليه، وكأنها بهذا تتربع على عرش للملكة النباتية، وتشرف عليها من هذا العلو.. وقوله تعالى: «لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ» الطلع أول ما يبدو من ثمر النخل، حين يتفتح الجراب الذي يضم فى كيانه زهر هذا الثمر.. والنضيد: المنضود، وهو المرصوص فى نظام تجتمع فيه الحبات، كما تجتمع حبات العقد النظيم. وفى هذا الوصف للنخلة فى سموقها وطولها، وللثمر فى تنضيده، وانتظام حباته- فى هذا إلفات إلى هذا الحسن الرائع، والجلال المهيب، مما يراه الذين يرون مواقع الحسن والروعة والجمال والجلال فى آيات الله، وما أبدعت قدرته فى هذا الوجود! الجزء: 13 ¦ الصفحة: 473 قوله تعالى: «رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ» .. هو بيان لبعض ما لهذه الجنّات والزروع والنخيل من أثر فى حياة الناس، وأنها مما يرزقه الله عباده من رزق كريم.. وقوله تعالى: «وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً» معطوف على قوله تعالى: «فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ» .. أي وأحيينا بهذا الماء بلدة ميتا، فلولا هذا الماء ما قامت حياة على هذه الأرض، وما قامت هذه البلاد العامرة، والتي كانت قبل الماء ترابا هامدا.. وقوله تعالى: «كَذلِكَ الْخُرُوجُ» - هو تعقيب على قوله تعالى: «وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً» .. أي أنه كما أقام الماء هذه الحياة من الأرض الميتة، فإنه غير منكور أن يبعث الموتى من القبور، ويلبسوا الحياة من جديد، كما لبست الأرض الميتة الهامدة هذه الحياة حين أصابها الماء، وسرى فى أوصالها.. الآيات (26- 12) [سورة ق (50) : الآيات 12 الى 26] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 474 التفسير: قوله تعالى: «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ» .. أصحاب الرس: قيل إنهم أهل قرية باليمامة، وقد كثرت الأقوال فيهم، زمانا ومكانا، كما أن القرآن لم يذكر اسم رسولهم «1» وأصحاب الأيكة: هم قوم شعيب، والأيكة: الشجر الكثير الكثيف.. وقوم تبع: هم أهل سبأ، من اليمن، وقد ذكرهم القرآن، وذكر كفرهم بنعم الله، وقد أرسل الله عليهم سيل العرم، فأتى على كل عامر بين أيديهم.. والضمير فى «قبلهم» يعود إلى مشركى مكة.. وهم المخاطبون بالآيات السابقة.. وفى هذه الآيات تعرض عليهم صورة من حياة الماضين الذين كانوا على ضلال كهؤلاء الضالين.. وقد عرضت عليهم من قبل آيات الله، تحمل إليهم   (1) انظر ص 25 من الكتاب العاشر للتفسير القرآنى للقرآن. [ ..... ] الجزء: 13 ¦ الصفحة: 475 دلائل قدرته، وما أفاض عليهم، وعلى العباد من نعمه ومننه، فإن هم لم ينظروا فى هذه الآيات، ويهتدوا إلى الله، ويؤمنوا به، ويشكروا له، أخذهم الله بما أخذ به الضالين المكذبين قبلهم.. فهم ليسوا أول من كذب بآيات الله، وبهت رسل الله، وهم لن يخرجوا عن سنة الله التي خلت فى أخذ الظالمين بظلمهم، وإنزال البلاء بهم.. «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ» .. فهؤلاء بعض المكذبين فى القرون الماضية، والأمم الغابرة، وقد علم المشركون أخبارهم، وما كان من أخذ الله لهم، ووقعاته فيهم.. ولهذا خصهم الله بالذكر.. ويلاحظ هنا أن فرعون ذكر وحده، دون قومه، وعدّ وحده مجتمعا قائما بذاته، إذ كان سلطانه ممكنا فى قومه، وكان قومه جميعا فى قبضة يده، فكفر قومه تبع لكفره، كما يقول سبحانه: «فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ» (54: الزخرف) . وقوله تعالى: «كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ» أي أن هؤلاء الأقوام جميعا كذبوا رسل الله السابقين، كما كذب المشركون رسول الله محمدا.. وقوله تعالى: «فَحَقَّ وَعِيدِ» أي وجب عليهم وعيد الله ولزمهم.. ووعيد الله عذابه الذي توعد به المكذبين والضالين.. قوله تعالى: «أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ» .. عادت الآيات لتكشف عن الآفة التي أفسدت على المشركين أمرهم، وباعدت بينهم وبين الإيمان بالله، والتصديق برسول الله.. وتلك الآفة هى استبعادهم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 476 للحياة بعد الموت، ثم الحساب والجزاء.. وكان قولهم فى هذا ما حكاه القرآن عنهم فى قوله تعالى: «إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» (37: المؤمنون) .. فقضية البعث والقيامة، هى المدخل الذي دخل منه على القوم كل كفر وضلال.. إنهم مستعدون لأن يؤمنوا بالله، وأن يفردوه وحده بالألوهية.. ولكن الأمر الذي لا يقبلونه، هو الإيمان باليوم الآخر، فذلك ما لا يتصورونه، ولا يسمعون لقول يقال لهم فيه.. والإيمان كلّ لا يتجزأ، فمن آمن بالله، وكفر بكتبه، ورسله واليوم الآخر، فهو على غير سبيل المؤمنين، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً» (115: النساء) .. فقوله تعالى: «أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ» هو مواجهة للمشركين بما ينكرونه من أمر البعث، وما يقع فى تصورهم من استبعاد له.. فهذا الاستفهام ينكر على المشركين ضلال تصورهم لقدرة الله، وسوء إدراكهم لآثار تلك القدرة.. فهذا الوجود القائم، بعوالمه المختلفة فى السموات والأرض- ألم يكن من صنعة الله؟ فهل عجز الله- سبحانه- عن أن يبدع هذه المبدعات؟ وهل أعياه أمرها؟ فكيف يعجز سبحانه عن إعادة ما انتثر من عقدها؟ وكيف يعيا- سبحانه- عن أن يبعث الحياة فيما همد من أحيائها؟ ذلك ما لا يقبله عقل نظر فى خلق الوجود كله ابتداء، ثم تطلع إلى طيه ونشره ثانيا! .. وقوله تعالى: «بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ» .. للبس: الاختلاط الذي يقع من عدم وضوح الرؤية للأمر، وتبيّن وجه الحق فيه.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 477 واللّبس الذي لبس عقول المشركين واستولى عليها، هو فيما يتعلق بالبعث، وإعادة الحياة إليهم بعد الموت.. وهذا مما يشير إليه قوله تعالى فى آية سابقة من هذه السورة، وهى قوله تعالى: «بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ» . قوله تعالى: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» .. فى هذه الآية عرض آخر لقدرة الله سبحانه وتعالى، وقد غاب مفهوم هذه القدرة عن عقول هؤلاء المشركين.. وفى إعادة هذا العرض لقدرة الله، تذكير لهم ببعض مظاهرة هذه القدرة، ليراجعوا عقولهم مرة أخرى، وليرجعوا من طريق الضلال الذي هم سائرون فيه.. فالله سبحانه، هو الذي خلق هذا الإنسان من تراب الأرض، فجعل منه هذا الكائن العاقل، السميع، البصير، وهو سبحانه الذي يعلم من أمر هذا الإنسان ما توسوس به نفسه من خواطر، وما يضطرب فيها من خلجات.. وهو سبحانه أقرب إلى الإنسان- كل إنسان- من حبل الوريد.. وحبل الوريد: هو عرق فى صفحة العنق.. وسمّى العرق حبلا، لأنه يشبه الحبل فى امتداده واستدارته.. وسمى وريدا، لأنه يستورد الدم النقي من القلب، ويصبّه فى الأوعية الدموية التي يتغذى منها الجسم.. قوله تعالى: «إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ» .. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 478 أي أن الله سبحانه مع قربه هذا القرب المستولى على كيان الإنسان كله، ظاهرا وباطنا- فإنه سبحانه قد وكل بهذا الإنسان جنديين من جنوده، يتلقيان منه كل ما يصدر عنه، من قول أو فعل، فيكتبانه فى كتاب يلقاه منشورا يوم القيامة.. و «إذ» ظرف متعلق بقوله تعالى: «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» - بمعنى أن الله سبحانه وتعالى أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، وفى الوقت نفسه يقوم عليه جنديان من جنود الله، يسجلان عليه كل ما يقول، أو يفعل.. كما يقول سبحانه: «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ» . فكيف يكون للإنسان مهرب من الحساب والجزاء؟ قوله تعالى: «ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» - هو بيان شارح لوظيفة الجنديين القاعدين عن يمين الإنسان وعن شماله.. فهما واقفان للإنسان بالمرصاد.. ما يلفظ من قول إلا كان على هذا القول «رقيب» أي مراقب، يسمع ما يقال، ويسجله، وهو «عتيد» أي حاضر دائما لا يغيب أبدا.. وليس رقيب وعتيد، اسمين للملكين القائمين على الإنسان، الموكلان به، وإنما ذلك وصف لكلّ منهما، فكل منهما رقيب يقظ، حاضر أبدا.. قوله تعالى: «وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ» . سكرة الموت: ما يغشى الإنسان ساعة الاحتضار، من غيبوبة أشبه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 479 بغيبوبة من يقع تحت خمار الخمر، فتنطفىء لذلك تلك الشعلة التي تمدّ كيانه بالحرارة والحركة، ويبدو وكأنه جثة هامدة، بلا شعور، ولا حركة، ولا وعى!. وقوله تعالى «بِالْحَقِّ» متعلق بالفعل «جاء» أي جاءت سكرة الموت محملة بالحق، الذي غاب عن هذا الإنسان الذي لا يؤمن باليوم الآخر، حيث يرى عند الاحتضار، ما لم يكن يراه من قبل، وحيث يبدو له فى تلك الساعة كثير من شواهد الحياة الآخرة، التي هو آخذ طريقه إليها.. وقوله تعالى: «ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ» - الإشارة إلى «الحق» وهو الموت، وما وراءه من بعث وحساب وجزاء.. وذلك الحق هو ما كان هذا الكافر باليوم الآخر، منكرا له، حائدا عن الداعي إليه، المنذر به.. وقرىء: «وجاء سكرة الحق بالموت» ويكون المعنى على هذا، وجاءت سكرة الحق بالموت الذي كان يحيد عنه هذا الإنسان، والذي كان فى حياته غير مقدر أنه سيموت.. «يحسب أن ماله أخلده» .. فهو لهذا غافل عن الموت، كما يقول سبحانه وتعالى: «لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» .. قوله تعالى: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ» .. هو عرض للأحداث التي تجىء بعد الموت.. فليس هذا الموت هو آخر المطاف، وإنما وراءه بعث، وحساب، وجزاء.. والنفخ فى الصور، هو كناية عن أمر الله، ودعوته إلى الموتى بالخروج من قبورهم، كما يقول سبحانه: «ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ» (25: الروم) .. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 480 والصور: أداة ينفخ فيها، عند كل أمر عظيم، يجتمع له الناس، لحرب أو نحوها.. وكان يتخذ عادة من قرن حيوان من ذوات القرون الكبيرة كالوعول ونحوها.. وقوله تعالى: «ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ» أي ذلك النفخ إيذان بحلول يوم الوعيد، وهو يوم القيامة، الذي توعّد الله سبحانه وتعالى فيه أهل الشرك والضلال، بالعذاب الأليم فى نار جهنم.. قوله تعالى: «وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ» - أي فى هذا اليوم- يوم الوعيد- تجىء كل نفس ومعها «سائِقٌ» من ورائها يسوقها إلى المحشر، وموقف الحساب، «وَشَهِيدٌ» - وهو الذي يشهد على الإنسان بما كان منه فى الدنيا، من إيمان بالله وباليوم الآخر، أو كفر بالله، وبالبعث والحساب والجزاء.. فهو يحضر الحساب، ويشهد على الإنسان بما عمل.. ومع كل إنسان أكثر من شاهد.. فهناك الرسول الذي يشهد على قومه، كما يقول سبحانه: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» (41: النساء) ، وكما يقول جل شأنه: «وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ» (75: القصص) .. وهناك الجوارح التي تشهد على الإنسان، كما يقول سبحانه: «يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» (24: النور) .. وهناك الملكان الموكّلان بالإنسان، واللذان سجلا عليه كل أعماله.. وقد أفرد هؤلاء الشهداء، فكانوا «شهيدا» واحدا، لأنهم يشهدون شهادة واحدة، لا اختلاف فيها، لأنها شهادة الحق الذي لا تشوبه شائبة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 481 من كذب، أو افتراء.. فكانوا بهذا أشبه بشاهد واحد، وكأنهم صوت يتردد.. له أكثر من صدى.. قوله تعالى: «لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» . هو جواب عن تساؤلات كثيرة يتساءلها هذا الإنسان الذي كان لا يؤمن بالله، ولا باليوم الآخر.. وذلك أنه حين ينفخ فى الصور، ويخرج من قبره مع الخارجين من قبورهم- يدهش لهذا الأمر، وتعروه منه حال من التبلد والجمود والحيرة، وكأنه فى حلم رهيب مزعج.. ويسأل نفسه ما هذا الذي يجرى حوله؟ وأين هو؟ وما خطبه؟ وماذا يراد به وبالناس؟ .. إلى غير ذلك من الأسئلة التي لا يجد لها جوابا.. ثم ينكشف له الأمر حالا بعد حال، وإذا منادى الحق يناديه هذا النداء الذي يكشف له عن المصير المشئوم الذي هو صائر إليه: «لقد كنت فى غفلة من هذا» فى حياتك الدنيا، لا تستمع إلى من يحدثك به، ويقدم لك الأدلة والبراهين عليه.. أما الآن، فإنك سترى بعينيك حقيقة ما كنت تحسبه وهما وضلالا: «فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد» .. لقد كشف عنك غطاء الغفلة الذي كان مضروبا على بصرك، فبصرك اليوم حديد، أي قوىّ، يرى كل ما بين يديك وما خلفك.. فالحديد من الحدّة، وهى القوة، وحدّ السيف: الجانب القاطع منه.. وهذه الآية تشبه ما جاء فى قوله تعالى: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟ هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ» (51، 52 يس) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 482 قوله تعالى: «وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ» القرين هنا، هو صاحب السوء، الذي يضلّ صاحبه، ويقوده إلى مواقع الإثم والضلال.. والمراد به هنا الشيطان، ومن يشبه الشيطان من الناس فى الإغواء والإضلال.. إن قرناء السوء يبرأ بعضهم من بعض يوم القيامة، ويقع بينهم التلاحي والترامي بالتهم.. أما أهل السلامة والتّقى، فإن المودة قائمة بينهم فى الدنيا، على التناصح، والتناصر، والتواصي بالحق والصبر، فإذا كان يوم الآخرة، تلاقوا على الرضا، وتساقوا كئوس الحمد والرضوان، كما يقول سبحانه: «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» (67: الزخرف) . فقرين السوء الذي زيّن الضلال لصاحبه، يلقاه يوم القيامة بما كان قد زيّنه له، مما يسوءه ويسوقه إلى جهنم.. إنه حين تحيط بالضلال خطيئنه، يتلفت حوله باحثا عن قرينه، فلا يجد من قرينه إلا هذه البضاعة الحاضرة!! قوله تعالى: «أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ» الضمير فى «ألقيا» يعود إلى السائق والشهيد، فى قوله تعالى: «وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ» - فتلك هى الغاية التي يساق إليها هذا الضالّ المكذّب بالله واليوم الآخر، وذلك هو الحكم الذي يقضى به الحكم العدل، بعد أن يؤدى الشاهد شهادته.. وليس هذا حكما مقضيّا به على واحد بعينه، وإنما هو حكم يؤخذ به كل كفار عنيد.. إنه حكم عام على أهل الكفر الجزء: 13 ¦ الصفحة: 483 والضلال، فكل نفس قد جاءت ومعها سائق وشهيد.. أما النفس المؤمنة الصالحة، فتزفّ إلى الجنة، فى حفاوة وتكريم.. وأما النفس المجرمة الفاجرة فإنها تدفع دفعا، وتلقى إلقاء فى جهنم، كما يلقى الحطب فى النار.. وقوله تعالى: «مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ» هو من حيثيات هذا الحكم الذي حكم به على أهل الكفر والضلال.. فالكفر هو الذي أورد أهله هذا المورد الوبيل، والكفر هو الذي قاد صاحبه إلى العناد والشرود عن الحق، وهو الذي جعل بينه وبين الخير هذه العداوة المستحكمة، التي تجعله يكره وجه الخير، فيلقاه محاربا له فى نفسه، وفى الناس.. والكفر هو الذي جعله حربا على الآمنين والمسالمين، يبادئهم بالعدوان بغير جريرة منهم إليه.. ثم يقوم على هذه المآثم كلها، هذا الإثم الغليظ، وهو الشرك بالله.. وقوله تعالى: «فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ» تأكيد للحكم: «ألقيا فى جهنم» الذي ووجه به الكافر قبل أن يستمع إلى حيثيات الحكم، ثم إذا استمع إلى تلك الحيثيات، جاء الحكم فى صورة أشدّ هولا، وأسوأ عاقبة.. إنه ينزل من جهنم فى أسوأ منازلها، وأشدّها عذابا.. الآيات (37- 27) [سورة ق (50) : الآيات 27 الى 37] قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 484 التفسير: قوله تعالى: «قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ» هو عرض لصورة من صور التلاحي والترامي بالتهم بين قرناء السوء يوم القيامة.. فحين يؤخذ أحد القرينين- وهو التابع- ليساق إلى جهنم، يتعلق به صاحبه، قائلا: ربّ هو الذي أضلنى عن الحق، وأغوانى بما أغوانى من ضلال.. وهنا يحاول القرين المتبوع، وهو الشيطان- دفع هذا الاتهام عن نفسه، فيقول: «رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ» .. إنه كان مسوقا إلى الضلال بنفسه، متجها إليه بأهوائه، سواء وجد من يدعوه إلى هذا الضلال أو لم يجد. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ» (22: إبراهيم) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 485 قوله تعالى: «قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ» .. هو قولة الحق من الله سبحانه وتعالى، إلى قرناء السوء، سواء منهم التابعون، والمتبوعون.. إنه لا تخاصم اليوم بين يدى الله، فقد توعد الله أهل الضلال، وحذرهم عاقبة أمرهم، وإن مع كل إنسان عقلا يدرك به، ونظرا يرى به عواقب الأمور، وليس يغنى فى مقام المساءلة والمحاسبة أن يلقى إنسان بجرمه على غيره «بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ» (14- 15: القيامة) .. قوله تعالى: «ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» .. أي أنه لا ينقض هذا الحكم الذي قضى الله به فى أهل الضلال، ولن تنفع الظالمين معذرتهم، ولا هم يستعتبون.. وقوله تعالى: «وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» .. هو توكيد لقوله تعالى: «ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ» .. لأن هذا حكم من أحكم الحاكمين، رب العالمين، الذي يقضى بين عباده بالحقّ.. قوله تعالى: «يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ» .. أي إن هذا القضاء إنما يكون يوم القيامة، يوم يعرض الناس على رب العالمين، يوم يساق المجرمون إلى جهنم.. وإنهم لأعداد كثيرة، يتقحمونها فوجا بعد فوج، وهى فاغرة فاها لتبتلع كل وارد عليها، دون أن تشبع.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ» 68: (العنكبوت) .. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 486 قوله تعالى: «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ» .. هذه أول آية فى هذه السورة تتحدث عن المؤمنين، وما أعد الله لهم من ثواب عظيم وأجر كريم.. فقد كانت السورة كلها مواجهة لأهل الشرك والضلال، وما دخل عليهم من شركهم وضلالهم، من إنكار ليوم البعث، حتى إذا جاءهم هذا اليوم، ذهلوا وذعروا، ثم إذا سيقوا إلى المحشر، والتقى بعضهم ببعض- أنكر بعضهم بعضا، وتراموا بالعداوة والبغضاء، ثم ألقوا جميعا فى جهنم التي لا تضيق بكثرة الواردين إليها.. فقوله تعالى: «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ» هو النسمة العليلة المنعشة التي تطلع فى هذا الجوّ الخانق، الذي يكظم الأفواه، ويزكم الأنوف، مما يهب من سعير جهنم، ومن صرخات أهلها.. إن يوم القيامة ليس كله هذا الهول وهذا البلاء، بل إن فى هذا اليوم مباهج، ومسرات، وبشريات مسعدة لأهل الإيمان والتقوى.. وأنه إذا كان هناك جهنم التي تفغر فاها لأهل الشرك والضلال، فإن هناك أيضا جنة عرضها السموات والأرض أعدّت للمتقين.. وأنه إذا كانت جهنم تنتظر الواردين الذين يسوقهم إليها سائق عنيف يدعّهم دعّا، ويلقى بهم إلقاء فيها، فإن الجنة تسعى للقاء أهلها، وتلقاهم متوددة، متلطفة، تماما كما يفعل المضيف عند استقبال ضيف عزيز كريم، فيلقاه على الطريق مرحبا محييا.. فقوله تعالى: «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ» أي قربت، والزلفى: القرب.. وهذا يكون فى مقام الإحسان، كما فى قوله تعالى: «وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ» (40: ص) .. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 487 قوله تعالى: «هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ..» أي هذا الجزاء الكريم الطيب، هو ما وعد الله سبحانه به الذين آمنوا وعملوا الصالحات.. والأوّاب: مبالغة من الأوب، وهو الرجوع، والمراد به الرجوع إلى الله، والاعتصام به فى كل حال، وإضافة الأمر إليه فى السراء والضراء.. فهذا هو مقتضى الإيمان الحق بالله، حيث يقوم من هذا الإيمان شعور قوىّ حىّ، يصل الإنسان بربه أبدا، فإذا كان منه انحراف مع هواه لم يلبث أن يردّه هذا الشعور إلى ربه تائبا مستغفرا، كما يقول سبحانه. «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» .. (201: الأعراف) والحفيظ: مبالغة من الحفظ، وهو حفظ الإنسان لنفسه، وحراستها من الأهواء والضلالات التي ترد عليها.. ثم حفظ ما اؤتمن عليه من أحكام دينه.. وقوله تعالى: «مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ» بدل من قوله تعالى: «أَوَّابٍ حَفِيظٍ» .. فالأوّاب إنما كان أوابا وكان حفيظا، لأنه كان على خشية لربه، وخوف من لقائه، وعذابه.. والمراد بالخشية بالغيب، الخشية التي تكون من الإنسان فى غير حضور من وازع سلطان أو قانون، وحيث تمكن الإنسان الفرصة من أن يفعل المنكر، ويرتكب الفحشاء من غير أن يطلع عليه مطلع، ولكنه يردّ نفسه عن هذا خوفا من الله، وحياء من جلاله.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 488 وفى ذكر الاسم الكريم «الرحمن» هنا- إشارة إلى مبلغ التقوى والخشية التي تستولى على نفس هذا المؤمن الذي يخشى ربه، وهو يستحضر رحمته ويذكر سعة هذه الرحمة، ومع هذا فإن ذلك- وإن أطمعه فى رحمة الله- لا يجرّئه على محاربته بالمعصية، بل إنه فى حضور هذه الرحمة يكون أشد حبّا لربه، ومن أحب لم يكن منه عصيان لمن امتلأ قلبه بحبه.. وقوله تعالى: «وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ» - معطوف على قوله تعالى: «خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ» .. أي كانت منه خشية للرحمن بالغيب، وكان منه مجىء، وعودة إلى ربه بقلب منيب، أي راجع من شروده الذي كان متجها به إلى طريق المعصية.. فالقلب هو موطن المعتقدات الصالحة أو الفاسدة، ومصدر التصرفات الطيبة أو الخبيثة، كما يشير إلى ذلك الحديث الشريف: «ألا وإن فى الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى القلب) ! .. قوله تعالى: «ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ» .. هو التفات إلى أهل الإيمان والتقوى، هؤلاء الذين يخشون ربهم بالغيب، ويقبلون عليه بقلوب سليمة، منيبة، وهو دعوة كريمة من رب كريم إليهم أن يقبلوا هذه الضيافة الكريمة التي ينزلهم فيها، وقد جاءوا إليه سبحانه، مسلمين تائبين. وقوله تعالى: «بِسَلامٍ» هو حال من فاعل «ادْخُلُوها» أي أدخلوا هذه الجنة التي أزلفت لكم، مصحوبين بسلام، لا يمسّكم ما يسوء أبدا.. قوله تعالى: «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ» .. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 489 الانتقال من الخطاب إلى الغيبة، فيه مزيد حسرة لأهل الضلال والشرك، وكأن هذا حديث إليهم، وردّ على ما يغلى فى صدورهم من حسد لأهل الإيمان والتقوى، الذين دعاهم الله سبحانه إلى جنته ورضوانه، وأنهم إذ يحسدون المؤمنين على هذه الجنة التي أزلفت لهم فليسمعوا إذن ما يؤحج هذه النار المشتعلة فى قلوبهم من حسرة وحسد: إن هذه الجنة سيجد فيها أهلها ما يطلبون، وما يشتهون من كل شىء، يجدون ذلك حاضرا عتيدا بين أيديهم من غير سعى أوكد.. بل وأكثر من هذا، فطن الله سبحانه يسوق إليهم من فضله وإحسانه ما لم يقع فى حسابهم، وما لم يخطر على بالهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَدَيْنا مَزِيدٌ» بعد قوله سبحانه: «لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها» .. قوله تعالى: «وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ.. هَلْ مِنْ مَحِيصٍ» عاد الحديث مرة أخرى، ليصل ما انقطع من أخبار أهل الكفر والضلال، وما يلقون على طريق كفرهم وضلالهم، وما تنتهى إليه مسيرتهم التي تلقى بهم فى سواء الجحيم.. وهذا الحديث يواجه المشركين بعد أن رأوا مشاهد القيامة، وما فيها من عذاب ونعيم، عذاب لأهل الكفر والفسوق والعصيان، ونعيم لأهل الإيمان، والطاعة والتقوى.. فلينظروا بعد هذا إلى أنفسهم، وليأخذوا الطريق الذي يشاءون، إلى النار إن شاءوا، أو إلى الجنة إن أرادوا. وأنهم إن أبوا أن يتوقفوا عن مسيرتهم على طريق غيهم وضلالهم، مغترين بقوتهم، معتزين بمكانتهم فى أهليهم- فليعلموا أنهم أضعف قوة، وأقل شأنا ممن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 490 كان قبلهم من أهل الضلال، وقد أهلكهم الله، وأنزلهم منازل الهون والعذاب.. وقوله تعالى: «فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ» .. التنقيب فى البلاد: السعى بالإفساد فيها، واستعمال قوتهم فى الاستبداد بالعباد، كما يقول سبحانه فى فرعون وملائه: «وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ» (10- 13 الفجر) وقوله تعالى: «هَلْ مِنْ مَحِيصٍ؟» أي هل انتفع هؤلاء المغترون بقوتهم المعتزون بسلطانهم، فى ردّ بأس الله عنهم، وفى رفع البلاء الذي أخذهم به؟ كلا. فما أغنى عنهم ذلك من الله من شىء.. والمحيص: المفرّ من مواجهة البلاء، والتماس السلامة من الهلاك.. وفى هذا يقول الشاعر: وهل نحن إن حصنا عن الموت حيصة ... هل العمر باق والمدى متطاول؟ قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ» أي فى هذه المعارض التي تعرضها الآيات، فى مقام الوعد أو الوعيد- فى هذه المعارض موعظة، واعتبار، وذكرى.. ولكن ليس هذا لكل إنسان، بل «لمن كان له قلب» - أي كان ذا قلب سليم، معافى من الآفات التي تقتل كل بذرة خير تبذر فيه، فلا تنبت زهرا، ولا تطلع ثمرا.. كما أن المعارض فيها عبرة، وذكرى، وموعظة، لمن كان قلبه فى غفوة وغفلة عن مواقع العبر والعظات، ولكن كان له أذن واعية، تستمع لما يلقى إليها من آيات الله الجزء: 13 ¦ الصفحة: 491 وكلماته، ومن نصح الناصحين، ووعظ الواعظين.. وهنا يتنبه القلب الغافل، ويصحو القلب الغافى.. وهذا يعنى أن الإنسان قد يتهدّى إلى الهدى بنفسه، ويرد موارد السلامة والنجاة ببصيرته، إذا كان معه قلب سليم، وفطرة لم تقع فريسة لآفات الهوى والضلال.. فإذا لم يكن مع الإنسان هذا القلب وتلك الفطرة، فإنه يمكن أن يأخذ طريق الهدى من خارج ذاته، إذا هو أصغى إلى كلمات الحق الواردة عليه من رسل الله، أو الراشدين المهتدين من عباد الله.. شأنه فى هذا شأن الأعمى، الذي إن أسلم يده لمبصر قاده إلى مأمنه، وإن هو استبدّ به العناد، وأبى أن يعطى يده لأحد، سار متخبطا، يتردّى فى الحفر والمعاثر، حتى يهوى فى مهلكة من المهالك! الآيات (45- 38) [سورة ق (50) : الآيات 38 الى 45] وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 492 التفسير: قوله تعالى: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ» اللغوب: الفتور الذي يلحق الإنسان من عمل مجهد شاق.. والآية تعرض بعض مظاهر قدرة الله، ليرى منها المغترون بقوتهم، أين تقع هذه القوة من قوة الله.. وهل إذا طلبهم الله، وأرادهم بسوء- هل لهم من قوتهم ما يدفع عنهم بأس الله، وتلك بعض مظاهر قوته..؟ وتقدير خلق السموات والأرض فى ستة أيام، ليس الزمن الذي تحتاج إليه قدرة الله لخلق هذه العوالم، وإنما هو- كما قلنا فى أكثر من موضع- تقدير الزمن الذي تنضج فيه وتستوى هذه الأكوان، شأنها فى هذا شأن كل مخلوق، كما يرى ذلك فى مسيرة الحياة فى الأحياء من نبات وحيوان.. أما قدرة الله سبحانه وتعالى، فلا يحكمها زمان: «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (82: يس) وهذا يعنى أن الزمن عنصر من عناصر الخلق، وأن لكل مخلوق زمنا يتحرك فيه، كما أن له مكانا يدور فى فلكه.. قوله تعالى: «فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ» هو مواساة للنبىّ الكريم فيما يلقى من أذى قومه، وما تلقى به الجزء: 13 ¦ الصفحة: 493 أفواههم من فحش القول، وزور الحديث، فى شأن الرسول، وفى آيات الله التي يتلوها عليهم.. ثم هو تهديد لهؤلاء المشركين، وأنهم مأخوذون بوعيد الله لهم، وأنهم لن يفلتوا من بأس الله إذا جاءهم.. وقوله تعالى: «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ» هو دعوة للنبى أن يدع هؤلاء المشركين، وألا يصرف وقته كله فى النصح لهم والجدل معهم.. بل إن عليه أن يخلص بنفسه ساعات يلقى فيها ربه، مسبّحا بحمده، متزودا بهذا الزاد الطيب الذي يمده بأسباب القوة والقدرة على احتمال هذا العبء الثقيل الذي تنوء به الجبال.. وفى اختصاص هذين الوقتين- قبل طلوع الشمس وقبل غروبها- بتسبيح الله وحمده، لأنهما- والله أعلم- هما الوقتان اللذان يحويان بين طرفيهما، الوقت الحىّ من حياة الناس، والذي فيه يكون العمل فى ميادينها المختلفة.. والتسبيح بحمد لله قبل طلوع الشمس، هو السلاح الذي يتسلح به الساعي إلى العمل والجهاد، فيكون له منه القوة التي تعينه فى عمله وجهاده.. والتسبيح بحمد الله قبل غروب الشمس، هو صلاة شكر وحمد لله على ما كان منه من عون وتوفيق.. ثم هو استغفار لما وقع من إهمال أو تقصير. قوله تعالى: «وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ» .. «مِنَ» هنا للتبعيض.. أي ومن بعض الليل لا كله.. وهو معطوف على قوله تعالى: «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ» .. أي وسبحه كذلك بعضا من الليل، وفى أدبار السجود، أي أعقاب الصلوات.. فى الليل أو فى النهار.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 494 والتسبيح بالليل يعنى أن الليل ليس كله وقتا ميّتا، بل فيه أوقات حية عند المؤمنين بالله، يحيونها بذكر الله والتسبيح بحمده، حيث تخلو النفس من شواغل الحياة، ويفرغ القلب من الواردات التي ترد عليه منها فى النهار.. ففى هذه الأوقات من الليل يطيب الذكر، وتصفو موارد الذاكرين.. ومثل الليل فى هذا الأثر الذي يحدثه فى النفس من الصفاء والصحو الروحي- ما يكون من المصلّى أثناء السجود، حيث يضع المصلى وجهه على الأرض، فلا يرى من هذا الوجود شيئا يحجبه عن الله، أو يشغله عن النظر إليه.. وهذا ما يشير إليه النبي صلوات الله وسلامه عليه فى قوله: «أقرب ما يكون العبد من ربه، وهو ساجد» .. قوله تعالى: «وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ» .. الخطاب للنبى صلوات الله وسلامه عليه، ومن ورائه المؤمنون.. وهو معطوف على قوله تعالى: «فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ..» وما بعده.. والمراد بالاستماع هنا، إما أن يكون الانتظار، كما يقول سبحانه: «فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ» (47: القمر) وكما يقول جل شأنه: «فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ» (10: الدخان) وقوله جل شأنه: «وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ» (18: غافر) .. وعلى هذا يكون الفعل مسلطا على ما بعده، وهو «يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ» الذي وقع مفعولا لهذا الفعل.. وفى التعبير عن الانتظار والترقب بالاستماع- إشارة إلى ما يجىء وراء الجزء: 13 ¦ الصفحة: 495 هذا الانتظار، وهو هذا النداء الذي ينادى به الموتى من قبورهم، فيخرجون من الأجداث سراعا.. فكأن الأمر بالانتظار يحمل فى مضمونه أمرا بالاستماع، فحسن فى مقام التهديد أن يقوم المحمول مقام الحامل، لأنه هو المراد.. وإما أن يكون الاستماع على حقيقته، ويكون معموله المسلط عليه محذوفا، تقديره «واستمع» ما سنحدثك به بعد، وأصخ إليه سمعك، فهو أمر عظيم، ينبغى أن يلقاه الإنسان بكيانه كله، حتى يعيه، وحتى لا يفوته منه أي شىء.. وعلى هذا يكون قوله تعالى: «يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ» - يكون هذا هو ما دعى النبي صلوات الله وسلامه عليه إلى الاستماع له.. ومفهوم هذا أن هناك يوما سينادى فيه المنادى من مكان قريب، وأن هذا اليوم هو اليوم الذي يسمع فيه الموتى هذا النداء، وذلك هو يوم الخروج من القبور الذي يكذب به المشركون.. ووصف المكان بأنه قريب- إشارة إلى أن كل إنسان سيسمعه، أيا كان مكانه، حيث يقع النداء فى أذن كل ميت، وكأن هاتفا يهتف به وهو قائم على رأسه..! قوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ» .. هو إشارة إلى ما لله سبحانه وتعالى من سلطان مطلق فى ملكه، وأنه سبحانه يفعل ما يشاء.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 496 وبهذا السلطان يحيى الله سبحانه وتعالى كل حىّ، وبهذا السلطان يميت الله كل حى، وبهذا السلطان يصير كل ما فى الوجود إليه، يقبضه ويبسطه كيف يشاء.. فالبعث الذي ينكره المشركون، هو أمر واقع فى سلطان الله.. فكما ملك- سبحانه- الحياة، يملك الموت، وكما ملك الموت يملك الحياة.. قوله تعالى: «يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ» . هو متعلق بقوله تعالى: «وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ» - أي إلينا مصير الخلق جميعا، يوم تتشقق الأرض عنهم، ويخرجون من قبورهم سراعا إلينا، أي مسرعين إلى حيث الحساب والجزاء.. وقوله تعالى: «ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ» .. أي ذلك الحشر، حشر يسير علينا، لا نتكلف له جهدا.. «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (40: النحل) .. قوله تعالى: «نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ» . هو تهديد ووعيد المشركين المكذبين بيوم الدين.. فالله سبحانه وتعالى يعلم ما يقولون من مفتريات وأباطيل فى النبي، وفى الكتاب الذي يتلوه عليهم، وسيجزيهم بما هم أهل له، من العذاب والنكال! الجزء: 13 ¦ الصفحة: 497 وقوله تعالى: «وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ» - هو بيان لموقف النبي من هؤلاء المعاندين المكابرين، الذين لجّ بهم الضلال، والعناد، ولن يأخذوا طريق الهدى إلا إذا أخذوا قهرا وقسرا، بيد قوية جبارة.. وهذا ليس من وظيفة النبي، ولا من محامل دعوته التي جاءت تحاجّ العقل، وتقوده بالحجة والبرهان.. فذلك هو السبيل الذي تصلح به القلوب الفاسدة، إن كان ثمة سبيل إلى إصلاحها.. وذلك هو الأسلوب الذي يقيم الدين بمقامه المكين من النفوس، إن كانت مهيأة لقبول الخير، صالحة للتجاوب معه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» وقوله سبحانه: «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» وقوله جل شأنه: «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» .. وقوله تعالى: «فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ» - هو بيان لمقام النبي من دعوته، وأسلوبه فى الدعوة إليها: التذكير بالقرآن، وذلك بتلاوته على الناس جميعا. كما يقول له الحق سبحانه وتعالى: «إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ» (91- 92 النمل) .. وفى اختصاص الذين يخافون وعيد الله بتلاوة القرآن عليهم، وتذكيرهم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 498 بما فيه من زواجر، مع أن الرسول مطالب بأن يتلو القرآن على الناس كلهم، وأن يذكّرهم بزواجره- فى هذا إشارة إلى أن الذين من شأنهم أن يخافوا وعيد الله إذا استمعوا إليه، هم الذين ينتفعون بهذا القرآن، وأمّا سواهم الذين لا يسمعون، ولا يعقلون، فهم همل ضال ضائع، لا حساب له فى هذا المقام.. كما يقول سبحانه: «إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ» (18: فاطر) وقوله تعالى: «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها» (45: النازعات) .. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 499 51- سورة الذاريات نزولها: مكية عدد آياتها: ستون.. آية عدد كلماتها: ثلاثمائة وستون.. كلمة. عدد حروفها: ألف ومائتان وسبعة وسبعون حرفا مناسبتها لما قبلها ذكرت سورة «ق» موقف المشركين ومقولاتهم المتكررة للبعث، كما ذكرت مع هذه المقولات من آيات الله ومن دلائل قدرته، ما يكشف عن ضلال هذه المقولات، وانحراف هذا الموقف.. ثم ختمت السورة بتخلية النبىّ بين المشركين المعاندين، وبين ما ركبوا من ضلال.. ثم تجىء سورة «الذاريات» ، لتلقى هؤلاء المشركين المعاندين، بحديث مجدّد عن البعث، والحساب والجزاء، ولكن لا تلقاهم لقاء مواجها لهم وحدهم، بل ضمن حديث عام مطلق، موجّه إلى الناس جميعا.. فإن شاءوا استمعوا إليه، وكان لهم أن ينتفعوا به، وإن شاءوا مضوا على ما هم عليه من إعراض ونفور! وذلك ما سنراه فى مطلع هذه السورة الكريمة. بسم الله الرحمن الرّحيم الآيات (14- 1) [سورة الذاريات (51) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 500 التفسير: قوله تعالى: «وَالذَّارِياتِ ذَرْواً فَالْحامِلاتِ وِقْراً فَالْجارِياتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً» . هذه أربعة أشياء أقسم بها الله سبحانه وتعالى بها، فى نسق واحد.. الذاريات، فالحاملات، فالجاريات، فالمقسّمات.. وقد اختلف فى هذه الأشياء المقسم بها.. أهي شىء واحد تعددت صفاته وآثاره؟ أم هى أشياء متعددة، لكل شىء منها صفته وأثره؟ والرأى الراجح فى هذه الآراء، هو أنها أربعة أشياء.. لكل شىء ذاتيته ووظيفته.. فالذاريات: الرياح، التي تذرو التراب، والدخان، كما تذرو بخار الماء، وتدفعه أمامها، وتعلو به إلى طبقات الجوّ العليا، حتى يتجمع، وبصير سحابا.. والحاملات: هى السحب، المحملة بالماء.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 501 والجاريات: هى السفن التي تجرى فوق الماء.. والمقسّمات: هى الملائكة التي تتقاسم العمل بأمر الله، فى تدبير شئون الناس.. وهذا الرأى يعضّده حديث ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يسند حمل هذا الحديث إلى عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، وقد سأله ابن الكوّاء عن حقيقة هذه المسميات، فأجابه عمر- رضى الله- على نحو هذه الإجابة، وفى كلّ واحدة منها يقول عمر: «ولولا أنى سمعت رسول الله يقولها ما قلتها» .. وعلى هذا تكون هذه الآيات قد تضمنت أربعة أقسام، مرتبة بهذا الترتيب المتعاقب.. أما الكلمات: ذروا، ووقرا، ويسرا، وأمرا، فالرأى الذي نراه- والله أعلم- أنها أحوال متلبسة بهذه الأشياء التي أقسم الله سبحانه وتعالى بها، وأن الله سبحانه وتعالى أقسم بها فى تلك الحال المتلبسة بها.. فهذه الحال هى التي تجعل لهذه الأشياء شأنا وقدرا، ولو أنها تجردت من هذه الحال، أو لبست حالا أخرى، لما كان لها هذا الشرف العظيم، بأن أقسم الله بها، فإن فى قسم الله سبحانه وتعالى بالشيء تكريما له، ورفعا لقدره، وتنويها لمقامه بين الأشياء.. فالذاريات ذروا: هى الرياح فى حال هبوبها، وقدرتها على حمل بخار الماه والصعود به إلى طبقات الجوّ العليا، ولو أنها كانت أنساما رقيقة مريضة، لما أثارت الأمواج، ولما تحرك من صدر البحار بخار، ولو كان هناك بخار لما استطاعت حمله، والارتفاع به إلى حيث يصير سحابا.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 502 فذروا، مصدر بمعنى اسم الفاعل، والتقدير: والذاريات ذارية، أي حاملة ما يذرى.. وقد تكون الرياح وليس فى كيانها شىء تذروه معها. أما هذه الرياح، فهى حاملة ما تذروه، ولهذا سميت ذاريات. والحاملات وقرا: هى السحب الموقرة، أي الحملة بالماء، المثقلة به، وتوشك أن تلده، كما تلد الحوامل المثقلات حملهن.. والجاريات يسرا: هى السفن، فى حال من اليسر، مواتية لسيرها فى ريح رخاء، لا عاصفة، ولا هامدة.. والمقسّمات أمرا، هى الملائكة فى حال حملها لما تؤمر به. وننظر فى هذه الأقسام على هذا الوجه، فنجدها هكذا: فالرياح ذارية، والسحب موقرة، والسفن ميسّرّا لها الجري، فالملائكة مأمورة بما تقسّمه فى الناس من أرزاق وأرزاء.. فالرياح، والسحب، والسفن، والملائكة، هى فى أحوال لها فيها وجود عامل مؤثر فى حياة الناس.. وفى قسم الله سبحانه وتعالى بها وهى متلبسة بأحوالها تلك- دعوة إلى الناس أن يلتفتوا إليها، وأن يروا آثار رحمة الله بهم فيها.. فلو شاء الله لسكنت الريح، فلم تتخلق السحب، ولم تجر السفن، ولما كان للملائكة عمل على هذه الأرض، إذ لا حياة فيها مع فقدان الماء، الذي يقول سبحانه وتعالى فيه: «وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» .. وهذا- والله أعلم- هو السرّ فى هذا الترتيب المتعاقب بين هذه الأشياء.. فكان أولها الرياح، التي تتخلق منها السحب، التي هى المصدر الوحيد للماء العذب الذي تفيض به الأنهار وتتفجر منه العيون، ثم هى التي تجرى بها السّفن محملة بالناس والمتاع.. ثم هى التي جعلت الملائكة عملا فى حياة الناس، بعد أن كان للناس حياة فى الأرض، بالماء الذي انزل من السحب، والذي تخلّق بفعل الرياح.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 503 قوله تعالى: «إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ» . هو المقسم عليه بهذه الأقسام الأربعة، وهو ما يسمّى بجواب القسم.. والآيتان إخبار من الله سبحانه وتعالى بأن ما يوعد به الناس من البعث من قبورهم بعد الموت، هو وعد صادق، لا شك فيه، وأن «الدِّينَ» وهو الدينونة والجزاء، واقع لا محالة.. وفى الإخبار عن الموعود به بأنه صادق، دون القول بأنه «صدق» إذ الصدق وصف للخبر، والصادق، وصف المخبر به- فى هذا إشارة إلى أن هذا الوعد ذاتىّ، وأنه هو ذاته الصادق الذي ينطق بالصدق.. وليست أخبار الله سبحانه وتعالى- وهى الحق المطلق- بالتي تحتاج إلى توكيد تحققها بقسم أو غيره، ولكنّ أهل الضلال والعناد، يشكوّن فى نسبة هذه الأخبار إلى الله، كما أنهم لا يرتفعون بقدر الله وجلاله كثيرا عن المستوي البشرى.. ففى تأكيد الخبر لهم بالقسم، دلالة على تكذيبهم لرسول الله، ثم سوء ظنهم بالله.. قوله تعالى: «وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ» . الحبك: جمع حبيكة، والحبيكة: ما يكون فى طرف الرداء من طرز ونقوش.. والسماء ذات الحبك: أي السماء المطرزة المزينة بالكواكب والنجوم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 504 ويؤفك: أي يصرف، وهو من الإفك، وهو افتراء الكذب الذي يصرف به صاحبه عن الحق، وما وراء الحق من خير وقوله تعالى: «وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ» - قسم، والمقسم عليه هو قوله تعالى: «إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ» والخطاب للناس جميعا، والقول المختلف، هو اختلاف مقولات الناس فى أمر البعث، والجزاء.. فهم بين مؤمنين مصدقين بما وعدوا به، وبين مكذّبين بهذا الوعد، منكرين له.. وقوله تعالى: «يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ» أي يصرف عن وجه الحق فى أمر البعث والجزاء، «مَنْ أُفِكَ» أي من صرف عن الحقّ بطبعه، وما غلب عليه من شقوة، فهو وإن كان قد أعرض عن الإيمان بالله، والتصديق بالبعث والجزاء- فإن ذلك حكم سابق فيه، وقضاء قضى عليه به، لأن الله سبحانه قد علم ما يكون من قبل أن يكون.. وقد علم سبحانه أنه ذو طبيعة لا تقبل الحق، ولا تستجيب لداعيه، فصرفه الله عن الحق، كما يقول سبحانه: «ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ» (127: التوبة) وقوله تعالى: «قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ» .. الخراصون: جمع خرّاص، وهو الذي يخرص الأشياء وبقدرها بحدسه وظنّه، دون أن يستند فى ذلك إلى علم محقق، كما يفعل الذي يخرص ما على النخل من تمر، وما يعطى الزرع من حبّ.. فالخراصون، هم الكذابون، الذي يقولون بغير علم.. وقوله تعالى: «قُتِلَ» - هو دعاء عليهم، ورمى لهم باللعنة والطرد من رحمة الله.. وقوله تعالى: «الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ» صفة، أو بدل من الجزء: 13 ¦ الصفحة: 505 «الْخَرَّاصُونَ» .. والغمرة: الشدّة التي تغمر الإنسان وتغطى على مشاعره، وتستولى على تفكيره، وهى من الجهل الذي يغمر صاحبه، ويغطى على عقله، وسمعه، وبصره.. والساهون: الغافلون.. فاللعنة واقعة هنا على الذين يلقون بالسوء من القول، ويرجمون الناس بالتهم جزافا، من غير تعقل أو تدبّر، شأنهم فى هذاه شأن من غلب السكر على عقلة، فجعل يهذى من غير وعى. فهؤلاء الخراصون هم فى سكرة من الجهل والغباء، إلى ما فيهم من عناد واستكبار.. قوله تعالى: «يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ» . أي أن من ضلال هؤلاء الخراصين، ومن مقولاتهم الضالة الكاذبة، هذا السؤال الذي يسألونه عن يوم القيامة، سؤال المنكر له، المستبعد لوقوعه، المكذب به.. فيقولون: متى يوم الدين؟ كما ذكر ذلك القرآن الكريم فى قوله تعالى عن إنكار المنكرين للبعث: «مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (25: الملك) .. وقد عبر بالاستفهام عن الزمان بأداة المكان «أبان» للإشارة إلى أنهم ينكرون وقوع هذا الأمر، زمانا ومكانا، فلا يقع فى مكان، أو فى زمان.. وهذه مبالغة منهم فى الإنكار والجحود.. وكأنهم يقولون أين هذا اليوم؟ إنه لا وجود له! .. وقوله تعالى: «يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ» .. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 506 هو جواب لهذا السؤال الإنكارى الذي سألوه بقولهم: «أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ؟» .. فكان الجواب: سيعرفونه «يوم هم على النار يفتنون» أي يحرقون فيها ويقلّبون على جمرها.. وأصل الفتن، عرض الذهب وغيره على النار، ليظهر ما فيه من خبث.. وقد عدل عن الخطاب إلى الغيبة، إبعادا للمشركين عن مقام الحضور، وطردا لهم من مقام أهلية الاستماع إليهم، والرّد عليهم.. قوله تعالى: «ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ.. هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ» .. هو مواجهة لهم بالعذاب، ولقاء لهم بما يسوءهم.. أي يقال فى هذا اليوم: «ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ» أي عذابكم الذي أعدّ لكم، وهو العذاب الذي يجزى به الذين فتنهم الشيطان، وأغواهم فكفروا بالله، وضلوا عن سواء السبيل.. فالفتنة هنا تجمع بين معنيين، بين الفتنة، أي الضلال الذي كانوا فيه، وبين الفتنة، التي هى النار التي تذيب المعادن، وتصهرها.. فهم فتنة فى أنفسهم، ثم تلقاهم يوم القيامة فتنة، هى العذاب الذي يصهر به ما فى بطونهم والجلود.. الآيات: (15- 32) [سورة الذاريات (51) : الآيات 15 الى 23] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 507 التفسير: قوله تعالى: «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ» .. هو بيان للجزاء الذي يجزى به الفريق الآخر، الذي يقابل فريق الخرّاصين المكذبين.. فقد جاء قوله تعالى: «وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ» مبينا موقف الناس من الإيمان بالبعث والجزاء، وأنهم فريقان مختلفان، مؤمنون وكافرون، مصدقون ومكذبون.. وقد جاء التعقيب على هذا، بما يلقى الكافرون المكذبون، من عذاب ونكال، فأخذوا دون إمهال إلى جهنم.. ثم جاء بعد ذلك المؤمنون، المصدّقون بالبعث والجزاء، ففتّحت لهم أبواب الجنة، وسيق إليهم فيها ما تشتهى أنفسهم من نعيمها.. وقوله تعالى: «آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ» .. أي يتقبلون من ربهم ما يساق إليهم من ألطاف، وما يقدم إليهم من ألوان النعيم، مما لم يكن يخطر لهم على بال، أو يقع لهم فى أحلام.. وفى مدّ الله سبحانه وتعالى لهم يده الكريمة بهذا الإحسان، وفى تناولهم هذا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 508 الإحسان من ربهم- فى هذا ما فيه من تكريم لا يناله إلّا المقربون، الذين رضى الله عنهم، جعلنا الله سبحانه وتعالى منهم، إنه ذو الفضل العظيم.. وقوله تعالى: «إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ» هو بيان للأسباب والوسائل، التي توسل بها هؤلاء المكرمون من عباد الله، إلى هذا النعيم العظيم الذي هم فيه، وذلك أنهم كانوا قبل ذلك اليوم، أي يوم القيامة، وهو الدنيا- كانوا محسنين، فلقيهم الله بإحسان مضاعف، كما يقول سبحانه: «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ» (60: الرحمن) . قوله تعالى: «كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ» .. هو بيان مفسّر لإحسان هؤلاء المحسنين.. فقد كان من إحسانهم أنهم يذكرون ربهم، لا يكادون يغفلون عن ذكره، ولا يعطون أنفسهم حظها من النوم.. فإذا نام الغافلون، قطعوا هم ليلهم ترتيلا، وتسبيحا، وصلاة، وذكرا.. والهجوع، هو النوم القليل، وهو ما يسمى بالغرار، كما يقول: ما أذوق الليل إلا غرارا ... مثل حسو الطير ماء السّمال «1» «وما» فى قوله تعالى: «ما يَهْجَعُونَ» .. إما مصدرية، أي كانوا على حال قليل فيها من الليل هجوعهم. وإما موصولة، والمعنى: كانوا على حال قلّ فيها الزمن الذي يهجعون فيه من الليل.   (1) مال السمال: الماء فى الأرض السبخة، فهو ماء مشوب بالملح . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 509 قوله تعالى: «وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» الأسحار، جمع سحر، وهو آخر الليل.. استغفارهم فى آخر الليل، الذي قطعوه تسبيحا وذكرا، وترتيلا وصلاة- إشارة إلى أنهم يرون أن ما قاموا به من تسبيح وذكر، وصلاة، وترتيل- لم يستوف ما لله من حق عليهم، فى عبادته وتسبيحه، فهم لهذا يستغفرون ربهم، ليتجاوز عن تقصيرهم فى حقه.. قوله تعالى: «وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» أي ومن أعمال هؤلاء المؤمنين المصدقين بالله ورسوله، واليوم الآخر- أنهم يشاركون الناس فيما فى أيديهم من مال، ويرون أن فى هذا المال الذي أعطاهم الله، حقّا لكل محتاج، من سائل، يطلب، أو محروم يتعفف عن السؤال.. قوله تعالى: «وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ» مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنها تنعى على هؤلاء الضالين المكذبين، كفرهم وضلالهم الذي فوّت عليهم هذا النعيم الذي أعده الله للمؤمنين، وأنهم إذا كانوا قد استكبروا على أن ينقادوا لرسول الله، وأن يستجيبوا لما يدعوهم إليه من هدى- أفلا كانت لهم عيون تنظر فى هذا الوجود، وتطالع ما فيه من آيات تشهد بما لله سبحانه وتعالى من قدرة وسلطان، وعلم وحكمة؟ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 510 إنه كما فى يد الرسول آيات ناطقة بالحق، داعية إليه- كذلك هناك آيات أخرى فى الأرض، وفى السماء، وفى كل ما خلق الله، تشهد بأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه الباطل.. ولكنهم لشقوتهم قد أصمّوا آذانهم عن سماع كلمات الله، وأغمضوا أعينهم عن النظر فى كتاب الوجود، فكفروا، وضلّوا.. فكان مأواهم جهنم وساءت مصيرا. وفى قوله تعالى «لِلْمُوقِنِينَ» - إشارة إلى أنه لا ينتفع بتلك الآيات الكونية، ولا يقع على مواقع الهدى منها، إلا أهل اليقين، الذين يطلبون العلم والمعرفة، بالبحث الجادّ، والنظر المتفحص، فإذا وقع لهم من ذلك علم، كان علمهم عن برهان وحجة، فيقع منهم ذلك العلم موقع التثبت واليقين.. فهم- والحال كذلك- لا يتّبعون الأهواء، ولا يتابعون أهل الضلال.. قوله تعالى: «وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ» أي إذا كنتم أيها المكذبون الضالون، قد كلّت أبصاركم عن أن تنظر فى صفحة هذا الوجود، وأن تمتد إلى أبعد من مواطىء أقدامكم، فإن ذلك لا يحول بينكم وبين الوصول إلى الدليل على قدرة الله وسلطانه القائم على الوجود، وإنه ليكفى أن تنظروا فى ذات أنفسكم، فإن فى أنفسكم عالما رحيبا، وكونا فسيحا.. وإنه ليكفى أن يقيم أحدكم بصره على مسيرته فى الحياة، من وجوده نطفة إلى أن صار رجلا.. إنكم ستجدون فى هذا سجلّا حافلا بالآيات الدالة على قدرة الخالق، وعلى حكمته، وعلى بديع صنعه، وحكمة تدبيره.. والاستفهام هنا توبيخ وتعنيف، لهؤلاء الذي عموا عن مشاهد القدرة الإلهية، وآثارها الناطقة فى كل ما خلق الخالق جلّ وعلا.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 511 قوله تعالى: «وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ» أي، وانظروا فى السماء، فهى أوضح صورة، وأجلى بيانا مما فى الأرض أو فى أنفسكم.. إن فيها أسباب رزقكم، وملاك حياتكم، بما ينزل منها ماء، وما يجرى فيها من شمس، وقمر، وكواكب، ونجوم.. بل إن فيها عرش الله، وفيها ملائكته، وفيها مقدّرات الأمور.. فكل ما يجرى على الناس وغيرهم من شئون، هو منزّل من علوّ. كما يقول سبحانه، «وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً» (13: غافر) وكما يقول جل شأنه: «يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ» (2: النحل) .. والتنزيل لا يكون إلا من جهة عالية.. فالسماء هنا، إشارة إلى جلال الله، وعظمته، وعلوّ مقامه، وقيومته على هذا الوجود.. قوله تعالى: «فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ.. إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ» بعد أن أقسم الله سبحانه وتعالى ببعض مخلوقاته، توّج هذه الأقسام جميعها بالقسم بذاته العلية جلّ شأنه، واصفا ذاته الكريمة، بأنه رب السموات والأرض ومدبّر أمرهما.. والمقسم عليه هنا، كلّ ما وقعت عليه الأقسام السابقة، من صدق ما يوعد الناس به من بعث ودينونة، وحساب وجزاء، وما جاء من أخبار عن نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار، ثم ما أخبر به جل شأنه، من أنه المالك للأرزاق، والمقدّر لها، كما أنه مالك يوم الدين، وما يلقى الناس فى هذا اليوم.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 512 فهذا كله حقّ لا امتراء فيه، وهو واقع كما أخبر به الحقّ جلّ وعلا، على سبيل القطع واليقين.. وقوله تعالى «مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ» صفة لمصدر محذوف يقع مفعولا مطلقا لصفة محذوفة أيضا لخبر إن، والمقام دالّ على هذين المحذوفين والتقدير: فو رب السماء والأرض إن ذلك كله لحق واقع وقوعا مماثلا لوجودكم الذي أنتم عليه، والذي لا يمكن أن تنكروه.. وهل ينكر الإنسان وجوده، وهو حى ناطق؟ واختيار النطق صفة دالة على وجود الإنسان، لأن المنطق هو الصفة المميزة للإنسان عن عالم الحيوان، ولأن النطق كذلك يدلّ على أن وراءه إنسانا ذا حس وإدراك، وأنه إذا غابت عنه المحسات والمدركات، فلن يغيب عنه الإحساس بوجوده، وإدراك أنه موجود.. أخرج ابن جرير، وابن أبى حاتم عن الحسن أنه قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قاتل الله قوما أقسم لهم ربهم ثم لم يصدّقوا» وروى عن الأصمعى أنه قال: أقبلت من جامع البصرة، فطلع أعرابى على قعود، فقال: ممن الرجل؟ قلت: من بنى أصمع، قال: من أين أقبلت، قلت من موضع يتلى فيه كلام الرحمن قال: اتل علىّ، فتلوت «والذاريات» فلما بلغت «وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ» قال: حسبك.. فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسر هما، وولىّ.. يقول الأصمعى: فلما حججت مع الرشيد، طفقت أطوف، فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق، فالتفتّ، فإذا بالأعرابى قد نحل واصفرّ، فسلّم علىّ، واستقرأنى السورة، فلما بلغت الآية: «وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ» الجزء: 13 ¦ الصفحة: 513 صاح، وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقّا.. ثم قال: وهل غير هذا؟ فقرأت: «فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ» فصاح وقال: يا سبحان الله، من ذا أغضب الجليل حتى حلف؟ لم يصدّقوه يقوله حتى ألجئوه إلى اليمين؟ قالها ثلاثا، وخرجت معها نفسه!!» الآيات (30- 24) [سورة الذاريات (51) : الآيات 24 الى 30] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) التفسير: قوله تعالى: «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ» .. مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة كانت عرضا لعناد المشركين وضلالهم البعيد، المغرق فى السفه والضلال، حتى مع هذه الأقسام التي أقسم الله بها سبحانه وتعالى، فى سوق الأخبار إليهم.. فكانت الآية وما بعدها من آيات، نذيرا من النذر التي تحمل إلى هؤلاء المشركين المعاندين تهديدا بأن يلقوا مصيرا كمصير المعاندين الضالين، وهم قوم لوط.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 514 وفى قوله تعالى: «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ» - انتقال بالنبيّ من هذا الجو الخالق الذي يعيش فيه مع قومه، وما يفوح منهم من ريح خبيثة، محملة بإفرازات كفرهم وضلالهم.. ففى الاستفهام دعوة للنبىّ الكريم من ربه، إلى أن يخرج من هذا الجوّ الفاسد، وأن يملأ صدره بشذا هذه الريح الطيبة التي تهب عليه من ذكرى نبىّ كريم، هو إبراهيم عليه السلام، وما كان له عند الله من فضل وإحسان.. وفى مجىء هذا الحديث منقطعا عما قبله، غير معطوف عليه- عزل تام له عن الحديث السابق، حتى لا يدخل عليه شىء منه، وحتى لا يطلّ عليه وجه من تلك الوجوه المنكرة، التي كان يراها النبي الكريم من قومه.. والضيف، بمعنى الضيوف، فهو يطلق على الفرد والجمع.. ومثل هذا قوله تعالى على لسان لوط مخاطبا قومه: «إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ» (68: الحجر) فهو يشير إليه إشارة الجمع «هؤلاء» كما وصفوا هنا بصفة الجمع «المكرمين» قوله تعالى: «إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً.. قالَ سَلامٌ.. قَوْمٌ مُنْكَرُونَ» . «إذ» ظرف مقيّد لهذا الحديث، أو الخبر، الذي كان من الملائكة مع إبراهيم.. فالمراد بالخبر الذي يورده الله سبحانه وتعالى على النبي فيما كان بين الملائكة وبين إبراهيم- هو هذا الخبر الذي كان فى هذا الوقت الذي دخلوا عليه فيه.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 515 وقوله تعالى: «فَقالُوا سَلاماً» - أي قالوا لإبراهيم هذه الكلمة، يجيبونه بها، ويبعثون إليه منها أمنا وسلاما، ويؤذنونه بأنهم لا يريدون به سوءا، بعد أن وقع فى نفسه ما وقع، من دخولهم عليه هذا الدخول المفاجئ- من مشاعر الريبة، والخوف، وتوقع الأذى! كما يشير إلى ذلك ما جاء فى قوله تعالى على لسان إبراهيم فى آية أخرى: «إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ» (52: الحجر) .. وقوله تعالى: «قالَ سَلامٌ» - هو رد إبراهيم على ضيفه، وهو رد مقتضب موجز، فى مقابل تحيتهم الموجزة الخاطفة.. وهو بدل على ما وقع فى نفس إبراهيم من توجس وريبة منهم.. وقوله تعالى: «قَوْمٌ مُنْكَرُونَ» .. هى كلمة قالها إبراهيم بينه وبين نفسه، ترجمة لتوجّسه وخوفه منهم.. فإنه ما كان لنبى الله، وقد وصفه الله سبحانه وتعالى بالحلم، أن يجبه ضيفه بهذا القول، ويرمى به فى وجوههم، ثم يلقاهم بهذا الإكرام والحفاوة، بما يقدم لهم من طعام طيب كريم.. قوله تعالى: «فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ» .. راغ لأهله: أي مال إلى أهله، وانسرب إليهم فى خفة من غير أن يكاشف ضيفه بما يريد من إكرامهم وإعداد الطعام لهم.. فذلك من شأنه أن يحرج الضيف، ويحمله على أن يطلب إلى مضيفه ألّا يفعل.. قوله تعالى: «فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ» ؟ - هنا إيجاز حذف دلّ عليه المقام.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 516 أي فقرّبه إليهم، فلم يمدّوا أيديهم إليه، ولم يقبلوا على الأكل منه، كما هو شأن الضيف حين يقدّم إليه.. الطعام فلما رأى ذلك منهم نكرهم، وأوجس منهم خيفة، وقال: «أَلا تَأْكُلُونَ؟» .. قوله تعالى: «فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ» .. وهنا كلام محذوف أيضا.. «قال ألا تأكلون» .. فلم يأكلوا، ولم يستجيبوا لهذه الدعوة المجددة إليهم «فأوجس منهم خيفة» أي فازداد إحساسه بالخوف منهم، وقوى عنده الشعور الذي وقع فى نفسه من أول دخولهم عليه، ولقائهم له.. «قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم» - أي أنهم حين رأوا ما انطبع على وجه إبراهيم من أمارات التوجس والخوف، سكنوا من روعه، وقالوا له: لا تخف، ثم ألقوا إليه بهذه البشرى المسعدة، وهى أن يولد له الولد الذي كان ينتظره منذ شبابه الأول، وها هو ذا وقد بلغ من الكبر عتيّا، وأخلى يديه من هذا الأمل الذي كان يراوده، وخاصة أن امرأته كانت عقيما، ثم اجتمع مع هذا العقم تجاوزها العمر الذي تلد فيه النساء- ها هو ذا يتلقّى هذه البشرى المسعدة. والغلام الذي بشر به هو إسحق، من زوجه سارة.. «والعليم» ، مبالغة من العلم، والعلم كان صفة بارزة من صفات إسحق، كما كان الحلم الصفة البارزة فى إسماعيل، كما يقول سبحانه: «فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ» (101: الصافات) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 517 قوله تعالى: «فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ» . الصّرّة: الصيحة، من دهش، أو فزع.. وصكّ الوجه: لطمه تلقائيّا، عند ورود أمر عجيب، غير متوقع.. والمعنى، أن امرأة إبراهيم، حين سمعت بهذا الخبر من ضيقه، وبأنهم يحملون إليه البشرى بولد- أخذتها حال من الدّهش والعجب، فأقبلت إليهم، فى ولولة وصياح وانزعاج، وقد ضربت بيديها على وجهها، ثم قالت: «عجوز عقيم» !! فكيف يكون هذا؟ وكيف تلد العجوز؟ ثم كيف تلد من اجتمع مع شيخوختها العقم؟ إنه هذا لشىء عجيب!!. قوله تعالى: «قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ» .. أي أن هذا الذي نقوله ليس من عندنا، وإنما هو ما قاله الحق جلّ وعلا.. وهو «الحكيم» الذي يدبر الأمور بحكمته، فيقع الأمر حيث أراد، ومتى أراد.. كما أراد. وهو «العليم» ، الذي يضبط الأمور بعلمه، وبزنها ويقدّرها بحكمته.. وهذا الموقف الذي كان بين إبراهيم، وضيفه، وامرأته، لم تذكر الآيات الكريمة هنا منه، إلّا الأحداث البارزة فيه، وقد ذكر هذا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 518 الموقف فى مواضع أخرى من القرآن الكريم، وكل موضع منها يمسك بالموقف كله، كاشفا عن جانب من جوانبه، مسلّطا الضوء على مقطع من مقاطعه.. فإذا نظر الناظر إلى أي موضع جاء فيه ذكر هذا الموقف فى القرآن الكريم، وجد بين يديه حدثا كاملا، فإذا ضمّت هذه المواضع بعضها إلى بعض- رأى صورة مكبرة للحدث، تزداد به الصورة وضوحا.. تماما كما تفعل «المصوّرة» فى نقل صور للشىء الواحد من أكثر من جانب، وفى أكثر من وضع.. والشيء هو الشيء، فى أية صورة من تلك الصور.. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 519 فهرس الموضوعات الموضوع الصفحة قل لا أسألكم عليه أجرا.. ما تأويله؟ 44 الشورى فى الإسلام.. منهجا وتطبيقا 67 مفهوم جديد للحروف فى أوائل السور 89 بيعة العقبة.. وليلة الجن. 290 الحرب والسلام.. فى الإسلام. 311 النبىّ.. وما ذنبه الذي يستغفر له؟ 341 الجهاد.. والحرب النفسية. 378 ثم الجزءان: الخامس والعشرون والسادس والعشرون، ويليهما الجزءان: السابع والعشرون والثامن والعشرون.. إن شاء الله، والله الموفق والمعين؟ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 520 [الجزء الرابع عشر] تتمة سورة الذاريات (الآيات: (31- 37) [سورة الذاريات (51) : الآيات 31 الى 37] قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37) التفسير: قوله تعالى: «قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ» ... الخطب: الشأن العظيم، والأمر الخطير ذو البال.. ولقد ذهب عن إبراهيم الرّوع من ضيفه هؤلاء، بعد أن عرف أنهم من ملائكة الرحمن، وسكنت امرأته بعد هذا الهياج الذي استولى عليها من أن يكون لإبراهيم ولد منها بعد هذه الشيخوخة والعقم! .. وهنا يتجه إبراهيم إلى ضيفه من الملائكة يسألهم عما جاء بهم إليه.. إنهم لم يجيئوا على تلك الصورة الغريبة، التي أوقعت الرّعب فى قلبه ليبشروه بغلام.. فإن الذي يحمل البشرى إنما يقدّم بين يديه دلائل هذه البشرى وأماراتها، بل إن ريح البشرى نفسها لتسبق الحامل لها، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 521 فيجد لها المحمولة إليه، وقعا طيبا فى نفسه، وشعورا مسعدا فى كيانه، قبل أن تبلغه.. تماما كما وجد يعقوب من ريح يوسف، قبل أن يأتيه البشير بقميصه.. ومن هنا كان سؤال إبراهيم الملائكة عما وراءهم، من أمر خطير، وماذا يحملون من شئون تتصل به من قريب أو بعيد؟. وفى نداء إبراهيم لهم باسم المرسلين، لا باسم الملائكة، إشارة إلى أنهم ليسوا مجرد ملائكة عابرين به، بل إنهم محمّلون برسالة من رب العالمين.. فهو يسألهم عن محتوى ما أرسلوا به إليه.. قوله تعالى: «قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ» .. أي أننا لم نرسل إليك بما توقّعته من شرّ، وإنما أرسلنا إلى قوم مجرمين.. والقوم المجرمون، هم قوم لوط، كما يفهم ذلك من مواضع أخرى فى القرآن الكريم. «لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ» .. هو بيان السبب الذي من أجله أرسل هؤلاء الرسل إلى القوم المجرمين، قوم لوط.. إنهم أرسلوا إليهم ليرسلوا عليهم حجارة من طين، وكأنّ هذه الحجارة هى الرسل التي تنزل عليهم من السماء بالدمار والهلاك، فى حين أن هناك رسلا أخرى تنزل على المكرمين من عباد الله بالرحمة والإحسان.. وفى وصف الحجارة بأنها من طين- إشارة إلى أن هذا الطين اللّين الرخو، يفعل بقدرة الله فعل الحجارة الصلدة، فيهلك، ويدمّر، وكأنه الصواعق المنقضّة من السماء.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 522 وقوله تعالى: «مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ» : أي مقدّرة، ومهيأة عند الله ومرصودة لهؤلاء القوم «المسرفين» الذين جاوزوا الحدّ فى الضلال، وفى ارتكاب هذا المنكر الذي كانوا يعيشون فيه، ففى كل حجر سمته التي وسم بها، والتي تحدّد له موقعه من القوم، وصرعاه الذين يقع عليهم.. «فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» .. لم تذكر الآيات هنا ما كان من إبراهيم من مراجعة الملائكة فى هذا الأمر الذي جاءوا به، ومن تخوفه على لوط أن يناله سوء مما يحل بهؤلاء القوم الذين سترسل السماء عليهم هذه الحجارة المهلكة، ولوط بينهم- لم تذكر الآيات هذا، لأنه قد ذكر فى مواضع أخرى، كما فى قوله تعالى على لسان إبراهيم: «قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً» وقد أجابه الملائكة بقولهم: «نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها.. لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ» (33: العنكبوت) . وهذا القول هو من الله سبحانه وتعالى، وهو إخبار بما انتهى إليه أمر هؤلاء القوم المسرفين، وما كان من نجاة لوط ومن آمن معه.. والضمير «فيها» للقرية، قرية لوط وقومه.. ولم تذكر هنا، لأنها معروفة بما ذكر عنها فى مواضع أخرى من القرآن الكريم، ثم لأنها معروفة ضمنا فى هذا الحديث، إذ من المعروف أن القوم يسكنون فى قرية أو قرى! .. «فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» .. أي لم يكن فى هذه القرية إلا بيت واحد استحق السلامة والنجاة من هذا البلاء الذي أتى على القرية وأهلها.. وهو بيت لوط ومن آمن من أهله. «وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ» .. أي أن هذه القرية قد ذهبت بمن فيها، وبقي من هذه القرية آثار واضحة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 523 من الدّمار والهلاك الذي حلّى بها وبساكنيها.. يراه من كان يمر عليها بعد هذا العذاب الذي نزل بها، ثم بقي لها بعد ذلك ذكر سيّىء فى صحف التاريخ، وفى الكتب السماوية التي نزلت على رسل الله بعد هذا.. وفى هذا وذاك آية، الذين يؤمنون بالله، ويخافون العذاب الأليم يوم القيامة، فيرون فى تلك الآية سلطان الله وقدرته، وأخذه الأليم الشديد لمن يخرجون عن صراطه المستقيم.. الآيات: (38- 46) [سورة الذاريات (51) : الآيات 38 الى 46] وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46) التفسير: قوله تعالى: «وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ» . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 524 هو معطوف على قوله تعالى: «وَتَرَكْنا فِيها آيَةً» - أي وتركنا كذلك آية فيما كان بين موسى وفرعون.. والسلطان المبين الذي أرسل به موسى إلى فرعون، هو ما كان معه من آيات معجزة متحدية، كالعصا، واليد.. وقوله تعالى: «فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ» أي أعرض عن النظر فى هذه الآيات، معتزا بركنه، أي قوته وسلطانه.. والركن: ما يركن إليه الإنسان فى الملمات، ويحمى ظهره به، كما يقول تعالى على لسان لوط، مخاطبا قومه: «لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ» (80: هود) .. والجارّ والمجرور حال من الفاعل المستتر وهو «فرعون» .. وقوله تعالى: «وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ» - حال أخرى من فرعون ساعة توليه وإعراضه عن دعوة الحق، التي يدعوه إليها موسى، أي تولى معتزّا بركنه وقوته، قائلا هذا القول الآثم فى موسى: «ساحر أو مجنون» .. وساحر خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هو، أي موسى.. ولم يذكر موسى ظاهرا أو مضمرا، حماية له من أن يقال هذا القول المنكر فيه.. وقوله: «ساحر أو مجنون» - إشارة إلى أن هذا القول لم يكن من فرعون عن علم، وإنما هو رمية من رميات طائشة، يرمى بها من غير حساب أو تقدير.. فهو متردد فى الحكم الذي يحكم به على موسى.. ولكن لا بد من أن يصدر حكما، وبقول قولا.. وهذا شأن أهل الضلال، حين يقهرهم الحق، وتسقط من بين أيديهم الحجة على دفعه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى هذه السورة عن المشركين الذين قالوا مثل هذا القول فى رسول الله محمد صلوات الله وسلامه عليه: «كَذلِكَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 525 ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ» (الآيتان: 52- 53) .. َأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ» .. المراد بالأخذ هنا، الأخذ الذي يرد بصاحبه موارد الهلاك، وأخذ الله سبحانه لا يكون إلا حيث تقع نقمه، وينزل بلاؤه.. مثل قوله تعالى لفرعون: «فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى» (25: النازعات) .. وقوله تعالى: َنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ» أي ألقيناهم فى اليم، أي البحر، ونبذ الشيء، طرحه وإلقاؤه دون مبالاة.. وقوله تعالى: َ هُوَ مُلِيمٌ» جملة حالية، تصف الحال التي كان عليها فرعون، حين نبذ هو وجنوده فى اليم.. والمليم. المستحق للّوم، وفعله: ألام: أي أوقع نفسه فيما يلام عليه.. وفى عود الضمير على فرعون وحده فى قوله تعالى: َ هُوَ مُلِيمٌ» - إشارة إلى أنه هو وحده الذي يحمل وزره ووزر قومه، إذ كان هو داعيتهم إلى هذا الضلال.. أما قومه فإن كلا منهم يحمل وزر نفسه، لمتابعته الداعية الذي دعاه إلى هذا الضلال.. «وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ» .. معطوف على قوله تعالى: «وَفِي مُوسى» - فهو عطف حدث على حدث.. والريح العقيم، هى الريح التي فسدت طبيعتها، فلا تلد خيرا أبدا، بل تلد الهلاك والدمار لمن تشتمل عليه، وتلفّه فى كيانها، والأصل فى الريح أنها الجزء: 14 ¦ الصفحة: 526 تجىء محمّلة بالخير، بل والحياة للأحياء كلها، إذ منها يتنفّس كل حى أنفاس الحياة.. ولكن هذه النعمة قد صارت نقمة على القوم الضالين.. وقوله تعالى: «ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ» - هو بيان لما تترك هذه الريح العقيم من آثار ومخلّفات وراءها.. إنها لا تترك شيئا تمرّ عليه إلّا دمّرته، وحطمته، وأتت على كل صالحة فيه، فيتحول إلى كيان بال متفتت. والرميم: العظام البالية، والرّمة: الحبل البالي، والرّمّ: إصلاح الشيء البالي.. قوله تعالى: «وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ» .. هو معطوف كذلك على قوله تعالى: «وَفِي عادٍ» - عطف حدث على حدث، وقصّة على قصة.. أي وفى ثمود آية.. بما أخذهم الله به من نكال وعذاب.. فلقد كان القوم فى نعمة ظاهرة، وقوة متمكنة، إذ بوّأهم الله الأرض، وملّكهم القدرة على إثارتها وعمرانها، فاتخذوا القصور فى سهولها، ونحتوا البيوت فى جبالها، كما يقول سبحانه على لسان نبيهم «صالح» إذ يقول لهم: «وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً» (74: الأعراف) .. وفى قوله تعالى: «إذ قيل لهم تمتعوا» - إشارة إلى هذه النّعم التي كان القوم فيها، وأنها تتيح لهم التمتع بحياة طيبة فيها، لو أنهم رعوها حق الجزء: 14 ¦ الصفحة: 527 رعايتها، ولم يلبسوا بها ثوب الغرور والجهالة، ولم يتخذوا منها سلاحا يحاربون به الله، ويحادّون رسوله.. ولم يقل لهم أحد تمتعوا، ولكنه لسان الحال إذ ما سيقت إليهم هذه النعم إلا ليعيشوا فيها، وليتمتعوا بها إلى أن تحين آجالهم.. وقوله تعالى: «حَتَّى حِينٍ» بيان للغاية التي يكون تمتع القوم فيها بهذه النعم، وأنها لا تنقطع عنهم حتى يحين أجلهم المقدور لهم عند الله.. وقوله تعالى: «فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ» العتوّ: التمرد والاستعلاء.. وقوله تعالى: «فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ» - هو تعقيب على عتوّهم، وخروجهم عن أمر الله.. وأن هذا العذاب الذي أخذوا به، إنما هو لعتوّهم، وتمردهم على الله، وكفرهم به.. وقوله تعالى: «فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ» - أي حين نزل بهم العذاب، بهظهم، وكظم أنفاسهم.، ولم يجدوا معه قدرة على أن يقوموا لدفعه، والهروب من وجهه.. وقوله تعالى: «وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ» - أي وما كانوا منتصرين على هذا العذاب لو أنهم قاموا له، وتلقّوه بكل ما معهم من حول وحيلة.. قوله تعالى: «وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» .. هو معطوف على المفعول به فى قوله تعالى: «فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ» .. أي وكذلك أخذ العذاب قوم نوح من قبل هؤلاء الذين أخذهم الله سبحانه بعذابه.. «إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ» أي خارجين عن أمر ربهم، متجاوزين حدوده.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 528 الآيات: (47- 60) [سورة الذاريات (51) : الآيات 47 الى 60] وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) التفسير: قوله تعالى: «وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ» . الأيد: القوة، والتمكن.. والآية معطوفة على الآية السابقة: «وَقَوْمَ نُوحٍ..» أي وقوم نوح أخذناهم بالعذاب، والسّماء بنيناها بأيد.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 529 ومع ما يبدو من بعد المفارقة فى الظاهر بين أخذ قوم نوح، وبين بناء السماء- فإن هذه المفارقة تبدو موافقة، إذا نظرنا إلى قدرة الله سبحانه وتعالى، وقيومته جلّ شأنه، على كل شىء.. فهو سبحانه، يحيى ويميت، ويغنى، ويقنى، ويرفع ويضع، وهو سبحانه الذي أخذ الظالمين بالهلاك، وهو جلّ شأنه الذي أقام السماء بقدرته.. وفى قوله تعالى: «وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ» - إشارة إلى امتداد السماء واتساعها، كما يبدو ذلك لأى ناظر ينظر إليها، حيث لا يبلغ الإنسان لها حدّا، فحيث كان من عالم الأرض، فإن السماء تظلّه على امتداد الآفاق، حوله.. فإذا نظر بعين العلم، أراه العلم أن هذا الوجود فى نماء مستمرّ، وأنه أشبه بالكائن الحىّ فى دور نموّه واكتماله.. وفى حين أن الكائن الحىّ يبلغ حدّا يقف عنده، إلا أن الوجود فى نمو دائم لا يتوقف، ولعل هذا من بعض ما يشير إليه قوله تعالى: «يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ» (1: فاطر) .. قوله تعالى: «وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ» .. معطوف على قوله تعالى: «وَالسَّماءَ بَنَيْناها» .. وقوله تعالى: «فَنِعْمَ الْماهِدُونَ» - هو ثناء من الله سبحانه وتعالى من ذاته على ذاته، كما فى قوله تعالى: «فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» (14: المؤمنون) وقوله سبحانه: «تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» (1: الملك) وقوله جل شأنه: «تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً» (1: الفرقان) .. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 530 وفرش الأرض: بسطها كما يبسط الفراش للنوم، والماهد: الذي يهيىء الشيء ويمهده كما تمهد الأرض للزرع، وكما يمهد الفراش للنوم، ومنه المهد، وهو ما يهيهأ من فراش لنوم الوليد.. والمخصوص بالمدح، دلّ عليه المقام، أي فنعم الماهدون نحن، أي الله سبحانه وتعالى.. قوله تعالى: «وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» .. هو معطوف على ما قبله، أي وفرشنا الأرض، وخلقنا من كل شىء زوجين.. و «من» هنا للاستغراق.. أي وكلّ شىء خلقناه متزاوجا.. أي أن الشيء الواحد ليس فى حقيقته شيئا واحدا، وإنما هو شيئان اجتمع بعضهما إلى بعض، فكان منهما هذا الشيء.. وهذا دليل على أن الخالق وحده، هو الواحد الذي لا شريك له.. فالخليّة التي هى أصل بناء الكائن الحىّ، تنقسم على نفسها، فى عملية أشبه بعملية التوالد، وبهذا الانقسام ينمو الكائن الحىّ.. فالحلية تنقسم إلى خليتين، وكل خلية منهما تنقسم إلى خليتين.. وهكذا، إلى ما لا يحصى من الخلايا التي يضمها كيان الكائن الحىّ من مولده إلى تمام نموه.. فإذا تم نمو الكائن الحىّ لم تتوقف عملية التوالد، وإنما يقابلها من جهة أخرى عملية الهدم، فى نسب تأخذ فى ازدياد ما يهدم على ما يبنى، كلما تقدم الكائن الحىّ نحو طريق الفناء.. فإذا توقفت عملية البناء، مات الكائن الحىّ.. هذا فى الخلية.. وكذلك الشأن فى النواة، إنها تتكون من فلقين يضمان الجزء: 14 ¦ الصفحة: 531 بينهما بذرة الحياة، التي لا تأخذ طريقها إلى الحياة إلا إذا وجدت الظروف الملائمة التي تعمل على فلق النواة إلى شقّيها، وإخراج بذرة الحياة منهما.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى» (95: الأنعام) .. والإنسان خلية كبيرة مكونة من أعداد لا تعدّ بحسابنا- من الخلايا، وكما يتم نموه الشخصىّ بالتوالد الذاتي بين خلاياه، يتم نموه الجنسي بالتزاوج بين الذكر والأنثى، وذلك بين خلية من الذكر وخلية من الأنثى عند التقاء الرجل بالمرأة.. وهكذا الحيوان، والنبات.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً» فإذا تجاوزنا عالم الأشياء التي تتوالد بالزواج، وجدنا هذه المزاوجة قائمة فى عالم المعاني، مثل الحق والباطل، والخير والشر، والإيمان والكفر، والهدى والضلال، والسعادة والشقاء. وهكذا المزاوجة فى كل شىء، حيث لا يوجد شىء إلا وله ما يقابله.. وذلك مما يشهد لله سبحانه وتعالى بالوحدانية والتفرد، فهو الواحد الأحد، الفرد، الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.. قوله تعالى: «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ» .. الفرار إلى الله: الالتجاء إليه، والاحتماء به، والاستظلال بظله.. وفى الدعوة بالفرار إلى الله، إشارة إلى أن هناك خطرا يتهدد الإنسان، إذا هو خرج عن أمر ربه، وحاد عن الصراط المستقيم.. إنه حينئذ يقع تحت الجزء: 14 ¦ الصفحة: 532 يد الشيطان، الذي يفترسه، كما يفترس الذئب ضالّة الغنم.. وقوله تعالى: «إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ» هو بيان من الرسول- صلوات الله وسلامه عليه، يدعو الناس إلى الله، وأن يعجلوا بالفرار إليه، وتلك الدعوة ليست من عنده، وإنما هو رسول الله بها إليهم.. إنه نذير مبين من الله إليهم، يبيّن لهم بما معه من كلمات ربه، طريق الهدى، وينذرهم من عذاب الله إذا هم خرجوا عن هذا الطريق، وركبوا طريق الضلال.. قوله تعالى: «وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ» .. ومن مقتضى الفرار إلى الله، الإيمان به، والإقرار بوحدانيته، واطراح كل معبود سواه.. وجاء النهى هنا عن الشرك بالله، وعن اتخاذ إله آخر معه، تأكيدا لما تضمنه الأمر بالإيمان بالله الذي هو حبل النجاة، فإذا أمسك به الإنسان كان فى الناجين، على أي وجه كان عمله بعد ذلك.. وفى قوله تعالى: «إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ» - تأكيد لهذه الدعوة التي يدعو الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- الناس إليها، وهى الإيمان بالله وحده.. وفى إعادة فاصلة الآية: «إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ» - إعجاز من إعجاز القرآن، حيث يجعل من الآيتين- الآمرة والناهية آية واحدة، الأمر الذي يدعو إلى الجمع بينهما، والأخذ بهما جميعا، وأن الأخذ بواحدة منهما لا يغنى عن الأخذ بالأخرى.. وكأن نظم الآيتين هكذا.. «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ.. إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ» الجزء: 14 ¦ الصفحة: 533 ولكن شتان بين هذا النظم، وبين ما جاء عليه النظم القرآنى المعجز.. ففى النظم القرآنى، يقوم على الأمر نذير مبين، وعلى رأس النهى يقوم هذا النذير المبين أيضا.. إن هذه دعوته، وتلك دعوته وهو بهذا يأمر، وبذلك ينهى.. فإذا أخذ المأمور بما أمر به، وانتهى المنهىّ بما نهى عنه- كانت نجاته، وكانت سلامته، وكان فوزه.. أما إذا أخذ بواحدة دون الأخرى، فهيهات أن يسلم ويبلغ مأمنه.. فقد يفر المرء إلى الله، ومعه إله أو آلهة أخرى يحملها فى كيانه، ويحتفظ لها بمكانها من قلبه.. وقد لا يجعل الإنسان مع الله إلها آخر، ولكن قد يكون ذلك كمجرد فكرة حبيسة فى عقله، أو نظرية فلسفية تقيم بناء منطقه الفلسفي.. ثم لا يكون لهذه الفكرة أو تلك النظرية منطلق نزوعىّ أو سلوكى، يرد به موارد الهدى، ويسلك به مسالك الخير.. والفرار إلى الله يجعل من الإيمان به حركة دائبة إلى العمل الطيب القائم فى ظلّ هذا الإيمان.. واستصحاب الإيمان بالله، إيمانا خالصا من الشرك فى حال الفرار إليه، يجعل هذا الفرار محمود العاقبة، بالغا بصاحبه مأمنه.. قوله تعالى: «كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ» .. هو بيان لحال هؤلاء المشركين الذين يجعلون مع الله إلها آخر، إنهم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 534 لا يستجيبون لهذا النذير المبين، الذي يدعوهم إلى الإيمان الخالص من الشرك بالله، وينذرهم عاقبة هذا الضلال الذي هم فيه، وهم يأبون إلا التكذيب به، والبهت له، والسفاهة والتطاول عليه.. فيقولون فيما يقولون عن هذا النذير: ساحر أو مجنون.. وإن حالهم تلك شبيهة بحال أهل الضلال والشرك من قبلهم، الذين لم يأتهم رسول من رسل الله يدعوهم إلى الإيمان بالله، إلّا تلقوه بهذه المقولة الآثمة: «ساحر أو مجنون» .. وقد قالها من قبل فرعون، إذ جاءه موسى بآيات من الله وسلطان مبين: «فتولى بركنه وقال: ساحر أو مجنون» .. وفى هذا عزاء للنبى، ووعيد المشركين بأن يلقوا المصير الذي لقيه المكذبون برسل الله من قبلهم. قوله تعالى: «أَتَواصَوْا بِهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ» .. هو استفهام إنكارى يكشف عن هذه الطبيعة المنكرة المندسّة فى أهل الضلال.. ولكأنّ هذا الضلال داء خبيث معد، يرثه الأبناء عن الآباء، جيلا بعد جيل.. أو لكأنه عند أهله عمل مبرور، يتواصون به فيما بينهم، ويتركونه ميراثا لأبنائهم من بعدهم.. وقوله تعالى: «بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ» - إضراب على هذا الاستفهام، فإنه لم تكن هناك دعوة قائمة بالتواصى بين هؤلاء الضالين، السابقين منهم واللاحقين، ولكنها النفوس النكدة، والطباع اللئيمة، تفرز من ذاتها هذا الضلال الذي يغرقها، ويغرق من يأخذ طريقه معها.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 535 قوله تعالى: «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ» .. هو أمر للنبىّ الكريم بأن يعرض عن هؤلاء الأشقياء، وبدعهم للمصير المشئوم الذي هم صائرون إليه، مع ضلالهم وكفرهم.. وإنه ليس على النبي لوم فيما سيلقاهم من بلاء ونكال، بعد أن بلّغهم رسالة ربهم هذا البلاغ المبين الذي احتمل فى سبيله ما احتمل من سفه السفهاء، وجهل الجاهلين.. قوله تعالى: «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ» . هو معطوف على قوله تعالى: «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ» أي فتولّ عن هؤلاء المعاندين الضالين، ولا ترهق نفسك بالجري وراءهم، ولكن ذلك لا يمنعك من أن تقوم على دعوتك، وأن تؤذّن بها فى الناس.. فذلك هو شأنك، ودأبك، وهو أسلوب رسالتك التي تدعو إليها.. «إِنَّها تَذْكِرَةٌ.. فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ» (55: المدثر) .. «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» (21، 22 الغاشية) .. «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ» (27، 28 التكوير) فعرض الدعوة على الناس، وكشف معالم الهدى لهم، بما يتلى عليهم من آيات الله.. وإن لم يلتفت إليه كثير منهم، ولم يأخذوا طريقهم إليه أمر مطلوب من النبي، فإن كثيرا من الناس ينتفعون به، ويقيمون وجوههم عليه، كما أن المؤمنين الذين آمنوا بالله، واستجابوا لدعوة الحق، يزيدهم هذا التذكير إيمانا، ويقع من قلوبهم موقع النفع، فيقوّى يقينهم، ويثبت أقدامهم على طريق الحق.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 536 قوله تعالى: «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» . هو دعوة للناس إلى أن يستجيبوا لما يدعوهم الرسول إليه، وأن يقوموا على الأمر الذي خلقهم الله سبحانه وتعالى له، وهو عبادته.. فما خلق الإنسان إلا ليكون عبد الله، عابدا له، مظهرا بعبوديته وعبادته جلال المعبود، وعظمته، وسلطانه.. وليس الجنّ والإنس وحدهما، هما اللذان خلقا لعبادة الله، بل إن كل مخلوق، وكل موجود، خلق لهذه الغاية، حيث تتجلّى فى المخلوقات جميعها ألوهة الإله، وقدرته، وعظمته.. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً» (93: مريم) ويقول جل شأنه: «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ» (15: الرعد) .. ويقول سبحانه: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» (44: الإسراء) .. فالكافر الذي لا يؤمن بالله، ولا يسبح بحمده، هو مؤمن بالله كرها ومسبّح بحمده قسرا.. فكل ذرة فيه، وكل جارحة من جوارحه، تسبح بحمد الله، وتؤدى وظيفتها على الوجه الذي أقامها الله سبحانه وتعالى فيه.. فالخلايا التي يبنى منها الكيان الجسدى للإنسان تسبّح بحمد ربها فى عملها الذي تؤديه بناء أو هدما فى الكيان الإنسانى، والقلب بخفقاته، والدم بجريانه فى العروق، والعروق بحملها للدم، وتغذيتها الجسم به، والعين فى نقلها المرئيات، والأذن بتلقيها للمسموعات.. وهكذا كل ما فى الإنسان- ظاهرا أو باطنا- يسبح بحمد الله.. وكذلك الشأن فى كل موجودات الجزء: 14 ¦ الصفحة: 537 الوجود، ما نعلم منها وما لا نعلم، تسبح بحمد الله، وتقوم بما خلقها الله له.. وفى اختصاص الجن والإنس من بين المخلوقات، بالذكر، إشارة إلى أنهما هما المخلوقان اللذان لهما إرادة عاملة، وهما بهذه الإرادة يعملان، فيؤمنان أو يكفران، ويطيعان أو يعصيان، ومن هنا وقع عليها التكليف، وحقّ عليهما الحساب والجزاء، بمقتضى ما يعملان من خير أو شر.. وقد تكون هناك مخلوقات أخرى لها إرادة، وعليها تكليف وحساب وجزاء، ولكن الذي يقع فى محيط الإدراك الإنسانى، هو ما يعلمه الإنسان من نفسه، وما بلغه من رسالات الرسل، كما كان علمه بالجنّ، وأنهم مكلفون، ومنهم المؤمنون، ومنهم القاسطون.. كما أخبر بذلك رسل الله.. قوله تعالى: «ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ» .. أي أن الله سبحانه وتعالى غنىّ عن عبادة عباده، وعن إيمان المؤمنين به.. فما يريده سبحانه وتعالى من عبادة العابدين ومن إيمان المؤمنين، هو لذات أنفسهم! وللخير الذي يحصّلونه من العبادة والإيمان، وللجزاء الحسن الذي ينالونه بطاعتهم لله، وولائهم له.. فليست هذه العبادة، وهذا الولاء مما ينتفع الله سبحانه وتعالى بشىء منه. إن الله غنى عن العالمين: «إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ» (7: الزمر) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 538 قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» .. فالله هو الرزاق الذي يفيض رزقه على عباده، ويمنحهم من فضله ما يمسك عليهم وجودهم، ويقيم حياتهم، وهو سبحانه، ذو القوة القادرة المقتدرة، بيده مقاليد السموات والأرض.. وإذ كان هذا شأنه سبحانه، فإن أعمال خلقه من خير أو شرّ لا تجلب له خيرا أو ضرّا.. إنه سبحانه فوق المؤثرات، خيرها وشرّها، لأن التأثر عارض يعرض للمخلوقات التي تقبل بطبيعتها الزيادة والنقص.. والله سبحانه، الكامل الكمال المطلق، الذي لا يقبل زيادة أو نقصا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.. قوله تعالى: «فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ» .. هو وعيد للذين لم يستجيبوا لله، ولم يؤمنوا به، فأوقعوا بأنفسهم ظلما فادحا، يتجرعون منه كؤوس البلاء والعذاب.. والذّنوب: الدلو، أو السّجل، يملا ماء، والمراد به هنا ذنوب مملوء عذابا لهؤلاء الظالمين، مثل ما يملأ لأصحابهم الذين سبقوهم من أهل الضلال، وذلك على عادة العرب فى الاستقاء من الآبار، حيث يتساجلون، فيملأ هذا دلوا، والآخر دلوا.. وقوله تعالى: «فَلا يَسْتَعْجِلُونِ» تهديد ووعيد لهم، بأن هذا الذي يستعجلونه من العذاب، استخفافا به وتكذيبا له، هو واقع بهم، ويؤمئذ لا يجدون وليّا ولا نصيرا.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 539 قوله تعالى: «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ» .. أي هلاك وبلاء واقع بهؤلاء الظالمين الذين كفروا، وذلك فى اليوم الموعود، الذي أنذروا به، وإنهم لملاقوه، وملاقو العذاب الأليم فيه.. وقوله تعالى: «مِنْ يَوْمِهِمُ» متعلق بقوله تعالى: «فَوَيْلٌ» - أي أن هذا الويل، سيرد عليهم من يومهم الموعود هذا، فهو يوم كله ويل، لا يجيئهم منهم إلا ما يسوؤهم ويلبسهم ثيابا من نار جهنم.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 540 52- سورة الطور نزولها: مكية.. عدد آياتها: تسع وأربعون.. آية عدد كلماتها: ثلاثمائة واثنتا عشرة كلمة.. عدد حروفها: ألف وخمسمائة حرف.. مناسبتها لما قبلها ختمت سورة الذاريات التي سبقت هذه السورة بقوله تعالى: «فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ» .. وفى هذا تهديد ووعيد لأهل الكفر والضلال، بالعذاب الذي أنذروا به، والذي ينتظرهم يوم القيامة.. وقد بدئت سورة «الطور» هذه، بهذه الأقسام، التي أقسم سبحانه وتعالى بها، وأوقعها على وقوع العذاب بأهل الكفر والضلال يوم القيامة، وأنه واقع لا شك فيه.. «إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ» .. فالسورتان تتلاقيان ختاما وبدءا، حتى لكأنهما سورة واحدة.. وإن الذي ينظمهما فى التلاوة، دون أن يفصل بينهما بالبسملة، ليجد هذا الترابط الوثيق بينهما، فلا يشعر بأن سورة قد انتهت وأخرى قد بدأت.. وهذا- فى رأينا- دلالة قاطعة على أن ترتيب السور فى المصحف الكريم، هو توفيقىّ من عند الله، وبعمل الرسول، تماما كترتيب الآيات فى سورها، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 541 وأن الخلاف الذي يدور حول ترتيب السور، وأنه توقيفى ينبغى أن يرتفع، مع قيام هذه الشواهد التي نراها فى تلاحم السور من أول فاتحة الكتاب إلى سورة الناس.. بسم الله الرحمن الرحيم الآيات: (1- 16) [سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 16] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) التفسير: قوله تعالى: «وَالطُّورِ، وَكِتابٍ مَسْطُورٍ، فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ، وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ» . الطور: هو طور سينين، أو سيناء.. وكتاب مسطور: هو جنس ما يكتب من الكتب، ولهذا جاء منكّرا موصوفا بأنه مكتوب فى رق منشور- وهو ما يكتب عليه من جلد رقيق.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 542 وفى وصف الكتاب بأنه مسطور، إشارة إلى أنه مكتوب كتابة فى أسطر على نحو ما يكتب الكاتبون.. وفى وصفه بأنه فى رق منشور- إشارة أخرى إلى أنه خفيف الحمل، سهل التداول، وأنه منشور، أي مفتوح للقارئين، غير مطوى عنهم.. وفى هذا كله تنويه بالكتابة ورفع لقدرها، وأنها باب واسع من أبواب العلم، وطريق فسيح من طرق المعرفة.. وليس هذا بالأمر المستغرب من رسالة افتتحت بهذا الأمر من رب العالمين، إلى النبىّ الأمىّ فى قوله تعالى: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» (1- 5: العلق) ثم تلا هذا الأمر قسم بالكتابة وأدواتها من حروف وأقلام، فقال تعالى: «ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ» (1- 2: القلم) . فالكتابة نعمة من نعم الله العظمى على الإنسان، تكمل بها نعمة الكلمة التي وضعها سبحانه وتعالى فى فم الإنسان.. فلا عجب إذن أن يقسم الله سبحانه وتعالى بالكتاب، من حيث هو جنس عام لكل ما يكتب، وأن ينظمه فى نسق واحد، مع هذه المعالم المباركة، التي أقامها الله سبحانه، هدى، ورحمة للناس.. كالطور، والبيت المعمور، والسقف المرفوع، والبحر المسجور.. والبيت المعمور: هو البيت الحرام، الذي عمره الله سبحانه وتعالى بالواردين عليه، من المؤمنين، وبما يذكرون الله فيه.. والسقف المرفوع: هو السماء. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَجَعَلْنَا السَّماءَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 543 سَقْفاً مَحْفُوظاً» (32: الأنبياء) .. وقوله سبحانه: «اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها» (2: الرعد) . والبحر المسجور: هو البحر المحيط بهذا العالم الأرضى.. والمسجور: المربوط، المحبوس عن مفارقة الأرض، والانفلات منها، وهو كائن مائع، لا تمسكه إلا قدرة القادر.. تمور السماء مورا: أي تضطرب اضطرابا، وتموج موجا.. يدعون إلى نار جهنم دعّا: أي يدفعون إليها دفعا شديدا.. فالطور، والكتاب المسطور، والبيت المعمور، والسقف المرفوع، والبحر المسجور، أقسام خمسة، أقسم الله سبحانه وتعالى بها، وهى بهذا القسم من الله سبحانه تلبس ثوب التكريم، والتعظيم، وفى تكريمها وتعظيمها، إشعار بعظمة الخالق، وجلاله، الذي أبدع هذه المخلوقات العظيمة، وأقامها هذا المقام الكريم، حتى لقد كانت أهلا لأن يقسم خالقها بها، ويعرضها فى هذا المعرض الكريم.. هذا، ويلاحظ أن سورة «الذاريات» قد بدئت بأربعة أقسام من الخالق جل وعلا على أربعة مخلوقات من مخلوقانه: الذاريات ذروا.. فالحاملات وقرا.. فالجاريات يسرا.. فالمقسّمات أمرا.. وقد أوقع الله سبحانه وتعالى هذه الأقسام الأربعة على وقوع الدينونة، وحساب الناس وجزائهم يوم القيامة.. ثم أتبع سبحانه وتعالى هذه الأقسام بقسم خامس، هو قوله سبحانه والسماء ذات الحبك.. وأوقع سبحانه هذا القسم على اختلاف الناس، وأنهم فريقان: مؤمن وكافر: «إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ» .. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 544 وفى سورة الطور هنا، بدأها الله سبحانه وتعالى بخمسة أقسام.. ثم أوقع هذه الأقسام على وقوع العذاب، الذي هو وجه من وجهى الجزاء يوم القيامة.. ووقوع العذاب يوم القيامة، يعنى وقوع هذا اليوم، ويعنى البعث، والحساب.. وعلى هذا- والله أعلم- يكون القسم الخامس هنا مراعى فيه تلك الإضافة الجديدة على ما وقع عليه القسم فى سورة الذاريات، وهو وقوع العذاب بأهله الكافرين الضالين، على حين تكون الأقسام الأربعة، مؤكّدة للأقسام الأربعة، التي جاءت فى تلك السورة، والتي وقعت على الإخبار بمجىء يوم القيامة.. أما القسم الخامس الذي جاء فى سورة الذاريات واقعا على اختلاف الناس، وافتراقهم إلى فرقتين: مؤمنين وكافرين، فهو تمهيد للقسم الخامس الذي ورد فى سورة الطور واقعا على ما يلقاه فريق من أحد الفريقين- وهو فريق الكافرين- من عذاب واقع فى هذا اليوم.. وقوله تعالى: «يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً، وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً» هو بيان لما يقع فى هذا اليوم من أحداث تتغير بها معالم الوجود. «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ» (48: إبراهيم) .. [هذا الانقلاب فى عوالم الوجود يوم القيامة.. ما تأويله؟] وهذا الذي يحدث من تغيّرات فى معالم الوجود يوم القيامة، هو- والله أعلم- نتيجة لتغير مدركات الناس، فى هذا اليوم، بانتقالهم من عالم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 545 المادة إلى عالم الروح، الأمر الذي يرى فيه الناس بأرواحهم المطلقة من قيد المادة، ما لم يكونوا يرونه فى الحياة الدنيا.. وهذا يعنى أن اختلاف الرؤية للأشياء من حيث مطالعها، ومن حيث الحواسّ والمشاعر المتعاملة معها، والمتلقّية لها- هو الذي يرى الإنسان هذه التغيّرات التي يراها فى نظام الوجود.. تماما، كما يرى الإنسان الأشياء من خلال مجهر، أو من خلال منشور زجاجى، أو جسم شفاف ملون.. أو مرآة محدبة أو مقعرة.. ونحو هذا.. إنه يراها فى كل مرة على صورة مخالفة لما كان يراها عليه من قبل بعينيه المجردتين، وعلى صورة مباينة أيضا لما يراها عليه من خلال أي شىء من تلك الأشياء.. وهى هى لم تتغير ولم تتبدل، وإن بدت أنها متغيرة متبدلة.. والذي يقول به بعض الحكماء والفلاسفة، من أن الموجودات، لا وجود لها فى حقيقتها، وإنما هى موجودة بفعل حواسنا، وأنه لولا هذه الحواس، لما كان لها وجود.. ويضربون لهذا أمثلة، بأن فاقد البصر أصلا ينكر وجود النور، كما أن فاقد حاسّة الشمّ يغيب من عالمه عالم المشمومات.. وقلّ مثل هذا فى بقية الحواس، من اللمس والذوق، والسمع- نقول إن هذا الذي يقول به بعض الحكماء والفلاسفة، يشير إلى شىء من هذا الذي نتحدث عنه من أن الاختلاف الذي يقع فى حواسنا للموجودات، بين ما نراه منها فى الدنيا، وما نراه منها فى الآخرة هو من عمل حواسنا، وإن كنا نخالفهم فيما يذهبون إليه من إنكار الموجودات أصلا.. فإن إنكار هذه الموجودات يستلزم- تبعا لهذا- إنكار وجودهم هم أنفسهم، وإنكار هذه المقررات التي يقررونها.. فإن فقد العضو أو فقد وظيفته لا يستتبع فقد الجزء: 14 ¦ الصفحة: 546 الوجود الخارجي للموجودات، التي كان من شأن العضو أن يتعامل معها، كما أن فقد الميت إحساسه بوجوده، لا ينفى أنه موجود بجسمه الذي يراه الأحياء المحيطون به.. وأحقّ من هذا، وأقرب إلى الصواب، أن يقال إن الأشياء هى التي تحقق للحواس والمدركات وجودها، لا أن الحواس والمدركات هى التي توجد الموجودات التي تتعامل معها.. ونعود إلى الحديث عما يقع يوم القيامة، من انقلاب فى عالم الموجودات.. أهذا الانقلاب واقع حقيقة، أم هو من عمل الحواس الجديدة التي يعيش بها الإنسان فى العالم الآخر؟ .. يتحدث القرآن الكريم فى أكثر من موضع، عن انفطار السماء، وانتثار الكواكب، وانطماس النجوم، وانكدارها، وتفجّر البحار، ودكّ الأرض والجبال، إلى غير ذلك مما يحدّث عن هذا الانقلاب الشامل الهائل الذي بغير معالم الأرض والسماء جميعا.. فيقول سبحانه وتعالى.. «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ» (1- 5: الانفطار) ويقول جل شأنه: «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ» (1- 3: التكوير) ويقول سبحانه: «يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ» (4- 5: القارعة) ويقول سبحانه: «يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ» الجزء: 14 ¦ الصفحة: 547 (8- 9: المعارج) ويقول جل شأنه: «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً» (18- 20: النبأ) .. ويقول سبحانه: «فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ» (8- 10: المرسلات) ويقول سبحانه: «فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ» (7- 10: القيامة) ويقول سبحانه: «فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ» (13- 16: الحاقة) .. والذي ينظر فى هذه الآيات الكريمة، يجد أنها تتحدث عن عوالم ثلاثة، يقع عليها التغيير والتبديل من أحداث القيامة.. العالم العلوىّ، والعالم الأرضى، والعالم الإنسانىّ.. ففى العالم العلوىّ: تنفطر السماء، وتنتثر الكواكب، وتتكور الشمس، وتنكدر النجوم، وتنفرج السماء، وتتشقق، ويخسف القمر، ويجمع الشمس والقمر.. وفى العالم الأرضى: تنفجر البحار، وتسيّر الجبال، وتكون كالعهن المنفوش، وتنسف نسفا، وتدكّ دكا.. وفى عالم الإنسان: تبعثر القبور، ويكون الناس كالفراش المبثوث، وتبرق أبصارهم، ويتدافعون أفواجا إلى المحشر.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 548 [البعث.. وعلى أية صورة يكون؟] فإذا أخذنا جانب الإنسان، وهو الذي تقع لعينيه هذه الأحداث التي تكون يوم القيامة، وجدنا أنه قد تغيّر فعلا، تغيرا يتناول طبيعته، كما يتناول الموقف الذي يرى الوجود منه.. فهو من حيث طبيعته، قد صار كائنا روحانيا، محلّقا فوق هذا العالم الأرضى، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ» (4: القارعة) .. فالفراش حشرة طائرة، لطيفة الهيئة، دقيقة الجرم، هشة الجسم، تكاد تنخلع عن جسدها، وهى طائرة.. ومن إعجاز القرآن الكريم هنا أن الفراشة تمثّل الدورة الإنسانية كلها، من مولده، إلى مماته، إلى مبعثه من قبره، إلى طيرانه إلى محشره.. فهى تكون بيضة.. على حين يكون الإنسان نطفة. ثم تكون دودة.. على حين يكون الإنسان وليدا، يتحرك فى الحياة، أشبه بالدودة. ثم تكون عذراء «1» داخل الشرنقة «2» .. على حين يكون الإنسان مقبورا فى جدثه..   (1) العذراء.. هى الدودة داخل الشرنقة. (2) الشرنقة. بيت تنسجه الدودة من لعابها، ثم تدخل فيه الدودة وتسمى فى هذا الدور العذراء. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 549 ثم تخرج من الشرنقة فراشة «1» على حين يكون الإنسان قد خرج من قبره، كما تخرج الفراشة من الشرنقة، وقد تخلّقت لها أجنحة تسبح بها فى الفضاء! ثم ماذا؟ وماذا؟ وماذا؟ لا جواب الآن.. إن القلم يضطرب فى يدى، لما تملكنى من روعة هذا الجلال، ولما أخذنى من وجد ونشوة حيال هذا الإعجاز، الذي ألمح سنا برقه من بعيد، وأنا لا زلت على شاطىء هذا البحر الذي لا يحدّه البصر! وإنّى لأبخس نفسى حظّها، إن أنا انتزعتها الآن من هذه الحال التي لبستها من غبطة وحبور، فى هذا المقام الكريم، لأصوّر بالقلم بعض ما ترى من جلال وروعة، ولأمسك ببعض ما وقع فى الخاطر من رؤى ومشاهد بين يدى هذه المعجزة الباهرة القاهرة.. فلتأخذ النفس إذن حظها من تلك النشوة، وليرتشف القلب كأس هذه الخمر السماوية، قطرة قطرة.. حتى يرتوى!! فإذا كان لنا فى غد صحوة من هذا الانتشاء، وإذا كان لنا فى العمر غد نعيش فيه- كان لنا عودة إلى هذا الموقف، وكان لنا نظر مجدّد فى تلك المعجزة، وكان لنا قول فيما يؤدّى إليه هذا النظر.. فإلى غد- إن شاء الله- وإلى ما يأذن الله لنا به، من فضله وإحسانه، حتى يستقيم للقلم طريقه، ويجد اليد القادرة على الإمساك به، والسيطرة على زمامه..   (1) الفراشة: وهى العذراء تخرج من الشرنقة بعد أن تستكمل وجودها وتتخلق لها الأجنحة فى هذا الدور. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 550 وكان صباح .... وكان مساء..! وجاء صباح يوم آخر.. وقد هدأت موجات الجلال التي غشيت النفس بالأمس، وهأنذأ أمسك بالقلم، ولكن لا أجد شيئا مما كان يملأ صدرى من خواطر وتصورات!! فأين ذهب كل هذا؟ إنى لا أكاد أذكر شيئا مما كنت فيه بالأمس، بل لا أكاد أذكر فيم كنت.. وأحسب أن الأمر يحتاج إلى معاودة النظر فى الآية الكريمة، نظرا مجدّدا يستجيش المشاعر، ويحرّك المدارك، ويبعث من جديد هذه النشوة التي خمدت، أو كادت.. ومن النظر فى وجه الآية الكريمة: «يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ» تجد أن تشبيه الناس بالفراش المبثوث- كما أشرنا إلى ذلك من قبل- يمثل أكمل تمثيل وأدقه تلك الصورة التي يكون عليها الناس يوم القيامة، وأن حياة الفراشة من بدئها إلى نهايتها تمثّل حياة الإنسان من حال كونه نطفة إلى أن يولد، وينمو، ويقطع مسيرته فى الحياة الدنيا، ثم إلى أن يموت، ثم يبعث فى هيئة فراشة، كانت بيضة، ثم دودة، ثم عذراء ملففة فى أكفان من الشرنقة، ثم تنشق عنها الشرنقة، فإذا هى فراشة! .. هذا ما وقفنا عنده- على ما أذكر- من قبل.. الناس إذن يكونون يوم القيامة كالفراش المبثوث- فحين يخرجون من الأجداث يطيرون فى خفّة كما يطير الفراش المنطلق نحو النور والنار! .. ولكن إلى أين يطير هذا الفراش الآدمي؟ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 551 وإلى أين يطير الفراش الحشرى إذا رأى نارا، أو أحس ضوءا؟ إنه لا وجهة له حينئذ إلا هذه النار وهذا الضوء!! وكذلك الناس، أو الفراش البشرى، لا مورد لهم إلا هذه النار التي سعّرت وتأججت.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا» (71: مريم) . وما مصير هذا الفراش الحشرى المتدافع إلى النار؟ إنه يتقحمها، ويلقى بنفسه فيها، وكأنّ يدا قوية تدفعه إليها دفعا ليكون وقودا لها.. وقليل قليل هو الذي ينجو بنفسه، ويعدل بوجهه عن لهيبها.. كذلك شأن الفراش البشرىّ الوارد على نار جهنم، إنه وقود هذه النار إلا قليلا قليلا ممن أنجاهم الله منها، وكتب لهم الفوز بجنات النعيم، كما يقول سبحانه: «ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» (72: مريم) .. فهذا القليل هو الذي يقف فى منطقة النور دون أن يتقحم النار.. وأما الكثير الغالب، فإنه يغشى فى هذا الضوء فيهوى فى جهنم.. إنه أعمى لا يرى إلى أين مساقه، لأنه حشر على ما كان فى الدنيا من عمى: «قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى» .. فالهلكى فى الآخرة كثيرون، والناجون قليل بل وأقل من القليل!! وأكاد أقول إن الناس سيكونون يوم القيامة على صورة الفراش حقيقة لا تشبيها، وذلك لهذا التوافق العجيب الدقيق بين الصورتين، - صورة الفراش الحشرى، وصورة الفراش البشرى- فى الملامح، والألوان، والظلال.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 552 ويتأكد هذا المفهوم، إذ نجد القرآن الكريم يلتزم هذا التشبيه فى معرض آخر، من معارض البعث والنشور، فيقول سبحانه: «يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ» (7- 8: القمر) .. فالجراد المنتشر، والفراش المبثوث.. صورتان متماثلتان فى مرأى العين، وفى أطوار الحياة التي يتنقل فيها كلّ من الفراش والجراد!. فالجراد يأخذ فى خلقه وتطوره نفس المراحل التي يقطعها الفراش فى مسيرة الحياة.. البيضة، فالدودة، فالعذراء، فالفراشة التي تطير.. «والفراش» كائن لطيف، رقيق، يكاد يكون من عالم الروح أكثر منه من عالم المادة.. وأما «الجراد» - وإن كان أكثر كثافة من الفراش، فإن أجنحته- الكبيرة القويّة، تغلب كثافة جسده، فيطير بخفة أشبه بخفة الأرواح.. وفى الجمع بين الفراش المبثوث، والجراد المنتشر، تصوير معجز للصورة التي يبعث عليها الناس يوم القيامة.. ففى الناس: فراش، وجراد.. فى الدنيا وفى الآخرة.. فالمؤمنون، يمثلون الفراش.. فى لطفه، ورقته، ووداعته، ومواقعه فى فى الحياة، وتناوله من رحيق أزهارها، وطيّب ثمارها.. حيث هم زينة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 553 هذه الحياة الدنيا، وحيث لا يقع منهم أذّى على أحد، أو عدوان على شىء، بيد أو لسان.. والكافرون، والضالون، يمثلون الجراد فى نهمه، وشراسته، وعدوانه على مواقع الخصب، فيفسدها، وو يحيلها جدبا.. وهكذا يبعث الناس، على ما كانوا عليه فى الدنيا، من كان منهم على صورة الفراش، فى اللطف، والوداعة، بعث على صورة الفراش، ومن كان منهم على هيئة الجراد، فى الشراسة والنّهم، بعث على هيئة الجراد.. وأكثر من هذا، فإن الفراش قلّة قليلة بالنسبة لأعداد الجراد الكثيرة التي تتكاثر مواليدها وتتضاعف بين ساعة وأخرى.. وكذلك المؤمنون هم قلة فى محيط الكافرين، والمشركين.. وهذا ما نامحه فى قوله تعالى فى وصف كل من الفراش والجراد.. فقد جاء وصف الفراش، بالبثّ: «كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ» .. والبث، هو إذاعة الحديث الطيب فى رفق، وعلى هينة، ولطف.. وجاء وصف الجراد بالانتشار: «كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ» والانتشار، إنما يكون فى سرعة مجنونة، كما ينتشر الوباء فى الناس، وكما تنتشر النار فى الهشيم..! ويكاد يصرفنا هذا الموقف الرائع المعجز، عن الموضوع الذي نعالجه، بل إنه ليكاد يغنينا عن النظر إلى ماوراءه، لما نالت النفس منه، من شبع ورىّ! ولكن وفاء بحق هذا البحث، نعود فنقول: إنه بالنظر فى حال للإنسان يوم القيامة، نجد فى قوله تعالى عن هذا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 554 الإنسان يوم القيامة: «فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ» - نجد فى هذا إشارة إلى ما يقع لبصر الإنسان من تحول، يزداد به قوة خارقة فى مجال الرؤية، حيث يامع كما يامع البرق، فيكشف بنوره المنبعث منه حقائق الأشياء، وينفذ إلى الصميم منها، وكأنه يراها لأول مرة، رؤية جديدة، تبدو فيها المفارقة بعيدة، بين ما يراها عليه الآن، وبين ما كان يراها عليه فى الحياة الدنيا.. وفى هذا يقول الله تعالى: «لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» (22: ق) . هذه صورة مجملة للإنسان يوم القيامة، ولموقفه من الموجودات فى هذا اليوم.. فهو كائن سابح فى عالم علوىّ، قد يبلغ فى سبحه هذا، مدارج الكواكب والنجوم، ثم هو فى هذا العلو السحيق يملك بصرا حديدا كاشفا لا يمكن تصوره.. ومن هذا الأفق العالي، وبهذا البصر الحديد النافذ، ينظر الإنسان إلى هذه الأرض التي كان يعيش فيها.. فيرى الأرض غير الأرض، والسماء غير السماء.. «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ» (48: إبراهيم) إنه تبدل يقع فى إحساس الإنسان نفسه، وفى معطيات بصره.. إنه يرى البحار وكأنها قد فجّرت، وفاضت مياهها.. إنه يرى البحر كله، وقد اشتمل على الكرة الأرضية وأحاط بها.. وإنه يرى الجبال وكأنها قد سيّرت، وهى فى حقيقتها سائرة لا تتوقف، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 555 فى دورتها مع دورة الأرض حول نفسها، كما يقول الله تعالى: (وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب (88: النمل) .. ويراها وكأنها وقد نسفت، وزايلت مواضعها من الأرض، شأن من ينظر إلى الأرض من علو شاهق، فتبدو له وكأنها سطح مستو لا أغوار فيه، ولا نجود.. ويراها من هذا العلو وكأنها العهن المنفوش، أشبه بذرات متطايرة فوق سطح الأرض.. ويراها، ويرى الأرض معها كرة معلقة فى الفضاء، قد اندمج بعضهما فى بعض، فصارا كيانا واحدا: «لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً» (107: طه) .. (وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة) (14: الحاقة) .. هكذا تبدو الجبال، على صور شتى، بين الصغر والكبر، وبين الظهور والخفاء، حسب الأفق الذي يشرف منه الإنسان عليها يومئذ. ولقد أحسن الشاعر «شوقى» غاية الإحسان، فى تصوير الطائرة، وهى تنطلق مصعّدة فى السماء، وكلما ارتفعت كان لها فى موقع البصر صورة، على غير سابقتها أو لا حقتها.. يقول شوقى: ثم تسامت فكانت أعقبا فنسورا.. فصقورا.. فحماما أمّا السماء وعوالمها، فإنه يقع عليها من التبدل والتحول، فى نظر الإنسان، ما وقع له فى العالم الأرضى من تحول وتبدل.. إنه يرى السماء، التي- كانت تبدو له فى دنياه سقفا صفيقا مصمتا- يراها، وقد فتحت فكانت أبوابا، وكانت فروجا، وإذا سقفها هذا قد بدا واهيا، لا يحول بينه وبين اختراق أجوائها إلى غير حدود.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 556 «وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ» .. «وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً» .. «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ» .. تلك هى السماء، كما يراها الإنسان، ويختبر تصعيده فيها.. أما هى فى حقيقتها فهى هى، لم تتبدل، ولم تتحول..! وحال أخرى من السماء، يجدها الإنسان فى هذا اليوم، وهى ما جاء فى قوله تعالى: «يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ» .. فهذه حال من السماء يجدها الإنسان، حين يرتفع إلى مواقع النجوم منها، فيجد لذلك مسّ حرارة هذه النجوم، ويشهد منها هذا الغليان والفوران المتأجج فى كيانها.. إذ النجوم فى حقيقتها عوالم من لظى يأكل بعضه بعضا.. أما النجوم والكواكب، فإنه يراها- كذلك- فى أحوال شتى، حسب موقعه منها.. فيرى النجوم وقد انكدرت وطمست، واختفى ضوءها.. حيث أن هذا الضوء الذي نراه للنجوم، إنما هو من أثر هذا الغلاف الهوائى المحيط بالأرض.. فإذا خرج الإنسان من محيط هذا الغلاف لم يقع على بصره هذا الضوء اللامع الذي نراه لها.. كذلك يرى الكواكب، التي كان يراها فى العالم الأرضى على مستوى واحد، متجاورة كما تتجاور حيات العقد- يراها متناثرة، كل واحد منها عالم يدور فى فلك، بينه وبين النجوم الأخرى آماد بعيدة، تقدر مسافاتها بالألوف والملايين من السنين الضوئية!. والشمس- وهى نجم من تلك النجوم- تبدو كرة ملتهبة، لا شعاع فيها، لأن هذا الشعاع الذي نراه منها، هو- كما قلنا- أثر من الغلاف الهوائى المحيط بالأرض.. فإذا خرج الإنسان من دائرة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 557 هذا الغلاف لم يكن لهذه الأشعة وجود فى مرأى العين.. أما قوله تعالى: «وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ» - فهو أيضا أثر من آثار خروج الإنسان يوم القيامة من عالم الأرض.. حيث يرى الشمس شمسا، والقمر قمرا، فى حال واحدة، لا يحكم رؤيته لهما، ليل أو نهار.. هذه وقفة قصيرة غاية القصر مع تلك المشاهد التي يراها الإنسان يوم القيامة، من عوالم الوجود.. ولو أننا ذهبنا نتقصّى وجوه النظر المختلفة، لخرج بنا ذلك عن المنهج الذي التزمناه، فى هذا التفسير لكتاب الله.. بقيت كلمة لا بد منها فى التعقيب على هذا البحث، وهى، الإجابة على هذا السؤال: هل يكون البعث بالأجساد، أو الأرواح؟. وهذه قضية كثرت فيها الأقوال وتضاربت الآراء، ولا نحسب أن إجابتنا على هذا السؤال بالذي يحسم الأمر، ويرفع الخلاف فيها، بل إنه ربما وسّع من شقة الخلاف، وأضاف إلى المقولات المتخالفة مقولة! ومع هذا، فإن إمساكنا عن القول فى هذه القضية، لا يخفف من حدة الخلاف فيها، ولا يمسك ذوى الآراء عن الخوض فى تلك القضية، التي هى وسواس كل خاطر، وامتدا كل نظر إلى الحياة، وما وراء الحياة. فنقول إننا نرجح الرأى القائل بأن البعث يكون بالأرواح لا بالأجسام.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 558 ولنا فى قوله تعالى: «يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ» ، وقوله سبحانه: «يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ» - لنا فى هذا شاهد نلمح منه صورة الحياة التي يكون عليها الناس يوم القيامة، وهى أنها حياة أشبه بحياة الطير، حيث ينطلق الناس فى العوالم العليا، إلى حيث الكواكب والنجوم.. والأرواح الإنسانية التي نلمحها من الآبتين الكريمتين، ليست أرواحا مجردة، بل هى أرواح، تلبس أجسادا شفافة، هى قوالب روحانية، على هيئات بشرية يعيش فيها الناس.. وهى ما يسمى بالنفس، التي هى وسط بين الروح، والجسد «1» .. قوله تعالى: «هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ» .. فى الإشارة إلى النار، دعوة لأهلها إلى ورودها، ونزولهم ضيوفا عليها، ليطعموا مما تقدّمه لهم من زاد عتيد تلقاهم به، وتغاديهم وتراوحهم بصنوفه وأكوانه..!! وفى الدعوة إلى هذا المكروه، مزيد من الاستهزاء والإيلام لهؤلاء الأشقياء، الذين يساقون إلى هذا العذاب الأليم.. مثل قوله تعالى: «ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ» .. وقوله تعالى: «أَفَسِحْرٌ هذا؟ أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ» ؟   (1) انظر هذا البحث فى كتابنا قضية الألوهية الكتاب الثاني.. الله والإنسان الجزء: 14 ¦ الصفحة: 559 هو عرض على أسماع هؤلاء المجرمين المكذبين باليوم الآخر- لتلك المقولات الهازئة الساخرة التي كانوا يقولونها عن البعث، والحساب، والجزاء.. وكان من مقولاتهم تلك، اتهام النبي بالكذب، وبالسحر، وأن ما يحدثهم به عن اليوم الآخر ليس إلا من قبيل الشعوذة والخداع! .. فهم يسألون هذا السؤال التقريعيّ، الذي لا يجدون له جوابا إلا الإبلاس والوجوم، وإلا الحسرة القاتلة، والنّدم الأسود الكئيب! .. «أَفَسِحْرٌ هذا؟» أي أهذا العذاب الذي، تساقون إليه، والذي كان يتلوه عليهم من آيات الله- أسحر هو؟ وإنه لأسلوب من أساليب العقاب، أن يوقف المجرم على جسم جريمته، وأن يواجه بها، وأن يذكر بها حالا بعد حال، وخاصة إذا كان بين يدى السلطان القاهر الذي يأخذه بجريمته ويوقّع عليه الجزاء الذي يستحقه، فإن جريمته هى التي ساقته إلى هذا البلاء الذي هو فيه، وإنها لهى العدوّ الذي ألقاه فى التهلكة!. وفى قوله تعالى: «أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ» هو زيادة فى إبلامهم بأن ينظروا فى هذا العذاب، وأن يملأوا عيونهم منه، قبل أن يذوقوه بأجسامهم، ويلبسوه ثيابا تقطّع لهم من تلك النار الموقدة أمام أعينهم.. قوله تعالى: «اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .. هو دعوة أخرى لهؤلاء المكذبين، إلى تذوق ما فى هذه النار التي دعوا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 560 إليها، ونزلوا بساحتها، وإنه لا شىء هناك إلا نارا تشوى الوجوه، وتهرى الأجسام، وإلا مهلا يغلى فى البطون كغلى الحميم.. فليأخذوا ما تقدّم لهم النّار من ضيافة نكدة، وليصبروا على تجرّع هذه الغصص، أولا يصبروا، فإنه لا مفرّ لهم من أن يشربوا من هذه الكأس التي لا تنضب، ولا معدل لهم عنها، صبروا أولم يصبروا.. فالأمر بالنسبة إليهم سواء.. إنهم فى قيد العذاب: «فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ، وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ» (24: فصلت) .. الآيات: (17- 28) [سورة الطور (52) : الآيات 17 الى 28] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 561 التفسير: قوله تعالى: «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» .. هو عرض لصورة من صور النعيم، الذي حرمه أهل الضلال، الذين تلفح وجوههم النار، وهم فيها كالحون.. فهذا النعيم الذي يراه أهل النار بأعينهم، ويرون فيه أقواما كانوا من قبل موضع استهزاء بهم وسخرية منهم- هذا النعيم، كان يمكن أن يكون لهم نصيب منه، ولكنهم صرفوا وجوههم عنه فى الدنيا، وسفّهوا الذين كانوا يدعونهم إليه، فأبقى لهم ذلك حسرة دائمة، وبلاء طويلا ممتدا.. لا ينتهى أبدا.. وفى هذا ما يضاعف من عقابهم، ويزيد فى شقائهم، على حين أنّه يقدّم بين أيدى المؤمنين المتقين، ويرفع لأبصارهم فى تلك الجنّة التي وعدوا بها، فيرونها دانية منهم، يشوقهم لقاؤها، والسعى الحثيث إليها.. وقوله تعالى: «فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» هو حال من المتقين.. أي أنهم وهم فى جنتهم تلك، يتفكهون بما فيها من طيبات تملأ نفوسهم رضا وحبورا.. وأصل التفكّه: من الفكاهة، وهو حديث فكه، يوننس به.. وسميت الفاكهة فاكهة للذة طعمها فى الأفواه، كلذّة الحديث الفكه على الآذان. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 562 وفى إظهار الاسم الكريم (ربهم) فى قوله تعالى: «وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ» بدلا من إضماره- فى هذا مزيد اعتناء بهم، وتذكير لهم بربّهم الذي منّ عليهم بالجنة ونعيمها، وجنّبهم جهنم وسعيرها.. قوله تعالى: «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» . هو التفاتة كريمة ودعوة مسعدة للمتقين، إلى أن يأخذوا بحظهم من رضوان الله، الذي قدّمه لهم ربهم.. وعلى حين تصكّ آذان المكذبين الضالين الذين أخذوا أما كنهم فى نار جهنم، بهذه الدعوة المزلزلة المهلكة: «اصلوها» ، فإذا أخذهم لهيبها، واشتمل عليهم سعيرها، وصرخوا صرخة الويل والثبور، قيل لهم: «فاصبروا أولا تصبروا.. سواء عليكم» - على حين يفعل هذا بالمكذبين الضالين، يقال للمؤمنين المتقين، وقد أكلوا وشربوا من نعيم الجنة: «هنيئا» أي هنأكم الطعام والشراب.. فكلّ يأخذ من ثمر ما عمل، وبطعم من جنى ما غرس! «إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» . (71: التحريم) قوله تعالى: «مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ» . أي أن المتقين يلقّون هذا التكريم، وتلك التحية، فى حال قد أخذوا فيها أما كنهم على أرائك وسرر مصفوفة، يقابل فيها بعضهم بعضا، ويأنس فيها بعضهم ببعض، وقد زوّجوا بحور عين.. والحور: جمع حوراء، وهى التي فى سواد عينيها قليل من البياض، وهو من أمارات الحسن والجمال، وقيل هو شدة بياض العين مع شدة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 563 سوادها.. وهو من ملاحة الملاح، وحسن الحسان.. والعين: جمع عيناء، ويطلق على بقر الوحش لجمال عيونه.. قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ» .. ومما يساق إلى أهل الجنة فى الجنة، أن يكرم من أجلهم أبناؤهم وذرياتهم من المؤمنين، وذلك إذا كانوا أنزل درجة منهم فى الجنة- وفى الجنة درجات، كما فى النار دركات- وبذلك يجتمع شملهم فى الجنة، كما اجتمع شملهم فى الدنيا، وبهذا تقرّ أعينهم، ويكمل سرورهم.. وقوله تعالى: «وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ» - إشارة إلى أن هذه الذرية التي لحقت بآبائها فى الجنة، قد كانت على إيمان بالله، كإيمان آبائهم، وبهذا كانوا جميعا من أهل الجنة، وإن اختلفت فيها منازلهم، فكان جمعهم، وإلحاق الأدنى منهم بالأعلى- إحسانا من الله سبحانه وتعالى إليهم جميعا.. الآباء، والأبناء.. وهنا سؤال: لماذا تلحق الأبناء بالآباء، ولا يلحق الآباء بالأبناء، إذا كانوا أنزل درجة من أبنائهم؟ .. والجواب على هذا، أن هؤلاء الآباء، هم أبناء لآباء، وهؤلاء الآباء أبناء لآباء، وهكذا.. يتبع الأبناء آباءهم فى سلسلة تمتد من بدء الخليقة إلى نهايتها.. وهكذا يبدو أهل الجنة، وكأنهم جميعا أسرة واحدة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 564 وقد يعترض على هذا، بأنه مخالف لما هو معروف بأن الجنة- ليست جنّة واحدة، وإنما هى جنات، وهى منازل، ولكل جنة أصحابها، ولكل منزلة أهلها.. ويدفع هذا الاعتراض: أولا: أن أهل الجنة، أو الجنات، ليس بينهم هذه العزلة الجامدة الباردة، التي تقيم كل طائفة فى معزل عن الآخرين، بل إن أهل الجنة وإن اختلفت منازلهم، وتباينت درجاتهم، هم فى عالم واحد، مطلق، لا حدود فيه ولا قيود.. وهل تكون جنة ويكون نعيم، ثم يقام على هذه الجنة وذلك النعيم حارس؟. وثانيا: هذا الاختلاف الذي بين درجات أهل الجنة ومنازلهم عند الله، هو اختلاف فى درجة التقبّل للنعيم، وفى مدى القدرة على التناول من هذا النعيم الذي لا ينفد أبدا.. فهناك نفوس كبيرة تستوعب نعيم الجنة كله، وتلذّ به، على حين أن هناك نفوسا صغيرة تأخذ من هذا النعيم حسوا كحسو الطير، ثم تجد فى ذلك شبعها وربّها.. إنها موائد ممدودة، عليها ما لا يبلغه الوصف من طيبات النعيم.. وإنه لا يردّ أحد عن أي لون من ألوان هذا النعيم، بل إن كل ما يطلبه المرء منه يجده حاضرا بين يديه.. ولكن هنا يختلف أهل الجنة فى قدرتهم على الأخذ من هذا النعيم، الذي بين أيديهم، فبعضهم يأخذ القليل لأنه لا شهوة له إلى أكثر من هذا القليل، على حين يكون هناك من يجدون القدرة والاشتهاء لكل ما فى الجنة من ألوان النعيم فيذوقون من كل لون، ويطعمون من كل صنف.. تماما كما نرى ذلك فى الحياة الدنيا، حيث يجلس المدعوّون إلى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 565 مائدة حافلة بألوان الطعام.. ثم تختلف حظوظهم فيما ينالون منها.. دون أن يكون هناك حائل يحول بين أىّ منهم وبين ما يشتهى.. قوله تعالى «وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ» أي وما أنقصنا شيئا من عمل هؤلاء الآباء الذي ألحقنا بهم ذريتهم، بل وفاهم الله تعالى أجرهم غير منقوص.. وكان إلحاق أبنائهم بهم، فضلا من فضل الله على الوالدين والمولودين جميعا.. والجملة: حال من الفاعل فى قوله تعالى «أَلْحَقْنا» وهو الله سبحانه وتعالى.. قوله تعالى: «وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ» . هو مما يقدّم لأهل الجنة من طعام، وليس هو كل طعام الجنة، وإنما هناك من ألوان الطعام ما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر.. وإنما اختصّ هذان الصنفان بالذّكر، لأنهما من أطيب، وأشهى ما يطعمه أهل الدنيا من طعام.. وكان من تمام النعمة فى الجنة ألا يحرم أهلها ما كان لهم من طعام مشتهى فى الدنيا، وخاصة أولئك الذين حرموا هذا الطعام فى دنياهم، وكان من مشتهياتهم فيها.. قوله تعالى: «يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ» التنازع: هو المجاذبة للشىء بين قوتين.. وتنازع الكئوس، تجاذبها بين الجالسين فى مجلس شرابها، يتبادلونها فى شوق ورغبة ونزوع أنفسهم إليها.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 566 لا لغو فيها: أي لا تحمل هذه الكئوس فى كيانها، هذا الداء الذي يخامر العقول، ويفقدها الوعى، فتخرج من وقارها إلى هذر الكلام ولغوه. ولا تأثيم: أي لا إثم على شاربها، فهى خمر، وهى مع ذلك حلال لشاربها.. ومن هنا ندرك السر فى تحريم الخمر، والعلّة التي من أجلها كانت إثما يسوق مرتكبه إلى ساحة الاتهام والعقاب.. فالإسكار، هو علّة تحريم الخمر، لا علّة له غيرها.. دون نظر إلى المادة التي يصنع منها.. وعلى هذا، فإن الخلاف القائم بين أصحاب المذاهب الفقهية فى تلك المباحث التي تبحث عن جواب هذا السؤال: ما هى الخمر؟ وما هى المادة التي تصنع منها؟ - إن هذا الخلاف لا محصّل له، ولا داعية للوقوف عنده، فى تقرير الحكم الشرعي للخمر.. فكل مسكر خمر، وكل مغيّب للعقل، ذاهب بوقاره، داع له إلى اللغو- هو خمر، وهو موقع على متعاطيه إثما، هو إثم شارب الخمر.. قوله تعالى: «وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ» أي ويطوف على أهل الجنة بتلك الكئوس المترعة بالخمر، سقاة يقومون على خدمة شاربيها، وهم غلمان كاللؤلؤ المكنون، صفاء، وحسنا، وبهاء.. وهذا من تمام النعمة.. فإن الصورة التي يقدّم عليها الطعام أو الشراب من آنية توضع فيها، وأدوات تستعمل فى تناولها، وخدم يقومون بتقديمها.. كل ذلك وأشباهه، يجعل للطعام طعما يضاف إلى طعمه الذاتي، حسنا أو قبحا حسب الجزء: 14 ¦ الصفحة: 567 حسن أو قبح هذه الملحقات به.. ومن هنا نجد الصحاف التي يقدم فيها الطعام لأهل الجنة صحافا من ذهب، والأكواب التي يقدم فيها الشراب قوارير من فضة.. ولهذا أيضا نجد لكئوس الخمر، وسقاتها، أوصافا يتغنىّ بها الشعراء الذين يغشون مجالس الخمر، ويتساقون كئوسها، تماما كما يتغنّون بالخمر، وأوصافها، وما فيها من جودة وعتق.. فيقول أبو نواس مثلا فى وصف الكأس: تدار علينا الرّاح فى عسجدية حبتها بأنواع التصاوير فارس قرارتها كسرى، وفى جنباتها مهّا تدّريها بالقسيّ الفوارس فللخمر ما زرّت عليه جيوبهم والماء مادارت عليه القلانس قوله تعالى: «وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ» . أي ومن أحوال أهل الجنة، أنهم يتفكهون بتلك الأحاديث المسعدة، التي يذكرون بها فضل الله عليهم، وإحسانه إليهم، بإنزالهم هذا المنزل الكريم، بعد أن نجاهم من هذا البلاء، وعافاهم من ذلك العذاب الذي يصلاه أهل الجحيم من أهليهم، وإخوانهم، وأقوامهم، الذين كفروا بالله، وصدّوا عن سبيله ... الجزء: 14 ¦ الصفحة: 568 وقوله تعالى: «إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ» هو بعض المقولات التي تتردّد فى هذا الحديث المدار بين أهل الجنة، وفيه يذكرون ما كان منهم فى الدنيا، من خشية وخوف للقاء هذا اليوم العظيم، الذي يؤمنون به، ويعرفون ما فيه من أهوال تشيب لها الولدان، كما يقول سبحانه وتعالى فى وصف الحال التي كان عليها المؤمنون فى الدنيا: «وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ» (26- 28: المعارج) . وقوله تعالى: «فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ» - هو تعقيب على قولهم: «إنا كنّا قبل فى أهلنا مشفقين» أي إنا كنا فى دنيانا مشفقين من عذاب ربنا فى هذا اليوم، ولكنّ الله سبحانه وتعالى منّ علينا بالنجاة من هذا العذاب ووقانا شرّ ذلك اليوم، كما يقول سبحانه وتعالى: «فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ، وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً» (11: الإنسان) قوله تعالى: «إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ.. إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ» هو تعقيب بعد تعقيب على قولهم: «إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ» أي وكنا ندعو الله، ونطلب النجاة من شر هذا اليوم، ومن العذاب الواقع بأهل الشقاء فيه، وقد استجاب الله لنا بفضله، وإحسانه.. «إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ» أي البارّ بعباده المؤمنين المحسنين «الرَّحِيمُ» الواسع الرحمة، لمن يطلبون رحمته، ويبتغون فضله.. فما أعظم برّه، وما أوسع رحمته.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 569 الآيات: (29- 49) [سورة الطور (52) : الآيات 29 الى 49] فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 570 التفسير: قوله تعالى: «فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ» . مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، عرضت مشاهد القيامة وما يلقى المكذبون الضالّون هناك من عذاب وهوان، وما يتلقّى المؤمنون المتقون من رضوان الله، وجنات لهم فيها نعيم مقيم.. وهنا تجىء الآية الكريمة، والآيات التي بعدها، لتواجه الناس جميعا مرة أخرى، بالدعوة الإسلامية، وبرسولها الكريم الذي يدعو بها، بعد أن نقلتهم فى لمحة خاطفة إلى الدار الآخرة وأرتهم منازلهم هناك، وما يجزون به عن أعمالهم، من محسنين ومسيئين. ولا شك أن مواجهة الناس هنا بالدعوة الإسلامية، بعد هذه المشاهد التي شهدوها من يوم القيامة- لا شك أن هذه المواجهة ستلقى الناس على حال غير الحال التي كانوا عليها من قبل، وقد رأوا النار وسعيرها، والجنة ونعيمها. وقوله تعالى: «فذكّر» هو دعوة للنبى أن يواجه الناس بدعوته، وأن يتلو عليهم آيات ربه، وأن يؤذّن فيهم بقوله تعالى: «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» (158: الأعراف) .. فهذا هو موقف النبي دائما لا يتحول عنه، ولا يعدل به عن مقامه فيه، ما يلقى من أذى وضرّ، وما يسمع من سفاهة السفهاء، وجهل الجاهلين.. «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ، (55: الذاريات) . وقوله سبحانه. «فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ» أي فما أنت الجزء: 14 ¦ الصفحة: 571 بما أنعم الله به عليك بهذا الكتاب الذي بين يديك بكاهن ولا مجنون كما يتخرض بذلك المتخرصون، ويفترى المفترون، فيقولون فيك هذا القول الفاجر الآثم.. والكاهن: من يدعى التنبؤ بعلم الغيب، وبما سيقع فى مستقبل الأيام فالباء فى قوله تعالى: «بِنِعْمَةِ رَبِّكَ» - للسببية، كما فى قوله تعالى: «قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ» (17. القصص) . قوله تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» . هو إضراب عن مقولات المشركين فى النبي، بأنه شاعر، أو كاهن، وانتقال إلى مقولة أخرى يقولونها فى النبي، وهو قولهم «شاعر» .. فهم يلقون بهذه الأباطيل من غير أن يقوم عندهم دليل عليها، وإنما هى رميات طائشة عمياء، يلقون بها بلا حساب أو تقدير.. شأن من يحارب عدوّا متوهما، فيرمى بكل ما يقع ليده إلى كل اتجاه، فرارا من هذا الخطر المتوهم، سواء أصابت هذه الرميات عدوّا، أم صديقا.. وقوله تعالى: «نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» هو أمنية من تلك الأمانى التي يعيش بها المشركون مع النبي، وتعلّة يتعللون بها، وهى أن ينتظروا به موتا يختطفه من بينهم، ويريحهم منه.. فتلك أمنية يتمنونها، ويعلقون آمالهم بها. وقوله تعالى: «قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ» - هو ردّ على ما ينتظرون فى النبي من موت يريحهم منه.. «تربصوا» أي انتظروا: «فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ» أي منتظر لما تأتى به الأيام فىّ وفيكم.. فالأمر فى هذا على سواء بينهم وبينه، إذ للموت حكم واقع عليهم وعليه. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ؟» (34: الأنبياء) ويقول سبحانه «إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ» (30: الزمر) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 572 قوله تعالى: «أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ» . هو استفهام يراد به تسفيه عقول هؤلاء الذين يقولون هذا القول الأحمق، الذي لا يقبله عقل، ولا ينطق به عاقل، وهو التربص والانتظار للموت الذي يتمنونه للنبى. وفى التعبير عن معطيات عقولهم، بالأمر، وبأنها تملى عليهم هذا القول وتأمرهم به- إشارة إلى أنهم كيان منفصل عن تلك العقول، التي تفيض بالوساوس والأوهام، وأن كل ما يطرقهم من أوهام هذه العقول ووساوسها، لا يجد منهم إلا ألسنة تردد هذه الأوهام وتلك الوساوس، دون أن يكون لهم سلطان عليها، أو تحكّم فيها، وذلك على غير ما يفعل العقلاء الذين يتدبرون أمرهم بينهم، وبين خطرات نفوسهم، ووساوس عقولهم. وقوله تعالى: «أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ» هو إضراب عليهم، وعلى عقولهم جميعا، وأنهم كيان من الطغيان، يندفع كما تندفع الحمر المستنفرة، فرّت من قسورة، لا إرادة معها، ولا اختيار لها فى الوجهة التي تأخذها فى فرارها. قوله تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ.. بَلْ لا يُؤْمِنُونَ» . استفهام آخر، يكشف عن جريمة أخرى من جرائمهم، ويواجههم بضلالة من ضلالاتهم، وهى قولهم فى النبي: إنه افترى هذا القول الذي يحدّثهم به، ويقول لهم عنه إنه كلام الله!!. وقوله تعالى: «بَلْ لا يُؤْمِنُونَ» - حكم عليهم بأنهم لن ينتفعوا بهذا القرآن، ولا يهتدون به، ولا يكونون فى المؤمنين أبدا.. وهذا حكم واقع الجزء: 14 ¦ الصفحة: 573 على أولئك الذين أدركهم الإسلام من المشركين، ومانوا على شركهم، محادّين لله ورسوله.. ومنهم قتلى بدر، الذين بلغوا سبعين قتيلا..!. وهذا من أنباء الغيب التي حملت آيات الله كثيرا منها. قوله تعالى: «فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ» . هو ردّ متحدّ لهؤلاء المشركين، الذين يتهمون النبي بالكذب والتقوّل على الله، وذلك بأن يأتوا بحديث مفترى، مثل هذا القرآن، إن كانوا صادقين فى دعواهم تلك.. فإن يفعلوا- ولن يفعلوا- فذلك هو مقطع القول بينهم وبين النبي. قوله تعالى: «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ» . هو انتقال بالقضية التي تتصل بالقرآن، وبمقولاتهم فيه، بعد أن دعاهم إلى التحدّى فلم يقوموا له- انتقال إلى ميدان آخر من ميادين المحاجّة.. فليدعوا هذا القرآن، وليدعوا ما يحدّثهم به النبي منه.. ثم لينظروا فى أنفسهم، وليجيبوا على هذا السؤال: أخلقوا من غير شىء؟ فمن أين إذن جاءوا إلى هذه الدنيا؟ ومن صوّرهم على تلك الصورة التي هم فيها؟ أخلقوا هم أنفسهم؟ أصوروا هذه النّطف التي بدأت بها مسيرتهم فى الحياة فى أرحام أمهاتهم؟ إنه لا جواب إلا الصمت المطبق والوجوم الحائر! قوله تعالى: «أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ.. بَلْ لا يُوقِنُونَ» . وإذا لم يكن لهم أن يقولو إنهم خلقو أنفسهم، فهل لهم أن يقولوا إنهم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 574 خلقوا السموات والأرض؟ ذلك أبعد وأغرب..! وقوله تعالى: «بَلْ لا يُوقِنُونَ» - هو استدراك على سؤال يرد على قوله تعالى: «أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟» وهذا السؤال هو: وهل ينكر المشركون أن الله هو الذي خلق السموات والأرض؟ وكيف والله سبحانه وتعالى يقول عنهم: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ» (9: الزخرف) فكيف يسألون هنا هذا السؤال الذي فيه اتهام لهم بالقول بأن للسموات والأرض خالقا غير الله؟ فكان قوله تعالى: «بَلْ لا يُوقِنُونَ» دافعا لهذا الذي يقع فى الوهم من تعارض بين سؤالهم سؤال المتهم، فى قوله تعالى: «أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ» وبين إقرارهم بما يدفع هذه التهمة عنهم فى قوله تعالى: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ» . (25: لقمان) وذلك أن قوله تعالى: «بَلْ لا يُوقِنُونَ» يكشف عن حقيقة إقرارهم بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض.. فهو إقرار لا يقوم على استدلال وبحث، ونظر.. ومن ثمّ فلا يقع منهم موقع اليقين.. فلم يكن إقرارهم بما أقروا به، إلّا عن قهر واضطرار، إذ لم يجدوا بدّا من التسليم بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض! أمّا هذا الخالق، وقدرته، وعلمه وحكمته وسلطانه، فلم يكن له مفهوم واضح يقوم على إدراك سليم عندهم.. ولو كان هذا الإقرار قائما على إدراك صحيح، وفهم سليم، لكانوا مؤمنين به، مصدقين لرسوله، مؤمنين بآيات الله التي بين يديه.. وهكذا كل قول لا يقوم على علم لا يبعث فى صاحبه يقينا بمفهوم هذا القول، ولا يحدث فى نفسه أثرا يثير وجدانه، ويحرك مشاعره، ويؤثر فى منازعه.. فهذا هو كلام الله، يمسك بالحقائق من أطرافها جميعا: «وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» (82: النساء) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 575 قوله تعالى: «أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ» . سؤال آخر، يسأله المشركون، وهم فى موقف الاتهام بالشرك بالله، وضلالهم الطريق إليه.. والسؤال هنا عمّا يمكن أن يكون لهم من دعوى يدّعونها فيما بين يدى الله من خزائن ملكه، ومن تصرّفه فيما تضم هذه الخزائن من منن وعطايا، ومن رحمة وإحسان. أعندهم مفاتح هذه الخزائن؟ أهم المسيطرون عليها، المتصرفون فيها؟ وإذا لم يكن لهم شىء من هذا، فلم إذن ينكرون على الله أن يمنّ بفضله على من يشاء من عباده؟ ولم إذن ينكرون أن يكون لله سبحانه الخترة فى اصطفاء من يصطفى من خلقه للسفارة بينه وبين الناس؟ ولم يقولون هذا القول المنكر فى النبي.. «أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا؟ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ» ؟ (25: القمر) وكيف تبلغ بهم الجرأة أن يقولوا: «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ؟» وقد رد الله سبحانه قولهم هذا بقوله: «أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟» (31، 32 الزخرف) . قوله تعالى: «أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» . وسؤال اتهام أيضا.. يقال لهم فيه: من أين جئنم بهذه المقولات الباطلة التي تقيمون منها دينا تدينون به، فتجعلون من الملائكة، والجنّ، والنجوم، والكواكب- آلهة تعبدونها من دون الله؟ أمعكم بهذا كتاب من عند الله؟ أم كان لكم سلم وصل بينكم وبين الملأ الأعلى، فتلقّيتم منه هذه المقولات التي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 576 تقولونها؟ إن يكن أحد منكم فعل هذا، فليأت بحجة بين يدى دعواه تلك، وإلّا فهو الكاذب المفترى.. أما من يقول لكم هذا كلام الله أتلوه عليكم، وهذه رسالته أبلغكم إياها، ثم يقدم لكم مع قوله هذا، الدليل الناطق، والحجة الدامغة، فهو الصادق الأمين: «وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» (117: المؤمنون) . قوله تعالى: «أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ؟» . وهذا سؤال اتّهام كذلك، لهؤلاء المشركين: إذا كان قد صحّ لديكم أن الملائكة بنات الله، وأنكم إنما تعبدون بنات الله تقربا إلى الله، ليكونوا شفعاء لكم عنده- فهل نسبتكم البنات إلى الله، مما يتفق مع منطقكم الذي تعيشون به، والذي تقيمون فيه البنات عندكم على ميزان شائل، تخفّ به كفتهم إزاء كفة البنين، بل إنه لا يكاد يقام لهم ميزان أصلا عند كثير منكم؟ أفلا كان يقضى عليكم منطقكم هذا- إذا كنتم تريدون لله توقيرا- أن تجعلوا الملائكة- وقد نسبتموهم إلى الله نسبة بنوة- ذكورا لا أناثا، وبنين، لا بنات؟ وفى هذا يقول سبحانه: «وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى.. لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ» (62: النحل) . قوله تعالى: «أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ» ؟ وتهمة أخرى يسألون جوابهم عنها: ماذا يضيرهم من هذه الدعوة التي يدعوهم الرسول إليها؟ وماذا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 577 يضارّون به من هذه الرحمة المرسلة إليهم؟ أيسألهم الرسول على ذلك أجرا يثقل به كاهلهم، ويجوز على ما فى أيديهم من مال أو متاع؟ إنه لا جواب.. فما سألهم الرسول شيئا من حطام الدنيا، ولا أقام نفسه سلطانا عليهم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ» (86- 87 ص) .. قوله تعالى: «أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ» ؟. أي أعندهم علم من الغيب، فهم يخرجون منه هذه المقولات التي يقولونها، ويجعلون منها دينا يردّون به دين الله الذي يدعوهم الرسول إليه؟ ولا جواب أيضا.. «أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً؟ كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً» (77- 80: مريم) . قوله تعالى: «أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً؟ فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ» .. أي أيريدون بهذا الخلاف على النبي، والتولّى عنه، والتصدي لدعوته- أيريدون بهذا كيدا للنبى، وإساءة إليه؟ إنهم بهذا إنما يكيدون لأنفسهم، ويحرمونها هذا الخير الكثير الممدود إليهم، وإنهم بهذا لهم الخاسرون فى الدنيا والآخرة جميعا.. قوله تعالى: «أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ؟ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ» .. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 578 وإنهم إذا انصرفوا عن دعوة هذا النبي، وعبدوا إلها غير الله الذي يدعوهم إلى عبادته- أهناك إله آخر غير الله يولّون وجوههم إليه؟ سبحان الله، وتعالى، وتنزه، عما يشركون به من آلهة.. قوله تعالى: «وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ» .. هو تهديد لهؤلاء المشركين، ببلاء ينزل عليهم من السماء، التي افتروا عليها، وكذّبوا بآيات الله المنزلة عليهم منها.. فإن السماء التي تتنزل بالهدى والرحمة، يمكن أن تتنزل كذلك بالرجوم والصواعق والمهلكات.. وإنه كما ضل هؤلاء المشركون عن آيات الله، فلم يتبينوا وجه الحق المبين فيها، وحسبوا ما فيها من خير وهدى، أنه شر وبلاء- كذلك اختلط عليهم الأمر فى هذا البلاء النازل عليهم من السماء، فحسبوه خيرا وظنوه رحمة هاطلة، وغيثا مدرارا.. وهكذا تتحول الحقائق عندهم إلى نقائضها.. فالخير يرونه شرا، والشر يحسبونه خيرا.. «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ» (41: المائدة) .. والكشف: - كما يقول الراغب- جمع كسفة، وهى القطعة من السحاب أو القطن، ونحو ذلك من الأجسام المتخلخلة. والمركوم: أي المتراكم، والركام ما يلقى بعضه على بعض.. قوله تعالى: «فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ» .. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 579 وماذا يفعل بأهل الضلال غير أن يتركوا لضلالهم، ولما يؤدّى بهم إليه هذا الضلال من هلاك، مبير وبلاء عظيم، بعد أن جاءتهم النذر، وعرضت عليهم المثلاث، وقامت بين أيديهم الحجج؟ فليتركوا وما تمليه عليهم عقولهم الفاسدة، وأهوؤهم المهلكة.. واليوم الذي يصعقون فيه، هو يوم القيامة، حيث تأخذهم صواعقه، وتغشاهم النار من فوقهم ومن تحت أرجلهم.. قوله تعالى: «يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ» . أي فى هذا اليوم الذي ينتظرهم بالصواعق والعذاب الأليم- فى هذا اليوم، لا يجدون من هذا الكيد الذي يكيدونه للنبى شيئا ينتفعون به، بل إنه سيكون عليهم حسرة ووبالا، حيث لا ناصر لهم ينصرهم من بأس الله، ويدفع عنهم العذاب المحيط بهم. قوله تعالى: «وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» .. هو وعيد لتلك الطّغمة الظالمة الطاغية من هؤلاء المشركين، والذين تولّوا كبر هذا الموقف، الآثم، الذي يقفه المشركون من النبي، ومن آيات الله، التي يتلوها عليهم- فهؤلاء الظالمون الطّاغون، لهم- فوق العذاب الراصد لهم فى الآخرة- عذاب معجّل فى هذه الدنيا، هو ما يلقاهم فى يوم بدر وغيره، من قتل، ومن خزى، ومن حسرة تتقطع الجزء: 14 ¦ الصفحة: 580 لها أكبادهم، حين يرون دين الله وقد علت رايته، وعزّ سلطانه.. وفى قوله تعالى: «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» - إشارة إلى أن أكثر هؤلاء المشركين الظالمين الطاغين، لا يعلمون هذا من أمر دين الله، وأنه ذو سلطان غالب، أمّا قليل منهم، فقد كان يعلم هذه الحقيقة، ويتوقع هزيمة الشرك، وخزى المشركين، ولكنه كان يمسك بشركه، أنفة، وحميّة واستعلاء.. قوله تعالى: «وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ» .. بهذه الآية تختم السورة، داعية النبي إلى أن يصبر على عناد قومه، وما يسوقون من كيد له.. فهذا موقف أراده الله وقضى به، ليبتلى به ما فى الصدور، وليمحّص ما فى القلوب، وليجزى المؤمنين منه جزاء حسنا.. واللام فى قوله تعالى: «لِحُكْمِ رَبِّكَ» هى لام العاقبة، أي اصبر إلى أن يحكم الله بينك وبين قومك، وإنه لحكم ينتصر فيه الحق على الباطل، وتعلو فيه كلمة المحقّين على المبطلين.. وقوله تعالى «فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا» تطمين لقلب النبي الكريم، وأنه ملحوظ بعين الله سبحانه وتعالى، محفوف بعنايته.. ترعاه عين الله وتحرسه. وقوله تعالى: «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ» دعوة للنبى أن يذكر ربه، ويسبح بحمده على هذه الرعاية الربانية التي يفيضها الله الجزء: 14 ¦ الصفحة: 581 سبحانه وتعالى عليه.. والمراد بقوله تعالى: «حِينَ تَقُومُ» أي حين تقوم مقامك بين الناس فى الحياة، وذلك من أول النهار- إلى آخره.. وبقوله تعالى: «وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ» أي ومن بعض الليل، فسبح بحمد ربك.. وبقوله: «وَإِدْبارَ النُّجُومِ» أي مطلع الفجر، بعد أن يغلب ضوءه أضواء النجوم، فتولى النجوم أدبارها، منهزمة أمام هذا الضوء الذي يغزوها بجيشه الزاحف الذي لا يهزم.. هذا، ويدخل فى هذا التسبيح بحمد الله فى تلك الأوقات- الصلوات الخمس المفروضة.. فيدخل فى قوله تعالى: «حِينَ تَقُومُ» صلاة النهار، وهى الظهر والعصر، وفى قوله تعالى: «وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ» - صلاة المغرب والعشاء وفى قوله تعالى: «وَإِدْبارَ النُّجُومِ» صلاة الصبح.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 582 53- سورة النجم نزولها: مكية باتفاق.. عدد آياتها: اثنتان وستون آية.. عدد كلماتها: ثلاثمائة وستون كلمة.. عدد حروفها: ألف وأربعمائة وخمسون حرفا. مناسبتها لما قبلها كانت سورة الطور مواجهة صريحة بالاتهام للمشركين، بمفترياتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبمقولاتهم الآثمة فيه، وبأنه شاعر يتربصون به ريب المنون، وأنهم لهذا لا يقبلون ما يدعوهم إليه من هدى، يطالعهم به فى آيات الله التي يتلوها عليهم، وأنهم لهذا أيضا، متمسكون بما معهم من أباطيل وضلالات يدينون بها، ويقيمون حياتهم الروحية عليها.. وقد ووجهوا بهذه الضلالات، وضبطوا متلبسين بها، وسئلوا عن المصدر الذي تلقوها منه- فلم يكن لهم هناك جواب إلا الحيرة والوجوم.. وجاءت سورة النجم تعقيبا على هذا الموقف الذي جمد فيه المشركون، وخرسوا أمام هذه التهم التي تلبسوا بها، وفى أعينهم نظرات زائغة.. يرمون بها هنا وهناك ليجدوا مخرجا من هذا المأزق الحرج الذي هم فيه.. وفى هذا التعقيب يعرض على المشركين الوجه الذي ينبغى أن يسلكوه، إن هم أرادوا الخروج من هذه الحيرة التي لبستهم.. ومن جهة أخرى، فإن سورة الطور، قد ختمت بقوله تعالى: «وَمِنَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 583 اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ» على حين بدئت سورة النجم بالقسم بواحد من هذه النجوم، التي أدبرت مع ضوء الصبح الوليد.. فكان هناك أكثر من مناسبة جمعت بين السورتين.. بسم الله الرحمن الرحيم الآيات: (1- 18) [سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 18] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18) التفسير: قوله تعالى: «وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى» .. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 584 الواو: للقسم.. والنجم: مقسم به من الله سبحانه وتعالى: والواقع عليه القسم، هو قوله تعالى: «ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى.. الآيات» .. وقد اختلف فى المراد بالنجم، فقيل هو ما ينزل من القرآن منجّما، وقيل هو الرسول، وقيل هو جنس النجم، الشامل لجميع نجوم السماء، وقيل هو الشعرى اليمانية.. واختلف كذلك فى معنى «هوى» فقيل بمعنى سقط، رجوما للشياطين، أو تناثر، وذلك يوم القيامة، وقيل «هوى» بمعنى غرب، أو بمعنى طلع ... والذي نراه- والله أعلم- أن المراد بالنجم هو النجم القطبي، الذي يهتدى به السائرون ليلا فى البرّ، وفى البحر، وهو يأخذ دائما اتجاه الشمال.. وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: «وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16: النحل) .. فهذا النجم- والله أعلم- هو النجم الذي أقسم الله سبحانه وتعالى به.. والذي نراه- والله أعلم- فى قوله تعالى: «هَوى» أن معناه، أفل، واختفى، فى ضوء الصبح المشرق.. وهو المناسب لقوله تعالى فى آخر سورة «الطور» : «وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ، وَإِدْبارَ النُّجُومِ» . واختصاص هذا النجم من بين نجوم السماء، بالذكر، لأنه من أضوأ نجوم السماء، ومن أكثرها صلة بحياة الناس، وهداية لهم فى السير، فى ظلمات البر والبحر.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 585 وفى القسم بالنجم فى حال هوّيه، وأفوله، ووقوع هذا القسم على النبي وأنه ما ضلّ وما غوى، كما يرى ذلك المشركون الضالون- فى هذا إشارة إلى أمور: أولها: أن ظهور النبي- صلوات الله وسلامه عليه- كان فى ظلمة ليل بهيم، أطبق على العالم كله، وأناخ بكلكله على الجزيرة العربية وأهلها، وأن ظهوره هذا، كان أشبه بالنجم القطبي، الذي يرى منه المدلجون فى الليل هاديا، إذا هم رفعوا رءوسهم إلى السماء، ومدوّا أبصارهم إليه.. وثانيها: أن هذا النجم السماوي البشرى، المثل فى النبي، والنور الذي معه- لم يهتد به، فى الدور المكىّ من الدعوة، وإلى وقت نزول هذه السورة- إلا أعداد قليلة من الناس، هم الذين رفعوا رءوسهم إليه، وطلبو الهدى منه.. أما الكثيرة الكثيرة من المشركين، فقد كانوا فى نوم عميق، تطرقهم فيه رؤى الأوهام، وأضغاث الأحلام!! وأن هذا النجم الهادي يوشك أن يغرب عن أفقهم، ويفوتهم الاهتداء به، والتعرف على الوجه الصحيح الذي يسلكونه على درب الحياة. وثالثها: أن هذا النجم القطبي- وإن غاب عن الأعين- فإنه فى حقيقته قائم فى مقامه العالي، حيث هو.. هكذا يراه أهل العلم.. وكذلك الرسول صلوات الله وسلامه عليه- وإن غاب شخصه عن أعين الناس، فإنه قائم فى مقامه المكين، من قلوب المؤمنين أبدا الدهر. ورابعها: أن النبي الكريم، وإن ظهر فى أول أمره نجما، لا تكتحل بضوئه إلا العيون التي تطلبه، فإن أمره بعد هذا سيعظم، ويتحول إلى صبح مشرق، يملأ العيون، وينعش النفوس، ويوقظ الأحياء.. ثم لا يلبث هذا النبي أن يطلع شمسا ينفذ شعاعها إلى الكائنات، فيلبس المؤمنون به، المتعرضون الجزء: 14 ¦ الصفحة: 586 لضوئه، حللا من النور، والجلال، على حين تنجحر من ضوئه الهوام والحشرات، وتقتل تحت ضربات أشعته «الفيروسات» والجراثيم.. وخامسها: أن هؤلاء المشركين، الذين لم يهتدوا بضوء النبي «نجما» ثم لم ينتظموا فى ركبه «صبحا» ثم لم يستقبلوا ضوءه «شمسا» - هؤلاء المشركون لن يكون مصيرهم إلا كمصير هذه الجراثيم، تموت تحت ضربات الشمس. أو كهذه الهوام والحشرات، لا يرى لها وجه ما دام هذا الضوء قائما.. وقد كان، فإن كثيرا من المشركين الذين عاصروا النبوة ماتوا ميتة الجراثيم، وكثير منهم انجحر بين أربعة جدران من بيته إلى أن مات حسرة وكمدا، دون أن يشعر به أحد! وقوله تعالى: «ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى» - هو المقسم عليه من رب العزّة جلّ وعلا، وهو تبرئة لمقام النبىّ الكريم أن يكون بمظنة سوء، أو بموضع تهمة، فهو صلوات الله وسلامه عليه، كما شاء له ربه أن يكون، وكما عرف ذلك منه قومه معرفة عيان وابتلاء- هو الصادق الأمين، الذي لم تجرب عليه كذبة قط ولم يعرف عنه- ولو على سبيل الكذب والافتراء عليه- أنه خان أمانة، أو أخلف وعدا، أو نقض عهدا، ولهذا كان عند قومه يدعى الصادق الأمين.. والضلال: ضد الهدى، ويكون غالبا عن جهل.. والغىّ، ضد الرشاد، ويكون غالبا عن اتباع الهوى.. وفى مخاطبة قريش بقوله تعالى: «صاحِبُكُمْ» - إشارة إلى تلك الصحبة الطويلة التي صحب فيها النبىّ قومه قبل البعثة، وإلى ما عرفوا منه خلال تلك الصحبة من أمانة، وصدق، واستقامة، ونبل، وسداد رأى، ورجاحة عقل، حتى نزل من قلوبهم جميعا منزلة الصاحب من قلب صاحبه.. فكيف تتبدل حالهم معه، بعد أن جاوز الأربعين؟ وكيف ينكرون عليه ما جاءهم به دون أن ينظروا فيه بعقولهم، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 587 ويقفوا طويلا عنده، قبل المسارعة بهذا الاتهام من غير تدبر أو نظر؟ .. وقد كان يمكن أن يكون لهذا الإنكار الذي استقبلوا به دعوة النبي- وجه من العذر، لو كان النبي طارئا عليهم، غير معروف لهم، أو كان موضع تهمة عندهم من قبل.. وأما وللنبى فيهم مقام كريم، ومعاشرة طويلة، قائمة على الإكبار والإجلال والتعظيم- فإن المبادأة بهذا الاتهام مما لا يستقيم على منطق أبدا، ولا يقوم له وجه من العذر بحال أبدا.. وقوله تعالى: «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى» - هو معطوف على المقسم عليه، وهو قوله تعالى: «ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى» - أي وما ينطق بما نطق به، عن هوى يترضّى به شهوة من شهوات النفس، أو يتصيد به مطلبا من مطالب الحياة. وقوله تعالى: «إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى» .. أي ما هذا الذي ينطق به صاحبكم هذا، إلا وحي يوحى إليه من ربه، وليس عن هوى متسلط عليه من أهواء النفس.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ» (16: يونس) .. وقوله تعالى: «عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى..» الضمير فى «علمه» بعود إلى جبريل عليه السلام- أمين الوحى، وسفير السماء إليه، برسالة ربه، وبكلماته.. وأنه هو الذي أوحى إلى الرسول بهذا العلم الذي تنكرون على «محمد» ما يتلوه عليكم منه.. ومن صفات جبريل- عليه السلام- أنه «شديد القوى» أي قوىّ أمين الجزء: 14 ¦ الصفحة: 588 حافظ لما يحمل من رسالات الله سبحانه وتعالى إلى رسله، كما يقول سبحانه: «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ» (19- 21: التكوير) .. ومن صفات جبريل كذلك أنه «ذو مرّة» أي جلد وصبر، وقدرة على حمل هذه الأمانة التي كلّف بحملها.. وإنها لأمانة ثقيلة أبت السماء والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها. وقوله تعالى: «فاستوى» - الفاء هنا للتفريع.. أي أن جبريل بهذه الصفات التي أقام الله سبحانه وتعالى خلقه عليها، قد «استوى» أي استوفى الصفات التي تؤهله لهذه الوظيفة، والتي تمكنه من القيام بها على الوجه الأكمل.. وقوله تعالى: «وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى» - هو معطوف على ما قبله، وهو صفة من صفات جبريل، عليه السلام، تشير إلى العالم العلوي، الذي يعيش فيه.. أي أنه ملك سماوى، وليس من هذا العالم الأرضى.. وهذا الذي ذهبنا إليه، فى تأويل هذه الآيات الثلاث، أولى- فى رأينا- مما ذهب إليه المفسرون من جعل قوله تعالى: «وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى» جملة حالية، من الفاعل فى قوله تعالى: «فاستوى» بمعنى «فاستوى» أي جبريل حالة كونه «بِالْأُفُقِ الْأَعْلى» أي أنه عرض نفسه وهو بالأفق الأعلى، فى صورته التي خلقه الله عليها، لا فى تلك الصور التي يمكن أن يتشكل فيها، حسب مقتضيات الأحوال، كأن يكون فى صورة بشرية، من تلك الصور التي كان يلقى بها النبي فى بعض الأحيان.. ويذهب المفسرون فى هذا إلى أن تلك الصورة الذاتية لجبريل، إنما كانت له عند ما جاء إلى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- فى مفتتح الرسالة فى غار «ثور» الذي كان يتعبد فيه، قبل البعثة وأن جبريل- عليه السلام- لقيه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 589 يومئذ فى صورته الكاملة التي له، والتي ظهر فيها- كما يقول المفسرون- بستمائة جناح له، الأمر الذي كان داعية إلى هذا الفزع والاضطراب الذي ملأ كيان النبي يومئذ..! وهذا الذي ذهب إليه المفسرون، على ما فيه من تكلف ظاهر فى التأويل- هو- من جهة أخرى- بعيد عن منطق الحكمة فى اتصال النبي بالسماء، حيث يطلع عليه منها فى أول لقاء معها، هذا الهول المفزع الذي لا يمكن أن يكون أبدا مدخلا حكيما إلى قيام صلة وثيقة بين السماء وبين النبي المتلقى لرسالة السماء منها.. فتعالت حكمة الله سبحانه وتعالى عن هذا، علوا كبيرا.. ولعل الأقرب والأوفق، فى هذا المقام، أن يجىء جبريل إلى النبي فى أول لقاء له معه، فى صورة بشرية، أو أقرب إلى البشرية.. فهكذا يقتضى المنهج الحكيم، فى التربية والتعليم، وذلك بالتدرج من السهل إلى الصعب. وهكذا جاءت ملائكة السماء إلى إبراهيم كما يقول سبحانه: «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ» فقد جاءوا إليه فى صورة بشرية كاملة.. كما جاءوا إلى لوط فى تلك الصورة البشرية نفسها، إذ يقول عنهم مخاطبا قومه.. «إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي.. فَلا تَفْضَحُونِ» (68: الحجر) .. وهكذا جاء رسول السماء إلى «مريم» كما يقول: «فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا» .. (17: مريم) وأحسب أن الذي حمل المفسرين على هذا التأويل المتكلّف، هو رأيهم فى فواصل الآيات القرآنية، وأنها قد نجىء لمراعاة النظم.. ولو أنهم، نظروا إلى الإعجاز القرآنى، الذي لا تحكمه ضرورة «القافية» التي قد تحكم الشعر- لو أنهم نظروا إلى هذا، لجعلوا قوله تعالى: «فاستوى» - هو فاصلة الآية، التي يقتضيها المعنى ويتم بها، ولكان الوقوف عندها الجزء: 14 ¦ الصفحة: 590 مستوفيا المعنى المراد، ولما جعلوا الآية التي بعدها تتمة لها، وإنما هى كلام مستأنف، يخبر به عن المكان الذي يكون فيه جبريل، وهو الأفق الأعلى.. قوله تعالى: «ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى» .. الحديث هنا عن جبريل- عليه السلام- وهو يحمل كلمات الله، إلى رسول الله.. إنه «دنا» أي قرب من النبي، «فتدلّى» أي قرب أكثر فأكثر، شيئا فشيئا، فى لطف، ورفق.. فهو إذ يأخذ طريقه إلى النبي، ينطلق انطلاقا بكل قوته، حتى إذا دنا من النبىّ، تخفّف من سرعته شيئا فشيئا، حتى يلتقى به، ويكون منه «قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى» .. فيصافحه فى رفق ولطف، شأن الطائر حين يهوى من الجو إلى الأرض فى سرعة خاطفة، فإذا دنا من الأرض خفف من سرعته شيئا فشيئا حتى يلامس سطحها.. وقاب القوس: المسافة ما بين مقبض القوس ووتره، وذلك حين يشدّ القوس لإطلاق السهام منه، فيكون أشبه بنصف دائرة.. وهذا- والله أعلم- هو السر فى تشبيه التقاء جبريل بالنبي، حيث يكون كل منهما أشبه بقوس مشدود مهيّا للرماية، يقف كل منهما فى مواجهة صاحبه، مشدودا إليه، حتى يتماسا عند نهاية القاب، الذي يبدأ من مركز الدائرة إلى محيطها. ومن جهة أخرى.. فإن القوس، فى حال شدّة، يكون متوترا واقعا تحت قوة مؤثرة، تشده شداّ عنيفا.. وكذلك شأن كلّ من جبريل، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 591 والنبي فى حال التقائهما.. إنهما يتجاذبان جذبا قويا.. فجبريل يجذب نفسه إلى حال بشريّة، والنبي يجذب نفسه إلى جهة الملائكة. وهكذا يظلان يتجاذبان، وقتا معا، حتى يتماسا، كما يتماس وترا القوسين المشدودين، المواجه كل منهما للآخر، وهنا يتم اللقاء والتجاوب بينهما.. والعطف بالحرف: «أو» فى قوله تعالى: «فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى» - ليس للشكّ فى الحكم الواقع على ما بين القوسين من قرب وتلاحم، وإنما هو لتأكيد هذا القرب، وأنه بالنسبة لمن يرونه تختلف عليهم رؤيته، فيراه بعضهم قاب قوسين، ويراه بعضهم أدنى وأقرب من ذلك.. وفى قوله تعالى: «فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى» إشارة إلى ما يقع فى هذا اللقاء بين جبريل والنبي، وهو أن جبريل يوحى إلى النبىّ، ما أمره الله سبحانه وتعالى بوحيه إليه من آيات الله وكلماته.. وفى قوله تعالى: «عبده» بإضافة النبي الكريم- بصفة العبودية إلى ربه- فى هذا تكريم للنبى الكريم، وإضافة له إلى رب العالمين، الذي ربّاه، وأحسن إليه، وعلمه ما لم يكن يعلم.. وفى قوله تعالى: «ما أَوْحى» بتجهيل هذا الذي أوحى إلى النبي- تفخيم لهذا الموحى به، وأنه مما يجلّ عن الوصف، ومما لا تحصره الأوصاف.. فقل فيه ما تشاء من أوصاف الكمال والجلال، فإنك لن تبالغ صفته.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 592 قوله تعالى: «ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى» . أي ما كذب «الفؤاد» أي القلب، فيما رأى وعاين، مما يتلقى من آيات الله.. وفى التعبير عن العلم الذي وقع فى قلب النبي من هذا الذي ألقاه جبريل إليه- فى التعبير عن هذا العلم، بالرؤية- إشارة إلى أنه علم «محقق» يراه القلب، فى جلاء ووضوح، أشبه بما ترى العين الباصرة من مبصرات.. وهذا التلقّى عن طريق «الفؤاد» أي القلب- هو ما يشير إليه قوله تعالى: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» (193- 195: الشعراء) . والذي نزل به الروح الأمين «جبريل» على النبي، هو كلمات الله، وأنها نزلت بلسان عربى مبين، ولم تنزل معانىّ مجردة، صاغها النبي صياغة باللغة العربية كما يتخرص بذلك المتخرصون، الذين يقولون إن القرآن قسمة مشتركة بين الوحى وبين النبي.. فالموحى به إلى النبي هو المعنى الذي يقع فى قلب النبي، وأما اللفظ الذي يتشكل فيه هذا المعنى، فهى من النبي.. وهذا ما يكذّبه قوله تعالى: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» فقوله تعالى: «بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» متعلق بقوله تعالى «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ» - أي نزل به بلسان عربىّ مبين وقد عقدنا لذلك مبحثا خالصا فى هذا التفسير، تحت عنوان: كلمات الله وكيف تلقاها النبي «1» . قوله تعالى: «أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى» .   (1) انظر التفسير القرآنى للقرآن.. عند تفسير قوله تعالى «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» ص 156 من الكتاب العاشر الجزء: 14 ¦ الصفحة: 593 المماراة، المجادلة، والبهت، والتكذيب. والآية تحمل استفهاما إنكاريّا، ينكر على المشركين مماراتهم للنبى، وجدلهم له، فيما رأى من آيات ربه مما لم يروه.. إنه شاهد وهم غائبون، وهو مبصر، وهم لا يبصرون.. فكيف يجادل الغائب فيما يخبر به الشاهد؟ وكيف يكون للأعمى حجة يحاجّ بها ما يراه المبصر؟ [المعراج.. وما يقال فيه] قوله تعالى: «وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى» . هو تعقيب على مماراة المشركين للنبى وتكذيبهم له، لما يتلوه عليهم، ويقول لهم عنه، إنه كلمات الله، وآياته، تلقاها وحيا من ربه، على لسان أمين الوحى، ورسول السماء، جبريل، عليه السلام. وإنهم إذ يمارون فى أن تتدلىّ ملائكة السماء إلى الأرض، وأن تخالط إنسانا من الناس، وتلقى إليه بكلمات الله- إنهم إذ يمارون فى هذا ويستكثرونه، ألا فليسمعوا ما هو أغرب وأعجب!! إن هذا النبي الذي يستكثرون عليه أن يكون على صلة بالسماء، وأن يتنزل عليه ملك من عند الله- هذا النبي هو الذي قد دعى إلى السماء، وهو الذي أصعد إلى الملأ الأعلى، فى موكب عظيم، تحفّ به الملائكة، ويحدو ركبه الأمين جبريل، وأنه مازال يصعد بركبه المبارك الميمون المهيب، حتى بلغ سدرة المنتهى، وهو غاية ما تنتهى إليه الطاقة البشرية، فى أعلى منازلها. والسدرة، واحدة السدر، وهو شجر النبق، وهو من أشجار البادية، دائم الخضرة، كثير الفروع، ممتدّ الظلال. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 594 واختيار شجرة السدر، للدلالة على النهاية التي لا يتجاوزها مخلوق من العالم العلوي- لأن شجر السدر شجر صحراوىّ، ينبت على حافة الصحراء، بين البادية والحاضرة، فهو بهذا أمارة من أمارات البادية التي تكاد تماسّ الحياة الحضرية، وتقف على عتبتها، دون أن تتجاوزها إلى ما وراءها.. إنها أقوى، وأقدر نبت أصيل من نبات البادية، يستطيع أن يمتد فيصل إلى مشارف العالم الحضري. أما النخل- فإنه وإن كان من نبت الصحراء، إلا أنه لا ظلّ له، يجتمع الناس تحته.، كما هو الشأن فى شجر السّدر. وأما العنب والرمان، ونحوها، فإنها من نبات الحضارة أصلا، ثم استجلبت إلى البادية. وعلى هذا، فإن شجرة السدر هنا تشير- والله أعلم- إلى نقطة التقاء بين عالمين عالم «البشر» الذي تتحرك فيه البشرية جميعها، والتي تستطيع بما يمدها الله سبحانه وتعالى من فضله أن تصعد فى هذا العالم حتى تبلغ سدرة المنتهى، ممثلة به فى خاتم النبيين، محمد، صلوات الله وسلامه عليه، وعالم الملائكة المقربين، الذين جعل الله لهم وراء سدرة المنتهى مجالا آخر. ينطلقون فيه، ومنهم جبريل عليه السلام. والضمير فى قوله تعالى: «وَلَقَدْ رَآهُ» يراد به النبي- صلوات الله وسلامه عليه- أي أن النبي رأى جبريل نزلة أخرى، وهو فى الملأ الأعلى عند سدرة المنتهى. وفى قوله تعالى: «نَزْلَةً أُخْرى» - إشارة إلى أن جبريل- عليه السلام- نزل نزلة أخرى فى العالم العلوي، غير تلك النزلة التي ينزلها إلى العالم الأرضى. وإنه التقى برسول الله عند سدرة المنتهى، التي عندها جنة المأوى.. وهذا يعنى أن جبريل عليه السلام نزل من العالم العلوي، مما فوق سدرة المنتهى، حتى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 595 بلغ سدرة المنتهى.. حيث كان بينه وبين النبي لقاء فى هذا العالم العلوىّ، الذي يفيض بجلال النور، وبهائه، مما لا تدرك العقول كنهه، ولا يقع فى الخيال تصوره. وقوله تعالى: «إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى» . «إذ» ظرف يكشف عن الحال التي تم فيها لقاء النبي مع جبريل، عليهما السلام، عند سدرة المنتهى، فقد غشى هذه السدرة، ما غشّاها، ولبسها من الروعة والجلال ما لبسها، مما لا تدركه العقول، ولا تناله الأفهام. وقوله تعالى «ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى» - المراد بالبصر هنا، بصر النبي صلوات الله وسلامه عليه، وأن رؤيته للحقائق التي عرضت له فى هذا المقام العظيم، كانت رؤية محققة، موثّقة، لم يدخل عليها زبغ أو انحراف، عن القصد، أو طغيان، أي مجاوزة، عن الحق، فلم تخلط حقيقة بحقيقة، بل وقع كل شىء موقعه فى عين الرسول الكريم، وفى قلبه. وقوله تعالى: «لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى» . الضمير فى «رأى» للرسول الكريم، وأنه قد رأى فى تصعيده فى الملأ الأعلى آيات كبرى من آيات ربه، مما لم يقع لبشر غيره. ووصف الآيات بأنها كبرى، منظور فيه إلى تقدير المخلوقات.. أما آيات الله سبحانه وتعالى، فهى جميعها على وصف واحد، وأن أيّا منها هو الكمال كله، والجلال جميعه، ومثل هذا قوله تعالى لموسى- عليه السلام- «لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى» . هذا ما نراه فى «المعراج» على ضوء آيات الله.. وفيها نرى أن معراج الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- إلى الملأ الأعلى، كان استكمالا لتلك الرحلة الروحية، التي أرادها الله سبحانه وتعالى لنبيه الكريم ليلة الإسراء، وأن النبي الكريم قطع المرحلة الأولى من الرحلة فى العالم الأرضى، بين المسجد الحرام، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 596 والمسجد الأقصى، وأن هذه الرحلة كانت أشبه بمقدّمة لما هو مقدم عليه، صلوات الله وسلامه عليه، من العروج إلى العالم العلوي، حتى إذا أنست روحه، واطمأن قلبه، أخذ طريقه إلى الملأ الأعلى مصعّدا، حتى بلغ سدرة المنتهى! وهى غاية ما يمكن أن تحتمله البشرية فى الذروة العليا من مراتب كمالها. أما تلك الإضافات، وهذه الذيول، التي تتجاوز هذا المفهوم لآيات الله، والتي تحكى عن تلك الرحلة الروحية ما تحكى من غرائب وأعاجيب- فهى فى رأينا- مما لا يعوّل عليه. وقد عرضنا لهذا الموضوع فى بحث خاص، عند تفسيرنا لقوله تعالى: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» . فلينظر هناك «1» . الآيات: (19- 30) [سورة النجم (53) : الآيات 19 الى 30] أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30)   (1) انظر: التفسير القرآنى للقرآن- الكتاب الثامن ص 409. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 597 التفسير: قوله تعالى: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى» مناسبة هذه الآية وما بعدها للآيات التي قبلها، هى أنها تعقيب عليها، وسؤال بعد سؤال، للسخرية بالمشركين، والاستخفاف بعقولهم التي تتجاوب مع هذه الدّمى التي يعبدونها من دون الله.. فلقد كانت الآية السابقة على هذه الآيات، معرضا لما لرسول الله من مقام كريم عند ربه، وأنه إذ يتلقّى رحمات السّماء وآيات الله المنزّلة عليه، على يد ملك كريم مرسل من عند الله- فإن ذلك- على جلاله وعظمته- ليس هو كلّ ماله عند ربّه من فضل وإحسان، بل إن الله سبحانه قد دعاه إلى ملكوت السموات، وأنزله فى ضيافة كرمه وإحسانه، حيث يتناول بيده عطايا ربّه، من حيث يتناولها جبريل عليه السلام.. وإنه قد رأى بعينه ما كان يلقيه جبريل فى قلبه من تلك الآيات.. ثم عادت الآيات لتقول للمشركين، فى سخرية واستهزاء: هذا ما رأى محمد من آيات ربه الكبرى.. فماذا رأيتم أنتم أيها الضالون المكذبون؟ «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى؟» أفليس هذا هو كلّ ما رأيتم؟ أفليس هذا هو مبلغكم من العلم؟ ثم ما هذا الذي رأيتموه؟ أهو شىء يقف الجزء: 14 ¦ الصفحة: 598 عنده عاقل، ويشغل به قلبه وعقله؟ وماذا يجد العقل فى حجر من بين تلك الأحجار التي تسدّ الأفق من حولهم؟ وماذا يجد العقل فى شجرة من تلك الأشجار النابتة فى صدر الصحراء؟ والرؤية هنا رؤية بصرية، لا قلبية علمية، كما يرى ذلك أكثر المفسّرين، الذين يطلبون للفعل مفعولا ثانيا محذوفا، ويقدرونه هكذا: أفرأيتم هذه المسميات بنات الله آلهة تعبدونها من دونه؟ وهذا تكلف يفسد المعنى.. فإن سؤالهم هنا عما يرونه واقعا تحت أبصارهم فى مواجهة ما رأى النبي ببصره من آيات ربّه الكبرى.. فهذه هى مواقع أبصارهم وما تراه، وهذا هو موقع بصر النبي وما رآه.. وشتان بين موقع وموقع، وبين ما يرى على تراب الأرض، وما يرى فى عالم الحقّ، ومطالع النور..!! واللات: صخرة كانت لثقيف.. اتخذت منها صنما تعبده. والعزّى: معبود من معبودات قريش. ومناة: معبود من معبودات قريش أيضا.. وفى وصف «مناة» بالأخرى تشنيع عليها، وعلى ما عطفت عليه من أصنام قبلها.. إنها شرّ يضاف إلى شر، وبلاء يجتمع إلى بلاء، وسخف يلتقى مع سخف.. وليس قوله تعالى: «الأخرى» نعتا للعزّى، كما يقول بذلك أكثر المفسرين، وأن هذا الوصف أخّر رعاية للفاصلة، على تقدير: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى» . وذلك حسب تقدير المفسّرين، أن الأخرى إنما تجىء وصفا للثانية، لا الثالثة من هذه الدّمى المعبودات. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 599 وهذا تعليل مردود من وجوه: فأولا: أن الفاصلة- كما قلنا- فى أكثر من مرة- لا ينظر إليها فى القرآن الكريم من وراء المعنى، فهى تبع للمعنى، وليس المعنى تبعا لها.. وثانيا: أن «الأخرى» جاءت هنا وصفا لمناة، بعد وصفها بأنها الثالثة.. فهى وصف متعيّن لها دون غيرها، وإحالته إلى غيرها تبديل لكلمات الله.. وثالثا: أن وصف مناة بالأخرى، بعد وصفها بأنها الثالثة، ليس مرادا به آخر المعبودات التي تقع تحت أبصار المشركين، بل هناك غيرها كثير.. وإنما المراد بهذا الوصف استثقال هذه المسميات، وقطع الحديث عما لم يذكر منها، وأن مناة هى آخر ما يذكر من هذه الشناعات، التي تتأذى بسماعها النفوس! إنها ثالثة الأثافىّ، أو ثالثة الهموم، وإن النفس لتضيق بهمّ واحد، فكيف بهمّ، وثان، وثالث؟ ولو كان همّا واحدا لاحتملته ولكنه همّ وثان وثالث! قوله تعالى: «أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى؟ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى!» هو استفهام إنكارى، ينكر على المشركين ضلالهم فى أسماء هذه المسميات بعد أن أنكر عليهم المسميات ذاتها.. فهى ذاتها مسميات باطلة، والأسماء التي ركبت عليها أسماء باطلة كذلك، إذا أطلقوا عليها أسماء مؤنثة-، وجعلوها من عالم الإناث.. وهى فى حقيقتها ليست ذكورا، ولا إناثا، لأنها من عالم الجماد، الذي يقبل من الأسماء ما كان على لفظ المذكر أو المؤنث.. فلماذا اختاروا لمعبوداتهم جميعها أسماء مؤنثة؟ ولم لم يجعلوها مذكرة؟ ولم لم يجعلوا بعضها مؤنثا وبعضها مذكرا؟ إن ذلك كلّه لا يغير من حقيقتها شيئا.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 600 فالبيت من الوبر، أو الشعر، يسمّى خباء، ويسمى خيمة.. وهو هو بيت من الوبر أو الشعر..! وهكذا كل جماد، قابل لأن يوضع له لفظ مذكر أو مؤنث، للدلالة عليه، وهو فى كل حال ليس مذكرا ولا مؤنثا! وفى هذا تسفيه لأحلام هؤلاء المشركين، وأنهم يتخذون من هذه الدّمى كائنات حية يلبسونها ثوب الإناث، ويناجونها مناجاة الأطفال للّعب التي يتخذونها من الخشب ونحوه، ثم يطلقون عليها أسماء ذوات حية، ينطقونها، ويتناجون معها، كما يتناجى الأطفال مع لعبهم من عرائس، وخيل ونحوها! ومن جهة أخرى، فإن هذه الدّمى التي يتخذها المشركون آلهة يعبدونها من دون الله، هى عندهم تماثيل لبعض الملائكة، الذين هم فى اعتقادهم بنات الله، وأنهم جميعا أناس ليس فيهم ذكور أبدا.. وقوله تعالى: «أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى؟» هو سؤال يكشف عن سفه هؤلاء المشركين وحمقهم، حتى فى مجال هذا العبث الذي هم فيه.. إذ كيف يسوّغ لهم هذا البعث أن يتخذوا من الجماد صورا للملائكة؟ ثم يجعلون الملائكة بنات ينسبون بنوتها إلى الله، ثم يعبدونها تقربا إليه بها؟ أما كان الأولى بهم- وهم فى مقام التقريب إلى الله- أن يجعلوا ما ينسبون له من ذرية- أن يكون من الذكور، الذين هم عندهم فى مقام الحب والإعزاز، لا من الإناث الذين يسوءهم أن يولد منهن مولودة لأحد منهم؟. «وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ» سفها، وضلالا.. وقوله تعالى: «تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى» - هو تعقيب على قوله تعالى: «أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى» .. وهو حكم واقع على فعلهم هذا فى نسبة البنات إلى الله، على حين يجعلون الذكور مطلبا لهم، ومبتغّى يبتغونه.. وهذا جور الجزء: 14 ¦ الصفحة: 601 فى القسمة بينهم وبين الله، حتى فى حكم هذا المنطق الضالّ الذي يملى عليهم هذه التصورات الفاسدة.. أفلا يجعلون الله مساويا لهم، فيكون له من الذرية- حسب منطقهم- بنين وبنات، كما أن لهم بنين وبنات؟ والله سبحانه وتعالى يقول: «أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً؟ إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً» (40: الإسراء) . والقسمة الضيزى: هى القسمة الجائرة، التي تنقلب فيها موازين العدل رأسا على عقب. وكلمة «ضيزى» فى غنّى عن تفسير مدلولها، فهى فى بنائها وتركيبها من هذه الحروف الثقيلة، المتنافرة التي تجمع بين الضاد والزاى- تحكى عن صورة من الخلط والتخبط والجمع بين المتضادات، والمتنافرات، مما لا يقع إلا من المجانين والصرعى..! قوله تعالى: «إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ» . أي هذه المعبودات التي تطلقون عليها هذه الأسماء، ليست إلا مجرد أسماء ليس وراءها شىء يمكن أن ينتفع به، وأن هذه الأسماء هى من ضلالات آبائكم، وقد ورثتموها عنهم، كما ورثتم جهلهم وسفههم. قوله تعالى: «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى» . أي ما يتبع هؤلاء المشركون إلا ما تفيض به ظنونهم الفاسدة، وما تمليه عليهم أهواء أنفسهم المريضة. وفى قوله تعالى: «وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى» تسفيه، وتنديد بهؤلاء المشركين الجزء: 14 ¦ الصفحة: 602 الذين يتبعون الظنون الباطلة، والأهواء الفاسدة، ويتخبطون فى عمّى وضلال، فى الحال التي يقوم فيها بين أيديهم آيات بينات من ربهم، لو استقاموا عليها لاهتدوا ورشدوا.. إن الضالّ، له عذره إذا ضل، وليس بين يديه معلم من معالم الهدى أما أن يضل، وكل معالم الهدى بين يديه، فهو الملوم المذموم بكل منطق وبكل لسان!! قوله تعالى: «أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى؟ فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى» . المراد بالاستفهام هنا النفي. أي أنه ليس للإنسان أن ينال كل ما تمنّيه به نفسه، ويدعوه إليه هواه.. وخاصة إذا كانت هذه الأمانى صادرة من عقول سقيمة، ونفوس مريضة، كتلك العقول، وهذه النفوس، التي يعيش بها هؤلاء المشركون. فالمراد بالإنسان هنا، هو ذلك الإنسان الذي يقيم حياته على أوهام، وضلالات، ثم ينتظر الخير من وراء هذه الأوهام وتلك الضلالات. وقوله تعالى: «فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى» - إشارة إلى أن الإنسان- أىّ إنسان- لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا، فى الدنيا، أو الآخرة.. فالله سبحانه وتعالى يملك الأمر كله، لا شريك له.. وأن من أراد أن ينال الخير فى الدنيا والآخرة، فليطلب ذلك من الله سبحانه وتعالى، وليسع إلى مرضاته، والقرب منه، بما ينزل عليه من آياته، وما يقدّم إليه بين يدى رسله من هدى ونور.. فذلك وحده، هو السبيل إلى تحصيل الخير والفوز به. وقدمت الآخرة على الأولى، لأنها هى الأولى، بابتغاء الخير فيها، والعمل لها، وعقد الآمال عليها، وتعليق الأمانىّ بها. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 603 قوله تعالى: «وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى» . أي أنه إذا كان المشركون يتعلقون بالملائكة، ويعبدونهم من دون الله، ويرجون منهم الشفاعة لهم عند الله، فإن ذلك لا يغنيهم من الله من شىء.. إذ كان الملائكة أنفسهم هم تحت سلطان الله، لا ينالون شيئا إلا بما يأذن الله سبحانه وتعالى لهم به. إنهم ومن يعبدونهم سواء فى العجز عن التصرف فى شىء من ملك الله.. وإنه لضلال بعيد أن يطلب الخير ممن لا يملكه، ولا يطلب من مالك الملك ذى الجلال والإكرام. «وكم» فى قوله تعالى: «وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ» - خبرية، يراد بها الكثير.. والسؤال هنا، هو: إذا كان قد انتفى عن كثير من الملائكة أن يشفعوا إلا لمن أذن له الرحمن منهم فى الشفاعة، ورضى شفاعته فيمن شفع له، فهل هذا يعنى أن بعضا من الملائكة غير هذا الكثير- تغنى شفاعته من غير إذن من ربه؟ والجواب على هذا- والله أعلم- أن المراد بالخبر هنا، هو ردّ على معتقد المشركين، فى شفاعة هذه المعبودات التي خلعوا عليها أسماء، اخترعوها لها من أهوائهم، وجعلوها بهذا بنات الله، وأنها تشفع لهم عند الله، كما يقول سبحانه وتعالى على لسانهم: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» (3: الزمر) وكما يقول جل شأنه: «وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» (18 يونس) .. فأخبر سبحانه فى هذه الآية، بأن الملائكة الحقيقين فى السماء، لا هذه الدمى التي يمثلون الجزء: 14 ¦ الصفحة: 604 بها الملائكة- هؤلاء الملائكة لا يملكون الشفاعة إلا بإذن من الله.. فكيف يكون لهذه الدعوى- التي تلبس زورا صفة الملائكة- كيف يكون لها أن تشفع عند الله؟ ومن جهة أخرى، فإن هذا الاستثناء يعنى أن كثيرا من الملائكة لا يؤذن لهم بالشفاعة، وأما الملائكة الذين تقبل شفاعتهم، فهم الذين يأذن الله سبحانه وتعالى لهم بذلك، ويقبل منهم قولهم فيمن شفعوا لهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً» (38: النبأ) . قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى» هو تشنيع على هؤلاء المشركين، الذين يطلقون على الملائكة أسماء مؤنثة، باعتبار أنهم أناث، وأنهم بنات الله!. وفى قوله تعالى: «لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ» - إشارة إلى أن آفة المشركين إنما هى فى إنكارهم للبعث، ولما بعد البعث من الحياة الآخرة، وهذا ما دعاهم إلى إنكار رسالة الرسول فيهم، والتي من محاملها الإيمان باليوم الآخر، بعد الإيمان بالله.. فهؤلاء المشركون مستعدون لأن يؤمنوا بالله، ولكن على شريطة ألا يكون الإيمان بالله مستدعيا الإيمان باليوم الآخر.. والإيمان كلّ لا يتجزأ.. فمن آمن بالله، وكفر باليوم الآخر، وبرسل الله، فهو على غير الإيمان الصحيح المقبول.. قوله تعالى: «وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً» . أي ما لهم بهذا القول الذي يقولونه فى الملائكة، من علم قائم على الحق، أو الجزء: 14 ¦ الصفحة: 605 وارد من موارده.. وإنما هو عن ظنون وأوهام، وإن الظن إذا لم ينته بصاحبه إلى اليقين، هو ضلال مبين «لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً» أي لا يقوم مقام الحق فى أي موقع من مواقعه، ولا يمسك الممسك به إلا بقبض من ريح!. قوله تعالى: «فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا» . هو استخفاف بهؤلاء المشركين المعاندين، وأنهم ليسوا أهلا لأن يرص عليهم، ويبالغ فى الطلب لخلاصهم.. فليتركوا ليد الهلاك والضياع.. فذلك هو جزاء الظالمين.. إنهم أعرضوا عن ذكر الله، وردّوا اليد المبسوطة لهم بالهدى، وأبوا أن يؤمنوا بالآخرة، وأن يعملوا لها، وجعلوا الحياة الدنيا هى كل حياتهم، فأغرقوا أنفسهم فيها، واستهلكوا وجودهم فى السعى لها.. قوله تعالى: «ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ.. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى» . أي ذلك الذي يعيش فيه المشركون، من إعراض عن ذكر الله، وعن الخشية من لقائه يوم القيامة، واستفراغ وجودهم كله فى الحياة الدنيا- هو غاية علمهم الذي حصّلوه بعقولهم الفاسدة.. فهم إنما كان همّهم كله منصرفا إلى الحياة الدنيا، فوجهوا عقولهم إليها، وحصلوا من العلم ما يصلهم بهذه الحياة، ويمكن لهم فيها.. وهو علم تافه، يمسك بالقشور من حقائق الأشياء، ولا ينفذ إلى صميمها، ولبابها.. ولو أن علمهم بالحياة الدنيا، كان علما قائما على فهم صحيح، وإدراك سليم، لكان لهم من هذا العلم سبيل إلى الإيمان بالله، واليوم الآخر.. «يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ» (7: الروم) .. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 606 وقوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى» .. هو تهديد للمشركين، الذين يحسبون أنهم لن يبعثوا، ولن يحاسبوا، وأنه ليس هناك معقب على ما تمليه عليهم أهواؤهم من ضلالات.. وكلّا، فإن الله يعلم ما فى السموات والأرض، لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء.. «وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (111: هود) .. الآيات: (31- 55) [سورة النجم (53) : الآيات 31 الى 55] وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 607 التفسير: قوله تعالى: «وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» .. هو تأكيد لمعنى ما تضمنه قوله تعالى فى الآية السابقة،: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى» أي أن علم الله سبحانه وتعالى علم محيط بكل شىء، وليس مقصورا على علم ما يقع من الناس، من ضلال أو هدى، بل إن له سبحانه ما فى السموات وما فى الأرض.. لا شريك له فيهما، وإذ كان هذا شأنه سبحانه، فهو عالم علما محيطا بكل شىء: «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (14: الملك) وقوله تعالى: «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» - هو تعليل يكشف عن الحكمة فى علم الله سبحانه وتعالى بمن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 608 ضلّ عن سبيله، ومن اهتدى.. فليس هذا العلم لمجرد العلم، بل هو علم وراءه عمل، هو مجازاة كل عامل بما عمل، وبما كشف هذا العلم عما عمل.. وهو مثل قوله تعالى: «وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» (4- 5: الفتح) . وفى اختلاف النظم بين قوله تعالى: «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا» ، وقوله تعالى: «وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» والذي كان من مقتضى ظاهر النظم أن يقال: ليجزى الذين أساءوا بالسوأى، ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى- فى هذا إشارة إلى أن مجازاة الذين أساءوا بالسوأى، ليست حتما مقضيّا فى كل حال، بل إن رحمة الله سبحانه وتعالى قد تنال هؤلاء المسيئين، فيعفو الله سبحانه وتعالى عن سيئاتهم كلها أو بعضها، كما يقول سبحانه: «وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» (3: الشورى) .. وكما يقول جل شأنه: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ» (45: فاطر) .. فالمسيئون فى معرض رحمة الله، إن شاء رحمهم وعفا عنهم، وإن شاء أخذهم بذنوبهم، أو ببعض ذنوبهم. وأما فى مقام الإحسان، فالأمر مختلف.. فإن المحسنين هم فى مواجهة رحمة الله وفى التعرض لها، من باب أولى.. وهم لهذا مجزيون بإحسانهم، بل وبمضاعفة هذا الإحسان.. فذلك مما تقضى به رحمة الله، ويوجبه عدله.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 609 وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» (56: يوسف) . وقوله تعالى: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ» (26: يونس) .. [الّلمم.. والمعفوّ منه] قوله تعالى: «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ.. هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى» .. هو بدل من قوله تعالى: «وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» .. وهذا هو أشبه بعطف البيان،. إذ أنه لا يستحق الذين أحسنوا هذا الوصف بالإحسان، إلا إذا كانوا ممن يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلّا اللمم، وإلا فهم من الذين أساءوا، وليس لهم مدخل إلى الذين أحسنوا، إذ أنه لا يجتمع الإحسان مع مقارفة الكبائر، وإتيان الفواحش.. وكبائر الإثم، أشنعها، وأفظعها، وعلى رأسها الكفر بالله، والشرك به.. والفواحش، هى المنكرات، وعلى رأسها الزنى، فهو فاحشة الفواحش.. واللمم: هو الإلمام بالفاحشة، والطواف حولها، دون الوقوع فيها.. فهذا الإلمام، وإن كان من قبيل الفاحشة، إلا أنه مما ترجى مغفرته من الله، الواسع المغفرة.. وذلك أن الذي ألمّ بالفاحشة، وحام حولها، ثم ردّه عن الوقوع فيها خوفه من الله، وخشيته له، وحياؤه منه- جدير الجزء: 14 ¦ الصفحة: 610 بأن ينزع عن هذا اللمم، مادام هذا الشعور بالخوف من الله قائما فى قلبه! .. وإنه لمن التأويل الفاسد والفجور الآثم، أن يقف المؤمن عند حدود الفاحشة، فلا يأتيها، ثم يستبيح لنفسه الحوم حولها، والإلمام بها، وغشيان حماها، متخذا من قوله تعالى: «إِلَّا اللَّمَمَ» مدخلا يدخل به إلى مباءة الفاحشة، دون تحرّج أو تأثم، بهذا التأويل الفاسد الآثم، الذي يتأول عليه بعض المتأولين. وكلّا، فإن الّلمم بالفاحشة ذريعة إلى الفاحشة، وطريق ممهد إليها.. وأن من يحوم حول الحمى يوشك أن يواقعه، كما يقول الرسول الكريم.. وإن سدّ الذرائع أمر من أوامر الإسلام، وشريعة من شرائعه.. فقد حرمت الشريعة قليل الخمر، ولو قطرات، كما حرمت كثيره، لأن قليله يدعو إلى كثيره، المفضى إلى السكر الذي هو علة تحريم الخمر.. فكذلك اللمم من الفاحشة، كالنظرة الفاجرة، أو الخلوة بغير المحرم من النساء، أو اللمس، أو التقبيل.. فهذا وإن لم يكن الفاحشة التي هى الزنى، فإنه الطريق إلى الزنى، والمحرك للشهوة، والمطلق لها من عقالها، الأمر الذي إن حدث، غلب الإنسان على أمره، وأفلت الزمام من يده، فوقع فى المحذور الذي يتوقاه.. فاستثناء اللمم ليس مبيحا له فى الآية الكريمة، أو رافعا الإثم عنه، بل هو مأثم، إن لم يكن فى عظم مأثم الفاحشة نفسها، فهو بعض منها.. وهذا الاستثناء، إنما هو من باب الرحمة بالإنسان، والتخفيف عن ضعفه البشرىّ، فى حال- وليس فى مطلق الأحوال- يغلبه فيه ضعفه، فتندّ منه النظرة، أو تفلت منه الهفوة، ثم سرعان ما يدركه إيمانه ويهتف به وازع الخشية من ربّه، فيرجع إلى ربّه من قريب، فيجد ربّا غفورا، رحيما، يلقاه بالمغفرة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 611 ويلبسه لباس الإيمان الذي كاد يتعرّى منه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ. أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها..» (60- 62: المؤمنون) فهؤلاء هم الذين أحسنوا، وهؤلاء هم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، وهؤلاء هم الذين يقعون تحت حكم قوله تعالى: «إِلَّا اللَّمَمَ» .. فإن اللمم الذي يجترحونه، هو من جراحات معركة قد كانت حامية الوطيس، بين أهواء النفس، وبين وازع الإيمان بالله، والخشية له، والخوف منه.. وإن جراحات هذه المعركة، التي أصيب فيها المؤمن المجاهد لأهواء نفسه وشهواتها، لتجد لها عند الله، من مرهم الرحمة والمغفرة، ما يعفّى عليها، ويذهب بآثارها، ويكتب العافية والشفاء، للمصاب بها.. أما الذين يتخذون من قوله تعالى: «إِلَّا اللَّمَمَ» رخصة إلى تقحّم هذه المنكرات، واستساغة مطمعها الخبيث، واعتياد غشيان مواقعه، والتردّد على موارده- فإنه مهلكة لا نجاة منها، وجراحات لا شفاء لها، وإنه لهو الحرب السافرة لله، ولشريعة الله، إنه لهو العدوان المتعمد على حدود الله.. «وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» (1: الطلاق) . وقوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ» .. ليس بالذي يغرى بالجرأة على الله، وبمجاوزة الإلمام بالفاحشة إلى مقارفتها والوقوع فيها، وإنما هو عند الذين فى قلوبهم إيمان بالله، وحياء منه، وخشية له- داعية إلى الإقبال على الله، وإلى السعى حثيثا إلى ساحة فضله، وإحسانه، ليلقى المؤمن ربه بقلب سليم وكيان نظيف يليق بهذه الساحة الكريمة التي يحلّ بها.. وقوله تعالى: «هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 612 بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ.. فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى» . هو تعقيب على قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ» .. أي إنه- لعلم الله بكم أيّها الناس، وبما فيكم من ضعف وعجز عن مغالبة بعض أهوائكم، فإنه- سبحانه- قد أوسع لكم فى رحمته، وتجاوز عن الصغائر واللمم من ذنوبكم، فإنكم مهما اجتهدتم فى تحرّى الإحسان، وفى الاحتفاظ بفطرتكم على نقائها وصفائها فلن تحققوا هذا، وإن حققتم الكثير منه، ولن تبلغوا الغاية وإن قاربتموها.. فالذين يدخلون منكم مدخل الإحسان ويحسبون فى المحسنين، لم يكن ذلك لهم وإنما كان بإحسان الله سبحانه وتعالى إليهم، وتجاوزه عن الكثير من ذنوبهم.. وقوله تعالى: «إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ» .. إشارة إلى مقتضى هذه المغفرة الواسعة التي شمل بها بنى الإنسان إذ هم من نبات هذه الأرض، ومن معطيات ترابها، وليسوا من عالم النور.. فهم- والحال كذلك- لن يتخلصوا أبدا من ظلام المادة، ولن يتحوّلوا إلى عالم الرّوح، وهم فى هذه الأجساد المخلّقة من الأرض! وإنه لولا سعة مغفرة الله، لما كان لإنسان أن يكون من المحسنين، الذين يرتفع بهم إحسانهم إلى عالم الحقّ، ولما كانوا من أهله، يوم يقوم الناس لربّ العالمين.. وقوله تعالى: «وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ» .. معطوف على قوله تعالى: «إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ» .. فهذه حال أخرى من أحوال الإنسان، تكشف عن ضعفه، وأنه فى يد العجز وأن يد الله سبحانه وتعالى، هى التي أخرجته من هذا الضعف إلى القوة، كما أن مغفرته الواسعة، هى التي أخرجته من عالم التراب، وألحقته بعالم الحقّ والنور.. فالظرفان: (إذ، وإذ) فى قوله تعالى: «هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 613 الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ» ليسا قيدا لعلم الله بالناس فى حالتى نشأتهم من الأرض، ووجودهم فى بطون أمهاتهم، وإنما هما ظرفان يشيران إلى هذين الوقتين اللذين يكون الإنسان فيهما، فى حال أشبه بالعدم، إذا هو نظر إلى نفسه فيهما، وقد صار كائنا عاقلا رشيدا، يخاطب من الله، ويتهيأ للدخول فى عالم الحق والنور.. وقوله تعالى: «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ» النهى عن تزكية النفس هنا، ليس مرادا به الكفّ عن طلب ما يزكى النفس، ويطهرها، فالعمل على تزكية النفس، وتطهيرها مما يخالطها من ذنوب وآثام، هو أمر مطلوب دائما من كل إنسان يطلب الفلاح والنجاة، كما يقول سبحانه: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى» (14، 15: الأعلى) وكما يقول جل شأنه: «وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» (7- 10 الشمس) فالمراد بالنهى عن التزكية فى قوله تعالى: «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ» - هو النهى عن الاطمئنان إلى النفس، وعدّها مزكّاة مطهرة، لا تحتاج إلى تزكية وتطهير.. فإن النفس التي خالصت تراب الأرض، ولبست هذا الجسد الترابي، لن تكون أبدا على حال كاملة من النقاء والطهر، بل هى دائما فى حاجة إلى زكاة وتطهير.. فلا تحسبوا أنفسكم مزكاة مطهرة.. بل هى دائما فى حاجة إلى تزكية وتطهير.. فالنهى عن تزكية النفس هنا، هو نهى عن إخلاء النفس من مشاعر الاتهام لها بالهوى، والنظر إليها نظرة لا ترفعها إلى درجة الكمال، وهذا من خداع النفس، الذي يزين المرء سوء عمله، ويريه من ذاته، أنه أوفى على غاية الإحسان.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 614 والله سبحانه وتعالى يقول: «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً» .. (8: فاطر) .. وقوله تعالى: «هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى» أي أن الله سبحانه وتعالى، هو أعلم بمن تزكى وتطهر منكم، أما أنتم فلا تعلمون ما بلغت نفوسكم من تزكية وتطهير.. فقد يرى المرء منكم نفسه فى حال معجبة له من الطهر، والزكاة، وهو ملطخ بالآثام، غارق فى المنكرات، وقد يخيل لأحدكم أن أعماله مبرورة مقبولة، وهى مردودة عليه.. فالذى يعلم حقيقة الإنسان، وما هو فيه من خير وشر، وما هو عليه من هدى وضلال- هو الله سبحانه وتعالى، كما يقول جل شأنه: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ» (220: البقرة) وإذن، فإن المطلوب من الإنسان أن يكون دائما متهما لنفسه، طالبا السعى إلى غسلها من الأدران، متعهدا لها بالنظافة فى كل وقت، كما يتعهد جسده بالغسل والنظافة. وفى التعبير عن التزكية والتطهير بالتقوى فى قوله تعالى: «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى» بدلا من أن يقال هو أعلم بمن تزكى، الذي يقتضيه فى الظاهر سياق النظم- فى هذا إشارة إلى أن «التقوى» هى وسيلة التزكية والتطهر وأن من أراد أن يطهر نفسه ويزكيها، فلا سبيل له إلا بالتقوى.. والتقوى- كما يقول بعض العارفين: «هى أن يراك الله حيث أمرك وأن يفتقدك حيث نهاك» . قوله تعالى: «أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى» . الاستفهام هنا تعجبى إنكارى، من هذا الإنسان الضال، الذي أعجب بنفسه، فحمله هذا الإعجاب على أن يتمنّى هذه الأمانى الباطلة، ويعدها تلك الموعود الخادعة، ويحسب بذلك أنه أربح الناس صفقة، وأهداهم سبيلا.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 615 فالمناسبة ظاهرة بين هذه الآية والآيات التي قبلها، والتي كان من دعوتها، ألّا يحسن الإنسان الظن بنفسه، وألا يزكيها، ويعللها بتلك الأوهام الخادعة.. فجاءت هذه الآية عارضة لضحية من ضحايا الخداع النفسي، الذي يورد صاحبه موارد الضلال والهلاك.. وقوله تعالى: «تولّى» أي أعرض عن ذكرنا، وكذّب برسولنا. وقوله تعالى: «وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى» .. الواو هنا واو الحال، والجملة حال من فاعل «تولى» على تقدير الحرف «قد» بعدها، أي تولى وقد أعطى قليلا وأكدى. وإعطاء القليل، هو ما أعطاه من نفسه من ميل قليل إلى الاستجابة للرسول والإيمان به.. ثم لم يلبث أن غلبته نفسه الأمارة بالسوء، واستبدّ به طبعه النكد فنكص على عقبه، وأبى على هذه الشرارات المضيئة أن تنطلق من نفسه، فتضىء له طريقه إلى الله.. فأمسك بها، وأطفأ جذوتها. وقوله تعالى: «وأكدى» أي شحّ وبخل، وصار أشبه بالكدية، وهى الأرض الصلبة، التي لا تنبت نباتا، ولا تفجر ماء. وقوله تعالى: «أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى» استفهام إنكارى لهذا الاتجاه الذي أخذه هذا الضال، بعد أن أقام وجهه قليلا على مطلع الهدى والنور ثم عدل عنه.. فعلى أي أساس أقام وجهه على هذا الطريق الضال؟ وبأية حجة أو برهان قدر لنفسه هذا الخير الذي يمنيها به على هذا الطريق؟ أطّلع الغيب، فرأى عاقبة أمره، وما ينتظره على هذا الطريق؟ أم أنه يضرب على غير هدى، لا يصحبه على طريقه هذا إلا السراب الخادع الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، ووجد الحسرة والندم ملء يديه؟ .. ومثل هذا قوله تعالى: «أَفَرَأَيْتَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 616 الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً» (77، 78: مريم) . وقد اختلف فى شخص هذا الشقي الذي تحدثت عنه هذه الآيات، بما تمنيه به نفسه من كواذب الأمانى وأباطيلها. والرأى- عندنا- أن هذا الحديث لم يقصد به واحد بعينه من هؤلاء المخدوعين بأنفسهم، والذين جذبتهم أنوار الإسلام إليه، ثم لم يلبثوا أن ارتدوا على أدبارهم خاسرين.. فكثير من مشركى مكة كان لهم مثل هذا الموقف المتردّد بين الإقبال على الإسلام، والإدبار عنه، ثم لم يلبثوا إلا قليلا حتى تحددت مواقفهم، فمضى بعضهم فى طريقه إلى الإسلام، ونكص بعضهم على عقبه، نافرا، مستكبرا. قوله تعالى: «أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى» . أي: ألم يعلم هذا المتأمّى على الهدى، ما فى صحف موسى، وما فى صحف إبراهيم؟ والمراد بالاستفهام هنا طلب هذا العلم الغائب عنه، وأنه إذا كان هذا الضال لم يعلم بما فى صحف موسى وإبراهيم، فليطلب هذا العلم، مما سنبينه له فى الآيات التالية. ووصف إبراهيم عليه السلام، بأنه وفيّ، إشارة إلى ما كان منه من الوفاء بالرؤيا التي رأى فيها أنه يذبح ولده، فعرضه للذبح، وهمّ بذبحه، كما يقول سبحانه: «فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا! إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» (103- 105: الصافات) .. فهذا من إبراهيم هو غاية الوفاء، بما لله سبحانه عليه من طاعة وولاء. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 617 ولم يقدّم موسى على إبراهيم هنا، رعاية للفاصلة، كما يقول بذلك أكثر المفسرين، ولكن كان ذلك- والله أعلم- لأن موسى أقرب عهدا بالمخاطبين بهذه الآيات من إبراهيم.. وذلك فى مقام البحث عن صحف هذين النبيين الكريمين، وأخذ ما فيهما من أحكام.. ففى هذا المقام يمتدّ النظر إلى أقرب الصحف، وهى صحف موسى، ثم يتجاوزها إلى صحف إبراهيم. أما فى المقام الذي يراد به الترتيب الزمنى لهذه الصحف، فإن القرآن الكريم يضع هذا الترتيب موضع الاعتبار، فيقول سبحانه وتعالى: «إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى» (18، 19: الأعلى) . فالقرآن هنا يشير إلى الصحف الأولى، التي حملت رسالات السماء.. فإذا ذكر من هذه الصحف صحف إبراهيم وموسى، كانت صحف إبراهيم مقدمة فى الذكر على صحف موسى.. أما فى مقام الاتصال بها، والإفادة منها، فإن هذا يقضى بأن يدلّ أولا على ما كان العهد به أقرب.. ثم الذي هو أقدم منه عهدا. وهكذا نرى كلمات الله، ناطقة بالحق، واضعة الأمور مواضعها، فى أدق وضع وأحكمه.. «وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» (82: النساء) . قوله تعالى: «أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى وَثَمُودَ فَما أَبْقى وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى فَغَشَّاها ما غَشَّى فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى» . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 618 هذه الآيات، هى بيان لما فى صحف موسى، وإبراهيم، مما جهله هذا الذي تولّى وأعطى قليلا وأكدى.. ففى هذه الصحف، هذه الأحكام التي يدين الله بها عباده، وهى: «أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» أي لا تحمل نفس ذنب نفس أخرى، بل كل امرئ بما كسب رهين.. وأنه «لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى» فلا يضاف إليه شىء من فعل غيره، ولا يضاف من سعيه شىء إلى أحد.. «وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى» أي ينظر فيه ويحاسب عليه «ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى» دون أن ينقص من سعيه شىء.. ومما فى هذه الصحف «أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى» أي منه تصدر الأمور، وإليه منتهاها، ومرجعها، كما يقول سبحانه: «إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى» (8: العلق) أي المعاد الذي يجتمع فيه الناس للحساب والجزاء. ومما فى هذه الصحف أيضا، أن الله سبحانه وتعالى، هو الذي بيده الأمر كله، وإليه يردّ كل ما يساق إلى الناس مما يسرهم أو يسوءهم، فهو سبحانه الذي أضحك من أضحك، وأبكى من أبكى، وهو سبحانه الذي أمات من أمات، وأحيا من أحيا.. وأنه سبحانه هو الذي خلق الزوجين- الذكر والأنثى- من نطفة، لا يدرى أحد ماذا تعطى من ذكور أو إناث.. فهى لا تعدو أن تكون ماء على طبيعة واحدة، ولكن بعضه يعطى ذكورا، وبعضه يخرج إناثا.. حسب تدبير الله سبحانه وتقديره.. وفى قوله تعالى: «مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى» .. إشارة إلى مبدأ الحياة فى الكائنات الحية، وأنها تبدأ فى هذه الجرثومة السابحة فى هذا المنىّ.. والمنىّ قبل أن يمنى ويخرج من الرجل إلى المرأة، يكون فى حالة لم تنضج فيها جرثومة الكائن الحىّ، الذي تغرس بذرته فى الأنثى.. فإذا خرج المنىّ من الرجل فى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 619 حالة اتصاله بالمرأة، كان هذا المنىّ قد نضج واستوى، وحمل فى كيانه جرثومة الحياة.. ومما فى هذه الصحف.. أن الله سبحانه وتعالى، سيبعث الموتى، ويخرجهم من الأرض مرة أخرى، كما كانوا فيها قبل أن يولدوا الولادة الأولى.. ومما فى الصحف أيضا، أن الله سبحانه، هو الذي أعطى من أعطى، وحرم من حرم.. فكان الغنىّ وكان الفقير «وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى» .. فالإغناء يكون عن عطاء، والإقناء يكون عن منع.. والإقناء، ليس من القنية، كما يقول المفسرون، الذين جعلوا الإقناء مرادفا للإغناء.. أي أنه سبحانه أعطى ما يغنى الأغنياء، ويمكنهم من اقتناء الضياع، والقصور، والمتاع.. أي أغنى، وأعطى ما فوق الغنى. وهذا- والله أعلم- لا يتفق مع نسق النظم الذي جاءت عليه الآيات، مقابلة بين الشيء وضده: الضحك والبكاء، والموت والحياة، والذكر والأنثى.. إنه لخروج على هذا النسق أن يكون الغنى، مقابلا للاقتناء الذي هو بمعنى الغنى أيضا! وذلك من غير داعية تدعو للخروج على هذا النسق.. فقوله تعالى: «أقنى» .. هو- والله أعلم- بمعنى منع، وحرم.. وهو مأخوذ من قنى المرء الشيء، إذا صانه، وضن به كأفنى واقتنى، ومنه قول الشاعر: فاقنى حياءك لا أبالك إننى فى النائبات النازلات لفارس أي صونى حياءك، وضنى به، ولا تقفى موقفا يكشف هذا الحياء ويعريه.. فالإقناء من الله سبحانه وتعالى بمعنى المنع، أي أنه سبحانه أغنى أناسا، ومنع المال عن أناس، ولم يغنهم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 620 ويبقى بعد هذا سؤال: كيف يكون قوله تعالى: «أقنى» بمعنى صان وحفظ، ثم يكون الحفظ والصون فى مقابل الغنى، أي ضده، مع أن الحفظ والصون يوازن الغنى قدرا، ويرجحه؟ والجواب على هذا- والله أعلم- أن قوله تعالى: «أقنى» بمعنى صان وحفظ، يدلّ بظاهره على الفقر، الذي هو ضد الغنى، وذلك أن الله سبحانه وتعالى حين أغنى كثيرا من أهل الضلال والكفر، قد أخلاهم لأنفسهم، فأطغاهم هذا المال، وزادهم ضلالا وكفرا، على حين «أقنى» سبحانه أولياءه والصالحين من عباده، وصانهم من فننة المال وطغيانه، فلم يسلّط عليهم الدنيا، ولم يبلهم بحبها.. ثم هم مع ذلك أغنياء بقلوبهم المأنوسة بنور الإيمان بالله، والطمع فى رحمته.. وقوله تعالى: «وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى» .. أي ومما فى صحف موسى وإبراهيم، الإخبار عنه جل وعلا، بأنه رب الشعرى وهى نجم فى السماء، يسمى الشعرى العبور، يطلع من جهة الجنوب.. وكانت بعض قبائل العرب تعبد هذا النجم باسم الشعرى.. وقوله تعالى: «وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى وَثَمُودَ فَما أَبْقى» .. ومما فى أخبار هذه الصحف أيضا، أن الله سبحانه أهلك عادا الأولى، ثم أهلك بعدها ثمود.. فلم يبق منهم باقية.. ووصفت عاد بالأولى، لأنها متقدمة زمنا على الأمم التي حفظ التاريخ لها ذكرا.. فهى أول أمة بعد قوم نوح.. وقوله تعالى: «وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى» .. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 621 معطوف على قوله تعالى: «أَهْلَكَ عاداً الْأُولى. وَثَمُودَ..» أي وأهلك قوم نوح الذين كانوا قبل قوم عاد.. فليس هذا الهلاك الواقع بتلك الأمم المتتابعة إلا لظلمها، وطغيانها، فهى جميعها ظالمة طاغية، وإن كان بعضها أكثر من بعض ظلما وطغيانا.. قوله تعالى: «وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى» .. معطوف على قوله تعالى: «وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى» أي وأهوى المؤتفكة.. والمؤتفكة، هى قرية قوم لوط، وقد ائتفكت بأهلها أي انقلبت رأسا على عقب، ومنه الإفك، لأنه قلب للحق.. قوله تعالى: «فَغَشَّاها ما غَشَّى» .. أي ألبسها من ثياب العذاب والنكال.. ما ألبس.. وفى تجهيل «ما غشى» .. إشارة إلى أن هذا البلاء لا يحيط أحد بوصفه، إذ كان على غير ما يعرف الناس، أو يتخيلون، من صور التدمير والهلاك.. قوله تعالى: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى» - هذا سؤال موجه إلى هذا الإنسان الذي يمثل كل إنسان والذي أوقفته الآيات السابقة موقف المحاكمة فى قوله تعالى: «أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى.. الآيات» وقد عرضت عليه فى هذه الآيات صور من قدرة الله، وتدبيره فى خلقه، وأن ما تحدث به آيات القرآن الكريم من عرض لقدرة الله، ليس بدعا من القول، وإنما هو مما تحدثت به آيات الله كذلك فى صحف إبراهيم وموسى.. فالله سبحانه، واحد، لا شريك له، قديم لا أول له.. وأن الناس جميعا فى كل زمان ومكان، هم عبيده، وفى قبضة سلطانه.. والسؤال فى الآية الكريمة تقريرى.. أي هذه هى نعم الله، وتلك آلاؤه، فبأيها يكذب المكذب، ويمارى الممارى؟ وهل يستطيع مفتر أن يجرؤ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 622 على أن يقول، أنا أضحك وأبكى، وأحيى وأميت، وأغنى وأقنى..؟ ولقد قالها من قبل ذلك الذي حاجّ إبراهيم فى ربه: «إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ. قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ» .. ولكنها قولة ضالة، سرعان ماماتت على شفة قائلها، حين قال له إبراهيم: «فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ.. فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ» . والآلاء: النعم.. وتتمارى: من المراء، وهو المجادلة بغير حق.. وفى عدّ البكاء، والموت، والفقر، والمهلكات التي نزلت بالظالمين- فى عد هذه من الآلاء والنعم، إشارة إلى أنها من عند الله، وما كان من عند الله، فهو نعمة، وإن بدا فى ظاهره، أو فى المواقع التي وقع بها أنه نقمة.. الآيات: (56- 62) [سورة النجم (53) : الآيات 56 الى 62] هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62) التفسير: قوله تعالى: «هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى» .. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 623 الإشارة إلى ما أخذ الله سبحانه وتعالى به أهل الشرك والضلال من الأمم السابقة- من بلاء ونكال.. وأن فى هذا الذي ذكره الله سبحانه وتعالى عنهم، نذيرا يطلع عليهم من الأزمنة الغابرة، ليريهم ما حلّ بالضالين المكذبين برسل الله السابقين.. قوله تعالى: «أَزِفَتِ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ» .. أزفت: أي قربت، وحان حينها، وأظلّ زمانها.. والآزفة: القريبة، وهى يوم القيامة، وسميت آزفة لأنها قريبة، وإن ظن الناس أنها بعيدة، كما يقول سبحانه: «إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً» .. وكما يقول سبحانه فى أول سورة القمر، التي تجىء بعد هذه السورة: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ» .. ويقول سبحانه فى آية أخرى: «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها.» ومعنى أزفت الآزفة، أي قربت القريبة، فهى قريبة بذاتها، ومع هذا فقد قربت أكثر وأكثر.. وقوله تعالى: «لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ» - أي ليس لها من يكشفها، ويجلّيها- أي يظهرها- لوقتها، إلا الله سبحانه وتعالى.. والتاء فى قوله تعالى: «كاشفة» للمبالغة، مثل راوية، ونابغة.. أي ليس الساعة عند أهل العلم والكشف عن الخفايا ضابط لها، مقدر لوقتها، مظهر لوجودها، ولكن الله سبحانه وتعالى وحده هو الذي عنده علم الساعة، وهو سبحانه الذي يجلّيها لوقتها.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 624 قوله تعالى: «أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ» .. هذا الحديث- إشارة إلى قوله تعالى مخبرا عن الساعة: «أَزِفَتِ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ» .. فالمشركون إذا سمعوا هذا الحديث عن قرب يوم الحساب والجزاء، عجبوا لهذا، واستنكروه، وجعلوه حديث سخرية واستهزاء بينهم.. وفى قوله تعالى: «أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ» إنكار على هؤلاء المكذبين بالبعث والحساب، أن يتلقوا الحديث عن هذا اليوم، والنذر التي تنذرهم به، وتحذرهم لقاءه- أن يتلقوا هذا غير مكترثين به، ولا ملتفتين إليه، ولو عرفوا ما يلقى الناس فى هذا اليوم من أهوال، وما أعدّ للظالمين والضالين من عذاب- لو عرفوا هذا، لكثر البكاء، وقل الضحك، بل لما كان إلا البكاء المتصل، والوجوم الدائم.. خوفا من لقاء هذا اليوم العظيم! .. وقوله تعالى: «وَأَنْتُمْ سامِدُونَ» أي وأنتم غافلون فى صلف وكبر.. والسامد. هو البعير الذي يرفع رأسه، كأنه يبحث عن شىء فى السماء، ولا شىء! .. وقوله تعالى: «فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا» - هو تعقيب على الاستفهام الإنكارى فى قوله تعالى: «أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ..» أي إنكم أيها المكذبون بهذا الحديث، المستهزءون الساخرون منه، توردون أنفسكم موارد الهلاك، وإنكم إذا أردتم النجاة والخلاص، «فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا» أي فاخضعوا لجلال الله، واعبدوه، فهذا ما ينبغى أن يكون موقف المخلوق من خالقه، ولاء، وطاعة، وحمد، وتسبيح، وعبادة.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 625 54- سورة القمر نزولها: مكية باتفاق عدد آياتها: خمس وخمسون آية عدد كلماتها: ثلاثمائة واثنتان وأربعون كلمة عدد حروفها: ألف وأربعمائة وثلاثة وعشرون حرفا. مناسبتها لما قبلها فى ختام سورة «ق» جاء قوله تعالى: «أَزِفَتِ الْآزِفَةُ» - منذرا بقرب يوم القيامة، ثم فى بدء سورة القمر قوله: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ» - مخبرا عن اقتراب الساعة، منبئا عن الأحداث التي تقع فى هذا اليوم العظيم.. وبهذا تلاقى ختام «ق» وبدء «القمر» على موضوع واحد، هو وقوع يوم القيامة، واقتراب هذا الوقوع، وأن ختام سورة «ق» يقرر هذه الحقيقة، وبدء سورة «القمر» يؤكدها، ويطلع بالإرهاصات التي تقوم بين يديها. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الآيات: (1- 8) [سورة القمر (54) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 626 التفسير: قوله تعالى: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ» . هذا خبر، عام، مرسل من غير توكيد، إشارة إلى أنه حقيقة مقررة، لا تحتمل مكابرة، ولا تقبل جدلا.. وقوله تعالى: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ» هو مثل قوله تعالى: «أَزِفَتِ الْآزِفَةُ» وقوله سبحانه: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ» (1: الأنبياء) . أما قوله تعالى: «وَانْشَقَّ الْقَمَرُ» - فهو أمارة من أمارات هذا اليوم، يوم القيامة.. الذي تتبدل فيه الأرض غير الأرض والسموات. وفى عطف انشقاق القمر على اقتراب الساعة- إشارة إلى أن هذا الاقتراب قد أصبح لقربه كأنه واقع فعلا، وأن انشقاق القمر هو أول بوادر الوقوع، وكأن الواو هنا، واو المعية أو المصاحبة.. ومعنى انشقاق القمر ظهوره فى ذلك اليوم على حقيقته فى أعين الناس.. فالناس يرونه فى هذه الدنيا صفحة بيضاء بلورية، أشبه بالمرآة الصقيلة.. ولكنهم يوم القيامة يرونه جرما معتما، شبيها بالأرض، تختلف طبيعة سطحه بين سهول، وأودية، وأغوار، ونجود، وجبال.. هكذا القمر فى حقيقته.. كما يقرر ذلك العلم، وكما أثبتته التجربة العملية، حين صعد الإنسان إلى القمر فى هذا العام- عام ألف وثلاثمائة وتسع وثمانين من الهجرة- ومشى عليه كما يمشى على الأرض!! فلم يره إلا جرما معتما كالأرض تماما، طبيعة، وشكلا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 627 ويمكن أن يقوم هذا الحدث، الذي مكن للإنسان أن يرى رأى العين انشقاق القمر- يمكن أن يقوم هذا شاهدا على أن يوم القيامة قد أظل، وأن أشراط الساعة قد جاءت، وأن الناس قد بدءوا يرون طلائع ما سيرونه يوم القيامة من حقائق الأشياء بعد أن ينكشف الغطاء عن العيون!! [النبي.. وانشقاق القمر] ولا بد من وقفة هنا عند قوله تعالى: «وَانْشَقَّ الْقَمَرُ» . فلقد كاد يجمع المفسرون على أن انشقاق القمر كان فى عهد الرسول- صلوات الله، وسلامه عليه- وأنه كان آية معجزة، وقعت على يد النبي، وهو فى مكة قبل الهجرة. يقول القاضي عياض فى تفسير هذه الآية فى كتابه: «الشفا فى التعريف بحقوق المصطفى» : «أخبر الله تعالى بوقوع انشقاق القمر بلفظ الماضي، وإعراض الكفرة عن آياته- أي ما فى انشقاقه من آيات- وأجمع المفسرون وأهل السنة على وقوعه» . وروى البخاري عن ابن مسعود- رضى الله عنه، قال: «انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين، فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشهدوا» . وروى مسلم عن أنس، قال: «سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر فرقتين حتى رأوا حراء بينهما» . وروى البخاري عن عبد الله بن مسعود- من رواية مسروق عنه- قال: «انشقّ القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: هذا سحر الجزء: 14 ¦ الصفحة: 628 ابن أبى كبشة «1» ، ثم قالوا: انظروا ما يأتيكم به السفّار، فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم، فجاء السفار، فقالوا ذلك» . وروى ابن جرير عن ابن عباس، فى قوله تعالى: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ» قال: «قد مضى ذلك، كان قبل الهجرة، انشق القمر حتى رأوا شقيه» ويعلق القاضى «عياض» على هذه الأحاديث المروية فى انشقاق القمر، فيقول: «وأكثر طرق هذه الأحاديث صحيحة، والآية مصرحة، ولا يلتفت إلى اعتراض مخذول بأن لو كان هذا لم يخف على أهل الأرض، إذ هو شىء ظاهر لجميعهم» . ويدفع القاضي «عياض» هذا الاعتراض بقوله: «لم ينقل إلينا عن أهل الأرض أنهم رصدوه تلك الليلة فلم يروه انشق ولو نقل إلينا- أي عدم انشقاقه- عمن لا يجوز تمالؤهم على الكذب لكثرتهم- لما كانت علينا به حجة، إذا ليس القمر فى حد واحد لجميع أهل الأرض، فقد يطلع على قوم قبل أن يطلع على الآخرين، وقد يكون من قوم بضد ما هو من مقابليهم من أقطار الأرض، أو يحول بين قوم وبينه سحاب أو جبال، ولهذا نجد الكسوفات فى بعض البلاد دون بعض، وفى بعضها جزئية، وفى بعضها كلية.. ذلك تقدير العزيز العليم. هذا هو مجمل ما عند المفسرين فى آية القمر، قد لخصه القاضي عياض، وأيّده وقال مع القائلين، إن القمر قد انشق فى عهد النبي، كمعجزة من معجزاته.!   (1) يقصد بهذا نسبة النبي إلى رجل كان فى الجاهلية الأولى، وكان أول من دعا إلى عبادة «الشعرى» واعتبارها ابنة لله.. فلما جاء النبي يدعو قومه إلى الله، نسبوه إلى هذا الرجل الذي أحدث فى قومه عبادة الكواكب. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 629 ونحن إذ نخالف هذا الرأى لا نخالفه، استكثارا على النبي الكريم أن يضع الله سبحانه فى يده هذه المعجزة، فإن ما بيد الرسول من آيات الله وكلماته مالا يبلغ انشقاق القمر شيئا إزاء حرف من كلمة من كلمات الله.! كما لا نخالفه ونحن نعتقد بصحة هذه الأحاديث فى سندها إلى أن تصل إلى أصحاب رسول الله، فإننا من صحابة رسول الله فى مقام الأعمى بين يدى المبصر.. ولكنا إذ نخالف هذه الأخبار، فإنما نخالفها ونحن فى شك من صحة السند.. وإذا شكلنا فى السند كان المتن مجرد قول يضاف إلى آخر راو روى عنه. وإننا نخالف هذا القول بانشقاق القمر فى عهد الرسول، لأمور: فأولا: لم يكن الرسول الكريم معجزة متحدية، قائمة على الزمن، إلا القرآن الكريم الذي تحدّى به العرب، وأفحمهم، وأقام الحجة عليهم. وثانيا: لو صحّ أن يكون للنبى معجزات أخرى متحدية غير القرآن، لما كان انشقاق القمر واحدة منها، لأن العرب لم يتحدوه بأن يأتيهم بمعجزة معلقة فى السماء، وإنما كان من تحدّيهم له ما حكاه القرآن عنهم فى قوله تعالى: «وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا» (90- 92 الإسراء) . وثالثا: لو كان انشقاق القمر معجزة متحدية، لأنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ولحدّد لهم الليلة، والساعة، حتى يشهدوا ذلك، ليكون حجة عليهم.. ولكن الذي ترويه الآحاديث لا يشير إلى شىء من هذا، ولا يدل على أن قريشا قد رصدت هذه الظاهرة المتحدية. وإنما الذي يفهم من هذه الأحاديث، أن القمر قد انشق فى ليلة ما، وأن النبي وبعض الناس قد رأوه، فقال النبي عندئذ: «اشهدوا!» . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 630 ولا يعقل أن يقيم النبي من انشقاق القمر- إن كان قد انشق- شهادة على صدق رسالته، وعلى أن انشقاق القمر كان معجزة شاهدة له، إذا لم يكن قد آذن القوم بوقوع هذا الحدث العظيم قبل أن يقع.. أمّا أن يجىء بعد وقوع الحدث ويقيم منه شاهدا له، فهذا قلب لأوضاع الأمور وقد عصم الله رسوله، وجنبه الزلل والعثار.. ورابعا: خسفت الشمس على عهد الرسول الكريم بالمدينة، وصادف ذلك أن كان يوم موت ابنه إبراهيم، فقال الناس خسفت الشمس لموت إبراهيم!! فدعا الرسول الناس إليه، ثم خطبهم فقال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت أحد، ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله، وإلى الصلاة» . هذا، هو رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وذلك هو موقفه من الأحداث التي تقع فى الطبيعة.. إنه يصحح المفاهيم الخاطئة التي تقع الناس، من ربط الأحداث التي تقع لهم بالكواكب والنجوم، وأن ما يجرى على الشمس والقمر من خسوف وكسوف، ليس إلا من العوارض التي تعرض لهما فى نظام دورثهما فى الفلك. وخامسا: إذا كان النبىّ يريد أن يتحدى قومه بمعجزة مادية، يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يؤيده بها، فلم يختار انشقاق القمر، وتمزقه قطعا فى السماء؟ أليس الأولى من ذلك أن يريهم أثرا محسوسا بين أيديهم، كأن يفجّر لهم عين ماء، أو أن يشير إلى جبل من الجبال المحيطة بهم فيتحول عن مكانه؟ هذا، وليس فى الإخبار فى القرآن عن انشقاق القمر بلفظ الماضي قرينة على وقوع الفعل، فكما يدل الماضي على حدوث الفعل فعلا، ويخبر عن وقوعه فى الماضي كذلك يعبر بالفعل الماضي عن الأمر الذي سيقع مستقبلا، وذلك لغرض بلاغي، وهو الدلالة على أن هذا الفعل محقق الوقوع لا محالة، وأن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 631 وقوعه فى المستقبل أشبه بوقوعه فى الماضي، فإن لم يكن وقع، فكأنه قد وقع، لتحقق وقوعه. والقرآن الكريم يستخدم هذا الأسلوب كثيرا فى الأمور ذات الخطر، التي يقف كثير من الناس إزاءها موفف الشك والارتياب، فى إصرار وعناد، فلا يلقاهم القرآن حينئذ، اللقاء الذي ينتظرونه فى شأن هذا الأمر الخطير، ولا يجعل لقاءهم معه معلقا بالمستقبل، بل يجذبهم إليه جذبا قويا، فإذا هم فى مواجهة هذا الأمر، وجها لوجه، وقد أصبح خبرا بعد أن وقع! .. يقول سبحانه وتعالى فى شأن البعث: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ» (68: الزمر) ويقول سبحانه عن يوم القيامة: «وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ» (69- 70 الزمر) .. وأكثر ما ورد فى القرآن عن البعث، والحساب والجزاء، قد جاء فى صورة الماضي، الذي وقع فعلا، وعاش فى الناس، وعاش الناس فيه.. وذلك لتحقق وقوع هذه الأحداث.. وعلى هذا، فإن الحديث عن انشقاق القمر بالفعل الماضي، لا تقوم منه حجة على وقوع هذا الانشقاق، بل إنه إذا نظر إليه باعتبار أنه من أحداث يوم القيامة، كان التعبير عنه بالماضي دليلا على أنه مراد به الإخبار عن المستقبل الذي لم يقع.. فإذا نظرنا إلى انشقاق القمر، مع قوله تعالى: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ» ومع ما يقع يوم القيامة من تبدل وتحول فى العوالم السفلية والعلوية، رأينا أن انشقاق القمر لا يعدو أن يكون حدثا من الأحداث التي تقع يوم القيامة.. للقمر، ولغيره من العوالم الأخرى.. كما يقول سبحانه عن القمر يوم القيامة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 632 «فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ» (7- 10: القيامة) ولا نريد أن نطيل الوقوف هنا، ولا أن نجعل من هذا الأمر قضية للجدل والخلاف.. فإن الخطب هيّن، وإنه لن ينقص من قدر النبي الكريم، وقد كمل قدرا، وشرفا- ألا ينشق القمر له، كما أنه لن يزيد من قدره- وقد استوفى غاية الكمال والشرف- أن يضاف إليه انشقاق القمر، أو عشرات ومئات من مثل هذا الانشقاق.. وإنما الذي دعانا إلى هذه الوقفة، هو ما نجد من بعد بعيد بين مفهوم الآية الكريمة، واتساق هذا المفهوم مع موقع الآية فى النظم القرآنى، ومع ما جاء من آيات الكتاب عن يوم القيامة، وما يقع فيه من أحداث- وبين هذا التخريج الذي خرّجت عليه الآية الكريمة، وتوارد عليه المفسرون، قولا واحدا، بأن القمر قد انشق للنبى، وهو فى مكة، تحدّيا لتحدى قومه المكذبين به.. والله أعلم. قوله تعالى: «وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ» . هو معطوف على قوله تعالى: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ» أي وإن ير هؤلاء المشركون آية يعرضوا عنها، ويقولوا سحر مستمر.. فهذه كلها أخبار عن حال واقعة، هى اقتراب الساعة، وانشقاق القمر، وإصرار المشركين على التكذيب برسول الله واتهامه بالسحر، كلما جاءهم بآية من آيات الله.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 633 فقوله تعالى: «وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ» هو أسلوب خبرى، وإن جاء فى صورة الشرط.. فهو إخبار عن مستقبل كثير من هؤلاء المشركين مع الدعوة الإسلامية، وأنهم سيظلّون على ما هم عليه من كفر وعناد، وأنه كلما تلا عليهم الرسول بعض آيات الله، لم يجدوا إلا قولا واحدا فيها، قد استقر عليه رأيهم، وهو أن هذا الكلام من واردات السحر، لما فيه من قوّى خفية، تكاد تملك وجودهم، وتستولى على مشاعرهم.. فقالوا: «إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ» .. وقالوا: «سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ» أي متصل، يشبه بعضه بعضا، ويلتقى لا حقه مع سابقه.. أو هو سحر مستمر، من المرّة وهى القوة، أي قوى محكم.. كما قال فرعون عن موسى وعصاه: «إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ» (109: الأعراف) .. فالآية إخبار عن المستقبل، وأن كثيرا من هؤلاء المشركين، لن يؤمنون بالله، بل يموتون على كفرهم، وأنهم كلما استمعوا إلى ما يتلو النبي من آيات الله، قالوا سحر مستمر. هذا هو موقف المعاندين الضالين من المشركين، فى الوقت الذي تطرقهم فيه الأنباء بأن يوم القيامة قد قرب، بل إن إرهاصاته قد أخذت تظهر فى الوجود.. والآية التي يرونها، هى آيات الله التي تتلى عليهم، وعبر عن سماعها بالرؤية، إشارة إلى أنها من الوضوح، والبيان، بحيث تبدو كأنها حاضر شاخص يرى، لا حديث يسمع. ويجوز أن تكون الآية هنا آية محسوسة، مما يقترحه المشركون على النبي، وقد أبى الله سبحانه وتعالى أن يجيبهم إلى ما سألوا، لأنهم لن يؤمنوا بأية آية الجزء: 14 ¦ الصفحة: 634 تأتيهم، بعد أن كذبوا بآيات الله المتلوّة عليهم، والتي فيها الهدى لمن اهتدى، وفيها النور لمن فتح عينيه النور.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» (7: الأنعام) . ويقول سبحانه: «وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ» (15: الحجر) .. فهذه آيات محسوسة، لو طلعت عليهم ورأوها رأى العين، لأعرضوا عنها، وكذبوا بها، وقالوا سحر مستمر. قوله تعالى: «وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ» . الواو الحال، والجملة بعدها حال من الفاعل فى قوله تعالى «وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا» . أي أنهم يقفون هذا الموقف من آيات الله إذا تليت عليهم، والحال أنهم قد كذبوا بها من قبل واتبعوا أهواءهم.. فهذا الذي هم فيه حالا أو مستقبلا مع آيات الله، ليس جديدا عليهم، بل هو داء يعيش معهم إلى أن يجىء أجلهم. وقوله تعالى: «وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ» .. تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين، وأن هذا الذي هم فيه من كفر وضلال، له نهاية ينتهى إليها، وقرار يستقر عنده.. وليس لما هم فيه من نهاية، إلا العذاب الأليم فى نار جهنم، وليس لأمرهم هذا من مستقر، إلّا سواء الجحيم.. وهذا مثل قوله تعالى: «لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ» (67: الأنعام) . قوله تعالى: «وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ» . أي أن هؤلاء المشركين، قد كذبوا، واتبعوا أهواءهم، وقد جاءتهم النذر من بين أيديهم ومن خلفهم، ولفتتهم آيات الله التي يتلوها الرسول عليهم، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 635 إلى ما أخذ الله به الظالمين قبلهم، الذين كفروا بالله، وعصوا رسله- فما انتفع هؤلاء المشركون الضالون بتلك النذر، ولم يكن لهم منها عبرة واعظة، أو عظة زاجرة. قوله تعالى: «حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ» . «حِكْمَةٌ بالِغَةٌ» بدل من «ما» فى قوله تعالى: «وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ» .. فالذى فيه مزدجر، هو حكمة بالغة، يجدها ذوو العقول فى أخبار الماضين، وما حل بأهل الكفر والضلال منهم. وقوله تعالى: «فَما تُغْنِ النُّذُرُ» .. «ما» نافية، أي لا تغنى النذر، ولا تنفع عند من هم فى غفلة ساهون.. وهذا مثل قوله تعالى: «وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» (101: يونس) .. فهؤلاء الضالون المعاندون من المشركين، لا ينتفون بهذه النذر، ولا يستيقظون من غفلتهم على صوتها المجلجل المدوىّ.. قوله تعالى: «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ» .. هو دعوة إلى النبي الكريم أن يدع هؤلاء الضالين، الذين لا تنفع معهم النذر، ولا يزيدهم النور إلا عمى وضلالا.. فليدعهم النبي، حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون.. وقوله تعالى: «يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ» .. الداعي، هو نافخ النفخة الثانية فى الصور، وهى نفخة البعث.. كما يقول سبحانه: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 636 «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ» (68: الزمر) .. والشيء النكر الذي يدعو إليه الداعي، هو هذا البلاء الذي يساق إليه أهل الضلال.. «يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ» (13، 14: الطور) .. وفى قوله تعالى: «شَيْءٍ نُكُرٍ» مع تجهيل هذا الشيء وتنكيره، ثم وصفه بهذا الوصف الذي يلقى عليه ظلالا كثيفة من السواد- فى هذا إشارة إلى شناعة هذا الشيء، وما يخفى فى أطوائه من أهوال، لا يحيط بها وصف.. والظرف «يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ» متعلق بمحذوف دل عليه سياق النظم، أي فتول عنهم، وانتظر ما يحل بهم يوم يدعو الداعي إلى الحساب والجزاء، وهو يوم عسير على الكافرين غير يسير.. قوله تعالى: «خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ» .. أي فتول عنهم، وانتظرهم يوم يدعوهم الداعي إلى شىء نكر، فتراهم وقد خشعت أبصارهم، ذلة وانكسارا، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ» (45: الشورى) .. فقوله تعالى «خشعا» حال من مفعول فعل محذوف، وتقديره تراهم.. وقوله تعالى: «يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ» حال الجزء: 14 ¦ الصفحة: 637 أخرى من المفعول به الفعل المحذوف، أي تراهم خشعا أبصارهم، وتراهم يحرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر.. والأجداث: جمع جدث، وهو القبر الذي يلحد فيه الميت.. وقد أشرنا من قبل إلى دلالة هذا التشبيه، الذي شبّه به الموتى فى خروجهم من أجداثهم يوم البعث «1» .. قوله تعالى: «مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ» .. هو حال ثالثة من أحوال الناس يوم البعث، أي تراهم فى هذا اليوم مهطعين إلى الداعي، أي مسرعين إليه، مستجيبين لدعوته، منقادين لأمره.. وهو أمر الله، الذي به يبعث الموتى من القبور: كما يقول سبحانه. «ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ» وقوله تعالى: «يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ» مقولة من مقولات الكافرين حين يلقاهم هذا اليوم.. إذ ما أكثر مقولات الندم والحسرة، التي يتنادون بها فى هذا اليوم.. «يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ» .. «يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا» .. الآيات: (9- 42) [سورة القمر (54) : الآيات 9 الى 42] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)   (1) أنظر فى هذا الكتاب مبحث: «البعث.. على أيه صورة يقع» (ص: 549) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 638 التفسير: قوله تعالى: «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ... الآيات» فى هذه الآيات أمور، نود أن نقف عندها، ولكن بعد أن نشرح بعض مفرداتها: - ازدجر: أي طرد من بين العقلاء، لأنه ليس له إلا الزجر. - أبواب السماء: مواقع المطر منها.. حيث يبدو المطر المنهمر أيام الطوفان، وكأنه متدفق من فتحات أبواب سدّ عظيم قد احتجز وراءه قدرا كبيرا من الماء.. - والمنهمر: المتدفق فى كثرة.. - فالتقى الماء على أمر قد قدر: أي فالتقى ماء السماء المتدفق من أبوابها، مع ماء الأرض المتفجر من عيونها، فى ميقات معلوم، وبقدر مقدور، لا يزيد، ولا ينقص.. - ذات الألواح: هى السفينة.. والألواح، هى قطع الخشب التي بنيت منها.. - والدسر: ما يمسك هذه الألواح، ويشدّ بعضها إلى بعض.. - لمن كان كفر: أي لمن كان قد كفر به، وكذب فى رسالته.. وهو نوح عليه السلام.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 640 - فهل من مدّكر: أي هل من متذكر، ومتعظ بهذه الأحداث؟. - ريحا صرصرا: أي ريحا عاصفة، شديدة البرد، ذات صرير وزمجرة. - أعجاز نخل منقعر: أعجاز النخل، قاعدتها التي تقوم عليها، وهى ما بين الساق، والجذر مما على الأرض من النخلة.. والمنقعر: المنقلع من أصوله. - كذاب أشر: أي كذاب مفضوح الكذب ظاهره، كذاب يريد بكذبه البطر والتعالي على قومه. - كل شرب محتضر: أي كل شرب لهم، أو للناقة، يحضره صاحبه، من غير عدوان.. كما يقول سبحانه: «لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» (155: الشعراء) .. - فنادوا صاحبهم: أي نادى القوم صاحبهم، أي رجلهم الذي أعدوه للعدوان على الناقة. فتعاطى: أي تداول الحديث معهم، فأخذ، وأعطى.. - هشيم المحنظر: أي الحطب الذي يضمه جامعه فى حظيرة، فيشتد يبسه، مع الزمن، ثم يتحول إلى هشيم، هشّ، لا وزن له.. صبحهم بكرة عذاب مستقر: أي وقع بهم العذاب فى بكور الصبح، أي مع مطلع الفجر.. أما هذه الأمور التي نودّ أن نقف عندها من هذه الآيات، فهى: أولا: مناسبة هذه الآيات لما قبلها.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 641 وهى أن الآيات السابقة، عرضت موقف المشركين من النبي- صلوات الله وسلامه عليه- وأنهم إن رأوا آية واجهوها بالبهت والتكذيب، وقالوا إنها من واردات السحر، وقد انتهى هذا العرض بدعوة النبي الكريم إلى أن يدع هؤلاء المعاندين وشأنهم، فإنهم فى هذا هم الخاسرون، حيث يوردون أنفسهم موارد الهلاك يوم القيامة، الذي يكذبون به.. وفى هذه الآيات، عرض لأحوال جماعات من المكذبين المعاندين فى الأمم السابقة، وقد جاءتهم رسل الله بالبينات، فبهتوهم، وكذبوهم، وتهددوهم بالمساءة والأذى.. فكان أن أخذهم الله بالبلاء فى الدنيا، والعذاب الأليم فى الآخرة.. وفى هذا تهديد للمشركين، وأنهم سيسلكون فى سلك الذين كذبوا رسل الله من قبلهم.. قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وفرعون.. وثانيا: فى أعقاب كل قصة، يجىء قوله تعالى: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» .. ولقد تكرر هذا فى قصص قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط.. فما سرّ هذا؟ ولماذا لم يجىء هذا التعقيب، فى قصة فرعون؟ السرّ فى هذا- والله أعلم- أن هذا التعقيب على كل قصة من تلك القصص، هو دعوة إلى هؤلاء المشركين أن يتدبروا هذه الآيات التي بين أيديهم من كتاب الله.. فهذه الآيات تكشف للناظر فيها، أو المستمع إليها- فى يسر وعن قرب- الدلائل الواضحة الهادية إلى الحق.. ولكن هل من مدّكر من هؤلاء الضالين المعاندين؟ ستكشف الأيام عن جواب هذا السؤال.. أما السرّ فى أنه لم يذكر مع قصة فرعون هذا التعقيب الذي لازم القصص الأربع السابقة، فذلك- والله أعلم- ليصل مشركى قريش بفرعون، وليجعل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 642 منهم ومنه كيانا واحدا، وكأنهم هم المكذّبون بآيات الله كلها، الوارثون لفرعون فى ضلاله، وكبره وعناده.. والقرآن الكريم، يقرن فى مناسبات كثيرة بين مشركى قريش، وبين فرعون.. إذ كانوا أقرب الناس شبها به، فى التعالي والتشامخ، والتصامّ عن كلمة الحق، والتعامي عن آيات الله.. وثالثا: تكرر فى هذه الآيات قوله تعالى: «فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ» أربع مرات، كما تكرر قوله تعالى: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» أربع مرات كذلك.. وداعية هذا التكرار، هو التعقيب على هذه الأحداث، بإشارتين؟ الإشارة الأولى، إلى مواقع نقمة الله، وما أخذ به المكذبين برسله من بلاء «فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ» .. والإشارة الثانية، هى دعوة إلى طريق الخلاص والنجاة من نقمة الله وبلائه: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ» .. فهذا هو طريق النجاة، وهو الاستماع إلى القرآن الكريم، وإلى الإيمان به، والعمل بما يدعو إليه.. فهل من مدّكر؟. الآيات: (43- 55) [سورة القمر (54) : الآيات 43 الى 55] أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 643 التفسير: قوله تعالى: «أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ» .. كان المتوقع بعد ذكر فرعون، وما أخذه الله به من نكال، أن يجىء هذان التعقيبان: «فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ» .. «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» .. وذلك على نسق النظم الذي جاءت عليه الآيات التي سبقت الحديث عن فرعون، بالحديث عن قوم نوح وعاد وثمود، وقوم لوط- كان هذا هو المتوقع، ولكن جاء قوله تعالى: «أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ» - ليصل- كما قلنا- مشركى قريش، بفرعون، ويجعلهم هذا التعقيب المباشر لقصته امتدادا له، حتى إنهم ليأخذون المكان الذي كان من المتوقع أن يأخذه قوله تعالى: «فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ» .. فقوله تعالى: «أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ» خطاب لمشركى قريش، فى صورة استفهام إنكارى، ينكر عليهم هذه المشاعر الخاطئة التي يعيشون فيها، وهى أنهم لن يؤخذوا بما أخذ به الكافرون المكذبون من قبلهم.. «أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ» ؟ أي فلا تحل بهم النقم كما حلت بأشياعهم من قبل؟ .. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 644 وقوله تعالى: «أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ» .. استفهام إنكارى آخر، ينكر على المشركين أن يكون لهم عهد عند الله، فى كتاب بين أيديهم، بأنهم بمنجاة من أن ينالهم ما نال إخوانهم الضالين من قبل، من عذاب وبلاء؟ والزبر: جمع زبور، وهو القطعة من الشيء، والمراد به هنا الكتاب، والمراد بالزبر: كتب الله المنزلة على رسله، إذ كان كلّ منها قطعة من الكتاب الأم.. وهو أم الكتاب، أو القرآن الكريم، الذي جمع ما تفرق فى الكتب السماوية، والذي به كمل دين الله قوله تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ» .. أم هنا حرف عطف، حيث يجمع هذا السؤل الموجه المشركين، إلى السؤالين السابقين: «أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ؟ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ؟» . وعدل عن الخطاب إلى الغيبة، استخفافا بشأن هذا الجمع المتحدّى، الذي ملأه العجب والغرور، فلم ير أية قوة تقف له، وتأخذ النصر منه.. والجميع، بمعنى الجمع، وعبر عن الجمع بالجميع، إشارة إلى استطالتهم فى الغرور، وإدلالهم بكثرة جمعهم.. قوله تعالى: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ» . أي إن هذا الجمع المفتون بكثرته، المغرور بقوته، سيهزم ويولى الدبر.. تلك هى آخرة مطافه.. وعدل عن لفظ «الجميع» الذي هو من مقول قول المشركين، إلى لفظ «الجمع» استصغارا لهم، وأنهم جمع لا جميع.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 645 وهذا من أنباء الغيب التي حمل القرآن الكريم قدرا كبيرا منها.. فهذه الآية مكية، فى سورة مكية، وما كان المؤمنون يومئذ يتوقعون فى أي حال أن يهزم هذا الجمع الذي توعده الله سبحانه وتعالى بالهزيمة وتولية الأدبار.. حتى إن عمر ابن الخطاب- رضى الله عنه- كان فيما يروى عنه- يقول حين نزلت هذه الآية: ما كنت أدرى: «من هذا الجمع الذي سيهزم» ، حتى كان يوم بدر فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب فى الدرع وهو يتلو قوله تعالى: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ» فعلمت تأويلها.. قوله تعالى: «بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ» .. إضراب على الهزيمة التي ستحل بهؤلاء المشركين، واعتبارها كأن لم تكن، لأنها لا تعدّ شيئا إلى ما ينتظر المشركين من عذاب الله يوم القيامة.. إن هزيمتهم فى الحرب، وإن كانت خزيا يلبسهم، وعارا يتجللهم، وحسرة تملأ قلوبهم- فإنها إلى ما يلقاهم من عذاب الله فى الآخرة، تعدّ عافية، وتحسب رحمة..!! قوله تعالى: «إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ» . هو تعقيب على قوله تعالى: «بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ» .. أي إن ما يلقى هؤلاء المشركين من عذاب يوم القيامة، هو مما أعد للمجرمين، وهؤلاء المشركون هم رأس من رءوس المجرمين، يردون الجزء: 14 ¦ الصفحة: 646 موردهم، ويلقون مصيرهم.. إنهم مجرمون، وإن المجرمين فى ضلال وسعر، أي جنون، وسعار، كسعار الكلاب، فلا يكون منهم إلا النباح.. إذ يسحبون على وجوههم فى النار، ويدعّون إلى جهنم دعّا- يشيعون من الزبانية الموكلين بسوقهم إلى النار، بتلك الكلمات القاتلة: «ذوقوا مس سقر» .. اى انعموا بهذا النعيم، واهنئوا به.. والمس: اللفح، والعذاب الوارد عليهم من جهنم، ومنه قوله تعالى: «وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ» (41: ص) . وسقر: واد من أودية جهنم، ومنزل من منازلها، نعوذ بالله منها، ومن عذاب الله وسخطه. قوله تعالى: «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ» أي إنا خلقنا كل شىء بقدر.. أي بحساب وتقدير.. فما من ذرة فى السماء أو فى الأرض، إلا وهى فى علم الله، وفى تصريف قدرته، وإلا هى آخذة مكانها فى هذا الوجود، كما يأخذ كل عضو فى الجسد مكانه منه.. قوله تعالى: «وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» . أي ما أمرنا لشىء إذا أردناه، إلا أن نقول له كن فيكون.. فبكلمة واحدة، يدعى أي أمر، فيجيب فى لمحة كلمح البصر.. وفى هذا إشارة إلى أن الموجودات كلها واقعة فى علم الله، فى كل حال من أحوالها، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 647 وفى كل صورة من صورها، وأنها إذ تدعى إنما تدعى من حضور هى فيه.. فعلا.. قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» . هو عودة بهؤلاء المشركين من مشاهد القيامة، وما سيلقاهم هناك من بلاء وضنك- عودة بهم إلى حيث هم فى هذه الدنيا.. فإن تلك هى فرصتهم، إن أرادوا أن يصلحوا ما أفسدوا، وأن يتجنبوا هذا الطريق الذي ينتهى بهم إلى جهنم.. فليعيدوا النظر فى موقفهم هذا، وليتدبروا ما حل بأشياعهم، ومن هم على شاكلتهم من الأمم السابقة، الذين كفروا بآيات الله، وكذبوا رسله، وكيف أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.. ولكن أين من يتدبر، ويتذكر؟ .. والأشياع: جمع شيعة، وشيعة المرء أنصاره، ومن هم على طريقته.. وأهل الضلال جميعا شيعة، وإن لم يجمعهم زمان أو مكان.. لأنهم جميعا على طريق الغواية، والبوار.. ومدّكر: بمعنى متذكر، وفعله ادّكر، الذي أصله إذ دكر، فقلبت الذال دالا وأدغمت فى الدال.. قوله تعالى: «وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ» . أي كل شىء فعله هؤلاء الضالون وأشياعهم، مسجل عليهم فى الزبر، أي الكتب التي تكتب فيها أعمالهم.. فكل إنسان له كتابه الذي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 648 سطّر فيه كل ما عمل من خير أو شر.. «وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً» (13: الإسراء) . قوله تعالى: «وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ» . أي وكل صغير من أعمال الناس وكبيرها مستطر، أي مكتوب فى أسطر، على صفحات هذا الكتاب الذي يعطاه كل إنسان يوم القيامة. قوله تعالى: «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ» . وإذا كانت تلك هى حال الضالين والمكذبين، فى الآخرة، وهى حال تشيب لها الولدان، فإن هناك حالا أخرى، هى حال أهل الإيمان والتقوى، حيث النعيم المقيم، والرضوان العظيم.. إن أهل التقوى فى جنات وأنهار تجرى من تحت هذه الجنات، وإنهم فى منزل كريم عند مليك مقتدر، بيده كل شىء. وفى وصف المقعد بالصدق، إشارة إلى أنه منزل شريف كريم، شرف الصدق وكرامته، وأنه دائم باق دوام الصدق وبقاءه.. وفى وصف مقعد الصدق بأنه «عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ» أي عند الله المالك لكل شىء، المقتدر على كل شىء- فى هذا الوصف إشارة إلى قرب هؤلاء المتقين من ربهم، وأنهم فى ساحة فضله وإحسانه، فهو قرب رضا ورضوان، وإدناء فضل وإحسان.. جعلنا الله سبحانه من عبادة المقربين المكرمين.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 649 55- سورة الرحمن عروس القرآن نزولها: مدينة عدد آياتها: ثمان وسبعون آية مناسبتها لما قبلها بين سورة «الرحمن» هذه، والسورة التي قبلها «القمر» - أكثر من مناسبة: فأولا: ختمت سورة «القمر» بهذه الآية: «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ» .. ومن صفات المليك المقتدر، الرحمة، لا الجبروت، شأن المالكين المقتدرين، وبهذه الرحمة التي وسعت كل شىء أرسل الرسل يدعون عباده إليه، ويطبّون للآفات والعلل التي أوردتهم موارد الضلال.. فاستجاب كثير منهم، ووجد السلامة والعافية فى هذه الرحمة المرسلة من الله سبحانه على يد رسله.. فكان بدء سورة «الرحمن» بهذا الاسم الكريم موصولا بختام سورة «القمر» ، جاعلا منهما سورة واحدة.. وثانيا: النظم الذي جاءت عليه سورة «القمر» ، يشابه النظم الذي جاءت عليه سورة «الرحمن» ، من حيث تكرار بعض المقاطع مرات متعددة.. فقد كرو فى سورة «القمر» قوله تعالى: «فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ» أربع مرات، وكذلك قوله تعالى: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» .. كرر أربع مرات أيضا.. وفى سورة «الرحمن» كرر قوله تعالى «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» إحدى وثلاثين مرة! الجزء: 14 ¦ الصفحة: 650 ففى هذه المتتاليات: «فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ» ثم «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» ثم «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» - فى هذه المتتاليات، تدرّج من الإنذار والتخويف من عذاب الله، إلى عرض وسيلة النجاة من عذاب الله وتيسير الاتصال بها والوصول إليها، وهى القرآن الكريم. إلى مساءلة هؤلاء المدعوّين إلى كتاب الله، كيف يكذبون بآلاء الله ونعمه التي من أعظمها وأجلّها هذا الكتاب الذي يدعون إليه؟ بسم الله الرحمن الرحيم الآيات: (1- 13) [سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 13] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) التفسير: قوله تعالى: «الرحمن ...... » [سورة الرحمن.. ونظمها] فى سورة الرحمن ظاهرة ملفتة للأنظار، داعية إلى التساؤل عنها والبحث عما وراءها من أسرار.. تلك هى التكرار الملتزم فى قوله تعالى: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 651 «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» فقد تكررت هذه الآية إحدى وثلاثين مرة، خلال آيات السورة البالغ عددها ثمانيا وسبعين آية.. وقد كان هذا التكرار مدخلا من مداخل الطعن على القرآن، عند كثيرين من مرضى العقول والقلوب، من المستشرقين والمتتلمذين عليهم.. إذ عدوّا هذا التكرار مخلّا ببلاغة الكلام، جائرا على فصاحته، ثم يجاوزون هذا إلى القول بأن هذا التكرار الذي جاء خارجا على الأسلوب العام للقرآن، إنما يمثل حالا من أحوال الصّرع الذي كان يعرض للنبىّ! «كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً» .. ولا نعرض لدحض هذه المفتريات، إذ كانت تحمل فى كيانها أكثر من شاهد يشهد عليها بالكذب والافتراء.. وحسبنا أن نقف بين يدى هذا الإعجاز المبين من آيات الله.. فهذا المقطع الذي بدأت به السورة الكريمة، هو مقدمة موسيقية علوّية اللحن، قدسية النغم، لا تكاد تتحرك بها الشفاه، وتتصل بها الآذان، حتى يتفتق من أكمامها هذا الجلال المهيب، الذي يملأ القلوب مهابة وخشية، وحتى يشيع فى النفوس روحا وانتشاء.. سواء فى ذلك من وقف عند تناغم الألفاظ، وتجاوب جرسها، أم من جمع إلى هذا ما يفتح الله له من علم يرى فى أضوائه جلال المعنى، وصدقه المصفّى من شوائب الباطل والضلال.. فالنظم الذي جاءت عليه هذه الآيات، مستغن بنفسه عن أن يحمل كلماته ما تحمل اللغة من دلالات ومفاهيم، متعارفة بين أهلها، وحسبه أن يفعل بنغمه الموسيقى، ما لا تفعل أروع ألحان الموسيقى من روح وانتشاء! فكيف إذا حمل هذا النغم مع ذلك أدق وأصدق وأحكم ما تحمل الكلمات من معنى؟ .. انظر كيف يطلع هذا المطلع على تلك الصورة الرائعة الفريدة من النظم.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 652 فأنت بين يدى خمس آيات تلاحمت، وتماسكت دون أن يقوم بينها حرف عطف: «الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ» .. إن ما بينها من تجاوب وتآلف، يجعلها فى غنى عن أن يقوم بينها عاطف يعطف بعضها على بعض، ويجمع بعضها إلى بعض..! ثم انظر كيف كانت كلمة «الرحمن» التي بدئت بها السورة، هى الميزان الذي تجرى أحكامه على آيات السورة كلها، وتنضبط عليه أنغامها، وتتألف منه وحدة اللحن كله.. فيكون أشبه «بالرتم» الذي يمسك باللحن الموسيقى من مطلعه إلى نهايته! .. «الرحمن» .. إنه الذي يمسك بأجزاء السورة كلها، لفظا ومعنى.. فالرحمن، تتدفق من رحمته هذه النّعم، التي تعرضها السورة فى كل آية من آياتها، وقد تصدر القرآن- ومعناه القراءة الواعية فى صحف الوجود وفى كتب العلم وأجلها القرآن الكريم- تصدّر كلّ هذه النعم.. فإنه بغير هذه القراءة لا يهتدى الإنسان إلى الله سبحانه، ولا يتعرف على خالقه، ولا تقوم قدماه على طريق الحق والخير.. ثم يجىء الإنسان على رأس المخلوقات جميعها، إذ هو وحده الذي حمل الأمانة، أي العقل والتكليف، من بينها جميعا، فيكون هو التلقي لمجتمع كلمات الله، القارئ المستبصر، الذي يكشف بقراءته دلائل القدرة الإلهية.. فيؤمن بالله، ويقوم على خلافته فى الأرض، وبقيم موازين العدل فيها.. ثم انظر مرة أخرى إلى هذا التدبير الحكيم الذي تطلع به عليك هذه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 653 المقدمة من الفواصل المتتابعة، المتماثلة، مع فاصلة الآية المكررة.. الرحمن.. القرآن.. الإنسان.. البيان.. بحسبان.. يسجدان.. الميزان.. الميزان.. الميزان.. للأنام.. الأكمام.. الريحان.. فهذه اثنتا عشرة فاصلة، سبقت المقطع الذي سيتكرر فى السورة فى قوله تعالى: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» فيكون أشبه بمقدمة لهذا التكرار، إذ يكون من شأنه أن يقيم الأذن على هذا النغم، ويربطها به، فإذا تكررت هذه الآية بعد ذلك، لم تجد الطريق إلى الأذن مسدودا عليها، أو مستوحشا منها، بل إن الأذن لتتفتح لها، وتدعوها إليها، وتجذبها نحوها.. وانظر مرة ثالثة.. فلقد سبق هذا التكرار المنتظر، تكرار آخر، يمهد له، ويهيىء السمع واللسان لاستقباله.. وذلك بأن تكررت كلمة «الميزان» ثلاث مرات فى ثلاث فواصل متتابعة، دون أن يفصل بينها فاصل آخر.. ولا شك أن هذا تمهيد بليغ للتكرار الذي سيبدأ بعد هذه الفواصل مباشرة بقوله «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» والذي سيتكرر إحدى وثلاثين مرة.. ثم انظر مرة رابعة فى هذا المطلع.. تجد السورة قد بدئت بآية، هى كلمة واحدة، ثم بثلاث آيات، كل آية فيها من كلمتين.. الرحمن.. علم القرآن.. خلق الإنسان.. علّمه البيان.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 654 ثم تجىء بعد هذا آيتان من ثلاث كلمات: الشمس والقمر بحسبان.. والنجم والشجر يسجدان.. ثم تتلوها آيتان من أربع كلمات: والسماء رفعها ووضع الميزان.. ألّا تطغوا فى الميزان.. تعقبها آية من ست كلمات: وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان.. ثم تتلوها آية من ثلاث كلمات: والأرض وضعها للأنام.. تجيء بعدها آية من خمس كلمات: فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام.. ثم آية من أربع: والحبّ ذو العصف والريحان.. ثم تجىء بعد هذا الآية: فبأى آلاء ربكما تكذبان.. فتكون هى القرار الذي ينتهى إليه النغم، والذي يتردد بعد كل آية أو آيتين من السورة.. إن لعلماء الموسيقى مجالا فسيحا للدراسة والإفادة من هذا النظم، الذي تمثل كلّ آية منه جملة موسيقية، تختلف طولا وقصرا، وتأتلف مطلعا- قرارا.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 655 أما عند الموسيقىّ، فإنه يجد نفسه، وهو يتلو هذه الآيات إنما يتلقى درسا علويا من ينابيع الموسيقى السماوية، فيستفتح اللحن بكلمة «الرحمن» فيعطيها كل ما يمتلىء به صدره من أنفاس الحياة.. ثم يعود فيوزع أنفاسه بين كلمتين، كلمتين، ثم بين ثلاث ثلاث، ثم بين أربع أربع، ثم بين ست كلمات، هى آخر ما يمكن أن يمتد إليه النفس غالبا. ثم يعود ليلتقط أنفاسه، فيوزّعها بين ثلاث كلمات.. ثم يأخذ نفسه مرة أخرى ليوزعه على خمس كلمات.. وهنا يكون النفس قد توازن، وانضبط على حدود معينة، بين ثلاث كلمات، وخمس كلمات، فتلقاه الآية التي ستكرر على امتداد السورة، «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .. وهى من أربع كلمات، هى وسط بين الثلاث، والخمس!! هذا قليل من كثير لا نهاية له، مما يجده الناظر فى نظم هذا المقطع، الذي بدئت به السورة، والذي جاءت عليه السورة كلها.. أما المعنى الذي وراء هذا النظم، فهو أروع وأعجب.. إنه جامعة معارف، وبحار لآلئ ودرر، لا تزال أبد الدهر تغرى الطالبين لها، الغواصين فى بحارها، ليملئوا أيديهم منها، ويزينوا جيد الزمن بما ينظمون من جواهرها.. وها نحن أولاء نمدّ أبدينا إلى ما يفضل به الله تعالى علينا من فيض كرمه وإحسانه.. قوله تعالى: «الرَّحْمنُ» هو الله سبحانه وتعالى، المتجلّى بتلك الصفة من صفاته الكريمة، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 656 وهى الرحمة، التي هى اللطف الساري فى هذا الوجود، والنور الهادي لكل موجود.. وقد سميت السورة سورة «الرحمن» .. فهى بهذا محلّى من مجالى رحمة الله، وكل آية من آياتها رحمة راحمة، ونعمة سابغة، حتى تلك الآيات التي تحمل العذاب إلى الكافرين والضالين.. فإنهم- مع هذا العذاب الذي هم فيه- واقعون تحت رحمة الله، ولولا هذه الرحمة لتضاعف لهم هذا العذاب أضعافا كثيرة، لا تنتهى.. وإن هذا العذاب الذي هم فيه، هو رحمة واسعة بالإضافة إلى ما فى قدرة الله من عذاب، يتعذب به هذا العذاب نفسه!! وقوله تعالى: «عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ» .. هو أول تجليات رحمة الرحمن، وأعظمها شأنا، فيما يتصل بالإنسان.. ولهذا قدّم تعليم القرآن، أي القراءة، على خلق الإنسان ذاته، الذي هو موضع هذه الرحمة، ومتلّقى غيوثها.. فالقرآن- كما أشرنا من قبل- معناه هنا القراءة والدرس، والتعلم.. ومن أجل هذه القراءة، وهذا الدرس والتعلم خلق الإنسان، ليعرف الله، ويتعبد له، كما يقول سبحانه: «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» .. (56: الذاريات) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 657 فبهذه القراءة الواعية، يكون لقراءة القرآن ثمراتها، التي يحصل بها الخير كله، الذي ملاكه معرفة الله، والإيمان به، والولاء له.. وقد كان سياق المعنى، يقضى- فى ظاهر الأمر- بأن يقدم خلق الإنسان على تعلمه القراءة، مطلقا، أو قراءة القرآن بصفة خاصة.. ولكن النظم القرآنى لا يوزن بميزان نظم البشر لكلامهم.. فهذا كلام الله.. وكلامه صفة من صفاته، والفرق بين كلام الله وكلام البشر كالفرق بين صفات الله، وصفات عباد الله.. ولا تصح المقايسة بحال أبدا بين الخالق، والمخلوق.. نقول- كان سياق النظم يقضى- فى ظاهر الأمر- بأن يقدّم خلق الإنسان على تعلم القرآن، فيقال: الرحمن، خلق الإنسان، علم القرآن.. فماذا إذن وراء هذا النظم الذي جاء عليه القرآن؟ والجواب، أن وراء هذا النظم كثيرا من الأسرار، لا يحصيها العدّ، ولا يحيط بها العقل.. وإنما هى أسرار تتكشف حالا بعد حال، على مسرح العقول، وعلى امتداد الأزمان والآباد.. والذي يبدو لنا من هذا النظم- والله أعلم- أن القراءة، وهى- كما قلنا- قراءة عامة فى صحف الوجود، وفى الكتب- هى التي تكشف للإنسان الطريق إلى الله، وتدله على الله سبحانه من كمال وجلال، ومن تفرد بالخلق والأمر.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 658 والتعرف على الله، هو الغاية من خلق الإنسان على تلك الصورة الفريدة، التي امتاز بها عن عالم المخلوقات كلها، والتي استقل بها وحده بحمل الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، والتي بها أيضا استحق أن يكون أولى من الملائكة بخلافة الله على هذه الأرض.. فلمعرفة الله تلك المعرفة القائمة على وعى، وإدراك، وعلى حساب وتقدير- كان خلق الإنسان.. فمعرفة الله، هى العلة، وخلق الإنسان ليقوم بوظيفة هذه المعرفة هو معلول لهذه العلة، والعلة مقدمة على معلولها.. ولهذا قدم قوله تعالى: «عَلَّمَ الْقُرْآنَ» على قوله تعالى: «خَلَقَ الْإِنْسانَ» وقد «عَلَّمَهُ الْبَيانَ» .. أي خلقه ذا عقل وإدراك.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» (56: الذاريات) أي ليعرفونى، ويعبدونى.. وما يشير إليه قوله سبحانه: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها.. ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» (31- 33: البقرة) .. فالله سبحانه وتعالى، قد علم آدم: «خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ» أي خلقه قادرا على البيان والإفصاح عن حقائق الأشياء، والتمييز بين الخير والشر، والحق والباطل، والهدى والضلال.. ولم يعلّم سبحانه وتعالى الملائكة هذا العلم، ولم يخلقهم على طبيعة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 659 ترى هذا التزاوج فى الموجودات، وإنما هم على طبيعة هى من عالم الحق، والخير، والنور، فلا ترى من الأشياء إلا ما هو حق، وخير، ونور.. وهنا يبدو لنا بعض السر فى هذا الجمع بين الجن والإنس فى قوله تعالى: «وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» .. فالجن فى هذا المقام كالإنس، فى أن كلا منهما على طبيعة يرى بها الأشياء فى هذا الازدواج: الخير والشر، والحق والباطل.. وكما جمعت هذه الطبيعة بين الجن والإنس فى رؤية الأشياء على الازدواج- جمعت بينهما فى الخطيئة، وفى عصيان أمر الله.. فعصى إبليس أمر ربه بالسجود لآدم، وعصى آدم ربه فى الأكل من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها.. فالشيطان عصى فى أمر، وآدم عصى فى نهى.. وعصيان الأمر- فى ميزان التحدّى والمخالفة- أثقل وأشنع منه، فى حال النهى.. إذ كان الأمر إيجابا، والنهى سلبا.. فالأمر فعل، والنهى ترك.. وإتيان المأمورات، مقدم على ترك المنهيات، ولهذا التزم القرآن تقديم الأمر على النهى فى كل مقام اجتمعا فيه، فقال تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» (110: آل عمران) وقال سبحانه: «يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ» (17: لقمان) . وذلك أن فعل الأمر، يحمل فى طياته الانتهاء عن منكر يقع فيه من لا يمتثل الأمر.. ومخالفة الأمر يحمل مع تضييع الأمر، الوقوع فى محذور النهى.. وليس الشأن كذلك فى النهى، الذي يقف بصاحبه عند محذور النهى، إذا هو فعل المنهي عنه.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 660 ومن هنا كان إتيان المأمورات مثابا عليه، بخلاف اجتناب المنهيّات، فإنه بحسب المرء باجتنابها أن يسلم من شرها، ويخرج معافى لا عليه، ولا له.. ومع هذا، فإن الشيطان خالف أمر ربه بامتناعه عن السجود لآدم.. وآدم عصى ربه كذلك بإتيان ما نهاه عنه، فأكل من الشجرة- ولهذا كان لكل منهما حسابه وعقابه.. وقد أظهر آدم الندم، وأقبل على ربه تائبا مستغفرا، فتقبّل الله سبحانه وتعالى توبته وغفر له.. وأما الشيطان فقد أحاطت به خطيئته، وأعمته عن طريق الرجوع إلى الله سبحانه، فمضى فى غيّه وضلاله، تصحبه لعنة الله إلى يوم الدين.. وقد تحدّى إبليس- لعنه الله- ربه، ورأى فى نفسه فى انه خير من آدم، وأنه قادر على إفساده، وجعله وليّا له، محاربا لله الذي كرمه وأمر الملائكة بالسجود له!! وكان من حلم الله، على هذا اللعين، أن أفسح له فى مجال التحدي، وأن يجلب بخيله ورجله على بنى آدم، وسيرى أنه مقهور مخذول، فإنه لن ينال من عباد الله مالا، وإنما هو دعوة يستجيب لها من أبناء آدم من سبقت عليه كلمة الله، فكان من أهل النار، كما يقول سبحانه: «إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ» .. وكما يقول سبحانه: «إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ» (6: فاطر) .. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 661 ماذا هناك؟؟ ونحن بين يدى سورة «الرحمن» وفى أنس وروح من رحمة الرحمن، تهب علينا، وعلى غير انتظار، ريح سموم من رياح هذه الدنيا، تلفح وجوهنا، وتكوى مشاعرنا، وتثير بلبلة واضطرابا فى خواطرنا.. حتى ليكاد ذلك يفسد علينا هذا الجو المعطر بأنفاس الرحمة، ويقطع عنا- فى غفلة من إيماننا بالله، وثقتنا فى رحمته- هذا الأنس برحمة الرحمن.. ثم.. ثم ماذا؟؟ ثم نجد رحمة الرحمن الرحيم تحفّ بنا، وتعيدنا مرة أخرى إلى رحاب هذه السورة الكريمة- بعد أن انقطعنا عنها أياما، جريا وراء لقمة عيش نحصّلها من حديث فى صحيفة، أو إذاعة- وإذا بنا نجد أنفسنا وقد أظلّتها السكينة، وعاد إليها الأمن والسلام.. أما هذه الريح السموم، فإننا ندعها لرحمة الرحمن، لتحيل نارها بردا وسلاما.. فذلك هو إيماننا بالله، وثقتنا فى رحمته.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 662 ونعود إلى نظم الآيات مرة أخرى.. «الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .. فماذا نرى فى هذا النظم، من حيث المعنى، بعد أن كانت نظرتنا مقصورة على حدود النغم والجرس؟ هنا نجد- وهذا فى حدود نظرنا المحدود القاصر- أن الآيات الكريمات يأخذ بعضها بأعناق بعض، فى تعاطف، وتآلف، من غير أن يدخل بينها عاطف صناعى يشى بهذا السر الذي بينها، ويتسمع إلى هذه المناجاة الودود، بين الأحباء والأصفياء.. هذه واحدة!! ثم ماذا؟ «الرَّحْمنُ» ما شأنه؟ وما مظاهر رحمته؟ .. ذاك سؤال! «عَلَّمَ الْقُرْآنَ» .. وهذا جواب.. يقوم من ورائه سؤال: كيف علم القرآن؟ «خَلَقَ الْإِنْسانَ» .. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 663 وهذا جواب.. يثير سؤالا: وماذا بين خلق الإنسان، وتعليم القرآن؟ «عَلَّمَهُ الْبَيانَ» وهذا هو الجواب.. فبالبيان الذي علمه الله الإنسان، تعلم القرآن.. ومن وراء هذا الجواب سؤال؟ وأي شىء يقرؤه هذا الإنسان الذي خلقه الله مستعدا للقراءة والبيان لما يقرأ؟ .. «الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ» .. «وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ» .. «وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ» .. هذا هو جواب السؤال.. فتلك هى الصحف المنشورة، التي يقرأ فيها هذا الإنسان المهيأ للقراءة، المجهز بأدوات البيان والكشف، بما أودع فيه الخالق من عقل، وقلب، وسمع، وبصر، ولسان يصور به ما رأى ببصره، وما سمع بأذنه، وما وقر فى قلبه، وما تشكل فى عقله- يصور ذلك كله بكلمات واضحة مبينة، يهتدى بهديها، ويمشى فى حياته على ضوئها..! فالشمس والقمر.. يجريان بحساب مقدور.. كل فى فلكه.. «لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ.. وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» . (40: يس) وهذا كتاب يضم من العلوم والمعارف ما لا يقع تحت حصر، ولا ينتهى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 664 عند حد، إذ كان موضوعه العالم العلوي وما فيه من أفلاك، وما يدور فى هذه الأفلاك من نجوم وكواكب.. والشمس والقمر، هما أظهر ما فى العالم العلوي المنظور لنا من نجوم وكواكب.. بحيث يقعان فى نظر كل إنسان، ويدنوان من مفهوم كل ذى نظر، فلا يكاد يوجد إنسان على ظهر هذا الكوكب الأرضى إلا وعنده علم عن الشمس والقمر، على اختلاف فى درجة هذا العلم، وعلى تفاوت بعيد بين القدر الذي يقع لكل إنسان منه، إذ بينما يكون هذا العلم عند بعض الناس مجرد نظر جامد بارد، ولا يحرك شعورا، ولا يثير إحساسا، إذ هو عند آخرين مثار خيال، ومبعث وجدان، ومنطلق إدراك، وجامعة علم وفن وفلسفة..! فإذا نظر الإنسان إلى الشمس والقمر، نظرا قائما على الدرس والحساب، أسلمه هذا النظر إلى ما وراء الشمس والقمر، مما حواه العالم العلوي من أجرام ظاهرة يراها رأى العين، أو خفية يلتمس لها الوسائل التي يراها من خلالها.. وبهذا النظر المستند إلى الحسبان أو الحساب، عرف الإنسان كثيرا من أسرار هذا العالم، ورأى أن الشمس والقمر الذين يبدوان وكأنهما سيّدا الأجرام السماوية، ليسا إلا إشارتين باهتتين تطلّان من هذا العالم على الأرض، وأنهما بالنسبة لهذا العالم أشبه بحصاتين فى سفح جبل الهملايا بالهند مثلا..! فإذا بلغ الإنسان اليوم من العلم بحيث يضع قدميه على القمر، فليس ذلك إلا خطوة قصيرة من مسيرة طويلة العلم، فى مسابح هذا العالم الذي لا حدود له.. وإذا قصر نظر الإنسان عن أن يرى ما وراء الشمس والقمر فى العالم العلوي، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 665 فليقم نظره على ما بين يديه من العالم الأرضى.. حيث يجد وجه الأرض وقد نجمت فيه نجوم أشبه بنجوم السماء وكواكبها.. «وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ» .. ففى الأرض نجم، وشجر.. والنجم، هو النبات الذي لا ساق له، مما يظهر على وجه الأرض، كالحشائش، ونحوها.. والشجر هو ما قام على سوق وما اتصل بهذه السوق من فروع، وأغصان وأوراق، وأزهار، وثمار.. والنجم من نبات الأرض، يمثّل الكواكب والنجوم المنثورة فى السماء، والتي تبدو فى مرأى العين صغيرة باهتة.. والشجر، يمثل الشمس والقمر فى ظهورهما، وكبر حجمهما.. وإذا كان جريان الشمس والقمر بحسبان، فإن قيام النجم والشجر من النبات، بحسبان أيضا، إذ أن كلّا منهما فى يدالقدرة الإلهية، قائم فى محراب الولاء، والخضوع، والسجود، لله رب العالمين.. وأنه كما فى العالم العلوي مجال فسيح النظر والكشف عن علوم لا حدود لها، فكذلك فى عالم النبات، نجمه، وشجره- علم لا ينتهى أبدا.. «وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ..» ثم، إنه إذا كان فى الناس من لا يرى هذا التفصيل فى العالم العلوي أو الأرضى، فإنه لن يكون فى الناس أبدا من لا يرى السماء جملة، أو الأرض جملة.. «وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ فِيها فاكِهَةٌ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 666 وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ» .. فالسماء مرفوعة كالمظلة فوق الناس، بلا عمد تقوم عليها، وإنما يد القدرة هى التي تمسك بها، وتقيمها على ميزان دقيق لا ينحرف قيد أنملة: «وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ» .. أي أقامها، ووضع لها حسابا دقيقا، وميزانا مضبوطا تجرى عليه أمورها.. وقوله تعالى: «أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ.. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ..» هو دعوة إلى أن يقيم الناس أمرهم فى التعامل مع هذه العوالم على العدل والإحسان، فلا ينحرف بهم النظر عن مواقع الحق منها، فذلك ضلال وخسران للميزان الذي وضعه الله سبحانه وتعالى فى أيديهم، وهو عقولهم التي من شأنها أن تضبط مسيرتهم فى الحياة، كما تضبط السماء دعائمها بهذا الميزان الذي وضعه الله سبحانه وتعالى لها.. وفى قوله تعالى: «وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ» - إشارة إلى أن هذه الأرض، هى فى خلافة الأنام، وهم الناس، وأن معهم الميزان الذي يضبطون به أمور الأرض، أشبه بذلك الميزان الذي وضعه الله سبحانه لضبط السماء وعوالمها.. وفى هذا تكريم للإنسان، ورفع لقدره، وإعطاؤه حكم هذه الأرض بالميزان الذي معه، وهو العقل.. وهو بهذا الميزان استحق أن يكون خليفة الله فى الأرض.. فإذا لم يقم أمرها على ميزان الحق والعدل والإحسان، اضطرب أمره، وفسد حاله، وساء مصيره.. «فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ» أي أن هذه الأرض التي وضعها الله الجزء: 14 ¦ الصفحة: 667 للأنام، وأقامها على هذا الوضع- قد هيأها الله سبحانه لتكون مأوى صالحا لحياة الإنسان، فأخرج منها فاكهة ونخلا ذات أكمام.. والأكمام: جمع كمّ، وهو الجراب الذي يضمّ طلع النخل، الذي يتكون منه الثمر.. «وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ» .. معطوف على قوله تعالى: «فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ» - أي وفيها الحبّ ذو العصف والريحان.. «وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ» هو الحبّ الذي يؤكل كالحنطة وغيرها.. والعصف، هو أوعية هذا الحب التي تنفصل عنه عند نضجه، فتكون حطاما وهشيما، كما فى قوله تعالى: «فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ» .. أما الريحان، فهو ذلك النبت الطيب الريح.. وهو إشارة إلى كل نبت طيب ريحه.. وفى هذا إشارة إلى أن الإنسان ليس مجرد حيوان يطلب حاجة الجسد من طعام وشراب وحسب، وإنما هو كائن أسمى من عالم الحيوان، لا يقف عند مطالب الجسد، بل إن لروحه مطالب لا تقل عن مطالب الجسد، وحاجته إلى ما يقيم وجوده.. فالريح الطيب ينعش النفوس، ويغذّى الأرواح.. وفى التعبير القرآنى بكلمة: «والريحان» عن النبت الطيب الريح، إشارة إلى أن اتجاه هذا النبت إنما هو إلى الروح.. فالريحان والروح من مادة واحدة لفظا، ومعنى!! وبعد هذا العرض الكاشف لرحمة الرحمن، وقدرته، وقيومته على هذا الوجود، علوه، وسفله، وخلقه الإنسان، وقد علمه البيان، ووضع بين يديه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 668 الميزان الذي يزن به الأمور، ويفرق به بين خيرها وشرها- بعد هذا يجىء قوله تعالى مخاطبا الكائنين اللذين لهما وجود ظاهر على هذه الأرض، ولهما مجال فسيح فيها، وصراع محتدم بينهما على الخير والشر اللّذين فى كيانهما.. فيقول سبحانه: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .. فالخطاب هنا من الحق سبحانه وتعالى، إلى عالمى الجن والإنس، إذ هما- كما قلنا- الكائنان المكلّفان، بما لهما من عقل وإدراك. وهما اللذان يحاسبان، ويثابان، أو يعاقبان. والآلاء: جمع إلى، على وزن معى، وألى على وزن على وهى النعم.. والاستفهام هنا تقريرى، إذ كانت نعم الله ظاهرة، تلبس كل ذرة فى هذا الوجود.. حيث أن الوجود نفسه، هو نعمة بالنسبة العدم.. عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الرحمن على أصحابه فسكنوا، فقال: «ما لى أراكم سكوتا؟ للجنّ أحسن جوابا لربها منكم» .. قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: «ما أتيت على قوله تعالى: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» إلا قالت الجن: ولا بشىء من نعم ربنا نكذب» .. وعن جابر بن عبد الله، قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه، فقرأ سورة الرحمن من أولها إلى آخرها، فسكتوا، فقال: «لقد قرأتها على الجن، ليلة الجن، فكانوا أحسن ردودا منكم.. كنت الجزء: 14 ¦ الصفحة: 669 كما أتيت على قوله تعالى: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» قالوا: ولا بشىء من نعمك ربّنا نكذب.. فلك الحمد» .. وقد استدل بهذا الحديث على أن السورة مكية، لأن ليلة الجن التي يشير إليها النبي صلى الله عليه وسلم كانت قبل الهجرة، وذلك كان بوادي نخلة حيث بات النبي صلى الله عليه وسلم، وهو فى طريق عودته من الطائف إلى مكة، بعد أن عرض دعوته على ثقيف بالطائف، فردوه، ولم يقبلوا منه.. الآيات: (14- 32) [سورة الرحمن (55) : الآيات 14 الى 32] خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 670 التفسير: قوله تعالى: «خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .. الصلصال: الطين الجاف، الذي له صلصلة وجرس عند احتكاك بعضه ببعض.. وهذا من طبيعة الطين اللازب، أي اللزج إذا جف.. ولهذا شبه بالفخار، وهو الطين الذي وضع فى النار حتى احترق، وصار فخارا.. والمارج من النار، هو المضطرب من لهيبها، المختلط بالدخان.. وفى الجمع بين خلق الإنسان، وخلق الجان- جواب على سؤال يرد عند ذكر قوله تعالى فى الآية السابقة على هاتين الآيتين، وهو قوله تعالى: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» حيث لم يذكر فى السورة قبل هذه الآية ما يدل على هذا المثنّى الذي يتجه إليه الخطاب.. فكان ذكر خلق الإنس والجن، والجمع بينهما، جوابا على هذا السؤال: من المخاطب هنا بقوله تعالى: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» ؟ .. إنهما هذان المخلوقان، الإنس والجن.. وقدّم خلق الإنس على خلق الجن، مع أن الجن أسبق فى الخلق الجزء: 14 ¦ الصفحة: 671 من الإنس- تشريفا للإنسان، وتكريما له فى رتبة الخلق، حيث أمر الله الملائكة- ومنهم الجنّ- أن يسجدوا له، احتفاء بمولده.. قوله تعالى: «رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .. أي هو سبحانه رب المشرقين، ورب المغربين، أي مشرقى الشمس، ومغربيها، صيفا وشتاء.. وهذه الربوبية، هى نعمة عظيمة جليلة للموجودات كلها، إذ كان كل موجود هو صنعة هذه الربوبية، وغذىّ فضلها وإحسانها.. فهل من مكذّب بهذه الآلاء، منكر لها؟ قوله تعالى: «مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .. مرج البحرين: أي أثار بينهما تماوجا، وتدافعا واضطرابا، عند التقاء أحدهما بالآخر.. فقوله تعالى: «يَلْتَقِيانِ» حال يكشف عما وراء هذا الالتقاء من تماوج، وتدافع بينهما، بما يحدثه هذا الالتقاء. والمراد بالبحرين: المالح، والعذب.. والبرزخ: الحاجز الذي يحجز بين شيئين.. فمن رحمة الرحمن الرحيم، أنه جمع بين البحرين: هذا عذب فرات سائغ شرابه، وهذا ملح أجاج، وهما على طبيعة واحدة، وفى مرأى العين ماء، لا فرق بين الملح والعذب إلا فى المذاق.. ومع هذا فقد جعلت القدرة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 672 الإلهية بينهما حاجزا، فلا يبغى أحدهما على الآخر، ولا يجاوز حدوده.. كما يقول سبحانه: «وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً» (53: الفرقان) .. فمن ينكر هذا؟ ومن يكذب بآلاء الله ونعمه على عباده، فلا يستقبل هذه النعم بالحمد والشكران؟ .. فالتكذيب بالنعم، هو كفر بها، وجحود لفضل المتفضل بمنحها.. قوله تعالى: «يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» . أي يخرج من البحرين- الحلو والملح- اللؤلؤ والمرجان.. واللؤلؤ: إفراز حيوان بحرى، داخل بيت صدفىّ، لونه أبيض، وتتخذ منه الحلي الثمينة، من قلائد، وقرط، وخواتم.. ولونه أبيض، مشرب بصفرة. والمرجان: خرز أحمر، صغار، وهو نباتى أقرب إلى عالم الحيوان.. واللؤلؤ يخرج من التقاء الماء العذب بالماء الملح، أو حيث خلجان البحار الساكنة التي ينزل عليها ماء المطر، فيكون الماء العذب، سواء من الأنهار، أو الأمطار، أشبه باللقاح للماء الذي يتخلّق منه حيوان اللؤلؤ، ولهذا أضيف إخراج اللؤلؤ إلى البحرين معا.. الملح والعذب.. ومن كلّ من البحار والأنهار، يستخرج اللؤلؤ والمرجان.. ولكن لا بد من التقاء الملح بالعذب، والعذب بالملح، على أية صورة من الصور حتى يتخلّق منهما اللؤلؤ والمرجان.. فتارة يكون البحر هو محتواهما، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 673 وتارة يكون النهر هو مستخرجهما، حسب الظروف التي يتم بها التقاء أحدهما بالآخر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ.. هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ، وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها» (12: فاطر) .. قوله تعالى: «وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .. الجوار: السفن، جمع جارية، لأنها تجرى طافية على وجه الماء.. والمنشآت: أي المصنوعات، بأيدى الناس.. والأعلام: الجبال.. جمع علم، وسمّى الجبل علما لظهوره، وإشرافه على الأرض، كمعلم من معالمها، وسميت الراية علما، وسمى الرجل العظيم البارز علما، لهذا المعنى. قوله تعالى: «كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .. الضمير فى «عليها» : يعود على الأرض التي يعيش عليها الناس، وتجرى فيها الأنهار، وتتلاحم بالبحار، ويتخذ الناس من ظهور البحار والأنهار مطايا ذللا يسرجونها بالسفن، وينتقلون عليها، ويحملون أمتعهم، وتجاراتهم من بلد إلى بلد.. فهذا الذي يعيش فيه الناس، ويشغلون به، ينبغى ألا يشغلهم عن الإعداد الجزء: 14 ¦ الصفحة: 674 ليوم القيامة، والعمل للحياة الأخرى، التي هى الحياة حقّا.. كما يقول سبحانه: «وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» (64 العنكبوت) أما هذه الحياة الدنيا، وأما ما يتقلب فيه الناس منها، فهو فان لا بقاء له.. وقوله تعالى: «وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ» هو إلفات إلى الله سبحانه وتعالى، وأنّه الحىّ الباقي، الذي ينبغى أن تتجه إلى وجهه الوجوه، وتتعلق برضاه وكرمه الآمال، ويرجى عنده الخير كله.. فهو صاحب الملك، وبيده الخير، والفضل، والإكرام، لمن يقصدون وجهه، ويبتغون فضله وكرمه.. ويلاحظ أن صفة الجلال والكرم هنا، إنما كانت لوجه الله سبحانه، وذلك إشارة إلى أن الاتجاه إلى الله والإقبال عليه، من شأنه أن يفسح الطريق للعبد إلى رضاء الله، والإقبال عليه بوجهه سبحانه وتعالى، وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى: «وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى» (19- 21 الليل) . والسؤال هنا هو: هل هذا الفناء المسلط على الحياة الدنيا وما فيها- هل هو نعمة من النعم، حتى يدعى الإنس والجن إلى الإقرار بها وشكرانها؟ .. ونعم، فإن هذا الفناء للدنيا، هو نعمة من أجلّ النعم، إذ كان مدخلا إلى حياة باقية خالدة.. ولو أن أمر الناس كان إلى تلك الحياة الدنيا وحدها، وليس لهم حياة أخرى بعدها، لكان فى ذلك الخسران المبين الناس جميعا،. إذ أن أسعد الناس حظا فى هذه الدنيا هو مبخوس الحظ، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 675 إذا كانت حياته محدودة بهذه الحياة، وكان وجوده منتهيا عندها إلى الفناء الأبدىّ، بعد أن عانى الإنسان فى الحياة الدنيا ماعانى من آلام، وأحزان، وأمراض وشيخوخة، ونقص من الثمرات والأنفس! فالحياة على أية حال، وعلى أية صورة خير من العدم، إنها نعمة تستوجب الحمد والشكران لله رب العالمين، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» (28: البقرة) . ففناء الناس وموتهم نعمة، إذ أن هذا الموت- كما قلنا- هو مدخل إلى عالم الخلود، وبقاء الله سبحانه وتعالى، هو مجتمع النعم كلها، إذ أن بقاءه ضمان لوجود هذا الوجود.. فبأى هذه النعم يكذّب الثقلان.. الجن والإنس؟ قوله تعالى: «يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .. أي أن كل من فى السموات والأرض يسأل الله من فضله وإحسانه، سؤال الفقير إلى الغنىّ، والضعيف إلى القوى، ومن لا يملك أي شىء، لمن يملك كل شىء. فكل من فى السموات والأرض مستمد من فضل الله، سأل أولم يسأل.. فإن لم يسأل بلسانه، فإن علم الله بحاله يغنى عن سؤاله.. وهذه المنن والعطايا التي تعيش فيها المخلوقات، وتحفظ عليها وجودها، هى من عند الله، ومن واسع رحمته، يجود بها عليها، سألت أو لم تسأل.. فالسؤال هنا كناية عن الحاجة، وكل مخلوق فى حاجة أبدا إلى عون الله، وإلى أمداد إنعامه وإحسانه.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 676 وقوله تعالى: «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» .. الشأن: الأمر، والحال.. أي إن الله سبحانه وتعالى، فى تصريف، وتدبير للخلق، فى كل يوم بل فى كل لحظة.. فذلك شأن المالك فيما ملك، والخالق لما خلق، لا يغفل أبدا عن ملكه، ولا يفتر أبدا عن تدبير شئون خلقه.. «إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ» (41. فاطر) .. وليس ذلك بالأمر الذي يتكلّف الله سبحانه له جهدا، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.. «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ» .. (255: البقرة) .. فليس الوجود مجرد آلة تدور على وجه واحد، لا يتغير أبدا، بل هو فى كل آنة من آنات الزمن، بل فى كل فراغ بين الآنة والآنة- إن كان هنا فراغ- هو فى صورة غير الصورة التي كان عليها.. إنه فى تجدّد دائم، وفى حركة دائبة.. يقبدل أثوابا بأثواب، وأحوالا بأحوال.. دون أن يقع فى نظامه خلل أو اضطراب.. وهذا برهان على قدرة الخالق جلّ وعلا، وعلى أن على هذا الوجود إلها قادرا، عالما، حكيما، يغيّر فيه ويبدل كيف يشاء، مع احتفاظه بهذا النظام المحكم البديع.. ولو كان الوجود وجها واحدا لما قام منه شاهد أبدا على أن له مدبّرا يدبره، ويحكم أمره.. وننظر إلى الهرم الأكبر فى مصر مثلا، وهو أعجوبة من عجائب الدنيا، ومعجزة من معجزات الإنسان.. إن بقاءه على تلك الحال فى علوّه وشموخه منذ آلاف السنين، وإن شهد لبانيه بالقدرة، والبراعة، فإن هذا البقاء نفسه على تلك الحال التي قام عليها من أول يومه، هو ذاته شهادة وفاة لهذا الباني البارع، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 677 وإلّا لأحدث فيه شيئا يدلّ على أنه حى يعيش فى عالم الأحياء.. إن من شأن الكائن الحىّ أن يتحرك، ويعمل، ويؤثّر، وأن يبلى قديما ويلبس جديدا، وأن يأخذ كل يوم وضعا جديدا فى الحياة.. فهذا الذي يشهد بأنه حىّ، له وجود مؤثر فى الحياة.. والله سبحانه حى حياة أبدية سرمدية، بدليل هذا التحول المستمر فى عوالم الوجود، القائم عليه بسلطانه، خلقا وتدبيرا.. وفى معنى قوله تعالى: «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فيما بروى عن أبى ذرّ: «إن من شأنه- سبحانه- أن يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع قوما، ويضع آخرين وليس هذا التبدل والتحول فى أحوال الناس، وفى صور الموجودات، هو مما يحدثه الله سبحانه حين يحدث، وإنما هى أمور واقعة فى علم الله القديم، مسطورة فى كتابه المكنون، فيظهر منها ما يظهر فى الوقت المقدور له، وعلى الصورة التي أرادها سبحانه وتعالى أزلا.. إنها أمور يبديها ولا يبتديها.. قوله تعالى: «سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .. الثقلان: الإنس والجن، وسميا بالثقلين، لأنهما ثقلا الأرض، كلّ يأخذ جانبا من كفتى ميزانها.. الإنس فى كفة والجن فى كفة.. عالم الظهور فى جانب، وعالم الخفاء فى جانب.. ومثل هذا «الملوان» وهما الليل والنهار، لأنهما يملآن الزمان كله، ويستوعبان كل آناته، ولحظاته. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 678 وقوله تعالى: «سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ» كناية عن رقابة الله سبحانه وتعالى للجن والإنس، رقابة محكمة، بحيث لا يفلت أحد منهما من قبضته.. أمّا الله سبحانه وتعالى، فإنه لا يشغله شأن عن شأن، ولا يعوقه أمر عن أمر.. ولكن فى قوله تعالى: «سَنَفْرُغُ لَكُمْ» ما يؤكد للجن والإنس أنهما تحت رقابة خاصة، على غير تلك الرقابة العامة القائمة من الله سبحانه وتعالى على الوجود كله، إذ هما- كما قلنا- المخلوقان اللذان يناط بهما التكليف، ويقعان تحت حكم المساءلة والحساب والثواب، وإذ كان الله سبحانه لا يحاسب غير هما- فيما نعلم- فكأن رقابة الله سبحانه وتعالى متجهة كلّها إليهم.. وهذا كله على التمثيل والتشبيه، وتعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.. وهذا فضل من فضل الله تعالى، على الجن والإنس، إذ هما من بين المخلوقات على تلك الصفة التي تجعل لهما هذا الامتياز عن المخلوقات جميعها، والتي تجعلهما فى مقام الحضور بين يدى الله للمساءلة والحساب.. وهذا الحساب، وتلك المساءلة- على أي حال يكونان عليها، وإلى أية نهاية ينتهيان بمن يحاسب ويسأل- دليل على أهلية المحاسب المسئول، وعلى أنه له إرادة عاملة.. أما من لا يحاسب ولا يسأل، فلا تكاد تتضح ملامح شخصيته، ولا تبين له ذاتية ذات شأن وأثر.. وهذا الوجود على تلك الحال التي عليها الجن والإنس هو- كما قلنا- نعم جليلة من نعم الله.. فمن يكذب بهذه النعم، وهى تشكل وجوده، وتقيم كيانه، وترفع قدره فى العالمين؟ هذا، ويلاحظ أن ألف هاء التنبيه قد حذفت من قوله تعالى: «أَيُّهَ الثَّقَلانِ» فى خط المصحف العثماني.. فما حكمة هذا الحذف؟. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 679 نقول- والله أعلم- إن ذلك الحذف هنا- مقصود من كتّاب المصحف، من صحابة رسول الله رضى الله عنهم، وهو- والله أعلم- إشارة إلى فهم خاص لهم، اقتبسوه من أضواء النبوة.. وهذا الفهم، هو أن خطاب الله سبحانه وتعالى الجن والإنس، وأنه قد فرغ لهم، وأقبل على حسابهم ومساءلتهم- يشير إلى أنهم هنا فى مقام حضور من الله سبحانه، وأنه سبحانه قريب من كل فرد منهم، قربا لا يدع لأحد فرصة للغفلة عن مراقبة الله تعالى له.. فهو فى حال حضور دائم، وإن كان غافلا، ومن ثمّ فلا يحتاج إلى تنبيه!! الآيات: (33- 61) [سورة الرحمن (55) : الآيات 33 الى 61] يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45) وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 680 التفسير: قوله تعالى: «يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» . نداء إلى الجنّ والإنس، بأن يختبرا قوتهما وسلطانهما أمام قوة الله وسلطانه.. إنهما محاسبون ومسئولون بين يدى الله، كما جاء فى قوله تعالى: «سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ» .. وإنه ليس لهما ملجأ من الله إلا إليه.. فإن استطاعوا أن ينفذوا من أقطار السموات والأرض فلينفذوا.. ولكن إلى أين؟ إنهم لا ينفذون إلى أي قطر من أقطار السموات والأرض، إلّا وهم واقعون تحت سلطان الله، مسيّرون به.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 681 فالباء فى قوله تعالى: «بِسُلْطانٍ» باء المصاحبة مثل قوله تعالى: «وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» أو باء الاستعانة، مثل قوله تعالى: «وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ» .. وأقطار السموات والأرض: جوانبهما، والقطر هو الخط الذي يصل بين طرفى الدائرة مارّا بمركزها.. وعلى هذا، فيكون معنى النفوذ من أقطار السموات والأرض، هو الانتقال من فلك إلى فلك، ومن كوكب إلى كوكب.. وفى التعبير بلفظ أقطار، عن نهاية كل فلك أو كوكب- إشارة إلى كروية الأفلاك والكواكب.. وهذا ما أثبته العلم الحديث من كروية الفلك، والنجوم، والكواكب، وأنّ الوجود كلّه دائرىّ.. وفى التعبير عن السموات بصيغة الجمع، وعن الأرض بلفظ المفرد- إشارة إلى أن السموات عوالم وأكوان بعضها فوق بعض، أو محيط بعضها ببعض، وأن الأرض عالم واحد، له قطر واحد.. وأما قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ» (14: الطلاق) فليست المثلية هنا فى العدد، وإنما هى من حيث اختلاف طبقات الأرض، التي تبدأ من وجه الأرض وقشرتها، إلى وسط المركز منها.. فقشرة الأرض تراب، وطين، ورمال وأحجار.. تم تلى ذلك طبقات، كل طبقة ذات طبيعة خاصة، وعلى درجة حرارة خاصة، تتكون منها المعادن، والجواهر.. من الحديد والنحاس، والذهب، والفضة، والألماس، وهكذا.. فالأرض واحدة فى كيانها وجرمها، وهى سبع فى طبقاتها، واختلاف الجزء: 14 ¦ الصفحة: 682 طبيعة كل طبقة، ولهذا جاء التعبير القرآنى المعجز: «وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ» ولم يجىء: ومن الأرضين مثلهن.. حيث تدل المثلية هنا فى التعبير غير القرآنى على مثلية العدد نصا أما التعبير القرآنى فالمثليّة فيه مثلية فى تنوع العوالم واختلاف المنازل. قوله تعالى: «يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .. أي إذا استطعتم أن تنفذوا- معشر الجن والإنس- من أقطار السموات والأرض، بما مكّن الله سبحانه وتعالى لكم من سلطان- استطعتم به أن تخرجوا من فلك إلى فلك، وأن تنتقلوا من كوكب إلى كوكب- فإنكم لن تجدوا الحياة مهيأة لكم فى الفلك الجديد، أو الكوكب الذي انتقلتم إليه، إذ لا حياة لكم إلا على هذا الكوكب الأرضى.. أما الكواكب، والأفلاك الأخرى، فإنها نرسل عليكم شواظا من نارها، ورجوما ملتهبة من نحاسها.. «فلا تنتصران» أي فلا تحققان غاية النصر الذي طلبتموه من انتقالكم من عالمكم الأرضى إلى العالم العلوىّ.. إنكم أبناء هذه الأرض، مادمتم فيها.. والشواظ من النار: ألسنة اللهب المختلطة بالدخان.. وهذا يعنى أن بعض الكواكب نار ملتهبة، لا تزال فى دور الاحتراق، وبعضها فى دور الانصهار، فيقطر منها هذا السائل الناري من النحاس وبعضها فى دور الغليان لهذه المعادن المنصهرة.. وهكذا.. هذا، وقد نفذ الإنسان فى هذه الأيام من قطر الأرض، وخرج من سلطان جاذبيتها إلى القمر، ونزل على سطحه ومشى بقدميه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 683 فوق أديمه، مصطنعا لذلك الوسائل التي تحميه من لهيب القمر، فى النهار القمري، ومن برده القاتل فى ليله.. وإنه بغير هذه الوسائل لن يستطيع أن يمكث لحظة واحدة.. ومع هذا، فإن القمر أقرب كوكب إلى الأرض، والرحلة إليه لا تعدو أن تكون خطوة نملة على الأرض، فى محيط هذا الكون الرحيب!. ومع هذا أيضا، فإنه- وهذا مقطوع به- لن تطيب حياة للإنسان على هذا الكوكب، ولن يعمر به أبدا!! أما عالم الجن، فإن له محاولاته لاختراق أقطار السموات، ولكنه لا يكاد يبلغ مدّى معينا حتى يجد المهلكات تنتظره، وترده خاسئا إلى الأرض.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ» .. (17، 18: الحجر) ويقول سبحانه وتعالى على لسان الجن: «وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً» (8، 9: الجن) . والسؤال هنا: كيف يكون إرسال الشواظ من النار، والقذائف من النحاس الملتهب- كيف يكون إرسال هذه الرجوم على الجن والإنس آلاء ونعما، يدعوان إلى الإقرار بها، والشكر عليها؟. والجواب: أن هذه الرجوم تحدّث عن تلك الحياة الميسرة التي يحياها الإنس والجن على الأرض، وأنه مما فى قدرة الله أن يحيل هذه الأرض إلى نار مثل هذه الكواكب التي ترمى بالشرر.. ولكنه سبحانه- جعل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 684 هذه الأرض بحيث تطيب فيها الحياة لساكنيها من الإنس والجن.. وهذا رحمة منه سبحانه، وإحسان، يقتضى الحمد والشكر لله رب العالمين.. قوله تعالى: «فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» . انشقت السماء: أي فتحت أبوابها. وذلك عند انتقال الثقلين- الجن والإنس- إلى العالم الآخر.. فعندئذ تتبدل حقائق الأشياء، فى نظر الجن والإنس، وتبدو السماء التي كانت مغلقة عليهم، وقد أمكنهم النفوذ إلى أقطارها، وهنا ترى الأشياء على حقيقتها لهم.. وهذه السماء التي تبدو فى لونها الأزرق، تأخذ عندهم لونا ورديا، أي أحمر داكنا، كالدهان، وهو الشحم حين يصهر، فيأخذ هذا اللون الوردي الداكن.. ذلك أن هذا اللون الأزرق الذي نراه فى جو السماء، ليس إلا انعكاسا لأشعة الشمس على الأرض.. فإذا صعد الإنسان فى الجو تغير هذا اللون فى مرأى العين، وأخذ صورا من الألوان التي يغلب عليها السواد.. فإذا خرج عن فلك الأرض لم ير إلا هذا اللون الأحمر، وهو اللون الذي يعلو جميع الألوان التي تبدو من تحليل الضوء خلال منشور زجاجى.. وهنا سؤال أيضا: أين الآلاء التي تحدث عنها الآية الكريمة هنا؟ وإذا كان ما تحدث عنه آلاء، هى فى حيز الشرط الذي لم يأت جوابه بعد- فكيف يكون لها مفهوم بغير الجواب الذي يحكم الشرط، ويكشف عن مضمونه؟. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 685 والجواب على هذا- والله أعلم- أن مجرد انشقاق السماء، على أية حال، ولأية غاية، هو وحده دليل على قدرة الله، وعلى تمكن سلطانه فى هذا الوجود، وهذا- كما قلنا- نعمة من أجل النعم على المخلوقات إذ كانت قيومة الله على الوجود ضمانة وثيقة للمخلوقات جميعها، بأنها فى يد صانعها، ومدبر أمرها، وأنها بهذا لن يجار عليها، ولن تؤخذ بغير الحكمة والعدل، ولن تتلقى غير الفضل والإحسان.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن انشقاق السماء إيذان بالبعث، والحساب والجزاء.. وهذا أيضا نعمة من النعم الجليلة، إذ أنها أعادت المخلوقات- من إنس وجن- إلى الحياة مرة أخرى، بعد أن ردها الموت إلى حال من العدم أو ما يشبه العدم.. والوجود- كما قلنا أكثر من مرة- هو فى ذاته خير من العدم، على أية صورة يكون عليها الموجود، وفى أي وضع يأخذه فى سلّم الموجودات.. «فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ» .. «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» . هذه هى الآلاء الجليلة، التي يشير إليها انشقاق السماء.. لمجرد الانشقاق.. فإذا كان وراء هذا الانشقاق غاية، كانت تلك الغاية آلاء أخرى جليلة مستغنية بذاتها، فإذا اتصلت بانشقاق السماء، كان ذلك آلاء إلى آلاء.. وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: «فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 686 أي فإذا كان هذا اليوم الذي تنشق فيه السماء، وهو يوم القيامة، كما يقول سبحانه: «وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً» (19، 20: النبأ) - إذا كان هذا اليوم، انقطعت الأعمال، وطويت الصحف على ما كان لأصحابها من عمل فى هذه الدنيا، فلا يحاسب مخلوق من الجن أو الإنس على ما يكون منه فى اليوم الآخر من قول أو فعل.. لقد انتهى زمن الامتحان والابتلاء.. فما يقوله أو يعمله المرء فى موقف الحساب لا يحسب له، أو عليه، حتى الذين يقع منهم فى هذا الموقف، مما يكون موضع ذم وعقاب فى الدنيا- كما يتلاعن المتلاعنون من أهل الضلال فى هذا اليوم- هو مما لا ينظر إليه فى الآخرة.. وفى الآية، إشارة إلى أن الجن يبعثون، ويحاسبون، كما يبعث الناس ويحاسبون.. واختصاص جانب الذنوب بالذكر هنا، دون جانب الإحسان- إذ كانت الذنوب فى هذا اليوم مما يتحاشاه أهل الموقف، ويفرون منه.. إنهم يطلبون السلامة، ويعضون أصابع الندم على ما فرط منهم فى الدنيا، فكيف يطوف بأحدهم طائف يدعوه إلى أن يرتكب ذنبا فى هذا المقام؟ ولكنه لو فرض- مع هذا- أن يقع من مذنب ذنب- وهو محال- فلن يحاسب عليه.. فقد طويت صحف الأعمال على ما كان فى عالم الامتحان والابتلاء.. هذا، ويجوز أن يكون معنى قوله تعالى: «فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ» - يجوز- والله أعلم- أن يكون أنه لا يسأل المذنبون عن ذنوبهم فى هذا اليوم سؤال مراجعة وعتاب، إذ لا نفع لهم من وراء هذه المراجعة، وهذا العتاب، حيث لا سبيل لهم إلى إصلاح الجزء: 14 ¦ الصفحة: 687 ما أفسدوا، كما يقول سبحانه: «فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» .. (57: الروم) . ويجوز كذلك- والله أعلم- أن يكون المعنى، أنه فى هذا اليوم، لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان، سؤال تعرّف على حاله، ولا على جنايته التي جناها، إذ كانت جنايته معلقة برقبته، يراها أهل الموقف جميعا، فلا يسأل من سائل: ما حاله فى هذا اليوم؟ إذ كانت سمته الموسوم بها دالة عليه، ناطقة بالمصير الذي هو صائر إليه، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى فى الآية التالية.. «يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» . فعلى هذا المعنى الأخير، تكون هذه الآيات تعليلا لقوله تعالى: «فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ» .. إذ لا فائدة من وراء هذه المساءلة والمراجعة. أما على المعنيين الأول والثاني، فتكون الآيات مستأنفة.. والنواصي، جمع ناصية، وهى الرأس.. والمعنى، أنه إذ يعرف المجرمون بسيماهم، تتولى زبانية جهنم أمرهم، فتأخذ بنواصيهم وأقدامهم، أخذا عزيزا متمكنا، لا يدع لأحدهم أن يتحرك، فهو فى هذا الوضع أشبه بحجر، أو حصاة فى اليد، فيلقى به حيث يريد القابض عليه.. وإقامة موازين العدل بين المخلوقات، وأخذ المسيء بإساءته، هو من النعم التي تستوجب الحمد والشكر، من المحسنين والمسيئين على السواء.. إذ لم يؤخذ المحسنون بإساءة من أساءوا، وإذ كان فى عقاب المسيئين إحسان إليهم بتطهيرهم من هذا الرجس الذي علق بهم، وتصفية لجوهرهم من هذا الخبث الذي أفسد طبيعتهم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 688 قوله تعالى: «هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .. الإشارة إلى جهنم هنا، هى استحضار لها فى هذه الدنيا بين يدى المكذبين بها، وبالحساب وبالجزاء، حيث يشهدون أنفسهم وهم يطوفون بينها وبين حميمها.. والحميم الآن: ما ينبعث من النار من سموم، يشوى الوجوه.. فأهل النار إذا تحركوا فى جهنم، كانت حركتهم فيها على بحار من الحميم، وهو القيح والصديد الذي يسيل منهم، كما يسيل الماء من القدور أثناء غليانها.. وقوله تعالى: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» - إشارة إلى هذه النعم التي يحدّث عنها هذا العذاب، الذي من شأنه أن يبعث فى النفوس الخشية من الله، والخوف من الوقوع فى هذا العذاب، فيستعدّ أصحاب العقول للقاء هذا اليوم، بالعمل الصالح الذي ينجيهم من الوقوع فى هذا البلاء.. على خلاف ما لو طلع هذا العذاب على الناس من غير أن ينذروا به، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى لبيان الحكمة من إرسال الرسل، وما يحملون إلى أقوامهم من النذر، إذ يقول سبحانه: «أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ» (56- 59 الزمر) وما يشير إليه قوله تعالى: «وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً» (59: الإسراء) .. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 689 قوله تعالى: «وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .. وهذا من ثمرة الخوف من الله، ومن الوقوف بين يديه يوم القيامة، ذلك الخوف الذي يدخل على الإنسان من هذه النار التي أعدّت لأهل الشرك والضلال.. فمن عرف أن هناك حسابا وجزاء يوم القيامة، وأن هناك نارا أعدّت للكافرين وللضالين، وخاف حساب الله وعقابه- نجا من هذا البلاء، بإيمانه بالله، وتجنبه ما يغضبه، واستقامته على سبيله المستقيم، وكان له الجزاء الحسن عند ربه، فأوسع له من فضله وإحسانه، وأدخله الجنة يتبوأ منها حيث يشاء.. فهى جنة فسيحة لا حدود لها، عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين.. والتعبير عن الجنة بالجنتين، إشارة إلى اتساعها، وقد جاء فى القرآن الكريم لفظ الجنة، والجنتين، والجنات، كما يقول سبحانه: «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (32: النحل) وكما يقول سبحانه: «وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» (23: إبراهيم) .. فالجنة، جنات فى اتساعها وامتدادها.. والجنات، جنة فى طيب ثمارها، ووفرة النعيم فيها.. ويجوز أن تكون الجنتان، جنة للإنس، وجنة للجن.. أي ولمن خاف مقام ربه من عالم الإنس وعالم الجن ثواب حسن، ثم بين هذا الجزاء بأنه جنتان، ينزل كل محسن من الفريقين فى جنته منهما.. وقوله تعالى: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» إلفات إلى هذه النعم التي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 690 يجدها من يدخل هذه الجنة، على أية صورة تكون عليها.. فكيف، وهى على هذه الصفات التي وصفها الله سبحانه وتعالى بها؟ إن كل وصف لهذه الجنة الرحيبة الفسيحة، هو نعم مجددة، تضاف إليها، وتستدعى واجب الحمد والشكر لله رب العالمين.. قوله تعالى: «ذَواتا أَفْنانٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» . فهاتان الجنتان ذواتا أفنان، والأفنان، جمع فنن، وهو الغصن المورق. فالجنتان ذواتا أغصان مورقة، وهذا يعنى أن لأشجارها ظلّا ممدودا.. فالظل نعيم من نعيم الجنة، حيث يطيب الهواء، ويعتدل الجو.. كما يقول سبحانه: «وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ» (27- 30: الواقعة) .. قوله تعالى: «فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» . ومن صفات هاتين الجنتين أن فيهما عينان تجريان، بالماء العذب الرقراق.. وهذا الماء السلسبيل المتدفق من العيون الجارية، هو نفسه نعمة، إلى جانب نعمة الجنة، وإلى ظلها الممدود.. فمن يكذب بهذه النعم المتظاهرة، ويجحد فضل الله وإحسانه بها؟. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 691 قوله تعالى: «فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .. ومما فى هاتين الجنتين كذلك، هذا الثمر الطيب الجنىّ،. وهو ثمر متزاوج، أي مؤتلف، يشبه بعضه بعضا فى حسنه، وطيبه، وإن اختلفت طعومه، وتعددت مذاقاته، وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه: «كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً» (25: البقرة) .. وقيل إن معنى: «مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ» .. أي كل صنف من أصناف الفاكهة يرد على أهل الجنة، يجيئهم فى صورتين، صورة لما كانوا يعرفونه فى الدنيا، وصورة لما هو من حقيقة ثمار الجنة، وبهذا يظهر لهم ما بين الفاكهتين من بون شاسع، وفرق بعيد، وهذا مما يحدّث عن فضل الله عليهم، وإحسانه إليهم، فى هذا المنزل الكريم الذي أحلهم الله سبحانه وتعالى فيه.. قوله تعالى: «مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .. وفى هاتين الجنتين، وتحت أفنانهما المورقة، وظلالهما الممتدة، وفاكتهما التي تجمع بين فاكهة الدنيا وفاكهة الآخرة- فرش بطائنها أي حشوها من إستبرق، أي حرير، مهيأة ليتكىء عليها أهل الجنة، اتكاء استرواح، واسترخاء، واطمئنان.. والإستبرق: الديباج.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 692 وفى قوله تعالى: «وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ» - استدراك لما قد يقع فى الوهم من أنّ اتكاءهم على هذه الفرش، مما يباعد بينهم وبين ثمر هذه الجنة التي يتكئون تحت ظلالها، فإذا أراد أحدهم أن ينال من هذا الثمر شيئا، اضطر إلى أن يتحول عن هذا الوضع المريح له، وجلس، أو وقف، لينال الثمر الذي يريده.. وكلّا، فإن الثمر دان بحيث لا يتكلف له المتكئ شيئا، بل هو حاضر بين يديه، بتخير منه ما يشاء، متكئا، أو مضطجعا، أو نائما..! والجنى: الثمر الناضج، وهو ما يجنى من شجره، ومنه الجنين، وهو ثمرة الحيوان، ويسمى بيض الطير جنّى لهذا المعنى.. قوله تعالى: «فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .. وفى هاتين الجنتين كذلك، حور قاصرات الطرف، أي قصرن أعينهن عن النظر إلى غير ما أحل الله لهن، تقىّ وحياء وعفّة.. «لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ» أي لم يقربهن، ولم يغش حماهنّ أحد من الإنس أو الجنّ، قبل أزواجهن الذين زففن إليهم فى الجنة، كما يقول سبحانه: «إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً لِأَصْحابِ الْيَمِينِ» (35- 38: الواقعة) . وفى إعادة الضمير جمعا على الجنتين فى قوله تعالى. «فِيهِنَّ» بدلا من «فيهما» إشارة إلى أن هاتين الجنتين، جنات فى سعتهما، وامتدادهما.. فهما- كما قلنا من قبل- جنة، وجنتان، وجنات.. والطمث: دم الحيض، والطامث: الحائض، ويسمى افتضاض البكر طمئا.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 693 قوله تعالى: «كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .. هو وصف لهؤلاء الحور، بالنقاء والصفاء، بعد وصفهن بالعفة والحياء.. والياقوت والمرجان، حجران كريمان، صافيان صفاء البلور، ولكنهما مع هذا الصفاء مشربان بحمرة، ليست فى البلور، ولهذا كان تشبيه الحور بهن أبلغ وأصدق، لما يجرى فى بشرتهن من دم الشباب، الذي يشرق منه هذا الشعاع الشفقى على وجوههن! هذا ويلاحظ أن الجنتين اللتين وعدهما الله الذين يخافون مقام ربهم، قد عرضتا فى هذا العرض المفصل، الذي يحدّث فى كل مقطع من مقاطعه عن نعم الله وآلائه، التي يحملها هذا المقطع، والتي تدعو الثقلين- الإنس والجن- إلى الوقوف بين يديها، وإنعام النظر فيها، ثم تحديد موقفهم منها.. وهل يشكرون أم يكفرون؟ .. وفى هذا التفصيل، إشارة إلى أن أىّ نعمة من نعم الله، وإن بدت فى العين صغيرة، لا يكاد يلتفت إليها الناس، ولا يقدرونها قدرها- هى فى حقيقتها نعمة جليلة، تضم فى كيانها نعما جليلة أيضا.. وهذا هو بعض السرّ فى هذا التعقيب عقب كلّ نعمة بقوله تعالى: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .. قوله تعالى: «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .. أي أن هذا النعيم الذي يفاض من الله سبحانه وتعالى على المؤمنين فى الجنة- هو جزاء إحسانهم فى الدنيا، وخوفهم مقام ربهم، كما يقول سبحانه عنهم: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 694 «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» (15- 19: الذاريات) .. وإذا كان هؤلاء المحسنون قد أحسنوا العمل، فإن هذا النعيم الذي هم فيه لا يعدله إحسان المحسنين، مهما بالغوا فى الإحسان، وإنما هو فضل من الله عليهم، ومضاعفة للجزاء الحسن، الذي كانت أعمالهم الحسنة مدخلا إليه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ» (26: يونس) .. الآيات: (62- 78) [سورة الرحمن (55) : الآيات 62 الى 78] وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 695 التفسير: قوله تعالى: «وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .. أي ومن دون هاتين الجنتين اللتين ذكرهما الله سبحانه وتعالى فى قوله جلّ شأنه: «وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ» - أي ومن دون هاتين الجنتين جنتان أخريان، أنزل منهما درجة، وأدنى منزلة، وإن كان ما فيهما من النعيم ممّا لا يحيط به وصف، وإن القطرة منه لتوازى ما عرف الناس جميعا من نعيم الدنيا.. وهذا يعنى أن أهل الجنة ليسوا على درجة واحدة.. وهذا طبيعى، إذ لم يكن المحسنون على درجة سواء فى الإحسان.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ» (163: آل عمران) وقد جاء بيان ذلك فى سورة «الواقعة» التالية لهذه السورة، وفيها يقول سبحانه: «وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» (7- 11: الواقعة) .. فالناس فى الآخرة، على ثلاثة أحوال: أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، والسابقون من أصحاب اليمين وكل حال من تلك الأحوال الثلاثة درجات كثيرة، يختلف بعضها عن بعض، صعودا ونزولا.. وقوله تعالى: «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» - إشارة إلى أن هاتين الجنتين، مجردتين من أي وصف، هما نعم جليلة من نعم الله، لمن ظفر بدخولهما.. «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» (185: آل عمران) .. وأي فوز أعظم من النجاة من النار، ولو كان فى الحياة بالعراء؟ فكيف بالنجاة من الجزء: 14 ¦ الصفحة: 696 النار، ثم دخول الجنة، والفوز بنعيمها؟ قوله تعالى: «مُدْهامَّتانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .. هذا وصف لما فى هاتين الجنتين من أشجار، وهى أشجار متشابكة الأفنان، وإن لم يكن فى ظلها هذا الصفاء البلورى. وإنما فى ظلها شىء من الكثافة التي تجعل الظل ذالون أدهم، كلون الشفق عند الغروب.. وهذا الظل هو نعمة، بل نعم تضاف إلى هاتين الجنتين، وتستوجب الحمد والشكر ان لله رب العالمين.. قوله تعالى: «فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .. النضخ، والنضح، بمعنى، إلا أن النضخ أكثر إعطاء للماء من النضح.. كما يشعر بذلك ثقل الخاء، وخفة الحاء، فعلى مقدار وزن كل منهما يكون قدر كلّ من النضخ والنضح من الماء.. أي أن فى هاتين الجنتين عينى ماء تضخان الماء ضخا، فى دفعات متتالية، ولا ترسلانه متدفقا كهاتين العينين اللتين فى الجنتين السابقتين، كما يقول سبحانه: «فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ» .. وليس هذا عن ضنّ من الله سبحانه وتعالى، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا، وإنما هو عطاء يفرّق فيه بين أهل الإحسان، حيث ينزل كل منهما منزله الذي هو أهل له، وذلك هو عدل الله، الذي يجرى مع إحسانه، ويضبط موازينه.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 697 قوله تعالى: «فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .. وهذا فرق آخر بين الجنتين العاليتين، وبين الجنتين اللتين دونهما، وذلك فى ثمار الجنتين، هنا وهناك.. فالجنتان العاليتان «فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ» .. فهما يحويان كل فاكهة معروفة وغير معروفة، مما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر «مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ» .. وهاتان الجنتان الأخريان «فِيهِما فاكِهَةٌ.. وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ» إن فيهما فاكهة، ولكن لا على سبيل الشمول، كما فى وصف الجنتين العاليتين فى قوله تعالى: «فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ» .. ومن فاكهتهما النخل والرمان.. ومع أن ثمر النخل والرمان ليس أكرم الثمر ولا أطيبه، ولكنه إذا كان من ثمر الجنة، فهو من الطّيب والكرم، بحيث تعدل الثمرة منه فواكه الدنيا وثمرها جميعا.. قوله تعالى: «فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .. أي فى هاتين الجنتين خيرات، ومع أن الخيرات مستغنية عن الوصف بذاتها، لأنها خيرات لا يجىء منها إلا كل ما هو خير، فقد وصفت بأنها حسان، تحقيقا لكمال الخيرية فيها، ومحضها للخير الخالص، وعزلها عن الخير الذي يشوبه شىء مما يكدّر صفوه، إذ كثيرا ما يشوب الخير ما ليس منه.. ولهذا كانت هذه الخيرات الحسان التي تطلع على أصحاب هاتين الجنتين- آلاء تحمد وتشكر، على أية صورة كانت عليها، وعلى أي وجه تجىء به، وحسبها أنها خيرات، وخيرات حسان!! يكرم الله سبحانه بها، المكرمين من عباده.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 698 قوله تعالى: «حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .. فإذا انكشف وجه هذه الخيرات الحسان، كنّ حورا مقصورات فى الخيام.. يقابلن هؤلاء الحور اللائي فى الجنتين العاليتين واللاتي ذكرهن الله سبحانه وتعالى فى قوله: «فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ» .. وإنه لفرق بين هؤلاء وأولئك، وإن كن جميعا على صورة من الحسن والجمال لم تقع العين على مثلها.. ففى قوله تعالى: فى حور الجنتين العاليتين «قاصِراتُ الطَّرْفِ» إشارة إلى ما فى هؤلاء الحوريات من خفر، وحياء، وعفة، وأن ذلك فى أصل خلقهن.. وفى قوله تعالى: فى حور الجنتين الأخريين: «حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ» - إشارة إلى أن هؤلاء الحوريات قد قصرتهن الخيام وحجبتهن عن العيون، وحجبت العيون عنهن.. وهذا لا يمنع من أن يكون لهن ما لأخواتهن من الخفر والحياء.. ولكن شتان بين خفر وحياء مطلقين، وخفر وحياء مقصورين، مقيدين.. ذاك قد امتحن وجرب، فظل ثابتا، لم تنل منه التجربة والامتحان، وهذا لم يمتحن ولم يجرب بعد!. وقوله تعالى: «حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ» هو بدل مبيّن لقوله تعالى: «خَيْراتٌ حِسانٌ» فالخيرات الحسان، هن أولئك الحور المقصورات فى الخيام.. والحور: جمع حوراء، وهى ما طاف بمقلتيها طائف من السواد الجزء: 14 ¦ الصفحة: 699 الطبيعي، أشبه بالكحل، يزيد العيون حسنا، ويلقى عليها فتنة وسحرا.. يقول جرير: إن العيون التي فى طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله إنسانا! قوله تعالى: «لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» . مضى تفسير هذه الآية فيما سبق.. قوله تعالى: «مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» .. هو مقابل لقوله تعالى فى وصف حال أهل الجنتين العاليتين: «مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ» .. الرفرف: المسند، ووصف بلفظ الجمع «خضر» - إشارة إلى أن لكل من أهل الجنة مسندا خاصا يتكىء عليه.. والمساند جميعها ذات لون واحد.. فهى مفردة فى صفوفها، جمع فى لونها.. والعبقرىّ: الجيد من البسط: الخارق للعادة فى دقة صنعه.. والعبقري: نسبة إلى «عبقر» - وهو واد كانت العرب تعتقد فى جاهليتها أنه موطن الجن، وإلى الجن تنسب الأعمال الخارقة التي تتجاوز حدود الطاقة البشرية، ومنه سمى «العبقري» وهو الذي يجىء فى أفعاله بالخارق والمعجز لغيره. وهنا فرق آخر يظهر فى متّكأ أصحاب كلّ من الجنتين العاليتين، والجنتين الواقعتين تحتهما.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 700 فعلى حين يتكىء أصحاب الجنتين الأوليين على فرش بطائنها من ديباج، وحشوها من حرير، وعلى حين أن هذا الاتكاء لا يباعد بينهم وبين ثمر الجنة الذي يكون بين أيديهم فى أي وضع يكونون عليه، كما يقول سبحانه: «مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ» - يكون متكأ أصحاب الجنتين الأخريين على رفارف أي مساند خضر، لم تعرف المادة المشكلة منها.. أهى حرير أم غير حرير، وإن عرف أن هذه المساند مبثوثة على بسط حسان، كما لم يعرف إن كان هذا الاتكاء يباعد بين المتكئين وبين ثمر الجنة، فلا تناله أيديهم إلا إذا غيروا من وضعهم، واعتدلوا فى جلستهم.. أم أنهم ينالونه من قريب؟. ونعود مرة أخرى فنقول، إن هذه التفرقة بين حال أصحاب الجنة، هى أمر لازم، يقضى به عدل الله، فكما فرق هذا العدل بين المحسنين والمسيئين، فأنزل هؤلاء الجنة، وأنزل أولئك النار- كذلك فرق هذا العدل بين المحسنين أنفسهم، فأخذ كلّ منهم منزلته حسب إحسانه.. وبهذا يعمل المحسنون على أن يزدادوا إحسانا. حتى لا يقصّر بهم سعيهم، ويسبقهم السابقون إلى الدرجات العلا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا» (132: الأنعام) . قوله تعالى: «تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ» . وبهذه الآية الكريمة، تختم السورة الكريمة، حيث يلتقى ختامها مع بدئها هذا اللقاء المبارك الميمون الذي يزاوج بين رحمة الرحمن، وكرم الكريم.. فلقد بدئت السورة بالاسم الجليل «الرحمن» .. وختمت بالتبريك لهذا الاسم العظيم، الذي يتجلى على عباده بجلاله، وعظمته وكرمه!. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 701 فالاسم المشار إليه فى قوله تعالى: «تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ» هو هذا الاسم الكريم «الرحمن» الذي بدئت به السورة، والذي عرضت فيه آياتها آلاء الله ونعمه التي أفاضها على عباده، وكان من حق كل نعمة منها أن يلقاها الثقلان بالحمد والشكر، وإن كان حمدهما وشكرهما لا يقوم بحق نعمة منها.. ولهذا كان الله سبحانه وتعالى هو الذي بارك نفسه، وحمد ذاته، ليجبر تقصير العباد، وليؤدى عنهم هذا الدّين الذي عجزوا عن أدائه، حتى لا يقطع عنهم أمداد هذه النعم، ولا يأخذهم بعجزهم وتقصيرهم عن أداء حق شكرها وحمدها.. فسبحانه، سبحانه، من رب رحمن، رحيم، كريم.. يوالى النعم على عباده، ثم يقوم عنهم بأداء الشكر عليها، والحمد لها.. يقول الإمام النسفي: كررت هذه الآية- أي «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» إحدى وثلاثين مرة، ذكر ثمانية منها عقب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله وبدائع صنعه، ومبدأ الخلق ومعادهم، ثم سبعة منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها، على عدد أبواب جهنم، وبعد هذه السبعة، ثمانية فى وصف الجنتين وأهلهما على عدد أبواب الجنة، وثمانية أخرى بعدها للجنتين اللتين دونهما، فمن اعتقد الثمانية الأولى (أي المذكورات فى أول السورة) وعمل بموجبها فتحت له أبواب الجنة، وأغلقت عنه أبواب جهنم، نعوذ بالله منها.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 702 56- سورة الواقعة نزولها: مكّية عدد آياتها: ست وتسعون آية مناسبتها لما قبلها كانت سورة «الرحمن» السابقة على هذه السورة معرضا جامعا لآلاء الله سبحانه وتعالى على عباده، من جنّ وإنس، ابتداء من خلقهم، وعلى امتداد مسيرتهم فى الحياة الدنيا، وتقبلهم فى شئونها، إلى موتهم، وبعثهم، وحسابهم، وإنزالهم منازلهم- حسب أعمالهم- فى الجنّة أو النار.. وقد تضمنت السورة- سورة «الرحمن» - عرضا مبسوطا، مفصّلا لنعيم الجنّة، ومنازل أهلها من هذا النعيم، حسب أعمالهم كذلك- فجاءت سورة الواقعة، مبتدئة بالكشف عن وجه يوم الجزاء، وأنه واقع لا شك فيه.. ثم جاءت بعد هذا لتؤكّد ما تقرر فى سورة «الرحمن» من اختلاف أحوال الناس، فى هذا اليوم، وتباين درجاتهم.. فى الجنة، ودركاتهم فى النار. بسم الله الرحمن الرحيم الآيات (1- 26) [سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 26] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 703 التفسير قوله تعالى: «إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ» جملة شرطية وجوابها.. ووقوع الواقعة، مجيئها، وحدوثها، والواقعة، القيامة، وسميت وسميت واقعة لأنها تقع فجأة على غير انتظار.. وكلّ شىء يحمل نذر الشّرّ يعبّر عن مجيئه بالوقوع، كأنه يسقط على الناس من فوق، فلا يملكون له دفعا، كقوله تعالى: «وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا» (85: النمل) وقوله سبحانه: «وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ» (134: الأعراف) وقوله جل شأنه: «وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ» (82: النمل) .. ووقوع يوم القيامة إيذان بدخول الناس فى تجربة قاسية. وفى امتحان الجزء: 14 ¦ الصفحة: 704 عسر.. كما يقول سبحانه: «إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ» (2: الحج) . وقوله تعالى: «لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ» - هو جواب الشرط: «إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ» أي أنه إذا وقعت الواقعة، فليس هناك من يكذّب بها من هؤلاء الذين كانوا ينكرون البعث والقيامة ويكذبون من يحدثهم عنه، لأنهم يكونون حينئذ أمام واقع مشهود، لا سبيل إلى إنكاره والمكابرة فيه.. قوله تعالى: «خافِضَةٌ رافِعَةٌ» .. أي هى خافضة ورافعة لأقدار الناس ومنازلهم، حيث ينزل كل إنسان منزله فى هذا اليوم.. فريق فى الجنة، وفريق فى السعير. قوله تعالى: «إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً» . هذه الآيات، هى بيان لما يقع فى هذا اليوم من أحداث، وكأنها جواب عن سؤال هو: متى تقع الواقعة؟ فجاء الجواب لا لبيان وقتها، وإنما لبيان الأهوال التي تطلع على الناس منها، فذلك هو المهمّ فى هذا الأمر، وهو الذي ينبغى الالتفات إليه، والإعداد له، والعمل على النجاة منه.. أما الوقت الذي تقع فيه الواقعة، فليس بالأمر المهمّ، بعد أن تأكد أن وقوعها آت لا شكّ فيه. وإنما المهم هو الاستعداد للقاء هذا اليوم، الذي لا مفر منه. ففى هذا اليوم ترجّ الأرض رجّا، أي تضطرب اضطرابا شديدا لما يجرى عليها من أحداث، حيث تندكّ الجبال، وتخر متداعية، متناثرة، فلا يبقى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 705 منها حجر على حجر، بل إن هذه الأحجار تتحول إلى ذرات تذروها الرياح كأنها العهن المنفوش. فقوله تعالى: «وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا» أي طحنت طحنا. وقوله تعالى «فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا» أي صارت ذرات منتثرة فى الفضاء، كالغبار المتطاير مع الرياح.. هذا، وقد قلنا فى أكثر من موضع إن هذا التبدل الذي يبدو من عوالم الوجود وكائناته، إنما هو لتبدّل موقف الإنسان من هذه العوالم، ولما تحدث من اختلاف بعيد بين معطيات جوارحه فى الدنيا، ومعطياتها فى الآخرة، حيث تنكشف له حقائق الموجودات.. إنّ الإنسان فى هذه الدنيا يرى من الأمور ظواهرها، وظلالها، ولكنه فى الآخرة يرى صميمها وحقيقتها.. فرجّ الأرض رجّا، هو ما تراه العين يوم القيامة، من وضع الأرض، حيث تبدو على حقيقتها، كرة معلقة فى الفضاء، تجرى فى سرعة عظيمة، أشبه «بالبالونة» بين يدى الريح. وبثّ الجبال بثّا، حتى تكون كالهباء المنبث، المنتشر، هو ما تراه العين من الجبال. على مدى بعيد منها، حيث تبدو الجبال، وكأنها فى صغرها الهباء المبثوث. وقوله تعالى: «وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً» إشارة إلى ما يكون عليه الناس يومئذ، وهو أنهم يتناثرون، ويتفرقون فرقا ثلاثا، كل فرقة تجتمع إلى بعضها أزواجا، جن وإنس، أو ذكر وأنثى. قوله تعالى: «فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ» . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 706 هو بيان للأزواج الثلاثة التي يضمها المحشر يومئذ من عالمى الجن والإنس، أو من ذكور الناس وإناثهم. فأصحاب اليمين فى جانب، وأصحاب الشمال فى جانب، والسابقون فى مكان فوق هؤلاء وأولئك جميعا. وفى قوله تعالى: «ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ» .. استفهام يراد به إلفات الأبصار إلى أصحاب الميمنة، والإشارة إلى مكانهم الذي ينعمون هم فيه، وما يظلهم هناك من أمن وسكينة. وفى قوله تعالى: «ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ» - استفهام يراد به كذلك إلفات الأبصار إلى أصحاب المشئمة، والإشارة إلى مكان هؤلاء المناكيد، وما يغشاهم فيه من همّ وبلاء. والميمنة، من اليمن، والبركة.. والمشئمة، من الشؤم، وسوء الحال. والسابقون، هم أهل السابقة إلى الإيمان فى كل أمة، ممن سبقوا إلى الإيمان بالله، والاستجابة لرسل الله.. فهؤلاء فى مكان مكين عند الله، لا يكاد يلحقهم فيه أحد ممن يجىء بعدهم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا، وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى» ! (10: الحديد) وفى تكرار السابقين فى قوله تعالى: «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ» . إشارة إلى هذا المقام المكين الذي لهم عند ربهم، وأنهم فى هذا المقام، لا يتحولون عنه، وهو مقام السبق أبدا. فالسابقون الأولى مبتدأ، والسابقون الثانية خبر، أي السابقون هم السابقون دائما أبدا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 707 وفى تعريف طرفى الجملة- المبتدأ والخبر- ما يفيد القصر.. أي قصر السبق عليهم وحدهم، وأنهم كما سبقوا إلى الإيمان بالله فى الدنيا، سبقوا إلى الله سبحانه فى الآخرة، وكانوا أول من ينزل ساحة فضله ورضوانه. قوله تعالى: «أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» إشارة إلى هؤلاء السابقين، وإلى هذا المقام الكريم الذي أحلهم الله سبحانه وتعالى فيه يوم القيامة، وأنهم هم أهل القرب من الله سبحانه. وقوله تعالى: «فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ» هو بيان للحال التي يكون عليها هؤلاء السابقون المقربون.. فهم فى جنات النعيم، على سرر «موضونة» أي مطرزة، ومكللة. وهم على هذه السرر فى حال من الطمأنينة، والأمن، والرضوان، حيث يتكئون على هذه والسّرر اتكاء استرواح واسترخاء، يقابل بعضهم بعضا، وينظر بعضهم إلى بعض، فيرى كل منهم فى وجه أصحابه نضرة النعيم، فيزداد نعيما ورضوانا، بهذا النعيم، وذلك الرضوان، الذي يراه وقد فاض على كل من حوله. وقوله تعالى: «ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ» - إشارة إلى أن أهل السبق هؤلاء، الذين ينعمون بهذا النعيم، هم «ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ» .. والثلة: الجماعة الكثيرة من الناس، وهم أولئك الذين سبقوا إلى الإيمان من كل أمة، فكانوا بهذا أشبه بالأعلام المنصوبة، يقتدى الناس بهم، ويأخذون الجزء: 14 ¦ الصفحة: 708 طريقهم.. فهم الذين ارتادوا لأقوامهم الطريق إلى الإيمان، واحتملوا مع الرسل سفه السفهاء، وجهل الجاهلين من أقوامهم.. فكان لهم بهذا فضل لا يشاركهم فيه. إلا أفراد قليلون ممن جاءوا بعدهم.. ولهذا جاء قوله تعالى: «وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ» - مبينا أن من يلحق بهم من بعدهم هم قلة بالنسبة إليهم.. إذ كان ذلك المقام لا ينال إلا فى صحبة الرسل. أو من تبلغ به تقواه، ومجاهدته أن يكون مجدّدا لدعوة الرسول، متابعا لشريعته، خطوة خطوة.. قوله تعالى: «يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ» أي يمر عليهم، وهم فى متكئهم هذا- «وِلْدانٌ» ، أي غلمان «مخلدون» أي خالدون فى هذا الشباب الدائم، الذي لا يتحول أبدا.. فهم مخلدون فى حالهم تلك، كما يخلد أهل الجنة فى الجنة، وأهل النار فى النار.. أو أنهم مخلدون، أي تزين آذانهم بقروط من كريم المعادن، ونفيس الجواهر. والأكواب: جمع كوب، وهو ما كان من الآنية بغير عروة. والأباريق: جمع إبريق، وهو ما كان ذا عروة يمسك به منها. والكأس: الإناء الذي يشرب فيه الخمر، ولا يسمى كأسا إلا إذا كان فيه الشراب.. والمعنى أن هؤلاء الولدان المخالدين الذين يلبسون ثوب الصبا أبدا، والذين تزين آذانهم بالقروط، دلالا وتنعما- يطوفون على هؤلاء المقربين بأكواب، وأباريق، وكئوس من معين، أي من عيون جارية من الخمر.. وفى جمع الأكواب، والأباريق، وإفراد الكئوس- إشارة إلى أن الأكواب والأباريق، هى التي تحمل الشراب لأهل المجلس، فإذا انتهى الولدان الجزء: 14 ¦ الصفحة: 709 إليهم ملئوا لكل كأسه الذي يشرب منه، ولم يجيئوا إليهم بها مملوءة جميعها مرة واحدة.. ومثل هذا قوله تعالى: «وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا» (17: الإنسان) وقوله سبحانه: «يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ» (23: الطور) . قوله تعالى: «لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ» أي لا يصيبهم من شرب هذه الخمر ما يصيب شاربى خمر الدنيا من صداع، إذا جاوز الشارب قدرا معينا منها.. فهذه الخمر التي تقدّم لهؤلاء السابقين المقربين، لا يصيبهم منها هذا الصداع مهما شربوا منها، ومهما علّوا ونهلوا. وقد ضمّن «يصدّعون» معنى الفعل «يصرفون» من غير أن يزايله المعنى الأصلى الذي له، وهو الصداع.. والمعنى أنهم لا يصرفون عن هذه الخمر بسبب صداع يصيبهم منها.. وهذا إعجاز من إعجاز النظم القرآنى. وقوله تعالى: «وَلا يُنْزِفُونَ» أي لا يستهلكون لذتهم فيها يشرب ما يشربون منها، كما يحدث ذلك لشارب خمر الدنيا.. حيث تذهب لذة مدمنها بعد قدر محدود منها، بل إن لذتهم باقية أبدا، وإن ظلوا فى شرب دائم لا ينقطع. وهذا هو بعض الفرق بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة. فإن نعيم الدنيا- أو ما يسمى نعيما- إذا ناله المريء وأخذ منه حاجته، زهد فيه، وأصبح أىّ قدر يناله منه بعد هذا، مبعثا للألم، بل وضربا من العذاب.. أما نعيم الجنة، فإن لذته لا تنفد أبدا، ولا تنقطع شهوة المتصل به على امتداد الأزمان والآباد.. بل إنه كلما ازداد تناولا للشىء تجددت له لذات جديدة معه.. قوله تعالى: «وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ» .. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 710 أي ويطوف عليهم الولدان المخلدون كذلك بفاكهة كثيرة مختلفة، يتخيرون منها ما يشاءون.. قوله تعالى: «وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ» .. أي ويطوف عليهم الولدان بأنواع من لحوم الطير، مما تشتهيه أنفسهم وتطلبه.. قوله تعالى: «وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ» .. أي وتقبل عليهم، وتدعوهم إليهن «حور عين» .. والحور جمع حوراء، وهى التي فى عينيها حور، وهو سواد فى جفن العين يزيدها جمالا وفتنة.. والعين: جمع عيناء، وهى واسعة العينين، فى جمال باهر، وسحر آسر.. وقوله تعالى: «كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ» .. أي متشابهات فى حسنهن، وكمالهن، حتى لكأنهن حبات اللؤلؤ المصون، الذي لم يتغير لونه بالتعرض للشمس أو الهواء.. قوله تعالى: «جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» .. أي أن كل هذا النعيم الذي يساق إلى هؤلاء المقربين، إنما هو جزاء لما كانوا يعملون فى دنياهم من أعمال قائمة على ميزان الحق، والعدل، والإحسان.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 711 قوله تعالى: «لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً» .. أي وفى هذا المجلس الكريم، الذي يضم أهل السبق والإحسان، والذي لا ينظرون فيه إلا وجوها مشرقة بنضرة النعيم، ولا يرد عليهم فيها إلا ولدان مخلدون يقومون على خدمتهم، وإلا حور عين مهيئين لهم- فى هذا المجلس الكريم، لا يسمع أهله لاغية، ولا سخفا من لغو القول وهزله، وإنما يسمعون قولا كريما، هو «سلام» ، سلام، من ربهم، أو من الملائكة الذين «يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ» أو مما يلقى به بعضهم بعضا من تحية كلها سلام فى سلام.. فالاستثناء فى قوله تعالى: «إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً» - هو استثناء منقطع.. أو هو استثناء متصل يحمل معنى بلاغيا، هو تأكيد المدح بما يشبه الذم.. أي أنه إذا كان هناك من لغو أو تأثيم يسمعه أهل هذا المجلس الكريم، فهو هذا القول الذي يقال لهم فى هذا المقام، وهو: سلام، سلام.. فإذا كان هذا هو اللغو والتأثيم، فكيف بما لا لغو فيه ولا تأثيم؟ وهذا غاية فى تنزيه مجلسهم، وحفظ أسماعهم من أن يطوف بها شىء من اللغو أبدا.. الآيات: (27- 40) [سورة الواقعة (56) : الآيات 27 الى 40] وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 712 التفسير: فى هذه الآيات عرض لحال الفريق الثاني، من أهل المحشر، وهم أصحاب اليمين، الذين ينزلون الدرجة الثانية من الجنة، بعد أن ظفر السابقون بالمنزلة الأولى منها.. وسمّوا أصحاب اليمين، لأنهم أوتوا كتبهم بأيمانهم، وكان هذا من أول البشريات لهم فى الآخرة، كما يقول سبحانه: «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً» (7- 9: الانشقاق) .. فهؤلاء، يحاسبون حسابا يسيرا.. أما السابقون المقربون، فيدخلون الجنة بغير حساب.. ومن هنا كان هذا التفاوت بين الفريقين فى منازلهم من الجنة.. وهؤلاء- أي أصحاب اليمين- «فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ» .. والسدر، هو شجر النبق، والمخضود الذي لا شوك فيه.. «وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ» .. والطلح، هو الموز، والمنضود: المنتظم فى حبات، أشبه بالعقود.. «وَماءٍ مَسْكُوبٍ» أي ماء يجرى بلا حواجز ولا أودية، بل يسيح متحررا من كل قيد.. ومن هذا المعنى سميت بعض الخيل باسم: «سكاب» .. «وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ» أي أنهم يجدون بين أيديهم فاكهة كثيرة، لا تنقطع فى أي زمن، ولا تمنع عنهم عند أي طلب واستدعاء.. «وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ» أي عالية.. قوله تعالى: «إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً لِأَصْحابِ الْيَمِينِ» .. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 713 أي ومما يجدء أهل اليمين بين أيديهم- هؤلاء الحوريات، اللائي أنشأهن الله إنشاء، من غير ولادة، فجعلهن أبكارا، لا يلدن، ولا يحضن، حتى لكأنهن فتيات لم يبلغن مبلغ النساء، وإن كن ناضجات، مكتملات الخلق.. وقوله تعالى: «عربا» أي راغبات فى أزواجهن، محببات إليهن.. وفى هذا احتراز من أن يقع فى التصور أنهن صغيرات، غير ناضجات لا يستجبن للرجال، مما يمكن أن يوحى به قوله تعالى: «فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً» .. والعرب: جمع عروب.. وقوله تعالى: «أترابا» - جمع ترب- وهن المتماثلات حسنا، وجمالا، وشبابا.. وقوله تعالى: «لِأَصْحابِ الْيَمِينِ» متعلق بقوله تعالى: إنا أنشأناهن إنشاء.. الآيات» أي أنشأناهن على تلك الصفة لأصحاب اليمين، ينعمون بهن، ويأنسون إليهن.. والضمير فى قوله تعالى: أنشأناهن» يعود إلى ملحظ مفهوم من قوله تعالى: «وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ» - حيث أنه مما يكمل به نعيم هذه الفرش المرفوعة أن يكون فيها ما يرضى حاجة الرجال من النساء.. فهذه الفرش المرفوعة، ليست فرشا خالية موحشة، وإنما هى مأنوسة بالنساء.. أما هؤلاء النساء فقد أنشأهن الله إنشاء من غير ولادة، فجعلهن أبكارا، عربا أترابا.. وقوله تعالى: «ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ» .. أي أن أصحاب اليمين هؤلاء، هم جماعة من الأولين، وجماعة من الآخرين.. وهذا يعنى أنه ليس كل الأولين الذي آمنوا بالرسل، وشهدوا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 714 الحياة معهم، على سواء فى منزلتهم.. بل منهم السابقون، ومنهم أصحاب اليمين. هذا، ويلاحظ أن هذه الجنة، ليست على تلك الصفة التي عليها جنة السابقين، فهناك، سرر موضونة، مطرزة، وهنا فرش مرفوعة.. وهناك اتكاء واسترخاء على هذه السرر من غير تكلف وطلب، وهنا لا اتكاء ولا استرخاء على تلك الفرش وإن كان اتكاء واسترخاء فهو يطلب واستدعاء.. وهناك، ولدان مخلدون يطوفون على أهل المجلس بأكواب وأباريق وكأس من معين.. وهنا ماء مسكوب! وهناك خمر تدار فى كئوس، لا يصدع شاربوها، ولا تنفد لذتهم منها.. وهنا.. لا أكواب ولا أباريق، ولا كئوس، ولا خمر! وإن كان ذلك كله يجىء عند طلبه، واستدعائه.. وهناك فاكهة عتيدة حاضرة يتخيرون منها ما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون.. وهنا سدر مخضود، وطلح منضود، وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وفتيات أبكار، عرب أتراب!. ويسأل سائل: أهذه جنة ينعم فيها أهلها؟ وكيف يحجز عن أصحاب الجنة شىء من النعيم. ثم تكون مع هذا دار نعيم، ولم تسد فيها مطالب النفس؟. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 715 والجواب على هذا ما أشرنا إليه من قبل فى سورة «الرحمن» ونقول هنا، إن كلا من أهل النعيم وأهل الجحيم، ينزل منزله من النعيم أو الجحيم.. وأنه كما انقسم أهل النعيم إلى فريقين.. هما السابقون، وأصحاب اليمين، كذلك ينقسم أصحاب الجحيم إلى منازل، وكل منزلة إلى فرق.. ولا شك أن فى كل منزل من منازل النعيم ألوانا، وصورا من النعيم ليست فى غيره، وأن أهل كل منزلة لهم نعيمهم، كما أن لكل واحد فى كل منزل له نعيمه، دون أن يشعر أىّ من أصحاب النعيم فى أية منزلة ينزلها أنه فى حاجة إلى نعيم فوق النعيم الذي هو فيه، إذ كانت طاقته لتقبّل النعيم، مقدورة بقدر منزلته عند الله.. فالسابقون مثلا، قد جعل الله لهم من الطاقات على تقبّل ألوان وصور من النعيم ليست لغيرهم من أهل الجنة.. كما أن هؤلاء السابقين ليسوا على درجة واحدة فى تقبّلهم لصور هذا النعيم وألوانه.. ولنضرب لهذا مثلا من الحياة الدنيا.. هناك مائدة حافلة بألوان الطعام، قد حشد فيها كل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وقد دعى إليها عشرات من الناس، يتناولون منها ما يشاءون.. هنا تختلف أحوالهم على هذه المائدة، فمن بين هؤلاء من فتحت شهيته لكل ما على المائدة، من ألوان الطعام، يظل يغدو ويروح، بين قديد وشواء، وحامض وحلو، لا يرفع يده عن طعام إلا ليمدها إلى طعام.. وهكذا يظل فى خضم وقضم ساعات وساعات.. هذا على حين أن هناك كثيرين الجزء: 14 ¦ الصفحة: 716 منهم من يجتزىء من هذه المائدة بلقمة هنا، ولقمة هناك، ثم إذا به وقد رفع يده عن كل ما على المائدة، وقطع شهوته عن كل ما يشتهى منها.. وكلا الرجلين، قد أخذ حاجته، واستوفى حظه، ولم يبق له شىء يطلبه من هذه المائدة.. ومع هذا، فإن استمتاع الأول بهذا الطعام هو أضعاف لذة صاحبه، حجما، وعمقا.. دون أن يشعر أىّ منهما أنه فى حاجة إلى مزيد!. هذا، فى لذات الدنيا، ونعيمها، وهى- كما قلنا- لذات تنقطع عند أخذ المرء حاجته منها، ثم تتحول إلى آلام إذا هو جاوز بها هذا الحد.. أما لذات النعيم فى الآخرة، فهى لذات لا تنقطع أبدا، ولا يملّها المتصل بها مادام آخذا منها.. ولكن كلّ يأخذ بقدر ما تتسع له طاقته التي تتناسب مع منزلته.. وعلى هذا، فإن أهل الجنة جميعا فى نعيم مقيم، وفى لذة دائمة مع هذا النعيم.. ولكن كلّ له من النعيم ما يشتهيه، وله من الاشتهاء ما يناسبه..! فهم فى جنة واحدة، ولكل منهم فى هذه الجنة جنته، وما يشتهيه.. أشبه شىء بما فى الغابة من مختلف الأحياء التي تعيش فيها.. بعضها يأكل من ورقها، وبعضها يأكل من ثمرها، وبعضها يقتات من أعشابها.. وبعضها يتنقل بين أفنانها، وبعضها يأوى إلى أجحارها.. وكلها هانىء بحياته، سعيد بعيشه مع الطبيعة التي لبسته.. وكذلك الشأن فى أصحاب النار.. تتسع آلامهم وتضيق، كل حسب طبيعته التي يكون عليها، والتي هى صورة من عمله!. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 717 الآيات: (41- 56) [سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 56] وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) التفسير: قوله تعالى «وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ» فى هذه الآيات بيان لحال أصحاب المشئمة، وهم الزوج الثالث من أزواج الناس يوم القيامة.. وأصحاب الشمال- هؤلاء- هم الذين أوتوا كتبهم بشمائلهم، إذ كانت هذه الكتب تحمل إليهم الشؤم، وسوء المصير، فلا يجدون لأيمانهم التي اعتادوا أن يأخذوا ويعطوا بها، محلّا للعمل هنا، وتناول هذا المكروه بها..! الجزء: 14 ¦ الصفحة: 718 أما منزلهم الذي ينزلونه- عافانا الله منه- فهو هذا المنزل الجهنمىّ، الذي يساق إليهم فيه العذاب ألوانا وطعوما، كما يساق النعيم إلى أصحاب الجنة ألوانا وطعوما.. إنهم «فى سموم» أي فى هبوب متلهب، ترمى به النار إليهم، وتلفح به وجوههم وأبدانهم، وفى «حميم» - وهو ما يسيل من عرقهم وصديدهم، فيجرى من تحتهم، كما تجرى الأنهار تحت أصحاب الجنة.. وهم فى «ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ» أي هم يدخلون تحت ظلّ من سحاب هذا السموم، الذي ينعقد فوق رءوسهم.. وأنه إذا كان ظلّ أهل الجنة باردا كريما، لطيفا.. فإن هذا الظلّ ليس باردا، ولا كريما، وإنما هو لهيب يشوى الوجوه، ويهرأ الأجسام. أما الذي أنزلهم هذا المنزل المشئوم، وألقى بهم فى هذا البلاء العظيم، فهو ضلالهم عن الحق، وبعدهم عن الله، وكفرهم بلقائه، وتكذيبهم رسله.. «إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ» أي منعّمين فى دنياهم، مما أفاض الله سبحانه وتعالى عليهم من نعم، وكان من حق هذه النعم أن تفتح لهم طريقا إلى الله، فيحمدوا له ويشكروه، ولكنهم بطروا، وأشروا واستكبروا فى الأرض، وعتوا عن أمر ربهم، وصدّوا عن سبيله. «وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ» الحنث العظيم: الذنب الكبير، أو اليمين الفاجرة. أي أنهم كانوا مصرين ومقيمين على ما يأتون من كبائر الإثم والفواحش، فلا يراجعون أنفسهم، ولا ينظرون إلى ما يفيض بين أيديهم من منكرات وآثام. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 719 أو أنهم كانوا مقيمين على معتقدهم الفاسد فى إنكار البعث، وتوكيد هذا الإنكار بالحلف عليه، كما يقول سبحانه وتعالى عنهم: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ» (38: النحل) «وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ» . أي كانوا ينكرون البعث بهذا الأسلوب الإنكارى الساخر.. فيلقى بعضهم بهذا الاستفهام المنكر المستهزئ.. «أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟» أيصدق هذا؟ ذلك محال! «أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ؟» وإذا صح جدلا- أن نبعث نحن بعد الموت، لقرب عهدنا، ولأن الأرض تحتفظ ببقية منا- فهل يبعث آباؤنا الأولون الذين لا أثر لهم، حتى إن عظامهم قد أبلاها البلى وأكلها التراب؟ ذلك بعيد بعيد! «قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» هذا هو الجواب الذي يلقى تساؤلاتهم المنكرة تلك: «إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ» .. وقد جاء الخبر مؤكدا، بمؤكدين.. «إنّ» و «لام» الابتداء فى قوله تعالى «لَمَجْمُوعُونَ» . فآباؤهم الأولون، وآباؤهم الآخرون، هم معهم، سيجمعون جميعا فى مكان معلوم، وفى يوم معلوم.. وقد ضمّن اسم المفعول «مجموعون» معنى السوق، الذي يدل على الدفع، والقهر، وذلك دون أن يتخلى عن معناه الأصلى، وهو «الجمع» .. فهم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 720 مسوقون جميعا، ومجتمعون جميعا.. فى مكان واحد، دون أن يشذّ، أو يحرن أحد منهم.. - «ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ» . هو التفات إلى هؤلاء المكذبين الضالين، وهم فى موقف التكذيب والضلال- التفات إليهم، ومواجهة لهم بكل ما يسوؤهم، ويلبسهم الشفاء الأبدى.. «إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ» .. وهو شجر ينبت فى أصل الجحيم، طلعه كأنه رءوس الشياطين، كما يقول الله تعالى فى وصف هذه الشجرة: «إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ، طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ» . (65: الصافات) والشياطين خلق نارىّ، جهنمى، وأبشع ما فى الشياطين رءوسها تلك النارية الجهنمية، التي يرى الرائي منها كل ما فى الشيطان من هذه الصورة المنكرة التي هى له. وإن هذه الرءوس، النارية الجهنمية، أو ما يشبهها، هى قطوف هذا الشجر الذي يطعم هؤلاء المكذبون الضالون، من ثمره! إن لهم ما يتفكهون به فى دارهم تلك، كما أن لأصحاب الجنة- ما يتفكهون به من ثمار الجنة! وإنهم ليأكلون من هذا الثمر الزقّومى حتى تمتلىء بطونهم- كرها ورغما- إذ لا بد للبطون أن تمتلىء وتشبع! وفى عود الضمير مؤنثا على الشجر، مع أنه مذكر لفظا، إشارة إلى أنه أشبه بشجرة واحدة فى طبيعتها، وفى شؤم الثمر الذي يخرج منها.. فكأنهم يأكلون جميعا من شجرة واحدة.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 721 «فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ» .. ومع كل طعام شراب!! وشراب هذا الطعام الجهنمى، جهنمى مثله، هو هذا الحميم، وهو القيح والصديد الذي يسيل من أجسامهم التي تشوى فى نار جهنم، فيسيل منها هذا السائل فائرا يغلى. فالضمير فى «عليه» يعود إلى هذا الطعام، أو هذا الأكل، الذي دلّ عليه قوله تعالى: «لَآكِلُونَ» . «فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ» . أي إن هذا الشراب الجهنمى، يقبل عليه الذين أكلوا من هذا الطعام الزقومى، يقبلون عليه فى سعار مجنون، أشبه بالإبل اللهيم، أي أي العطاش، التي حبست عن الماء أياما، فإذا وردت عليه عبّت منه فى نهم شديد، لتنقع غلّتها، وتروى ظمأها.. وفى إقبال أهل هذا الطعام على هذا الشراب- إشارة إلى أن ما فى بطونهم من لهيب، أشد من هذا الحميم، فهم يستشفون من داء بداء، ويستجيرون من بلاء ببلاء، ويطفئون النار بالنار!. «هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ» .. أي هذا هو المنزل الذي ينزله يوم القيامة هؤلاء المكذبون الضالون، أصحاب الشّمال، وهذا ما يطعمون وما يشربون من، طعام وشراب، فى هذا المنزل.. وفى العدول عن خطابهم إلى ضمير الغائب- إشارة إلى أنهم فى حال من الهول، والبلاء، لا يعقلون معها حديثا، ولا يسمعون قولا.. فكان الجزء: 14 ¦ الصفحة: 722 أن اتجه الحديث إلى من يشهدون هذا المشهد، ليكون لهم فيه عبرة ومزدجر.. الآيات: (57- 74) [سورة الواقعة (56) : الآيات 57 الى 74] نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) التفسير: قوله تعالى: «نَحْنُ خَلَقْناكُمْ ..... » فى هذه الآيات عرض كاشف لقدرة الله سبحانه وتعالى، قيّومة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 723 سلطانه على كل شىء فى هذا الوجود.. وغاية هذا العرض، هو إقامة الأدلة، ونصب البراهين بين يدى هؤلاء المنكرين للبعث، على أن هذا البعث الذي ينكره المنكرون، ويستبعدون وقوعه، هو أمر داخل فى دائرة الأحداث التي تقع فى محيطهم.. فليست الحياة بعد الموت إلّا إعادة لبناء هذا الكيان الذي تهدم، وإقامته من جديد على الصورة التي كان عليها، وإنه إذا كان مما يمكن أن ينكر أو يستبعد هو الإيجاد ابتداء، فإن إنكار إعادة الموجود لا يكون إلا من مكابرة وعناد، أو جهل وضلال.. وقوله تعالى: «نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ» - هو إعلان بهذا الخبر، وتقرير له، وإرساله هكذا قضية مسلمة، من غير مقدمات: «نَحْنُ خَلَقْناكُمْ» .. فهذه قضية لا تحتاج إلى برهان، وحكم لا يقبل جدلا.. فليس هناك من مخلوق ينكر هذه الحقيقة أو يجادل فيها.. إنه لم يحلق نفسه.. وإذن فلا بد له من خالق خلقه.. وهذا الخالق يناديه، ويلقى إلى سمعه: أنه هو الذي خلقه.. فإن أنكر هذا الخالق، فليبحث عن الخالق الذي خلقه، إذ كان لا بد من خالق.. وهذا الخالق لا بد أن يكون واحدا يبسط سلطانه على هذا الوجود كله، وعلى الموجودات جميعها.. وذلك هو الله رب العالمين.. وقوله تعالى: «فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ» .. هو تعقيب على هذا الخبر، أو الحكم.. «نَحْنُ خَلَقْناكُمْ» .. أفلا تصدقون هذا الخبر؟ أو لا تقبلون هذا الحكم؟ إنه خير لكم أن تصدقوا هذا الخبر، وتقيموا وجودكم على الإيمان به! .. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 724 فإذا صدّقتم هذا، أفلا تصدقون أننا قادرون على إعادتكم بعد موتكم؟ «أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ» (81: يس) .. ولو، هنا، بمعنى «هلّا» للحثّ، والحضّ على التصديق. قوله تعالى: «أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ» ؟ هو حيثيّات تقام لهذا الحكم، وبراهين تقدم لهذا الخبر.. وقدّم الحكم فى هذه القضية- قضية إضافة الخلق إلى الله سبحانه وتعالى- قدم على حيثياته، وأدلته، لأنه- كما قلنا- أمر ظاهر، مستغن عن كل برهان يقوم بين يديه، ولأن كثيرا من العقول تتقبله هكذا من غير برهان، لأنه أمر بدهىّ، ومن الإزراء بالعقل تقديم البديهيات له، فى صورة المعضلات التي تحتاج إلى أدلة وبراهين.. أما هذه البراهين التي تقدم بعد النطق بهذا الحكم، فهى منصوبة لمن أعماهم الضلال، فلم يروا ما بين أيديهم فى وجه الصبح المشرق، فكانت هذه البراهين أشبه بأيد تمتد إلى هؤلاء العمى لتقودهم إلى مرفأ الأمن والسلامة.. ومع هذا فإن كثيرا من هؤلاء العمى، يمنعهم العناد والكبر عن أن يمدوا أيديهم إلى تلك الأيدى الممدودة لهم، ويؤثرون أن يتخبطوا فى مسيرتهم، وأن يتردّوا فى مهاوى الهلاك، على أن يستجيبوا لهاد يهديهم، أو منقذ ينقذهم.. والمنىّ، هو النطفة التي يتخلق منها الكائن الحي، وإن هذه النطفة لا تكون بذرة صالحة ليتخلق منها الجنين، حتى تنضج فى صلب الرجل، ثم تتحرك فيه إلى حيث يلقى بها فى رحم المرأة.. أما قبل هذا النضج، فلا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 725 تكون صالحة لأن يتخلق منها الكائن الحي.. بمعنى أنه لو انتزعت هذه النطفة انتزاعا من صلب الرجل، ثم نقلت إلى رحم المرأة، كانت أشبه بحبة غير ناضجة ألقى بها فى الأرض، فلا يكون منها أن تنبت نباتا أو تطلع زهرا أو ثمرا.. وهذا هو السرّ فى التعبير القرآنى بلفظ «تُمْنُونَ» الذي يدل على تلك العملية الطبيعية التي يقذف بها المنىّ فى رحم المرأة، عند التقاء الرجل والمرأة.. ومثل هذا ما جاء فى قوله تعالى: «أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى» (37: القيامة) فهو ليس مجرد منىّ، ولكنه منىّ يمنى، أي يقذف به فى حال نضجه، من صلب الرجل، إلى رحم المرأة.. فهذا المنىّ، الذي لا يعدو أن يكون نطفة من ماء- من يخلق منه هذا الكائن الحىّ، أو من يقيم منه هذا الإنسان السميع البصير؟ قوله تعالى: «نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ» أي وكما خلقناكم ابتداء، من هذه النطف، وشكلنا صوركم، من هذا المنىّ- نحن الذين قدرنا بينكم الموت، وحددنا لكل منكم الأجل الذي له فى هذه الدنيا.. فإلينا وحدنا تقدير أعماركم، وموتكم.. لم يسبقنا إلى ذلك سابق، ولم يشاركنا فى هذا شريك.. قوله تعالى: «عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ» هو متعلق بمحذوف، يفهم من قوله تعالى: «وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ» أي أننا إذا كنا لم نسبق فى هذا الخلق الذي خلقناكم عليه، ولم نسبق فى تقدير الموت الذي قدرنا عليكم، وجعلناه حكما واقعا على كل حىّ- إذا كان الجزء: 14 ¦ الصفحة: 726 هذا شأننا فيكم، أفلسنا بقادرين «على أن نبدّل أمثالكم» ونغير صوركم، ونخلقكم على صور غير تلك الصور التي أنتم عليها؟ أو لسنا بقادرين على أن نجعلكم فى صورة مخلوقات أخرى من تلك المخلوقات الكثيرة التي ترونها فى عالم الجماد، أو النبات أو الحيوان، أو فى صور أخرى مما لا تعلمونه من صور مخلوقاتنا فى الأرض أو فى السماء؟ فإن هذه النطف التي تتخلق منها الكائنات، الحية فى عالم الحيوان، هى ماء يشبه بعضه بعضا، ولكن الخالق المبدع يصوّر هذه النطف كيف يشاء.. «هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ..» (6: آل عمران) قوله تعالى: «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ؟» أي وإذا كنتم لا تعلمون النشأة التي كان من الممكن أن ننشئكم عليها، فقد علمتم نشأتكم هذه التي أوجدناكم فيها.. أفلا يكون لكم من هذا العلم ما يحدث لكم ذكرا، ويبعث فيكم طمأنينة إلى التسليم بالبعث بعد الموت؟ قوله تعالى: «أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ؟» وهذه صورة أخرى، من صور الخلق، وأنه إذا كانت عملية خلق الإنسان مما تحتجب رؤيتها عن كثير من العقول المريضة، فهذه عملية إنبات النبات، وإخراج الحبّ من الأرض، على هذه الصور المختلفة من النبات والشجر.. إنها عملية مشهورة، ظاهرة، وتجربة تجرى من أولها إلى آخرها بين أيدى الناس، حيث يلقون الحب فى الأرض، ثم يجدونه بعد ذلك نباتا زاهيا، وشجرا باسقا.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 727 فمن يخلق هذا الزرع؟ ومن يخرج من هذا الحب هذا الجنات، وتلك الحدائق ذات البهجة؟ أأنتم أيها الناس؟ إنكم لستم إلا أدوات تلقى الحب فى الأرض، كما تقذفون المنىّ فى الأرحام، فيصور الخالق جل وعلا من هذا وذاك ما يصوّر من كائنات! قوله تعالى: «لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ» . أي لو نشاء، لما أطلعنا هذا الزرع، ولو نشاء لأطلعناه، ثم لجعلناه عقيما لا يطلع زهرا، ولا يثمر ثمرا، فظلتم تفكهون، أي ترقبون الفاكهة، وتبحثون عنها، ثم لا تجدون شيئا منها، بل تعودون وملء أيديكم خيبة وحسرة، تتنادون بأنكم مغرمون بما أضعتم من جهد فى الحرث والزرع، ثم لم يكن لكم من هذا العناء إلا الحرمان من الثمر الذي كنتم ترجونه. قوله تعالى: «أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ» وهذا الماء الذي تشربون.. ألا تفكرون من أين جاء؟ ألا تنظرون فيه وفى هذا الماء الملح الذي يملأ وجه الأرض؟ من فصل بينهما؟ ومن أخرج لكم من هذا الماء الملح، هذا الماء العذب الفرات؟ أأنتم الذين صنع هذا الصنيع، وأنشأ من هذا الماء الملح سحابا يحمل الماء العذب، وينشىء منه الأنهار، ويفجر العيون؟ أأنتم أنزلتموه من المزن، أي السحب، أم نحن المنزلون؟! أجيبوا!! الجزء: 14 ¦ الصفحة: 728 ولا جواب إلا التسليم والإقرار، بأن الله سبحانه هو الذي صنع لكم هذا الذي صنع! ولو شاء الله سبحانه وتعالى، لجعل هذا الماء العذب على حاله التي كان عليها من قبل أن يخرج من رحم البحار، كما خرجتم أنتم من أرحام أمهاتكم، وكما خرج النبات من رحم الأرض.. «فلولا تشكرون» أي فهلا شكرتم الله على هذه النعم الجليلة التي هى ملاك حياتكم وحياة زروعكم، وحيوانكم؟ قوله تعالى: «أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ؟» .. وهذه النار التي توقدونها، وتستدفئون بها، وتنضجون عليها طعامكم.. من أنشأ لكم الشجر الذي توقدونه؟ ألا ترون هذا الحطب الذي يعلق به الشرر، فيحول إلى لهب وجمر؟ ألا ترون هذه القدرة التي تخرج النار من الشجر الأخضر الذي يجرى الماء فى عروقه؟ «الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ» (80: يس) قوله تعالى: «نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ» .. أي هذه النار التي توقدون من الشجر الأخضر، هى تذكرة وموعظة، لمن كان له عقل يتذكر، ويتعظ، فيرى قدرة الله.. وهى متاع وزاد «للمقوين» أي لكم أيها الناس، الذين لا يملكون شيئا.. فكل ما فى أيديكم، هو فضل من فضل الله عليكم، ورحمة من رحمته بكم» .. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 729 والمقوي، هو الخاوي، الفارغ، الذي لا شىء معه.. ومنه أقوت الدار أي خلت من أهلها، وأقوت الأرض، أي أجدبت.. قوله تعالى: «فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» .. هو تعقيب على هذه النعم العظيمة التي أنعم الله بها على عباده، والتي من شكرها، التسبيح بحمد الله، وتنزيهه، وتمجيده، وذكره ذكرا دائما بالحمد والثناء.. هذا، ويلاحظ أن الآيات التي عرضت هذه النعم، عرضتها كل نعمة فى آية مستقلة، ثم عقّبت على كل آية بالسؤال المطلوب من كلّ من وقف بين يدى نعمة منها، أن يسأله نفسه، وأن يتولى الإجابة عليه.. «أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ؟» .. «أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ؟» .. «أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ؟» .. «أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ؟» .. إنها نعم ظاهرة، من شأنها إذا ذكرت أن تدير الأنظار إليها، وأن توجه العقول نحوها، من غير داع يدعو الأنظار إلى النظر، أو يلفت العقول إلى التفكير والتدبير.. هذا إذا صادفت تلك النعم أبصارا تبصر، وعقولا تعقل.. ولكن ما أكثر الأبصار التي لا تبصر، والعقول التي لا تعقل.. فكان من رحمة الله، أن أقام بين يدى كل نعمة داعيا يدعو إليها، ويهتف بالأبصار الزائغة أن تنظر فيها، وبالعقول الغافلة أن تنتبه لها، فكانت هذه الأسئلة الواردة عليها.. فمن كانت له أذنان الجزء: 14 ¦ الصفحة: 730 فليسمع، ومن كانت له عينان فليبصر.. «إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ» (37: ق) الآيات: (75- 96) [سورة الواقعة (56) : الآيات 75 الى 96] فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) التفسير: قوله تعالى: «فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ» .. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 731 [الأقسام المنفية فى القرآن.. ودلالاتها] أكثر المفسرين على أن «لا» فى قوله تعالى: «فَلا أُقْسِمُ» زائدة، وأن التقدير: أقسم بمواقع النجوم.. ولم يذكروا لهذه الزيادة وجها مقبولا، حتى لكأنها زيادة مقحمة لضرورة كضرورة الشعر.. ويرى الزمخشري- مثلا- أن زيادة «لا» تقتضى أن يكون النظم هكذا: «فلأنا أقسم بمواقع النجوم» .. وعلى هذا يكون أصل النظم جملة من مبتدأ وخبر، وأن لام الابتداء دخلت على المبتد، وهو وإن كان نادرا، إلا أن ذلك ورد، فى لسان العرب، كقول الشاعر: خالى لأنت ومن جرير خاله ينل العلاء ويكرم الأخوالا وهذا تكلف بعيد، وركوب ضرورات كثيرة لا يلجأ إليها إلا عند العجز وضيق مجال الكلام.. وهذا ما ينتزه عنه كلام الله. ثم إن الموجود هنا «لا» لا، لام الابتداء، التي تحولت بهذه الصناعة المتكلفة إلى «لأنا» ثم حذفت أنا، وبقيت منها الهمزة التي لصقت بلام الابتداء، فأعطتها هذه الصورة الزائفة!! وكلام الله تعالى منزه عن النقص، متعال عن الوقوع تحت حكم الضرورة، وإن كل حرف منه ليرجح الوجود كله كمالا، وجلالا.. فما هى «لا» هذه؟ وما مفهومها؟. هى- والله أعلم- «لا» النافية.. وهى تجىء غالبا فى معرض الجزء: 14 ¦ الصفحة: 732 القسم تنزيها للمقسم به، وإجلالا لقدره، أن يقسم به على أمور واضحة بينة، لا تحتاج إلى سند يسندها من قسم أو نحوه.. فالقسم- عادة- إنما يرد لإثبات أمر من الأمور التي يستبعد المخاطب وقوعها أو لتقرير حقيقة من الحقائق، وتوكيدها، وإزالة الشبهة عنها عند المقسم له، حتى يقبلها ويطمئن إليها.. وإنه- والأمر كذلك- من الاستخفاف بقدر المقسم به، بل والامتهان له، أن يستدعى عند كل أمر وإن صغر، وأن يبرر به كل شأن وإن حقر أو ظهر، فذلك من شأنه أن يرخص هذا المقسم به، وأن يذهب بجلاله، وينزل من قدره، فلا يكون له وقعه على النفوس، إذا هو استدعى للقسم به فى حال تحتاج الى تبرير وتوكيد! وهذا ما يشير اليه قوله تعالى: «وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ» . (224: البقرة) فتعريض اسم الله سبحانه وتعالى للقسم به، حتى فى مقام البرّ بهذا القسم، ورعاية حقه، وحتى فى مقام الصلح بين الناس- هو مما ينبغى للمؤمن أن يتحاشاه، وألا يجىء إليه إلا فى قصد، عند ما تدعو الضرورة إليه! فقوله تعالى: «فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ» - هو تعريض وتلويح بالقسم بمواقع النجوم، دون القسم بها، لأنها ذات شأن عظيم، فلا يقسم بها إلا لتقرير الحقائق المشكوك فيها، والمرتاب فى أمرها.. أما جليّات الأمور وبدهياتها فلا يقسم لها، لأن القسم لها، هو تشكيك فيها، ووضعها موضع ما يكون من شأنه أن يثير المماراة، والخلاف.. وقد كثر فى القرآن الكريم هذا الضرب من التلويح بالقسم عن طريق الجزء: 14 ¦ الصفحة: 733 النّفى، وذلك حين يكون المقسم هو الله سبحانه وتعالى، والمقسم به، ذات من ذوات المخلوقات العظيمة المكرمة عند الله، وحين يكون المقسم عليه أمرا جليّا، بينا لا يحتاج إلى بيان.. ومن ذلك قوله تعالى: «فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ، لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ» (16- 19 الانشقاق) وقوله سبحانه: «لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ، وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ، أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ، بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ» (1- 4: القيامة) وقوله جلّ شأنه: «فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوارِ الْكُنَّسِ، وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ» (15- 20 التكوير) فهذه الأقسام واقعة على أمور عظيمة، محققة الوقوع على الصورة المعروضة فيها، وعلى الصفة الموصوفة بها، بحيث لا يصح أن تقع موقع الإنكار، من ذى مسكة من عقل أو فهم.. فإذا كان هناك من يشك أو يرتاب، فإنه لا معتبر لشكّه أو ارتيابه، ولا جدوى من وراء القسم له بأى مقسم به، إذ كان لا يجدى معه- فى هذا الصبح المشرق بين يديه- أن تضاء له المصابيح، وتقام له الحجج والبراهين. «وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» (40: النور) . فالأقسام هنا- كما ترى- واقعة على أحوال الإنسان، وتنقله من حال إلى حال، ومن وجود إلى وجود، أو على قدرة الله سبحانه وتعالى، على بعث الموتى من القبور، وعلى إعادة هذه العظام البالية، وإلباسها لباس الحياة من جديد، أو على قول الله سبحانه، وما تحمل كلماته من أخبار صادقة، محققة الوقوع.. وهذه كلها أمور لا تحتاج إلى قسم، وفى القسم لها- كما قلنا- تشكيك فيها، وفتح لباب الجدل والمماراة فى شأنها.. أما هذا التلويح بتلك الأقسام، فيما يبدو من نفى القسم- فهو وضع الجزء: 14 ¦ الصفحة: 734 الأمر المقسم عليه فى ضمانة حقيقة من الحقائق الكبرى، حيث يعتدل ميزانه مع ميزانها فى مقام الإعظام والإجلال، بمعنى أنه لو احتاج هذا الأمر إلى قسم لما أقسم له إلا بهذه الحقائق العظيمة الجليلة، المناسبة لعظمته وجلاله.. فإن العظائم كفؤها العظماء، كما يقولون. ومواقع النجوم، التي يلوّح بالقسم بها، قد تكون أفلاكها التي تدور فيها، وقد تكون منازلها التي تأخذها من النظام العام للفلك.. وعلى أي فإن النجوم حيث تكون هى كائنات عظيمة، وأن أي نجم منها- على ما يبدو من صغره- هو أكبر من شمسنا التي هى أقرب النجوم إلينا، والتي يبلغ حجمها مليونا وربع مليون من حجم الأرض! ولم يقع التلويح بالقسم على النجوم، بل على مواقعها، لأن مواقعها تشير إلى أكثر من أمر.. تشير إلى هذا البعد الشاسع الذي بيننا وبينها، والذي تبلغ المسافة فيه بيننا وبين بعضها ملايين السنين الضوئية!! وتشير هذه المواقع إلى المسافات التي بين هذه النجوم التي يبدو لنا بعضها مجاورا البعض.. فهذه المسافات التي تبدو متقاربة، هى فى الواقع ملايين من السنين الضوئية كذلك.. كما تشير هذه المواقع إلى أن النجوم ليست على علو واحد كما يبدو، وإنما هى فى أفلاك بعضها فوق بعض.. وعلى هذا، فإن النظر إلى مواقع النجوم يكشف عن النجوم نفسها، كما يكشف عن هذه العوالم الرحيبة التي تسبح فيها، تلك العوالم التي إن أمكن ضبطها بالأرقام العددية، وبالصور الحسابية، فإن الخيال لا يتسع لتصور أفق واحد من آفاق تلك العوالم التي تسبح فيها النجوم. قوله تعالى: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 735 هذا هو الأمر الذي لا يحتاج إلى قسم، وتلك هى الحقيقة التي لا تحتاج إلى تبرير وتوكيد.. فهذا الذي يتلوه النبي على الناس، هو قرآن كريم، فى كتاب مكنون أي محفوظ، عند الله سبحانه، وإنه- لمقامه العظيم- لا يدنو منه، ولا يطوف بحماه، إلا المطهرون من عباد الله، من ملائكة، أو بشر. وفى وصف القرآن بالكرم، إشارة إلى ما ينال الذين يمدون أيديهم إليه من عطايا ومنن به. ومعنى المس للقرآن الكريم هنا- والله أعلم- هو التلبّس به، والمباشرة له، والإفادة منه.. فمن مسّ هذا القرآن الكريم وطاف بحماه ملتمسا الهدى منه- وجب أن يكون على صفة تناسب هذا القرآن، من الطهارة، والكرم، والنقاء. فمن كان طاهرا، لم يجد معاناة فى الامتزاج والتجاوب معه، سواء كان طاهرا بالقوة والفعل كالملائكة، أم كان طاهرا بالقوة، كمن كان فى الناس سليم الفطرة، معافى من الآفات التي تعرض لهذه الفطرة، فتفسدها، وتحول بينها وبين تقبّل الخير، والتجاوب معه، فمن كان من الناس ذا فطرة سليمة، قرب من هذا القرآن، واتصل به، وأصاب من خيره، فطهر من دنس الشرك، والكفر.. وكان من المؤمنين الطاهرين.. فالمسّ هنا، ليس لمس المصحف باليد، كما يذهب إلى ذلك كثير من المفسرين، الذين اشتد خلافهم حول الحال التي يكون عليها من يمس المصحف، وهل ينبغى أن يكون على طهارة مطلقة من الحدثين الأصغر والأكبر، وهل ذلك على سبيل الاستحباب والندب، أم أنه على سبيلى الوجوب والحتم.!! وإنما المسّ الذي تشير إليه الآية الكريمة- والله أعلم- مسّ كلمات الله ومخالطتها للقلوب والعقول، ذلك المس الذي يتأثر به الماسّ، فيجد من أثر هذا المسّ فى كيانه، ما يجد- على بعد ما بين المشبه والمشبه به- من مسّ طيبا أو نحوه، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 736 مما تطيب به النفوس، وتستروح الأرواح.. وكما أن كثيرا من النفوس تختنق بالريح الطيب، أو تنفر منه، فكذلك كثير من النفوس ما تتأذى بكلمات الله، وتنفر من سماعها، فلا تسمح لها بأن تنفذ إلى مشاعرها ووجداناتها، بلى تجعل أصابعها فى آذانها، كما يجعل من يتأذى بالطيب أصبعيه على أنفه!!. ويرى «ابن قيّم الجوزيّة» أن المراد بالكتاب المكنون، هو الصحف التي بأيدى الملائكة.. ويعلل لذلك بوجوه: منها: أنه وصفه- أي الله- بأنه مكنون، والمكنون: المستور عن العيون، وهذا إنما فى الصحف التي بأيدى الملائكة.. ومنها: أنه قال: «لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ» وهم الملائكة، ولو أراد المؤمنين المتوضئين لقالى: لا يمسه إلا المتطهرون ... فالملائكة مطهّرون، والمؤمنون المتوضئون متطهرون. ومنها: أن هذا إخبار، ولو كان نهيا لقال: لا يمسسه، بالجزم ... ومنها: أن هذا رد على من قال إن الشيطان جاء بهذا القرآن، فأخبر تعالى أنه فى كتاب مكنون لا تناله الشياطين، ولا وصول لها إليه، كما قال فى «آية الشعراء» : «وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ» (210- 212) وإنما تناله الأرواح المطهرة، وهم الملائكة.. ومنها: أن هذا نظير قوله تعالى: َمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرامٍ بَرَرَةٍ» (12- 16: عبس) .. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 737 ومنها: أن الآية مكية، فى سورة مكية، تتضمن تقرير التوحيد، والنبوة والمعاد، وإثبات الصانع، والردّ على الكفار، وهذا المعنى أليق بالمقصود، من فرع عملىّ، وهو حكم مس المحدث المصحف «1» » . هذا، ويتسع معنى «المطهّرين» التطهر عند لمس المصحف، وعند التلاوة منه، فهذا- وإن لم يمكن على سبيل الإلزام- أدب مع كتاب الله، وتوفير لكل ما يتصل به. قوله تعالى: «أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ» . الإشارة هنا، إلى القرآن الكريم، وما تحدث به آياته عن قدرة الله سبحانه، وعن سلطانه القائم على هذا الوجود، وعن البعث والحساب والجزاء.. والاستفهام تقريرى، يراد به إقرار الكافرين بما عندهم من هذا الحديث الذي سمعوه، مما يتلى عليهم من آيات الله، وهل هم مصغون إليه، واقفون منه موقف الجد، وطلب العلم والفهم، أم أنهم مستمعون استماع المجامل الذي لا يعنيه شىء من مضامين هذا الحديث ومفاهيمه؟. والمدهن، هو المداهن، الذي يصانع فى الأمور، ويلقاها بغير رأيه فيها، طلبا للسلامة، وتجنبا لما قد تجره إليه المكاشفة من متاعب ومكاره.. وهذا ضرب من النفاق، ووجه من وجوهه.. وقوله تعالى: «وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ» - هو بيان لما ينتهى إليه هذا الموقف المداهن، وهو التكذيب بما يلقى إليه من هذا الحديث، الذي لا يعطيه أذنا، ولا يفتح له قلبا ولا عقلا..   (1) التفسير القيم لابن القيم ص 412 بتحقيق المرحوم الشيخ محمد حامد الفقى: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 738 والتكذيب هو حظّ هؤلاء المداهنين المراوغين، وهو رزقهم الذي يرزقونه من هذا الخير المبسوط لهم.. فإذا عاد الناس بمغانم كثيرة وبرزق موفور من هذا الحديث حين يستمعون إليه، فإن هؤلاء المداهنين المراوغين، يعودون برزق أيضا، ولكنه رزق مشئوم، ملطّخ بالتكذيب بآيات الله، وبالكفر بها، وبما تحمل من حق وخير.. وفى تسمية هذا التكذيب الذي حمله المداهنون من آيات الله- فى تسميته رزقا، إشارة إلى هذا الخسران الذي عادوا به من هذا الموقف مع آيات الله، وأنهم بدلا من أن يحملوا رزقا، حملوا وزرا.. لقد أرادوا أن يخدعوا فخدعوا.. «يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ» (9: البقرة) .. فهذا هو رزقهم الذي رزقوه من استماعهم لآيات الله، وهو- كما قلنا- وزر، لارزق. قوله تعالى: «فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ» . الحلقوم، مجرى الطعام من الفم إلى المعدة.. والضمير فى بلغت، يعود إلى الروح، وهى وإن لم يجر لها ذكر، فإنها مذكورة فى هذا المفهوم العام الذي تشير إليه الآيات، وهو البعث، الذي يدور حوله هذا الحديث، وما يقع للناس فيه من حساب وجزاء، ونعيم وعذاب.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 739 فلولا، حرف تحضيض، بمعنى هلّا.. والآية وما بعدها، استدعاء لهؤلاء المنكرين للبعث، المداهنين فى هذا الحديث الذي استمعوا إليه ما استمعوا من أمره- استدعاء لهم أن يمتحنوا قواهم كلها، وأن يجيئوا بكل ما يملكون من حول وحيلة، وهم بين عزيز كريم لديهم ممن قد حضره الموت، وحشرجت روحه حتى بلغت الحلقوم، وهم ينظرون إليه فى حزن قاتل، وحسرة محرقة- فهل يستطيعون رد هذه الروح إلى مكانها من الجسد؟ فليجربوا هذا وليحاولوه، إن كان الأمر يتسع لتجربة، أو يقبل حيلة! إن الله سبحانه هو أقرب إلى هذا المحتضر منهم، ولكنهم لجهلهم وكفرهم، لا يدركون هذه الحقيقة، ولا يتصورونها.. قوله تعالى: «فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ. تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» . «فلولا» هنا توكيد لما قبلها فى قوله تعالى: «فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ..» وقوله تعالى: «تَرْجِعُونَها» هو جواب «فلولا» الأولى.. أي فهلا إذا بلغت الروح الحلقوم ترجعونها؟ و «ترجعونها» أي تردونها إلى مكانها الذي خرجت منه.. يقال رجع الشيء، يرجعه، وأرجع الشيء يرجعه، أي أعاده.. فالفعل يتعدّى بنفسه، ويتعدى بالهمزة.. ومن تعدى الفعل بنفسه قوله تعالى: «فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 740 مِنْهُمْ» (83: التوبة) .. ويأتى لازما مثل قوله تعالى: «يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ» (8: المنافقون) . وقوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ» جملة اعتراضية، تكشف عن حال هؤلاء الذين شهدوا محضر هذا المحتضر، وهو يجود بنفسه، والمدين، هو العاجز المقهور، ومنه المدين: المثقل بالدين.. وقوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» - هو تكذيب لتكذيبهم بآيات الله، وبالحديث الذي حدثتهم به.. فقد كان رزقهم من هذا الحديث هو التكذيب به.. فهل هم بعد هذا الامتحان متمسكون بهذا التكذيب، مصدقون به؟ قوله تعالى: «فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ» . وهذا المحتضر، قد نفذ فيه قضاء الله، وأصبح فى عالم الموتى.. ولكنه لا يترك كهذا ليد الفناء- كما يظنون-، بل إنه سينقل إلى العالم الآخر، وتلبسه الحياة هناك مرة أخرى، ويأخذ منزله فى هذا العالم، حسب عمله فى الدنيا.. فإن كان من المقربين إلى الله، ومن أولياء الله فى الدنيا، فالله سبحانه هو وليّه فى الآخرة، يلقاه لقاء الأولياء الأحباب بالروح والريحان وجنة النعيم.. والروح: ما تستروحه النفوس، وتطيب به، وتسعد فيه.. وقرىء: «فروح» أي حياة جديدة تلبسه.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 741 قوله تعالى: «وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ، فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ» وأصحاب اليمين، هم ممن أرادهم الله «سبحانه» ليكونوا من أصحاب الجنة، فيسّر لهم العمل بعمل أهل الجنة.. وقوله تعالى: «فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ» ، أي أنهم فى سلام وأنهم يتهادون التحية والسلام فيما بينهم، ويبعثون بتحاياهم إلى إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم ممن لا يزالون فى هذه الدنيا.. فالضمير فى «لك» يراد به كل مؤمن بالله، طامع فى أن يكون من أصحاب اليمين! .. وهى تحية من أهل اليمين فى العالم الآخر، ينقلها الله سبحانه وتعالى، إلى المؤمنين فى الدنيا، حتى يلقوا إخوانهم فى العالم الآخر، ويردوا هذه التحية الطيبة بأحسن منها أو مثلها. قوله تعالى: «وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ» أي وأما إن كان هذا الميت من هؤلاء المدهنين المكذبين، فمنزله الحميم، الذي تختنق النفوس بسمومه، وداره الجحيم التي يشوى على جمرها.. وهكذا الناس بعد الموت، حيث ينقلون إلى الدار الآخرة، فيكونون أزواجا ثلاثة.. السابقون، وهم المقربون.. وأصحاب اليمين.. وأصحاب الشمال.. ولكلّ منزله الذي ينزله فى هذه الدار، وجزاؤه الذي يجزاه فيها.. قوله تعالى: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 742 «إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ. فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» . بهذا الحكم تختم السورة الكريمة، وبهذا التنزيه لله سبحانه، والحمد لله، يعقّب على هذا الحكم، ويلفت إلى ما ينبغى أن يستقبل به من النبي، ومن المؤمنين.. وحق اليقين، أي الحق المطلق، الذي لا يعلق به شىء من دخان الباطل وسحبه.. فهو الحق الذي ينبغى أن ينزل من القلوب والعقول منزلة اليقين، فتطمئن به القلوب، وتسكن إليه العقول.. واليقين المشار إليه، هو اليقين الوارد من تلك الآيات، التي تحدث عن قدرة الله، وعن البعث، والحساب، والجزاء.. فهذا الحديث هو حديث حق مستيقن، لا شك فيه.. وفى إضافة الحق إلى اليقين، إشارة إلى أن هذا الحق، هو الحق الذي يقيم اليقين فى النفوس، لأنه حق خالص من كل شائبة.. أما غيره فقد يكون حقّا، ولكنه قد يتلبس به ما يحجبه عن الأبصار، فيثير حوله سحبا من ضباب الشك والارتياب.. أما هذا الحق، فهو حق صراح، ونور مبين.. لا يحجبه شىء. وقوله تعالى «فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» - هو كما قلنا- تعقيب على هذه الحكم، واستقبال لهذا الحق المشرق، الذي يملأ القلوب طمأنينة وأمنا- استقبال له، بتنزيه الله سبحانه والتسبيح بحمده، شكرا له على هذا الهدى الذي يهدى به من يشاء من عباده.. والمراد بالتسبيح باسم الله، تسبيح لذات الله، وحمد لذات الله، ولهذا إذا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 743 سبّح المؤمن ربه قال: سبحان ربى العظيم، سبحان ربى الأعلى.. ولم يقل سبحان اسم ربى العظيم، أو سبحان اسم ربى الأعلى.. يقول ابن تيمية فى معنى: «فسبح باسم ربك العظيم» أي سبح ناطقا باسم ربك، متكلما به. ويعلق ابن القيم على هذا الذي يقول به شيخه ابن تيمية: هذه فائدة تساوى «رحلة» !!. وهذا هو قدر العلم، وتقدير العلماء له.. فرضى الله عن الأستاذ وعن التلميذ. إنه من أجل هذه الكلمة التي تفيد علما، وتشع هدى، ليس بالقليل عليها أن تشد لها الرحال، وتقطع فى سبيل الوصول إليها الفيافي والقفار! ولكم احتمل سلفنا الصالح، رضوان الله عليهم، من أعباء الجهاد فى طلب العلم، فكان الواحد منهم يقطع ما بين الشرق والغرب- على قلة الزاد، وخشونة المركب، حيوانا، أو قدما- فى سبيل أن يلقى رجلا من أهل العلم بلغه عنه أنه يحفظ حديثا لرسول الله، أو قراءة لآية من آيات الله.. إنهم قدروا العلم قدره، وبذلوا له المهر الذي يستحقه.. وإنه على قدر المشقة كان الثواب والجزاء من الله سبحانه، فوقع هذا العلم من قلوبهم موقع الغيث من الأرض الطيبة، فأزهر، وأثمر، وأخرج من كل زوج بهيج.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 744 57- سورة الحديد نزولها: مدنية.. عدد آياتها: تسع وعشرون آية.. عدد كلماتها: خمسمائة وأربع وأربعون.. كلمة.. عدد حروفها: ألفان وأربعمائة وستة وسبعون، حرفا.. مناسبتها لما قبلها سورة «الواقعة» مكية وسورة «الحديد» هذه مدنية، ومع هذا فقد انتظمت السورتان فى سلك واحد، فكان ختام سورة «الواقعة» مصافحا لبدء سورة «الحديد» وكان بدء «الحديد» جوابا وتلبية لهذا الأمر الذي كان ختام سورة «الرحمن» . وتقرأ خاتمة «الواقعة» : «فسبح باسم ربك العظيم» ومفتتح «الحديد» «سبّح لله ما فى السموات والأرض وهو العزيز الحكيم» فترى الوجود كله فى سمواته وفى أرضه، فى محراب التسبيح لله، وفى موقف الولاء له، والقنوت لعزته وجلاله وحكمته.. وهذا التجاوب بين السورتين، شاهد من الشواهد الكثيرة، التي تشهد بأن ترتيب السور كما هى عليه فى المصحف، هو ترتيب توفيقى، كترتيب الآيات فى سورها، وأن ترتيب الآيات فى سورها كترتيب الكلمات فى آياتها، وأن ترتيب الكلمات فى آياتها كترتيب الحروف فى كلماتها.. ولا يكون القرآن قرآنا إلا بهذا الترتيب الآيات الذي هو عليه فى اللوح المحفوظ: «إنه لقرآن كريم.. فى كتاب مكنون.. لا يمسه إلا المطهرون.. تنزيل من رب العالمين..» الجزء: 14 ¦ الصفحة: 745 بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 6) [سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6) التفسير: قوله تعالى. «سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. هو- كما قلنا- خبر يحدّث عن أثر هذا الأمر الذي ختمت به سورة «الواقعة» فى قوله تعالى: «فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» .. وكأن هذا الخبر جواب يجاب به عن سؤال يرد على هذا الأمر بالتسبيح، وهو: ما وقع هذا الأمر على الوجود؟ فكان الجواب: «سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. فهذا التسبيح والولاء لله، إنما هو شأن الوجود كله، فهو قائم على التسبيح الجزء: 14 ¦ الصفحة: 746 والولاء لله، فى كل لحظة، وفى كل آن، لأنه فى قبضة عزيز ذى سلطان متمكن، ومع هذه العزة المتمكنة لله، فهو حكيم فى تدبيره، وتقديره، لا يعتسف الأمور اعتسافا، ولا يقضى فيما يقضى به عن هوّى وتسلط.. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.. ويجوز أن يكون هذا الخبر بالتسبيح إغراء بهذا الأمر الذي أمر الله به الإنسان أن يسبح باسم ربه العظيم.. وكان النظم هكذا: فسبح باسم ربك العظيم، الذي سبح له ما فى السموات وما فى الأرض وهو العزيز الحكيم» .. فهيا أيها الإنسان لتأخذ مكانك بين موكب الوجود المتجه إلى الله، المسبح بحمده «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» (44: الإسراء) قوله تعالى: «لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» . هو بيان لقدرة الله، وعرض لسلطانه المطلق فى هذا الوجود.. فهو سبحانه، المالك لما فى السموات والأرض جميعا، وهو سبحانه، الذي يحيى ويميت، وهو سبحانه، القادر على كل شىء.. لا يعجزه شىء مما يظن أولئك المشركون أنه فى قائمة المستحيلات.. قوله تعالى: «هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» .. ومن صفاته سبحانه أنه الأول بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء.. فلا أول قبله، ولا آخر بعده.. وإذا كان الأول، فكل ما سواه صنعة يده، وإذا كان الآخر، فكل شىء هالك إلا وجهه.. وهو سبحانه «الظاهر» فى آياته وفى كل ما بثّ فى هذا الوجود من الجزء: 14 ¦ الصفحة: 747 موجودات، حيث تتجلى فى هذا الوجود آيات قدرته، وعلمه، وحكمته.. وهو سبحانه «الباطن» الذي «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (103: الأنعام) .. وهو سبحانه «بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» .. لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض.. «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (14: الملك) .. قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ، وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» . ومن صفاته سبحانه، أنه هو الذي خلق السموات والأرض، وأنه أقام سلطانه عليهما.. وأنه «يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ» أي ما يغوص فى باطنها، من حبّ وماء، ومعادن، وغيرها.. ويعلم: «ما يَخْرُجُ مِنْها» من نبات، وما يتفجر من عيون، وما يستخرج منها من معادن.. ويعلم سبحانه: «ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ» من ماء، ومن ملائكة، ومن وحي يوحى به إلى عباده، ويعلم «ما يَعْرُجُ فِيها» أي ما يصعد إلى السماء من ملائكة، ودعوات، وصلوات، يرفعها عباده المؤمنون إليه. وفى التعبير عن الصعود إلى السماء «بالعروج» إشارة إلى صورة الفلك، وأنه دائرى، وأن العروج إليه، والنفوذ من أقطاره لا يكون إلا فى خطوط متعرجة منحنية. وقوله تعالى: «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ» - إشارة إلى أنه سبحانه- مع سعة هذا الملك- هو موجود بعلمه وقدرته وتدبيره، فى كل مكان منه، وفى كل ذرة فيه.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 748 وقوله تعالى: «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» - إشارة أخرى إلى نفوذ علم الله إلى كل ما يجرى فى ملكه.. وأن هؤلاء الذين يستبعدون أن يكون الله سبحانه أقرب إليهم من حبل الوريد، لا ينبغى لهم أن يستبعدوا أنه يراهم، ويرى كلّ ما يعملون.. فمن كان يظن أن الله ليس معه، فهو يراه! قوله تعالى: «لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» هو توكيد لما قررته الآيات السابقة، من بسطة سلطان الله، وشهوده لكل شىء فى هذا الوجود، فهو سبحانه له ملك السموات والأرض، وأنه لا يملك الشيء ملكا متمكنا إلا إذا كان هذا الشيء طوع أمره، وتحت سمعه وبصره.. وقوله تعالى: «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» أي إليه يرجع كل أمر، فلا يقع فى ملكه شىء إلا بأمره وتقديره.. قوله تعالى: «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» أي ومن قدرة الله سبحانه أنه «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ» أي يدخل النهار فى الليل، فيختفى الليل، ويظهر النهار، «وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ» أي يدخل الليل فى النهار، فيختفى النهار، ويظهر الليل.. ففى الليل نهار مطوىّ، وفى النهار ليل مخفىّ.. «وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ» (37: يس) .. فهذا ظلام يخرج من أحشاء النور.. «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً» (12: الإسراء) وهذا نور يتفجر من الجزء: 14 ¦ الصفحة: 749 باطن الظلام.. وهذا من بعض مظاهر القدرة القادرة التي تلبس المتناقضين ثوبا واحدا.. «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ» (95: الأنعام) وقوله تعالى: «وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» تقرير لهذه الحقيقة التي تحدث عن نفوذ علم الله، إلى ما فى الصدور، من وساوس وخواطر.. وهذه شواهد قدرته سبحانه، فيما بين الليل والنهار من امتزاج وافتراق فى وقت معا.. الآيات: (7- 11) [سورة الحديد (57) : الآيات 7 الى 11] آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) التفسير: قوله تعالى: «آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ» الجزء: 14 ¦ الصفحة: 750 بعد هذا البيان المبين الذي عرضت فيه الآيات السابقة بعض ما لله سبحانه وتعالى من قدرة، وتصريف فى هذا الوجود، وماله من علم يحيط بكل شىء، وينفذ إلى خفايا الصدور، وخوالج النفوس- بعد هذا جاءت دعوة الله إلى عباده أن يستجيبوا لله، وأن يؤمنوا به وبرسوله، وأن ينفقوا مما أعطاهم من فضله، وجعلهم خلفاءه فيه ووكلاءه عليه.. وأنه ليس للخليفة، أو الوكيل أن يخالف أمر من استخلفه أو وكله.. فالإيمان بالله، والولاء له، والتصديق برسوله، هو حق الخالق على المخلوق.. والإنفاق من عطاء الله فى سبيل الله، هو حق هذا العطاء، ومطلوب الشكر عليه.. ومع أن الإيمان بالله، والإنفاق من مال الله فى سبيل الله، هو حق مطلوب أداؤه، وأداء الحقوق، هو إبراء الذمة، لا يستوجب جزاء.. ومع هذا، فقد أوجب الله سبحانه على نفسه- فضلا وإحسانا- أن يجزى على أداء تلك الحقوق جزاء كريما، وأجرا كبيرا.. «فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ» قوله تعالى «وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» بعد أن جاءت تلك الدعوة الآمرة الهاتفة بالإيمان بالله والإنفاق فى سبيله فى قوله تعالى: «آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ» ، وبعد أن أعقب هذه الدعوة هذا الوعد الكريم من الله سبحانه وتعالى بالجزاء العظيم، والأجر الكبير لمن يستجيب لها- جاءت الآيات بعدها لتناقش هذه الدعوة، ولتلقى أولئك المترددين فى قبولها، لقاء المنكر عليهم موقفهم هذا، المطالب لهم ببيان العلة أو العلل التي تحول بينهم وبين إجابة داعى الله الذي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 751 دعاهم.. «وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ؟» أي أىّ شىء يحول بينكم وبين الإيمان بالله.. وهذا رسول الله إليكم، يدعوكم لتؤمنوا بربكم؟ لماذا لا تجيبون دعوة الله وتؤمنون به؟ إن دعوتكم إلى الإيمان بالله، وبعث رسول من عند الله إليكم بها، هو فضل من فضل الله عليكم، وإحسان من إحسانه إليكم، إذ كان من شأنكم أن تكونوا مؤمنين، من غير دعوة مجدّدة إليكم.. فلقد دعاكم الله سبحانه وتعالى إلى الإيمان من قبل، وأخذ ميثاقكم وأنتم فى ظهور آبائكم، فأجبتم ولبيتم.. فما لكم لا تذكرون هذا الميثاق، ولا توفّون به؟ ثم مالكم إذ قد نقضتم الميثاق، أن تجددوه على يد الرسول الذي بعثه الله إليكم ليذكر كم به، ويقيمكم عليه؟. وقوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» . أي إن كنتم ما زلتم على إيمانكم بالله الذي وثّقه معكم وأنتم فى ظهور آبائكم- فما لكم لا تؤمنون بما يدعوكم إليه الرسول من إيمان، وهو إنما يدعوكم إلى هذا الإيمان الذي آمنتم به من قبل؟ وعلى هذا يكون مفهوم نظم الآية هكذا: «وما لكم لا تؤمنون بالله إن كنتم مؤمنين» وأما قوله تعالى: «وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ» فهما جملتان حاليتان تكشفان عن حال المخاطبين وهم يدعون إلى الإيمان ولا يجيبون دعوة الداعي.. وهذا يعنى أن دعوة الإسلام، هى دعوة تلتقى مع الفطرة التي فطر الناس عليها، وأن من يرفض هذه الدعوة أو ينكرها، فهو منحرف عن الفطرة، حائد عن طريقها.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 752 والميثاق الذي أخذه الله سبحانه على الناس، هو فطرتهم التي أودعها فيهم، والتي يولد عليها كل مولود، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا بَلى!» (172: الأعراف) .. فكل مولود يولد سليما معافى من داء الشرك والضلال، أشبه باللبن يخرج من الضرع.. وقد يتعرض هذا اللبن للعطب والفساد بما يعلق به من أفذار، وما يتخلّق من هذه الأقذار من جراثيم.. وفى الحديث الشريف: «كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» .. ودعوة الإسلام، هى دعوة إلى الفطرة، وإلى تطهيرها مما يكون قد علق بها من آفات.. «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها.. لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ.. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ.. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» (30: الروم) .. قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» .. هو بيان لفضل الله على عباده، إذ يجدّد دعوته إليهم، ويدعوهم إلى توثيق الميثاق الذي نقضوه، بما ينزل على عبده محمد صلوات الله وسلامه عليه، من آيات بينات، ليخرجهم بها من الظلمات إلى النور، وليعيد إليهم فطرتهم التي أفسدوها.. وهذا من رأفة الله سبحانه بعباده، ورحمته الجزء: 14 ¦ الصفحة: 753 بهم.. «وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» .. فسبحانه، سبحانه، من رب كريم، برّ رحيم!! وألا خسر وخاب من أعرض عن ربه، وأسلم زمامه ليد شيطانه!. وفى قوله تعالى: «ينزل» إشارة إلى أن القرآن لم يكن قد تمّ نزوله بعد، وأنه مازال يتنزل حالا بعد حال.. وفى قوله تعالى: «عَلى عَبْدِهِ» دون أن يذكر اسم هذا العبد- إشارة إلى أنه هو عبد الله، الذي تتحقق فيه صفة العبودية الكاملة لله، حتى أنه إذا أضيف إليه هذا العبد من غير ذكر اسمه، لم يكن المقصود إلا هو، وهو محمد صلوات الله وسلامه عليه.. وهذا مقام جليل لا يبلغه أحد من عباد الله.. فصلى الله عليك يا رسول الله، وعلى آلك، والمهتدين بهداك، وسلم تسليما كثيرا كثيرا.. قوله تعالى: «وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ.. أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا.. وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى.. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.» .. والشقّ الآخر من شقّى الدعوة التي يدعو الله سبحانه عباده إليها، بعد الإيمان به، هو الإنفاق فى سبيله.. فإذا استجاب العبد لدعوة الله، وآمن به، فلم لا ينفق فى سبيله؟ ولم يمسك هذا المال الذي آتاه الله؟ ولم يضنّ به على الإنفاق فيما يدعوه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 754 إليه؟ أله شىء من هذا المال؟ أليس هذا المال من مال الله؟ وهل يملك أحد شيئا، مع الله سبحانه الذي له ملك السموات والأرض؟ وهل يبقى هذا المال فى يد ممسكيه إلى الأبد؟ وكيف.. ولله ميراث السموات والأرض؟ فمن أمسك هذا المال الذي فى يده، فهو صائر يوما إلى غيره.. ثم هو صائر آخر الأمر إلى الله سبحانه وتعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ» (40: مريم) .. وقوله تعالى: «لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا» - هو خطاب للمنفقين فى سبيل الله، وأنهم ليسوا على درجة واحدة فى الثواب والجزاء على ما أنفقوا.. فالذين أنفقوا- ولو قليلا- فى ساعة العسرة، وفى حال كان الإسلام فيها فى دور الامتحان والابتلاء، لم تثبت قدمه بعد، ولم يتمكن سلطانه- الذين أنفقوا فى هذه الحال، وقاتلوا، هم أعظم درجة من الذين أنفقوا وقاتلوا بعد الفتح، وبعد أن علت راية الإسلام، وانجحر الشرك، ودالت دولة المشركين.. فالذين أنفقوا وقاتلوا قبل الفتح- وهو فتح مكة، أو صلح الحديبية- إنما كانوا ينفقون ويقاتلون ابتغاء وجه الله، من غير أن ينظروا إلى مغانم تقع لأيديهم، ومن غير أن يكون لسلطان الإسلام قوة قاهرة تدعوهم إليه، أو سلطان ظاهر يغريهم به، وإنما أنفقوا ما أنفقوا من أموال ونفوس، لما وقع فى نفوسهم من إيمان بالله، وطمع فى رضوانه.. وهؤلاء هم الذين أشار إليهم سبحانه وتعالى بقوله: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 755 «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ» (10- 11 الواقعة) .. كما أشار إليهم سبحانه بقوله: «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ» (100: التوبة) .. أما الذين أنفقوا بعد الفتح، وقاتلوا فى سبيل الله، فإنما ينفقون ويقاتلون، وقد أنفق الناس جميعا وقاتلوا، سواء منهم من نظر إلى سلطان الإسلام، أو لم ينظر.. وشتان بين منفق ومنفق، ومقاتل ومقاتل.. فتلك حال وهذه حال، ولكلّ من الحالين حساب وتقدير..! وقوله تعالى: «وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى» أي أن كلا من الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، والذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا- هؤلاء وهؤلاء قد وعدهم الله الحسنى، أي المنزلة الحسنى، أو العاقبة الحسنى.. فهم جميعا فى رضوان الله.. وإن اختلفت حظوظهم ومنازلهم من هذا الرضوان.. وقوله تعالى: «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» - إشارة إلى ما يصحب هذه الأعمال من نيّات.. فقد يتلبس العمل السابق بنية تحبطه، لأنه لم يكن خالصا لوجه الله.. وقد يجىء العمل المتأخر مصحوبا بنية خالصة لوجه الله، فيسبق المتأخر المتقدم.. «وإنما لكل امرئ ما نوى» .. وهذا مما يعلمه الله سبحانه وتعالى من عباده، وما انعقدت عليه نياتهم.. وفى قوله تعالى: «أَنْفَقَ وقاتَلَ» وفى الجمع بين الانفاق والقتال فى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 756 سبيل الله- فى هذا إشارة إلى أن الإنفاق ليس مقصورا على المال وحده، وإنما هو إنفاق من النفوس، وبذلها فى سبيل الله.. فمن لم يكن ذا مال لم يحرم اللّحاق بالمنفقين من أموالهم، وذلك بالإنفاق من ذات نفسه، ومن كان ذا مال لم يمنعه الإنفاق من ماله أن ينفق من ذات نفسه، فيجمع إحسانا إلى إحسان، وقد يكون الإنفاق إلى جانب النفس والمال، إنفاقا من حصافة الرأى، وحسن التدبير، والنّصح للمؤمنين.. قوله تعالى: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ» هو دعوة كريمة من رب كريم، إلى أن يقرضه المؤمنون مما أعطاهم، فيضاعف لهم هذا القرض، ويجزيهم عليه الجزاء الأوفى.. وإنه ليس بعد هذا عذر لمعتذر ممن يؤمنون بالله واليوم الآخر فى ألّا يجيبوا دعوة الله سبحانه وتعالى، وألّا ينفقوا مما خولهم إياه، وجعله ملكا خالصا لهم، فيأخذ منهم ما أنفقوا أخذ المقترض، الذي يشكر لمقرضه، ويحمد صنيعه معه.. فسبحانه سبحانه من رب بر رحيم!!! والقرض الحسن، هو أن يكون من مال مكتسب من حلال، وأن يكون من أكرم مال المنفق وآثره عنده، وأن يخرجه من يده عن طيب خاطر، ورضا نفس، وأن يكون الإنفاق والنفس راغبة فى الحياة، مقبلة عليها، لا بعد أن يهرم المرء ويذهب شبابه، وتنطفىء حدة رغباته، وشهواته.. الآيات: (12- 15) [سورة الحديد (57) : الآيات 12 الى 15] يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 757 التفسير قوله تعالى: «يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» . الظرف هنا متعلق بقوله تعالى فى الآية السابقة: «فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ» أي أن الذي يقرض الله قرضا، فيضاعفه الله سبحانه وتعالى له، ويعطيه الأجر الكبير عليه- إنما يجد ذلك يوم القيامة، يوم ترى- أيها الرائي فى ذلك اليوم- المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم.. والمراد بالنور- والله أعلم- هو الإيمان، وما يتبعه من الأعمال الصالحة، حيث يكون هذا الإيمان نورا هاديا لأصحابه إلى الجنة.. كما يقول سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ» . (9: يونس) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 758 والنور الذي فى أيمان المؤمنين والمؤمنات يومئذ، هو صحف أعمالهم التي يتناولونها بأيمانهم. فتكون أمارة من أمارات السلامة والنجاة، كما تكون نورا هاديا يتجه بهم إلى طريق الجنة. وقوله تعالى: «بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» . هو النداء الذي ينادى به المؤمنون والمؤمنات من الملائكة يوم القيامة، حيث يلقونهم مرحبين بهم، مسرعين إليهم بزفّ هذه البشرى المسعدة، مهنئين لهم بما ظفروا به من رحمة الله ورضوانه فى هذا اليوم العظيم.. وقوله تعالى: «يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ.. قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ» . هو وصف لموقف من تلك المواقف التي تجرى يوم القيامة بين أهل المحشر، من خصام، وملاحاة، وترام بالتّهم، وقذف بالشناعات.. وهنا موقف بين المنافقين والمنافقات، وبين المؤمنين والمؤمنات.. ذلك أنه حين يرى المنافقون والمنافقات أن المؤمنين والمؤمنات قد زايلوا موقف الحشر، وساحة القضاء، إلى دار الخلد والنعيم، يسعى بهم نورهم إلى دارهم تلك- حين يرى المنافقون والمنافقات ذلك، يركبهم الكرب، ويستبدّ بهم الفزع، بعد أن انطلق المؤمنون والمؤمنات من بينهم، وأخذوا طريقهم إلى الجنة.. وهنا يحاول المنافقون والمنافقات أن يتعلقوا بأذيالهم، وأن يلحقوا بهم. فينادونهم: «انظرونا» أي انتظرونا وأمهلونا قليلا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 759 «نقتبس من نوركم» أي نمشى على نوركم، ونتعرف على طريق السلامة بالجري على آثاركم. وقوله تعالى: «قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً» هو الجواب الذي يجاب به على ما سأل المنافقون والمنافقات بقولهم: «انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ» .. وقد يكون هذا الجواب من المؤمنين والمؤمنات، وقد يكون من الملائكة.. ولهذا بنى الفعل للمجهول، ذلك لأن هذا الجواب هو الجواب الذي لا جواب غيره، وإن لم ينطق به أحد.. فهو جواب الحال، قبل أن يكون جواب المقال.. وهو ردع للمنافقين والمنافقات، وحبس لهم فى أماكنهم التي هم فيها لا يبرحونها، حتى يقضى الحق فيهم قضاءه. وقوله تعالى: «فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ، باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ» . ضرب بينهم: أي أقيم، ورفع بين المنافقين والمنافقات، والمؤمنين والمؤمنات، هذا الحجاز، وهو «سور» أي حائط، له باب، هو الباب الذي دخل منه المؤمنون والمؤمنات إلى ساحة الرحمة والمغفرة، وقد أغلق بعد أن دخل المؤمنون والمؤمنات إلى رضوان الله، وبقي فى الخارج المنافقون والمنافقات ينتظرون قضاء الله سبحانه وتعالى فيهم، وإنه لقضاء عدل، حيث ينال المنافقون والمنافقات جزاء ما كانوا يعملون.. ويلاحظ هنا فى هذا الموقف، أن المؤمنين والمؤمنات، والمنافقين والمنافقات، كانوا فى موقف الحساب والمساءلة، وأن المؤمنين والمؤمنات الجزء: 14 ¦ الصفحة: 760 قد فصل فى أمرهم، وبرئت ساحتهم، وسيقوا إلى الجنة زمرا، وأن المنافقين والمنافقات قد همّوا ليلحقوا بهم، فضرب بينهم بهذا السد، وهو سد يحول بين المنافقين والمنافقات وبين الخروج من مكانهم الذي هم فيه.. وفى التعبير عن إقامة هذا الحاجز أو هذا السور بين أهل الجنة وأهل النار- فى الإشارة إلى هذا بالضرب، ما يدل على أن هذا السور قد أقيم مرة واحدة، فى لحظة خاطفة، ولم بين لبنة لبنة، وجزءا جزءا.. وشبيه بهذا ما يقام من خيام، فإنه يسمّى فى حال إقامته بالضرب.. كما يقول الشاعر: إن السماحة والمروءة والندى ... فى قبّة ضربت على ابن الحشرج كما أن الضرب للشىء يستعمل لما يلزم ويدوم منه، كما فى قوله تعالى «وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ» (61: البقرة) أي لزمتهم الذلة والمسكنة لزوما دائما لا يزول. أما الباب الذي لهذا السور، فهو معدّ لمن بقي من أهل السلامة فى الموقف، ولم يدخل الجنة بعد، ولم يلحق بالذين سبقوا من المؤمنين، حيث أبطأ به عمله.. ولكنه مع هذا سائر على طريق النجاة.. فإذا بلغ أول هذا الطريق، دخل من هذا الباب، فوجد أرواح الرحمة، والرضوان.. وقوله تعالى: «باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ» - إشارة إلى أن الذين يجوزون هذا السور من المؤمنين والمؤمنات، يجدون ريح الجنة، وراء هذا الباب القائم على السور، أما الذين ظلوا فى موقف الحشر، خارج هذا السور، فإنه لا يطلع عليهم فى موقفهم هذا إلا نذر الشر، والعذاب.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 761 قوله تعالى: «يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟. قالُوا بَلى! وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ» . أي أن المنافقين والمنافقات، وقد وجدوا المؤمنين والمؤمنات، أخذوا طريقهم إلى الجنة، ولم يستجيبوا لندائهم أن: «انظرونا نقتبس من نوركم» - حين رأوا ذلك عجبوا لهم، وجعلوا يسائلونهم: «ألم نكن معكم؟» .. أي: ألم نكن نحسب من المؤمنين، بينكم؟ ألم تعاملونا معاملة أهل الإيمان؟ فلماذا تتبرءون منا الآن، وتأخذون طريقا وحدكم، لا حساب لنا فيه معكم؟ ويأتيهم الجواب من المؤمنين: «بلى!!» أي لقد كنتم حقّا معنا، ولكن بألسنتكم- أيها المنافقون والمنافقات، لا بقلوبكم- كان إيمانكم، وبهذا دخلتم مدخل المؤمنين فى الدنيا، بهذه الثياب الزائفة من النفاق، التي اتخذتموها زيّا لكم، لتدخلوا به فى زمرة المؤمنين.. أما قلوبكم فهى على ما هى عليه من ضلال، وشرك، وكفر.. وأنتم هنا فى هذا الموقف- موقف القيامة- إنما تحاسبون على ما فى قلوبكم، وقد كشف الله سبحانه وتعالى ما بها من نفاق!! لقد كنتم معنا، وكنتم فى حساب المؤمنين، لأننا لا نعلم ما فى قلوبكم من نفاق وخداع.. ولكنكم كنتم فى حقيقة الأمر، على غير سبيل المؤمنين.. فلقد «فتنتم أنفسكم» ، وأوردتموها موارد الضلال، «وتربصتم» أي كنتم تتربصون بالمؤمنين، وتنتظرون ما يحلّ بهم من هزيمة وخذلان، فتنفضون أيديكم منهم، وتجدون لكم طريقا إلى عدوهم.. «وارتبتم» أي كنتم فى ريبة وشك من دين الله، فلم تؤمنوا به عن صدق ويقين، «وغرتكم الأمانى» أي وظللتم فى خداع أنفسكم بتلك الأمانى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 762 الباطلة، التي كنتم تمنونها بها «حتى جاء أمر الله» .. أي حتى جاءكم الموت، وأنتم فى هذا الموقف من التربص والريبة والغرور.. «وغركم بالله الغرور» أي أنكم كنتم فى هذا كلّه منقادين للشيطان الذي دعاكم إليه، وزين لكم طريق الضلال، فاستجبتم له، وغررتم بخداعه وضلاله. والغرور، هو الشيطان، لأن التغرير بالناس، هو وظيفته التي خلق لها.. قوله تعالى: «فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا.. مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» .. هو مما يردّ به على المنافقين والمنافقات، يوم القيامة، بعد أن سمعوا ما يسوؤهم، جوابا على قولهم للمؤمنين: «ألم نكن معكم؟» .. إنهم لم يكونوا من المؤمنين، بل كانوا على نفاق خفىّ انكشف أمره يوم القيامة، ولهذا فهم يساقون إلى النار، مع الكافرين، لأنهم فى الحقيقة كانوا كافرين، وإن حسبوا فى ظاهر أمرهم من المؤمنين.. وإنه لن يقبل منهم فدية يفتدون بها أنفسهم من هذا العذاب.. تماما كما لا يقبل من الكافرين فدية.. إنهم على سواء فى الكفر والضلال. وقوله تعالى: «مَأْواكُمُ النَّارُ» تأكيد لقوله تعالى: «لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ» .. فالفدية إنما هى فدية من النار، وإذا لم تقبل الفدية فليس إلا النار.. وقوله تعالى: «هِيَ مَوْلاكُمْ» .. هى الولىّ الذي يضمكم إليه، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 763 وتقوم بينكم وبينه المودّة والتآخى.. إنه لا بد لكم من ولىّ، وقد انقطعت بينكم وبين المؤمنين والمؤمنات حبال الولاء، وليس بعد ولاية المؤمنين إلا ولاية الكافرين.. والكافرين فى النار، فخذوا مكانكم معهم فيها.. الآيات: (16- 20) [سورة الحديد (57) : الآيات 16 الى 20] أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 764 التفسير: قوله تعالى: «أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» .. فهم جمهور المفسرين هذه الآية على أنها خطاب للمؤمنين جميعا، وأن الله سبحانه وتعالى وجه هذا العتاب التهديدى للمؤمنين، ولمّا يمض عليهم زمن وهم فى صحبة هذا الدين الذي دانوا به، وبين يدى الرسول الكريم، وفى مشهد من آيات الله التي تتنزل عليه!! وهذا الاستفهام، فيه إنكار وتهديد، أكثر مما يحمل من إغراء وتحضيض!! والذي ينظر فى الآية الكريمة، وفى سياقها مع ما سبقها من آيات، يجد أنها خطاب تهديدىّ لهؤلاء المنافقين الذين كانو يعيشون فى مجتمع المؤمنين ويحسبون منهم.. وقد جاء هذا الخطاب التهديدى إليهم، بعد أن رأوا مصيرهم فى الآخرة، وما انكشف من شركهم وكفرهم، وأنهم حين أرادوا أن يكونوا فى زمرة المؤمنين، وبين جماعاتهم كما كانوا فى الدنيا، وحين هتفوا بالمؤمنين «ألم نكن معكم؟» - حين فعلوا ذلك، تحت ثوب النفاق الذي لبسوه فى الدنيا، قيل لهم: «بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ» .. وإنه إذ يلقاهم هذا الخطاب التهديدى، بعد أن رأوا- وهم فى الدنيا- الجزء: 14 ¦ الصفحة: 765 أن نفاقهم سينكشف يوم القيامة، وأنهم سيحشرون مع الكافرين- إذ يلقاهم هذا التهديد، فإنه إنما يوقظهم من غفلتهم تلك عن أنفسهم، وعن خداعهم لها، وأنه قد آن لهم أن يكونوا فى المؤمنين ظاهرا وباطنا، وإلّا فقد عرفوا أين يكون مكانهم يوم القيامة، إذا هم ظلوا قائمين فى هذا الموقف الذي هم فيه، وأنه ليس لهم مأوى إلا النار.. فقوله تعالى: «أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ؟» .. هو دعوة مجدّدة إلى أولئك المؤمنين الذين فى قلوبهم مرض، من المنافقين وأشباه المنافقين، الذين يعيشون بين المؤمنين، ويحسبون فى جماعتهم، ويشهدون مشاهدهم فى الحرب والسلم، كعبد الله بن أبىّ بن سلول، وغيره من الذين لم تطمئن بالإيمان قلوبهم، ولم تخشع لذكر الله وما نزل من آياته.. «أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ؟» .. أي: ألم يحن الوقت الذي تخشع فيه لذكر الله، ولما نزل من الحق- قلوب هؤلاء المؤمنين الشاكّين المترددين؟ وماذا ينتظرون بعد هذا وقد عاشوا فى الإسلام وقتا كافيا، اطّلعوا فيه على سيرة الرسول فيهم، واستمعوا إلى آيات الله التي يتلوها عليهم؟. وفى تسميتهم مؤمنين، إغراء لهم بتصحيح إيمانهم، وبإخلاء قلوبهم من النفاق، وإخلاص نياتهم لهذا الدين الذي لبسوه ظاهرا، بأن يلبسوه باطنا.. إنه أسلوب من التربية الحكيمة العالية، التي ليس من همّها قتل المرضى، بل همّها الأول هو الطّبّ لدائهم، وتقديم الدواء الناجع لعللهم.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 766 وقوله تعالى: «وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» . هو معطوف على قوله تعالى: «أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ» - أي ألم يجىء الوقت الذي تخشع فيه قلوب هؤلاء المؤمنين المنحرفين، لذكر الله، وما نزل من الحق، وألا يكونوا كهؤلاء الذين أوتوا الكتاب من اليهود، الذين قست قلوبهم، فجفوا دينهم، وعبثوا بشريعتهم، وخرج كثير منهم جملة عن دينه وأحكام شريعته؟ وفى تشبيه هؤلاء المؤمنين المرتابين فى دينهم بأهل الكتاب من اليهود- إشارة إلى ما كان بين هؤلاء المؤمنين المنافقين، وبين هؤلاء اليهود من اجتماع على الكيد للإسلام، والتربص بالمسلمين.. وفى هذا ما يكشف هؤلاء المرضى من المؤمنين، وأنّ من ينضوى منهم إلى هؤلاء اليهود، أو يلقاهم بالمودة، وهم على هذا الكيد للمؤمنين، فهو من المنافقين، وإلا كان عليه أن يعتزل مجالس هؤلاء اليهود، وأن يقطع حبال الود التي بينه وبينهم، والله سبحانه وتعالى يقول: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً» (11: الحشر) فهذا وجه بارز من وجوه النفاق، لا يجتمع مع الإيمان فى قلب مؤمن أبدا.. وليس القيد الوارد على حال أهل الكتاب فى قوله تعالى: «فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ» - ليس قيدا مشتركا بينهم وبين المنافقين وأشباه المنافقين من المؤمنين المخاطبين بهذه الآية، وإنما هو قيد خاص بأهل الكتاب الذين صاروا إلى تلك الحال من قسوة القلوب والفسوق عن دينهم، بعد أن تراخى الزمن بينهم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 767 وبين نبيهم الذي جاءهم بالشريعة التي يدينون بها، وبعد أن توارثوا هذا الداء، فقست قلوبهم، ولم تعد تقبل خيرا.. وقد جعل المفسرون هذا القيد: «فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ» - قيدا جامعا للمؤمنين وأهل الكتاب.. وهذا هو الذي جعلهم يجعلون قوله تعالى: «أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ» - خطابا عامّا للمسلمين جميعا، يدخل فيه صحابة رسول الله، كما يدخل فيه من فى قلوبهم مرض من المؤمنين، وهذا لا يتفق أبدا مع الحال التي كان عليها صحابة رسول الله، الذين أعطوا كل وجودهم لله، ولرسول الله، ولدين لله، وإنه ليس وراء ما أعطوا بقية من مشاعر الخشوع والولاء تعطى فى هذا المقام! قوله تعالى: «اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» . هو خطاب لهؤلاء المؤمنين المنافقين الذين لم يملأ الإيمان قلوبهم خشية وجلالا وولاء لله، ولرسوله، وللمؤمنين.. فهؤلاء إنما هم فى شك من البعث وأن هذا الشك هو الذي أقامهم من الدين هذا المقام المنحرف، ولهذا كان من تمام دعوتهم إلى تصحيح إيمانهم، أن يكون إيمانهم بالبعث واقعا موقع اليقين من قلوبهم وعقولهم، وأنهم إذا كانوا فى شك من هذا، فليعلموا أن أمر البعث لا يختلف عما يرونه بأعينهم من إلباس الأرض الميتة ثوب الحياة.. فالله سبحانه الذي يحيى الأرض بعد موتها، لا يعجزه أن يحيى الأجسام بعد موتها، فهذا من ذاك.. سواء بسواء. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 768 وقوله تعالى «قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» استدعاء لهؤلاء المخاطبين، المنحرفين، أن يستدعوا عقولهم- إن كانت لهم عقول- وليتدبروا موقفهم من البعث، بالنظر إلى ما تفعله قدرة الله سبحانه بالأرض الميتة! قوله تعالى: «إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ» . هو دعوة مجدّدة أيضا إلى هؤلاء المؤمنين المنحرفين، أن ينفقوا فى سبيل الله، بعد أن يصححوا إيمانهم، وأن يدخلوا دخولا كاملا فى دين الله، وأن يصبحوا من المؤمنين الذين خاطبهم الله سبحانه فى الآيات السابقة بقوله: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ» .. فليلحقوا بهؤلاء المؤمنين، الذين دعوا إلى الإنفاق فى سبيل الله واستجابوا لما دعوا إليه.. إنهم إن فعلوا كان لهم ما لإخوانهم الذين سبقوهم من مضاعفة الجزاء، ومن الأجر الكريم، الذي أعدّ لهم.. وهذا هو السر- والله أعلم- فى هذا التشابه الذي جاء عليه نظم الآيتين: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ» . «إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ» . والمصّدّق: أصله المتصدق، قلبت التاء صادا، وأدغمت الصاد فى الصاد. قوله تعالى: «وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 769 هو معطوف على قوله تعالى: «إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ» . أي أنه إذا كان الإنفاق فى سبيل الله مما يردّ إلى المنفق مضاعف القدر، كريم الأجر- إذا كان ذلك كذلك، فإن هذا الإنفاق لا يزكو، ولا يطيب، ولا يعطى هذا الأجر الكريم- إلا إذا كان عن إيمان وثيق بالله، وبرسوله.. فالإيمان بالله رسوله، إيمانا خالصا من كل شائبة، هو الذي يزكّى كل عمل يعمله المؤمن، قلّ هذا العمل أو كثر، وهو الذي يرفع العبد عند ربه إلى درجه الصديقين والشهداء.. والصدّيق، هو كثير الصدق، أي من كان مصدقا بكل ما نزل من آيات الله، وبكل ما سمع من رسول الله، لا يرتاب فى شىء، ولا يتوقف عند شىء.. سواء عقله أو لم يعقله، وسواء وافق هواه أو خالفه.. فهذا هو الإيمان فى صميمه.. إنه ولاء، وطاعة، وإسلام، واستسلام.. ومن هنا كان «أبو بكر» رضى الله عنه «الصدّيق» الأول، و «الصديق» الأكبر، لأنه بعد أن آمن بالله وبرسوله، جعل عقله وراء كل ما يعرض له من أمر الله ورسوله.. وفى حادث صلح الحديبية، شاهد لهذا، فقد كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه، قد سار بالمسلمين عام الحديبية، على أن يدخل هو والمسلمون المسجد الحرام، وذلك لرؤيا رآها النبي الكريم، وأعلم المسلمين بها.. فلما وقفت قريش فى وجه الرسول وأصحابه، وهم على مشارف مكة، وانتهى الأمر بينه وبين قريش إلى أن يعود النبي بأصحابه هذا العام، وألا يدخلوا على قريش مكة فى عامهم هذا، على أن يعودوا حاجّين فى العام القادم، بعد أن تخلى قريش مكة لهم- وإنه لما انتهى الأمر إلى هذا الموقف، اضطرب المسلمون، وكثرت تساؤلاتهم عن هذا الوعد الذي وعدهم النبي إياه من دخول المسجد الحرام- كان أبو بكر رضى الله عنه، هو الذي لم يقع فى قلبه شىء من الجزء: 14 ¦ الصفحة: 770 هذا الذي وقع فى نفوس المسلمين، حتى إنه جاءه عمر متسائلا، قال له تلك القولة القاطعة الحازمة: «الزم غرزه» أي قف عند حدّك، ولا تراجع فى أمر فعله النبي! وهذا ما جاء به قوله تعالى بعد ذلك، فى القرآن المدنىّ: «وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ» (36: الأحزاب) . فمن آمن مثل هذا الإيمان أو قريبا منه، فهو من الصديقين.. فصحابة رسول الله، أبوبكر، وعمر، وعثمان، وعلى، وطلحة، والزبير، وأبو عبيدة، وعبد الرحمن بن عوف، وكثير من وجوه الصحابة هم من الصديقين، وإن اختلفت منازلهم، فى مقام الصدّيقيّة والشهداء: جمع شهيد وشاهد، وهم الذين آمنوا بالله ورسله، فهم صديقون وهم شهداء عند ربهم، وتلك صفة أمة محمد صلوات الله وسلامه عليه، التي يشير إليها سبحانه وتعالى بقوله: «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» (143: البقرة) كما يصحّ أن يكون معنى الشهداء، هم الذين شهدوا بصدق الرسول، وأسلموا له، حين دعاهم إلى الله، وتلا عليهم آيات الله.. وهذا التأويل للشهداء، هو أولى عندنا من القول بأنهم هم الذين يقتلون فى سبيل الله.. وذلك أن القرآن الكريم لم يغلّب إطلاق لفظ «شهيد» أو شهداء على الذين يقتلون فى سبيل الله، بل غلّب على ذلك لفظ القتل. كما فى قوله تعالى: «وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» (74: النساء) وكما فى قوله سبحانه: «وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» (157 آل عمران) .. وفى استعمال لفظ القتل فى مقام الجهاد فى سبيل الله، ما يكشف للمجاهد عن الموقف الذي يدعى إليه، وأن مما قد يكون الجزء: 14 ¦ الصفحة: 771 فى هذا الموقف، القتل، فليوطن نفسه على هذا، فإذا خرج على تلك النّية، كان قوة عاملة من قوى الحق، فلا يحجم عن الإقدام، ولا يفرّ عند اشتداد البأس، ولا يهاب القتل الذي أعدّ نفسه له.. وهذا خير مما لو صور له الموت فى موقف القتال فى صورة مجازيّة، يبدو فيها الموت فى صورة غير صورته التي يلقاه الناس عليها، ثم إذا استقبله المجاهد فى موقف القتال على حقيقته، أنكر ما عرف منه فى تلك الصورة المجازية، والتمس لنفسه السبيل أو السبل التي تباعد بينه وبينه!! ومن جهة أخرى، فإن الذين يقتلون فى سبيل الله، قد كان لهم فى القرآن الكريم ذكر خاص بهم، يشير إلى مقامهم عند الله، وما أعد الله لهم من حياة طيبة فى الدار الآخرة.. وفى هذا يقول سبحانه: «وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» (170: آل عمران) .. وعن هذا المعنى جاء الوصف لمن يقتلون فى سبيل الله بأنهم شهداء.. إذ كان موتهم لم يقطع الحياة عنهم، فهم أحياء يرزقون عند ربهم، وهم فى مقام عال يشهدون منه ما يجرى فى العالم الدنيوي..! وعلى هذا يكون قوله تعالى: «وَالشُّهَداءُ» معطوفا على الصديقين، أي: «وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ» أولئك هم الصديقون، وهم الشهداء عند ربهم وقوله تعالى: «عِنْدَ رَبِّهِمْ» متعلق بالصديقين والشهداء، وقع موقع الحال.. وقوله تعالى: «لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ» - خيرثان عن الذين آمنوا بالله ورسله. قوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ» الجزء: 14 ¦ الصفحة: 772 هو وعيد لهؤلاء المنافقين المكذبين بآيات الله، فهم فى زمرة الكافرين، وليس للكافرين من مصير إلا عذاب الجحيم.. [الحياة الدنيا.. ما نأخذ منها وما ندع] قوله تعالى: «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً، وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ، وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ.» هو خطاب عام للناس جميعا، مؤمنهم، ومنافقهم، وكافرهم.. وفى هذا الخطاب كشف مبين عن حقيقة الحياة الدنيا، حتى يراها الناس فى وضعها الصحيح، فلا يغتروا بظاهرها، ولا يفتنوا بما تبدى لهم من صور الفتنة والإغراء.. فإن أكثر ما يضل الناس عن طريق الحق، ويعمّى عليهم سبل الخير، هو افتتانهم بزخارف الدنيا، وانخداعهم بهذا السراب الذي تلوّح لهم به، فى معرض الأمانىّ الخادعة، والآمال الكاذبة.. فالحياة الدنيا- فى حقيقتها- «لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ» إن كل ما فى هذه الحياة الدنيا، هو تافه قليل الغناء، إذا ووزن بما فى الآخرة.. من نعيم، وعذاب.. فما ينعم به الذين يحسبون أو يحسبه غيرهم- أنه نعيم فى الدنيا، هو لمعة من سراب، أو قطرة من محيط مما أعد الله سبحانه لعباده المكرمين، من نعيم خالد لا يزول، كامل، لا ينقص منه شىء.. وما يشقى به الجزء: 14 ¦ الصفحة: 773 الذين يحسبون أو يحسبهم الناس أنهم أشقياء فى الدنيا، هو نعيم، بالنسبة لعذاب الآخرة وأهوالها.. فكل ما فى هذه الحياة الدنيا، من نعيم أو شقاء، هو بالنسبة لنعيم الآخرة وشقائها، لعب ولهو.. وإذ كان ذلك هو كل ما فى الدنيا، فإن من شأن الراشدين العقلاء ألّا يقفوا طويلا عند هذا اللهو واللعب، بل إن عليهم أن يتجاوزوا هذا إلى ما وراء هذه الحياة، وأن يجعلوا من الدنيا معبرا إلى الحياة الآخرة، وأن يكون حظهم من دنياهم هو التزود ليوم القيامة، بالأعمال الطيبة بعد الإيمان بالله واليوم الآخر وملائكته، وكتبه، ورسله.. وقوله تعالى: «وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ» .. هو معطوف على قوله تعالى: «لَعِبٌ وَلَهْوٌ» : أي أن الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بين الناس وتكاثر فى الأموال والأولاد.. وفى قوله تعالى: «زِينَةٌ» إشارة إلى أن الحياة الدنيا، وإن كانت العب واللهو، فإنها كذلك معرض من معارض الزينة، حيث يجد فيها الإنسان ما يتحلّى به ظاهرا وباطنا.. فيتحلى ظاهرا بالثياب الجميلة النظيفة، التي تبدو فيها صورته جميلة مقبولة، ويتحلى باطنا، بحلية الإيمان بالله، وبما يدعو إليه هذا الإيمان من مكارم الأخلاق.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ» (26: الأعراف) فهذه هى الزينة التي تحمّل الإنسان ظاهرا وباطنا.. زينة الجسد، وزينة القلب والروح.. وفى قوله تعالى: «وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ» - إشارة إلى ما يجرى بين الناس من تنافس فى الاستكثار من متاع الحياة الدنيا، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 774 وزينتها من أموال وأولاد، لا لسدّ الحاجة، وإنما لإشباع رغبة التعالي والتفاخر، تلك الرغبة التي كلما ألقى إليها ما تشتهيه، اشتد جوعها، وازداد نهمها، فلا تشبع أبدا.. هذا، ويلاحظ أن الآية الكريمة جمعت بين خمسة أمور، من أمور الدنيا، هى موطن الفتنة بها، ومصدر الداء لكل من كان من صرعاها.. وهى اللعب، واللهو، والتزين، والتفاخر، والتكاثر فى الأموال والأولاد.. ويلاحظ كذلك، أن هذه الأمور ليست على سواء فيما يصيب الناس منها من ضرر.. فاللعب، وهو شغل الجسد، والعقل، بما يلعب به اللاعبون- هو أكبر هذه الأمور ضررا، وأشدها بلاء على الإنسان، حيث يستهلك وجوده كله، حسّا، ومعنى، فيما لا طائل تحته.. إنه لعب كلعب الأطفال.. واللهو، وإن كان ضربا من اللعب، إلا أنه قد يكون فى جانب من جانبى الإنسان، ظاهره، أو باطنه.. فهو بهذا فى المرتبة الثانية من السوء والبلاء.. ثم تجىء الزينة، لتأخذ مكانا وسطا بين اللعب واللهو، وبين التفاخر والتكاثر.. فلو وقف المرء بالزينة عند الحد الذي لا يجاوز به المطلوب، من التجمل، إلى طلب التفاخر والتكاثر- لكان ذلك محمودا غير مذموم.. ومن هذا ندرك أن الدنيا ليست شيئا بغيضا ينفر منه الإنسان، ويفر من الجزء: 14 ¦ الصفحة: 775 وجهه، إذا هو أراد النجاة والسلامة، وإنما هى مراد فسيح، ومجال متسع للسعى والعمل، ولابتغاء كثير من وجوه الخير والنفع منها، إذا عرف المرء كيف يسوس حياته فيها، ويقيمها على طلب الطيّب النافع منها، على أن يكون ذلك فى قصد واعتدال، وبمعزل عن طلب التفاخر والتعالي، فإن من شأن التعالي والتفاخر أن يجور على حياة الإنسان نفسه، كما أن من شأن هذا أن يحمله على الجور على حقوق الناس، ابتغاء الوصول إلى الغاية التي يبلغ فيها حدّ التعالي الذي يملؤه فخرا وتيها.. فعرض الدنيا فى هذا المعرض الذي جاءت به الآية الكريمة، ليس دعوة إلى الزهد فى الدنيا، زهدا يقيم الإنسان فيها مقام الضائع المستكين، الذي لا يمسك فى يده بشىء منها- كما فهم ذلك بعض الذين لا يعرفون حقيقة هذا الدين، ولا يدركون مراميه البعيدة، فانسحبوا من معركة الحياة، وأخلوا مكانهم من ميادينها العاملة، فكانوا أشبه بالمنافقين الذين اندسوا فى جيش المجاهدين، فلما التحم القتال، أعطوا العدوّ ظهورهم، وولوا مدبرين.. إن الإسلام. إذ يعرض الدنيا فى هذا العرض الذي يهوّن منها، ويخفف من موازينها، إنما يواجه بهذا العرض النفس البشرية، التي من طبيعتها الإقبال على الدنيا، والتكالب على شهواتها.. وتلك حال تحتاج إلى دعوة تكسر من حدة هذا التكالب وتقيمه على صراط مستقيم.. فالناس- كل الناس- ليسوا فى حاجة أبدا إلى من يدعوهم إلى الإقبال على الدنيا، وإلى أخذ حظوظهم منها، إذ هم مقبلون بطبعهم عليها، مدعوون بحكم غريزتهم إلى الاندفاع فى هذا الإقبال إلى مالا نهاية له.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 776 وإنما الناس- كل الناس- محتاجون إلى من يمسك زمامهم ويروّض غرائزهم، فى تعاملهم مع الدنيا، وفى تنافسهم المهلك على ما فيها من مال ومتاع.. فكل معرض يعرض فيه القرآن الكريم، الحياة الدنيا، مستخفّا بها، مهونا من شأنها، إنما هو دواء ملطف لهذا السّعار الذي يدفع الناس دفعا فى غير وعى، إلى أن يلقوا بأنفسهم إلى مواطن التهلكة، دون أن يأخذوا حذرهم مما يلقاهم على هذا الطريق المحفوف بالمخاطر.. وقوله تعالى: «كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً» - هو تشبيه لحال الدنيا، وما يبدو للناس منها من مفاتن ومغريات، ينخدع بها من يلهيهم ظاهر الأمور عن حقائقها.. فالحياة الدنيا- فى ظاهرها- أشبه بغيث وقع على الأرض، فبعث الحياة فى مواتها، وأخرج منها زروعا ناضرة، وحدائق ذات بهجة، ثم لا تلبث هذه الزروع وتلك الجنات أن تهيج، وتبلغ غايتها، ثم لا تلبث كذلك أن تأخذ فى الذبول والضمور، ثم نجفّ، وتصبح هشيما تذروه الرياح.. هذه هى الدنيا زرع، يملأ الأرض بهجة وجمالا، ثم إذا هذا الزرع النضر البهيج، قد زال عن وجه الأرض، وصار حطاما، وصارت الأرض خواء خلاء.. فمن أقام وجوده فى هذه الدنيا على أنها زرع لا يذبل، ولا يجفّ، ولا يتحول عن حاله، فهو مخطئ، ومن أقام وجوده فيها، على أنها جدب وقفر، فهو مخطئ كذلك.. وإنما هى زرع وحصاد، وخصب وجدب، وحياة وموت! .. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 777 وفى قوله تعالى: «كَمَثَلِ غَيْثٍ» - إشارة إلى أن الناس هم غيث هذه الأرض، وأنهم هم الذين يعمرونها، ويلبسونها حللا من العمران.. ولكن هذا العمران مهما امتد وعظم فهو إلى خراب، وزوال!. وقوله تعالى: «أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ» - الكفار، جمع كافر، والكافر يطلق على الزارع، لأنه يكفر البذر فى الأرض أي يغطيه، والكفر ستر الشيء، ووصف الليل بأنه كافر لأنه يخفى الأشياء بظلامه، وكفر النعمة، وكفرانها، سترها بترك أداه شكرها.. والكافر على إطلاقه: هو من يجحد الوحدانية، أو النبوة، أو الشريعة. والمعنى يمكن أن يكون على أن المراد بالكفار الزراع، كما يمكن أن يكون على أن المراد به الذين لا يؤمنون بالله، فهم الذين يعجبون بزهرة الحياة الدنيا، ويفتنون بها.. وقوله تعالى: «وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» .. هو تعقيب على تلك الأوصاف التي وصفت بها الدنيا، من أنها لعب ولهو، وذلك بعرض ما يقابلها، وهو الآخرة، التي لا لعب فيها ولا لهو، بل كل أمرها جدّ فى جدّ.. ففيها عذاب شديد، وفيها مغفرة من الله ورضوان.. وقدّم العذاب على المغفرة، لأن الآية فى مواجهة الذين خدعوا بالحياة الدنيا وأذهبوا طيباتهم فيها.. ولهذا جاءت فاصلة الآية مؤكدة لما بدئت به: «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» .. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 778 الآيات: (21- 24) [سورة الحديد (57) : الآيات 21 الى 24] سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) التفسير: قوله تعالى: «سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» .. بعد أن كشفت الآيات السابقة عن الوجه الصحيح للدنيا، وأنها لعب ولهو وزينة وتفاخر، وتكاثر فى الأموال والأولاد، وأنها فى حقيقتها أشبه بالزرع يبدو ناضرا جميلا معجبا، ثم لا يلبث أن يذبل ويصير حطاما- كان من تمام الحكمة أن يلفت الناس إلى الوجه الذي يتجهون إليه، إذا هم عرفوا من أمر الدنيا ما كشفت لهم عنه آيات الله- فكان قوله تعالى: «سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ» - الجزء: 14 ¦ الصفحة: 779 كان ذلك بيانا للاتجاه الصحيح الذي ينبغى أن يتجه إليه الناس، ويتنافسوا فى طلب المزيد منه، وهو العمل للدار الآخرة، وابتغاء مرضاة الله، والفوز بمغفرته، وبما أعد من نعيم فى جنات عرضها السموات والأرض، للذين يؤمنون بالله ورسله.. فقوله تعالى: «سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ» هو فى مقابل قوله سبحانه: «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ..» فمن كان يطلب التفاخر والتكاثر، فليكن ذلك فى مجال الاتجاه إلى الله سبحانه، وابتغاء مغفرته ورضوانه بالعمل الصالح الطيب، الذي يقوم فى ظل الإيمان بالله واتقاء محارمه، ففى هذا المجال يحمد التنافس والتسابق، وفى هذا الميدان يطيب الجمع، والاستكثار، حيث يدّخر ليوم عظيم «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً» (30: آل عمران) .. يقول السيد المسيح عليه السلام فى بعض عظاته: «لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض، حيث يفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون، بل اكنزوا لكم كنوزا فى السماء، حيث لا يفسد سوس ولا صدأ، وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون، لأنه حيث يكون كنزك هناك، يكون قلبك أيضا» .. وفى وصف الجنة بأنها عرض السموات والأرض، إشارة إلى سعتها التي لا حدود لها، والتي لا يزاحم فيها أحد أحدا، حيث يتبوأ أهلها حيث الجزء: 14 ¦ الصفحة: 780 يشاءون منها.. فما أوسع هذه الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض.. فكيف يكون طولها؟. وقوله تعالى: «أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ» - إشارة إلى أن هذه الجنة لا يدخلها إلا من كان مؤمنا بالله، وبرسل الله.. فالإيمان بالله ورسله، شرط أول لدخول هذه الجنة.. فمن كان مؤمنا بالله ورسله، فهو من أهل الجنة، وإن عذّب بالنار، جزاء ما ارتكب- مع الإيمان- من آثام، وما اقترف من ذنوب! .. وفى الأثر: «أنه لا يبقى فى النار من كان فى قلبه مثقال ذرة من إيمان» .. وفى جمع الرسل إشارة إلى أن الإيمان برسل الله جميعا هو الإيمان الحق، إذ كان الرسل جميعا على دين واحد.. هو الإسلام.. كما يقول سبحانه: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» وقوله تعالى: «ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» .. الإشارة هنا قد تكون الجنة، أي أن هذه الجنة، التي أعدها الله سبحانه للذين آمنوا بالله ورسله، هى من فضل الله عليهم.. وقد تكون الإشارة للإيمان بالله ورسله، فهو من فضل الله على المؤمنين، إذ هداهم للإيمان، وفتح قلوبهم وعقولهم له، وهذا ما يشير إليه سبحانه على لسان المؤمنين فى الجنة: «وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ» (43: الأعراف) . قوله تعالى: «ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 781 قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» . أي أنه ما حدث حدث فى الأرض، أو لإنسان من الناس، إلا كان ذلك أمرا مقدورا فى كتاب الله، من قبل أن يقع هذا الأمر، ويأخذه مكانه فى الأرض، أو فى حياة الناس.. وقوله تعالى: «نَبْرَأَها» أي نخرجها من عالم الخفاء إلى عالم الظهور.. ومن أسمائه سبحانه «البارئ» الذي برأ الوجود أي أوجده.. وفى التعبير عن وقائع الأمور وأحداثها بأنها «مصيبة» - إشارة إلى أن المكاره هى التي تلفت الناس أكثر من غيرها، وأنها هى التي تثير تساؤلاتهم، وتشغل أفكارهم.. أما مواقع النعم والإحسان فقلّ أن يلتفت الناس إليها، وإن التفتوا إليها أضافوها إلى أنفسهم، واعتبروها من كسب أيديهم وأن كثيرا منهم من يقول- بلسان الحال أو لسان المقال- قولة قارون: «إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي» (78: القصص) والمخاطبون بهذا، هم أولئك الذين دعوا إلى المبادرة إلى الإيمان، والسعى حثيثا إلى الله، وإلى ابتغاء مرضاته وهم عاكفون على متاع الحياة الدنيا، وشهواتها- فهؤلاء يقفون من الإيمان بالله، موقف فتور، وتخاذل.. ففى إيمانهم دخل، ومن هنا فإنهم يرون ما يقع بهم من مكروه، هو من المصائب التي تملأ نفوسهم سخطا، فلا يستسلمون لأمر الله، ولا يرضون بما حكم به فيهم.. فقوله تعالى: «ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها» - هو خطاب للناس عامة، وللمؤمنين بالله خاصة، ولهؤلاء الذين فى قلوبهم مرض على وجه أخص.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 782 قوله تعالى: «لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ» .. الأسى: الحزن على فائت، والأسف. أشد من الحزن. والتعليل هنا هو معلول لمحذوف، يفهم من سياق الآية السابقة، وتقديره أننا قد بينا لكم حقيقة ما يصيبكم، وأنه قدر مقدور عليكم فى كتاب- الله بيّنّا لكم هذا لكيلا تأسوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم، إذ كان ذلك كله، من عند الله، الذي يملك كل شىء.. وهو سبحانه المتصرف فى ملكه كيف يشاء، لا معقب لحكمه.. وإذ كان ذلك كذلك، فإن من شأن المؤمن بالله أن يرضى الرضا المطلق بكل ما يصيبه من محبوب أو مكروه.. فالإيمان، ولاء، ورضى، وتسليم، وإنه لا يجتمع إيمان واعتراض على حكم أحكم الحاكمين، رب العالمين.. وذلك هو عزاء المؤمن عند كل مصيبة، وروح نفسه عند كل كرب.. وهو لطف من لطف الله بعباده المؤمنين، الذين تخفّ عندهم المصائب، ويستساغ لديهم طعم المكاره. أما غير المؤمنين، أو من فى قلوبهم مرض من المؤمنين، فإن وقع المصائب عليهم أليم، ونزول المكاره بهم بلاء لا يحتمل.. وهذا من العقاب المعجّل فى الدنيا لمن لا يؤمنون بالله.. فإن أي مكروه يصيبهم فى الدنيا- وهيهات أن يسلم أحد من مكارهها- يقطع نفوسهم حسرة، ويملأ قلوبهم كمدا. هذا فى مقام المكروه، أما فى مقام المحبوب، فإن المؤمن إذا أصابه خير، ولبسته نعمة، لم يحمله ذلك على الزهو والاختيال، ولم ينظر إلى ما أصابه من الجزء: 14 ¦ الصفحة: 783 فضل- إلّا على أنه ابتلاء من الله، وأنه مطالب بحقّ الشكر على ما أنعم به عليه، كما يقول سبحانه على لسان سليمان عليه السلام: «هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ» (40: النمل) وأما غير المؤمن، أو المؤمن الذي فى قلبه مرض، فإن النعمة التي تقع ليده من عند الله، تفتح له طرقا إلى الاستعلاء والزهو، فيخيل إليه أن ذلك لمزيّة فيه، ولتفرده بصفات ليست لغيره، وأنه بهذا مالك أمر نفسه، قادر على أن يملك أكثر مما ملك، ويبلغ من الحياة والسلطان أكثر مما بلغ.. فلا يرضى بما أصاب، ولا يقنع بما حصّل، ولو ملك الدنيا جميعا.. وقوله تعالى: «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ» - إشارة إلى أن هذا الذي لا يضيف وجوده إلى الله، ولا يقف بالنعم التي يسوقها الله إليه فى محراب الحمد والولاء لله- هو فى معرض التعرض لسخط الله وغضبه، وحسبه بهذا شقاء وبلاء. قوله تعالى: «الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» . هو بدل من قوله تعالى: «وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ» . فإن من شأن المختال المعجب بنفسه، الفخور بما فى يده، أن يضن بماله الذي لا يرى لأحد فيه حقّا، لأنه- كما يعتقد باطلا- يرى أن ذلك من كسبه، ومن معطيات تدبيره وحوله، ثم إنه لا يقف عند هذا، بل سرعان ما يتحول إلى داعية من دعاة الإمساك عن الإنفاق فى سبيل الله، ليقوّى بذلك موقفه، ويدعم جبهته، فإن أهل الضلال إنما يأنسون بإخوانهم، ويتقوّون بالإكثار من أمثالهم، مثلهم فى هذا كمثل الشيطان إذ ضل وغوى، فكان دعوة للغواية والضلال. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 784 قوله تعالى: «وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» - أي ومن يعرض عن الاستجابة لدعوة الله، والإنفاق فى سبيل الله، فقد ظلم نفسه، وأوردها موارد السوء، وأغلق بيديه هذا الباب الذي فتحه الله له، ليدخل فى رحمته، وينزل منازل رضوانه.. أما الله سبحانه وتعالى، فهو الغنى الذي بيده خزائن السموات والأرض، وما دعوته سبحانه وتعالى، لعباده أن ينفقوا مما أعطاهم، إلا فضلا من فضله عليهم، وإحسانا من إحسانه إليهم إذ أفسح لهم المجال للإنفاق على الفقراء والمساكين، الذين لو شاء الله سبحانه لأغناهم، ولسدّ الطريق على المنفقين عليهم، ولحرمهم ثواب هذا العمل المبرور. وفى وصفه سبحانه بأنه «الحميد» بعد وصفه جل شأنه بأنه «الغنى» - فى هذا إشارة إلى أنه سبحانه هو المستحق للحمد وحده. على السراء والضراء، وعلى الغنى والفقر، وأنه سبحانه- هو الغنى الذي لا تنفد خزائنه- لم يفقر الفقراء ويحرم المحرومين إلا لحكمة وتقدير، وما كان من حكمة الله وتقديره فلا يستقبله المؤمن إلا بالحمد والرضا. الآيات: (25- 29) [سورة الحديد (57) : الآيات 25 الى 29] لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 785 التفسير: قوله تعالى: «لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» . البينات: المعجزات التي يضعها الله سبحانه فى يد رسله، لتقوم بين الناس شهادة على أنهم مبعوثون من عند الله، إلى عباده. والكتاب: هو ما ينزل الله سبحانه وتعالى على رسله من كتب، كالتوراة والزبور، والإنجيل، والقرآن.. وسمى ما أنزل على الرسل من كتب، بالكتاب، إشارة إلى أن جميع الكتب السماوية كتاب واحد، فى دعوتها إلى الحق، وإلى الخير. والميزان، هو شريعة الله التي يدعو إليها رسل الله، بكتاب الله الذي فى أيديهم. ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الله سبحانه: قد وصف ذاته بأنه «الحميد» المستحق للحمد على ما أنعم على عباده، ولما كان من أجلّ هذه النعم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 786 نعمة الهداية إليه، فقد ناسب أن تذكر هنا هذه النعمة الجليلة، نعمة إرسال الرسل، وما معهم من كتب الشرائع، وما فى أيديهم من معجزات، تشهد لهم بأنهم رسل الله، وأن دعوتهم التي يحملونها إلى الناس هى دعوة الله. وقوله تعالى: «لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» هو بيان الحكمة من إرسال الرسل، وما يحملون إلى الناس من آيات الله وكلماته، وما تحمل هذه الآيات والكلمات من أحكام وشرائع- فالحكمة من هذا، هى هداية الناس، وإقامتهم على طريق الحق والخير، لتطيب لهم الحياة، ولتقوم بينهم روابط الأخوّة والمحبة والتعاون على البر والتقوى. هذا هو المقصد الأول لما يبشر به الرسل فى الناس، من الدعوة إلى الله، وإلى دين الله.. ولكن دعوة الخير شىء، والمدعوون إليها شىء آخر.. إنها أشبه بريح محملة بالطيب، فتنتعش بها نفوس وتختنق بها نفوس.. أو هى أشبه بالشمس، تشرق فتكتحل بنورها كثير من الكائنات، ويحيا بحرارتها كثير من المخلوقات، على حين يعمى فى ضوئها كثير من العيون، ويموت تحت أشعتها كثير من الجراثيم، والهوامّ! وقوله تعالى: «وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ» . نظر أكثر المفسرين إلى «الحديد» هنا، على أنه إنما ذكر فى معرض التعداد لنعم الله على عباده، وأنه إذا كان بعث الرسل نعمة من أجلّ النعم، فإن الحديد كذلك نعمة من النعم العظيمة، التي يدفع به الناس عدوان بعضهم على بعض، كما يتخذون منه أدوات كثيرة غير أدوات الحرب والقتال. عند هذه النظرة وقف المفسرون.. ولم نر أحدا- فيما بين أيدينا من كتب التفاسير- قد جاوز هذه النظرة، وجعل للحديد شأنا غير هذا الشأن الذي له فى حياة الناس، كمعدن من المعادن التي بين أيديهم.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 787 وأول ما يلفت النظر من أمر الحديد هنا، هو أنه خصّ بالذكر من بين المعادن كلها، وهو ليس أكثرها فائدة، ولا أعظمها نفعا. ثم إنه مع الاختصاص بهذا الذكر من بين المعادن، قد ازداد شرفا وعظم قدرا بأن سميت سورة كريمة من سور القرآن الكريم به.. وإذا كان الأمر كذلك، فإنه لا بد أن يكون للحديد هنا شأن غير شأنه المعروف، بمعنى أن ذكره فى مواجهة ذكر بعثة الرسل، وما يحملون من آيات الله وكلماته، لا بد أن يكون مقصودا لأكثر من معنى غير المعنى المعروف له.. والذي وقع لمفهومنا من ذكر الحديد هنا- والله أعلم- هو أنه يشير إلى ما يحمل الرسل إلى الناس من وعد، ووعيد، ومن يد تمتد بالخير والنجاح، والسلامة لمن يستجيبون لهم، وينضوون تحت أجنحتهم، ويد تمتد بالبلاء، والهلاك لمن يلقونهم بالعناد، ويرجمونهم بالسفاهات والضلالات.. فمع كل رسالة كل رسول من رسل الله، بشريات ومهلكات، بشريات للمؤمنين، ومهلكات للمكذبين، وفى أعقاب كل دعوة من دعوات الرسل حصاد كثير، بعضه للصون والحفظ، وبعضه للضياع والانحلال.. فالناس قبل بعثة الرسول إليهم يتركون لما هم فيه، من خير وشر، ومن هدّى وضلال، فإذا جاءهم رسول من رسل الله، وبلغهم رسالة ربه، قامت عليهم الحجة، وأخذوا بما أنذروا به، كما يقول سبحانه: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (15: الإسراء) . فآيات الله التي ينزلها للناس على يد رسله هى أشبه بالحديد، فيه بأس شديد ومنافع للناس.. ولهذا أشير إلى الحديد هنا بقوله تعالى: و «أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ» فالحديد هنا هو البأس الذي ينزل مع آيات الله، وهو الزواجر التي تحلّ بالمكذبين الجزء: 14 ¦ الصفحة: 788 المحاربين لله ولرسله.. والحديد أيضا هو هذا الخير الكثير الذي تتلقاه النفوس المهيأة للإيمان من آيات الله وكلماته المنزلة على الرسل.. وهذا لا يمنع من أن تبقى للحديد صفته المادية التي يعرف بها، فيتخذ منه فيما يتخذ أدوات الحرب للجهاد فى سبيل الله، وأنه كما يجاهد الرسل والمؤمنون معهم، أعداء الله بألسنتهم، فإنهم يجاهدون بأيديهم، ويدفعون بغيهم وعدوانهم بسيوفهم. وقدّم ما فى الحديد من بأس شديد على ما فيه من منافع، لأن أكثر ما تنجلى عنه دعوة رسل الله، هو هلاك الأكثرين، ونجاة القليلين. كما يقول سبحانه عن دعوة نوح عليه السلام: «وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ» (40: هود) وكما يقول سبحانه مخاطبا النبي الكريم. «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» (103: يوسف) . قوله تعالى: «وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ» - هو معطوف على قوله تعالى «لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» .. فهو تعليل آخر يكشف عن وجه ثان من وجوه الحكمة فى بعثة الرسل، وما يضع الله سبحانه وتعالى فى أيديهم من معجزات، وما ينزل عليهم من آياته وكلماته.. والحكمة الأولى من بعثة الرسل هى هداية الناس، وإقامتهم على طريق الحق والعدل.. والحكمة الثانية، هى أن تنكشف بدعوة الرسل أحوال الناس، وما يكونون عليه من إيمان وكفر.. فيحاسب كل بما انكشف منه، وإنه لا حساب ولا جزاء إلا عن ابتلاء واختيار.. فقوله تعالى «وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ، بِالْغَيْبِ» - بيان لما ينكشف عنه أمر الناس من دعوة رسل الله إليهم، فعلى ضوء هذه الدعوة يعرف من هم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 789 أعداء الله، ومن هم أولياؤه، ومن يحارب دعوة الله، ومن ينتصر لها، ويدافع عنها. وفى اختصاص الذين يؤمنون بالله، وينصرون دعوته، ويؤازرون رسله- فى اختصاص هؤلاء بالذكر- إشارة إلى أنهم هم أصحاب هذه الدعوة، وأنها فى حقيقتها إنما جاءت لتقودهم إلى الله، وقد انقادوا فعلا.. أما أولئك الذين كذبوا بآيات الله، وأبوا أن يستجيبوا لدعوته، فإنهم إنما كانوا شيئا عارضا فى طريق الدعوة الموجهة إلى من هم أهل لإجابتها، وإن كانت قد وجهت إليهم الدعوة ضمنا.. إن ذلك أشبه بمن يبذر بذرا، ثم يسوق إليه الماء، فإذا ظهر الزرع على وجه الأرض، ظهرت معه بعض الحشائش الضارة، التي لا يجد الزارع بدّا من اقتلاعها حتى يسلم ما زرع..! وعلم الله سبحانه علم قديم أزلىّ، وهو غيب عن الناس، فإذا وقع من هذا العلم شىء فى الحياة وعلمه الناس، كان علما للناس، وهو فى الوقت نفسه من علم الله، وعلم الله تعالى حينئذ، علم لما وقع، وهو فى علم الله قبل أن يقع.. فعلم الله سبحانه واقع على الأمور فى كل حال من أحوالها، وفى كل زمان من أزمانها. وقوله تعالى «بالغيب» متعلق بالفعل فى قوله تعالى: «مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ» أي وليعلم الله من ينصره ورسله فى غير مشهد من الناس، أي عن إيمان قد استقر فى القلب، واستولى على المشاعر.. وخص النصر لله ولرسله بالذكر فى تلك الحال- حال الغيب- لأنه هو النصر الذي يصدر عن صدق، وعن يقين، وهو النصر الذي لا ينقطع أبدا فى سر أو جهر، وفى قول أو عمل.. أما النصر الذي يكون بمشهد من الناس فقد يكون الجزء: 14 ¦ الصفحة: 790 عن إيمان، وقد يكون عن نفاق، ورياء، ومصادفة.. ولهذا فإن المعوّل عليه، هو ما فى القلوب من إيمان، وما انعقدت عليه النيات من إخلاص.. فإذا صدقت القلوب وأخلصت النيات، صحت الأعمال، ووقعت موقع الرضا والقبول عند الله. وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» - إشارة إلى أن نصر المؤمنين لله، ولرسل الله، ليس لحاجة الله سبحانه إلى من ينصره وينصر رسله، فهو سبحانه القوى الذي لا يملك معه أحد قوة، وهو العزيز الذي يملك العزة جميعا، فلا يدخل على عزته- جل شأنه- ضيم أو جور، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.. وأن ما يطلبه سبحانه من المؤمنين من نصره ونصر رسله، هو فضل من فضل الله على المؤمنين، إذ ندبهم لأمر هو فى غنى عنه، وذلك لينالوا أجرا، وليكسبوا خيرا.. وهذا مثل قوله تعالى فى دعوته إلى الإنفاق فى سبيل الله، وفى التعقيب على هذا بقوله: «وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» . قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» . هو معطوف على قوله تعالى: «لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ» .. وهو تفصيل لهذا الإجمال.. فمن أرسل الله من رسل بالبينات، نوح وإبراهيم عليهما السلام.. وخصّا بالذكر لأنهما الأبوان لجميع أنبياء الله، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى «وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ» . وقوله تعالى: «فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» أي أن من ذرية هدين النبيين الكريمين الأنبياء والمؤمنين، كما أن من ذريتهما الأشقياء والفاسقين، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 791 وأن القليل من هذه الذرية من اهتدى وآمن، وكثير منهم من ضل وكفر. وفى إفراد المهتدين وجمع الفاسقين- إشارة إلى أن أهل الهداية ذوات لها شخصية متميزة، يوزن للواحد منهم بميزان الذهب، ويحسب بحساب الجواهر الكريمة، جوهرة.. جوهرة أما أهل الضلال، فهم غثاء كغثاء السيل، يحسبون حساب الحطب، ويعدّون عدّ الحصا.. [المسيحية رأفة ورحمة.. ثم ماذا؟] أمريكا والمسيح قوله تعالى: «ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» . قفّينا: أي أتبعنا، وعقّبنا، والتقفيه للشىء إتباعه لغيره، ومجيئه على أثر ما قبله، كأنه يقفوه، ويتبع أثره.. والأنبياء والرسل هم على هذا الأسلوب، اللاحق منهم يقفو أثر السابق، ويسير على طريقه، إذ كانوا جميعا على طريق الله، يحملون مشعل الهدى، فيتسلمه اللاحق من السابق.. والرهبانية: ضرب من العبادة والتبتل، قائم على الرهبة والخشوع لله، والخشية لجلاله.. قوله تعالى: «وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً» أي بما حملت الجزء: 14 ¦ الصفحة: 792 رسالة السيد المسيح من دعوة كريمة إلى الإخاء والبر والتسامح، فمن آمن بالمسيح واتبعه وأخذ بتعاليمه كان على تلك الصفات من الرأفة والرحمة. وقوله تعالى: «وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها» أي وجعلوا هم رهبانية ابتدعوها.. وفى وصف الرهبانية بأنها مبتدعة، إشارة إلى أنها مما فرضه أتباع المسيح على أنفسهم، وألزموها إياها، وأنها لم تكن مما فرضه الله عليهم.. فهم الذين ابتدعوا هذه الرهبنة تقربا إلى الله بالزهد فى متاع الحياة الدنيا، والاستخفاف بمطالب النفس، من هذا المتاع الزائل.. وقوله تعالى: «ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ» هو وصف آخر لهذه الرهبانية، وأنها لم تكن مما كتب الله على أتباع المسيح، وما شرع لهم من شريعة.. وقوله تعالى: «إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ» .. إلا هنا ملغاة، بمعنى لكن أي ولكن ابتدعوها هم ابتغاء رضوان الله، وطلبا لمزيد من الثواب عنده. ويجوز أن تكون «إلا» استثناء عاملا، بمعنى أننا «ما كتبناها عليهم» أي ما قبلناها منهم، وما رضيناها لهم، بعد أن جعلوها قربة لله، ونذرا ألزموا أنفسهم به، إلا لتكون خالصة لوجه الله، قائمة على طريق العدل والإحسان.. فهذا هو الوصف الذي يقبلها الله عليه منهم، فإن هم أقاموها على هذا الوجه كانت عملا مبرورا، يقبله الله منهم، ويجزيهم عليه أحسن الجزاء.. وقوله تعالى: «فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها» - أي فما رعى القوم هذه القربة حق رعايتها، وما أقاموها على وجهها المرضى منها.. وذلك فى الأعم الأغلب منهم، وإن كان بعضهم قد وفّاها حقها، ورعاها حق رعايتها، كما يشير إلى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 793 ذلك قوله تعالى: «فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ» .. أي فآتينا الذين رعوا هذه الرهبانية حق رعايتها- آتيناهم أجرهم كاملا، وهم قليل.. أما أكثرهم فقد خرج عن هذا الطريق القويم، ولم يرع حق هذا العمل المبرور، الذي كانت غايتهم بإلزام أنفسهم إياه، ابتغاء فضل الله، وطلب المزيد من إحسانه.. وهذا يشير إلى أن الرهبانية أكثر من أن تحتملها النفوس البشرية، ولهذا فإنها لم تكن من شريعة الله، فلما شرعها الناس لأنفسهم، وعقدوا مع الله تعالى عهدا على مراسم خاصة بها- لم يطيقوا الوفاء بهذه المراسم، مع اتخاذهم الرهبنة زيّا.. فكان ذلك نقضا لعهد الله، وخيانة للأمانة التي ألزموا أنفسهم إياها، رياء وخداعا للناس. والمعنى، أن الله سبحانه قفىّ أي أرسل، وبعث، بعد هذين النبيين الكريمين- نوح وإبراهيم- برسل كثيرين، ثم أرسل بعد هؤلاء الرسل عيسى ابن مريم، وآتاه الإنجيل، وجعل فى قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة، إذ كانت دعوته عليه السلام، قائمة على الموادعة والمحبة والسلام. فالرأفة والرحمة التي جعلها الله سبحانه فى قلوب المستجيبين لدعوة السيد المسيح، إنما هى أثر من آثار هذه الدعوة التي أرسله الله سبحانه وتعالى بها، فمن لم تسكن قلبه الرأفة والرحمة، فليس من أتباع المسيح فى شىء.. إنها دعوة أرادها الله سبحانه وتعالى ليكون من أتباعها جنود فداء وتضحية فى مقام البذل والعطاء من ذات أنفسهم لهذا المجتمع الإنسانى الذي تغلى فيه مراجل الأنانية والأثرة، ويتقاتل فيه الناس بالمخالب والأنياب، كما تتقاتل الحيوانات المفترسة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 794 فى الغابات.. إنها دعوة لا تحتملها إلا نفوس كبيرة تستطيع أن تجد هذه المعاني النبيلة مكانا فيها.. وإذن فليس كل من آمن بالمسيح أهلا للوفاء برسالته، وإلّا لكان أتباع المسيح الذين يعدون اليوم بمئات الملايين فى الشرق والغرب- لكانوا رسل سلام، ودعاة مودة ورحمة، ولاعتدل بهم ميزان الإنسانية المضطرب، ولسكنت دواعى الشقاق والخصام، ولخمدت نيران الحروب المشبوبة فى كل ركن من أركان الدنيا، والتي هى فى حقيقتها من صنع هؤلاء الأتباع الذين ينسبون إلى المسيح، والذين لا تكف أيديهم أبدا عن العدوان على الناس، وعلى البغي والتسلط.. وحسبنا شاهدا على هذا هذا الاستعمار الغربي الذي تسلط على الناس، واستبد بالشعوب فى كل صقع من أصقاع العالم.. فأتباع المسيح، أو من ينتسبون بغير حق إليه، هم الذين استعمروا الأمم، وأذلّوا الشعوب، وامتصّوا دماء الإنسانية، فى الماضي وفى الحاضر، وإن فى أمريكا لمثلا صارخا لأبشع صورة من صور الإنسانية، حين ينزع الإنسان عنه كل مشاعر المودة والإخاء، ويلبس جلد الأفعى، فينفث سمومه فى كل من مرّ به، لا لسبب إلا إرضاء لغريزة التسلط والبغي والعدوان.. ويشهد العالم فى هذه الأيام تلك الحرب الوحشية التي يشنها الأمريكان على شعب فيتنام الفقير الأعزل، الذي يلقى بإيمانه القذائف المدمرة التي تهلك الحرث والنسل.. ومن قبل هذا العدوان الآثم على شعب فيتنام، قام الأمريكان بأبشع جريمة عرفت فى تاريخ البشرية، حين ولد على أيديهم أشأم مولود فى الوجود، هو القنبلة الذرية، فألقوا بقنبلتين كل منهما كحجم بيض الحمام، على مدينتين من مدن اليابان، هما «هورشيما» و «نجازاكى» .. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 795 وفى ثوان معدودة تحولت المدينتان اللتان كانتا زاخرتين بالحياة والحركة، إلى كومتين من رماد.. وبهذه الفعلة الآثمة فتحت أمريكا المنتسبة إلى المسيح باب شر لا ينسدّ أبدا حتى إذا كان صباح يوم أو مساؤه، انفلتت هذه القنابل من مرابطها، وإذا وجه الأرض قد انقلب لظهرها، وإذا كل حىّ فيها قد تحول إلى فحم أو رماد.. وهذا كله مما تصدّر أمريكا- التي تنتسب كذبا وزورا إلى المسيح- من شرور ومهلكات.. ولأمريكا هذه دور نذل خسيس مع الأمة العربية الإسلامية.. إنها تبيع دينها، وشرفها لليهود، وعلى مائدة من موائد القمار، فتغريهم بالأمة العربية، وتمدهم بالسلاح والعتاد، وتعمل على ترسيخ أقدامهم فى الأرض المقدسة، التي دنسوها بآثامهم، وخضبوا أرضها بدم الحواريين من أتباع المسيح، بل وبدم المسيح نفسه كما يعتقد الأمريكان، أتباع المسيح، بأن المسيح قتل بيد اليهود!. إن أتباع السيد المسيح عليه السلام، لهم سمات معروفة تتمثل فيها المثل الإنسانية الكريمة فى أرفع منازلها، وأكرم وجوهها.. فمن كان على تلك الصفة فهو المسيحي حقا، الذي يباركه المسيح حواريّا من حوارييه، وتلميذا من تلاميذه، أيا كان لونه، وجنسه ومذهبه.. فالمسيح عليه السلام دعوة خير، ورحمة، ومحبة، وسلام.. وأتباع المسيح دعاة خير، ورحمة، ومحبة، وسلام.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 796 وللمسيح- عليه السلام- قولته المشهورة: «من ثمارهم تعرفونهم» وتلك القولة الكريمة، هى الميزان الذي يوزن به أتباعه.. وإنه بقدر ما يحمل المسيحي من ثمار هذه الدعوة المباركة يكون قربه أو بعده من المسيح، ومن رسالة المسيح.. وقد جاء القرآن الكريم كاشفا عن حقيقة رسالة السيد المسيح، وعن آثارها فيمن يتقيمون، فيقول الله تعالى: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ..» (82، 83: المائدة) فعن هذه الرحمة والرأفة التي أثمرتها دعوة المسيح فى أتباع المسيح المؤمنين حقّا- كان هذا الدمع الذي يفيض من تلك القلوب الرقيقة التي تذوب حنانا، ورحمة، كلما استقبلت نسمة من أنسام الحق، وكلما طاف بها طائف من آياته.. فكيف إذن يكون للأمريكان وأمثالهم ممن ينتحلون نسبتهم إلى المسيح- كيف يكون لهم وجه يلقون المسيح به، وقد قبلوا من رفضهم المسيح، واحتضنوا من ألبسهم ثوب اللعنة إلى يوم الدين..؟ ثم كيف يكون للأمريكان وأمثالهم ممن ينتسبون إلى المسيح كذبا- كيف يكون لهم يد تصافح يد المسيح، وقد صافحوا بأيديهم تلك الأيدى الملطخة بدم حواربى المسيح وتلاميذه، بل وبدم المسيح نفسه، كما يعتقدون عن يقين أن اليهود قد صلبوه، وعلقوا دمه عليهم وعلى أبنائهم إلى يوم الدين؟ لقد كان «بيلاطس» الرومانى الوثني أبرّ بالمسيح وأعرف لقدره من الجزء: 14 ¦ الصفحة: 797 هؤلاء الأتباع من الأمريكان وأمثالهم، الذين يطلقون البخور اليهود، فى كل مكان، ويعطونهم من ذات أنفسهم الولاء والخضوع بغير حساب، وكأنهم بهذا إنما يباركون ما صنعوا بالمسيح، ويزكّون مواقفهم اللئيمة معه، ومع حوارييه وأتباعه، على حين لم يغفر الحاكم الرومانى ولا الحكام الرومانيون الذين جاءوا بعده- لهؤلاء الآثمين القتلة جنايتهم على المسيح وأتباعه، بل لقد ظلت فى قلوب الرومان الذين قاموا على حكم اليهود، بغضة ونقمة، إلى أن ضربوا اليهود تلك الضربات المتتالية المهلكة التي لوت أعناقهم، وأضرعت للأرض خدودهم.. إن «بيلاطس» الحاكم الرومانى الوثني، لم يستبح دم المسيح، ولم يقبل من اليهود الذين حاكموا المسيح إليه، أن يأخذه بالتهم الكاذبة الملفقة التي قدموه للمحاكمة بها، وطلبوا صلبه من أجلها، بل إن الرجل رأى بين يديه إنسانا بريثا تنبحه الكلاب، وتتعاوى حوله الذئاب، لتأكل لحمه وتلغ فى دمه، فأبى عليه ضميره أن يشارك فى هذا الفعل الآثم، وأن يلصّخ يده بهذا الدم البريء.. وأنه حين أعيته الحيل مع هذه الذئاب العاوية التي لا ترضى بغير دم هذا الإنسان، أو تثيرها فتنة، تصل إلى مسامع قيصر، فلا يأمن الحاكم الرومانى أن يكون هو الضحية- حين وصل الحاكم الرومانى إلى هذا الموقف، دعا بإناء، مملوء ماء، وغسل فيه يديه على أعين اليهود، ثم ألقى إليهم بقولته الخالدة: «إنى برىء من دم هذا البار.. فشأنكم أنتم معه» فتعاووا جميعا: «بل دمه علينا وعلى أبنائنا.. إلى يوم الدين!» هذا هو «بيلاطس» الوثني، وموقفه من قتلة المسيح، الذين لم يشف الجزء: 14 ¦ الصفحة: 798 ما بهم منه، حتى وقع فى يقينهم أنهم قتلوه، وصلبوه!! أما الأمريكان، وأما كثير غيرهم ممن ينتسبون إلى المسيح، فإنهم يضعون أيديهم فى أيدى قاتلى المسيح وصالبيه، ويزودونهم بأسلحة الهلاك والدمار، ليقتلوا بها كل معنى من معانى الرحمة، والحب، والمودة، التي بشّر بها المسيح.. وليصلبوا المسيح ويقتلوه كل يوم عشرات المرات ومئاتها، فيمن يقتلون ويصلبون، من أبرياء أبرار، من أطفال وشيوخ ونساء.. فى براءة المسيح وبره، على أرض مشت عليها أقدام المسيح، وأشرقت فيها أنوار حكمته، ورحمته.. فيا لثارات المسيح، من أتباع المسيح..!! ونحن هنا لا ترجم بالغيب إذا قلنا إن الأمريكان وقد خلطوا أنفسهم باليهود، ودخلوا معهم فى هذا الحلف الشيطاني الذي يقوده اليهود لهدم معالم الإنسانية، وإشاعة الخراب والفساد فى كل أفق من آفاق العالم- لا ترجم بالغيب إذا قلنا إن الأمريكان- وهذا موقفهم اليوم- سيلقون نفس المصير الذي لقيه اليهود فى هذه الحياة، وسيأخذون نصيبهم من تلك اللعنة التي أنزلها المسيح عليهم، وألبسهم بها ثوب المذلة والمهانة والخزي إلى يوم القيامة! فلينتظر الأمريكان قريبا هذا المصير المشئوم، الذي لن يعصمهم منه ما بين أيديهم من قوى الشر والبغي، فإن هذه القوى نفسها هى التي سترتد إليهم، وتأتى على كل ما جمعوا وما استكثروا من مال وعتاد، والله سبحانه وتعالى يقول: «حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ» .. (24: يونس) .. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 799 قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .. الكفل. النصيب، والجزاء المقدور لما يأتى الإنسان من قول أو عمل.. وكفالة الشيء، رعايته، والقوامة عليه، سواء أكان شخصا، أو قولا، أو عملا، ومنه قوله تعالى: «وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا» (37: آل عمران) .. والخطاب هنا للمؤمنين من أهل الكتاب، الذين ذكرهم الله سبحانه فى الآية السابقة بقوله: «فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ» . وهذا الخطاب، هو دعوة لهؤلاء المؤمنين من أهل الكتاب الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما السلام.. أما الذين آمنوا بموسى، ولم يؤمنوا بعيسى فهم غير مؤمنين، وكذلك من آمنوا بعيسى ولم يؤمنوا بموسى، فهم غير مؤمنين أيضا، إذ كانت دعوة عيسى عليه السلام مكملة لدعوة موسى. كما يقول المسيح: «ما جئت لأنقض الناموس بل لأكمل» .. والدعوة الموجهة للمؤمنين من أهل الكتاب هنا، هى دعوة إلى أن يتقوا الله، فى أنفسهم، وفى دينهم، وألا يهلكوا أنفسهم، ويفسدوا إيمانهم.. وأنهم إذا ألزموا أنفسهم التقوى كان عليهم أن يؤمنوا برسول الله وهو محمد صلوات الله وسلامه عليه.. فإن ما يدعوهم إليه، هو الإيمان الذي يؤمنون به، إن كانوا مؤمنين حقّا. ولهذا ناداهم الله سبحانه بقوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» .. فمن كان مؤمنا حقا من أهل الكتاب، فإنه لا يجد فى الإيمان برسول الله، محمد- صلوات الله وسلامه عليه- إلا دعوة مجددة للإيمان الذي تحمله دعوة موسى وعيسى، عليهما السلام.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 800 وقوله تعالى: «يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ» هو جواب وجزاء للاستجابة لهذا الطلب الذي طلب إليهم فى قوله تعالى: «اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ» - أي إنكم إن اتقيتم الله وآمنتم برسوله يؤتكم الله كفلين من رحمته، أي جزاء مضاعفا من رحمته.. جزاء على إيمانكم الصادق بموسى وعيسى- عليهما السلام- وجزاء على إيمانكم بمحمد عليه الصلاة والسلام.. وقوله تعالى: «وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ» معطوف على قوله تعالى: «يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ» أي إن اتقيتم الله وآمنتم برسوله، آتاكم الله أجرا مضاعفا، وجعل لكم مع هذا الأجر المضاعف نورا تمشون به يوم القيامة.. وفى قوله تعالى: «وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ» - إشارة إلى أن هذا النور، هو خاص بالذين يؤمنون بمحمد- صلوات الله وسلامه عليه- وأن هذا النور لا يتحقق لأهل الكتاب إلا إذا آمنوا بمحمد.. وهذا النور الذي يجعله الله سبحانه لمن يؤمنون برسول الله من مؤمنى أهل الكتاب، هو نور فى الدنيا، يكشفون به معالم الطريق إلى الحق، كما يقول سبحانه: «يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ، وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (15، 16 المائدة) . ثم هو نور فى الآخرة، يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، كما يقول سبحانه: «يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ» (12: الحديد) . وقوله تعالى: «وَيَغْفِرْ لَكُمْ» معطوف على جواب الطلب، وبهذا يتحقق لمن يؤمن برسول الله من مؤمنى أهل الكتاب ثلاثة أمور: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 801 أولها: مضاعفة الجزاء لهم، وإيتاؤهم أجرهم مرتين، لأنهم آمنوا مرتين، مرة قبل مبعث محمد، ومرة بعد مبعثه.. وثانيها: أن يجعل الله لهم بهذا الإيمان نورا يمشون به فى الدنيا والآخرة وثالثها: أن يغفر الله لهم ما وقع منهم من أخطاء، أو آثام، قبل إيمانهم بمحمد صلوات الله وسلامه عليه- شأنهم فى هذا شأن الجاهليين الذين دخلوا فى الإسلام. قوله تعالى: «لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» . (الحروف التي يقال إنها زائد.. ما تأويلها؟) يكاد المفسرون يجمعون على أن «لا» فى قوله تعالى: «لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ» - زائدة، وأن المعنى إنما يستقيم بحذفها.. وقد سوّغ عندهم القول بهذه الزيادة، واحتمال وجودها فى القرآن الكريم، ما وجدوه من بعض الشواهد لهذا فى اللغة العربية.. وهذه الشواهد، إن صح أصلها، فإنها لا تقوم حجة على القرآن الكريم، ولا ينبغى أن يؤخذ كلام الله سبحانه وتعالى بمعيارها.. فالزيادة، لغير غرض بلاغي، هى حشو، يدعو إليه الاضطرار، الذي لا يكون إلا عن عجز متحكم، لا يستطيع المرء مجاوزته، والاستعلاء عليه.. وتعالى الله سبحانه، وتعالت كلماته عن هذا علوّا كبيرا. ونحن مع «لا» هذه بين أمرين لا ثالث لهما: فإما أن تكون من كلام الله سبحانه.. وإذن فلا بد أن تكون من بنية الجزء: 14 ¦ الصفحة: 802 هذا الكلام، لا يستقيم المعنى إلا بها، وأن عدم اعتبارها، عدوان على المعنى، وإفساد له.. وإما أن تكون دخيلة على كلام الله، لا يستقيم المعنى إلا بحذفها، وتجريد بنية الكلمة منها.. وهذا الفرض الثاني غير وارد أبدا فى هذا المقام، مقام الحديث عن كتاب الله، وآياته، وكلماته.. فقد تولى الله سبحانه وتعالى حفظ كتابه الكريم، من أي تحريف، أو تبديل فى كلمة من كلماته، أو حرف من حروفه. كما يقول سبحانه: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» (9: الحجر) . وإذن فنحن على يقين لا شك معه، ولا ريب فيه، بأن «لا» هذه من بنية الكلمة، شأنها فى هذا شأن بقية حروف الكلمة «لئلا» ذات المقاطع الثلاثة: اللام (لام التعليل) و «أن» (المصدرية) و «لا» النافية. هذا ما ينبغى أن يقوم عليه إيماننا مع تلك الكلمة، ومع جميع كلمات الله، سواء انكشف لنا وجه الحق فى هذه الكلمة أو لم ينكشف، وسواء وقعت من مدركاننا موقع المحكم أو المتشابه من آيات الله. كما يقول سبحانه: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ» (7: آل عمران) «1» . ولو وقفنا عند هذا الحد من الآية الكريمة، وقلنا إنها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم- لو وقفنا عند هذا، لكان أولى وأحمد من القول بزيادة حرف من حروفها. حتى نطوّعها بهذا القول لمفهومنا، وإدراكنا..   (1) انظر تفسيرنا لهذه الآية (7: آل عمران) فى الكتاب الثاني من التفسير القرآنى للقرآن ص 39. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 803 ومع هذا، فإن الآية الكريمة ليست من المتشابه، بل هى من المحكم الذي يمكن أن يكون لنا نظر فيه، وفهم له، وإن كنا لا ندّعى أننا من الراسخين فى العلم. ونقرأ الآية الكريمة «لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» . وإنه لكى يقوم لنا فهم صحيح للآية الكريمة، ينبغى أن نصلها بما قبلها من آيات الله، وأن يكون نظرنا إليها قائما على مراعاة هذا الجوار المرعىّ بين آيات الله وكلماته، وإلا كان هذا قطعا منّا لما أمر الله به أن يوصل. والآية التي تسبق هذه الآية وتجاورها، هى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .. وهذه الآية- كما أشرنا إلى ذلك من قبل- هى دعوة إلى المؤمنين من أهل الكتاب أن يؤمنوا برسول الله، وأنّ إيمانهم هذا هو الذي سيلحقهم بالمؤمنين، وينزلهم منازلهم، ويجعل لهم النور الذي جعله الله للمؤمنين يوم القيامة، وقد فتح الله سبحانه هذا المدخل الذي يدخل منه أهل الكتاب إلى هذا المنزل الكريم، لئلّا يعلموا أنهم لا يقدرون على شىء من فضل الله، ولئلا يقع فى تصورهم أنهم محجوبون عن هذا الفضل، لا يستطيون بلوغه بحال أبدا، إذ كان- كما خيّل إليهم- أنه فضل خاص بالعرب وحدهم.. وكلّا فإنه فضل الله، يناله كل مستجيب لله، مؤمن برسول الله.. وألا فليعلم أهل الكتاب أنهم قادرون على أن ينالوا هذا الفضل، إذا هم دخلوا فيما دخل فيه العرب.. فإن الفضل بيد الله وحده، لا بيد العرب، ولا بيد نبىّ العرب، بل هو بيد الله وحده يؤتيه الله من يشاء، والله ذو الفضل العظيم الذي يسع فضله الناس جميعا، دون أن ينقص منه شىء!. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 804 فمعنى القدرة فى الآية الكريمة ليس معناه القدرة المتحكمة، المتمكنة، وإنما معناه الاستطاعة التي تمكن صاحبها من بلوغ ما بلغه غيره من الناس، فى السبق إلى منازل الفضل والإحسان. ومعنى القدرة على فضل الله، إمكان التعرّض له، والنيل منه، على حسب ما يعمل الإنسان، فى سبيل مرضاة ربه، وابتغاء رضوانه. وفى اقتصار فضل الله على شىء منه فى قوله تعالى «أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ» - فى الاقتصار على هذا ليس من باب التحدي بالقدرة على هذا الشيء من الفضل، فضلا عن الفضل كله، وإنما هو إشارة إلى أن هذا الشيء من فضل الله، هو من الكثرة بحيث يسع الوجود كله، وأنه إذ أخذ العرب من هذا الشيء ما أخذوا، فإن ما أخذوه ليس إلا قطرة من بحر يمدّه من بعده سبعة أبحر.. والآية الكريمة إنما تخاطب بهذا أهل الكتاب، الذين غلب على تفكيرهم- وخاصة اليهود منهم- أنهم شعب الله المختار، وأن الله سبحانه إذا اختار شعبا- كما يزعمون- فإن فضله كلّه يتجه إلى هذا الشعب، فلا تكون منه بعد هذا بقية ينالها أحد! وهذا من سوء ظنهم بالله، وتصورهم القاصر المحدود، لجلاله وعظمته، وكماله.. ولهذا كان الحديث إليهم عن شىء من فضل الله، وأن هذا الشيء من فضل الله، يسع الوجود كله.. وإذن فلا يحجبهم عن الإيمان برسول الله هذا الشعور الخاطئ الذين يعيشون به، والذي يحيّل إليهم منه أن العرب إذ سبقوا إلى فضل الله، فلن يكون لأحد من بعدهم نصيب فى هذا الفضل.. ورتّل بعد هذا الآيتين الكريمتين معا: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 805 «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» . رتلهما، وأقم فهمك للآيتين على أنهما فى مواجهة أهل الكتاب، وفى دعوتهم إلى الإيمان برسول الله، وبالدّين الذي جاء به، وعلى أن ذكر أهل الكتاب فى الآية الثانية هو إشارة إلى أن المدعوّين إلى الإيمان برسول الله فى الآية الأولى، هم أهل الكتاب هؤلاء، سواء فى هذا من استجاب منهم للدعوة، أو من أبى أن يستجيب لها.. وإنك إذ تفعل هذا ستجد أن المعنى يقضى بأن تكون «لا» هنا مطلوبة لتكون أداة نفى، لا أن تكون حرفا زائدا معطّلا عن أداء وظيفته فى بنية الكلمة.. هذا، والله أعلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 806 58 سورة المجادلة نزولها: مدنيّة باتفاق. عدد آياتها: اثنتان وعشرون آية.. عدد كلماتها: أربعمائة وثلاث وسبعون كلمة. عدد حروفها: ألف وسبعمائة واثنان وتسعون حرفا. مناسبتها لما قبلها ختمت سورة الحديد بقوله تعالى: «وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» . وبدأت سورة المجادلة بعدها بقوله تعالى: «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ» ... الآيات. وفى هذا البدء فضل من هذا الفضل العظيم الذي بيد الله، إذ قد سمع قول هذه المرأة، التي تشتكى إليه فى مجادلتها مع النبىّ فى هذا الظّهار الذي أوقعه زوجها عليها، والذي من شأنه أنه لو مضى إلى غايته لبدّد شملها، وأفسد عليها حياتها، وأخرجها من هذا العشّ الذي يضمها ويضم صغارها. استجاب الله سبحانه وتعالى لشكاة هذه المرأة، وسفّه زوجها الذي أتى هذا الأمر المنكر معها، وأمسك بالمرأة وصغارها فى هذا العش الذي كانوا مهددين بالطرد منه. كما سنرى ذلك فى تفسير هذه الآيات. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 807 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الآيات: (1- 6) [سورة المجادلة (58) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) التفسير: قوله تعالى: «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ» . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 808 هكذا تبدأ السورة الكريمة، بهذه اللفتة الكريمة، من رب كريم، إلى امرأة من عامة النساء، لا يكاد يلتفت إليها أحد من قومها، بل لا يكاد يكون لها مكان ظاهر بين جيرانها الفقراء المغمورين من نساء ورجال.. فلقد سمع الله سبحانه قول هذه المرأة، التي جاءت تعرض على النبي شأنا من شئونها مع زوجها، وتشتكى إلى الله بين يدى النبي الكريم ماورد عليها من زوجها من أذى.. والنبي لا يجد سبيلا لإزالة ما تشكو منه. والإخبار بسماع الله سبحانه وتعالى لشكاة هذه المرأة ليس مرادا به مجرّد العلم بمضمونه، فالله سبحانه وتعالى يسمع كل ما تنطق به الألسنة، وما تهمس به الخواطر، وما توسوس به النفوس. بل المراد بهذا الخبر- والله أعلم- هو التنويه بشأن هذه المرأة، وردّ اعتبارها إليها عند نفسها كإنسان كرّمه الله، وبعث إليه رسله بآياته وكلماته، وذلك بعد أن وجدت وجودها يكاد يضيع بيد زوجها الذي استخفّ بها، وعرّضها لهذا الضياع، ثم لم تجد عند رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- الحماية الكافية لردّ هذه اليد الباغية عليها، إذ لم يكن بين يدى الرسول الكريم حكم من الله، فى شأن الظّهار والآية الكريمة، والآيات التي بعدها تشير إلى حدث وقع بين امرأة بعينها وزوج بعينه، وإن كان لم يذكر لهما اسم.. لأن ذكر الاسم هنا لا ضرورة له، إذ كان هذا الحدث وإن تعلق بهذين الزوجين، ينسحب إلى كل زوجين، وإلى المبادي التي تحكم الصلة بين الزوج ولزوجة، أو الرجل والمرأة. ومع هذا فقد احتفظ تاريخ النزول القرآنى باسم كل من المرأة والرجل، كما احتفظ القرآن الكريم بالحدث الذي وقع بينهما. يقول المفسرون: نزلت هذه الآيات فى امرأة من الأنصار، من الخزرج، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 809 واسمها خولة بنت مالك بن ثعلبة، وزوجها أوس بن الصامت، أخو عبادة ابن الصامت الصحابي المعروف.. قالوا وكان منه غضبة على امرأته هذه، فقال لها مغاضبا: أنت علىّ كظهر أمي.. وكان الظهار من طلاق أهل الجاهلية، وقد ندم زوجها على ما قال، وقال لها ما أظنك إلّا حرمت علىّ، فقالت لا تقل ذلك وائت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال إنى أجدنى أستحى منه أن أسأله عن هذا، قالت: فدعنى أسأله. قالوا: فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت: يا رسول الله، إن أوس بن الصامت تزوجنى وأنا شابة ذات مال وأهل، حتى إذا أكل مالى وأفنى شبابى وتفرق أهلى، وكبرت سنى- ظاهر منّى، وقد ندم، فهل من شىء يجمعنى وإياه، فتنعشنى به؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «ما أراك إلّا حرمت عليه» ! قالت يا رسول الله، والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقا، وإنّه أبو ولدي وأحب الناس إلىّ، وإنى إذا فارقته وضم الأولاد إليه ضاعوا، وإن وأنا ضممتهم جاعوا!! فقال «ما أراك إلا حرمت عليه، ولم أومر فى شأنك بشىء» .. قالوا فجعلت تراجع رسول الله، وكلما قال لها رسول الله حرمت عليه، هتفت وقالت: أشكو إلى الله فاقتى، وحاجتى، وسوء حالى.. قالوا فما برحت مكانها، حتى أخذ رسول الله ما يأخذه من الوحى، فلما قضى الوحى قال: ادعى زوجك، فدعته، فتلا عليه الرسول الكريم الآيات الأولى من أول السورة.. وقال له: أعتق رقبة، فقال لا أجد، فقال: فصم شهرين متتابعين، فقال: لا أستطيع، إنى إذا جعت كلّ بصرى، وخشيت أن تغشى عيناى، فقال: فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟ فقال لا والله، إلّا أن تعيننى على ذلك، فأعانه الرسول صلوات الله وسلامه عليه بخمسة عشر صاعا.. هذا هو موجز القصة من بين الروايات الكثيرة المختلفة الأقوال فى اسم المرأة، واسم زوجها، وإن كان هذا كما قلنا لا يؤثر فى الحكم الواقع على الحدث نفسه، وهو الظهار. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 810 وفى قوله تعالى: «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ» . فى هذا- كما قلنا- لفتة كريمة من رب كريم إلى تلك المرأة الضائعة فى معترك الحياة، وتطييب لخاطرها، وأنه إذا كان الرسول الكريم قد استمع لشكاتها، ولم يجد لها عنده جوابا شافيا- إذ كان الظهار أمرا معترفا به فى الجاهلية، ولم يكن الإسلام قد عرض له بشىء حين قرر أحكام الطلاق، حتى وقعت هذه الحادثة- نقول، إذا كان النبي قد استمع لشكاتها، ولم يجد لها عنده جوابا شافيا، فإن الله سبحانه، قد سمع هذه الشكاة، واستجاب لها، وطيب خاطرها، ورد لها اعتبارها، وأنزل العقوبة الرادعة بمن جار عليها.. ونلمح فى الآية الكريمة شيئا من العتاب الودود من الله سبحانه وتعالى للنبى الكريم. وأنه إذا كان لم يكن بين يديه حكم الله فيما تشتكى منه المرأة مما فعل بها زوجها بهذا الظهار الذي أوقعه عليها، فإنه كان عليه- صلوات الله وسلامه عليه- ألّا يقطع فى شأنها بهذا الحكم الذي يقضى بالفرقة بينها وبين زوجها- وأن عليه- صلوات الله وسلامه عليه- أن ينظرها مدة حتى يقضى الله فى شأنها، فإذا مضى زمن ولم ينزل فى شأن هذا الأمر قرآن، أجراه على ما هو جار عليه.. فهذا الأمر- أمر الظهار- منكر وزور من القول- كما وصفه القرآن بهذا فيما بعد، وأمر هذا شأنه، كان على النبي أن يتوقف فيه إلى أن يتلقّى أمر ربّه فى شأنه. وقوله تعالى: «تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها» أي تحاورك، وتحاجك فيما وقع بينها وبين زوجها.. وفى هذه المجادلة ما يكشف عن أن المرأة تنكر هذا الظهار فى شريعة هذا الدين الذي آمنت به، وأنها لو كانت على جاهليتها لما أنكرته، ولا ستسلمت لهذا الأمر الواقع.. وهذا يعنى أن الإسلام فتح على الذين دخلوا فيه آفاقا رحيبة مشرقة من التفكير السليم، والمنطق الحكيم، الذي يرفض الجزء: 14 ¦ الصفحة: 811 الزور من القول، والمنكر من العمل.. فقد رأت المرأة على ضوء الشريعة الإسلامية، أن أمرا كهذا لا يتفق مع ما جاءت به هذه الشريعة من الرحمة والعدل، والسماحة واليسر. ونعوذ بالله أن نفهم أو يفهم مسلم، أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه- قد غاب عنه ما فى هذا الأمر من منكر غليظ، ولكنه صلوات الله وسلامه عليه- كان فى مجلس الفصل والقضاء بحكم منصبه النبوي، وهو لا يقضى بعلمه هو، وإنما يقضى بما أوحى إليه من ربه وبما أراه الله من آياته وكلماته، كما يقول سبحانه: «إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ» (105: النساء) . فالرسول صلوات الله وسلامه عليه، وإن كان ينكر هذا الذي حدث من الرجل لزوجه، إلا أنه لم يكن قد جاءه من عند الله حكم فى الظهار الذي كانت تتعامل به الجاهلية، وتعدّه ضربا من ضروب الطلاق، تحرم به المرأة على زوجها. وفى قوله تعالى: «تُجادِلُكَ» إشارة أخرى إلى احترام الشريعة الإسلامية للإنسان، وإعطائه حقه كاملا فى استعمال عقله، ومراجعة غيره، فيما يعرض له من قضايا الحياة.. ونرى هذا واضحا فى موقف المرأة من النبي ومراجعتها رسول الله فيما رآه فى الموقف الذي بينها وبين زوجها، حتى أنها لم تسلّم النبي بما رآه، وكان هذا الرأى عن اجتهاد فى أمر لم ينزل فيه على النبي، حكم سماوى، كما أخبرها الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- فى قوله: «ما أراك إلّا حرمت عليه ولم أومر فى شأنك بشىء» !! ولهذا سمّى القرآن موقفها هذا مجادلة، ولم ينكر عليها ذلك، بل جاءها بالرحمة الراحمة والفضل العظيم. وفى إضافة المرأة إلى زوجها فى قوله تعالى: «تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها» - إشارة إلى أن المرأة لا زالت زوجا لزوجها، لم تحرم عليه حرمة مؤبدة، بل ما زال الجزء: 14 ¦ الصفحة: 812 هناك سبيل إلى وصل هذه العلاقة التي توشك أن تنقطع، وفى هذا إرهاص بأن الخبر المقبل من السماء- وراء هذا الاستفتاح- هو خبر يحمل استجابة من الله سبحانه وتعالى لشكاة هذه المرأة ومجادلتها فى أمر زوجها وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما» إشارة ثالثة إلى هذا الحوار الذي جرى فى الحديث الذي كان بين المرأة وبين النبي.. فهى تتجه اتجاها، والنبي يتجه اتجاها آخر.. هى تريد ألا يكون الظهار طلاقا تحرم به على زوجها، والنبي يراه طلاقا تقع به الحرمة بينها وبين زوجها.. وفى الجمع بين النبي الكريم، والمرأة الشاكية، وفى التسوية بينها وبين النبي الكريم فى إصغاء الله سبحانه، إلى هذا الحوار فى قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما» - فى هذا ما يرفع من خسيسة المرأة، بل ومن خسيسة الإنسانية كلها، دون أن ينزل ذلك من قدر النبي، ومن مكانه المكين عند ربه.. وهذا من فضل الله على الناس، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. وسمع الله سبحانه وتعالى لهذا الحوار، ليس سمعا مطلقا، إذ أن الله سبحانه يسمع كل شىء، فى السماء والأرض.. ولكن السماع هنا سماع استجابة، وفصل فى هذا الحوار. وعبّر بلفظ السمع، دون الاستماع، لأن السمع يكون من غير طلب، على حين لا يكون الاستماع إلا بطلب، والله سبحانه يسمع كل شىء من غير طلب لما يسمع، سواء أكان هذا المسموع سرا أو جهرا، وقريبا أو بعيدا. وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ» إشارة إلى أن سمع الله يحتوى كل شىء يقع فى هذا الوجود، وأن هذه المسموعات جميعها واقعة فى علم الله موقع المبصرات، حيث تكشف المسموعات لعلم الله، حقائق مشاهدة، فيقضى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 813 سبحانه فيها عن علم لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض، كما يقول سبحانه لموسى وهرون: «إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى» (46: طه) . قوله تعالى: «الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ» . هذا هو بيان لحقيقة الظهار، وإنه منكر من القول، وزور من الكلام، لأنه يجعل من الزوجة أمّا، الأمر الذي لا يمكن تصوره، ولا تحتمل اللغة مدلولا له على هذا الوجه الذي تتعامل به الجاهلية.. وقوله تعالى: «ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ» جملة اسمية، هى خبر للمبتدأ: «الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ» .. و «ما» هنا نافية، تعمل عمل إن فى لغة الحجاز، وتسمى «ما الحجازية» للتفرقة بينها وبين «ما» التميمية التي تفيد النفي، ولا تعمل عمل إن فى لغة تميم. و «أمهاتهم» خبر ما منصوب بالكسرة.. وقوله تعالى: «إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ» - هو توكيد لقوله تعالى: «ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ» .. و «إن» هنا نافية بمعنى «ما» . وقوله تعالى: «وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً» - هو حكم على هذا القول الذي يقوله المظاهرون، وهو قولهم للزوجة: «أنت علىّ كظهر أمي» .. فهو قول منكر، لأنه يضع الأمّ فى صورة الزوجة، وفى هذا استخفاف بحرمة الأمومة، وامتهان لقداسة هذه الحرمة، ووضعها مع الزوجة على كفتى ميزان. فى الحرمة، وفى الحلّ على السواء.. وهو مع ما فيه من منكر الجزء: 14 ¦ الصفحة: 814 غليظ، هو زور من القول: فالزوج لا تكون أمّا أبدا، والأم لا تكون زوجا بحال.. وقوله تعالى: «وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ» - إشارة إلى أن الله سبحانه قد وسع بعفوه ومغفرته، ما بقع من عباده من منكر وزور، إذا هم رجعوا إليه، وطلبوا عفوه ومغفرته: «وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ» (135: آل عمران) قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ» . بعد أن بينت الآية السابقة حقيقة الظهار، وكشفت عن زيفه وبهتانه، جاءت هاتان الآيتان لتبينا حكمه إذا وقع، وهذا من تمام الحكمة والتشريع، حيث يعرف وجه الأمر أولا، ثم يلحق به الحكم المناسب له، فيكون للحكم موقعه من العقول، وأثره فى الأخذ به، والامتثال له، فعلا، أو تركا. وقد اختلف المفسرون فى تأويل قوله تعالى: «ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا» .. وهل معنى العود الرجوع عما قالوا والعدول عنه، أو العود إليه مرة أخرى، بمعنى أن يظاهروا مرة أخرى بعد المرة الأولى.. وبهذا القول يقول أهل الظاهر، وعلى هذا تكون كفارة الظهار عن المرة الثانية، أما الأولى، فلا كفارة عليها فى مذهبهم.. والرأى المعول عليه، هو أن معنى العود لما قالوا، هو نقض ما قالوه، والرجوع عنه.. هذا ما يكاد يجمع عليه المفسرون. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 815 ولكن يبقى بعد هذا ما يقال من أن اللغة لا تساعد على هذا المعنى، إذ يقال عاد إلى كذا أي رجع إليه، بعد أن فارقه، ومنه قوله تعالى: «وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ» (28: الأنعام) وقد جاء فى سورة المجادلة نفسها قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ» (8: المجادلة) .. فالعود إلى الشيء، معناه الرجوع إليه، لا الرجوع عنه. ونقول- والله أعلم- إن العود هنا هو بمعناه اللغوي، وهو الرجوع إلى الشيء.. والشيء المرجوع إليه هنا هو ما قالوه، وهو قولهم: «أنت علىّ كظهر أمي» ورجوعهم إلى هذا القول، هو رجوعهم إليه رجوعا متلبسا بنسائهم اللائي وقع عليهن هذا القول، حيث لا يكون لهذا القول وجه يرى عليه إلّا مع من وقع عليهن الظهار من النساء.. فالظهار، المعروف فى الجاهلية كان يحرّم المرأة على الرجل، ويقطع العلاقة الزوجية بينهما، فإذا ظاهر الرجل من امرأته فلا سبيل إلى الرجوع إليها.. وقد واجه الإسلام هذا الظهار، ولم يعجل بالتعرض له، حتى يقع، فيلقاه بالحكم المناسب.. فلما وقع أول ظهار فى الإسلام، وجاءت المرأة تعرض أمرها على النبي، تنزلت هذه الآيات، فى شأن الظهار، وأنه لا يقطع العلاقة الزوجية قطعا باتّا، وأن على من يريد أن يعيد الحياة إلى حالها الأولى، أن يكفّر عن هذا القول المنكر، بما بينه الله سبحانه وتعالى فى آياته البينات.. فقوله تعالى: «ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا» معناه- والله أعلم- ثم يعودون إلى الموضع الذي قالوا فيه هذا القول، حيث يجدون نساءهم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 816 اللائي ظاهروا منهن، ولكن على ألا يمسوهن إلا بعد أن يقدموا كفارة هذا الفعل الآثم. والسؤال هنا: إذا كان المعنى على أن يعود المظاهرون إلى نسائهم اللائي ظاهروا منهن- إذا كان المعنى على هذا، فلم لا يجىء النظم القرآنى هكذا مثلا: «والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون إليهن» ؟ .. ونقول: وكيف يكون القرآن معجزا إذا جاء على هذا المستوي البشرى من النظم؟ وهل يوزن كلام الله بهذا الميزان الذي يوزن به كلام الناس؟ ندع هذه التساؤلات التي لا محل لها، فما من مسلم إلا وهو على يقين بأن وراء كل كلمة من آيات الله أكثر من معجزة، وإن خفيت عليه. وننظر فى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا» ، على معنى «ثم يعودون إلى نسائهم» .. فنجد أن إيقاع فعل العود على القول- لا على النساء المظاهر منهن- فيه مواجهة للمظاهرين بهذا القول المنكر الذي قالوه، حيث حين يعودون إليه، فيجدونه حائلا بينهم وبين نسائهم، ثم إنهم إذا أرادوا أن يدفعوا يده التي أمكنته من نسائهم، وحالت بينهم وبينهن- لم يكن ذلك إلا بعد أن يقدموا الثمن عاليا لدفعه.. وبهذا يتمثل هذا القول لمن يعود إليه- وهو فى حاله تلك- ليدفعه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 817 عن زوجه- يتمثل له فى صورة منكرة أشد الإنكار، حيث يراه وقد أخذ مكانه من زوجه، وحال بينه وبينها، وأنه حين أراد رفع يده عن زوجه، بذل فى سبيل ذلك عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينا.. على ما سنبين ذلك بعد قليل.. ولو وقع الفعل «يعودون» ، على النساء، لاختفى وجه هذا القول، ولم يحسب له حساب فى هذا المقام، الأمر الذي يفوّت الحكمة العالية من التشنيع على هذا المنكر من القول.. وقوله تعالى: «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا» - هو خبر لقوله تعالى: «وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا» .. واقتران الخبر بالفاء، لما فى المبتدأ من معنى الشرط، فكأن المعنى قائم على جملة شرطية وجوابها، والتقدير: ومن ظاهروا منكم من نسائهم فعليهم تحرير رقبة من قبل أن يتماسا.. فتحرير الرقبة- أي عتقها من الرق- هو الكفارة التي تلزم المظاهر، حتى تحل له زوجه التي ظاهر منها.. وقوله تعالى: «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا» هو قيد متمم للخبر، أي أن تحرير الرقبة يجب أن يسبق مسّ الزوج زوجه، إذ أنها قبل تحرير الرقبة تكون محرمة عليه، ولن يعيدها إلى الحل إلا تحرير الرقبة، إن كان المظاهر قادرا على ذلك. والمراد بالمسّ، مس الشهوة، سواء أكان ذلك بمجرد اللمس، أو بالمباشرة، التي تكون بين الرجل والمرأة.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 818 هذا، ويذهب بعض المفسرين إلى أن الحرمة إنما تقع على الرجل لا على المرأة، حيث أنه هو الذي ظاهر، وهذا يعنى أن المرأة لو مسّت الرجل بشهوة، فإنه لا حرمة عليها.. وهذا خلاف ما يشير إليه قوله تعالى: «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا» حيث أسند الفعل إليهما معا.. ولو كانت الحرمة بالظهار واقعة على الرجل وحده، لجاء النظم هكذا: «من قبل المس» مثلا، أو «من قبل أن تمسوهن» ! .. وقوله تعالى: «ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ» أي هذا الحكم الذي أخذتم به فى كفارة الظهار، إنما ليكون لكم منه عظة وعبرة، فلا تعودوا إليه مرة أخرى، كما أن فيه زاجرا لغير المظاهرين، فلا يقع منهم ظهار، وقد عرفوا ماوراءه من بلاء.. وفى قوله تعالى: «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» تنبيه إلى أن الله سبحانه وتعالى مطلع على ما يكون من المظاهرين الذين يخونون أنفسهم، فيعودون إلى نسائهم من غير كفارة، وأنهم مؤاخذون بالتعدي على حدود الله.. وقوله تعالى: «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً» .. أي فمن لم يجد فى يده رقبة يعتقها، فعليه صيام شهرين متتابعين، أي ستين يوما متصلة، لا يقطعها بفطر يوم أو أكثر، فإن قطعها، بدأ صيام الشهرين من جديد.. فمن لم يستطع صوم شهرين متتابعين، كان عليه إطعام ستين مسكينا.. فكفارة الظهار، مرتبة بهذا الترتيب: عتق رقبة، فمن لم يجد، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 819 فصيام شهرين متتابعين، فمن لم يستطع الصوم فإطعام ستين مسكينا.. ولا يصحّ الإتيان بالثاني إلا إذا عجز عن الأول، ولا الصيرورة إلى الثالث إلا إذا لم يستطع الثاني.. وجاء النظم القرآنى فى مواجهة تحرير الرقبة بقوله تعالى: «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ» على حين جاء فى صيام الشهرين المتتابعين بقوله تعالى: «فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ» .. لأن تحرير الرقبة لا يكون إلا عن وجد ومقدرة، وملك للرقبة.. أما الصيام فلا يكون إلا عن استطاعة وقدرة على احتماله.. وقوله تعالى: «ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» .. أي هذه الأحكام التي حكم عليكم بها، إنما هى لتصحح إيمانكم بالله ورسوله، ولتقيمكم على دينه القويم.. وقوله تعالى: «وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ» .. أي هذه حدود الله، فالزموها، وخذوا أنفسكم بها، فإنّ تعدّى هذه الحدود، والاستخفاف بها، هو مدخل إلى الكفر بالله، وللكافرين عذاب أليم.. قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ» . الذين يحادّون الله: أي يخرجون على حدوده، ويستخفون بحرماته.. كبتوا: أي ذلّوا، وأهينوا. والمعنى: أن الذين لا يمتثلون أمر الله، ولا يحرمون ما حرم الله، ولا يحلّون ما أحل- لن تكون عاقبتهم إلّا الخزي والهوان، والخسران.. هكذا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 820 شأن الخارجين على حدود الله، فى كل زمان ومكان.. «وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ» (18: الحج) وقوله تعالى: «وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ» «أي أن الله سبحانه قد بين للناس على يد رسله، مواقع حدوده، وأوضح لهم الطريق المستقيم، وأنه لا عذر لهم بعد هذا البيان المبين.. فمن كفر بآيات الله، واعتدى على حدوده، فله عذاب مهين.. وقد وصف العذاب فى الآية السابقة، بأنه عذاب أليم، لأنه فى حق المؤمنين الذين يعصون الله ثم لا يصالحونه سبحانه، بالتوبة إليه والعمل الصالح الذي يرضيه.. فهذا العذاب تأديب لهم، وإصلاح لا عوجاجهم.. أما ما جاء فى الآية التالية من وصف العذاب بأنه عذاب مهين، فهو فى حق الكافرين الذين يحادون الله ورسوله، وهؤلاء إنما يعذبون عذابا لا يراد به إصلاحهم وتأديبهم، وإنما يراد به إذلالهم وإهانتهم وكبتهم، لأنهم بكفرهم بالله ومحادتهم له، استوجبوا هذا الهوان من الله «ومن يهن الله فما له من مكرم» .. وقد وضع المؤمنون العصاة المصرون على العصيان، موضع الكافرين، لأنهم بعصيانهم وإصرارهم على العصيان أقرب للكفر منهم إلى الإيمان.. ومع هذا فإن إيمانهم بإله واحد، هو ضمان لهم آخر الأمر، بالخروج من النار. قوله تعالى: «يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا.. أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» يوم: ظرف متعلق بقوله تعالى: «وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ» أي أن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 821 للكافرين عذابا مهينا يوم يبعثهم الله جميعا.. «فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا» أي فيكشف لهم عن أعمالهم السيئة، ويدينهم بها.. وقوله تعالى: «أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ» .. الضمير فى أحصاه، يعود إلى العمل المفهوم من قوله تعالى: «بِما عَمِلُوا» أي ينبئهم الله بعملهم الذي أحصاه سبحانه وجمع ما تفرق منه، على حين أنهم نسوا كثيرا مما عملوا، ولم يعودوا يذكرونه «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» أي والله عالم كل شىء عملوه علم شهادة وحضور.. لا تخفى على الله خافية فى الأرض ولا فى السماء.. الآيات: (7- 10) [سورة المجادلة (58) : الآيات 7 الى 10] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 822 التفسير قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» النجوى: المناجاة التي تكون بين اثنين أو أكثر، فى تخافت، وتهامس بعيدا عن أسماع الناس. وأصل النجوى من النجوة، وهى المكان المرتفع، حيث ينجو به الإنسان عادة من أن تناله الأعين، أو الأسماع، أو الأيدى.. والخطاب هنا للنبى صلى الله عليه وسلم، ولكل من هو أهل لتلقّى الخطاب والإفادة منه.. والاستفهام، يراد به فضح هؤلاء المتناجين، وضبطهم وهم متلبسون بهذا الإثم الذي يتعاطونه بينهم.. ومناسبة الآية لما قبلها، هى أن الله سبحانه قد ذكر فى الآيات السابقة أنه يتوعد الكافرين الذين يعتدون على حرماته، بالعذاب الأليم المهين، وذلك فى الآخرة، يوم يبعثهم الله جميعا، فينبئهم بما عملوا، وقد أحصى كل أعمالهم التي نسوها- فجاءت هذه الآية تحدث عن علم الله سبحانه وتعالى، وأنه علم وسع كل ما فى السموات وما فى الأرض، وأنه ما يكون من مناجاة بين ثلاثة إلا كان الله سبحانه وتعالى، مشاهدا هذه المناجاة التي بينهم حتى لكأنهم أربعة وليسوا ثلاثة.. وهذا يعنى أن ما يحسبونه سرا بين ثلاثتهم، ليس بسرّ، فقد حضره الله سبحانه وتعالى.. وكذلك ما يجتمع خمسة الحسارة إلا كان الله سبحانه سادسهم، يشهد الحديث الذي يديرونه بينهم، ويريدون إخفاءه عن غيرهم.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 823 وفى قوله تعالى: «وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ» - هو استيفاء لجميع أعداد المجتمعين للنجوى.. من واحد يناجى نفسه، إلى ما لا نهاية له من الذين يتناجون فيما بينهم.. وعلى هذا، فلا محلّ للتساؤل عن الحكمة فى ذكر هذين العددين: ثلاثة وخمسة، إذ لو ذكر أي عدد غيرهما لكان هذا التساؤل واردا عليه أيضا.. ولا يقطع هذا التساؤل إلا إذا ذكرت الأعداد جميعها، ابتداء من الواحد، إلى ما لا نهاية، وهذا ما لا يكون فى كتاب غايته تقويم الأخلاق، وتهذيب النفوس، لا تربية الملكات الذهنية، وتدريب العقول الرياضية.. وقوله تعالى: «ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ» - تهديد ووعيد لهؤلاء الذين يتناجون بما لا يحل من القول.. فالله سبحانه مطلع على ما يتناجون به، وسيحاسبهم عليه. قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ.. حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ» الذين نهوا عن النجدي: هم المنافقون، من الذين أظهروا الإسلام، واستبطنوا الكفر، من اليهود وغيرهم.. وقد وردت آيات كثيرة تفضح المنافقين، وما يدبّرون من كيد للنبى والمؤمنين، كما حملت هذه الآيات نذرا إليهم بالويل والبلاء فى الدنيا والآخرة، إن هم لم يستقيموا على طريق الإيمان، ولم يخلصوا دينهم لله.. ومن ذلك قوله تعالى: «يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 824 يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً» (108: النساء) .. وهذه الآية تشنيع على المنافقين، ونذير من النذر إليهم، يفضح هذا النفاق الذي يعيشون فيه بين المؤمنين. إنهم ما زالوا على نفاقهم، لم يخرجوا منه، ولم ينتهوا عما نهوا عنه، فهم- حيث ضمهم مكان لا يكون لهم حديث إلا هذا الحديث الآثم، الذي يدبّرون فيه السوء، والمكروه للنبى وللمسلمين.. «وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ» .. هذا هو ما يتسارون به من أحاديث، وما يجرى على ألسنتهم من قول.. هو إثم، وعدوان، ومعصية للرسول. وقوله تعالى: «وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ» .. هو فضح لأسلوب من أساليبهم الخبيثة التي دبروها فيما بينهم، وهو أنهم إذا جاءوا إلى الرسول حيّوه بتحية منافقة، يبدو ظاهرها سليما مقبولا، ولكنها تلف فى باطنها إثما غليظا، ومنكرا شنيعا، حيث يقولون: - قاتلهم الله- «السام عليكم» يقولون ذلك بألسنة معوجة، تدغم فيها حروف الكلمة، فلا يستبين وجهها، فلا هى السام، ولا هى السلام.. إنها كلمة منافقة لا وجه لها، من أفواه منافقة مداهنة، لا يعرف وجه أصحابها.. والسام: الموت، والهلاك.. فهذه تحية المنافقين للنبى.. تحية بالدعاء عليه، لا بالدعاء له، وهى غير ما حياه الله به- فى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ» (56: الأحزاب) وهى غير ما أمر الله المؤمنين أن يحيّوا النبي به.. فى قوله سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً» (56: الأحزاب) . وفى قوله تعالى: «بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ» تنويه بقدر النبي الكريم، ومنزلته الجزء: 14 ¦ الصفحة: 825 عند ربه، وأنه سبحانه إذ يحييه تلك التحية المباركة الطيبة، فلا عليه إذا حياه المنافقون تلك التحية الآثمة المنكرة.. وقوله تعالى: «وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ» - أي ومن مقولاتهم المنكرة التي يقولونها فيما بينهم وبين أنفسهم: «لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ؟» أي هلّا يعذبنا الله بما نقول من سوء فى محمد؟ إنه لو كان محمد على صلة بالله كما يدّعى لما خلّى الله بيننا وبينه، نرميه بالمنكر من القول، ثم لا يعاقبنا على ذلك؟! بل إنهم ليذهبون فى الضلال إلى أبعد من هذا، فيستدعون العذاب من الله، إن كان لله غيرة على محمد، ورعاية له!. وقوله تعالى: «حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ» .. هذا هو جواب ما سألوه من العذاب، وهو عذاب الآخرة، حيث يصلون نار جهنم، وذلك هو مصيرهم الذي يصيرون إليه وهم سائرون فى طريق الضلال، وإنه لبئس المصير.. أفليس ذلك حسبهم من العذاب؟ ألا يكفيهم ما يلقون فى جهنم من عذاب؟ أيريدون بعد هذا مزيدا منه؟. قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» . هو دعوة إلى هؤلاء المنافقين، الذين أظهروا الإيمان واستبطنوا النفاق، أن تكون مناجاتهم إذا تناجوا فيما بينهم، بعيدة عن مواطن الضلال والريب، وخالصة من الإثم والعدوان، ومعصية الرسول، محملة بالبر والتقوى، حيث يتبادلون الكلمات الطيبة، ويتناجون بها، فتكون رسل هدى، وخير، تسعى بينهم بالأمن والسلام، وتفتح لهم الطريق إلى البر والتقوى.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 826 وقد جاء الخطاب إلى هؤلاء المنافقين بقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» وذلك لإلفاتهم إلى هذا الإيمان الذي دخلوا به فى جماعة المؤمنين، وأخذوا به مكانهم بينهم، ثم هم فى الوقت نفسه حرب على المؤمنين، يضمرون العداوة لهم، ويبيتون السوء والضرّ بهم.. وهذه حال منكرة، ينبغى أن ينكروها هم على أنفسهم قبل أن ينكرها الناس عليهم.. فإما أن يكونوا مؤمنين، فلا يصل إلى المؤمنين منهم ما يسوء، وإما أن يكونوا على غير الإيمان، فيكون لهم أن يكيدوا للمؤمنين كما يكيد لهم الكفار والمشركون.. فالناس: إما مؤمنون، وإما كافرون.. وهؤلاء ليسوا مؤمنين، وليسوا كافرين.. إنهم مذبذبون بين ذلك.. لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء.. وتلك أسوأ حال يكون عليها إنسان، حيث لا وجه له يعرف به فى الناس.. إنه الوجه المنافق الذي يلبس أكثر من وجه!. وقوله تعالى: للمنافقين «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» يحقق أمرين: أولهما: فضح هؤلاء المنافقين عند أنفسهم، وضبطهم متلبسين بالكيد للمؤمنين، وهم فى زىّ الإيمان.. وهذا من شأنه أن يخزيهم عند أنفسهم، وأن يحقر بعضهم بعضا، حين ينظر أحدهم إلى وجه صاحبه، فيراه مؤمنا يكيد للمؤمنين. وثانيهما: أن نداءهم بالمؤمنين دعوة مجددة لهم إلى أن يكونوا مؤمنين حقّا، فهم إلى هذه اللحظة محسوبون فى المؤمنين، لم يفضحهم الله بعد، ولم يطلع النبىّ والمؤمنين على خبيئة أنفسهم، بل ستر الله عليهم ما هم عليه من نفاق، وإن هذا الأمر لن يطول بهم، فإن لم يبادروا إلى الخروج من هذا النفاق المضروب عليهم، فضحهم الله، فلم يكن لهم بين المؤمنين مكان!. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 827 قوله تعالى: «إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» . النجوى، هنا، هى النجوى المعهودة من المنافقين، وليست مطلق النجوى، فالحرف «ال» هنا للعهد، حيث النجوى التي أشار إليها سبحانه بقوله: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى.. الآية» أي أن هذه النجوى التي يتناجى بها المنافقون، هى من تدبير الشيطان وكيده للمؤمنين، إذ يتخذ من هؤلاء المنافقين سلاحا يحارب به المؤمنين، حيث يجمع المنافقين على هذه المجالس الآثمة، فيتناجون فيما بينهم، ويتهامسون ويتغامزون على ملأ من المؤمنين، فيخيل للمؤمنين أن القوم يدبرون لهم كيدا، أو يظهرون بهم شماتة لأحداث يحيّلون للمؤمنين بهذه المناجاة أنها وقعت، ولم يعلمها المؤمنون بعد، أو لأحداث ستقع لم يكن عند المؤمنين حساب لها.. وهكذا نحدث هذه النجوى بلبلة واضطرابا فى نفوس المؤمنين، فتذهب بهم الظنون كل مذهب، وتتداعى عليهم دواعى الضيق والحزن، ويشتمل عليهم ضباب كثيف، مما تتلمظ به هذه الشفاء الآثمة. من منكرات، وما تتغامز به العيون الزائغة من نظرات وإشارات.. وقوله تعالى: «وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» أي أن الشيطان لن يضر المؤمنين بهذا الكيد الذي يكيده لهم، وأن ما قد يقع للمؤمنين من ضر فهو مما قدره الله لهم، وشاءه فيهم. وقد يجىء هذا الضرر عن طريق الشيطان أو غيره، ولكن لا الشيطان ولا غيره يمستطيع أن يضر أحدا إلا من شاء الله له هذا الضر.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 828 وقوله تعالى: «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» - هو دعوة للمؤمنين ألّا يحفلوا بما يتناجى به هؤلاء المنافقون، وألا يعملوا له حسابا، فإن ذلك لن يأتيهم شر منه، إلا ما كان قد قدره الله عليهم.. وإذن فليتوكلوا على الله، وهو حسبهم ونعم الوكيل.. الآيات: (11- 13) [سورة المجادلة (58) : الآيات 11 الى 13] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13) التفسير: قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» التفسح فى المجالس: التوسعة فيها، حيث يسع بعضهم بعضا، وحيث يجد الطارئ عليهم، مكانا بينهم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 829 انشزوا: النشز، المكان المرتفع من الأرض، والخارج على المنبسط منها.. والمراد بالنشوز هنا، الخروج من المجلس.. ومنه الناشز، وهى المرأة الخارجة عن طاعة زوجها، والنشاز من كل شىء: الخارج على الوضع العام له.. ومنه قوله تعالى: «وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً» (259: البقرة) ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، أشارت إلى مجالس يتناجى فيها أهل المجلس، ويفضى بعضهم إلى بعض بسره.. أما المنافقون فلا يتناجى بعضهم إلى بعض إلا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، وأما المؤمنون فيتناجون بالبر والتقوى.. فناسب ذلك أن يذكر ما ينبغى أن يأخذ به المؤمنون أنفسهم، من آداب فى مجالسهم العامة التي لا مناجاة فيها والتي يباح لأىّ منهم أن يأخذ مكانه فيها، وذلك، حتى لا يقع فى مجلسهم ما يثير ضغينة، أو يوقع عداوة.. ومما ألزم الله سبحانه وتعالى به المؤمنين من آداب المجلس، أن يوسع بعضهم لبعضهم، وأن يفسحوا للقادم عليهم مكانا بينهم، فهو أشبه بالضيف، ومن حق الضيف الترحيب به، وإنزاله منزل الإكرام.. وإكرام الوافد على المجلس، هو أن يجد له مكانا بين أهل المجلس، وأن ينزل المنزل المناسب له بينهم، حسب دينه، وعلمه.. فلا يتصدر المجلس جاهل وفى المجلس عالم، ولا يتصدره من رقّ دينه وفى أهل المجلس من كان ذا دين وتقوى.. وفى المأثور: «أنزلوا الناس منازلهم» ويذكر المفسرون لهذه الآية سببا للنزول، فيقولون: إن الرسول صلوات الله وسلامه عليه، كان فى مجلس وحوله بعض أصحابه، فجاء بعض وفود العرب إلى النبي، فسلموا فرد النبي والمسلمون عليهم السلام، ولم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 830 يفسح لهم أحد مكانا فى المجلس، فلما رأى النبي ذلك، قال: قم يا فلان وقم يا فلان ويا فلان.. ثم دعا الوفد إلى الجلوس.. قالوا، فساء ذلك المسلمين الذين دعوا إلى القيام من مجلسهم، وشنع المنافقون واليهود على المسلمين بهذا، وقالوا لهم فيما قالوا: كيف يقول نبيكم إنما المؤمنون إخوة، ثم يكون منه هذه التفرقة فى المعاملة بين أصحابه، فيخرج بعضا من المجلس دون بعض؟ وهذه المقولات التي تروى عن سبب نزول الآية الكريمة تبدو- على إطلاقها- واهية، لا معقول لها. وذلك: أولا: أنه ليس من أخلاق العرب أن يفد عليهم وافد ثم لا يلقونه بالترحيب والاحتفاء، عدوّا كان أو صديقا.. فكيف بمن يفد على النبي؟ أفيعقل أن يفد على النبي وافد وهو بين أصحابه، ثم لا يلقاه أصحابه بالحفاوة والتكريم، ولا يفسحون له مكانا بينهم؟ .. ذلك محال. وثانيا: أيكون من أدب صحابة رسول الله، الذين يجلسون إليه أن تجمد مشاعرهم هذا الجمود، فلا يتحركون لوافد يفد على الرسول، حتى يدعوهم الرسول هذه الدعوة التي يخرجهم بها من مجلسه؟ وثالثا: أيكون من أدب النبوة أن يجرح الرسول بعض صحابته هذا الجرح الغائر، فيخرجهم عن أماكنهم، ويلقى بهم خارج المجلس؟ إنه لو اضطر الرسول الكريم إلى مثل هذا الموقف، لكان من تدبيره- صلوات الله وسلامه عليه- أن يتحول بأهل المجلس جميعا إلى مكان متّسع غير هذا المكان، ثم لأخذ بيد ضيفه الوافدين عليه، ولأنزلهم منزلهم فى المجلس الجديد.. أما قوله تعالى: «إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا» فإن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 831 القول هنا ليس بلسان المقال، وإنما هو بلسان الحال. ومعنى هذا أنه إذا وجد المسلمون فى مجلس، ثم دعت الحال إلى أن يدخل عليهم غيرهم، كان واجبا عليهم أن يفسحوا لهذا الغير، وأن يسعوه فى مجلسهم، دون أن يقال لهم افسحوا.. فإن الانتظار إلى أن يقال لهم هذا القول لا يليق بالمؤمنين، فذلك أمر لا يكون إلا عن طباع بليدة، ونفوس جفّت مشاعر الإنسانية فيها.. وكذلك الشأن إذا دعت الحال إلى أن ينصرف أهل المجلس، وأن يغادروا مجلسهم بعد أن يأخذوا حاجتهم منه، فإن الجلوس بعد هذا مضيعة للوقت، داعية إلى طرق أحاديث من اللغو، والبعث بعد أن فرغ حديث الجد والنفع.. فليس هناك فى تلك الحال قول يقال لأهل المجلس: أن انشزوا وانفضوا، وإنما الحال نفسها هى التي تدعو إلى انفضاض المجلس.. وهذا من شأنه أن يقيم المؤمن على حال من الوعى واليقظة، والالتفات الدائم إلى نفسه، والتنبه إلى ما حوله من الناس والأحداث، فلا يكون أبدا فى حال من الذهول والتبلد، بحيث لا يتحرك إلا بمهماز، كما تتحرك الدواب البليدة بالسياط تنهال عليها.. وإذا أردنا أن نلتمس لهذا الخبر متأوّلا- على فرض صحته- فهو أن النبىّ صلوات الله وسلامه عليه، لم يقل هذا القول إلا لجماعة من المنافقين، كانوا يحضرون مجلس النبىّ، ممن أشار إليهم سبحانه وتعالى بقوله: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً.. أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ» (16: محمد) - فكان قوله صلوات الله وسلامه عليه، قم يا فلان، وقم يا فلان- هو إشارة إلى هؤلاء المنافقين، وفضحهم عند أنفسهم، وخزيهم بين جماعة المسلمين التي دخلوا فيها متلصصين، متربصين الجزء: 14 ¦ الصفحة: 832 وقوله تعالى: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ» .. هو إشارة إلى هذه المشاعر اليقظى، وتلك الأحاسيس المرهفة، التي ينبغى أن يكون عليها المؤمن، فإنه بقدر ما يكون عليه المؤمن من هذه المشاعر وتلك الأحاسيس، بقدر ما تكون منزلته فى الإنسانية.. والإيمان من شأنه أن يربىّ هذه المشاعر، وينمّى هذه الأحاسيس، وبمقياس الإيمان، تقاس هذه المشاعر وتلك الأحاسيس.. والعلم، شأنه فى هذا شأن الإيمان، فى رفع إنسانية الإنسان، وإعلاء منزلته.. فالإيمان، هو فى حقيقته علم، والعلم فى حقيقته إيمان.. وإن إيمانا لا يقوم على علم، هو إيمان هزيل باهت، لا يؤثر أثرا، ولا يطلع زهرا ولا ثمرا.. وإن علما لا يفتح للعقل والقلب طريقا إلى الإيمان، ولا تنقدح منه شرارات مضيئة، تضىء للإنسان طريقه إلى الله، هو نار تحرق، أو دخان يعمى العيون، ويزكم الأنوف، ويخنق الصدور.. وقد جمعت الآية الكريمة بين الإيمان والعلم، وجعلت كلّا منهما صفة لموصوف، كما يقول سبحانه: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ، وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» ولم يجىء النظم هكذا: يرفع الله الذي آمنوا منكم وأوتوا العلم» .. وذلك أن من الناس من يبدأ الطريق بالعلم، ثم يقوده هذا العلم إلى الإيمان.. ومنهم من يبدأ الطريق بالإيمان ثم، يقوده الإيمان إلى العلم. فالمؤمن حقّ الإيمان.. عالم.. والعالم حقّ العلم.. مؤمن.. قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 833 دعا الله سبحانه وتعالى المؤمنين فى آية سابقة، إلى أن تكون مناجاتهم بالبر والتقوى، حيث يقول سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» . (9: المجادلة) فمناجاة المؤمنين بعضهم بعضا ينبغى أن تقوم على البر والتقوى.. فكيف إذن تكون مناجاتهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه؟ إنها حينئذ ينبغى أن تكون المناجاة الخالصة للبر والتقوى.. ولهذا جاء قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً» والمراد بتقديم الصدقة هنا قبل مناجاة الرسول، هو أن يلقى المؤمن رسول الله على طهارة وتزكية بهذه الصدقة التي يقدمها.. فالصدقة مرضاة للربّ، مطهرة القلب، كما يقول سبحانه: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها» (103: التوبة) .. وليس المراد بتقديم الصدقة هنا، أن توضع بين يدى النبي صلوات الله وسلامه عليه، وإنما المراد بها أن توضع فى يد من يستحقها من الفقراء والمساكين وابن السبيل.. وهذه الصدقة التي يقدمها المؤمن الذي يغشى مجلس الرسول، هى- كما قلنا- مطهرة لهذا المؤمن، وإعداد له كى يلتقى بالنبي الكريم، وينتفع بهديه، حيث يكون فى تلك الحال على قرب نفسىّ وروحى منه.. إن ذلك أشبه بالطهارة قبل الصلاة.. فالصلاة مناجاة لله سبحانه وتعالى، ودخول إلى ساحة مغفرته ورضوانه، والطهارة قبل الدخول فى الصلاة، هى التي تهيىء المؤمن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 834 نفسيّا وروحيّا للاتصال بالله سبحانه، والقرب منه جل وعلا.. إنها أشبه بالاستئذان قبل الدخول.. فكما أنه لا يجوز للمؤمن أن يدخل بيتا غير بيته من قبل أن يستأذن، رعاية لحرمة المسكن وأهله- فكذلك ينبغى على المؤمن ألا يقتحم مقام الرسول، ويغشى حماه الطهور، من غير أن يقف بين يدى هذا الحمى، وأن يقدّم صدقة، يدخل منها على مشاعره أنه لن يؤذن له بالدخول إلى هذا الحمى، من غير استئذان! وقوله تعالى: «ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ» أي هذا الفعل الذي تفعلونه بتقديم الصدقة قبل مناجاتكم الرسول- هو خير لكم، وأطهر، حيث يرضى الله سبحانه وتعالى عنكم، ويطهركم من ذنوبكم، فيكون لقاؤكم للرسول على صفاء نفس، وشفافية روح، فتصيبون كثيرا من الخير الذي بين يديه.. قوله تعالى: «فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» فإن لم تجدوا صدقة تقدمونها، فلا حرج عليكم، إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، والله سبحانه يغفر لكم ذنوبكم، ويطهركم، حتى إذا ناجيتم الرسول كنتم على حال من الطهر كحال الذين قدموا صدقات بين يدى نجواهم، فالله سبحانه غفور، أي كثير المغفرة، تسع مغفرته الخلق جميعا، وهو رحيم بكم، فلا يحرمكم مغفرته التي قصرت أيديكم عن أن تنالوها بالصدقة.. وقوله تعالى: «أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ، فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 835 المفسرون يكادون يكونون على إجماع بأن هذه الآية ناسخة للآية التي قبلها.. بمعنى أن تقديم الصدقة من المؤمن الذي يودّ مناجاة الرسول، قبل أن يدخل فى مناجاته، والذي دعت إليه الآية السابقة- قد جاءت هذه الآية ناسخا له، تخفيفا على الذين يودون مناجاة النبي. ويقولون لتعليل هذا النسخ، إنه لما نزل قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً» .. شقّ ذلك على كثير من المؤمنين، وضنّ كثير من الأغنياء بأموالهم أن يخرجوا منها صدقة عند مناجاة الرسول، وبهذا قلّت تلك الأعداد الكثيرة التي كانت تسعى إلى مناجاة النبي، فنزلت الآية: «أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ» فنسخت الآية التي قبلها، وأبيح للمؤمنين مناجاة الرسول من غير صدقة يقدمونها بين يدى نجواهم!! ونحن على رأينا من أنه لا نسخ فى القرآن، وأنه لا نسخ فى هذه الآية بالذات.. وذلك من وجوه. أولا: أن الصدقة التي دعى المؤمنون إلى تقديمها بين يدى نجواهم غير محددة المقدار، ومن هنا كانت أىّ صدقة يقدمها المؤمن فى هذا المقام مجزية له، ولو كانت شقّ تمرة.. وإذن فليس فى هذه الصدقة ما يشق على المؤمنين، حتى يجىء الأمر بنسخ تقديم هذه الصدقة. وثانيا: ليس ما جاءت به الآية من الأمر بتقديم الصدقة- والله أعلم- أمرا ملزما، يقع موقع الوجوب، بل هو أمر للندب والاستحباب، ولذلك علّل له بقوله تعالى: «ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ» .. ثم جاءت المجاوزة عنه عند عدم وجود الصدقة: «فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 836 وثالثا: قوله تعالى فى الآية التي يقال إنها ناسخة: «أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ» - ليس معنى كلمة الإشفاق هنا الضنّ بالمال الذي ينفق فى هذا الوجه، وإنما هو الخوف من ألا يجد المؤمنون ما يتصدقون به فى كل وقت يلقون فيه رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.. وكثير منهم كان يلقى النبي كل يوم مرات كثيرة.. وخاصة صحابته الذين كانوا على اتصال دائم به، كأبى بكر، وعمر، وعثمان، وعلى، وعبد الرحمن بن عوف، وأبى عبيدة، وطلحة، والزبير، وأبى هريرة وغيرهم.. فهؤلاء الصحابة الكرام وأمثالهم، يشق عليهم أن يحجبهم عن الرسول حجاب فى نهار أو ليل، وكثيرا ما تكون الصدقة غير ممكنة لهم فى كل حال.. فهم- والأمر كذلك- بين حالين: إما، ألّا يلتقوا بالرسول حتى يقدموا بين يدى لقائهم صدقة.. وفى هذا إعنات شديد لهم، وخاصة أن لقاءهم للنبى يتكرّر مرات فى اليوم.. وقد لا يكون بين يدى أحدهم ما يقدمه من صدقة.. وإنه ليس بالذي يرضى نفس هؤلاء الصحابة الكرام أن يكون لقاؤهم للنبى من غير تقديم صدقة، حيث يدخلون فى حكم قوله تعالى: «فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .. فإن ذلك- وإن كان يبيح لهم لقاء النبي ومناجاته من غير صدقة- إلا أنه يضعهم فى موضع لا يحبونه، ولا يرضونه لأنفسهم، إنهم يطلبون أن يكونوا على أحسن أحوالهم فى لقائهم للنبى، وإنهم ليعدّون أنفسهم مقصّرين، إذا هم التقوا بالرسول من غير تقديم الصدقة، وإن كان ذلك متجاوزا لهم عنه!. وإنه لكى يزول هذا الحرج من صدور الصحابة الذين لا يجدون الصدقة التي يقدمونها بين يدى مناجاتهم الرسول- جاء قوله تعالى: «أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ» .. وجاء لفظ الصدقات جمعا، لا مفردا، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 837 وفى ذلك دليل على أن المراد بهذا، هم الصحابة الذين كانوا على لقاء دائم بالنبي، ذلك اللّقاء الذي يدعوهم إلى تقديم صدقات كلّ يوم، لا صدقة واحدة.. ومن جهة أخرى، فإنه من المحال أن يضنّ واحد من صحابة رسول الله بماله كله، ويمسك به، إذا كان هذا المال وسيلة إلى لقاء النبي.. فكيف والصدقة المطلوبة هى بعض من هذا المال؟. ورابعا: قوله تعالى فى هذه الآية أيضا: «فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ» يشير إلى أن الذين لم يفعلوا، أي لم يستطيعوا تقديم الصدقة- لا ضنّا بها، ولكن عجزا عنها- هؤلاء قد تاب الله عليهم، أي رحمهم، ورفع عنهم الحرج، وأفسح لهم الطريق إلى مناجاة النبي من غير تقديم الصدقة التي عجزوا عنها. فالتوبة هنا، معناها الرحمة، والقبول، والرضا، فهى توبة من الله سبحانه وتعالى عليهم، أي عود عليهم منه سبحانه وتعالى بفضله ورحمته. ومثل هذه التوبة ما جاء فى قوله تعالى: «لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ» (117: التوبة) فالتوبة هنا توبة رضى وإحسان. أما التوبة من العبد، فهى رجوع إلى الله بالندم، والانخلاع من المعصية.. وقوله تعالى «وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ» جملة حالية من الفاعل فى قوله تعالى: «فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا» أي إذ لم تقدموا الصدقة فى حال قد قبلكم الله عليها، ورحمكم فيها. وقوله تعالى «فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» - هو جواب «إذ» التي تفيد مع الظرف معنى الشرط.. أي فإذ قد رحمكم الله، وعاد بفضله عليكم، ورفع عنكم الحرج فى لقاء النبي من غير الجزء: 14 ¦ الصفحة: 838 تقديم صدقة- فأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأطيعوا الله ورسوله، فذلك هو شكركم لله سبحانه وتعالى على ما فضل به عليكم.. ففى إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله ورسوله، ما يقربكم من الرسول، ويقيمكم أبدا على طهارة دائمة، أشبه بمن يمدّ يده بصدقات لا تنقطع أبدا.. وعلى هذا فإنه ليس بين الآيتين تناسخ، بل إن كلا الآيتين من المحكم، وأنهما يتناولان أمرا واحدا، ويعالجان قضية واحدة، لا تتم أركانها إلا بالآيتين معا.. والله أعلم. الآيات: (14- 22) [سورة المجادلة (58) : الآيات 14 الى 22] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 839 التفسير: قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» هو استفهام إنكارى، يفضح أولئك المنافقين من الذين دخلوا فى الإسلام.. فهؤلاء المنافقون قد تولوا، أي صاروا أولياء ومناصرين «قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» وهم اليهود.. فاليهود، هم المغضوب عليهم من الله، فحيث وقع غضب الله فى القرآن الكريم، كان اليهود هم الواقع عليهم هذا الغضب.. نعوذ الله من غضب الله. وقوله تعالى: «ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ» أي أن هؤلاء المنافقين ليسوا منكم أيها المؤمنون، ولا من اليهود أهل الكتاب.. أما أنهم ليسوا من المؤمنين فقد بعد بهم نفاقهم عن دائرة المؤمنين، وأما أنهم ليسوا من اليهود، فلأنهم من مشركى العرب الذين دخلوا فى الإسلام بألسنتهم، كعبد الله بن أبىّ وغيره، ممن انحاز إلى جانب اليهود فى كيدهم لرسول الله وللمؤمنين.. وقوله تعالى: «وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» أي أن هؤلاء المنافقين لا دين لهم، ولا مروءة عندهم حتى إنهم ليحلفون على الكذب، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 840 وهم يعلمون أنه الكذب.. وهذا الحلف هو الحلف الفاجر، واليمين الغموس.. وقوله تعالى: «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» أي أن الله سبحانه قد أعد لهؤلاء المنافقين عذابا شديدا، جزاء بما اقترفت أيديهم وألسنتهم من سيئات ومنكرات وفى قوله تعالى: «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً» - إشارة إلى سوء هذا العذاب الذي ينتظر هؤلاء المنافقين، وأنهم قد أعد لهم العذاب، قبل أن يلتقوا به، فهو عذاب خاص بهم، يتناسب مع مكانتهم فى أهل الضلال.. قوله تعالى: «اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» الجنة: الوقاية، ومنه المجن، وهو الترس، والدرع، مما تتقى به الضربات فى الحرب.. فهؤلاء المنافقون، قد اتخذوا من الأيمان الفاجرة الكاذبة جنة، يتقون بها النظرات التي ينظر بها المؤمنون إليهم، فيرون خزى النفاق ظاهرا على وجوههم، فلا يجد المنافقون سبيلا لستر نفاقهم إلا الحلف الكاذب، الذي يبرّرون بهم مواقفهم المنحرفة الضالة.. وإنهم تحت ستار هذه الأيمان الكاذبة استطاعوا أن يداروا نفاقهم، وأن يمضوا فى طريقهم الضال المنحرف عن سبيل الله: «فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» هو جزاء من يضل عن سبيل الله، ويتبع غير سبيل المؤمنين. قوله تعالى: «لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» الجزء: 14 ¦ الصفحة: 841 أي أنهم لن يجدوا مفرّا من العذاب المهين المعدّ لهم، وأن ما جمعوا من أموال، وما استكثروا من أولاد، لن يغنى عنهم أي غناء فى هذا المقام، ولن يدفع عنهم عذاب الله الواقع بهم، والذي هم خالدون فيه أبدا.. قوله تعالى: «يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ» . أي أنهم لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا يوم يبعثهم الله جميعا، ويعرضون بين يديه للحساب، فيحلفون له كذبا، كما كانوا يحلفون فى الدنيا للمؤمنين كذبا.. فلقد صحبهم نفاقهم الذي عاشوا به فى الدنيا، إلى الآخرة، وكأنه طبيعة ملازمة لهم، متمكنة فيهم. إنهم ليكذبون حتى على أنفسهم ويخادعونها بهذا الضلال الذي يزينونه لها.. وفى هذا يقول الله تعالى: «ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» (23- 24: الأنعام) . وقوله تعالى: «وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ» أي أنه بخيل إليهم من كثرة إلفهم لهذا الكذب، أنه حق، وأن ما يقولونه من مفتريات هو من الحق الذي ينفعهم فى هذا اليوم، كما كانوا يجدون لكذبهم فى الدنيا مدخلا إلى الناس، بالأيمان الفاجرة التي يدارونه بها.. ولكن كذبهم هذا الذي يحلفون له بين يدى الله، سيرونه بأعينهم بلاء ووبالا عليهم، حيث ينكشف زبفه. ويتعرّى وجهه الكئيب، فيرون على صفحته المخازي والضلالات التي تدفع بهم إلى عذاب الجحيم.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 842 قوله تعالى: «اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ» . الاستحواذ على الشيء. الغلبة عليه، والتملك له، والاستبداد به وما زالت الآيات تتحدث عن هؤلاء المنافقين، وتفضح أساليب نفاقهم، والدوافع التي تدفع بهم إليه.. وأنهم قد أصبحوا ليد الشيطان الذي استحوذ عليهم، وملك أمرهم، وضمهم إلى حوزته، فأنساهم ذكر الله، وصرفهم عن النظر إلى ما وراء هذه الحياة الدنيا من حساب وجزاء. فهم أولياء الشيطان، وحزبه، وحيث كان الشيطان فهم معه.. وليس للشيطان إلا الخزي والخسران.. فهم آخذون نصيبهم كاملا من هذا الخزي، وذلك الخسران. قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ» . المحادّة لله ورسوله: التحدي لأمر الله ورسوله، والخروج عن طاعتهما. والمنافقون، يقودهم الشيطان إلى محادة الله ورسوله، والخروج عن طاعتهما، وإنه لن يكون لمن يحاد الله ورسوله إلا الذلة والهوان، وإلّا أن يدخل فى زمرة الذين أذلهم الله، وأنزلهم منازل الهون.. قوله تعالى: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» . كتب الله: أي قضى، وحكم.. وفى التعبير عن القضاء والحكم، بالكتابة، إشارة إلى أن ذلك قضاء نافذ، وحكم قاطع.. أو أن ما قضى الله سبحانه وتعالى به، مكتوب فى أم الكتاب.. وهو اللوح المحفوظ.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 843 أي ومما قضى الله به أن الغلبة له سبحانه، ولرسله على أهل الباطل، والضلال، وأن الخزي والهوان على الذين يحادّون الله ورسوله.. وهذا وعد من الله سبحانه وتعالى بنصرة الحق، والانتصار لأهله الذين يدافعون عنه.. فإن العاقبة دائما للحق، والمدافعين عن الحق، وإن ضاقت بالحق وأهله المسالك، وتراكمت الغيوم، فذلك الضيق إلى سعة، وهذه الغيوم إلى صحو وإشراق. قوله تعالى: «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» . بهذه الآية الكريمة تختم سورة «المجادلة» فتضع الميزان الذي يوزن به الناس، فى مقام الإيمان والكفر.. فحيث كان الإنسان بولائه، وبمودته، كان الوجه الذي يعرف به، ويحاسب بين الناس عليه.. فمن والى قوما، ووادّهم، عدّ منهم، وحسب فيهم.. وإذن فلا يكون مؤمنا بالله واليوم الآخر من كان على مودة لمن حاد الله ورسوله.. إذ لا يتفق أن يجمع المرء فى قلبه بين ولائه لله، وولائه لأعداء الله. وإذن فلا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم.. ففى سبيل الولاء لله ولرسوله، ينقطع كل ولاء مع من حاد الله ورسوله، ولو كان ذلك بين الأب وابنه، أو الابن وأبيه، والأخ وأخيه، والعشير وعشيره.. وقوله تعالى: «أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ» أي أولئك الذين يخلصون ولاءهم لله من المؤمنين بالله ورسوله، ويقطعون فى سبيل ذلك كل ولاء لهم مع الجزء: 14 ¦ الصفحة: 844 أعداء الله من أهل وعشير- «أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ» أي ثبته الله ومكنه فى قلوبهم، فلا تعصف به عواصف الفتن، ولا تغلبهم عليه الأهواء.. «وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ» أي أعانهم الله سبحانه وتعالى بروح منه، تقيهم عوادى الفتن، وتعصمهم من نزعات الشيطان.. «وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» فهذا هو جزاؤهم عند الله.. فقد «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ» وتقبّل منهم أعمالهم، فكان جزاؤهم عنده هذا الرضوان، وذلك النعيم المقيم، وقد أرضاهم هذا النعيم، فحمدوا ربهم وشكروا له.. وفى قوله تعالى: «وَرَضُوا عَنْهُ» ما يكشف عن بعض لطف الله بعباده وإكرامه لأهل ودّه، وإغداق الإحسان عليهم، حتى تطيب نفوسهم وتمتلىء غبطة ورضى.. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى فى خطابه لنبيه الكريم: «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى» .. وماذا يملك العبد حتى يكون لرضاه عن ربه أو سخطه، وزن أو قدر؟ .. إنه لا شىء.. ولكن هكذا فضل الله على عباده، وإحسانه على أوليائه.. إنهم أرضوا الله بإيمانهم، وإحسانهم، فكان جزاؤهم عند الله أن يعطيهم حتى يرضوا عنه.. إنه رضى متبادل بين الله وأوليائه. حيث يطلب العبد رضى سيده ومولاه، فإن رضى عنه سيده، فعل به ما يرضيه عنه.. وكما يكون الرضا المتبادل بين الله وأوليائه، يكون الحب المتبادل بين الله وأحبابه.. «يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» (54: المائدة) .. «أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ» .. أولئك الذين جعلوا ولاءهم لله ولرسول الله، هم حزب الله وأنصاره، وجنده، «أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» ومن كان فى حزب الله، ومع الله، فهو من الفائزين المفلحين.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 845 59: سورة الحشر نزولها: مدنية باتفاق.. عدد آياتها: أربع وعشرون آية.. عدد كلماتها: أربعمائة وخمس وأربعون كلمة.. عدد حروفها: ألف وتسعمائة وثلاثة عشر حرفا.. مناسبتها لما قبلها كان مما تحدثت عنه سورة المجادلة فضح وجوه المنافقين، الذين يتناجون مع اليهود الذين يكيدون للإسلام، ويدبرون معهم ما يكيدون به للمؤمنين.. وقد توعد الله هؤلاء المنافقين بالخزي فى الدنيا، والمذلة والخسران والعذاب الأليم فى الآخرة.. وهنا فى سورة الحشر، يعرض على المنافقين بعض ما لقى أحلافهم وأولياؤهم من اليهود، من خزى، وذلة، ونكال، فى هذه الدنيا.. وإن هذا الخزي والذلة والنكال، ليتربص بهؤلاء المنافقين، إن هم ظلوا على نفاقهم، وسيلحقهم بإخوانهم الذين رأوا بأعينهم ما حلّ بهم.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 846 بسم الله الرحمن الرحيم الآيات: (1- 5) [سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5) التفسير: قوله تعالى: «سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. تبدأ السورة بهذا النشيد القدسي الذي ينتظم الوجود كله، فى سمواته وأرضه، مسبّحا بحمد الله، فى ولاء لعزته، وانقياد لسلطانه. وهذا النشيد، هو تقدمة حمد وشكر لله على ما أخذ به أهل الضلال والفساد من عقاب، فأنزلهم منازل الهون، وضرب على أيديهم الآثمة، التي طالما تطاولت الجزء: 14 ¦ الصفحة: 847 على أولياء الله، وتصافحت على الكيد لهم، وإلحاق الضرر بهم.. فهذه نعمة عظمى تستحق من المؤمنين التسبيح بحمد الله، والشكر له.. وليس المؤمنون وحدهم هم الذين يحمدون الله ويسبحونه، ويذكرون آلاءه على ما أنزل بالمنافقين والكافرين من خزى، وهوان، وعلى ما كتب للمؤمنين من إعزاز وتأييد ونصر- بل إن كل ما فى السموات والأرض يسبح بحمد الله، أن أحق الحق وأزهق الباطل، وأزاح هذه العلة، التي كانت قذّى فى عين الوجود، وسحابة سوداء فى سمائه الصافية.. هذا، وقد ورد التسبيح لله فى القرآن الكريم بالصيغ الثلاث، الدالة على أزمنة الحدث، ماضيا، وحاضرا، ومستقبلا.. فجاء بصيغة الماضي فى قوله تعالى: «سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (الحشر) .. وجاء بصيغة المضارع فى قوله تعالى: «يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» .. (1: الجمعة) وجاء بصيغة الأمر فى قوله تعالى: «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» .. (1: الأعلى) . وفى هذا ما يشير إلى أن جميع آنات الزمن ولحظاته مملوءة بذكر الله، والتسبيح بحمده.. من عوالم الوجود فى السموات والأرض جميعا. فمن لم يسبح اختيارا، سبّح اضطرارا.. «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» . قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 848 اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ» .. أي أن الله سبحانه بعزته وحكمته، هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم، ومكّن للمسلمين منهم، ومن ديارهم.. والذين كفروا من أهل الكتاب هنا، هم جماعة من جماعات اليهود، التي كانت تسكن المدينة، وهم بنو النضير: الذين كان النبي- صلى الله عليه وسلم- حين قدم المدينة، عقد معهم عقدا، على أن يقفوا موقفا حياديّا منه ومن أصحابه، فلا يقاتلوه، ولا يقاتلوا معه.. وقد كانوا من هذا العقد على دخل وخيانة.. وكانوا يتربصون بالنبي والمسلمين الدوائر.. حتى إذا كانت وقعة أحد، ورأوا فيها هزيمة المسلمين، تحركت نوازع الغدر فى صدورهم، فسعى كبيرهم كعب بن الأشرف إلى عقد حلف مع قريش، ضد النبي وأصحابه، وجاء إلى مكة ومعه أشراف قومه، يعرض على قريش أن يدخل معها هو وقومه بنو النضير فى حلف لحرب النبي، وأنه إذا جاءت قريش إلى المدينة، وخرج النبي وأصحابه لحربهم، كان بنو النضير جيشا محاربا مع قريش، يضرب فى ظهور المسلمين، على حين تضرب قريش فى وجوههم.. وقد علم النبي بهذا الذي أحدثه بنو النضير، من نقض العهد، فأمر النبي بقتل كعب بن الأشرف بأمر من الله سبحانه، جاءه به جبريل، عملا بقوله تعالى: «إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ.. ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ» .. (33: المائدة) .. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 849 وكما كان جزاء كعب بن الأشرف- رأس الفتنة- القتل، كان جزاء قومه النفي من الأرض.. والذي تولّى قتل كعب بن الأشرف، بأمر من رسول الله، هو محمد بن مسلمة الأنصاري.. وقوله تعالى: «لِأَوَّلِ الْحَشْرِ» إشارة إلى أن هذا أول إخراج لليهود من ديارهم، وأنه سيكون بعده إخراج لجماعات أخرى منهم.. وقد حدث هذا فعلا، فأخرج بنو قريظة بعد غزوة الأحزاب، وقتل كل من بلغ الحلم منهم، وسبى النساء، والأطفال والشيوخ، ثم أخرج اليهود جميعا من الجزيرة العربية فى عهد عمر بن الخطاب، حيث أجلى البقية الباقية منهم، والتي كانت تعيش فى خيبر.. وسمّى هذا الإجلاء حشرا، لأنه أشبه بالحشر الموعود يوم القيامة، حيث وقع عن قهر، ولم يقع عن رغبة منهم.. ثم إنه كان إجلاء عامّا، لم يدع أحدا منهم، كما لم يدع حشر القيامة أحدا ممن فى القبور.. ثم إنه من جهة ثالثة كان جماعيّا فوريّا، وليس جماعة جماعة، وزمنا بعد زمن.. فالحشر: يشير إلى القوة الضاغطة الحاشرة، التي تسوق المحشورين سوقا عنيفا، وتجمع أشتاتهم فى دائرة واحدة، وتقيمهم على وجه واحد.. فهو والحشد بمعنى، ومنه قوله تعالى: «فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ» (53: الشعراء) وقوله تعالى: «فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا» .. أي فطلع عليهم قدر الله فيهم من حيث لم يقدّروا، فقد كانوا يحسبون أنهم من حصونهم فى أمن من كل يد تنالهم، وخاصة يد النبي والمسلمين الذين كانوا يرون أنهم لن ينالوا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 850 منهم منالا أبدا، وهم فى داخل هذه الحصون التي لا تنال.. فكان من تقدير الحكيم العليم أن يبطل حساب هؤلاء الأشقياء، ويفسد تدبيرهم، ويختل تقديرهم، فيكون النبي وأصحابه هم الذين تتداعى بين أيديهم هذه الحصون، ويخرج منها القوم كما تخرج الفئران من أجحارها، وقد أغرقها السيل الجارف!! وقوله تعالى: «وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ» إشارة إلى ما كان من تدبير الله سبحانه وتعالى، لإبطال عمل هذه الحصون، فقد قذف الله سبحانه الرعب والفزع الشديد فى قلوب المتحصنين بها، فبدت لهم هذه الحصون الحصينة وكأنها بيوت من زجاج أو ورق، فلم يكن منهم حين رأوا المؤمنين يحاصرونهم إلّا أن يستسلموا من غير قتال، أو اعتداد بتلك الحصون.. وقوله تعالى: «يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ» - أي أن هذه الحصون التي كانت بمكان الإعزاز والإعجاب من نفوسهم، قد هانت عليهم، وخفت موازينها فى أعينهم، بعد أن رأوا- بما امتلأت به قلوبهم من رعب- أنها لا تردّ عنهم عدوا، ولا تدفع مغيرا، فأخذوا يخربونها بأيديهم، ويفتحون معاقلها للمسلمين، كما تركوا للمسلمين أن يدخلوها عليهم، وأن يفتحوا مغالقها، ويطلعوا على مسالكها.. وهذا هو معنى خرابها، الذي يبدو فى تعطيلها، وتعطيل وظيفتها التي أعدت لها.. ومنه قوله تعالى: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها» (114: البقرة) وقوله تعالى: «فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ» - هو إلفات إلى هذا الحدث، وما فيه من دلالات على قدرة الله سبحانه، وعلى تدبيره المحكم الذي لا يغالب، وهذا ما لا يراه إلا أصحاب الأبصار النافذة إلى حقائق الأمور، وإلى مواقع العبرة والعظة منها.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 851 قوله تعالى: «وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ» أي أن هؤلاء القوم الذي كتب الله عليهم الجلاء، وقضى عليهم به- لو نظروا إلى المستقبل القريب، ورأوا ما سوف يحلّ بإخوانهم من بنى قريظة، من قتل، إذن لحمدوا الله وشكروا له، أن كان الجلاء هو الجزاء الذي أخذوا به، فأجلوا عن المدينة، فكان بعضهم فى خيبر، وبعضهم فى الشام. وهذا يعنى أن اليهود فى الجزيرة العربية كانوا يومئذ بين أمرين من أمر الله: إما الجلاء، وإما القتل والسبي.. وأن أحسنهم حظّا من كتب عليهم الجلاء.. وفى هذا إرهاص بالبقية الباقية من اليهود فى المدينة، وأنهم إذا لم يجلوا عنها، عذّبوا فى الدنيا بالقتل وبالسبي.. أما فى الآخرة فلهم جميعا عذاب النار.. وهذا العذاب الأخروى ليهود الجزيرة العربية، إنما هو لكفرهم برسول الله، بعد علمهم بدعوته، والوقوف على معطيات رسالته، وشهودهم شواهد الإعجاز منها.. ولهذا، كان أهل الكتاب- من اليهود والنصارى- الذين بلغتهم الرسالة النبوية- كانوا يخاطبون فى القرآن الكريم على أنهم كافرون، كما يقول سبحانه: «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ» (1: 3 البينة) ومن هذا قوله تعالى: «يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ» (70: آل عمران) قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» الجزء: 14 ¦ الصفحة: 852 هو بيان للسبب الذي من أجله أنزل الله سبحانه ما أنزل من بلاء فى الدنيا، وما أعد من عذاب فى الآخرة- لهؤلاء القوم من بنى النضير، ومن على شاكلتهم.. إنهم شاقّوا الله ورسوله، أي كانوا على شقاق وخلاف لله ولرسوله.. وإنه ليس لمن يشاقّ الله، ويحيد عن صراطه المستقيم إلا أن يلقى العذاب الشديد من الله.. «فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» لمن يشاقه، ويشاق رسوله. هذا، وقد جاء التعليل للعذاب جامعا بين مشاقة الله ومشاقة رسوله فى قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» .. ثم جاء الشرط الموجب للعذاب، بمشاقة الله وحده، دون رسوله فى قوله تعالى: «وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» .. وذلك للإشارة إلى أن مشاقة الرسول، هى مشاقة لله، سواء بسواء، إذ كان الرسول هو رسول الله، وكلماته التي يتلوها على الناس، هى كلمات الله.. فذكر الرسول مع الله، أولا، ثم الاكتفاء بذكر الله وحده ثانيا- هو تأكيد لهذا المعنى، وإقامته على التسوية بين مخالفة الله ومخالفة رسوله.. وكما يكون هذا فى المعصية والخلاف، يكون فى الطاعة والولاء.. كما يقول سبحانه: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ» (80: النساء) .. قوله تعالى: «ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ» الجزء: 14 ¦ الصفحة: 853 اللينة: النخلة، وهى من اللّين، الذي يدل على الرخاء والنعمة، ولين العيش، إذ كانت النخلة نعمة طيبة، ورزقا كريما لأهل البادية، فأطلقوا عليها هذا الاسم، احتفاء بها، وإشارة بفضلها، كما سموا الخيل خيرا، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى على لسان سليمان عليه السلام. «فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي» (32: ص) .. يريد الخيل. والخطاب هنا للمسلمين الذين حاصروا بنى النضير، الذين تحصنوا بحصونهم وأبوا أن يستسلموا، فاتجه المسلمون إلى قطع نخيلهم التي كانت تحيط بديارهم.. فلما استسلموا للمسلمين بعد هذا، وقع فى نفوس بعض المسلمين ندم على أنهم قطعوا هذا النخل الذي صار إلى أيديهم، فجاء قوله تعالى هنا، مسرّيا عن المسلمين ومعزيا لهم فى هذا الخير الذي فاتهم.. فما قطع من النخيل، أو بقي منه، فهو بما قضى به الله سبحانه وتعالى وإذن فلا يأس المسلمون على مافاتهم.. إذ كان ذلك عن إرادة الله سبحانه، وعن إذن منه.. ثم إنه لكى يرضى المسلمون بهذا القضاء، وليروا وجه الحكمة منه، فليعلموا أن ذلك إنما كان ليخزى الله به هؤلاء الفاسقين، وليذلّهم، وليريهم أن ما غرسوه بأيديهم، وبذلوا له جهدهم وأموالهم، قد استبدّت به يد المسلمين، وحصدته يد المنايا كما يحصد الموت أبناءهم بين أيديهم، دون أن يملكوا لذلك دفعا.. وفى هذا ما فيه من إذلال لهم، ومضاعفة للحسرة فى قلوبهم.. فإذا كان المسلمون قد خسروا شيئا من هذا الرزق الطيب، فهو إنما هو الثمن الذي أدّوه لخزى أعدائهم وكتبهم، تماما كما يؤدّون مثل هذا الثمن بمن يقتل منهم فى ميدان القتال، لقاء النصر على العدو!. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 854 الآيات: (6- 10) [سورة الحشر (59) : الآيات 6 الى 10] وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10) التفسير: قوله تعالى: «وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 855 وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .. الفيء لغة: ما نسخته الشمس من الظل.. والأصل فيه الرجوع إلى الشيء المتروك، ومنه قوله تعالى: «فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (226: البقرة) .. والفيء: شرعا ما أفاء الله على المجاهدين من أموال الكافرين من غير قتال.. وفى هذا إشارة إلى أن ما فى أيدى الكافرين من أموال، هى فى حقيقتها أموال المؤمنين، إذ كانوا هم أولى بها، وأعرف بحق الله والعباد فيها.. فلما أخذها المؤمنون من أيدى الكافرين، أصبحت وكأنها فاءت، أي عادت إلى أهلها الذين هم أحق بها.. وقوله تعالى: «وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ.. فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ» أي والذي أفاءه الله على رسوله من أموال بنى النضير، فإنكم- أيها المؤمنون- لم تسيّروا إليه خيلا ولا إبلا، ولم تقاتلوا عليه، إذ كان القوم قريبا منكم فمشيتم إليهم بأقدامكم من غير خيل أو إبل، وقد استسلموا لكم من غير قتال.. والوجيف: ضرب من السير السريع، فيه اضطراب للركاب من حركة عدو الحيوان الذي يركبه.. ومنه وجيف القلوب، أي اضطرابها، ومثل هذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ» . (8: النازعات) .. وهذا الخبر يشير إلى أمرين: أولهما: أنه ليس للمؤمنين أن يحزنوا على ما قطعوا من نخل.. فإن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 856 ما بقي، فيه رضىّ لهم، كما أن فيما ترك القوم من ديار ومتاع، عوضا من هذا النخل الذي قطع.. وخاصة أن ما وقع لأيديهم قد جاءهم صفوا عفوا لم يوجفوا عليه بخيل ولا إبل، ولم يقاتلوا فى سبيله. وثانيهما: أن هذا المال، الذي لم يقاتل عليه المسلمون، لا ينطبق عليه حكم الغنائم، التي يكون لله وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، خمس ما غنموا، ويكون للمقاتلين أربعة الأخماس الباقية- فهذا المال الذي لم يقاتل عليه المسلمون، لا يقع تحت هذا الحكم، وإنما هو كله لله وللرسول، ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.. أي أنه يكون فى يد الرسول، أو يد ولىّ الأمر القائم على المسلمين، ينفقه فى هذه الوجوه. قوله تعالى: «وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ» أي أن هذا النصر الذي وضعه الله بين أيديكم، هو من عند الله، لم تعملوا له بخيل ولا إبل، ولم تنالوه بقوة السلاح، ولكنه أتاكم بتأييد من الله سبحانه لرسوله، وتمكين لكم من السلطان والغلب على من يشاء من عباده.. فهكذا يؤيد الله سبحانه وتعالى رسله، وينصرهم، ويجعل لهم سلطانا على الناس، بما يضع فى أيديهم من معجزات، وبما يمدهم به من جنود لا يعلمها إلا هو، تحارب معهم، وتلقى الرعب فى قلوب أعدائهم.. فقوله تعالى: «يُسَلِّطُ رُسُلَهُ» أي يجعل لهم سلطانا.. فالتسلط هنا من السلطان، ومن هذا قوله تعالى: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ» (96: هود) .. أي تسلط على فرعون، وقهر له. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 857 قوله تعالى: «ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» هذه الآية معطوفة على الآية السابقة، ومقررة للحكم الضمنى، الذي أشار إليه قوله تعالى: «فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ» .. كما أنها تشير إلى إلحاق قرّى أخرى بهذه القرية، كما سيحدث ذلك لبنى قريظة.. فهذا الفيء الذي يفيئه الله على رسوله من أهل قرى اليهود، لا يقع تحت حكم الغنائم، وإنما هو كله فى يد الرسول، يضعه فى هذه المصارف التي أشارت إليها الآية الكريمة، والتي ستشير إليها الآيات التالية بعد ذلك.. وقوله تعالى: «كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ» هو تعليل لحكم التصرف فى الفيء، وأنه إنما جرى عليه هذا الحكم حتى ينال الفقراء والمساكين حظهم منه، وحتى لا ينتقل من يد الذين يملكون إلى يد الذين يملكون، فيصبح دولة بينهم، أي متداولا بين الأغنياء، على حين يظل الفقراء على فقرهم، ويقيم المحرومون على حرمانهم!! قوله تعالى: «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» هو إلفات للمؤمنين إلى ما ينبغى لهم من ولاء وطاعة للرسول، وتقبّل ورضىّ، بكل ما يقضى به النبىّ فى المؤمنين، وخاصة وهم فى مواجهة هذه الفتنة المطلة عليهم من المال الذي وضعه الله فى يد الرسول.. فهناك كثير من الأعين ترنو إلى هذا المال، وكثير من القلوب تتلفت إليه، وإنه لن يعصم المسلم- من هذه الفتنة، إلا الإيمان الوثيق، والرضا المطلق، بكل ما يقضى به الرسول: «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 858 عَنْهُ فَانْتَهُوا» .. فهذا هو حقّ الرسول على المؤمنين: الامتثال والطاعة من غير مراجعة، ولا توقف، أو ريبة.. وقوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» .. وعيد لمن تحدثه نفسه من المؤمنين بالخروج عن أمر الرسول، أو الضّيق به، فإن ذلك معناه الكفر، والانسلاخ من الإيمان.. وليس للكافرين إلا النار، هى حسبهم، وبئس المصير.. قوله تعالى. «لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» هو معطوف عطف بيان على قوله تعالى: «فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» أي أن هذا الذي أفاءه الله على رسوله من أهل القرى، هو لله ولرسوله، ولذى القربى للرسول، ولليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وللفقراء المهاجرين، الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله.. فكأنّ ما لله ولرسوله ولذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، هم هؤلاء المهاجرون الفقراء الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، وكأن هذا الفيء الذي أفاءه الله على الرسول هو من أجل هؤلاء المهاجرين الفقراء، ليكون مواساة لهم فى هذه الغربة، التي اختاروها ابتغاء مرضاة الله، وآثروا بها دينهم على أهليهم وأموالهم.. وقوله تعالى: «يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً» جملة حالية، تكشف عن الحال التي تلبّس بها هؤلاء المهاجرون، حين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، وأنهم حين أخرجوا كانوا على حال يبتغون بها فضل الله ورضوانه، وينصرون الله ورسوله، ولم يكن إخراجهم عن حال أخرى تدعوا قومهم إلى إخراجهم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 859 من بينهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ» (40: الحج) ويجوز أن يكون قوله تعالى: «لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ» .. جوابا عن سؤال يتردد فى خاطر النبي الكريم، بعد أن وضع الله سبحانه هذا الفيء بين يديه، وجعل ينظر فيما حوله إلى الفقراء الذين دعاه الله سبحانه إلى إعطائهم نصيبا من هذا الفيء.. فالفقراء كثيرون، فإلى من من هؤلاء الفقراء يمدّ يده بالعطاء؟ فكان جواب الله سبحانه وتعالى: «لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ ... الآية» وفى إسناد فعل الخروج «أخرجوا» إلى غير الفاعل، إشارة إلى أنهم لم يخرجوا عن رغبة منهم فى الخروج، وإنما أخرجوا إخراجا بيد القهر والعدوان.. وقوله تعالى: «أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» هو تنويه بشأن هؤلاء المهاجرين الأولين، وأنهم إنما كانت هجرتهم لله ولرسوله، لا لابتغاء مغنم من مغانم الدنيا، أو متاع من متاعها! قوله تعالى: «وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ» : هم الأنصار الذين استقبلوا المهاجرين فى مدينتهم، وهم الذين تبوءوا دار الهجرة، أي كانوا أهلها وسكانها قبل المهاجرين، وهم الذين تبوءوا الإيمان أي دخلوا فيه، وسكنوا إليه، واستظلوا بظله، قبل كثير من المهاجرين، لاكلّ المهاجرين.. وإنما عبر عن هذه الكثرة بما يفيد العموم فى قوله تعالى: «تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ» - تنويها بفضل الأنصار، وتغليبا لكثرة المؤمنين منهم على كثرة من آمن من أهل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 860 مكة قبل الهجرة.. «وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا» أي ولا يجد الأنصار فى صدورهم شيئا من الضيق، أو الألم، أو الغيرة، لما أخذ المهاجرون من غنائم بنى النضير.. فقد جعل الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- ما أفاءه الله عليه من تلك الغنائم- جعلها فى فقراء المهاجرين، ولم يعط الأنصار منها شيئا، إلا ثلاثة نفر منهم كانوا على حال ظاهرة من الفقر.. وبهذا العطاء الذي ناله المهاجرون خفّ العبء عن الأنصار الذين كانوا يقاسمون إخوانهم المهاجرين ديارهم وأموالهم.. «وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ» الإيثار: هو تقديم حاجة الغير على حاجة النفس، سخاء وتفضلا.. وهذا لا يكون إلا من نفوس مهيأة للتضحية.. والإيثار: ضد الأثرة، وهى حب النفس حبّا يعميها عن كل شىء، فلا يرى المرء إلا ذاته، ولا يعمل إلا من خلال هذه الذات، وما يحقق لها من نفع ذاتى لا يشاركها فيه أحد.. والخصاصة: الحاجة، والفقر الذي يعجز الإنسان عن إدراك الضروري من مطالب الحياة.. أي أن هؤلاء الأنصار، من طبيعتهم السماحة والبذل، وإيثار إخوانهم المهاجرين على أنفسهم، والنزول لهم عن الطيب الأكثر مما فى أيديهم، مع حاجتهم إليه.. وهذا هو الفضل على تمامه وكماله، حيث يجىء عن حاجة، ولا يجىء عن غنّى وسعة.. وإذن فهم لا يجدون فى صدورهم حاجة من الحسد لما أصاب إخوانهم من خير، بل إنهم ليجدون فى هذا سعادة ورضى لهم.. فإن النفوس الطيبة الكريمة ليسعدها أن تجد الخير يغمر الحياة، ويعمر البيوت، ويشيع فى الناس الغبطة والرضا.. أما النفوس اللئيمة الخبيثة، فإنه يزعجها ويسوءها أن ترى خيرا يصيب أي أحد من الناس، ولو كان من أقرب المقربين إليها.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 861 «وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «يوق» : أي يحفظ، ويحمى وشح النفس، بخلها، وحرصها. وفى التعبير عن السلامة من شح النفس وبخلها وحرصها، بلفظ الوقاية منه- للإشارة إلى أن الشح عدو راصد، يتربص بالنفس الإنسانية فى أية لحظة يغفل فيها الإنسان عن حراسة نفسه منه، فإذا غفل الإنسان عن هذا العدو دخل على نفسه، واستولى عليها.. قوله تعالى: «وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» الذين جاءوا من بعدهم، هم المؤمنون الذين يجيئون من بعد المهاجرين والأنصار، فى مختلف الأزمان والأوطان.. فالمؤمنون جميعا كيان واحد، وأنه إذا كان للمهاجرين والأنصار وضع خاص فى الإسلام، ومنزلة عالية فى المسلمين- فليس ذلك بالذي يعزلهم عن المؤمنين فى أي زمان ومكان، وليس ذلك بالذي يعزل أي مؤمن عنهم.. فالمؤمنون جميعا إخوة فى الله، ومجتمع واحد فى دين الله.. على امتداد الأزمان والأوطان. والآية معطوفة على الآية السابقة: «وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ» والتي هى معطوفة على قوله تعالى: «أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» أي كما أن المهاجرين الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله- هم الصادقون فى إيمانهم، فكذلك مثلهم فى صدق الإيمان، الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم، وهم الأنصار.. وكذلك مثل هؤلاء وأولئك، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 862 الذين جاءوا من بعدهم من المؤمنين، وسلكوا سبيلهم، وامتلأت قلوبهم بهذه العواطف والمشاعر من الحب والإخاء والمودة للمؤمنين جميعا.. وأنه إذا كانت هجرة المهاجرين إلى الأنصار قد جمعت بين المهاجرين والأنصار على الحب والمودة والإخاء، فجعلت منهم تلك الهجرة أسرة واحدة، يقتسم أفرادها السراء والضراء فيما بينهم- إذا كانت الهجرة قد عقدت بين المؤمنين هذا العقد الموثّق- فإنه ليس من الضروري أن تكون هناك هجرة كتلك الهجرة، حتى ينتظم المؤمن فى هذا العقد، ويأخذ مكانه فيه، بل إنه من الممكن دائما وفى أي زمان ومكان، أن يهاجر المؤمن بقلبه ومشاعره إلى إخوانه المؤمنين، وإنه لمن الممكن دائما وفى كل زمان ومكان، أن يجعل المؤمن قلبه ومشاعره مهاجرا إلى المؤمنين، فإذا هاجر إليهم، وجد فى ظلهم الحب والرحمة والإخاء، وإذا هاجروا إليه نزلوا من قلبه، ومشاعره منزل الإعزاز والإكرام.. وبهذا يستطيع المؤمن أن يجمع بين الهجرة والنّصرة، فيكون من المهاجرين، ويكون من الأنصار.. وذلك إنما يكون حين يفتح قلبه، لكل مؤمن، ويخلط مشاعره بكل مؤمن.. فإن كان فقيرا، وجد لفقره عندهم غنى وإن كان ضعيفا وجد لضعفه فيهم قوة.. وإن كان غنيّا، وجد فقيرهم من غناه، غنىّ، وإن كان قويا وجد ضعيفهم من قوته قوة.. فهذا هو المؤمن، الذي يدخل مع المؤمنين الداخلين فى قوله تعالى: «أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» .. وفى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ» إشارة إلى تلك الوسيلة التي يتوسل بها المؤمنون اللاحقون، إلى أن ينتظموا فى سلك المؤمنين من المهاجرين والأنصار.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 863 ذلك أنه إذ لم تكن هناك هجرة بعد الفتح، كما يقول الرسول الكريم: «لا هجرة بعد الفتح ولكن نيّة وجهاد» - فإنه بهذه المشاعر التي يرتبط بها المسلم بالمسلمين جميعا، وبهذا الدعاء الذي يدعو به، لإخوانه الذين سبقوه بالإيمان- بهذه المشاعر، وبهذا الدعاء، يكون قد بذل من ذاته شيئا، وقدّم لإخوانه خيرا، واقتسم معهم ما يدعو الله به من رحمة ومغفرة، وبهذا أيضا يكون أشبه بالأنصار الذين آووا المهاجرين، واقتسموا معهم أموالهم وديارهم.. وفى قوله تعالى: «وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا» - إشارة أخرى إلى أنه إذا لم يكن من المؤمن وصلة من مال أو دعاء بخير، يصل به إخوانه المؤمنين، فلا أفلّ من أن يخلى قلبه من الغلّ، والحسد، والحقد والبغضة، لإخوانه المؤمنين.. فإذا لم يستطع أن يوصّل إليهم شيئا من الخير، فليمسك يده ولسانه، عن أي شر أو أذّى، يلحق بمسلم من جهته!. وهذا ما يشير إليه الحديث الشريف: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» .. وفى جعل الغلّ فى القلوب، إشارة إلى أن القلوب هى مستودع المشاعر، من حب أو بغض، ومن مودة أو جفاء.. وأن هذه المشاعر هى التي تتولد منها الأقوال والأفعال، ولهذا كان على المرء أن يحرس نفسه من الوساوس والخواطر السيئة، ولا يدع لها فرصة كى تتمكن منه، وتستقر فى وجدانه، فإنها إن تمكنت منه، واستقرت فى كيانه، كانت قوة عاملة فى توجيه سلوكه، وتشكيل أعماله.. وأصل الغلّ، من الغلة والغليل، وهو ما يجده الإنسان فى داخله من حرارة العطش، ومعناه هنا: العداوة والحقد، حيث تغلى الصدور، وتحترق القلوب بنار الحقد والعداوة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 864 وفى قوله تعالى: «رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» استدعاء لهاتين الصفتين الكريمتين من صفات الله سبحانه وتعالى، وهما الرأفة والرحمة ليستشعر بهما المؤمن مشاعر الرأفة والرحمة بإخوانه المؤمنين، فيؤثرهم ببعض ما عنده من خير، رأفة ورحمة بهم.. الآيات: (11- 17) [سورة الحشر (59) : الآيات 11 الى 17] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17) التفسير: قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 865 الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» .. مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة كانت عرضا لإيمان المؤمنين وولاء بعضهم لبعض، وإيثار بعضهم بعضا، فى مشهد ومغيب، وفى حاضر، وماض، وآت.. إنهم جميعا أمة واحدة، وكيان واحد، يجمعه الإيمان، ويوحد بينه التوحيد- فجاءت هذه الآية وما بعدها لتكشف عن وجه أهل الضلال والنفاق، وعن الروابط الزائقة الواهية التي تربط بعضهم ببعض.. ففى قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ» .. فضح لهذا العهد الكاذب الذي قطعه المنافقون، للذين كفروا من أهل الكتاب، وهم اليهود الذين ما زالوا فى المدينة كبنى قريظة، وبنى قينقاع، وبنى النضير الذي أجلاهم النبي عن المدينة، كما أشارت إلى ذلك الآيات فى أول السورة.. والمنافقون، هم جماعة عبد الله بن أبى بن سلول، ومن انضوى إليه من أهل الضلال.. وهؤلاء المنافقون، كانوا قد بعثوا إلى اليهود بعد جلاء بنى النضير ألّا يستسلموا أبدا للنبى، وألا يخرجوا من ديارهم، وأنهم، - أي المنافقين- يد واحدة معهم على النبي والمسلمين، وأنه إذا اضطر هؤلاء اليهود يوما إلى الخروج، خرج هؤلاء المنافقون معهم، وأبوا أن يسمعوا لقومهم إذا دعوهم إلى البقاء معهم.. وهذا يعنى أنهم معهم أينما كانوا، فإذا كان خروج من المدينة خرجوا معهم منها، وإن كان قتال قاتلوا معهم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 866 وقدّم الإخراج على القتال، مع أن القتال هو الذي ينبغى أن يكون أولا، حتى إذا غلبوا على أمرهم أخرجوا- وذلك ليكشف عما فى عهد هؤلاء المنافقين من كذب ونفاق.. فهم لو كانوا على ولاء حقا مع إخوانهم هؤلاء، لحرضوهم على القتال، ولقالوا لهم: ها نحن أولاء معكم بأسلحتنا إذا وقع بينكم وبين محمدا قتال.. ولكنهم جاءوا إليهم أولا بالأمر الذي لا يكلفهم شيئا أكثر من مجرد الكلام، وما أكثر الكلام، وما أرخصه فى سوق المنافقين!! فبذلوا لهم القول فى سخاء، وبلا حساب، قائلين: «لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً!!» .. ثم رأوا أن هذا القول الذي ألقوا به إلى أسماع إخوانهم الذين كفروا، هو مجرد كلمة عزاء، إذ ماذا يغنى القوم إن أخرجوا من ديارهم وأموالهم أن يخرج معهم المنافقون أو لا يخرجوا؟ وهنا يتنبه المنافقون حين نظروا فى وجه هذا الكلام الذي ألقوا به إلى القوم، وحين رأوا أن القوم لم يمسكوا بشىء منه، وأنهم قد أخرجوا من ديارهم، أو هم على طريق الإخراج من الديار.. حين رأى المنافقون ذلك ألقوا إليهم بهذه القولة الزائفة المنافقة أيضا: «وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ!» .. ولكن كان ذلك بعد فوات الأوان، وبعد أن فضح كذبهم ونفاقهم بقولهم أول الأمر: «لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ» .. ولهذا جاء قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» تعقيبا على هذه الوعود الكاذبة التي يبذلها المنافقون لإخوانهم من بنى النضير.. وهو معطوف على محذوف تقديره إن هذا القول يشهد بكذب المنافقين الجزء: 14 ¦ الصفحة: 867 وينادى عليهم بأنهم كاذبون، والله يصدق هذه الشهادة، ويشهد بأنهم لكاذبون.. وفى قوله تعالى: «يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» - إشارة إلى هذه الأخوة التي يجمعهم عليها هذا النسب، من الكفر، والضلال.. وهذه جملة حالية، تمثل الحال التي عليها هؤلاء المنافقون، وقد دعى النبي إلى النظر إليهم وهم على تلك الحال التي يقولون فيها لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب ما يقولون.. أي انظر إليهم وهم فى تلك الحال التي يقولون فيها هذا القول الكاذب المنافق.. وقوله تعالى: «لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ» .. هو بيان لما أشار إليه قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» .. ومن كذبهم أنهم لن يكون منهم وفاء بهذا العهد الذي عاهدوا عليه القوم.. فلو أخرج حلفاؤهم ما خرجوا معهم، ولو قوتلوا ما قاتلوا إلى جانبهم ولو قاتلوا إلى جانبهم لما صبروا على القتال، ولما ثبتوا فى ميدان المعركة، لأنهم إنما يقاتلون بأجسامهم، لا بقلوبهم.. فإذا اشتد البأس ولوا الأدبار، وكانت الدائرة عليهم وعلى حلفائهم.. وقد جاء هذا الخبر مؤكدا بالقسم من الله سبحانه وتعالى، وما يخبر به الله سبحانه، لا يحتاج فى الدلالة على صدقه، إلى توكيد، ولكن هذا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 868 الخبر يواجه المنافقين الذين لا يقدرون الله حق قدره، فكان توكيده إشارة إلى ما فى قلوبهم من مرض، وأن أخبار الله سبحانه تقع من نفوسهم موقع الشك والارتياب. وهذه الآيات من أنباء الغيب، التي كشفت الأيام فيما بعد عن تأويلها على الوجه الذي أخبرت به، والتي سجل بها التاريخ معجزة ناطقة بأن هذا القرآن من لدن عليم خبير.. فلقد نزلت هذه الآيات عقب إجلاء بنى النضير، ولم يكن هناك ما يشير إلى أن شيئا ما سيحدث بين النبي وبين من بقي من اليهود فى المدينة، وأنه إن حدث شىء فلم يكن أحد يتصور الصورة التي سيكون عليها.. وقد قلنا إن فى قوله تعالى فى أول السورة: «هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ» - إرهاصا بأن هذا الحشر الذي بدىء به بإخراج بنى النضير، سيتبعه مثله من الحشر، لغيرهم من إخوانهم اليهود.. ولكن ما فى هذه الآيات لم يكن مجرد إرهاص، وإنما كان عرضا لأحداث تجرى، وإخبارا مسبّقه بما ستتمخض عنه هذه الأحداث من وقائع محددة، كأنها قد وقعت فعلا.. ففى الوقت الذي نزلت فيه هذه الآيات، كان المنافقون- وعلى رأسهم عبد الله بن أبى بن سلول- قد مشوا إلى بنى قريظة وغيرهم من يهود المدينة، وأنذروهم بما يمكن أن يفعل بهم محمد، كما فعل ببني النضير، وأعطوهم هذا العهد بأنهم لن يقفوا معهم هذا الموقف الذي وقفوه من بنى النضير، والذي أخذوا فيه على غرّة، دون أن تكون هناك فسحة من الجزء: 14 ¦ الصفحة: 869 الوقت، يدبرون فيها أمرهم، ويأخذون له العدة.. أما الآن، فإن فى الوقت متسعا، وإن عليهم جميعا أن يأخذوا حذرهم، وأن يستعدوا لما يمكن أن تأنى به الأيام بينهم وبين محمد.. ولقد جاءت الأيام بما ينطق بصدق آيات الله، وبما يخزى اليهود ويذلّهم ويفضح نفاق المنافقين وكذبهم. فلقد أخرج بنو قريظة وما خرج المنافقون معهم، وما قام أحد من هؤلاء المنافقين لينصرهم، وليدفع يد النبي والمسلمين عنهم، وقد قتل رجالهم، وسبى نساءهم وأطفالهم.. قوله تعالى: «لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» . أي إنكم أيها المؤمنون أشد رهبة، وخشية فى صدور هؤلاء المنافقين، وإخوانهم اليهود- أشد رهبة وتخويفا لهم من الله.. إنهم جميعا يخافونكم ويخشون بأسكم، ولا يخافون الله، ولا يخشون بأسه.. وذلك لأنهم قوم لا يفقهون، أي فى غباء وجهل، ولو فقهوا لعلموا أن الله سبحانه هو أولى بأن يخاف منه، ويخشى من الاعتداء على حرماته.. إنهم لا يؤمنون بالله، ولا يعلمون ماله سبحانه من علم وقدرة، فهم لهذا، لا يستحضرون عظمة الله، ولا يشهدون وجوده، وإنما الذي يشهدونه هو الذي يرونه رأى العين، والذي تتمثل لهم شخوصه.. فهم لهذا يخشون الناس، ولا يخشون الله!. قوله تعالى: «لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 870 بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ» .. هو بيان لقوله تعالى: «لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ» .. أي أن هؤلاء اليهود لما ركبهم من جهل، قد نزلوا إلى مرتبة الحيوان الذي لا يخاف إلا اليد التي تمسك بالسوط يلهب ظهره.. فهم لهذا أجين الناس، وأحرصهم على الحياة. لا يواجهون الأخطار، ولا يقدمون على لقاء عدوهم إلا مخالسة، وقد تحصنوا فى أجحارهم، واختفوا وراء الجدران، شأنهم فى هذا شأن الحيات التي تتحصن فى أجحارها، ترصد أعداءها من داخلها، فإذا رأت فرصة سانحة فى عدو لها أطلت برأسها، ثم نفثت فيه سمومها، وعادت سريعا تدفن نفسها فى جحرها.. والصورة تمثل حال اليهود فى كل زمان.. إنهم لا يقاتلون أبدا فى ميدان حرب، إلا إذا كانوا متحصنين فى حصون يضمنون معها ألا ينال العدوّ منهم شيئا.. ولهذا قامت قراهم قديما وحديثا على نظام الحصون، بحيث إذا دهمهم عدوّ دخلوا هذه الحصون، واحتموا بها، وعاشوا فيها زمنا، بما جلبوا إليها من سلاح ومتاع.. حتى ييئس العدوّ منهم، إذا طال الحصار، أو يجدوا سبيلا إلى إيقاع الفتنة فى صفوفه.. فإن لم يكن هذا أو ذاك، كانت أمامهم فرصة لشراأ أنفسهم من عدوهم، بالمال أو بأى ثمن بطلبه منهم.. هكذا اليهود قديما وحديثا.. ونحن نشهد اليوم فى حربهم معنا، أنهم لم يخرجوا للقتال إلا وقد اتخذوا من عدد الحرب حصونا تحميهم من القتل، وتدخل فى قلوبهم الطمأنينة إلى أنهم فى مأمن من أن ينال العدوّ منهم! .. إنهم لا يحاربون، ولكن الأسلحة التي مكناهم الأمريكان منها، هى التي تحارب.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 871 ولهذا جاء قوله تعالى: «لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً» جامعا بين اليهود جميعا، فى كل زمان ومكان، على تلك الصفة التي وصفهم الله سبحانه بها، وأنهم لا يقاتلون إلا فى قرى محصنة أو من وراء جدر.. كذلك كان سلفهم، وكذلك يكون خلفهم.. قوله تعالى: «بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ» - إشارة إلى حال اليهود فيما بينهم، وأنهم أشد الناس شراسة، وأقساهم قلبا، وأقدرهم على الفتك، حيث يقاتل بعضهم بعضا، ويفتك بعضهم ببعض.. إنهم حينئذ يكونون أشبه بالحيات ينهش بعضها بعضا، ويفتك بعضها ببعض، فهى أعلم بمواطن الضعف فى أبناء جنسها، وهى لهذا أشد جسارة، وأكثر إقداما من غيرها على هذا نفث السمّ الكامن فيها.. وقوله تعالى: «تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى» .. أي تبدو حال هؤلاء اليهود فى ظاهرها، أنهم جمع واحد، ويد واحدة.. هكذا هم فيما يضمهم من مكان.. أما قلوبهم فهى أشتات موزعة، تذهب فى أودية مختلفة، كل قلب منها يذهب فى واد غير الذي يذهب فيه صاحبه.. وهذا يعنى أن كل واحد منهم إنما ينظر إلى نفسه، وبهم بسلامتها قبل كل شىء.. لا يعنيه أن يسلم أصحابه أو يعطبوا.. إنهم فى ساعة الخطر أشبه بالغنم يهجم عليها ذئب، فتتطاير هنا وهناك كما يتطاير الشرر.. وقوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ» .. أي لا عقل لهم، ولو عقلوا لعلموا أن السلامة فى اجتماعهم عند الخطر، وفى لقائهم له كيانا واحدا، وأن تفرقهم هو الذي يجعل يد الخطر مبسوطة عليهم متمكنة منهم جميعا.. فهم فى هذا الفرار الذي يطلب به كل واحد منهم السلامة لنفسه، إنما يردون به موارد الهلكة جميعا.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 872 ولهذا جاء وصفهم هنا «بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ» على حين جاء وصفهم فى مقام خوفهم من الناس أشد من خوفهم من الله: «بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ» .. إذ كان العقل- مجرد العقل- كاف فى تقدير السلامة من الخطر، وأن السلامة رهن بالاجتماع لا بالتفرق، حتى إن بعض الحيوانات لتهتدى إلى هذا بغريزتها، فإذا واجهها خطر واجهته جبهة واحدة، لم يفر منها أحد.. أما فى مقام الخشية لله، فإنها لا تكون عن عقل- مجرد عقل- بل لا بد من عقل، معه فقه وعلم.. قوله تعالى: «كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» .. أي سيكون مثل هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب- وهم بنو قريظة- سيكون مثلهم مثل الذين من قبلهم قريبا، وهم بنو النضير الذين لم يمض زمن بعيد على ما وقع لهم، وأن بنى قريظة سيذوقون مثل ما ذاق بنو النضير من خزى وهوان، بل ولهم فوق هذا «عَذابٌ أَلِيمٌ» وهو القتل والسبي، اللذان نجا منهما بنو النضير الذين كان حكم الله فيهم هو الجلاء، كما يقول سبحانه. «وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ» . وفى قوله تعالى: «قريبا» إشارة إلى قرب الزمن بين إجلاء بنى النضير وبين ما سينزل ببني قريظة.. وذلك أن ما حل ببني قريظة من قتل وسبى كان بعد غزوة الأحزاب، حيث إنه ما كاد الحصار الذي ضربه المشركون على المدينة حول الخندق- ما كاد هذا الحصار ينتهى، وينقلب المشركون مدحورين خائبين- حتى دعا النبي- صلوات الله وسلامه عليه- أصحابه إلى حرب الجزء: 14 ¦ الصفحة: 873 بنى قريظة، قائلا: «من كان سامعا مطيعا فلا يصلّينّ العصر إلّا ببني قريظة» ، الذين ما إن علموا بهذا حتى دخلوا فى حصونهم، وأغلقوها دون المسلمين، فحاصرهم النبي وأصحابه أياما، حتى رهقهم الحصار، وبعثوا إلى النبي يطلبون إليه أن يرضوه بما شاء منهم، فلم يقبل منهم إلا أن ينزلوا على حكمه أو حكم أحد أصحابه، فرضوا بأن ينزلوا على حكم «سعد بن معاذ الأنصاري» الذي كان حكمه فيهم أن يقتل كل قادر على حمل السلاح من ذكورهم، وأن يسبى النساء والأطفال.. وأن تقسم الأموال.. فأمضى الرسول هذا الحكم فيهم.. قوله تعالى: «كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ» . أي أن مثل المنافقين مع إخوانهم هؤلاء من اليهود، كمثل الشيطان، الذي يدعو الإنسان إلى الكفر، فيستجيب له، ويتقبل دعوته، ويأخذ بنصيحته، حتى إذا كفر هذا الإنسان، ولبس الكفر ظاهرا وباطنا، وأحاطت به خطيئته، وحلّت به النقمة- تركه الشيطان لمصيره، ونفض يديه منه، وتبرأ من الجناية التي جناها عليه، وتنكر له، بل ورماه بالجهل والغفلة، ليزيد فى آلامه وحسرته، وقال له: «إنى أخاف الله رب العالمين» .. وبهذا يريه أنه قد أضله، وخدعه، وصرفه عن الله، وعن الخوف منه، على حين أنه هو لم يصرف عن الله، وعن خشيته والخوف منه..!! والسؤال هنا: ماذا يريد الشيطان بقوله: «إنى أخاف الله رب العالمين» ؟ وهل هو صادق فيما يقول؟ وإذا كان صادقا فكيف يتفق هذا مع دعوة غيره إلى الكفر بالله والمحادة لله؟ والجواب على هذا- والله أعلم- أن الشيطان يعلم ما لله سبحانه وتعالى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 874 من جلال وقدرة، وأنه على خوف من جلال الله وقدرته، ولكنه- وقد غلبت عليه شقوته، وأعماه حسده لأبناء آدم وعداوته لهم- ذهل عن هذا، فى سبيل الانتقام لنفسه، وما يحمل للإنسان من عداوة وحسد، لما كان من تكريم الله لآدم، وأمر الملائكة بالسجود له، واستعلاء إبليس واستكباره عن أن يكون من الساجدين، فلعنه الله وطرده من عالم الملائكة.. فخرج بهذه اللعنة، وهو على عزيمة بأن ينتقم من آدم ومن ذريته، ولو كان فى ذلك هلاكه!! وكم من الناس من يعلم الحق ويأخذ نفسه بخلافه، ويعرف الطريق القويم، ويسلك المعوج؟. وهل كان موقف المشركين من النبي إلا عن حسد وكبر واستعلاء؟ إنهم كانوا يعرفون صدق النبي، ومع هذا فقد بهتوه، وكذبوه، وأبوا أن يقبلوا هذا النور الذي بين يديه، وآثروا أن يعيشوا بما هم فيه من عمى وضلال.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» . (33: الأنعام) وفى هذا التشبيه، يمثل المنافقون دور الشيطان، فهم يعرفون طريق الحق ويتجنبونه، وهم يزينون الشر لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب، ويدعونهم إلى المحادة لله ولرسوله، ويشدون ظهرهم فى كيدهم للنبى وخلافهم له.. حتى إذا وقعت الواقعة بهم، نظر إليهم هؤلاء المنافقون نظر الشيطان إلى صاحبه الذي استجاب له، وأروهم أنهم لا يستطيعون أن يخفّوا إلى نجدتهم، وأنهم يخافون النبي والمسلمين، كما يخاف الشيطان الله رب العالمين.. وهنا نذكر قول الله للمؤمنين عن المنافقين: «لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ» . ففى هذا التشبيه ثلاثة أطراف.. الشيطان، والإنسان الذي أضله الشيطان، والله، الذي يخافه الشيطان.. وفى مقابل هذه الأطراف: المنافقون، وإخوانهم اليهود، والنبي وأصحابه الذين يخافهم المنافقون.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 875 قوله تعالى: «فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ» .. تلك هى عاقبة الشيطان وصاحبه.. لقد هلك الشيطان، وهلك معه من استجاب له.. وتلك هى عاقبة المنافقين، وإخوانهم من اليهود.. إنهم جميعا إلى النار خالدين فيها.. وذلك جزاء الظالمين.. لا جزاء لهم إلا جهنم وبئس المصير.. الآيات: (18- 24) [سورة الحشر (59) : الآيات 18 الى 24] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 876 التفسير: قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» .. تجىء هذه الآية بعد ما عرضت الآيات السابقة موقف جماعات المنافقين واليهود، من النبي والمسلمين، وكيف ينتهى بهم هذا الموقف إلى خسران الدنيا والآخرة جميعا- فتحمل الآية إلى المؤمنين دعوة مجددة إلى تقوى الله، وإلى إخلاص العبودية له وحده، وإلى أن يخلى المؤمن نفسه من كل واردة من واردات النفاق، الذي إن تمكن من صاحبه قتله شر قتله، وصار به إلى أسوأ مصير.. وذلك يكون بأن ينظر المؤمن فى أعماله، وما يقدمه لغده من خير يجده عند الله، وألا يكون حاضره، وعاجل أمره، هو الذي يحكم أعماله، ويوجه تصرفاته، كما هو الشأن عند المنافقين والضالين، والكافرين. وتقوى الله، هى خوفه، واتقاء محارمه.. وفى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ» دعوة عامة إلى تقوى الله ومخافته، وملء النفس خشية من بأسه، ونقمته.. ومن تقوى الله، محاسبة المرء نفسه، ومراجعتها، فى نوازعها ورغباتها.. وأن هذه المحاسبة، وتلك المراجعة، لا تعطيان ثمرا طيبا إلا إذا وقف المرء من نفسه موقفا حذرا، حازما، حتى يقهر هواها، ولا تغلبه على أمره، وذلك لا يكون إلا باستحضار تقوى الله، والخوف من عقابه.. ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك «واتقوا الله» تلك التقوى التي تشهد محاسبة المرء نفسه ومراجعتها بين يدى جلال الله، وعظمة الله وسلطان الله، حتى لا يميل مع نفسه، ولا يغلبه هواها على تقوى الله. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 877 فقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ» .. هو استحضار للتقوى التي تدعو الإنسان إلى مراقبة نفسه ومحاسبتها.. وذلك ما أشار إليه قوله تعالى «وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ» وأما قوله تعالى بعد ذلك: «وَاتَّقُوا اللَّهَ» فهو استحضار لتقوى الله، فى كل حال يقف المرء فيها مع نفسه موقف المحاسب والمراجع، حتى لا يميل مع هواه. ولا تغلبه نفسه على ما تشتهى.. فالمراد بالأمر بتقوى الله هنا، هو تقواه فى تلك الحال، أي واتقوا الله وأنتم تحاسبون أنفسكم، فلا تميلوا معها، ولا تتبعوا أهواءها.. قوله تعالى: «وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، هم أهل الضلال من المنافقين، واليهود، الذين خلت قلوبهم من تقوى الله، وخشيته، فلم ينظروا فيما يقدمون لغد، بل شغلوا بما هم فيه من متاع الحياة الدنيا، ونسوا الله، ولم يذكروا عقابه، ولم يستحضروا جلاله وعظمته، فكان هذا النسيان لله، ولجلاله، وعظمته، سببا فى نسيانهم لأنفسهم، فلم ينظروا إلى المصير الذي هم صائرون إليه، ولم يروا البلاء المحدق بهم من هذا الضلال الذي هم فيه.. ولو أنهم ذكروا الله، وذكروا حسابه وعقابه، لذكروا وجودهم هذا الذي يسبح فى بحار الضلال، ولعملوا جاهدين على إنقاذ أنفسهم مما هم فيه، فكان نسيانهم لله، هو الداء الذي ران على قلوبهم، وأعمى أبصارهم، فلم يروا حقا، ولم تقبل قلوبهم ما هو حق. وعلى هذا يكون فاعل الفعل أنساهم ضميرا عائدا على المصدر المفهوم من الفعل «نسوا الله» أي: فأنساهم هذا النسيان أنفسهم.. ويجوز أن يكون الفاعل ضمير لفظ الجلالة العائد على قوله تعالى: «نسوا الله» .. بمعنى: نسوا الله فعاقبهم الله بأن أنساهم أنفسهم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 878 والفاسقون: هم الخارجون عن طريق الحق، الذي قام عليه الوجود كله، وهم الخارجون على فطرتهم التي فطر الله الناس عليها.. قوله تعالى: «لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ» فمن اتقى الله ونظر إلى ما قدم لغد، وحاسب نفسه على ما يعمل، حسابا قائما على تقوى الله وخشيته، فقد أعد نفسه ليكون من أصحاب الجنة، وذلك هو الفوز العظيم.. «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» (185: آل عمران) وشتان بين من يعذب فى النار، ومن ينعم بنعيم الجنة.. [القرآن.. وما يتجلى على الوجود] قوله تعالى: «لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة دعت إلى تقوى الله، وذلك إنما يكون بذكر الله، واستحضار جلاله وعظمته، وحذرت من نسيان الله، والغفلة عن ذكره، فذلك النسيان يخلى قلب الإنسان من كل أثر لتقوى- الله- فجاءت هذه الآية لتقدم بين يدى تلك الدعوة إلى ذكر الله، وإلى تقواه خير- هاد يهدى إلى الله، وخير مذكّر يذكّر به، وهو القرآن الكريم، الذي يقول الله سبحانه وتعالى عنه: «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ.. فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» (17: القمر) ويقول فيه سبحانه أيضا: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ» (82: الإسراء) ويصفه سبحانه بأنه ذو الذكر فى قوله: «ص. وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ» .. فهذا القرآن لو أنزل على جبل، لخشع وتصدع من خشية الله.. ولكن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 879 هذا القرآن لم يتجه إلى الجبل، وإنما اتجه إلى الإنسان.. ومع هذا فإن كثيرا من الناس لم يقع هذا القرآن منهم موقعه من الجبل الأصم لو نزل عليه.. فلم يخشعوا له، ولم تلن قلوبهم به.. فهناك فى الناس قلوب قاسية، أشد قسوة من حجارة هذا الجبل، كما يقول سبحانه: «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ، وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» (74: البقرة) وكما أن من الحجارة ما يتفجر منه الأنهار، وما يشقق فيخرج منه الماء، وما يهبط من خشية الله- فكذلك فى القلوب ما يفيض بالخير، فيكون أشبه بالنهر العظيم أو النبع الصافي يعيش فى خيره الناس، وكذلك فى القلوب ما يلين ويخشع لذكر الله. «الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» (2: الأنفال) فمن قرأ القرآن، أو استمع إليه، ولم يخشع قلبه له، ولم ينضح بقطرات من الخير والإحسان، ولم تبرق فى سمائه بروق الهدى والإيمان- فليعلم- إن كان منه أن يعلم- أنه دون بعض الأحجار، قبولا للخير، وتأثرا به.. قوله تعالى: «وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» أي وهذه الأمثال التي يسوقها القرآن للناس، إنما هى لتقريب الحقائق إلى عقولهم، ليروا على مرآتها أحوالهم، وما فى تلك الأحوال من انحراف أو عوج، حتى يقوموا منها ما انحرف، ويصلحوا ما اعوج.. هذا إذا كانت لديهم عقول يعقلون بها.. فهذه الأمثال، إنما هى لمن يعقل، ويتفكر فيما عقل.. قوله تعالى: «هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ» الجزء: 14 ¦ الصفحة: 880 هذا مما نزل به القرآن الكريم من ذكر الله، وهو مما لو نزل على جبل لخشع وتصدّع من خشية الله.. فهذه الآية والآيات التي بعدها إلى آخر السورة، قد خلصصت لذكر بعض أسماء الله سبحانه وتعالى، وصفاته.. لم يذكر مع أسماء الله وصفاته غيرهما.. وهذا يعنى أن القرآن كله، هو دعوة إلى الله سبحانه، وإلى تجلى أسمائه وصفاته على عباده.. فالقرآن الكريم كلام الله، وكلامه- سبحانه- صفة من صفاته.. ففى كلمات الله تتجلّى صفاته على القلوب المؤمنة، التي من شأنها أن تخشع لذكر الله.. والتفرد بالألوهية، هو أول صفة لله سبحانه، ولهذا كانت هذه الحقيقة أول ما بدىء به من صفات الله تعالى.. «هُوَ اللَّهُ.. الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ» .. فهذا التفرد هو الذي يجعل الكمال المطلق لصفات الله.. فإذا تفرد- سبحانه- بالألوهية، تفرد بالكمال المطلق فى كل شىء.. وكان من أول مراتب الكمال بعد التفرد بالألوهية «العلم» الذي يحيط بكل ما فى الوجود من غائب أو حاضر، وباطن، أو ظاهر.. فمن كمال الذات، كمال العلم الذي تتصف به، وبهذا العلم الكامل تقوم الربوبية على كل ذرة فى هذا الوجود، ما ظهر منه، وما بطن.. ومن صفات الإله الواحد المتفرد بالألوهية وبالعلم- الرحمة، التي بها وجد الجزء: 14 ¦ الصفحة: 881 ولهذا جاء قوله تعالى: «لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً» جامعا بين اليهود جميعا، فى كل زمان ومكان، على تلك الصفة التي وصفهم الله سبحانه بها، وأنهم لا يقاتلون إلا فى قرى محصنة أو من وراء جدر.. كذلك كان سلفهم، وكذلك يكون خلفهم.. قوله تعالى: «بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ» - إشارة إلى حال اليهود فيما بينهم، وأنهم أشد الناس شراسة، وأقساهم قلبا، وأقدرهم على الفتك، حيث يقاتل بعضهم بعضا، ويفتك بعضهم ببعض.. إنهم حينئذ يكونون أشبه بالحيات ينهش بعضها بعضا، ويفتك بعضها ببعض، فهى أعلم بمواطن الضعف فى أبناء جنسها، وهى لهذا أشد جسارة، وأكثر إقداما من غيرها على هذا نفث السمّ الكامن فيها.. وقوله تعالى: «تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى» .. أي تبدو حال هؤلاء اليهود فى ظاهرها، أنهم جمع واحد، ويد واحدة.. هكذا هم فيما يضمهم من مكان.. أما قلوبهم فهى أشتات موزعة، تذهب فى أودية مختلفة، كل قلب منها يذهب فى واد غير الذي يذهب فيه صاحبه.. وهذا يعنى أن كل واحد منهم إنما ينظر إلى نفسه، وبهتم بسلامتها قبل كل شىء.. لا يعنيه أن يسلم أصحابه أو يعطبوا.. إنهم فى ساعة الخطر أشبه بالغنم يهجم عليها ذئب، فتتطاير هنا وهناك كما يتطاير الشرر.. وقوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ» .. أي لا عقل لهم، ولو عقلوا لعلموا أن السلامة فى اجتماعهم عند الخطر، وفى لقائهم له كيانا واحدا، وأن تفرقهم هو الذي يجعل يد الخطر مبسوطة عليهم متمكنة منهم جميعا.. فهم فى هذا الفرار الذي يطلب به كل واحد منهم السلامة لنفسه، إنما يردون به موارد الهلكة جميعا.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 882 المعتقد هو فيصل ما بين الإيمان والكفر.. وإنه لا يضرّ مع الإيمان شىء، كما لا ينفع مع الكفر شىء!. و «الملك» هو المالك المطلق لكل شىء.. لا ينازعه أحد فى ملك شىء من هذا الوجود، إذ أن أي موجود لا يملك وجود نفسه، فكيف يكون له مع الله ملك فى ملكه الذي هو- أي هذا الموجود- بعض منه؟ و «القدوس» .. هو المنزه عن كل نقص، المبرأ من كل عيب. و «السلام» .. هو من سلمت ذاته، وصفاته، وأفعاله، من أي عارض من عوارض النقص.. و «المؤمن» هو الطاهر الذي لا تعلق به شائبة.. ومنه سمى المؤمن مؤمنا.. و «المهيمن» هو القائم على الوجود، المسيطر على كل ذرة فيه.. و «العزيز» هو المتفرد بالعزة، والسلطان.. و «الجبار» هو القوىّ، الذي يخضع لجبروته كل جبار. و «المتكبر» هو المتعالي الذي لا يطاول.. فهذه ثمان صفات، جاءت متتابعة من غير حرف عطف، لأنها جميعها صفة واحدة، لموصوف واحد.. فكما أن الله سبحانه واحد فى ذاته، هو واحد فى صفته، وهى الألوهية.. وليس هذا التعدد فى الصفات إلا من حيث نظرنا نحن إلى الذات، وما ينبغى أن نراه فيها من صفات الكمال.. فنحن بعقولنا البشرية هذه، لا يمكن أن نعرف الذات الإلهية، ولا أن نخشع لجلالها وسلطانها، إلّا بقدر ما نتمثل لها من صفات الكمال، وإنه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 883 بغير هذه الصفات التي نتمثلها، لا يمكن أن تقوم بيننا وبين الخالق جلّ وعلا علاقة ذات أثر وتأثير فينا.. «سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ» أي تنزه الله سبحانه، وتعالى عما يشرك به المشركون، بما يعبدون من دونه من معبودات. قوله تعالى: «هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. - «هُوَ اللَّهُ» .. توكيد بعد توكيد، لذات الله الواحد الذي لا إله إلا هو.. - «الْخالِقُ» .. أي الذي تفرد بالخلق.. فكل ما فى الوجود مخلوق له.. «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» (54: الأعراف) .. فكل ما فى الوجود مخلوق لله، والمخلوق لا يخلق، وما يبدو من المخلوقين أنه خلق، وابتكار، وابتداع- هو عمل فيما خلق الله، بالحلّ والتركيب فى عالم المادة، وفيما أودع الخالق سبحانه فيها من قوى وما أخضعها له من قوانين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ» (73: الحج) .. - «الْبارِئُ» .. أي الذي خلق ما خلق ابتداء على غير مثال سبق.. - «الْمُصَوِّرُ» .. أي الذي يبدع فى خلقه، ويصور كيف يشاء.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 884 - «لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» .. أي أنه سبحانه، مسمّى بكل اسم حسن، يليق به، لأن حسن الاسم من حسن المسمّى، حيث يسمى الشيء عادة بالاسم الذي يدل على أوضح صفة فيه.. وفى قاموس اللغة فى أي لسان، تجد تشابها كثيرا بين اللغات المختلفة فى اختيار الأسماء للأشياء التي بين أيدى الناس، هذا الاختيار الذي يقوم على أن يعطى الاسم دلالة واضحة على أبرز صفة فى هذا الشيء، من حيث الشكل، أو اللون، أو الطعم، أو الوظيفة التي يقوم بها.. إلى غير هذا مما يميز بين الشيء والشيء.. ولعل هذا ما يفهم من قوله تعالى: «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» بمعنى أن الله تعالى أقدر آدم على أن يتعرف على الأشياء، وأن يجعل لكل شىء مفهوما، وأن يتخذ من هذا المفهوم اسما يجعله شارة لهذا الشيء يذكره به غائبا، وحاضرا.. وهذا هو ما كان من الإنسان، فإنه لم يدع شيئا يقع تحت حواسه، إلا استدعاه إليه باسم خاص به، مهما بلغت هذه الأشياء من الكثرة والتعدد.. بل إن الإنسان لم يقف عند هذا، بل وضع لكل جزء من أجزاء الشيء الواحد اسما يدل عليه، كما نرى ذلك فى الإنسان، والأسماء التي لا تحصى لأعضائه الظاهرة والباطنة.. وهكذا صنع الإنسان بأدوات طعامه، وشرابه، ولباسه، ونومه وصيده، وحربه، إلى غير ذلك مما تلده الحياة كل يوم من مواليد فنونه ومخترعاته.. فإذا تعامل الإنسان، مع الله- سبحانه- وتعالى- بأسماء يدعوه بها، وجب أن تكون هذه الأسماء دالة على ما لله سبحانه وتعالى، من كمال، وعظمة، وجلال، وسلطان قائم على هذا الوجود.. كما يقول سبحانه: «وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها» .. ففى أسماء الله الحسنى التي ندعوه بها الجزء: 14 ¦ الصفحة: 885 تتجلى لنا صفات الكمال التي له سبحانه.. ولهذ، فإن أسماء الله سبحانه، هى صفاته.. وقد ذكر القرآن الكريم كثيرا من هذه الأسماء المباركة لله وصفاته وهى متفرقة فى آيات الكتاب الكريم، وقد جمعها الحديث الشريف فى تسعة وتسعين اسما.. فيجب علينا أن نقف عندها، لا نتجاوزها، ولا نعدل عنها إلى غيرها، إذ كانت هى أكمل الأسماء، وأكمل الصفات التي تليق به سبحانه.. فى قاموس اللغة العربية. (أسماء الله الحسنى) روى البخاري، ومسلم، عن أبى هريرة، عن النبي صلى الله عليه قال: «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر» . والأسماء الحسنى كما أحصاها العلماء هى: الله لا إله إلا هو.. الرحمن.. الرحيم.. الملك.. القدوس.. السلام.. المؤمن.. المهيمن.. العزيز.. الجبار.. المتكبر.. الخالق.. البارئ.. المصور.. الغفار.. القهار.. الوهاب.. الرزاق.. الفتاح.. العليم.. القابض.. الباسط.. الخافض.. الرافع.. المعز.. المذل.. السميع.. البصير.. الحكم.. العدل.. اللطيف.. الخبير.. الحليم.. العظيم.. الغفور.. الشكور.. العلى.. الكبير.. الحفيظ.. المقيت.. الحسيب.. الجليل.. الكريم.. الرقيب.. المجيب.. الواسع.. الحكيم.. الودود.. المجيد.. الباعث.. الشهيد.. الحق.. الوكيل.. القوى.. المتين.. الولي.. الحميد.. المحصى.. المبدئ.. المعيد.. المحيي.. المميت.. الحي.. القيوم.. الواجد.. الماجد.. الواحد.. الصمد.. القادر.. المقتدر.. المقدم.. المؤخر.. الأول.. الآخر.. الظاهر.. الباطن.. الوالي.. المتعال.. البر.. التواب.. المنتقم.. العفو.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 886 الرءوف.. مالك الملك ذو الجلال والإكرام.. المقسط.. الجامع.. الغنى.. المغني.. المعطى.. المانع.. الضار.. النافع.. النور.. الهادي.. البديع.. الباقي.. الوارث.. الرشيد.. الصبور. قوله تعالى: «يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» أي أن كل ما فى السموات والأرض من عوالم، يسبح لله، ويحمد له، ويتعبد لذاته، كما يقول سبحانه: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» (44: الإسراء) . وقوله تعالى: «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» - إشارة إلى ما لله سبحانه وتعالى من عزة يخضع لها كل ما فى هذا الوجود.. «فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً» (10: فاطر) فإن من كمال الإله الواحد، المتفرد بالسلطان- أن يخضع لسلطانه كل شىء «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً، وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ» .. وهذه العزة القاهرة لله، هى عزة الحكيم الذي يقيم كل شىء بعزته وسلطانه على ميزان الحكمة والعدل والإحسان، لا على الهوى، والجور، والإذلال، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.. هذا ويلاحظ أن الآيات الثلاث التي عرضت هذه الأسماء الكريمة لله سبحانه وتعالى، قد جاءت متلاحمة، من غير أن يصل بعضها ببعض حرف عطف، أو أن يتوسل إلى وصل بعضها ببعض بعاطف يجمع بينها، إذ أنها فى حقيقتها اسم واحد، أو صفة واحدة للإله الواحد.. وكما أنه قد استغنت الآيات فيما بينها عن رابط غير رباط الوحدة التي تجمعها جميعا فى مضمون واحد، هو وحدة الله سبحانه، وتفرده ذاتا، وصفة- كذلك استغنت كل آية عن أن يدخل بين مفرداتها عاطف يصل بين أفراد المتآخيه.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 887 واتل أيها المؤمن الآيات الكريمات: «هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» . وانظر فى وجهها الكريم، فإنك لا تجد فيها حرف عطف واحدا، إذ كانت مستغنية بما بينها من تلك الوحدة الجامعة لها جميعا من الكمال والجلال عن أن يدخل عليها ما ليس منها.. إنها نور إلى نور، وما كان النور أن يحتاج إلى شىء يمزج شعاعاته بعضها بعض، أو يصل بعضها ببعض.. فهذه الصفات الكريمة هى صفة واحدة فى تفرقها واجتماعها.. وكل صفة منها تجمع جميع الصفات.. فهى صفة فى صفات، وصفات فى صفة، وما هذا التعدد إلا من وجهة نظرنا نحن البشر، حسب ما يبدو لعقولنا من تجليات الله سبحانه وتعالى علينا، وذلك أشبه- من غير تشبيه- بما يقع لأبصارنا من الضوء يمر خلال منشور زجاجى، فتنعكس لأبصارنا عليه ألوان الطيف، وليس ثمة. فى الحقيقة- إلا هذا الضوء المشع الذي يفيض من عالم النور. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 888 60- سورة الممتحنة نزولها: مدنية. عدد آياتها: ثلاث عشرة آية. عدد كلماتها: ثلاثمائة وأربعون كلمة. عدد حروفها: ألف وخمسمائة وعشرة. مناسبتها لما قبلها كان مما تحدثت به السورة السابقة (الحشر) هذا الحديث الذي يكشف عن وجوه المنافقين، الذي جعلوا بينهم وبين الذين كفروا من أهل الكتاب مودة قائمة على العداوة والكيد، للنبى وللمؤمنين، وأن هذه المودة قد كانت شؤما وبلاء على أهلها من هؤلاء وأولئك جميعا.. وتبدأ سورة الممتحنة بهذا التحذير للمؤمنين، أن يأخذوا هذا الاتجاه المهلك الذي اتخذه الذين نافقوا ممن كانوا فى المؤمنين.. فهذا التحذير الذي يجىء عقب هذا البلاء الذي حلّ بأحلاف الضلال- هو أشبه بالضرب على الحديد وهو ساخن- كما يقولون- حيث يظهر أثر هذا الضرب عليه، ويستجيب للصورة التي يراد تشكيله عليها.. فإنه ما إن ينتهى الذي يتلو سورة (الحشر) من تلاوتها، حتى تلقاه سورة (الممتحنة) لتعيده مرة أخرى إلى هذه الصورة التي تمثلت له مما حل بالمنافقين وأحلافهم من اليهود، ولتقيم بين يديه منها، هاوية يهوى إليها كل من يأخذ هذا الطريق الضال، فيجعل بينه وبين أعداء الله ورسوله ألفة ومودة. فإنه إن يفعل تردّى فى هذه الهاوية السحيقة التي تردّى فيها المنافقون الذين وقف على مصارعهم منذ قليل.. فلينظر من كان له نظر.. وليختر الطريق الذي يحلوله..!! الجزء: 14 ¦ الصفحة: 889 بسم الله الرحمن الرحيم الآيات: (1- 3) [سورة الممتحنة (60) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) التفسير: قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ» . النداء للمؤمنين جميعا، الذين كانوا فى مواجهة المشركين من قريش وأحلافهم، حيث كانوا يتربصون بالنبي وبالمؤمنين، ويكيدون لهم، ويستعدون ضعاف الإيمان عليهم، ويجذبونهم إليهم بالوعد وبالوعيد.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 890 وقد كشف الله سبحانه للمؤمنين عن وجه هؤلاء المشركين، وأنهم أعداء الله وأعداء الذين آمنوا.. فمن كان مؤمنا بالله حقّا كان على ولاء لله وللمؤمنين به، الأمر الذي لا يتفق معه الولاء والمودة لأعداء الله وأعداء المؤمنين.. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ» فإن من يتصف بالإيمان، لا تبقى له هذه الصفة، إذا هو كان على ولاء ومودة، لمن كان عدوّا لله وعدوا للمؤمنين، أولياء الله.. وقوله تعالى: «تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ» هو جملة حال من فاعل الفعل: «لا تَتَّخِذُوا» أو هو صفة لأولياء.. والإلقاء بالمودة، بذلها فى صورة رسائل، أو هدايا، أو عواطف من الحب والود، مع بعد الشقة النفيسة، التي ينبغى أن تكون بين المؤمنين بالله والكافرين به، أو بعد الشقة المكانية حيث المؤمنون فى المدينة، والمشركون فى مكة.. ولهذا عدّى الفعل بالياء، لتصمنه معنى تبعثون إليهم بالمودة، مع إفادته معنى السر والخفاء حيث تلقى إليهم المودة فى كلا الحالين فيتلقفونها من غير أن يراها أحد. وقوله تعالى: «وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ» أي أنكم تلقون إلى عدوّ الله وعدوكم بالمودة، فى حال قد كفر فيها هذا العدو بما جاءكم من الحق، الذي نزل به القرآن الكريم، وتلاه عليكم رسول الله.. بل ليس هذا فحسب، إنهم «يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ» أي مع كفرهم بالحق الذي آمنتم به- وهذا وحده كاف لقطع كل ولاء بينكم وبينهم، فإنهم- مع هذا- يخرجون الرسول، ويخرجونكم من دياركم وأهليكم لا لجناية جناها الرسول أو جنيتموها أنتم عليهم، إلا أنكم آمنتم بالله ربكم.. فتلك هى جنايتكم عند القوم.. إنهم يعادونكم لإيمانكم بالله.. فقوله تعالى: «وَإِيَّاكُمْ» معطوف على «الرسول» أي يخرجون الرسول ويخرجونكم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 891 قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي» - هو تعقيب على قوله تعالى: «أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ» - أي إن كان إيمانكم هذا صادقا، وكانت هجرتكم خالصة لوجه الله، تريدون بها جهادا فى سبيله وابتغاء مرضاته.. وفى هذا إلفات للمسلمين إلى هذا الإيمان الذي فى قلوبهم، وإلى تمحيصه من شوائب النفاق، حتى يكون إيمانا حقّا.. فهذا الإيمان الحق من شأنه ألا يقيم بينكم وبين أعداء الله وأعداء المؤمنين مودة.. أما إذا كان إيمانكم على غير تلك الصفة، فهو ليس الإيمان الذي خرج به النبي والمؤمنون من ديارهم، وليس هو الإيمان الذي يجعل من المشركين عدوا للمؤمنين.. فهل أنتم مؤمنون حقا؟ فإن كنتم مؤمنين حقا، فلا تتخذوا عدوا الله وعدو المؤمنين أولياء. وفى التعبير عن إخراج المشركين للنبى والمؤمنين، بالفعل المضارع الذي يفيد تجدّد الزمن حالا بعد حال، للإشارة إلى أن المشركين ما زالوا على موقفهم من النبي والمؤمنين، وأنه لو عاد النبي والمؤمنون إلى ديارهم بمكة لأخرجهم المشركون منها، بما يلاحقونهم به من أذى وضر.. كما أن المشركين لم يزل هذا موقفهم من المؤمنين الذين كانوا فى مكة، ولم تتح لهم فرصة الهجرة لسبب أو لآخر.. ويحوز أن يكون قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي» . يجوز أن يكون منصلا بقوله تعالى: «لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ» .. ويكون ما بينهما اعتراض يراد به الكشف عن وجه أعداء الله وأعداء المؤمنين، وما يرمون به النبي والمؤمنين من أذّى متلاحق.. وقوله تعالى: «تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ» الجزء: 14 ¦ الصفحة: 892 هو استفهام إنكارى، أي أبعد هذا الذي علمتم أو تعلمون من أمر القوم- أبعد هذا تسرون إليهم بالمودة؟ أي تبادلونهم المودة فى ستر وخفاء «وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ» .. فإنه لا يخفى على الله خافية فى الأرض ولا فى السماء: «سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ» (10: الرعد) وإن إسراركم هذه المودة لدليل على أنها أمر تنكرونه أنتم، وينكره المؤمنون عليكم، وإنه لو كان غير منكر لأعلنتموه.. فإخفاء هذه المودة التي بين بعض المؤمنين وبين المشركين شاهد على أنها مما يعاب على المؤمن، ومما ينبغى ستروه وإخفاؤه، وحسب الأمر شناعة ألا يكون له وجه يظهر به فى الناس، فإن ظهر كان فضيحة لصاحبه!! وقوله تعالى: «وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ» الضمير فى «يفعله» يعود إلى هذا الإسرار المودة.. أي ومن يفعل هذا الإسرار بالمودة، فقد ضل سواء السبيل، لأن الإسرار بها- كما قلنا- دليل على نكرها وبشاعتها.. وإذا امتنع الإسرار بها، فقد أصبح من المستبعد إعلانها إلّا إذا كان ذلك عن كفر صريح، وردّة عن الإيمان.. فهذا شأن آخر غير شأن المؤمنين. قوله تعالى: «إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ» «إِنْ يَثْقَفُوكُمْ» : أي يظفروا بكم، وينتصروا عليكم، ومنه قوله تعالى: «فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» (57 الأنفال) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 893 والثّقاف: ما يثقّف به الرمح، أي يعدّل ويقوّم، والمراد بثقف القوم هنا التمكن منهم، كما يتمكن الثقاف من الرمح. والخطاب هنا للمؤمنين الذين بينهم وبين المشركين مودة.. أي أن هؤلاء المشركين الذين توادّونهم أيها الموادون لهم من المؤمنين- إن يظفروا بكم فى حرب بين المؤمنين وبينهم، لن يبقوا على هذا الود الذي تحسبونه قائما بينكم وبينهم، بل إنهم سيكونون لكم فى تلك الحال أعداء، يبسطون إليكم أيديهم بالأذى، وألسنتهم بالسوء، بل إنهم ليفعلون بكم أكثر من هذا، وهو حملكم على أن تعودوا إليهم كفارا.. فهذا هو الذي يقطع عداوتهم لكم.. وفى قوله تعالى: «يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً» - إشارة إلى أن هذه المودة التي بين بعض المؤمنين والمشركين، هى التي تخفى هذه العداة التي فى صدور المشركين لهم- فإذا أمكنت الفرصة المشركين منهم، ظهرت هذه العداوة الكامنة.. وفى قوله تعالى: «وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ» - بعطف الفعل الماضي على فعل المستقبل «يبسطوا» - فى هذا إشارة إلى أن هذه الرغبة، أي رغبة المشركين فى أن يكفر المؤمنون- هى رغبة قديمة، من يوم أن آمن هؤلاء المؤمنون.. إنها رغبة لم تنقطع بالهجرة، ولا بالمودّة التي تجرى بينهم وبين هؤلاء المؤمنين، بل هى قائمة فى صدور المشركين، لن تموت أبدا إلا بعودة المؤمنين كفارا.. قوله تعالى: «لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» الجزء: 14 ¦ الصفحة: 894 أي أنه- أيها المؤمنون- لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم الذين أمسكوا بشركهم، فقد أصبحتم فى حزب الله، وظلّوا هم فى حزب الشيطان، ولن يجتمع حزب الله وحزب الشيطان، ولن يتبادلوا المنافع بينهم.. فليس فى جانب المشركين إلا السوء والضلال.. وكما فرق الإيمان بينكم وبين أرحامكم وأولادكم المشركين فى الدنيا، كذلك يفرق بينكم وبينهم يوم القيامة.. فأنتم فى رحمة الله ورضوانه، وهم فى سخط الله وعذابه.. قيل إن هذه الآيات نزلت فى حاطب بن أبى بلتعة- وهو صحابىّ ممن شهد بدرا- وكان ذلك بعد صلح الحديبية، وبعد أن نقضت قريش شروط الصلح التي صالحها عليها النبي يومئذ.. وكان النبىّ يعدّ العدّة لفتح مكة، ويتجهز لهذا فى سر وخفاء، حتى لا تعلم قريش، وتستعد للحرب.. وكان حاطب بن أبى بلتعة حين هاجر من مكة قد خلّف بعض أهله بها، ولم يكن له فى مكة عصبية تحمى أهله المخلفين هناك، من أذى قريش، فأراد أن يصطنع عند قريش يدا ينتفع بها أهله عندهم، فبعث إليهم برسالة مع امرأة من مكة كانت قد وفدت إلى المدينة، فلما قفلت راجعة إلى مكة، أعطاها «حاطب» رسالة إلى قريش، يعلمهم فيها أن النبي يعد العدة لحربهم، وأوصى المرأة أن تخفى الرسالة، وأن تكتم أمرها، لقاء مال أعطاها إياه.. فلما أخذت المرأة طريقها إلى مكة، جاء خبر السماء إلى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- بما كان من هذا الحدث، فبعث النبي بجماعة من أصحابه فيهم على بن أبى طالب رضى الله عنه، يتبعون المرأة، ويأخذون الرسالة التي معها.. فلما جىء بالرسالة إلى النبي، دعا إليه حاطبا، وسأله عن أمر هذه الرسالة، فاعترف بها، واعتذر للنبى صادقا، بأنه لم يرد بهذا كيدا للمسلمين، ولا ممالأة للمشركين، وإنه ليعلم أن الله سيؤيد النبي بنصره، وأنه لن يغنى عن قريش أي تدبير يدبرونه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 895 فصدقه النبي، وقبل ما اعتذر به، وردّ عمر بن الخطاب حين قال: ألا أضرب عنقه يا رسول الله، بقوله- صلوات الله وسلامه عليه: «وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد عفوت عنكم» وهكذا أعفا النبي عن هذا الصحابي الذي شهد بدرا، ثم تنزلت آيات الله فى مواجهة هذه الحادثة، فكان منها هذا الدرس الخالد للمسلمين، يقيم لهم دستورا حكيما، يحرس إيمانهم من أن تفسده مشاعر المودة بينهم وبين أعداء الله وأعداء المؤمنين بالله. الآيات: (4- 9) [سورة الممتحنة (60) : الآيات 4 الى 9] قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 896 التفسير: قوله تعالى: «قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» .. الأسوة: القدوة، وهى من التأسىّ بمن هو فى مقام الفضل والإحسان، فى الأمر الذي يتأسى به فيه.. وقد غلب على الأسوة أن تكون فى الأمور الحسنة، وفى وصفها بالحسنة هنا، تأكيد لتلك الصفة الغالبة عليها، فقد يتأسّى المرء بما هو غير حسن، وهو فى ظنه أنه حسن.. وفى تأسّى المؤمنين بإبراهيم عليه السلام، وبالمؤمنين معه وهم الأنبياء وأتباعهم من المؤمنين، الذين جاءوا بعد إبراهيم- وسمّوا هؤلاء مع إبراهيم، لأنهم كانوا جميعا على دين الله الذي آمن به، كما كان معظم الأنبياء من ذريته- وفى أخذهم الموقف الذي وقفه إبراهيم ومن معه من الأنبياء والمؤمنين- من قومهم، إذ تبرءوا من أقوامهم، ومما يعبدون من دون الله، وكفروا بهم وبمعبوداتهم وأظهروا لهم العداوة، وجاهروهم بها، وأنها عداوة دائمة حتى يؤمن هؤلاء الكافرون بالله وحده لا شريك له، فإن آمنوا انقطعت هذه العداوة، وقام مقامها الحب الذي بين المؤمنين والمؤمنين- فى هذا التأسّى توجيه للمؤمنين إلى ما ينبغى أن يكون عليه إيمانهم. فهذا هو الإيمان، الذي يخلى قلب المؤمن من كل مشاعر الودّ والمحبة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 897 لمن حادّ الله وكفر به.. «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ» (22: المجادلة) .. وقوله تعالى: «إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ» - هو استثناء من التأسّى بإبراهيم عليه السلام، فى هذا الموقف الذي وقفه من أبيه، والذي كان موضع عتاب من الله سبحانه وتعالى لخليله إبراهيم عليه السلام.. ومع هذا، فقد كان استغفار إبراهيم لأبيه عن موعدة وعدها إياه، إذ قال لأبيه: «سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا» (47: مريم) .. وقد كان إبراهيم بهذا الاستغفار يطمع فى أن يهدى الله أباه إلى الإيمان، ولكن أباه كان عند الله من الكافرين.. فلما تبين لإبراهيم هذا من أبيه، تبرأ منه كما تبرأ من قومه الكافرين، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ» (114: التوبة) .. وقوله تعالى: «وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ» هو حال من فاعل مقول القول: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ» .. أي والحال أنى لا أملك لك من الله من شىء. وقوله تعالى: «رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» .. هو من قول إبراهيم والذين معه، فى مواجهة أقوامهم، إذ قالوا لهم: «إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ» ويكون قوله تعالى: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 898 «إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ» - كلام معترض، خاص بمقولة إبراهيم لأبيه، والتي لم يشاركه فيها الذين آمنوا معه.. قوله تعالى: «رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. هو من مقول قول إبراهيم والذين معه.. وهو دعاء يتجهون به إلى الله سبحانه وتعالى ألا يجعلهم فتنة للذين كفروا بمعنى ألا يغرى بهم الذين كفروا، فتشتد عداوتهم لله، وتغلظ فتنتهم، وضلالهم، بسبب العناد الذي يحملهم على ألا ينظروا إلى ما فى أيدى المؤمنين من هدى وإيمان.. وبهذا يشتد غضب الله عليهم، وتنزل نقمته بهم، وكأنّ المؤمنين بهذا هم الذين ساقوهم إلى هذا الكفر الغليظ، وهذا من شأنه أن يدخل فى شعور المؤمنين بأنهم بإيمانهم قد حملوا الكافرين على أخذ طريق غير طريق المؤمنين.. وفى هذا يقول الله تعالى على لسان قوم نوح: «أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ» (111: الشعراء) ويقول سبحانه على لسانهم أيضا: «فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ» (27: هود) .. ويقول سبحانه على لسان المشركين الذين كذبوا رسول الله: «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ» (11: الأحقاف) . واليهود، كانوا قبل مبعث النبي- صلوات الله وسلامه عليه- ينتظرون بعثته، فلما سبقهم الأنصار إلى الإيمان به، حملهم الحسد على أن يكذّبوا برسول الله، بل ويكيدوا له، ويؤلبوا المشركين على حربه.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 899 وفى هذا يقول الله تعالى فيهم: «وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» (89: البقرة) ويجوز أن يكون المعنى على طلب المؤمنين الحماية من الله سبحانه وتعالى لهم، من أن يفتنوا فى دينهم، بما يرميهم به الذين كفروا من مكاره، وما يسوقون إليهم من أذّى.. ويجوز كذلك أن يكون المعنى متضمنا الوجهين معا، وهو ألا يكون المؤمنون فتنة للكافرين، وألا يكون الكافرون فتنة للمؤمنين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً» (20: الفرقان) وفى قوله تعالى: «إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» - إشارة إلى قدرة الله وعزّته التي يعزّ بها المؤمنين، ويحميهم من أذى الكافرين، حتى لا يفتنوا فى دينهم.. وعزّة الله عزّة قائمة على الحكمة، فكل ما يصدر عن قوة الله، وعزته، هو عن حكمة محكمة، لا عن هوّى، وتسلط، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.. قوله تعالى: «لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» هو توكيد للدعوة التي دعى إليها المؤمنون ليتأسّوا بإبراهيم والذين معه، بعد أن تبين لهم موقف إبراهيم، ومن معه، من أقوامهم.. فقد دعى المؤمنون أولا إلى التأسى بإبراهيم ومن معه قبل أن يعرفوا الوجه الذي يتأسّون به منهم، فلما تبيّن لهم هذا الوجه، وهو موقفهم المجانب لقومهم، المتبرئ منهم ومن كفرهم- حسن أن يدعى المؤمنون بعد هذا دعوة مجدّدة إلى ما دعوا إليه أولا، حيث عرفوا موضع الأسوة فى إبراهيم ومن معه.. ولهذا جاءت الدعوة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 900 الثانية مؤكّدة بمؤكدين.. اللام، وقد.. «لَقَدْ» : على حين جاءت الدعوة لأولى مؤكدة بمؤكد واحد: «قد» .. والجملة الخبرية هنا، وهناك، مراد بها الطلب، أي الأمر بالتأسى، لا مجرد الخبر.. أي تأسّوا أيها المؤمنون بإبراهيم والذين معه، وقفوا من قومكم موقفهم من أقوامهم.. فذلك التأسى هو شأن من كان يرجو الله واليوم الآخر، حيث يكون ولاؤه لله وللمؤمنين، ذلك الولاء الذي يقضى بأن يقطع كلّ ولاء مع المشركين والكافرين، ولو كانوا آباء، أو أبناء.. قوله تعالى: «وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» أي ومن يعرض عن موالاة الله والمؤمنين، ويؤثر موالاة أهله، وعشيرته من المشركين- «فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ» - الذي لا ينفعه ولاء من والاه، ولا يضره عداوة من عاداه.. إنه سبحانه هو الغنى غنى مطلقا عن كل ما فى هذا الوجود، لأنه موجود بكمالاته كلها قبل أن يوجد هذا الوجود.. وهو سبحانه «الحميد» الذي يحمد لعباده المؤمنين إقبالهم عليه، وموالاتهم له، وإن كان فى غنى عن هذا الإيمان، وهذا الولاء.. فذلك الحمد، هو فضل، وإحسان منه، إلى عباده المؤمنين المحسنين.. قوله تعالى: «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» فى الآية الكريمة عزاء للمؤمنين عن هذه القطيعة التي تقع بينهم وبين ذوى قراباتهم وأصدقائهم من المشركين، وإنه لكيلا تبلغ هذه القطيعة مداها، وتأخذ مكانا متمكنا فى النفوس، وتنبت فى صحرائها أشواك الضغينة والحقد التي لا يمكن اقتلاعها.. جاءت الآية الكريمة، لتقيم المسلمين على قطيعة موقوتة مع أهليهم، وعلى جفاء يرتقب له اليوم الذي ينتهى فيه، وذلك أن كثيرا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 901 من هؤلاء المشركين لم يقع اليأس بعد من دخولهم فى الإسلام، وأن كثيرا منهم سيدخل فى دين الله، ويجاهد مع المجاهدين فى سبيل الله.. ويومئذ يلتقى الأهل جميعا على الأخوة فى الله، كما التقوا من قبل على الأخوة فى القرابة والنسب.. وقوله تعالى: «عسى» الذي يدل على الرجاء، هو منظور فيه إلى المؤمنين، وما ينبغى أن يساق إلى قلوبهم من مشاعر الرجاء والأمل، حيث يقيمهم هذا الشعور من أهلهم المشركين، فى مقام بين اليأس والرجاء، فى أن تجمعهم يوما جامعة تؤلف بينهم.. وبهذا الشعور يقتصد المبالغون فى العداوة لأهليهم، كما يقتصد المتراخون فى قطع حبال الود معهم. وقوله تعالى: «وَاللَّهُ قَدِيرٌ» - إشارة إلى ما لله سبحانه وتعالى من قدرة على أن يفتح قلوب هؤلاء المشركين للإيمان، وأنه سبحانه قادر على أن يجعل من العداوة القائمة بين المؤمنين وهؤلاء المشركين، رحمة ومودة.. وقوله تعالى: «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» - إشارة إلى ما عند الله سبحانه من مغفرة ورحمة لمن جاوز الحدّ فى العداوة، أو غلبته حال من الولاء لأهله، فإن أبواب المغفرة والرحمة مفتحة لكل من يتجه إلى الله طالبا مغفرته ورحمته.. كما أن مغفرة الله ورحمته تنال هؤلاء المشركين، إذا هم دخلوا فى دين الله، وعندئذ يغفر لهم ما كان منهم من أذى وضرّ للنبى والمؤمنين، ويلحقهم بركب المؤمنين الذين سبقوهم إلى الإيمان.. قوله تعالى: «لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» القسط: العدل، والقسطاس: الميزان الذي يوزن به.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 902 والمقسط: العادل، الذي يقيم ميزان العدل.. والقاسط: الظالم، الجائر.. يقال: أقسط، أي عدل، وقسط: أي جار وظلم.. والآية الكريمة تدعو إلى هذا المبدأ العام الذي قامت عليه الشريعة السمحاء، من الإخاء الإنسانى، القائم على العدل والإحسان.. وأن هذه القطيعة التي فرضها الإسلام على المسلمين فيما بينهم وبين أهلهم من المشركين- إنما هى قطيعة لقوم قطعوا أرحام قومهم، وقاتلوهم، وأخرجوهم من ديارهم.. إنهم فى حال حرب، معهم لم تنته بعد، وأن المشركين ما زالوا ينتظرون الفرصة التي تمكنهم من المؤمنين.. وفى موالاة المؤمنين لهم توهين للمؤمنين، وتمكين للمشركين من مقاتلهم.. فإذا لم يكن من قوم عداوة بادية للمؤمنين، أو قتال لهم، أو مساندة لمن قاتلهم- فإن موقف المؤمنين من هؤلاء القوم، ينبغى أن يقوم على السماحة، وعلى العدل والإحسان.. «لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» .. وفى قوله تعالى: «وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ» تضمين للفعل معنى الإحسان، بمعنى وتحسنوا إليهم، بالعدل الذي تقيمون ميزانه بينكم وبينهم.. هذا، ويرى كثير من المفسرين أن هذه الآية منسوخة بآية السيف.. وإنه لا معتبر لهذا الرأى الذي يعمّى ويشوش على سماحة هذه الشريعة، وإنسانيتها.. وممّن سفّه هذا الرأى الإمام الطبري فى تفسيره، فرضى الله عنه. قوله تعالى: «إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» الجزء: 14 ¦ الصفحة: 903 أما هؤلاء الذين قاتلوا المؤمنين فى الدين، أي من أجل الدين، وأخرجوهم من ديارهم، وظاهروا، أي أعانوا على إخراجهم- أما هؤلاء، فهم الذين ينهى الله المؤمنين عن تولّيهم لهم، أي موالاتهم وبرّهم، والإحسان إليهم، ووصل حبال المودة بهم. «وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ» أي يقيم ولاء معهم، ويبقى على صلة بهم «فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» أي الذين اعتدوا على حق الله، وظلموا أنفسهم بما حملوها من أوزار. الآيات: (10- 13) [سورة الممتحنة (60) : الآيات 10 الى 13] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 904 التفسير «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» . هذه الآية والآيات التي بعدها، تبيّن حكم ما يقع بين المسلمين والمشركين من أمور تتصل بتنفيذ صلح الحديبية الذي عقده النبي معهم.. فهذا الصلح قد قضى بأنه إذا جاء إلى المسلمين من أسلم من المشركين، ردّه المسلمون إليهم، ومن جاء إلى المشركين من عاد إلى الشرك لم يرده المشركون إليهم.. وقد قبل النبي هذا الشرط، لأن من دخل فى الإسلام، إنما دخل بعد ابتلاء وتمحيص، فهو حيث كان، فى حصانة من أن تغيره الأحوال والأحداث.. وأما من كان مؤمنا، ثم عاد إلى الكفر، فإن الإمساك به فى مجتمع المؤمنين بعد هذا، إنما هو تمسك بعضو فاسد فى جسد سليم.. وهذا الشرط خاص بالرجال دون النساء. وقد كان من مقتضى هذا، أن تكون بين المؤمنين والمشركين شبه صلة فى حدود تنفيذ أحكام هذا الصلح، بعد أن دعا الإسلام المؤمنين إلى قطع كل ولاء بينهم وبين هؤلاء المشركين. وفى هذه الآية الكريمة، بيان لحكم من جاء من مجتمع المشركين من النساء، مؤمنات مهاجرات.. فهذا الحكم يقضى بأن يمتحن المؤمنون هؤلاء المؤمنات فى إيمانهن، حتى يتبين لهم صدق إيمانهن، وأنهن إنما هاجرن فرارا بدينهن من أن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 905 يفتّن فيه، لا فرارا من زوج، ولا رغبة فى زواج، ولا طمعا فى مأرب من مآرب الحياة.. فإذا تبين أنهن على الإيمان.. كان على المؤمنين أن يؤو وهن إليهم، وأن يمسكوا بهن فى مجتمع المؤمنين، وألّا يرجعوهن إلى الكفار.. وذلك لأمرين: أولهما. أن النساء لم يدخلن فى الشرط الذي اشترط فيه المشركون على المسلمين أن يردوا إليهم من أتاهم مؤمنا من المشركين.. فهذا شرط خاص بالرجال، دون النساء.. وثانيهما: أن النساء لا يصبرن طويلا على موقع الفتنة من المشركين، ولا يحتملن ما يحتمل الرجال من بلاء فى سبيل العقيدة التي يعتقدنها، إنهن أسرع تحولا، وأقل ثباتا وصبرا من الرجال، وإن كان فى بعض النساء ما لأقوى الرجال من عزيمة وثبات، إلا أن النساء فى مجموعهن دون الرجال فى هذا المقام.. وفى قوله تعالى: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ» - إشارة إلى أن الامتحان الذي يمتحن به المؤمنون المؤمنات المهاجرات إليهن- هو امتحان لا يكشف إلا عن ظاهر الحال منهن.. أما ما فى القلوب وما تكنّ الصدور، فعلمه عند الله سبحانه وتعالى.. وأنه يكفى فى هذا الامتحان أن تشهد ظواهر الأحوال ما يدل على إيمان هؤلاء المؤمنات، أما ما فى القلوب فأمره إلى الله.. وقوله تعالى: «وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا» أي وردّوا إلى الكفار أيها المؤمنون ما أنفقوا على هؤلاء المؤمنات من مهور.. بمعنى أن المؤمنة التي كانت متزوجة من مشرك ثم جاءت مهاجرة إلى المؤمنين، يجب على المؤمنين، بعد امتحان إيمانها أن يمسكوها عندهم، وأن يردّوا إلى زوجها المشرك، ما كان قد أمهرها إياه، فذلك المهر هو ما يمسك به زوجها المشرك منها، وقد فرق الإسلام بينها وبينه، فأصبحت بإسلامها محرمة عليه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 906 وهذه الفرقة بين المؤمنة وزوجها المشرك، قد جاءت من جهة المرأة، وكأنها بهذا هى التي رغبت فى المفارقة، فكان عليها- والأمر كذلك- أن تردّ إليه ما أخذت منه من صداق.. روى أن جميلة امرأة ثابت بن قيس، جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، لا أجد فى ثابت بن قيس عيبا من خلق أو إيمان، ولكنى لا أجد فى طوقى مجاراته.. فسألها الرسول الكريم: هل تعيد إليه حائطه (أي بستانه) الذي جعله صداقا لها، إذا هو طلقها؟ فقالت نعم، فأمر النبي بردّ الحائط إلى ثابت، وتطليقها» فهذا أشبه بالفرقة الواقعة من المرأة، تخرج من عصمة زوجها المشرك، بدخولها فى دين الله.. وفرق واحد هنا، وهو أنها لا تحمل بدخولها فى دين الله غرما، فلا تردّ ما أمهرها به زوجها المشرك من مالها هى، بل يتحمل ذلك عنها المسلمون الذين هاجرت إليهم، وحلّت بينهم.. وقوله تعالى: «وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» أي أن هذه الفرقة بين المرأة المؤمنة وزوجها المشرك، تعتبر طلاقا بائنا، يحلّ للمسلم بعد هذا، زواجها، بعد انقضاء عدتها، وبعد إيتائها المهر المناسب لها.. وقوله تعالى: «وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ» العصم: جمع عصمة، وهى ما يعتصم به، وهى كناية عن رباط الزوجية، الذي يربط كلّا من الزوجين بصاحبه، ويعتصم به. والكوافر: جمع الكافرة. وقد جمعت جمع تكسبر، ولم نجمع جمع المؤنث السالم «الكافرات» استخفافا بهن، وعزلا لهن عن مجتمع العقلاء، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 907 إذ قد اغتال الكفر الذي لبسهنّ، معلم الإنسانية فيهن.. وهذا من شأنه أن يهوّن على الأزواج المؤمنين فراق مثل هؤلاء الكوافر. ولهذا جاء النهى للمؤمنين أن يمسكوا بما فى أيديهم من روابط الزوجية بينهم وبين نسائهم المشركات، بل إن عليهم أن يقطعوا حبل الزوجية معهن، كما يقول سبحانه: «وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ» (221: البقرة) قوله تعالى: «وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا» أي اطلبوا أيها المؤمنون من المشركين مهور نسائكم المشركات اللائي فرّق الإسلام بينكم وبينهن، كما يطلب منكم المشركون مهور نسائهم اللائي هاجرن إليكم مؤمنات، «ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ» - هذا ما قضى به الله سبحانه من التفرقة بين المؤمنات المهاجرات وأزواجهن المشركين، وبين المؤمنين، وزوجاتهم المشركات، ومن ردّ ما أنفق المشركون على زوجاتهم المؤمنات، وما أنفق المؤمنون على زوجاتهم المشركات- هذا كله هو حكم الله يحكم به بينكم «وَهُوَ الْعَلِيمُ» بما يقضى به، وبما فيه الخير لكم، «الحكيم» الذي يضع الأمور بحكمة فى أعدل موضع وأحكمه. قوله تعالى: «وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ» أي وإن فاتكم أيها المؤمنون شىء من مهور أزواجكم الماثلات إلى الكفار، المنحازات إلى جبهتهن، بمعنى أنه إذا طلقتم أزواجكم المضافات إلى المشركين، ولم يردّ المشركون عليكم ما أنفقتم من مهورهن، ثم كانت منكم معاقبة للمشركين، ومقابلتهم بالمثل، فلم تردوا عليهم ما أنفقوا على زوجاتهم المهاجرات إليكم- إذا كان ذلك، فآتوا- أيها المؤمنون- الذين ذهبت أزواجهم منكم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 908 بالطلاق من أجل شركهن- آتوهم مثل ما أنفقوا، أي مثل ما قدموا لهن من مهور.. وفى التعبير عن فرقة المشركات لأزواجهن المؤمنين بالذهاب فى قوله تعالى: «ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ» - إشارة إلى أن هؤلاء الزوجات إنما هن شىء قد ضلّ، وذهب فى متاهات الحياة، فلا تأس عليه نفس، ولا يحزن له قلب. وقوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ» - هو تعقيب على هذه الأحكام، وأنها يحب أن تقوم عند المؤمن فى ظل من تقوى الله، حتى لا يقع فيها جور، أو انحراف عن ميزان العدل والإحسان.. وفى قوله تعالى: «الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ» - إلفات للمؤمنين إلى أنهم فى هذا المقام، إنما يقيمون أمورهم على ميزان الإيمان، الذي فرق بينهم وبين المشركين، وهم لهذا مطالبون بأن يحضروا إيمانهم هذا كلّ تصرف يكون بينهم وبين المشركين، من أخذ أو إعطاء.. قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» هذا بيان لما يقوم عليه إيمان المؤمنات، سواء بايعن الرسول بيعة حضور، أو غيبة، بمعنى أن هذه البيعة هى بيعة الإسلام للنساء، وما يفترض عليهن من فرائض.. وذلك: - «أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً» . أي يخلصن إيمانهن لله، ويخلين قلوبهن من كل معبود سواه.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 909 - «وَلا يَسْرِقْنَ..- «وَلا يَزْنِينَ..- «وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ.. خشية الفقر- «وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ» والبهتان، هو الباطل، الفاسد من العمل، كالزور من الكلام.. والمراد به هنا، هو ولادة الأبناء منهن من غير آبائهن.. وفى تصوير المولود من غير أبيه، بأنه «بهتان» - تنفير من هذا المولود، وإثارة لمشاعر الخوف منه، والكراهية له وفى وضع هذا «البهتان» بين يدى المرأة ورجليها- إزعاج لها، وإقلاق لمشاعرها أن تسكن إلى هذه الجريمة البشعة التي تعيش معها، كما يعيش القتيل بين يدى قاتله.. وما بين يدى المرأة ورجليها، هو بطنها الذي يحمل هذا البهتان، ويعيش فيه تسعة أشهر ملتصقا بالمرأة، هاتفا بها فى كل لحظة، إنى هنا! إن ذلك- إذا علمت المرأة المؤمنة أنه بهتان- لا يدع لها لحظة من الاستقرار والسكون، فى يقظة أو منام، الأمر الذي يدعوها إلى التفكير الطويل قبل أن تضم فى كيانها هذا البهتان! وأن تنسبه كذبا وافتراء إلى فراش الزوجية. وقوله تعالى: «وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ» - المعروف ما يقوم عليه إيمان المؤمن- ذكرا، أو أنثى- فيما قدر عليه، ووسعته نفسه.. من طاعة الرسول، وامتثال أمره، واجتناب نهيه.. والعصيان يقع على الأمر والنهى معا.. فعصيان الأمر عدم امتثاله.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى على لسان موسى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 910 لأخيه هرون: «أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي؟» (93: طه) وعصيان النهى إتيان المنهىّ عنه.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى» .. وعصيان آدم، هو أكله من الشجرة التي نهاه الله تعالى عن الأكل منها فى قوله تعالى: «وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ» (19: الأعراف) وفى قوله تعالى: «فِي مَعْرُوفٍ» وفى تقييد عدم العصيان بما هو معروف- إشارة إلى أن العصيان لا يكون عصيانا إلا فيما عرف لهنّ من أمر أو نهى، وهذا يعنى أن غير المعروف لهن من أحكام الشريعة، من أوامر ونواه، هو معفوّ عنه، وهذا يعنى أن على الرسول أن يبلغ رسالة ربه كاملة إليهن. وقوله تعالى: «فَبايِعْهُنَّ» أي اقبل إيمانهن، واعتبرهن فى جماعة المؤمنين، لهن ما للمؤمنين، وعليهن ما عليهم.. وقوله تعالى: «وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ.. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» أي ادع الله لهن بالمغفرة لما سلف منهن من ذنوب قبل الإسلام.. من شرك، أو سرقة، أو زنى، أو إتيان ببهتان افترينه بين أيديهن وأرجلهن.. «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» أي واسع الرحمة والمغفرة، فيغفر لهن ذنوبهن جميعا التي كانت منهن قبل الإسلام، مهما عظمت أو كثرت.. وبهذه المغفرة العامة الشاملة يدخلن الإسلام طاهرات من كل ذنب، مبرات من كل إثم، وبهذا العفو العام يبدأن صفحة جديدة نقية، مع الحياة الجديدة التي ولدن بها فى الإسلام.. وهذا من شأنه أن يقوّى من عزائمهن على الاحتفاظ بنقاء هذه الصفحة وصفائها. قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ» الجزء: 14 ¦ الصفحة: 911 الذين غضب الله عليهم، هم اليهود، وإنه حيث ذكر غضب الله فى القرآن على قوم، أو جماعة- فالمقصود به اليهود والتولي: من الولاء، والمولاة.. وبهذه الآية الكريمة تختم السورة، وبهذا الختام يلتقى ختامها مع بدئها حيث بدئت بنهي المؤمنين عن موالاة أعداء المؤمنين من الكفار والمشركين.. ثم كان ختامها دعوة من الله إلى مجانبة الذين غصب الله عليهم، وهم اليهود.. وبهذا لا يكون للمؤمنين ولاء مع جميع أهل العداوة لله وللمؤمنين. وفى قوله تعالى: «قوما» بالتنكير، إشارة إلى ازدراء هؤلاء القوم، وهوانهم، وأنهم- حيث كانوا- هم فى صغار وذلة وهوان.. وحسبهم صغارا وذلة وهوانا، أن يصحبهم غضب الله فى كل زمان ومكان.. ثم إن فى هذا التنكير دلالة على أن وصف القوم بغضب الله عليهم، يكشف عن وجه هؤلاء القوم، ويقوم شاهدا عليهم، إذ ليس هناك من وقعت عليه لعنة الله غيرهم.. فالصفة قرينة دالة على الموصوف، إذ كانت مقصورة عليه.. قوله تعالى: «قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ» - إشارة إلى موقف اليهود من الحياة الآخرة، وأنهم فى شكّ منها وفى يأس من لقائها، فهم- مع إيمانهم بالله- على عقيدة بأن لا بعث بعد الموت، وأن الناس إنما يوفّون جزاءهم فى هذه الحياة الدنيا.. ولهذا فإنهم يستنفدون كلّ جهدهم فى العمل لما يبنى حياتهم الدنيوية، دون أن تكون منهم لفتة إلى ماوراء هذه الحياة.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 912 وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ» .. (32: الجاثية) .. هذا هو المعتقد الغالب على اليهود، فيما يتصل بالبعث، وبالحياة الآخرة، وإن كانت شريعتهم التي جاءهم بها موسى، تدعو إلى الإيمان بالحياة الآخرة، وإلى العمل لها، ولكن القوم يتأولون نصوص الشريعة، ويلوونها مع أهوائهم، حتى كانت الحياة الآخرة عندهم أقرب إلى الخيال منها إلى الحقيقة. وقوله تعالى: «يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ» بدلا من أن يقال كفروا بالآخرة، أو كذبوا بها، للإشارة إلى ما عندهم من علم بالآخرة، وبما يكون فيها من حساب وجزاء، وأنه علم نظرىّ، ميئوس من وقوع المعلوم منه، وتحققه.. وهذا إعجاز من إعجاز القرآن، فى تصوير هذا المفهوم الذي يقوم عند اليهود للبعث وللحياة الآخرة.. إنه انتظار لغائب لا يرجى له إياب، فوقع اليأس من لقائه.. وفى قوله تعالى: «كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ» أي أن يأس اليهود من لقاء الآخرة، هو أشبه بيأس الكفار من أن يلتقوا يوما بموتاهم الذين أودعوهم القبور.. فاليهود ينظرون إلى الآخرة، نظرة الكفار إلى الأموات فى القبور.. إن كلّا منهم ينظر إلى شىء.. ولكن هذا الشيء- فى زعمهم- لن يلتقوا به أبدا.. الآخرة فى زعم اليهود، والأموات فى زعم الكفار.. وكلا الزعمين باطل، فاليهود سيلتقون بالآخرة، وإن كرهوا، والكفار سيلتقون بموتاهم وإن يئسوا.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 913 61: سورة الصّفّ نزولها: مدنية. عدد آياتها: أربع عشرة آية. عدد كلماتها: مائتان وإحدى وعشرون كلمة. عدد حروفها: تسعمائة حرف. مناسبتها لما قبلها كانت السورة السابقة «الممتحنة» حديثا متصلا إلى المؤمنين، وما ينبغى أن يكون عليه موقفهم من المشركين، والذين يكيدون للإسلام والمسلمين، وأن هذا الموقف يقتضيهم أن يقطعوا ما بينهم وبين هؤلاء وهؤلاء من صلات القربى والمودة، وأن يجعلوا ولاءهم خالصا لدين الله والمؤمنين بالله- وهذه حال من شأنها أن تكشف عن ضعف بعض النفوس التي لا تحتمل هذه التجربة، ولا تصبر على هذا الامتحان، وهنا تكثر الأقوال التي يدّعى أصحابها دعاوى تحدّث عن موقفهم من المشركين، والمنافقين، على حين أن حالة أفعالهم أو ما فى قلوبهم، تخالف هذه الأقوال.. فكان أن بدأت سورة (الصف) بالتسبيح بحمد الله الذي هدى المؤمنين إلى الإيمان، ثم ببيان المنهج الذي ينهجه المؤمنون، كى يبقى هذا الإيمان سليما قوبا فى صدورهم.. وأساس هذا المنهج هو الأفعال لا الأقوال.. الأفعال التي تصدر عن قلب مؤمن، وعن مشاعر مستجيبة لهذا الإيمان، لا الأقوال التي لا يصدّقها العمل، ولا يزكيها الإيمان.. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ» .. وهكذا تبدأ سورة «الصفّ» فتتصل هذا الاتصال الوثيق بسورة «الممتحنة» قبلها. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 914 بسم الله الرحمن الرحيم الآيات: (1- 6) [سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) التفسير: قوله تعالى: «سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. هو خبر يراد به تمجيد الله وتعظيمه، لذاته سبحانه وتعالى.. فهو- سبحانه- ممجد ومعظم، وإن لم يستجب المشركون والكافرون للإيمان به. ولتمجيده وتعظيمه.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 915 قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ» . هو إنكار من الله سبحانه وتعالى على المؤمنين أن يلبسوا ثوب الإيمان ظاهرا، ثم يكون هذا الظاهر على خلاف مع الباطن.. أو أن تقول ألسنتهم ما ليس فى قلوبهم.. فهذا وجه من وجوه النفاق.. لا يليق بالمؤمن أن يلمّ به، أو يدخل على إيمانه شىء منه.. فالأقوال التي لا يصدّقها العمل، لا تخلو من أحد وصفين: إما أن تكون لغوا من القول.. وهذا مما ينبغى للمؤمن أن ينزه نفسه عنه.. فإن الكلمة على لسان المؤمن يجب أن تكون عقدا بين المؤمن ونفسه، لا تبرأ ذمته حتى يفى بهذا العقد، ويحققه.. فإنه عن الكلمة تلقّى المؤمن رسالة السماء، وعرف شريعة الله.. فليكن الكلمة عنده- سواء نطق بها هو، أو استمع إليها- حساب وتقدير.. وإما أن تكون الكلمة التي ينطق بها اللسان، ولا يصدقها العمل، كلمة كاذبة أو منافقة.. ولا يجتمع الإيمان مع النفاق. ومن أجل هذا جاء قوله تعالى: «كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ» تعقيبا على هذا الإنكار، وتجريحا لهذا القول الذي لا يصدّقه العمل، وأنه قول ممقوت عند الله، يبغضه، ويبغض أهله.. قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ» . مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أنها تبين الصورة الكريمة التي ينبغى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 916 أن يكون عليها إيمان المؤمن، بعد أن كشفت الآيتان السائقتان عن الصورة المهزوزة، المنكرة، التي تكون للمؤمن حين يقول، ولا يفعل ما يقول.. ولما كان الجهاد فى سبيل الله أعظم الأفعال، وأكرمها، وأصدقها، حيث موقف المجاهد، وثباته فى ميدان القتال، والتحامه فى صفوف المجاهدين، وجعل كيانه بعضا من كيانهم، وحيث يكون هذا الموقف دليلا عمليا قاطعا على صدق الإيمان ووثاقته- لمّا كان هذا شأن الجهاد، فقد جعله الله سبحانه وتعالى هو المحكّ الذي يظهر عليه إيمان المؤمن، والشهادة التي تشهد له عند الله وعند الناس أن فعله يصدّق قوله على أتم صورة وأكملها.. وعلى هذا، فإن من أراد أن يكون مؤمنا حقّا، وأن يبرىء نفسه من الكذب والنفاق- عليه أن يشهد مواقف القتال، وأن يأخذ مكانه فى صف المجاهدين، وأن يعطى الجهاد حقه، وأن يقاتل حتى يكتب الله النصر للمومنين، أو يقتل وهو فى مواجهة العدو، لا موليا دبره، ولا محتميا بظهر غيره من المجاهدين.. فذلك هو الإيمان، بل هو أعلى درجات الإيمان وأكرمها، وأصدقها.. فأى قول يقوله المؤمن المجاهد بعد هذا، هو قادر على الوفاء به.. فإن من قدّم نفسه للاستشهاد فى سبيل الله، لهو أقوى من أن يضعف عن الوفاء بكلمة يقولها.. وقوله تعالى: «وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» فى هذه الآية عزاء للنبى- صلوات الله وسلامه عليه- عما يرى فى بعض المؤمنين من ضعف إيمان، أو انحراف عن غير الطريق القويم، أو انحياز إلى المشركين، أو ممالأة للكافرين.. فهذا كله مما يمكن أن يقع فى الإنسانية، حيث الجزء: 14 ¦ الصفحة: 917 لا يخلو أي مجتمع من المجتمعات البشرية من هذا الضعف الإنسانى، وحيث لم تسلم دعوة من دعوات الرسل من أن يقع فى محيطها مثل ما يرى النبي فى محيط دعوته، من منافقين، ومنحرفين.. فهذا موسى- عليه السلام- قد لقى من قومه اليهود، الذين يرى النبي أبناءهم يكيدون له، ويكيدون لدعوته- قد لقى منهم نبيهم موسى ألوانا من الكيد، وصنوفا من الأذى.. وإذن فليوطن النبي- صلوات الله وسلامه عليه- نفسه على أنه سيستقبل صورا من الأذى الذي لا ينقطع أبدا، ما دام قائما فى مواجهة الناس بتلك الدعوة، سواء فى هذا ما يكون من المشركين والكافرين والمنافقين، أو من المؤمنين الذين لم تطمئن قلوبهم بالإيمان.. فتلك هى الحياة، وهؤلاء هم الناس..!! والأذى الذي لقيه موسى من قومه، هو ما كان يأتيه منهم من مكر بآيات الله، وشرود عن الطريق الذي أقامهم عليه.. فقد كانوا أبدا فى لجاج وعناد، وفى تحدّ وتكذيب لآيات الله التي بين أيديهم.. وفى القرآن الكريم مواقف كثيرة لإعنات اليهود لموسى، وشرودهم، وجماحهم عن طريق الهدى.. لقد أنجاهم الله على يد موسى من فرعون، ومما كان يسومهم، من سوء العذاب، وبين أيديهم، وأمام أعينهم ضرب موسى البحر بعصاه، فأقام من هذه الضربة طريقا فى البحر يبسا، سلكوه، وعبروا به الجانب الآخر من البحر، على حين أنه أطبق على فرعون وجنوده حين اتخذوا هذا الطريق مركبا فكانوا من المغرقين.. ومع هذه المعجزة القاهرة، فإن بنى إسرائيل ما كادت تستقر أقدامهم فى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 918 المكان الجديد، حتى أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، فقالوا لموسى، اجعل لنا إلها كما لهم آلهة.. وفى مكانهم الجديد ينزل الله عليهم المنّ والسلوى، ثم لا تلبث طباعهم النكدة أن تنفر من هذا الطعام، كما نفرت قلوبهم المظلمة من الإيمان بالإله الواحد، فقالوا لموسى: «فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها» (61: البقرة) .. وإنهم وهم يطلبون ما يرضى طباعهم الخبيثة، لا يقولون لموسى: ادع لنا ربنا، بل يقولون «فَادْعُ لَنا رَبَّكَ» فكأنهم لا يعترفون بربّ موسى ربّا لهم.! ويذهب موسى لميقات ربه، ثم يعود إليهم، فيجدهم قد اتخذوا من حليّهم عجلا جعلوه إلها يعبدونه، كما يقول سبحانه: «وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا.. اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ..» (148: الأعراف) . فهذه المواقف الضالة، المسرفة فى الضلال، هى التي كانت تؤذى موسى، ونزعجه، إذ كانت تهدم كل بناء يقيمه، وتفسد كل طريق يصلحه. وفى قوله تعالى: «وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ» أي لم تؤذوننى بهذا الخلاف علىّ، والخروج عن السبيل الذي أقيمكم عليه، وأنتم تعلمون أنى رسول الله إليكم، بما أقمت أمام أعينكم من آيات ومعجزات، هى شهادة قائمة بأنّى رسول من عند الله.؟ فالواو هنا، واو الحال، و (قد) حرف تحقيق، يفيد التوكيد، والجملة حالية، وقد جىء بالفعل المضارع بدل الماضي، للدلالة على أن هذا العلم قائم بينهم، وأن الآيات والمعجزات لا تزال تتنزل عليهم، وفى هذا ما يشير إلى ما فى طبائع القوم من عناد وجماح عن الانقياد للحق، والاستقامة على طريق الهدى. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 919 وقوله تعالى: «فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ» أي فلما انحرفوا، ومالوا عن طريق الحق، أمال الله قلوبهم نحو هذا الضلال، وأغرقهم فيه، لأنهم فسقوا «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» الذين يلبسون ثوب الحق ثم ينزعونه عنهم، ويخرجون منه.. فقد هداهم الله إلى الحق، ثم خرجوا من هذا الهدى، وآثروا الظلام والضلال.. فهم بهذا يخالفون الله عن عمد، وعن علم.. ومن كان هذا شأنه، فهو على عداوة متحدية لله، والله لا يهدى من يعاديه.. وفى ذكر كلمة القوم فى قوله تعالى: «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» بدلا من أن يقال «والله لا يهدى الفاسقين» - فى هذا إشارة إلى أن المراد بهذا، هم قوم مخصوصون، وهم هؤلاء القوم، أي اليهود.. قوله تعالى: «وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ.. فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ» .. نسب السيد المسيح إلى أمه، لأنه هو النسب الذي له فى الناس، إذ لا أب له من بنى الإنسان، وإنما هو نفحة من روح الله.. ونادى المسيح بنى إسرائيل بقوله «يا بَنِي إِسْرائِيلَ» ولم يقل يا قوم كما هو حديث الأنبياء إلى أقوامهم، لأنه- وإن ولد فيهم- ليس ابنا لرجل منهم.. واليهود لا ينسبون أحدا إليهم إلا إذا كان مولودا من أبوين يهوديين، أو من أب يهودى على الأقل.. ومع أن اليهود، كانوا ينسبون السيد المسيح- عليه السلام- نسبة غير شرعية- إلى يهودىّ منهم، هو يوسف النجار، وإنه بهذا لا مانع عندهم من أن ينسب الجزء: 14 ¦ الصفحة: 920 السيد المسيح إليهم، إلا أنه عليه السلام، رفض هذا النسب المدّعى له، محتفظا بنسبه السماوي، الذي كرمه الله به، متحدّيا بهت اليهود، ضاريا فى وجوههم بهذا الافتراء الذي افتروه عليه، وعلى أمه البتول.. لأنه لا يقول غير الحق، ولا يقبل إلا ما هو حق! وفى قوله: «إنى رسول الله إليكم» - إشارة إلى أنه رسول الله إليهم خاصة، كما كان موسى- عليه السلام- رسولا من عند الله إليهم.. وقوله: «مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ» .. أي مؤمنا بالتوراة التي بين يدىّ، والتي هى كتابكم الذي تؤمنون به.. فأنا لم أجئكم بما تنكرونه علىّ، بل جئتكم مجددا هذه الرسالة التي جاءكم بها موسى، لأفيمكم على تعاليمها.. فلم تنكرون ما أدعوكم إليه! وفى هذا يقول السيد المسيح فى الإنجيل: «ما جئت لأنقض الناموس، وإنما جئت لأكّمل» أي لأقيم ما هدمتم من تلك الشريعة، وما نقضتم من ناموسها.. وقوله: «ومبشرا برسول يأتى من بعدي اسمه أحمد» - هو إشارة إلى نبىّ يأتى من بعده اسمه أحمد، وهو رسول الله «محمد» صلى الله عليه وسلم.. وقد صدقت كلمة المسيح- عليه السلام- فما جاء بعده رسول- ولو على سبيل الادّعاء- حتى كانت رسالة محمد صلوات الله وسلامه عليه.. قوله تعالى: «فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ» أي فلما جاءهم المسيح بالمعجزات التي وضعها الله سبحانه بين يديه، بهتوه، وكذبوه، واتهموه بالسحر والشعوذة، وتعقبوه بالأذى، وأخذوه بالبأساء والضراء، ولم يمسكوا عن مساءته حتى ساقوه إلى ساحة الاتهام، وحكموا عليه بالموت صلبا: «وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ» (157: النساء) . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 921 ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- وقد بشر به المسيح فى قوله تعالى: «وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» .. بمعنى فلماء جاءهم النبي الذي بشرهم به المسيح، ومعه آيات الله البينات، كفروا به وقالوا هذا سحر مبين.. والذين كفروا هنا هم اليهود والنصارى.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ.. فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ» (89: البقرة) .. [المسيح.. وتبشيره بالنبي] جاء فى هذه السورة- سورة الحشر- قوله تعالى على لسان المسيح: «وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ.. إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ.. مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ..» هذا ما جاء به القرآن، على لسان المسيح، إلى بنى إسرائيل، مبشرا إياهم، برسول يأتى من بعده اسمه «أحمد» ، وهو اسم «محمد» رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن كلا الاسمين مشتق من الحمد، فهو- صلوات الله وسلامه عليه، أحمد، ومحمود، ومحمد.. وإذا كانت الأناجيل الأربعة المتداولة اليوم، قد خلت من هذه البشرى على وجه صريح، فإن ذلك لا ينقض ما جاء به القرآن الكريم، فى الآية السابقة، إذ القرآن، هو الحجة القائمة على ما سبقه من الكتب السماوية، لأنه آخرها، وضابط محكمها، والمهيمن عليها، كما يقول سبحانه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 922 وتعالى: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ» (48: المائدة) . والإنجيل الذي يتحدث عنه القرآن، هو كتاب واحد، ولكنّ الذي فى أيدى الناس اليوم ليس إنجيلا واحدا، وإنما هو أربعة أناجيل، وقد كان فى وقت ما خمسة وسبعين إنجيلا، وقد وقع خلاف فيما بينها.. لأنها لا تعتمد على أصل واحد، ولا ترجع إلى الإنجيل الذي أنزل على المسيح عليه السلام، وإنما هى مرويات تتحدث عن السيد المسيح، وعن سيرته وأخباره، فيما يرويه عنه بعض حوارييه، أو من اتصل بحوارييه، وسمع منهم، وتتلمذ عليهم، وفى هذه السيرة عبارات من عظات السيد المسيح ووصاياه، وقد يكون فيها بعض آيات من الإنجيل السماوي، كان السيد المسيح يضمّنها عظاته ووصاياه.. وإذن فالأناجيل التي ذكرت سيرة السيد المسيح، تختلف فى تشخيص شخصية السيد المسيح، وفى تناول مواقفه، وفى نقل عباراته وكلماته، باختلاف الكتّاب الذين كتبوا هذه السيرة، ونفضوا عليها من عواطفهم ومشاعرهم، ومن ألوان ثقافاتهم ما جعل الأناجيل تختلف هذا الاختلاف، كما يختلف إنسان عن إنسان، فى تفكيره، وفى تصوره للأحداث. وليس من همّنا هنا دراسة الأناجيل دراسة تاريخية، محققة، للإنجيل السماوي، أو الأناجيل التي جاءت محدّثة عنه.. وإنما الذي نقف عنده منها، هو أن القرآن الكريم قد ذكر آية صريحة تذكر على لسان السيد المسيح، تلك البشرى التي أعلنها فى بنى إسرائيل، مبشرا برسول يأتى من بعده اسمه «أحمد» .. ثم نبحث فى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 923 الأناجيل الأربعة فلا نجد هذه البشرى صريحة تلك الصراحة التي تقطع بأن نبيّا اسمه أحمد سيجيئ بعد المسيح! وإنما الذي جاء فى بعض الأناجيل التي اعتمدتها المسيحية- إشارات، يمكن أن تؤوّل إلى ما يفهم منه ظهور نبى عربى، يأتى من بعد المسيح موصوفا بصفات الحمد.. وهو كلمة «بار قليط» الذي وعد المسيح بأنه سيأتى من بعده.. وإنه لكى نفهم هذه الإشارة التي جاءت على لسان المسيح، كما رواها «يوحنا» فى إنجيله، ينبغى أن نقف وقفة قصيرة مع السيد المسيح، ومع الظروف التي ولد فيها، وما كان بينه وبين اليهود من مواقف.. فذلك من شأنه أن يحل لنا كثيرا من رموز هذه الكلمات التي رويت عن السيد المسيح، عليه السلام.. فى حياة المسيح- عليه السلام- أكثر من حدث أثار تضارب الآراء فيه، واختلاف الناس عليه.. (فأولا) ميلاده من عذراء.. كان هذا الميلاد مشكلة ضخمة.. إذ أن هذا الميلاد غير طبيعى، وغير جار على مألوف الحياة.. وذلك مما يدير الرءوس نحوه، ويلفت العقول إليه، ويفتح للناس طرائق شتى للقول فيه، أو التقول عليه. فاليهود- مثلا- لم يعترفوا بهذا الميلاد، ولم يقبلوه.. بل اعتبروه ولادة غير شرعية، جاءت على غير رشدة.. من اتصال محرّم، بين مريم، ويوسف النجار. وبهذا وضعوا المسيح وأمه فى هذا الموضع الذي يصمهما بالدنس.. والعار!. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 924 (وثانيا) صلبه.. ووقوعه بهذا الصلب تحت حكم الناموس الذي يقضى بلعن كل من علق على خشبة! كما تقول التوراة. (وثالثا) ألوهيته.. وخروجه بهذه الألوهية عن وجوده البشرى الذي رآه الناس عليه والقضاء على شخصيته، وإفنائها.. فهذه ثلاث شبه، أوتهم، تحوم حول شخص المسيح، وتفسد الرأى فيه، وتجعل منه شخصية أسطورية أكثر منها شخصية حقيقية.. والقرآن الكريم، هو وحده الذي تولّى «الدفاع» عن المسيح، وكشف الشّبه عن شخصه الكريم، ووضعه بالمقام المحمود الجدير به كإنسان، يأخذ مكان الذورة بين الناس! .. يقول الله تعالى «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ» : (171: النساء) وبقول سبحانه: «إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ، وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ» (59 الزخرف) .. ويقول جل شأنه: «مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ.. كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ» (75: المائدة) . إن الأخذ بما يقول القرآن فى المسيح، هو الذي يرفع هذه الشبه، التي كانت ولا تزال داعية لسوء القالة فيه عند أعدائه اليهود، أو باعثة للاضطراب، والقلق النفسي، والروحي، والعقلي، عند أتباعه، إذ يرونه إنسانا فى شخص، إله، أو إلها فى جسد إنسان!. كان المسيح قد تنبأ لهذا الخلاف، الذي يكون فى شأنه، ولهذه المقولات المنحرفة التي قيلت، أو تقال فيه.. وقد أشفق على نفسه منها، إذ كان بعضها يطعنه فى شرف مولده، وفى طهارة أمه وعفافها، على حين كان بعضها الآخر يسلحه من بشريته، ويخرجه من إنسانيته إلى صورة مختلطة، تجمع الإله والإنسان فى ذات واحدة، وفى جسد واحد.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 925 كان المسيح قد تنبأ لهذا، وأشفق منه، بل وتألم له! ولكن الله طمأنه وأذهب مخاوفه، إذ أوحى إليه أن هناك من سيتولى الدفاع عنه، ودفع الشبهات التي ستدخل على الناس من أمره.. فى حال حياته، وبعد أن فارق الحياة.. يقول السيد المسيح فيما روت الأناجيل المعتمدة اليوم، على لسانه، مخاطبا تلاميذه، وحوارييه: «لكنى أقول لكم: الحق إنه خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزّى، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم، ومتى جاء ذك يبكّت العالم على خطّية، وعلى برّ، وعلى دينونه.. أما على خطية، فإنهم لا يؤمنون بي.. وأما على برّ فإنى ذاهب إلى أبى، ولا تروننى أيضا.. وأما على دينونة، فلأن رئيس هذا العالم قد أدين! «إن لى أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء بروح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية.. ذاك يمجّدنى، لأنه يأخذ مما لى ويخبركم، كل ما للأب هولى، لهذا قلت إنه يأخذ مما لى، ويخبركم.. بعد قليل لا تبصروننى، ثم بعد قليل أيضا تروننى لأنى ذاهب إلى الآب» «1» يتحدث المسيح إلى أتباعه هنا عن شخص، سيجيئ بعده، إذا هو ترك مقامه فيهم، وفارق هذه الدنيا. وصفات هذا الشخص كما يحددها السيد المسيح هى: أولا: أنه المعزّى الذي يجىء مواسيا ومعزيا، فيما أصيب به المسيح فى شخصه   (1) إنجيل يوحنا 16: 8- 16. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 926 وما رمى به من تهم.. وكلمة المعزّى، هى إحدى المعاني التي فسرت بها كلمة «بارقليت» اليونانية، والتي فسرت أيضا بمعنى المحامى، أو مستشار الدفاع. ثانيا: أنه سيبكّت العالم على أمور ثلاثة: ا- على خطية.. هى أنهم لم يؤمنوا بالمسيح على الوجه الذي جاء عليه. ب- وعلى برّ.. وهو أنه ذاهب إلى الله، لينزل المنزل الكريم الذي أعده له، ولكن الناس أنزلوه فى غير هذه المنزلة، حيث رفعه أتباعه إلى مقام الإله ذاته، على حين أنزله اليهود منازل الضالين. ح- وعلى دينونة.. وهى هذا الحكم الظالم الذي حكم به اليهود على المسيح. وثالثا: أن المعزّى هذا، سيرشد أتباع المسيح إلى الحقيقة كلها، ومعنى هذا أن هناك أشياء لم يكشف عنها المسيح، ومعنى هذا، أيضا أن هذه الأشياء هى مما جدّ بعد المسيح من أمور، اختلط على الناس وجه الحق فيها، وهذا هو موضوع القضية الذي سيكون من عمل المحامى، الدفاع عنه، ودفع الشبه التي ألقيت عليه. ورابعا: أن هذا المحامى لا يتكلم من عند نفسه، بل بما قد سمع.. ومعنى هذا أنه إنما يأخذ دفاعه تلقّيا من جهة غير جهته، هى التي تلقّنه المقولات والحجج التي يلقيها على الشبه المتلبسة بتلك القضية. وخامسا: أن هذا المحامى سيمجد المسيح. وسادسا: أن هذا التمجيد الذي يقدمه المحامى فى شأن المسيح ليس مديحا، تستجلب به صفات لم يكن متصفا بها، وإنما هو تمجيد يكشف حقيقته للناس الجزء: 14 ¦ الصفحة: 927 وإزالة ما علق بذاته من شبه وضلالات. هذا ما تنطق به كلمات الإنجيل على لسان السيد المسيح، فى أوصاف المحامى أو المعزى الذي سيجيئ بعده، ولكن أتباع السيد المسيح خرّجوا هذه الكلمات تخريجا على غير هذا الوجه، على ما سنرى: يقول صاحب المسيحية الأصلية: «وقد بلغ الأمر بيسوع، من حيث ثقته واقتناعه من مكانه الرئيسى فى قصد الله- بلغ به حدّا جعله يأخذ على عاتقه أن يرسل شخصا، ليحلّ محله، بعد صعوده إلى السماء، ألا وهو الروح القدس، وقد دعاه «المعزى» (باراكليت) وهى تسمية مشروعة، ومعناها المحامى، أو مستشار الدفاع. «وبذلك يكون عمل (الروح القدس) هو الدفاع عن قضية يسوع أمام العالم، وقال عنه يسوع: «هو يشهد لى» (يوحنا 15: 26) ثم قال: «ذاك يمجدنى لأنه يأخذ مما لى ويخبركم» (يوحنا 16: 14) «1» . ومفهوم هذا القول أن الشخص الذي سيرسله المسيح هو «روح القدس» لا محمد، ولا غيره من البشر..!! وإذا علمنا أن معتقد المسيحية هو أن المسيح هو «الله» وأن «روح القدس» هو الله، بمعنى أن كلّا منهما هو فى أقنوم من أقانيمه الثلاثة- إذا علمنا ذلك كان عجبا أن يكون «المعزّى» شخصا، وأن يكون هذا الشخص هو الله، ثم أن يكون المسيح- وهو الله- يرسل «روح القدس» وهو الله!!. الله يذهب فى صورة المسيح «الابن» ويجىء فى صورة روح القدس!   (1) المسيحة الأصلية ص 27- 28 الجزء: 14 ¦ الصفحة: 928 ثم من جهة أخرى.. ما معنى أن المحامى- إذا كان هو «روح القدس» ، الذي هو الله ذاته- ما معنى أنه لا يتكلم من عند نفسه.. «بل يتكلم بما يكون قد سمع، ويخبركم؟» أروح القدس، أو الله، ينتظر من يلقّنه ما يقول، وبأذن له به.. فيتكلم بما يكون قد سمع؟ وهذا من حيث الشكل- كما يقال فى لغة القضاء- أما من حيث الموضوع، فإذ ننظر نجد: (أولا) : أن «روح القدس» الذي يقال إن المسيح وعد بإرساله بعد أن يمضى- لم ير له أحد وجها، لا من أتباع المسيح، ولا من غيرهم. (وثانيا) أن روح القدس هذا، وهو المحامى أو مستشار الدفاع- لم يعرف له أحد موقعا، ولم يكن له قول مأثور فى شأن المسيح، وفى تمجيده.. فأين إذن هو روح القدس؟ وأين أعماله، وأقواله، التي واجه بها الناس لتمجيد المسيح؟ ولسنا نجد جوابا لهذا إلا إذا نظرنا فى القرآن الكريم، ووقفنا عند ما جاء فيه من دفاع مشرق مفحم، عن السيد المسيح.. هذا الدفاع المشرق المفحم، هو تمجيد وتعزية للسيد المسيح، لما أصابه فى شخصه، وفى شخص أمّه، من ضرّ وأذى! جاءت- بعثة «محمد» صلوات الله وسلامه عليه- وقد مضى على الدعوة المسيحية نحو ستة قرون، وكان هذا الزمن الممتد كافيا لأن يفسح للدعوة مجال الحركة فى الحياة، وأن يبلغ بها أقصى ما تبلغه فى عقول الناس وقلوبهم.. من أولياء الدعوة وأعدائها على السوء.. إذ قد استنفد أعداؤها كلّ ما لديهم من مقولات يقولونها فى المسيح ودعوته، كما استنفد أولياؤها كلّ ما عندهم من مقولات، فى تصويرها، وتقرير حقائقها والاحتجاج لها.. ومن هذا الشد والجذب، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 929 والهجوم والدفاع، تشكّلت للمسيح «قضية» من أشد ما عرف الناس من قضايا، غموضا وتعقيدا.. والمسيح هو «الضحية» التي تنوشها رميات المتنازعين فيه، والمختلفين عليه.. من أعدائه، وأوليائه جميعا! .. وهنا تبرز الحكمة فى الحاجة إلى محام، أو مستشار للدفاع، ليقول فى هذه القضية، شيئا.. لا شيئا من عند نفسه، بل بما يكون قد سمع، ويخبر به! وليس ثمّة شك فى أن هذا المحامى، أو مستشار الدفاع أو المعزّى، هو «محمد» عليه الصلاة والسلام. فهو كما تنطق كلمات السيد المسيح: (أولا) : هو المحامى، الذي كان له دور معروف فى قضية المسيح، وكان بمشهد، أو بمسمع من الناس جميعا.. (وثانيا) هو الذي دافع فى هذه القضية دفاعه المعروف عن شخص المسيح، وعن أمه، وكان دفاعه هذا تمجيدا لهما، وعزاء مما أصابهما من رميات وطعنات. (وثالثا) : لم يقل هذا المحامى كلمة من عند نفسه، بل كل ما قاله هو مما تلقاه وحيا من ربه.. «لأنه لا يتكلم من عند نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به» .. (ورابعا) أن هذا الذي سمعه وحيا من ربه، لم يحتفظ به لنفسه، بل أخبر به، وبلّغه للناس، كما أمره ربه بقوله: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 930 إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» .. وفى هذا يقول السيد المسيح: «بل يتكلم بما يكون قد سمع، ويخبركم» . لقد كان «محمد» بما تلقّى من كلمات الله، هو المحامى الذي ردّ للمسيح ولأمه اعتبارهما، وهو الذي مجدهما ورفع قدرهما فى العالمين، وكان فى ذلك العزاء الجميل لهما، والمواساة الكريمة، لما أصابهما من بلاء عظيم.! وننظر فى كلمات المسيح مرة أخرى.. ونقف من كلمات السيد المسيح عند هذه الكلمات: 1- «إن فى انطلاقى لخيرا لكم» .. فهذا الخير هو ما ينكشف لهم من أمر المسيح على لسان «المحامى» الذي يتولى الدفاع عن قضيته، وبعرضه لهم فى المعرض الذي يجلّى حقيقته، ويكشف عن شخصه الكريم. 2- «فإنى أرسله إليكم» .. وهذه المقولة توحى بأن المسيح هو الذي يرسل هذا المحامى، أو بمعنى آخر، هو الذي يملك إرسال الرسل، أو بمعنى ثالث، هو الإله المتصرف فى هذا الوجود. وهى مقولة إن حملت على ظاهرها هذا، كانت إقرارا من الله- الذي هو المسيح- بالعجز عن الدفاع عن نفسه، فيقيم محاميا يتولّى الدفاع عنه!! وعلى هذا، فإن هذه المقولة إما أن تكون قد حرّفت ليستقيم عليها الفهم الذي وقع لأتباع المسيح من أنه هو الله! وإما أن تحمل على غير ظاهرها، ويكون قول المسيح: «إنى أرسله إليكم» محمولا على المجاز السببى، إذ لمّا كان وجود المسيح مانعا من وجود المحامى الذي يتولى الدفاع فى قضيته، إذ القضية لا تتشكل بصورتها الكاملة إلا بعد أن يذهب المسيح، وتكثر المقولات فيه- فإن ذهاب المسيح هو الذي يهيىء للمحامى سبيلا إلى الظهور.. وبهذا يمكن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 931 القول بأن المسيح هو الذي أرسله، بمعنى أنه كان سببا من أسباب إرساله! 3- فى قوله: «يخبركم بما يأتى» فيه إشارة إلى تلك المقولات التي ستقال فى المسيح بعد ذهابه، والتي ستشكّل منها تلك القضية التي تولّى القرآن الكريم الكشف عن وجه الحق فيها. 4- فى قوله: «يأخذ ممّا لى ويخبركم» إشارة إلى أن ما يقوله المحامى الذي يتولى الدفاع عن المسيح، ليس شيئا غريبا عن المسيح، بل هو ممّاله، أي مما اشتملت عليه ذاته، سواء أكان ذلك عن مولده، أو عن بشريته. كما نطق بذلك القرآن الكريم. وإذا كان القرآن الكريم، قد قال على لسان المسيح: «يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» - نقول إذا كان القرآن قد قال هذا على لسان السيد المسيح، فإن هذا القول يوافق تماما ما سجلته الأناجيل عنه، من قوله الذي أشرنا إليه من قبل، والذي يقول فيه مخاطبا أتباعه: «إنه خير لكم أن أنطلق، لأنه إذا لم أنطلق لا يأتيكم المعزّى» .. وكلمة «المعزّى» هى إحدى المعاني التي فسرت بها كلمة «باركليت» اليونانية، والتي فسّرت أيضا بمعنى: المحامى، أو مستشار الدفاع. والقرآن يصرّح بأن المسيح بشّر فى الإنجيل باسم هذا الذي سيجيئ من بعده، لا بصفته، إذ يقول: «وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ..» وأحمد صفة من الحمد، يشتقّ منها محمد، ومحمود، وحامد، وحمّاد.. وقد أخذ الرسول الكريم أعدل صفات الحمد، وأقومها، وأجمعها للمحامد كلّها، فهو «محمد» أي هو موضع الحمد له، والثناء عليه، من كلّ حامد الجزء: 14 ¦ الصفحة: 932 للخير، ومن كل مثن على الحق والعدل والإحسان. وإنه- صلوات الله وسلامه عليه- ما استحق أن يكون «محمدا» حتى كان أحمد، وحامدا، وحمّادا، ومحمودا.. فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى إخوانه من أنبياء الله ورسله أجمعين.. الآيات: (7- 14) [سورة الصف (61) : الآيات 7 الى 14] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 933 التفسير: قوله تعالى: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ..» الاستفهام هنا، مراد به النفي، أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب.. إنه أظلم الظالمين، لأنه يفترى على الله، فى حال يدعى فيها إلى الإسلام، وتقوم بين يديه أمارات الحق، وشواهد الهدى، فيفترى الكذب، أي يختلقه اختلاقا، ثم يرمى بهذا الكذب المفترى فى وجه الحق، بلا حياء.. وقوله تعالى: «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» هو تعقيب على هذه الجريمة التي يقترفها هؤلاء المجرمون، الذين يبهتون الحق، ويكابرون فى إنكاره.. إنهم أظلم الظالمين، لأنهم ضلّوا عن الحق لم يقبلوه، ثم إنهم إذ لم يقبلوا هذا الحق الذي دعوا إليه- رجموه بالزور والبهتان.. فهم ظالمون، ظالمون.. «والله لا يهدى القوم الظالمين» الذين تأبى طبائعهم أن تستجيب للهدى، وتسكن إليه.. والقوم الظالمون هنا، هم «اليهود» ، الذين رفضوا دعوة السيد المسيح، والذين لم يقفوا عند حدّ الرفض، بل بهتوه، وكذبوه.. وإنه كما دعا المسيح آباء هؤلاء اليهود إلى الإسلام الذي هو دين الله فكذبوه، وأنكروا عليه دعوته- كذلك فعل أبناؤهم هؤلاء، الذين دعاهم «محمد» - عليه السلام- إلى الإسلام، فافتروا الكذب، وأنكروا أنه رسول الله.. وكما ضلّ الآباء، كذلك ضل الأبناء.. «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» .. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 934 قوله تعالى: «يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» . نور الله، هو الحق الذي يحمله رسل الله، ويبشرون به فى الناس.. أي أن هؤلاء القوم الظالمين يريدون بافترائهم الكذب، وتعمدهم له- إطفاء نور الله، وهو القرآن الكريم، وما يدعو إليه.. واللام فى قوله تعالى: «ليطفئوا» هى لام العاقبة، أي يريدون الافتراء ويحملون أنفسهم عليه، ليطفئوا نور الله بأفواههم.. فافتراؤهم الكذب لغاية يريدونها، هى لإطفاء نور الله.. وعلى هذا المعنى جاء قول قيس بن الملوح (مجنون ليلى) : أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثّل لى ليلى بكل سبيل أي أريد البعد عنها، والانفراد بنفسي فى الخلوات، لكى أنسى ذكرها، ولكن وجودها يصحبنى حيثما أكون.. وفى قوله تعالى: «بأفواههم» - إشارة إلى الكذب والافتراء الذي تتفوه به أفواههم، فكأن هذه الكلمات الآثمة التي تخرج من أفواههم- هى نفثات تخرج من صدور مغيظة محنقة، ينفخون بها فى هذا المصباح الهادي، ليطفئوا نوره.. قوله تعالى: «وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» .. هو تعقيب على موقف هؤلاء المفترين من نور الله، ومن دينه الذي يدعو إليه رسول الله.. فهذا النور سوف يبسط سلطانه على الآفاق كلها، وسيبلغ به الله سبحانه وتعالى تمام كماله، وإن كره الكافرون هذا، وإن احترقت أكبادهم حسرة وكمدا، لما الجزء: 14 ¦ الصفحة: 935 سيبلغه هذا الدّين من قوة وسلطان.. وتمام نور الله إنما يكون حين يطلع على آفاق الأرض جميعها، ويبسط سلطانه على كل صقع من أصقاعها. وهذا يعنى أن الإسلام سيكون يوما، هو دين الله على هذه الأرض.. فذلك هو تمام نور الله الذي وعد الله سبحانه وتعالى به. قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» .. أي أن الله سبحانه وتعالى، هو الذي أرسل رسوله «محمدا» بالهدى، ودين الحق، ليظهر هذا الدين، ويعليه على الدين كله، وهو ما سبقه من أديان، ولو كره المشركون هذا الظهور لدين الله.. وفى هذه الآية وعد من الله سبحانه وتعالى بنصر هذا الدين، وبسط سلطانه على كل دين، لأنه الحق، الذي بلغ بالدين غاية كماله وتمامه.. إنه نور الله، والله متم نوره.. قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» . هو نداء من الله سبحانه وتعالى إلى هؤلاء المؤمنين، الذين استجابوا لله ولرسوله، ودانوا بهذا الدين، وهو دعوة لهم إلى تجارة تنجيهم من عذاب أليم فى الدنيا والآخرة.. قوله تعالى: «تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 936 هو بيان لهذه التجارة التي دعا الله سبحانه وتعالى المؤمنين إليها، وأمرهم بالاتجار فيها.. وهى الإيمان بالله وبرسول الله، والجهاد فى سبيل الله بالأموال والأنفس.. ففى هذه التجارة الربح العظيم، والخير العميم، الذي يقع لأيدى المتجرين بها، لو كانوا يعلمون ما يكون لهم من ورائها، من خير.. ودعوة المؤمنين إلى الإيمان بالله ورسوله، هو دعوة إلى إيمان خالص من الريب، مبرأ من الشرك.. فليس كل من دخل فى الإيمان كان مؤمنا حقّا.. وسمّى هذا الإيمان، وهذا الجهاد، تجارة، لأن التجارة عطاء وأخذ، وأعيان تقدّم للبيع، وثمن يؤخذ فى مقابل هذه الأعيان.. والمؤمنون بالله ورسوله، يقدمون أموالا وأنفسا، ويأخذون فى مقابل ما يقدمون ما يجزيهم الله سبحانه وتعالى عليه، من رضوان، وجنات لهم فيها نعيم مقيم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ.. فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (111: التوبة) .. وقوله تعالى: «يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» .. هو جواب لشرط مقدّر دلّ عليه ما فى الآية السابقة من الدعوة إلى الإيمان بالله ورسوله، والجهاد فى سبيله.. أي إن استجبتم لهذه الدعوة التي دعيتم إليها- أيها المؤمنون- يغفر الله لكم ذنوبكم. ويسترها عليكم، فلا ترونها بعد أن محاها الله، وطهّركم منها بمغفرته، ويدخلكم جنات تجرى من تحتها الأنهار، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 937 وينزلكم فيها مساكن طيبة، تطيب لكم الحياة فيها، فلا تتحولون عنها أبدا.. وذلك هو الفوز العظيم، الذي لا يعدله فوز، فيما عرفتم فى الحياة الدنيا.. قوله تعالى: «وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» أي ولكم مع هذا الفوز العظيم بجنات النعيم فى الآخرة- رغيبة أخرى تحبونها، وتتطلعون إليها، تلك هى ما ستلقون من نصر من الله، ومن فتح قريب، بما يفتح الله لكم فى هذه الدنيا من فتوح، وما يمكّن لكم من نصر على أعدائكم.. وقد حقق الله للمؤمنين ما وعدهم به من نصر وفتح، فقد انتصروا على أعدائهم من المشركين وللكافرين، وفتحوا معاقل الشرك، ودانت لهم مواطن المشركين، فيما وقع لهؤلاء المؤمنين من فتح خيبر، ومن إجلاء اليهود من المدينة، ومن فتح مكة.. ثم ما تلا ذلك من فتوح لمملكتى الفرس والروم.. وقوله تعالى: «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» .. هو أمر سماوى من الله سبحانه وتعالى للنبى الكريم أن يبشر المؤمنين بهذا الوعد الذي وعدهم الله إياه، وأن يكشف لهم عن مواقع هذا النصر والفتح القريب.. وقد بشّر النبي الكريم أصحابه بما سيلقاهم على طريق الإسلام من نصر وفتح.. وفى هذا ما يدخل الطمأنينة والرضاء على قلوب المؤمنين، ويمدّهم بأمداد السكينة والصبر على ما كانوا يعانون من شدة وضيق، وما كانوا يلقون من كيد وبلاء.. قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ» . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 938 هو دعوة أخرى إلى المؤمنين أن يكونوا أنصار الله، بأن يخلصوا وجودهم كلّه لله.. والصورة المثلى لهذا الإيمان، هو إيمان الحواريين، الذين كانوا أول المؤمنين بالمسيح، وهم اثنا عشر حواريّا.. فقد سبقوا إلى الإيمان، واحتملوا الصدمة الأولى التي صدم بها اليهود دعوة المسيح.. ومطلوب من هؤلاء المؤمنين السابقين من أتباع محمد، أن يكونوا فى إيمانهم على هذا الإيمان، يحتملون فيه ما احتمل الحواريون من ألوان الكيد والمكر، ومن صنوف البلاء والشدة.. وأنصار الله، هم الذين ينصرون دين الله، ويبذلون أنفسهم وأموالهم فى سبيله.. وقوله تعالى: «فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ» .. أي أنه بهؤلاء الحواريين الذين قاموا لنصر دين الله، وبجهادهم فى سبيله- قد آمنت طائفة من بنى إسرائيل، وكفرت طائفة، كما كان الحال فى مبدأ الدعوة الإسلامية، حيث آمن بإيمان الذين سبقوا إلى الإيمان، وجاهدوا فى سبيل الله- آمن بعض المشركين، وكفر بعض.. ثم كانت الخاتمة أن اندحر الذين كفروا بالمسيح، وأصبحت للمؤمنين به الغلبة عليهم، إلى يوم القيامة، كما يقول الله تعالى: «يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ» (55: آل عمران) .. وهكذا ظل اليهود الذين كفروا بالمسيح تحت يد المؤمنين منذ المسيح إلى اليوم، وإلى ما بعد اليوم.. سواء منهم المؤمنون بالمسيح الذين آمنوا به إلى ظهور النبي- صلوات الله وسلامه عليه- أو المؤمنون الذين آمنوا برسول الله، فهم مؤمنون كذلك بالمسيح.. وهكذا ينتصر الذين آمنوا برسول الله على الذين كفروا به، وتكون لهم اليد العليا عليهم أبد الدهر ... إلى يوم القيامة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 939 62- سورة الجمعة نزولها: مدنية.. عدد آياتها: إحدى عشرة.. آية.. عدد كلماتها: مائة وثمانون.. كلمة. عدد حروفها: سبعمائة وعشرون.. حرفا. مناسبتها لما قبلها جاء فى سورة «الصف» السابقة على هذه السورة، قوله تعالى: «وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» .. ثم جاء فى سورة «الجمعة» : هذه قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» .. فكان ذلك تصديقا لهذه البشرى، وتحقيقا لما أخبر به المسيح، من مجىء رسول من بعده اسمه أحمد.. فهذا الرسول، هو هذا النبي الذي بعثه الله فى الأميين، وهو محمد صلوات الله وسلامه عليه- فناسب ذلك أن تجىء سورة «الجمعة» على هذا الترتيب فى المصحف، آخذة مكانها بعد سورة «الصف» .. وفى هذا شاهد من شواهد كثيرة، تقطع بأن ترتيب السور فى المصحف، توفيقى من عند الله، أشبه بترتيب الآيات فى السور.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 940 بسم الله الرحمن الرحيم الآيات: (1- 8) [سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) التفسير قوله تعالى: «يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» . أي يسجد لله- تعظيما، وولاء، وتمجيدا- كل من فى السموات والأرض، وإن أبى هؤلاء الكافرون والمشركون أن يكونوا فى الساجدين.. فإنهم- إن ظنوا أنهم يملكون من أنفسهم أن يخرجوا عن هذا المقام الذي ينتظم الوجود كله فى محراب التسبيح بحمد الله- فهم واهمون، لأنهم فى قبضة الله، وفى محيط سلطانه، وهم بهذا خاضعون لله كرها، وإن لم يخضعوا له طوعا.. «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً» (15: الرعد) . والملك: هو صاحب الملك، المتصرف فيه كيف يشاء. والقدوس: الطاهر، المبرأ من كل نقص. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 941 قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» . هذا التسبيح الذي تسبح به السموات والأرض لله رب العالمين، هو وإن كان دائما لا ينقطع، إلا أنه هنا تسبيح خاص فى مواجهة هذه النعمة العظيمة التي أنعم الله بها على أهل الأرض، وهى بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام بالهدى ودين الحق. والأميون هم العرب، وسمّوا أميين، لأنه لم يكن لهم كتاب سماوى، وكان اليهود يطلقون على جميع الأمم لفظ الأميين بالإضافة إليهم هم.. يريدون بهذا أن يمتازوا على الناس، بأنهم هم الذين خاطبتهم السماء، وبعثت فيهم الرسل، وأنزلت عليهم الكتب.. أما غيرهم من سائر الأمم فلم يكونوا أهلا لأن يخاطبوا من الله، وأن يتلقوا رسالاته.. وبهذا صحّ فى زعمهم أن يدّعوا هذه الدعوة الضالة، وهى أنهم شعب الله المختار.. فلقد كانت هذه الدعوى شؤما وبلاء عليهم، إذ عزلتهم عن المجتمع الإنسانى، وأقامتهم فى الحياة الإنسانية مقاما مضطربا، لا يلقاهم الناس، ولا يلقون هم الناس، إلّا على عداوة وجفاء. ففى قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ» امتنان على الأمة العربية، بهذا الفضل الذي ساقه الله سبحانه وتعالى إليهم، وردّ على اليهود، وإبطال لدعواهم بأن الله اختارهم على العالمين.. واختصهم بفضله وإحسانه.. فالأمية التي وصف بها العرب هنا هى أمية من نوع خاص، وهى أمية من لا كتاب لهم من عند الله. وإن كان هذا لا يمنع من تفشّى الأمية فيهم، وهى أمية الجهل بالكتابة والقراءة. وذلك أن الدّين كان هو الباعث الأول على العلم، وعلى تعلم القراءة والكتابة، وأن أصحاب الكتب السماوية هم الذين كانوا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 942 يقبلون على العلم، وعلى مدارسة الكتب السماوية وما يتصل بها.. وفى قوله تعالى: «رَسُولًا مِنْهُمْ» - إشارة إلى أن هذا الرسول الذي بعثه الله سبحانه وتعالى إلى العرب، كان واحدا منهم، أي من هؤلاء الأميين، وليس من أهل الكتاب.. وهذا يعنى أن هؤلاء الأميين هم أهل لأن تختار منهم رسل الله، كما هم أهل لأن يتلقوا رسالات الله، وتنزل إليهم كتب الله.. وقوله تعالى: «يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ-» هو صفة للرسول صلوات الله وسلامه عليه، تبيّن محامل رسالته إلى العرب، ومنهج دعوته لهم.. فهو يتلو عليهم آيات الله، أي يسمعهم إياها، ويلقيها على أسماعهم مشافهة منه.. إنه هو الذي يتولى تبليغ رسالة ربه بنفسه، لا بوساطة كتب، أو رسل.. فما دام هو بين قومه، فهو الذي يلقى الناس برسالة ربه، وينقلها إليهم كما تلقاها وحيا من السماء، وهو بهذه التلاوة لآيات الله، إنما يريد أن يزكّى قومه، أي يطهرهم من الشرك، ومن ضلالات الجاهلية وأرجاسها. وهو- صلوات الله وسلامه عليه- «يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ» أي أي يبين لهم ما فى كتاب الله من شرائع وأحكام، كما يقول الله سبحانه: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» ويعلمهم كذلك «الحكمة» وهى السنّة التي يبين بها الرسول ما فى كتاب الله.. وسميت السّنة حكمة، لأنها مستفادة من كتاب الله، ومن النظر الملهم فى آياته وكلماته.. فليس كل ناظر فى كتاب الله قادرا على أن يتلقى الحكمة عنه.. وإنما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هو الذي أخذ الحكمة كلّها من كتاب الله، بما أراه الله.. وفى هذا دعوة للعرب وللمؤمنين بهذا الدين، أن يتعلموا للكتاب والحكمة، وذلك بمدراسة كتاب الله، إذ كان هو الكتاب الجامع لكل ما فى الكتب، من سماوية وغير سماوية، فمن جعل همّه له، ووجه عقله وقلبه إليه، أصاب العلم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 943 الجامع، والحكمة المشرقة، وهذا من شأنه أن يجعل من أمة الإسلام- لو أنهم استجابوا لدعوة الله هذه- موطن العلم، ومعدن الحكمة، وأن تكون لهم أستاذية الإنسانية فى العلم وفى الحكمة. وقوله تعالى: «وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» - هو بيان لحال العرب، حين جاءهم الرسول الكريم، يعلمهم الكتاب والحكمة. فقد كانوا قبله فى ضلال غليظ، وفى عمى مطبق، ومع ذلك استطاع هذا النور السماوي الذي حمله الرسول إليهم- أن يفتح به عيونا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، فأبصروا من عمّى، وسمعوا من صمم، وفقهوا من جهل، وأصبحوا علماء حكماء.. وهذا يعنى أن الاتصال بكتاب الله، من شأنه أن يفيد منه كل إنسان، ولو كان أبعد الناس عن العلم والحكمة، شأنه فى هذا شأن الغيث، يبعث الحياة حيث كان موقعه، فى خصب أو جدب. قوله تعالى: «وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» . هو معطوف على «الْأُمِّيِّينَ» أي هو الذي بعث فى الأميين رسولا منهم، أي من العرب، وفى آخرين من الأميين، من غير العرب، وهم سائر الأمم الأخرى. وهذا يعنى أن رسالة الرسول صلوات الله وسلامه عليه- وإن كانت للعرب أولا، فإن لغيرهم فيها نصيبهم منها، فهى رسالة عامة شاملة لكل الناس.. ثم إن هذا يشير من جهة أخرى إلى أن اليهود لا نصيب لهم فى هذه الرسالة لأنهم ليسوا من الأميين.. وهذا ما كشفت عنه الأيام، فقد دخل الناس الإسلام من كل أمة وجنس، وأما اليهود فلم يدخله منهم إلا نفر قليل.. على نفاق، وعلى كيد للإسلام.. فا آمن أحد منهم بالإسلام- مذ كان إلى اليوم- إيمانا خالصا من هوى، أو مبرّأ من غرض. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 944 وفى قوله تعالى: «لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ» .. إشارة بظهر الغيب إلى هؤلاء الآخرين الذين سيلحقون بالعرب فى الدخول فى الإسلام، والذين لم يكونوا قد دخلوا بعد، عند نزول هذه الآية.. وقد روى أن بعض صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سألوه عن هؤلاء الآخرين، وكان فيهم سلمان الفارسىّ، فوضع صلوات الله وسلامه عليه، يده على سلمان، ثم قال: «لو كان الإيمان عند الثريّا لتناوله رجال من هؤلاء» .. والإشارة هنا هى للفرس، قوم سلمان الفارسي، والمراد بكون الإيمان عند الثريّا وتناول الفرس له، أن الإسلام سيدخل فيه من كان بعيدا عن موطن الدعوة بعد الثريّا، وهذا يعنى امتداد رقعة الإسلام، وامتداد سلطانه فى أطراف الدنيا.. وهذا من أنباء الغيب، التي أوحاها الله إلى النبي، فقد دخلت فى الإسلام طوائف وجماعات من جميع الأمم. وقوله تعالى: «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. إشارة إلى سلطان الله الغالب، وأنه سينصر هذا الدين، ويعزّه، باجتماع الناس إليه من جميع الأمم والأجناس، وأن ذلك إنما يكون عن حكمة الحكيم العليم، فيدخل فى هذا الدين من شاء له الهدى والنجاة.. قوله تعالى: «ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ» . «ذلك» إشارة إلى بعث الرسول الكريم إلى الأميين من العرب، وهذا من فضل الله، الذي يؤتيه من يشاء من عباده، والله ذو الفضل العظيم، الذي يسع فضله الناس جميعا، وأنه إذا أصاب فضله قوما، فليس بالمحجوز عن غيرهم.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 945 الآيات: (5- 8) [سورة الجمعة (62) : الآيات 5 الى 8] مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) التفسير: قوله تعالى: «مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» . مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة أشارت إلى الأميين الذين يتعالى عليهم اليهود، الّذين رأوا فيما أنزل الله عليهم من كتب، وبما بعث فيهم من رسل- أنهم قد اختصّوا بفضل الله، من دون الناس جميعا، وقد جاءت الآيات لتبطل زعمهم هذا، فقد بعث الله فى الأميين رسولا، وأنزل عليه كتابا يتلوه عليهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ثم إنه سبحانه، لم يجعل هذا الفضل، وتلك الرحمة إلى العرب وحدهم، بل جعل ذلك للأميين جميعا من العرب وغير العرب- ثم جاء قوله تعالى: «مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 946 الآية» - جاء مخزيا اليهود، ومبطلا ادعاءهم، بأنهم قد استأثروا بفضل الله.. ونعم، إن الله قد ساق إليهم فضلا، وأنزل إليهم التوراة فيها هدى ونور.. ولكن ليس كلّ من كانت بين يديه نعمة، مستفيدا منها، بل إنه كثيرا ما تكون النعمة نقمه حين لا تجد من يحفظها، ويرعاها حقّ رعايتها.. إنها تكون حينئذ أشبه بالغيث يقع على الأرض السبخة فلا تستجيب له، ولا تتفاعل معه، وسرعان ما يفسد، ويتحول إلى ماء آسن، ينبث فى أحشائها الهوامّ والديدان.. وهؤلاء اليهود، قد حمّلوا التوراة، وكلّفوا العمل بها، ولكنهم لم يحسنوا العمل، بل اختلفوا فيها، وتأولوها تأويلا فاسدا.. فكان مثلهم فى هذا كمثل الحمار، يحمل كتبا، تثقل ظهره، وتصبح علة ملتصقة به، دون أن يفيد منها شيئا.. وفى تشبيه اليهود- حملة التوراة- بالحمار الذي يحمل أسفارا، ما يكشف عن طباع هؤلاء القوم، وعن بلادة حسّهم، وعن قبولهم الهوان والذلّة، وأنهم فى هذه الدنيا أشبه بالحمر، يسخرها الناس للحمل والركوب.. فالحمار من بين حيوانات الركوب جميعا، أكثرها هوانا على الناس، وأخسّها مطية للركوب.. لا يتخذه كرام الناس مركبا لهم.. وفى هذا يقول الشاعر: ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلّا الأذلّان عير الحىّ والوتد هذا الخسف مربوط برمّته ... وذا يشجّ فلا يرثى له أحد ولا يفترنّ أحد بما يبدو فى ظاهر الأمر من أحوال اليهود، ومن ظهور بعض العلماء فيهم، ومن تمكنهم من كثير من المرافق العاملة فى الحياة فهذا كلّه ثمن للهوان الذي استساغوا طعامه، تماما كما يزيّن بعض الحمير أحيانا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 947 بألوان من الزينة، بما يصطنع له من سرج القطيفة، ولجم الفضة، فلا يرفع ذلك من قدره، ولا يخرجه من بنى جنسه.. فهو «الحمار» أيّا كانت الحلية التي يتحلّى بها.. وإنه لو وضع أعلم اليهود، علمه تحت نظر فاحص دارس، لما رأى منه الناظر إليه إلّا غباء وجهلا، وإن هذا العلم مهما بلغ لا يعدو أن يكون ثوبا اختطفه، أو سرقه، أو ألقى به عليه غيره، ممن لا يريد أن يظهر فى الناس بهذا العلم، الذي كثيرا ما يكون منحرفا، مصادما للعقائد، والأخلاق. وقوله تعالى: «بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ» - أي بئس هذا المثل، وهو الحمار، مثلا لهؤلاء القوم الذين كذبوا بآيات الله. وقد وقع الذّمّ على المثل، ولم يقع على المماثل، وفى هذا مبالغة فى الذمّ للماثل، لأن الذي وقع عليه الذم إنما استحق الذّم فى هذا المقام بسبب من مثل به.. فكأن هذا الشيء المذموم لم يكن مذموما حتى اقترن بهذا الممثّل به، فأصابه منه هذا البلاء الذي استوجب ذمّه. وقوله تعالى: «وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» - إشارة إلى أن هؤلاء القوم إنما تخبطوا فى الضلال، وعموا عن الانتفاع بما فى التوراة التي يحملونها، لأنهم كانوا ظالمين، معتدّين حدود الله، فتركهم الله فى ظلمات يعمهون. قوله تعالى: «قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» .. الذين هادوا، هم اليهود، وأصله من الهود، وهو الرجوع برفق، وسمى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 948 اليهود يهودا، لأنهم رجعوا إلى الله تائبين، بعد أن عبدوا العجل، كما جاء فى فى قوله تعالى على لسان موسى «وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ» (156: الأعراف) .. ثم لزمهم هذا الاسم، ولعنهم الله وهم معروفون به.. فالخطاب فى الآية الكريمة موجّه من النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى اليهود، بأمر ربه، ليقول لهم: إن صحّ ما زعمتموه، من أنكم أولياء لله من دون الناس، وأن الله سبحانه وتعالى قد اختصكم بالفضل والإحسان، حتى لقد قلتم إنكم أبناء الله وأحباؤه- إن صحّ زعمكم هذا، فتمنّوا الموت واطلبوه، إن كنتم صادقين فيما تزعمون.. فإن هذا الموت سيصير بكم إلى الله الذي تزعمون أنكم أولياؤه وأبناؤه وأحباؤه.. والولىّ إنما يشتاق إلى لقاء وليّه، والابن إنما يسعى إلى لقاء أبيه، والحبيب إنما يشوقه لقاء من أحب.. فلم لا تتمنون الموت، ولا تطلبونه، وهو السبب الذي يصلكم اتصالا مباشرا بالله، الذي تزعمون أنكم أولياؤه وأحباؤه من دون الناس! إن هذا ادعاء كاذب منكم، ونفاق تنافقون به أنفسكم، إذ لو كنتم مؤمنين بما تزعمون، لما فزعتم من الموت، ولما حرصتم على الحياة هذا الحرص الذي جعل منكم أجبن الناس، وأشدهم فرارا من لقاء العدو.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ» (96: البقرة) .. وهذا لا يكون إلا من إنسان يرى الموت نهاية لوجوده، أو يرى أن وراء الموت أهوالا تنتظره، بما قدمت يداه من آثام.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 949 قوله تعالى: «وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» . هو بيان للعلّة التي من أجلها يحرص اليهود على الحياة، ويفزعون من الموت، وأنهم لا يتمنون الموت أبدا، لما يعلمون من أنفسهم أنهم على ضلال، وأنهم لن يجدوا فى الآخرة إلا البلاء والهوان.. شأنهم فى هذا شأن إبليس الذي يعلم أن مصيره إلى عذاب الله، وأنه إنما سأل الله أن ينظره، وأن يؤخر عنه العذاب الذي توعده به، فرارا من هذا العذاب، ودفعا له من يومه إلى غده. قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» . أي أن هذا الموت الذي تحذرونه، وتفرون من ملاقاته، هو ملاقيكم حتما، ولن تفروا منه أبدا.. ثم إنّ وراء هذا الموت رجعة إلى الله، وحسابا، وعقابا، وسترون أعمالكم المنكرة حاضرة بين أيديكم، وسينزل بكم العذاب الذي أنتم أهل له.. الآيات: (9- 11) [سورة الجمعة (62) : الآيات 9 الى 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 950 التفسير: قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» . مناسبة هذة الآية لما قبلها، هى أن السورة قد بدأت بذكر هذه النعمة العظيمة التي أنعم الله بها على المؤمنين، إذ بعث فيهم رسولا منهم، يتلو عليهم آيات الله، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة.. وهذه النعمة العظيمة لا تثمر الثمر الطيب الذي تحمله إلا إذا صادفت من يرعاها، ويعرف قدرها، وإلّا انقلبت هذه النعمة نقمة على أهلها، فحوسبوا على تضييعها، ووقعوا تحت طائلة العقاب الأليم، كما وقع ذلك لليهود الذي حمّلوا التوراة، ثم لم يحملوها، فكان مثلهم مثل الحمار يحمل أسفارا، وقد أوعدهم الله سبحانه بما توّعد به الظالمين- فناسب أن يجىء بعد هذا، أن ينبّه المسلمون إلى ما ينبغى أن يكون منهم لرعاية هذه النعمة التي أنعم الله بها عليهم، وكان أول ما نبهوا إليه، هو الصّلاة، إذ كانت الصلاة عماد الدين، وكانت الركن الأول من أركانه، بعد الإيمان بالله.. وإذ كانت صلاة الجمعة أظهر صلاة فى أيام الأسبوع، لأنها الصلاة الجامعة، التي لا تصحّ إلا فى جماعة- فقد كان الإلفات إليها إلفاتا إلى الصلوات المفروضة كلّها. وقوله تعالى: «إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ» أي إذا جاء وقتها، وأذّن المؤذن بها. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 951 وقوله تعالى: «فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ» أي بادروا وأسرعوا إلى ذكر الله، أي الصلاة، لأنها تذكّر بالله، وتصل العبد بربه.. ومن ذكر الله فى صلاة الجمعة، «الخطبة» وما فيها من عظات تذكر بالله. وقوله تعالى: «وَذَرُوا الْبَيْعَ» أي اتركوا البيع، والشراء، وكلّ ما يشغلكم من عمل.. حتى تفرغوا للصلاة، جسدا، وروحا. وقوله تعالى: «ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» الإشارة إلى السعى للصلاة، وترك كل ما بين يدى الإنسان من عمل.. فذلك السعى خير من كلّ ما كان يحصّله الإنسان من عمله الذي بين يديه، وذلك مما لا يعلمه، ويعلم قدره إلا أهل العلم، من المؤمنين، المستيقنين من واسع الفضل، وعظيم الإحسان، عند الله.. قوله تعالى. «فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» . هو دعوة إلى العمل، وإلى السعى إليه، كما سعى المؤمنون إلى الصلاة.. فالسعى إلى العمل، أداء لحقّ النفس، وحقّ الأهل والولد، كما أن السعى إلى الصلاة أداء لحق الله سبحانه وتعالى، وكلا الحقّين واجب الأداء، فمن قصّر فى أحدهما، حوسب عليه حساب المقصّرين. وفى قوله تعالى: «فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ» دعوة إلى أن يملأ المسلمون وجوه الأرض، سعيا وعملا، وأن يأخذوا بكلّ ما يمكّن لهم منها، ويقيم لهم فيها المقام الكريم، وألا يقصروا جهدهم على جانب منها، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 952 أو فى ميدان من ميادينها، بل ينبغى أن يكون لهم فى كل ميدان مجال، وفى كل موقع عمل.. وفى الدعوة إلى الانتشار فى الأرض بعد الاجتماع بين يدى الله فى الصلاة- فى هذا جمع بين العبادة والعمل، وبين ذكر الله والسعى فى الأرض.. فقد جاءت الدعوة من الله سبحانه لصلاة الجمعة، موجهة إلى من هم مشغولون بالعمل، ساعون لطلب الرزق، وإن كانت الدعوة عامة إلى كل من تجب عليه صلاة الجمعة.. ثم جاء الأمر إلى هؤلاء الذين حضروا الصلاة- أن ينتشروا فى الأرض، ويبتغوا من فضل الله، بعد أن تزودوا بهذا الزاد الطيب من ذكر الله، وبذلك يستقيم لهم الطريق، وتفتح لهم أبواب الرزق الطيب المبارك. وفى قوله تعالى: «وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» - إشارة إلى هؤلاء المنطلقين للعمل، الساعين إلى الابتغاء من فضل الله، أن يذكروا الله دائما، وأن يستحضروا جلاله وعظمته، فى كل حال، لا فى وقت الصلاة.. ففى ذلك فلاح أي فلاح، حيث يجد الذاكر لله سبحانه وتعالى، حارسا يحرسه من وساوس الشيطان، وأهواء النفس، فلا يتعثر، ولا ينحرف، ولا يزلّ. قوله تعالى: «وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» . اللهو: ما يشغل الإنسان من هزل الأمور عن جدّها.. والانفضاض: التفرّق فى عجلة، وفى غير نظام. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 953 63- سورة «المنافقون» نزولها: مدنية عدد آياتها: إحدى عشرة.. آية عدد كلماتها: مائة وثمانون.. كلمة عدد حروفها: سبعمائة وستة وسبعون.. حرفا مناسبتها لما قبلها كان ختام سورة «الجمعة» كاشفا عن وجه من وجوه المنافقين، الذين كانوا يشهدون صلاة الجمعة مع النبىّ، حتى إذا سمعوا لهوا، أو أحسّوا قدوم تجارة، أسرعوا إلى هذا اللهو، أو تلك التجارة، دون أن يشعروا بأنهم بين يدى النبىّ، وفى مقام ذكر الله.. لأن قلوبهم خالية من هذه المشاعر التي تصلهم بالله، وبرسول الله.. إنهم ما جاءوا رغبة فى مرضاة الله، ولا شهودا لذكر الله، وإنما جاءوا حتى يراهم المؤمنون أنهم على الإيمان بالله، مداراة لنفاقهم، وسترا لكفرهم.. ثم إنهم ما إن تهبّ عليهم سحابة ريح من أي اتجاه، حتى تعرّبهم من هذا الثوب الزائف الذي لبسوه، ودخلوا به فى زمرة المؤمنين- وقد ناسب ذلك أن تجىء سورة المنافقين، فى أعقاب سورة الجمعة لتكشف عن أكثر من وجه من وجوه النفاق.. كما سترى ذلك، فيما حدّثت به السورة عن النفاق والمنافقين. هذا، ويلاحظ أن ما جاء فى ختام سورة «الجمعة» عن المنافقين قد جاء تلميحا.. وأن ما جاءت به سورة «المنافقين» عنهم- كان تصريحا يكشف عن هذا التلميح.. وهذا من أروع وأعجب ما يرى من إعجاز القرآن، حيث يمسك ختام سورة «الجمعة» ، وبدء سورة «المنافقين» بالصورة الكاملة للمنافقين، فى ظاهرهم وباطنهم جميعا.. فهم فى الظاهر مؤمنون، يشهدون مشاهد المؤمنين فى الصلاة وغيرها، وهم فى الباطن منافقون، كاذبون! الجزء: 14 ¦ الصفحة: 954 بسم الله الرحمن الرحيم الآيات: (1- 6) [سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6) التفسير: قوله تعالى: «إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ» .. أي أن المنافقين، إذا جاءوا إلى النبي، وحضروا مجلسه، نطقت ألسنتهم بغير ما فى قلوبهم، وقالوا للنبى من غير أن يطلب منهم قول، وشهدوا من غير الجزء: 14 ¦ الصفحة: 955 أن يستدعوا للشهادة- «إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ» - مؤكدين هذا القول بأكثر من مؤكّد.. وفى هذا كله ما ينطق عن أنهم كاذبون منافقون.. فالمؤمن إيمانا حقّا، لا يجد فى نفسه ما يحمله على أن يعلن فى كل وقت، عن إيمانه.. فهو منذ آمن عرف فى الناس بأنه من المؤمنين، فلا يحتاج بعد هذا إلى أن يردّد على الأسماع، مبادئا كلّ من يلقاه، بأنه مؤمن.. ثم إن الصادق فى قوله لا يحتاج إلى أن يبرر صدقه بالحلف، أو توكيد ما يخبر به، وإنما يفعل ذلك من هو متهم- فيما يخبر به- عند نفسه، متّهم عند الناس، وأنهم يرون منه حقيقة ما يراه فى نفسه. والمنافقون، لا يؤمنون بأن الرسول هو رسول الله، ولو كانوا على الإيمان بأنه رسول الله لما وقع النفاق فى قلوبهم.. ولهذا- فهم لكى يبرئوا أنفسهم من تهمة النفاق- التي يتهمون بها أنفسهم قبل أن يتهمهم أحد- يبادرون إلى لقاء النبي، مؤكدين له بأنهم يشهدون أنه رسول الله: «إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ» !! وقد ردّ الله سبحانه عليهم شهادتهم تلك- وإن كانت تقول الصدق- لأنها خرجت من أفواه لا تقول إلا الزور من القول، وأن كلّ قول تقوله، إذا كشف عن حقيقته، وأزيل عنه هذا الطلاء الزائف- كان سرابا خادعا.. ولهذا جاء قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ» ليقيم مكان قولهم الزائف قولة الحق، من الحق سبحانه وتعالى فى رسوله.. ولهذا أيضا وقع التطابق اللفظي بين قولهم: «إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ» وقوله تعالى: «إِنَّكَ لَرَسُولُهُ» .. «بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ» .. وقوله تعالى: «وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ» - هو فى مقابل قولهم: «نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ» .. فقد شهد الله عليهم بأنهم كاذبون فى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 956 حقيقة ما يقولون، إذ كان ما يقولونه على خلاف ما يعتقدون، وكان ما يجرى على ألسنتهم مكذّبا لما فى قلوبهم.. قوله تعالى: «اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» .. الجنة: السّنر الذي يجنّ، أي يستر من يستجنّ به.. وبه سمى الدرع مجنّا، لأنه يحمى لابسه من أن تناله الطعنات فى الحرب.. ومنه الجنون، لأنه يستر عقل صاحبه من أن يرى حقائق الأمور.. أي أن المنافقين- لما يشعرون به من أنهم كاذبون فيما يقولون- يحاولون دائما أن يبرروا أقوالهم ويزكوها بالحلف، كى تقع من النفوس موقعا، ولو أنهم كانوا صادقين فيما يقولون، لما لزمهم أن يحلفوا، لأن الصدق مستغن بذاته عن أي مبرر يبرره، وينزله منزلته من العقول والقلوب.. وقوله تعالى: «فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» - هو تعقيب على قوله تعالى: «اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً» والفاء للسببية، أي أنهم بسبب ما نسجوا للكذب من أيمان فاجرة، بدا لهم أن هذا النسيج يستر نفاقهم، ولهذا صدّوا عن سبيل الله، واتخذوا سبيلا غير سبيل المؤمنين، وهم على ظنّ بأن أحدا لن يراهم، على غير طريق الإيمان، وهم مستجنّون بهذه الأيمان التي بذلوا لها بسخاء، فى معرض الإخبار عن أنهم مؤمنون بالله ورسوله.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 957 وقوله تعالى: «إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» - هو حكم من الله سبحانه وتعالى على أعمالهم، بأنها أعمال سيئة، لا تعقب إلا سوءا، ولا تجرّ على أصحابها إلا الحسرة والندامة.. وقد وقع الوصف بالسوء على الأعمال، لأن الأعمال هى التي تظهر على محكّها الأقوال.. أما الأقوال، فما أكثر ما تخالفها الأعمال.. فقد يكون القول فى ظاهره حسنا جميلا، على حين يكون العمل من ورائه سيئا خبيثا.. وإنه لن يكون عمل طيب، إلا وكان معه القول الطيب! لأن القول أخفّ مئونة من العمل، ولهذا كانت الأعمال، هى مناط الحساب والجزاء.. قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ» . أي ذلك النفاق الذي فيه هؤلاء المنافقون، هو بسبب أنهم آمنوا، ودخلوا فى تجربة مع الإيمان، فلم يجد له مكانا فى قلوبهم، فلفظوه كما تلفظ المعدة المريضة الطعام الطيب، وبهذا رجعوا إلى الكفر الذي لم تبعد الشّقة بينهم وبينه. وقوله تعالى: «فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ» أي ختم على قلوبهم بأنها لا تقبل الإيمان، ولا تستجيب له، فقد امتحنت من قبل بالإيمان امتحانا كشف عن معدنها، وأنها لا تلتقى بالإيمان، ولا تسكن إليه.. إن من يلتقى بالإيمان يوما، ويعيش معه زمنا، ثم يفارقه- لن يكون بينه وبين الإيمان لقاء على مودة أبدا.. ذلك أن القلب الذي يدخله الإيمان، ثم يخرج منه- لن يعود إليه بحال، إنه فراق إلى غير لقاء.. وهذا يعنى أن الإيمان سهل المورد لمن هو من أهله، أما من لم يكن من أهل الإيمان فلن يقبله، وإن قبله فإنه سرعان ما يرفضه، لأنهما على طبيعتين مختلفتين. وهيهات أن يقع ائتلاف بين ما اختلف من الطبائع أصلا.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 958 وأما ما جاء فى قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا» (137: النساء) - فإنه يشير إلى هذا التردّد بين الإيمان والكفر من بعض النفوس، التي تكون على طبيعة ليست على الإيمان، ولا على الكفر، وإنما هى خليط منهما، يتنازعها الإيمان مرة، والكفر مرة، حتى تستقر على أىّ منهما.. وهؤلاء الذي آمنوا، ثم كفروا، ثم آمنوا، ثم كفروا، ثم ازدادوا كفرا- إنما هم الذين غلب جانب الكفر فيهم جانب الإيمان، ورجحت فيهم كفته، فانتهى أمرهم إلى كفر غليظ، بعد هذه المعاناة، وتلك التجربة المتعددة.. وأما من ينتهى بهم هذا التردد إلى الإيمان، فإنهم ينتهون إلى إيمان ثابت راسخ، كما انتهى المترددون قبلهم إلى كفر غليظ. وقوله تعالى: «فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ» أي أنهم بسبب هذا الطبع الذي طبع به على قلوبهم بعد خروج الإيمان منها بعد أن دخلها- إنهم بسبب هذا الطبع، لا يفقهون حقيقة الإيمان بعد هذا، ولا تنفتح له مغالق قلوبهم.. قوله تعالى: «وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ.. هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ.. قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» . هذه صورة للمنافق تمثل ظاهره، وباطنه جميعا.. فالمنافق متجمل فى ظاهره، مجتهد فى تزويق هذا الظاهر، وفى طلائه بالألوان الزاهية، حتى يخدع الناس عن باطنه الذي يعلم هو فساده أكثر مما يعلم الناس منه.. ولهذا فهو يبالغ فى تسوية مظهره، وفى تجميله حتى يستر بهذا الزيف ما يخفى باطنه، وحتى يغطّى بهذا البخور الذي يطلقه على هذا العفن الذي يفوح منه.. فقوله تعالى: «وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ» .. بيان لما تقع عليه العين الجزء: 14 ¦ الصفحة: 959 من ظاهر المنافقين، فيما يبدو من تسوية هندامهم، وحسن زيّهم.. وقوله تعالى: «وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ» - بيان لما يتجمّل به حديثهم، من طلاوة الأسلوب، وتأنق العبارة، ورقة اللفظ.. وهذا ضرب من الخداع والتزييف، حيث يدسّ السمّ فى العسل، وحيث تروج العملة الزائفة بلمعانها وبريقها.. وقوله تعالى: «كأنهم خشب مسندة» - إشارة إلى أن هذا الذي يبدو من المنافقين من حسن المظهر، ورقة الكلام، ونعومة اللفظ- لا يعدو هذا الظاهر من القوم.. إنهم أشبه بالخشب المسندة، لا حياة فيها، ولا وزن لها، وإن زينت بالحلى، وكسيت بالحرير.. ثم إن المنافقين، وإن بدوا فى ظاهرهم على صورة واحدة، فإنهم فى حقيقتهم، أشتات متفرقون، لا تجمعهم مشاعر الودّ، ولا تؤلف بينهم صلات هذا المعتقد الفاسد الذي يدينون به.. تماما كالخشب المسندة، كل كتلة منها قائمة إلى جوار غيرها، لا تشعر بها، ولا تحس بوجودها. وقوله تعالى: «يحسبون كل صيحة عليهم» - هو وصف كاشف لما يموج به باطن المنافقين من وساوس، وتصورات، لا تقيمهم أبدا إلا على فزع، وتخوف، لأنهم دائما متلبسون بجرائم من الكذب والبهتان، فهم لهذا مطاردون من أنفسهم، يريدون الإفلات من قبضة هذه المشاعر المستولية عليهم، ولهذا أيضا تراهم على حذر، وتوقّع لتلك الأيدى الكثيرة الممتدة إليهم، تحاول أن تدهمهم فى أية لحظة.. «يحسبون كل صيحة عليهم» .. سواء اتجهت إليهم أو لم تتجه، وسواء أكانوا هم المقصودين بها أم غيرهم.. وهكذا المجرم، لا يفارقه أبدا وجه جريمته، فى يقظة أو منام.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 960 كأن فجاج الأرض وهى عريضة ... على الخائف المكروب كفّة حابل وقوله تعالى: «هُمُ الْعَدُوُّ» خبر كاشف عن حقيقة هؤلاء المنافقين، وأنهم على ما يبدو منهم، من ظاهر مغلّف بالتلطف والتودّد- هم العدوّ، الذي تتجسم فيه العداوة كلها، حتى لكأنهم العدوّ وحدهم للنبىّ، دون الناس جميعا.. وقوله تعالى: «فَاحْذَرْهُمْ» هو تعقيب على هذا الخبر عن المنافقين، وأنه إذ علم أنهم هم العدوّ الذي يخفى وراء ظاهره، كيدا، ويضمر فى باطنه سوءا- فيجب الحذر منهم، والحيطة من الأمان لهم، والاتهام لكل قول يقولونه، أو ودّ يظهرونه.. وقوله تعالى: «قاتَلَهُمُ اللَّهُ» .. هو دعاء عليهم، يحمل التهديد لهم من الله سبحانه وتعالى، بأنهم فى معرض النقمة من الله، وأن حربا من الله أعلنت عليهم، وأنه ليس وراء حرب الله لهم إلّا الهلاك المبير، والخسران المبين.. وقوله تعالى: «أَنَّى يُؤْفَكُونَ» استفهام يراد به الإنكار عليهم لهذا الطريق الذي أخذوه إلى مواقع الضلال.. أي كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل، وعن الهدى إلى الضلال. قوله تعالى: «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ» . أي أن من أمارات هؤلاء المنافقين، أنهم إذا دعوا إلى طريق الحقّ نفروا، وإذا نصح لهم ناصح بأن- يعرضوا أنفسهم على رسول الله ليستغفر لهم- «لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ» .. أي أداروا رءوسهم، يمينا وشمالا، فى حركة مجنونة، حتى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 961 لكأنهم إنما يتعاطون شرابا مرّا لا يجدون له مساغا.. ثم إنهم لا يقفون عند هذا الذي كان من لىّ رءوسهم عند سماعهم لدعوة من يدعوهم إلى رسول الله ليستغفر لهم.. بل إنهم بعد أن تذهب عنهم آثار هذه الصدمة، يأخذون طريقا غير الطريق المتجه إلى الرسول، ويمعنون فى الصدود والخلاف، عنادا واستكبارا. وقد يبدو من العجب أن يجتمع الكبر، والجبن، فى كيان المنافقين.. ولكن مع قليل من النظر، يتضح أن هذا هو التركيب الطبيعي للمنافق، الذي لا يكون محققا لصفة النفاق حتى يجمع بين المتضادات.. الإيمان، والكفر.. الصدق باللسان، والكذب بالقلب.. الظاهر الحسن، والباطن الخبيث.. وهكذا.. فالمنافق شخصان، بعيش أحدهما مع الناس، ويعيش الآخر فى كيان صاحبه.. أو هو شخصية مزدوجة، يكاد ينفصل ظاهرها عن باطنها.. قوله تعالى: «سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ.. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» .. هو تيئيس للمنافقين من أن ينالوا مغفرة الله، سواء أجاءوا إلى النبىّ يطلبون أن يستغفر لهم، فاستغفر لهم، أو لم يستغفر لهم.. فإن الله سبحانه لا يغفر لهم، لأنهم لم يجيئوا إلى النبىّ إلا على طريق من نفاق، ولم يتحدثوا إليه إلا بألسنة منافقة، ومن هنا لم يقبل استغفار رسول الله لهم، كما لم تقبل توبتهم.. إنهم تابوا إلى الله بألسنتهم دون قلوبهم.. إنهم فاسقون، قد خرجوا من الإيمان بعد أن دخلوا فيه.. «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 962 الآيات: (7- 11) [سورة المنافقون (63) : الآيات 7 الى 11] هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11) التفسير: قوله تعالى: «هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ» . الضمير «هم» يعود إلى هؤلاء المنافقين، الذي تحدثت عنهم الآيات السابقة، من أول السورة، والذين سميت هذه السورة باسمهم.. فهى كلها حديث متصل عنهم، يفضح مخازيهم، ويكشف سوءاتهم على أعين الناس.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 963 وإذا كانت الآيات السابقة، قد تحدثت عن المنافقين فى عمومهم، وعن الصفات النفسية والجسدية التي يستدل بها عليهم، دون أن تشير إلى معيّن منهم بالذات، أو الاسم- فقد جاءت هذه الآية والآية التي بعدها لتواجه وجها منكرا من وجوه المنافقين، ولتقرع رأسا عفنا من رءوسهم، هو عبد الله بن أبىّ بن سلول.. فلقد نزلت هاتان الآيتان فى أعقاب حادثة استعلن فيها نفاق هذا المنافق على الملأ، ولم يبق إلا أن تجىء آيات الله لتسجل عليه هذا النفاق، وتدمغه به إلى يوم الدين.. قالوا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد بلغه أن بنى المصطلق (من اليهود) كانوا يجمعون لحرب المسلمين، فخرج إليهم رسول الله فى أصحابه، ولقيهم على ماء يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى ساحل البحر، وهزم الله أعداء الله، ونفل أبناءهم، ونساءهم وأموالهم.. قالوا: وبينما الناس على الماء، وقع شجار بين غلام لعمر بن الخطاب يقال له الجهجاه بن سعيد، ورجل من الأنصار يقال له سنان الجهني، فصرخ الجهني يا معشر الأنصار، وهتف الجهجاه: يا معشر المهاجرين.. وكادت تكون فتنة، وجعل عبد الله بن أبى يقول لمن يلقاه من الأنصار: قد نافرونا وكائرونا فى بلادنا.. والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.. هذا يا معشر الأنصار ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم فضل الطعام لم يركبوا رقابكم، ولأوشكوا أن يتحولوا من بلادكم، ويلحقوا بعشائرهم ومواليهم..!!» فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحدّث به عبد الله بن أبىّ فى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 964 الناس، أمر الناس بالرحيل، وسار بالناس يومهم حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يكن إلا أن وجدوا مسّ الأرض حتى وقعوا نياما.. وإنما فعل الرسول ذلك، ليشغل الناس عن الحديث، الذي كان يحدّث به عبد الله بن أبىّ! قالوا: وتحدث كثير من المسلمين إلى رسول الله يستأذنون فى قتل عبد الله بن أبىّ.، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يردهم قائلا: «فكيف إذا تحدّث الناس أن محمدا يقتل أصحابه؟ لا، لا تقتلوه! .. وجاء عبد الله بن عبد الله بن أبى إلى رسول الله، فقال يا رسول الله: قد بلغني أنك تريد قتل أبى، فإن كنت لا بدّ فاعلا فمرنى به، فأنا أحمل إليك رأسه، وإنى أخشى أن تأمر بهذا غيرى فيقتله، فلا تدعنى نفسى أن أنظر إلى قاتل أبى يمشى فى الناس، فأقتله، فأقتل مؤمنا بكافر، فأدخل النار..!! فقال صلى الله عليه وسلم: بل ترفق به، وتحسن صحبة، ما بقي معنا.. وهكذا، إطفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الفتنة، بحكمته ورفقه، وبعد نظره. قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ» .. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 965 هو لقاء لآيات الله مع المؤمنين، بعد أن استمعوا إلى ما تنزّل فى المنافقين من آيات.. وكان من حكمة الحكيم العليم، أن يلفت المؤمنين إلى أنفسهم، بعد أن أراهم الصورة المنكرة للإنسان الضال المنحرف، ليكون لهم فيه عبرة وعظة.. وحتى لا يشغل المؤمن كثيرا بأمر هؤلاء المنافقين، وحتى لا يقف كثير من المؤمنين عند حد النظر إلى هذه الصور المتحركة بين عينيه، التلهي والتسلية.. جاءت هذه اللفتة السماوية إليهم، ليخرجوا بمشاعرهم وتصوراتهم عن هذا الموقف، ولينظروا فى أنفسهم هم، وليراجعوا حسابهم مع ذواتهم، فقد يكون فيهم من هو على صورة هؤلاء المنافقين، أو على شبه قريب منها، وهذا يقتضيه أن يصحح وضعه، إن أراد أن يكون فى المؤمنين.. أما كيف يقيم ميزانه السليم على طريق الإيمان، فهو أن يكون كما دعا الله المؤمنين إليه فى هاتين الآيتين: وهو ألا يشغل عن ذكر الله بالأموال والأولاد، وألا يكون ذلك همه فى الحياة الدنيا، فيستغرقه متاع هذه الحياة، ويقطعه عن ذكر الله، وعن النظر إلى الآخرة، وما فيها من حساب وجزاء.. فإن من يفعل ذلك فقد خسر نفسه، وأوردها موارد الهلاك فى الدنيا، والعذاب الأليم فى الآخرة.. فإذا انخلع الإنسان عن سلطان الاشتغال بالأهل والولد، وعن الغفلة عن ذكر الله- كان طلب البذل منه للإنفاق فى وجوه الخير، أمرا مقبولا، يمكن أن يمتثله ويستجيب له، حيث خرج من هذا السلطان المتحكم فيه، الآخذ على يده، وهذا هو السر- والله أعلم- فى تقديم النهى على الأمر.. فإن الانتهاء عن المنكر والقبيح، مدخل إلى إتيان المعروف والحسن من الأمور.. إن الانتهاء عن القبيح أشبه بالشفاء من داء يغتال عافية الجسد، فإذا عوفى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 966 الجسد من هذا الداء، كان من الطبيعي بعد ذلك، أن تقوم ملكات الإنسان وحواسه بوظائفها كاملة.. فكما لا يدعى إلى حمل التكاليف والأعباء مريض، كذلك لا يدعى إلى القربات والحسنات من هو مقيم على المعاصي، ملازم للمنكرات.. وإن التربية الحكيمة لمثل هذا، هو أن يطبّ له من هذا الداء المتمكن منه، فإن هو أقلع عنه، كان من الممكن الانتقال به من جانب المعاصي إلى حيث البر والإحسان.. ولهذا كان من مقررات الشريعة: أن دفع المضار مقدّم على جلب المصالح!! وقوله تعالى: «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ» - هو حثّ على المبادرة بطاعة الله، والإعداد اليوم الآخر، قبل فوات الأوان، حين يهجم الموت على غرة أو دون إنذار سابق، فيجد المرء نفسه وقد حضره الموت، وفاته ما كان يراود به نفسه من طاعة الله، ومن فعل الخير، وعندئذ يود أن لو استأنى به الموت قليلا، وترك له فرصة من الوقت، يتدارك فيه ما فات، ويصلح ما أفسد.. ولكن هيهات، هيهات! «فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ» (34: الأعراف) وقوله تعالى: «فأصدق» منصوب بأن المضمرة بعد فاء السببية، الواقعة بعد الطلب، وهو الرجاء المفهوم من قوله تعالى: «لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ؟ فَأَصَّدَّقَ» .. فلولا هنا بمعنى «هلا» . وأصدق: أصله أتصدق، قلبت التاء صادا، وأدغمت فى الصاد.. وأما قوله تعالى: «وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ» فهو مجزوم، لأنه واقع فى حيّز جواب الشرط، المفهوم كذلك من قوله تعالى «لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ» فهو بمعنى «لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ، وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ» ! .. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 967 وهذا الأسلوب من النظم لا يكون فى غير القرآن، ونظمه المعجز، الذي يملك بسلطانه التصريف فى الكلمات، كما يملك سبحانه وتعالى بقدرته التصريف فى كل شىء.. فلقد تسلط أسلوب الطلب: «لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ» تسلط على الفعلين: أصدق، وأكون.. جاعلا الفعل الأول مسببا عنه، وجاعلا الفعل الثاني جوابا له.. والسؤال هنا: ما الحكمة من مجىء النظم فى الآية على هذا الأسلوب؟ ولماذا لم يجىء الفعلان الواقعان فى حيز الطلب، منصوبين معا، أو مجزومين معا؟ وما سر هذه التفرقة بين الفعلين، فيكون أحدهما مسبّبا، على حين يكون الآخر جوابا؟ نقول- والله أعلم-: إن هذا الاختلاف بين الفعلين، هو اختلاف فى أحوال النفس، وتنقلها من حال إلى حال، فى هذا الموقف المشحون بالانفعالات والأزمات.. فالموت حين يحضر هذا الإنسان الذي يدافع الأيام بالتسويف والمماطلة فى الرجوع إلى الله، وعمل الصالحات- هذا الموت المطل على هذا الإنسان، يردّه إلى صوابه، ويوقظه من غفلته، ولكن ذلك يكون بعد فوات الأوان، وقد بلغت الروح الحلقوم، فلا يجد هذا الإنسان بين يديه إلا الأمانىّ، وإلا الرجاء فيقول: «رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ!» .. إن ذلك هو أقصى أمانيه، وهو غاية مطلوبه.. ثم يخيل إليه من لهفته، وشدة حرصه على هذا المطلوب، أنه- وقد تمناه- أصبح دانيا قريبا، وأنه قد استجيب له فعلا، وأن يد الموت قد تراخت عنه قليلا إلى أجل.. وهنا ينطلق مع هذا الأمل فرحا مستبشرا.. إنه الآن يستطيع أن يتصدق.. وإنه إن يتصدق يكن من الصالحين، الذين يفوزون برضا الله ورضوانه.. ولهذا يخرج من باب الأمانىّ، ليدخل فى باب الجزء: 14 ¦ الصفحة: 968 العرض والطلب.. إن تؤخرني إلى أجل قريب أكن من الصالحين.. ولكن هذه الفرحة سرعان ما تختفى، وتغرب شمسها من نفسه، إذ يجىء قوله تعالى: «وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها» فيردّه هذا إلى مواجهة الموت، الذي خيّل إليه أنه فرّ من بين يديه! إنه حلم لحظة، فى صحوة الموت أو غيبوبته، سرعان ما يذهب كما تذهب الأحلام.. وتحرير معنى الآية- على هذا المفهوم الذي فهمناها عليه، هو: هلّا أخرتنى إلى أجل قريب فأصدق.. وإن أصدق أكن من الصالحين، الناجين، من هذا الهول العظيم. الذي يطلّ بوجهه من قريب. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 969 64- سورة التغابن نزولها: مدنية عدد آياتها: ثمانى عشرة آية. عدد كلماتها: مائتان وإحدى وأربعون كلمة. عدد حروفها: ألف وسبعون حرفا.. مناسبتها لما قبلها كانت سورة المنافقين حديثا متصلا عن النفاق وأهله، وأن هذا الفريق من الناس لن يقبل خيرا، ولن يهتدى من ضلال، أو يستقيم على هدى.. هكذا المنافقون، هم على هذه الطبيعة النكدة، التي لا يصلح من اعوجاجها شىء أبدا.. وقد كان من بد ، سورة التغابن هذه، قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» - ليقرر هذه الحقيقة العاملة فى الناس، والمفرقة بينهم فى مقام الكفر والإيمان، والضلال والهدى. فهكذا خلقهم الله.. كافرين، ومؤمنين. فالله سبحانه يخلق ما يشاء، كما يشاء.. «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» (54: الأعراف) فكما فرق سبحانه بين عوالم المخلوقات، من حيوان، ونبات، وجماد- فرّق سبحانه كذلك فى صور هذه العوالم، فجعل من كل عالم أنواعا، وأشكالا لا حصر لها.. «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45: النور) .. «وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ» الجزء: 14 ¦ الصفحة: 970 (4: الرعد) .. «وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ» (27، 28: فاطر) فهذا الاختلاف والتنوع بين المخلوقات، هو من دلائل قدرة الله، وإنه ليس لمخلوق أن يعترض على الخلق الذي أقامه الله سبحانه وتعالى فيه: «لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ» : (23: الأنبياء) فهذا البدء الذي بدئت به سورة «التغابن» هو إلفات للمؤمنين الذين رأوا فى صور المنافقين ما يكره وبذمّ.. إلفات لهم إلى فضل الله عليهم، وأنه سبحانه.. خلقهم للإيمان، وهداهم إليه، ولو شاء سبحانه لجعلهم فى هؤلاء المنافقين، وألبسهم ثوب النفاق وهم فى عالم الخلق والتكوين. وإنه لمطلوب من المؤمنين إزاء هذا الإحسان، أن يستجيبوا لما دعاهم الله سبحانه وتعالى إليه، من الإنفاق مما رزقهم الله، بعد أن يتخففوا من سلطان الأثرة والشح الذي يمسك الأيدى عن الإنفاق، وهو الحب الشديد للمال والولد ذلك الحب الذي يلهى عن ذكر الله، ويشغل عن طاعته. وإنه لمطلوب منهم كذلك أن يسبّحوا بحمد الله، وأن ينتظموا فى موكب الوجود كله فى هذه الصلوات الخاشعة الضارعة لله سبحانه، وفى هذا الولاء لجلاله وعظمته. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 971 بسم الله الرحمن الرحيم الآيات: (1- 4) [سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4) التفسير: قوله تعالى: «يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» . هذا هو دأب الوجود كلّه فى السموات والأرض، إنه فى صلاة دائمة مستغرقة، وعلى وجه واحد، قائم بين يدى الله فى ولاء وخشوع. وتسبيح هذه العوالم التي يضمها الوجود، هو فى خضوعها السلطان لله سبحانه، وفى جريانها على ما أقامها عليه خالقها، دون أن يكون من أىّ ذرّة منها خروج على الحدود التي ألزمها الله إياها وأجراها فيها: «لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» : (40: يس) . وفى قوله تعالى: «لَهُ الْمُلْكُ» إشارة إلى هذا السلطان القائم على الوجود الجزء: 14 ¦ الصفحة: 972 من قدرة الله.. فهو المالك لكلّ شىء، لا شريك له.. وإذ كان هذا شأنه فهو- سبحانه- الذي يصرف مخلوقاته كيف يشاء، ويقيمها حيث أراد.. وفى قوله تعالى: «وَلَهُ الْحَمْدُ» إشارة أخرى، إلى أنه سبحانه وحده، هو المستحق الحمد من كلّ مخلوق، فى أية صورة كان خلقه، وعلى أي حال كان وضعه.. فالخلق إيجاد، ووجود الكائن المخلوق، والوجود نعمة، بالإضافة إلى العدم، الذي هو ضلال فى عالم التيه والضياع. قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» .. وهذا هو تدبير الله فى خلقه، وحكمه فى عباده.. وهكذا خلقهم.. منهم الكافر ومنهم المؤمن.. كما أن منهم الذكر والأنثى، والذكىّ والغبىّ، والغنىّ، والفقير.. إلى غير ذلك من أنماط الناس، وأشكالهم.. ثم هو سبحانه «بصير» أي عالم علما متمكنا، من كل ما يعمل العاملون، من مؤمنين، وكافرين. وقدّم الكافرون هنا على المؤمنين، لأن الكافرين كثرة فى العدد، حتى لكأنهم يشبهون الجسد الإنسانىّ، على حين يمثل المؤمنون الرأس فى هذا الجسد.. وقيل إن المعنى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ» كلام تام، ثم كان بعد هذا الخلق أن ظهر فى الناس ما هم عليه من كفر وإيمان، كما يقول سبحانه بعد هذا: «فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» .. وهذا مثل قوله تعالى: «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 973 دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ» (45: النور) . وهذا المعنى، لا ينفى أن الله سبحانه خلق المؤمن مهيأ للإيمان مستعدّا له، وخلق الكافر مهيأ للكفر ومتقبّلا له، كما خلق الدواب، فكان لكل نوع، الخلق الذي هو عليه بين المخلوقات، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى، «أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» .. أي أعطى كل مخلوق ما قدّر له، ثم هداه إلى هذا الذي قدّره له. وليس ببعيد عن هذا ما يقول به جمهور علماء السنة من أن الله خلق الكافر، وكفره فعل له وكسب، مع أن الله خالق الكفر، وخلق المؤمن، وإيمانه فعل له وكسب، مع أن الله خالق الإيمان.. قوله تعالى: «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ» .. أي أنه سبحانه خلق هذا الوجود- فى أرضه وسمائه- بالحقّ، الذي عدل بين المخلوقات، وأقام كل مخلوق بالمكان المناسب له فى هذا الوجود.. «وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ» .. «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ» (115: المؤمنون) .. «لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ» (17: الأنبياء) . وقوله تعالى: «وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ» - هو خطاب للناس جميعا، حيث كان وضعهم بين المخلوقات أحسن وضع، وكانت صورتهم أحسن صورة.. «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 974 فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ» .. (6- 8: الانفطار) .. «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» (4: التين) .. فهذا الخلق السوىّ الذي أقام الله عليه الإنسان، هو نعمة جليلة تستحق من كل إنسان أن يقوم فيها بحمد الله، والشكر له.. والسؤال هنا: أيحسب الكافرون، والمشركون، وأهل الضلال، ممن هم من أصحاب النار- أيحسبون من هذا الخلق الذي صوره الله فأحسن صوره؟ .. والجواب- بلا تردد- نعم!! فكل مخلوق خلقه الله، هو مخلوق فى أحسن صورة وأعدلها، إذا هو أخذ مكانه فى الوجود العام، ولم يخرج على وضعه الذي هو فيه.. فأىّ مخلوق أيّا كان قدره من الضالة، والضمور، هو بعض من الصورة العامة للوجود، وحيث كان من هذه الصورة، هو ذو شأن فيها، لا تكمل إلا به.. إنه أشبه بالنغم فى اللحن الموسيقى الكبير، أو ما يعرف «بالسمفونية» .. والصوت الذي يخرج عن هذا اللحن، ولا يتّسق معه، هو صوت ضائع، لا حساب له، ومن الخير للحن ألا يكون فيه لهذا الصوت وجود أصلا.. والكافرون، والمشركون، وأهل الضلال، هم أصوات ضالة فى هذا اللحن الكبير، الذي يسبّح به الوجود لله، وينشد على أنعامه نشيد الولاء لله رب العالمين.. ومع هذا، فإن هؤلاء الضالين، كانوا قبل أن يفسدوا ويضلوا- كانوا على فطرة سليمة، وخلق سوىّ.. ولكنهم أفسدوا هذه الفطرة، وغيّروا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 975 هذا الخلق، إذ أسلموا أمرهم للشيطان، الذي قادهم إلى الضلال فانقادوا، ودعاهم إلى الخروج عن أمر الله فأجابوا.. «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» (4- 6 التين) .. وفى قوله تعالى: «وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ» إنذار باليوم الآخر، وتحذير منه، حيث يصير الناس جميعا إلى الله يوم القيامة، ويحاسبون على ما قدموا من خير، أو سوء.. قوله تعالى: «يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ.. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» .. هو تعقيب على قوله تعالى: «وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ» .. أي أن مصيركم أيها الناس، إلى من يعلم ما فى السموات والأرض، ويعلم سركم وجهركم، بل إنه يعلم ما يدور فى الصدر من خلجات ومشاعر، قبل أن تتخلق هذه الخلجات وتلك المشاعر فى صورة كلمات لها مدلول ومفهوم عندكم.. فعلم الله علم شامل، قديم، يعلم ما كان قبل أن يكون، ويعلم ما سيكون على ما يكون.. الآيات: (5- 10) [سورة التغابن (64) : الآيات 5 الى 10] أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 976 التفسير: قوله تعالى: «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» .. الخطاب هنا للناس جميعا، مؤمنين، وكافرين.. فهو للمؤمنين عبرة، وعظة، وتثبيت على الإيمان.. وهو للكافرين، وعيد، وزجر، وتهديد.. وقوله تعالى: «فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ» .. الفاء للسببية، أي أن كفر الذين كفروا، كان سببا فى هذا البلاء الذي حلّ بهم فى الدنيا، بما أخذهم الله به من نكال، وما أرسل عليهم من مهلكات، كما أنه سيسكون سببا فى العذاب الأليم الذي سيلقونه يوم القيامة.. والوبال: أصله من الوبل، والوابل، وهو المطر الشديد الثقيل، ولهذا قيل للأمر الثقيل الذي يخاف ضرره: وبال، ووبيل. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 977 قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ» .. الإشارة هنا إلى كفر الكافرين، وإلى المنزلق الذي دفع بهم إلى الكفر.. فلقد جاءتهم رسلهم بالبينات، أي بالآيات البينة الواضحة، والمعجزات الناطقة التي تشهد بأنهم رسل الله.. ومع هذا فقد أبى القوم إلا ركوب رءوسهم، ثم نظروا إلى تلك الآيات فرأوها وهم فى هذا الوضع المنكوس.. رأوا حقها باطلا، ونورها ظلاما، وهداها ضلالا.. ثم عجبوا أن يكون بشر مثلهم، ورجل منهم، هو الذي يدلّهم على الخير، ويقودهم إلى الحق!! فكفروا به، وبالآيات التي معه، وبالله الذي أرسله.. وقوله تعالى: «فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا» أي أنهم لم يكفروا ويكذبوا بالرسول وحسب، بل تولوا معرضين عن الحق، الذي كان من شأنه- لو تمهلوا قليلا، ولم يستبد بهم العناد- أن يهتدوا إليه بأنفسهم، ولرأوا أن ما يدعوهم الرسول إليه، هو دعوة موجهة إليهم من عقولهم، قبل أن يوجهها الرسول إليهم.. وقوله تعالى: «وَاسْتَغْنَى اللَّهُ» أي أنهم بكفرهم وتولّيهم هذا كأنهم قد استغنوا عن الله، وقطعوا كل صلة تصلهم به، سواء أكان ذلك عن دعوة رسول من عند الله، أو عن دعوة من عقولهم، ولهذا فإن الله قد استغنى عنهم، وطردهم من مواقع الإيمان به.. وفى التعبير عن إعراض الله عنهم، وطرده إياهم- بالاستغناء، إنما هو من باب الردّ عليهم بمثل منطفهم وأنهم إذ قد استغنوا عن الله، فالله قد استغنى عنهم.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 978 وهذا يعنى أن الله سبحانه لا يخذل من عباده، إلا من يخذل نفسه ولا يطرد من رحمته إلا من يعمل على طرد نفسه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ» (19: الحشر) .. وكما يكون هذا فى حال الردع والعقاب، يكون فى مقام الفضل والإحسان، كما يقول سبحانه: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» (152: البقرة) .. ومنه قوله تعالى: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» (60: غافر) .. وقوله تعالى: «وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ» أي أنه سبحانه غنىّ غنى مطلقا، لا حاجة به إلى شىء من خلقه: «ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ» (57: الذاريات) .. وهو سبحانه «حميد» أي المستحق الحمد وحده، المحمود من جميع خلقه، لأنه هو الخالق الرازق المنعم، المتفضل، من غير سابقة إحسان من مخلوق، أو ابتغاء نفع يرجى منه. قوله تعالى: «زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» .. الزعم هنا، بمعنى الادعاء الكاذب، الذي يقع من صاحبه موقع اليقين.. أي ادعى الذين كفروا- افتراء وكذبا- أنهم لن يبعثوا.. وعلى هذا الزعم الباطل، والادعاء الكاذب، قطعوا كل ما يصلهم بالحياة الآخرة، وما يذكّرهم بها.. وقد كذّب الله سبحانه هذا الزعم، وردّه على زاعميه بقوله سبحانه: «قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ» .. والأمر «قل» هنا متوجه إلى النبي صلوات الله وسلامه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 979 عليه، لينذر به الكافرين، وليوقظهم به من غفلتهم، وليزعج به اطمئنانهم إلى هذا الزعم الذي زعموه!! وقوله تعالى: «ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ» أي ليس الأمر مجرد بعث ونشور، وإنما وراء هذا البعث والنشور، حساب وجزاء، حيث تعرض عليه- جلّ شأنه- أعمالكم، وتلقون الجزاء عليها.. «وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» لا يحتاج إلى معاناة ومراجعة.. كما أن بعثكم لا يحتاج إلى جهد ونصب.. قوله تعالى: «فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» .. هو تعقيب على قوله تعالى: «زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا.. الآية» .. أي أنه إذا كان البعث أمرا لا مفرّ منه، والحساب والجزاء لا معدى عنه- فبادروا إلى الإيمان بالله، وأسرعوا بالخروج مما أنتم فيه أيها الكافرون، من أوهام وضلالات.. والإيمان بالله لا يتم، إلا بالإيمان برسوله.. والإيمان برسوله، لا يقع إلا مع الإيمان بالنور الذي أنزله الله إليه.. والنور الذي أنزله الله إلى النبي، هو القرآن الكريم، لأنه من نور الله، الذي يجلو عمى البصائر، ويبدد ظلام العقول.. وقوله تعالى: «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» - هو تعقيب على الدعوة إلى الإيمان بالله ورسوله، والقرآن الذي بين يديه، وأن حصيلة هذا الإيمان واقعة فى علم الله.. ذلك العلم المحيط بكل شىء، الخبير بالحسن والسيء من الأعمال الجزء: 14 ¦ الصفحة: 980 وسيجزى المؤمنين على حسب إيمانهم، وعلى حسب ما عملوا بمقتضى هذا الإيمان. قوله تعالى: «يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» . هو جواب لسؤال يتردد على الخاطر ممن سمع قوله تعالى: «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» - وهو: ما وراء هذا العلم الذي يعلمه الله من أعمالنا؟ فكان الجواب: ستعلمون ماوراء هذا العلم يوم تردّون إلى الله، يوم يجمعكم ليوم الجمع، وهو يوم القيامة، حيث يجزى المحسنون الجزاء الحسن، ويلقى المسيئون ما يسوءهم وما يخزيهم من عذاب وهوان.. وسمّى يوم القيامة يوم الجمع، لأن الناس جميعا يحضرونه، ويحشرون إليه من قبورهم، لا يغيب عنه أحد منهم. وسمّى يوم القيامة كذلك يوم التغابن، لأنه اليوم الذي يرى الناس فيه أنهم غبنوا من جهة أنفسهم، وأن غبنا أصابهم فى حياتهم الدنيا، فلم يأخذوا حقهم كاملا فيها، ولم يستوفوا المطلوب منهم للحياة الآخرة.. فالغبن، هو الظلم الذي يجىء من وراء عدوان على حق.. ومنه الغبن الذي يقع فى البيع، بين البائع والمشترى، حيث يخرج الشيء المبيع عن الحدود المثلية له، زيادة أو نقصا، فإذا زاد الثمن زيادة فاحشة، كان الغبن واقعا على المشترى، وإذا نقص الثمن نقصانا فاحشا، كان الغبن واقعا على البائع.. ومنه الغبن فى الرأى، حيث يجىء الرأى فى الأمر بعيدا عن مرمى الإصابة لموقع الحق فيه، فيقال: فلان غبين الرأى، أي فاسده.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 981 وكل إنسان يبدو له يوم القيامة أنه قد غبن فى حياته الدنيا، سواء أكان فى المحسنين أم فى المسيئين.. أما المحسن، فلأنه لم يزدد فى إحسانه، وهو يرى فى هذا الموقف- موقف الحساب والجزاء- أن كل ما عمله من أعمال حسنة هو قليل- وإن كثر- بالنسبة لما يطلبه، ويتمناه فى هذا الموقف، الذي يحتاج فيه الإنسان إلى رصيد عظيم من الأعمال الصالحة، حتى يلحق بالسابقين الذين سبقوا إلى الجنة، ولم يقفوا موقف الحساب، بل طاروا إليها طيرانا. وأما المسيء فإنه يرى أنّه ظلم نفسه ظلما مبينا، إذ أطلق العنان لشهواته وأهوائه، وأنه باع نجاته وسلامته بثمن بخس، لا يعدو أن يكون ساعات من اللهو واللعب. وهكذا يرى كل إنسان يومئذ، أنه على حال غير محمودة عنده، وأن أمورا كثيرة كان يمكن أن يأخذ فيها وضعا آخر غير الوضع الذي أخذه فى الدنيا.. إنه يوم تكثر فيه الحسرات، وزفرات الندم، وصرير الأسنان! قوله تعالى: «ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفّر عنه سيئاته ويدخله جنّات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم» . هو تعقيب على هذا الوصف الذي وصف به يوم القيامة، بأنه يوم التغابن، ويراد بهذا التعقيب دفع ما يقع من وهم يجعل من هذا اليوم يوم سوء للناس جميعا، وأنهم جميعا واقعون تحت مشاعر الغبن، التي من شأنها أن تملأ النفس حسرة وألما.. فجاء قوله تعالى: «ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار» - جاء هذا، ليقيم نفوس المؤمنين الذين عملوا الصالحات على الرضا، والحمد، لما هداهم الله إليه من الإيمان، ولما وفّقهم إليه من أعمال صالحة، وأنه لا بأس عليهم من هذه الأعمال السيئة الّتى عملوها إلى جانب الأعمال الصالحة، الّتى يسوؤهم أن يروها فى يومهم هذا، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 982 فقد كفّرها الله عنهم، ومحاها من صحفهم، حتى يبدو لهم كتابهم أبيض ناصعا، وحتى لا يدخل معهم من أعمالهم إلا ما كان صالحا، يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، نورا يضىء لهم الطريق إلى الجنة. «وذلك هو الفوز العظيم» . فلتقرّ أعينهم به، وليهنئوا بما آتاهم الله، ولا عليهم مما كان لهم من أعمال سيئة فى الدنيا.. وإذن فلا غبن، ولا آثار غبن، إلا لأهل الكفر والضلال. قوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. هو بيان للغبن الملازم للكافرين، وللآثار المترتبة عليه.. إنهم هم المغبونون حقّا، وهم المتجرّعون لغصص هذا الغبن، بما فاتهم فى الدنيا من إيمان بالله، ومن أعمال صالحة فى ظل هذا الإيمان.. إنهم- مع هذا العذاب الأليم الّذي يلقونه فى الجحيم- هم فى حسرة دائمة على أن لم يكونوا من المؤمنين.. فما أكثر ما تجيش به صدورهم من حسرات، وما تنطق به ألسنتهم من عبارات الندم واللوم!! ومن ذلك ما جاء به القرآن على ألسنتهم، مثل قولهم: «يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (27: الأنعام) وقول قائلهم: «يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا» (27- 28: الفرقان) . وقولهم: «فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (102: الشعراء) .. الآيات: (11- 18) [سورة التغابن (64) : الآيات 11 الى 18] ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 983 التفسير: قوله تعالى: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» . المصيبة: الحدث الذي ينجم عن فعل.. ويغلب استعمال المصيبة فيما يقع من سوء.. وفاعل أصاب، هو: «مصيبة» وحرف الجر «من» زائد.. أي ما أصابكم من مصيبة إلا بإذن الله، وعن تقدير الله وإرادته، وإن كفر الّذين كفروا، وما حاربوا الله به منكرات، هو بإذن الله، وتقديره، وأنهم إذ فعلوا ما فعلوا، لم يكونوا خارجين عن سلطان الله، بل إنهم مقهورون لله أبدا، وإنهم على ما يبدو لهم من أنهم آلهة فى الأرض، مقتدرون على أن يفعلوا ما يشاءون- هم فى واقع الأمر أدوات مسخرة لقدرة الله، وأنهم أدوات شرّ وأذى، شأنهم فى هذا شأن ما خلق الله من حيوانات مؤذية، كالعقارب والأفاعى، وغيرها.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 984 أما لماذا وضعهم الله بهذا الموضع، وسلك بهم هذا المسلك، وأرادهم للشر، وعاقبهم عليه، فهذا شأن آخر، وتلك قضية أخرى، ومقطع القول فيها، هو قوله تعالى: «لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ.. وَهُمْ يُسْئَلُونَ» (23: للانبياء) .. وقوله تعالى: «وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ» هو دعوة إلى الإيمان، يستجيب لها كل من يسّره الله للإيمان، وهداه إليه، وشرح صدره له، بإرادة من الله سابقة، وقضاء قضاه.. فالمطلوب من الإنسان، هو أن يستجيب للهدى، وأن يتجه نحو الخير، غير ناظر إلى قضاء الله فى شأنه.. فإن كان ممن أرادهم الله للإيمان، أخذ بيده إلى طريق الإيمان، بعد أن يتجه هو إليه، ويضع قدمه على أول الطريق إليه.. وأما إن كان من أهل الكفر، فلن تنطلق من نفسه تلك الشرارة الّتي تنقدح من زناد الرغبة والإرادة.. فى الاتجاه نحو الإيمان. إن على الإنسان أن يأخذ بالأسباب، وأن يعمل جاهدا بما اجتمع بين يديه منها، فإذا أخذ بالأسباب المتصلة بأمر من الأمور، فقد أعذر لنفسه.. كالزارع، يمهد الأرض، ويبذر الحب، ويسوق الماء إلى ما زرع، ثم لا يخرج زرع، أو يخرج، ثم تغتاله آفة! إنه معذور عند نفسه، لا يكثر ندمه عند ما يرى غيره يحصد ما زرع.. أما الذي لم يزرع أصلا، فإن الحسرة تملأ قلبه، حين يرى الّذين زرعوا يحصدون! وقوله تعالى: «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» - هو دعوة إلى إخلاص النيات، فى الاتجاه إلى الله، والإيمان به.. فإن لهذه النيات السليمة المخلصة وزنها، وقدرها، وإن لم تبلغ بصاحبها ما يريد.. أما من يتجه إلى الله اتجاها فاترا ملتويا، يقدّم رجلا، ويؤخر أخرى، فإن النية القائمة وراء الجزء: 14 ¦ الصفحة: 985 هذا الاتجاه، لا تحسب له إذا هو أخفق، ولم يبلغ موقع الإيمان، ولم يملأ به قلبه، ولم تتشربه مشاعره! .. قوله تعالى: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» .. هو تعقيب على الخبر الوارد فى قوله تعالى: «ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» .. أي مع أنه من المقرر أن ما قدّره الله هو كائن، وأن أحدا لا يفعل خيرا أو يصيب شرّا، إلا ما كان فى صفحة القدر المكتوب له- مع هذا فإن الدعوة قائمة على الناس جميعا، بأن يطيعوا الله ورسوله، وأن يستجيبوا لما يدعون إليه، من الإيمان بالله ورسوله، ومن العمل الصالح الّذى يدعو إليه الله ورسوله.. وإنه لمطلوب من الإنسان أن يعمل ما يأمر الله به، وإن ينتهى عما نهاه الله عنه، غير ملتفت إلى قدر الله فيه، فإن الالتفات إلى هذا مضلّة، لأنه لا يدرى ماذا قدر الله له.. إنه يعمل فى قدر الله، ويجرى على حدود هذا القدر، دون أن يعلم شيئا مما قدّر له.. فإذا وقع العمل منه، كان ذلك العمل هو قدره المقدور له.. فإن كان حسنا حمد الله وشكر له، وإن كان سيئا، كان حريّا به أن يجدّ فى الاتجاه إلى الله، وأن يسأله الهداية والتوفيق.. وقوله تعالى: «فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» - هو الجزء: 14 ¦ الصفحة: 986 قطع لحجة من يحتجّ بالقدر، حين يعرض عن الله، ويأبى أن يستجيب لله ورسوله، ولسان حاله يقول ما قال المشركون: «لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ» (148: الأنعام) فهذا ضلال مبين، وسفاهة حمقاء، لا تقوم على منطق، ولا تستند إلى حق.. وإنه ليس من شأن الرسول أن يقهر الناس على الإيمان، وأن يكرههم على الاستجابة لدعوته.. فالرسول مهمته البلاغ المبين، وأداء رسالة الله كاملة واضحة إلى الناس.. «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» (29: الكهف) .. قوله تعالى. «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» - هو بيان للإله الّذى يدعى الناس إلى طاعته، وإلى طاعة رسله، وهو أنه إله واحد، لا إله سواه، وأنه إلى هذا الإله المتفرد بالألوهة، يولّى المؤمنون وجوههم، ويفوّضون إليه أمورهم، راضين بما يقع لهم من خير أو شر.. قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .. هو دعوة للذين استجابوا لله ولرسوله، فآمنوا، أن يعطوا هذا الإيمان حقّه.. فإنه لا يكفى أن يؤمنوا دون أن يحرسوا هذا الإيمان من الآفات الكثيرة الّتى تعرض له، وتفسده، أو تذهب به جملة.. ومن هذه الآفات، الفتنة بالزوج والولد.. حيث هما اللذان يملآن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 987 عواطف الإنسان، ويستوليان على مشاعره، وبهذا يكون لهما تأثير بالغ عليه، فى مجال الصلاح والفساد جميعا.. إن الزوج والولد، أشبه بالأعضاء العاملة فى الجسد، فإن كانا صالحين، سلم الجسد، واقتدر على أداء وظيفته كاملة، وإن كانا فاسدين، عجز الجسد عن أن يقوم بما هو مطلوب منه، بقدر ما فيهما من فساد.. وفى القرآن الكريم، أمثله وشواهد كثيرة لهذا.. فامرأة نوح وابنه، كانا على خلاف معتقده فى الله.. هو رسول الله، مؤمن به، داع إليه، وامرأته وولده كافران بالله، يقفان من نوح موقف عداوة ومنابذة.. وإنه ليس أشقّ على الإنسان من أن يكون أعداؤه بعضا من كيانه.. إن عداوة الغرباء تخفّ وتهون، إزاء عداوة ذوى القربى.. وإن أقسى العداوات وأمرّها لهى عداوة أقرب الأقربين، وألصقهم بالإنسان جسدا، وروحا، ومشاعر.. وفى هذا يقول الشاعر الجاهلى (طرفة بن العبد) : وظلم ذوى القربى أشدّ مضاضة ... على النفس من وقع الحسام المهند فقوله تعالى: «إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ» - هو إلفات إلى ما قد يكون من خلاف بين المؤمن وبين زوجه وولده فى مجال العقيدة.. ذلك الخلاف الذي كثيرا ما تغطى عليه مشاعر الحب، والعطف، فلا يكاد يشعر المؤمن بما يدخل على إيمانه من ضيم وجور، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 988 إذا هو استسلم لزوجه أو ولده، وأصغى إلى ما يلقيان إليه من زور وبهتان.. ولهذا جاء قوله تعالى: «فَاحْذَرُوهُمْ» حتى يكون المؤمن دائما، على حذر، وانتباه من هذه الرياح المسمومة الّتى تهب عليه من أقرب الناس إليه.. والعداوة الّتى ترد على الإنسان من جهة الزوجة أو الولد، ليست عداوة ذاتية له، وإنما هى عداوة متولدة عن فعل يجىء من قبل الزوجة أو الولد.. فإذا فعلت الزوجة فعل العدو فهى عدوّ، وإذا فعل الولد فعل العدو، فهو عدو.. وإنه لا عدوّ أبلغ فى عداوته، وأشد فى كيده، وأعظم فى ضرره- ممن يحول بين المرء وبين طاعة ربه.. روى البخاري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الشيطان قعد لابن آدم فى طريق الإيمان، فقال له: أتؤمن وتذر دينك ودين آبائك؟ فخالفه، فآمن.. ثم قعد له على طريق الهجرة، فقال له: أتهاجر، وتترك مالك وأهلك؟ فخالفه فهاجر.. ثم قعد له على طريق الجهاد، فقال له: أتجاهد، فتقتل نفسك، فتنكح نساؤك ويقسم مالك؟ .. فخالفه، فجاهد، فحقّ على الله أن يدخله الجنة» .. وقوله تعالى: «وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .. هو دعوة إلى الرّفق فى الحذر، والتلطف فى لقاء المكروه الذي يجىء إلى المؤمن من زوجه أو ولده.. فإذا كان من واجب المؤمن أن يحذر هذا العدوّ الكامن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 989 فى أقرب الناس إليه وآثرهم عنده، فإن هذا العدوّ يجب أن ينظر إليه من جانب آخر على أنه صديق، وأن هذه العداوة طارئة، وأنه يمكن أن تعالج هذه العداوة بالحكمة، والحسنى، على ألا يكون ذلك على حساب الدين.. وبهذا يمكن أن يبقى المؤمن على هذين العضوين الفاسدين فى جسده، وأن يطبّ لهما، وأن يعمل على إصلاحهما ما استطاع، وألا يعجّل بقطعهما إلا بعد أن يستنفد جميع وسائل العلاج، شأنهما فى هذا شأن أعزّ الأعضاء والجوارح فى الجسد.. فالعفو، والصفح، والمغفرة.. من المؤمن، لزوجه وولده، الواقعين فى موقع الفتنة له فى دينه- إنّما هو صبر على الأذى، واحتمال الضرّ، فى سبيل الإبقاء على علائق الودّ، ووشائج القربى التي هى من أمر الدين، ومن طبيعة الحياة.. شريطة ألا يكون ذلك- كما قلنا- على حساب الدين.. كما يقول سبحانه فيما بين الولد، والوالدين: «أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً» (14، 15 لقمان) . قوله تعالى: ِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ» . ومن الفتن الّتى تعرض للمؤمن، فتنة المال، والأولاد، حيث يطغى حبهما على قلبه، ويأخذ على سمعه وبصره، فلا يرى شيئا غيرهما، ولا يستمع لنداء غير نداء المال والولد، فيصرفه ذلك عن ذكر الله، ويلهيه عن العمل الصالح، ابتغاء مرضاة الله.. وبهذا يضمر إيمانه، وقد يذهب إلى غير عودة! يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه. «تعس عبد الدّينار، تعس الجزء: 14 ¦ الصفحة: 990 عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة. تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش» . [تعس: أي هلك: والخميصة: كساء أسود له أعلام وخطوط.. والقطيفة، ثوب مزركش ذو أهداب.. وانتكس: أي عاوده المرض.. وشيك: أصابته شوكة.. فلا انتقش، أي فلا خرجت شوكته بالمنقاش وهو الملقط] . إن الفتنة الّتى تهب على المؤمن هنا، هى فتنة مهبّها ذاته هو، وما يفيض به قلبه من مشاعر الحبّ للمال، والولد.. وأما الفتنة الواردة على المؤمن فى قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ» فهى فتنة متسلطة على الإنسان من خارج ذاته، فيما تسوقه إليه زوجه أو ولده من صور الشحناء معه، والخلاف عليه، فى الدين الّذى يدين به، والذي يباعد الشقة بينه وبينهما. وقوله تعالى: َ اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ» هو تعويض عن التخفف من من هذا الحبّ الّذى يحمله الإنسان فى قلبه للمال وللولد، وإيثارهما على حبّ الله والعمل فى طاعته.. فالذى عند الله من ثواب، هو خير من الدنيا كلّها.. وفى قوله تعالى: «إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ» .. إشارة إلى أن هذا الحكم ليس على إطلاقه.. لأنه ليس كل الأزواج ولا كل الأولاد تجىء منهم العداوة، وإنما يقع ذلك من بعضهم، ولهذا جىء بمن الّتى تفيد التبعيض، على حين جاء قوله تعالى: ِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ» بدون «من» التبعيضية، لأن الأموال والأولاد فتنة مطلقة، فحيث يكون المال، وحيث يكون الأولاد، فالفتنة بهم قائمة.. يقول الإمام علىّ- كرم الله وجهه-: «لا يقولنّ أحدكم: «اللهم إنى أعوذ بك من الفتنة، لأنه ليس أحد، إلا وهو مشتمل على فتنة، ولكن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 991 من استعاذ فليستعذ بمضلّات الفتن.. فالله سبحانه وتعالى يقول: ِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ» . قوله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» . قوله تعالى: [ «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» .. ما تأويله؟] هو رحمة من رحمة الله بعباده، وهم فى متلاطم هذه الفتن الّتى تطلع عليهم من أنفسهم، ومن أهليهم وأقرب الناس إليهم، إنها حرب مشبوبة الأوار دائما، لا يستطيع الإنسان أن يدفعها عن نفسه، أو أن يدفع هو نفسه عنها، إلا إذا اعتصم بمعتصم يعصمه منها.. إذ كيف له بالتخلص من ذاته، ومن نزعات نفسه، ودفعات أهوائه؟ ونفرض أنه استطاع ذلك بعد مشقة وعناء، فكيف له بأن ينخلع عن زوجه وولده؟ إن ذلك لا يكون إلا بالانخلاع عن الحياة الدنيا جملة!! والإسلام دين واقع، ودين رحمة وعدل وإحسان.. لا يرى للناس إلا أنهم بشر تتحكم فيه نوازع، وعواطف، وتعرض لهم عوارض الضعف.. ويلحقهم ما يلحق الكائن الحىّ من جهد وضعف.. ولهذا قامت هذه الشريعة على اليسر، وعلى رفع الحرج، كما يقول سبحانه: «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (78: الحج) .. ويقول الرسول الكريم: «إن هذا الدين يسر فأوغل فيه برفق، وإنه لن يشادّ الدين أحد إلا غلبة» .. ويقول الرسول الكريم أيضا.. «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» . فقوله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» .. هو الميزان الذي يقيم عليه المؤمن أمر دينه كله.. وأن يتقى هذه الفتن الّتى تهب عليه من كل جهة- أن يتقيها الجزء: 14 ¦ الصفحة: 992 بقدر ما يملك من قوة، وما يحتمل من جهد.. والله سبحانه وتعالى يقول: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها.. لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» . فكل نفس لها طاقة من الاحتمال، ولها قدر من القوة، وإنه على قدر طاقتها وقوتها، تحاسب، فتجزى بما كسبت، وعلى ما اكتسبت.. ومن أجل هذا كانت شريعة الإسلام- مع عمومها- تنظر إلى ما فى الناس- كأفراد- وإلى ما فيهم من قوة وضعف، فتكلف القوىّ بما لا تكلف به الضعيف.. ونجد مثلا لهذا فى نساء النبي، وما لهن من خصوصية، وما عندهن من استعداد لقبول الخير، بما كان لحياتهن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أثر فى مدّهنّ بأمداد عظيمة من الإيمان والتقوى.. ولهذا قام حسابهن عند الله على غير حساب عموم النساء.. ففى مقام الإحسان يضاعف الله لهن الإحسان، فيؤجرن بالحسنة ضعف أجر الحسنة من غيرهن.. فيقول سبحانه: «وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً» (31: الأحزاب) .. وكذلك الشأن فى مقام الإساءة- لو فرض أن تقع منهن سيئة- فيقول جل شأنه: «يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ، وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً» (30: الأحزاب) .. وليس هذا فى نساء النّبى وحدهن، بل إنه فى المؤمنين عامة، فقد كلف الله المؤمنين فى أول الإسلام، بأن يلقى المسلم منهم فى ميدان القتال عشرة من العدوّ، وأن يغلبهم، دون أن ينكل عن لقائهم، أو يفر منهم إذا التقى بهم.. وذلك لما كان فى قلوب هؤلاء السابقين إلى الإيمان، من قوة إيمان، ووثاقة دين، بما لم يكن لأحد أن يبلغ هذا المستوي العظيم بعد.. فلما دخل الناس فى دين الله أفواجا، وكان كثير من الذين آمنوا دون هذا المستوي، وعلى بعد بعيد منه- الجزء: 14 ¦ الصفحة: 993 لمّا كان هذا، كان أمر الله للمسلمين فى القتال، أن يكون المقاتل منهم فى مقابل اثنين من أعدائهم.. ومن هذا ندرك السرّ فى تلك التوجيهات الّتى كان يوجه بها النبي أصحابه حين يسألونه مثلا: أي الأعمال أفضل؟ فيقول لهذا قولا، ولذاك قولا، ولثالث قولا آخر.. وهكذا، حسب ما يرى الرسول الكريم فيهم من قدرة واستعداد، فيوجه كلّ واحد منهم الوجهة الّتى يصلح لها، ويقدر على السير فيها.. على أن هذا ينبغى ألّا يفهم على غير وجهه السليم، وألّا يتأول تأويلا فاسدا، فيجعل المرء هذه الاستطاعة تكأة يتحلل بها من تكاليف الشريعة، ويتخفف من أوامرها ونواهيها، محتكما فى ذلك إلى هواه فى تقدير الحدّ الّذى تبلغه استطاعته، فيترك الصوم مثلا، لأن الجوع يؤذيه، والعطش يشقّ عليه، أو لأن ترك بعض العادات المتمكنة منه، يفسد تفكيره، ويعلّ جسده.. وقل مثل هذا فى كثير من أوامر الدين ونواهيه، حيث يبحث المرء عن مخرج يخرج به منها، وعن علة يتعلل بها، للتحلل من هذا القيد، والفكاك من هذا الالتزام.. إن هذا من شأنه أن يفسد على المرء دينه، ويغتال كل صالحة فيه. وإن فى الشرّ خيارا.. وإنه لخير المرء فى هذا المقام أن يترك فريضة من فرائض الله، أو يقصر فى أدائها، عن فتور، أو عدم مبالاة- إن ذلك لخير له من أن يكون تركه الفريضة، أو تقصيره فى أدائها، ناجما عن فتوى كاذبة خادعة، يفتى بها نفسه، ليتحلل من عقد لله الّذى لزمه، من فرائض الشريعة وأحكامها.. إن التكاليف الشرعية لها أعباؤها، ولها مشقاتها، وإنها بغير هذا لا يكون لها ميزان فى فعل الطاعات، واجتناب المنبهات، فمن أطاع أمرا، فإنما تكون طاعته عن مغالبة أهواء، ودفع شهوات، ومن انتهى عن منهىّ عنه، كان الجزء: 14 ¦ الصفحة: 994 انتهاؤه عن استعلاء على نزعات، وكبت لرغبات.. وعن هذا الجهد يكون الجزاء.. ولهذا قيل «على قدر المشقة يكون الثواب» .. ثم إن الدين أمانة بين العبد وربه، وإن الوفاء بهذه الأمانة إنما يكون حيث يبذل المرء غاية جهده، ويعطى كل ما عنده، دون إفراط، أو تفريط.. والاحتكام فى هذا، إنما هو إلى ضمير المؤمن، وإلى ما يفتيه به قلبه، كما يشير إلى هذا الرسول الكريم فى قوله: «استفت قلبك.. وإن أفتاك الناس وأفتوك» !! فإذا أعفى الدين- مثلا- أصحاب الأعذار من الجهاد فى سبيل الله، كما يقول سبحانه.. «لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» (91: التوبة) - إذا بيّن الإسلام هذه الأعذار التي تعفى المسلم من الجهاد، فإن بيان حدود هذه الأعذار من الضعف، والمرض، وضيق ذات اليد فى النفقة- إن بيان هذه الحدود، إنما يرجع إلى ضمير المسلم ذاته، إن كان مرضه أو ضعفه يعفيانه من الجهاد أو لا، أو إن كان بين يديه مال خفى أو ظاهر، أو لا.. فتلك أمور لا يعلمها إلّا الله سبحانه، وإلا أصحابها المتصفون بهذه الصفات.. وقوله تعالى: «وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ» .. هو من تمام التقوى التي أمر الله سبحانه وتعالى بها فى قوله جلّ شأنه: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» فإن التقوى فى حدود الاستطاعة، مرجعها إلى القلب، وما انعقد عليه من إيمان بالله، ومراقبة لأوامره ونواهيه.. فهذا جانب يمثّل الضلة بين العبد وربه.. وحسابه فى هذا على الله. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 995 وهناك جانب آخر من الإنسان فيما يتصل بأوامر الله ونواهيه، وهو الجانب الذي يمسّ المجتمع الذي يعيش فيه، والذي تحكمه أوامر هذا الدين الذي يدين به، وهو الجانب الظاهر، الذي يتمثل فى الاستماع لأولى الأمر والطاعة لهم، وتقديم المال المطلوب منه فيما يبدو من ظاهر حاله لولىّ الأمر.. وهذا يعنى ألا يقف المسلم عند قوله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وأن يجعل تقديره لاستطاعته، حكما ملزما لولىّ الأمر. فإذا دعى من ولى الأمر إلى الجهاد مثلا، فلا يتعلل بأنه مريض، أو ضعيف، وإن كان فى الواقع مريضا أو ضعيفا، بل يجب أن يسمع ويطيع، على ما به من مرض أو ضعف.. فإن سمعه وطاعته فى تلك الحال شاهدان يظاهران ما هو عليه من مرض أو ضعف، وهذا من شأنه أن يجعل ولىّ الأمر هو الذي يعفيه من الجهاد، ويعزله عن ركب المجاهدين.. أما إذا أبى أن يسمع أو يجيب، كان ذلك مثار فتنة لغيره، ثم كان موضع تهمة له بأنه يتصنع المرض أو الضعف، حتى يتحلل من الاستجابة للجهاد الذي يدعوه إليه ولى الأمر.. وكذلك الشأن فى الإنفاق فى سبيل الله، وهو أنه من الواجب أن ينفق المرء فى سبيل الله من غير دعوة، فإذا دعى من ولىّ الأمر كان عليه أن يجيب، وأن يقدم المطلوب منه، من زكاة أو نحوها.. وقوله تعالى: «خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ» .. يجوز أن يكون مفعولا به للفعل «أنفقوا» أي أنفقوا مالا، أو نحوه، مما هو خير، ونافع، ويكون الجار والمجرور «لأنفسكم» متعلقا بقوله تعالى «خيرا» أي أنفقوا خيرا لأجل أنفسكم.. وعبّر عما ينفق بلفظ الخير، لأنه خير فى ذاته، وهو خير لمن ينفق من أجله، وهو خير لمن ينفقه.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 996 ويجوز أن يكون «خيرا» منصوبا بفعل مضمر، تقديره أنفقوا وقدموا خيرا لأنفسكم من أموالكم. وقوله تعالى: «وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» . هو تحريض على البذل والإنفاق فى سبيل الله، وتحذير من الشحّ، والضنّ بالبذل والسخاء فى وجوه الخير.. فإن من وقى نفسه شرّ هذا الداء، داء الشحّ، كان من المفلحين، حيث إن البخل، لا يكون إلّا من نفس استهلكها حبّ المال، فضنت به عن الإنفاق فى قضاء الحقوق، وفى أداء الواجبات لذوى القربى، والفقراء والمساكين.. ثم ذهب بها هذا الحرص، إلى اكتساب المال من كلّ وجه، فى غير تحرّج أو تأثّم، فإن حبّ المال يعمى ويصم! فأقرب الناس إلى السلامة، وأدناهم إلى الفلاح من خلص بنفسه من ربقة العبوديّة للمال، ومن حبائل فتنته.. كما يقول سبحانه: ِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ» .. فإذا تحرر الإنسان من هذا الداء، واستعلى على هذه الفتنة، استقام له طريقه فى الحياة، فكان من المفلحين فى الدنيا والآخرة جميعا. قوله تعالى: «إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ» . هو إغراء بالإنفاق فى سبيل الله، وإعلاء لشأن المنفق، ورفع لقدره، حتى إنه ليقف بين يدى خالقه والمنعم عليه موقف المقرض، الدائن.. فما أعظم فضل الله، وما أوسع إحسانه.. إنه يعطى، ثم يستقرض مما أعطى!! والله سبحانه غنىّ غنى مطلقا عن هذا القرض الذي يقترضه، لأن هذا الذي يقترضه، هو ملك له، وفضل من فضله، ولو كان فى حاجة إلى أن يقترض، لأمسك الجزء: 14 ¦ الصفحة: 997 هذا الذي يقترضه.. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.. ولكن هذا العطاء، ثم الاقتراض منه، هو تكريم للإنسان، وإحسان إليه، حتى ينال بما ينفق من مال الله ثواب الله فى الآخرة وحسن الجزاء فى الدنيا، بما يضاعف للمنفق ما أنفق، كما يقول سبحانه: «يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ» (276: البقرة) وكما يقول جل شأنه: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ» (245: البقرة) . والقرض الحسن: هو الذي ينفق فى سبيل، الله عن رضا نفس، وانشراح صدر، والذي لا يتبعه منّ ولا أذى. قوله تعالى: «وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ» .. أي أنه سبحانه عظيم الشكر لمن يقرضه، وينفق فى سبيله، فيجزيه الجزاء الحسن على ما أنفق، وهو سبحانه «حليم» لا يعجل بعقاب الذين يضنون ويبخلون بما آتاهم الله من فضله، فلا يقطع عنهم أمداد نعمه وإحسانه، فى هذه الدنيا، بل يمدّ لهم فى العطاء، ولا يعجّل لهم الموت حتى يستوفوا آجالهم، وحتى تكون بين أيديهم فرصة للمراجعة، والمصالحة مع الله.. فإن هم لم يصلحوا أمرهم، وماتوا على ما هم عليه من الشحّ والبخل، والضنّ بحقوق الله- كان إلى الله حسابهم، فإن شاء عفا ورحم، وإن شاء عاقب وانتقم. قوله تعالى: «عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» . هو معطوف عطف بيان على قوله تعالى: «وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ» .. أي هو سبحانه شكور حليم، وهو عالم الغيب والشهادة، وهو العزيز الحكيم.. فهذه صفات الله سبحانه التي يتعامل بها مع عباده الذين يقرضونه.. إنه سبحانه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 998 يشكر للمنفقين ما أنفقوا ويضاعف للمقرضين ما أقرضوا، ولا يعاجل المقصرين منهم فى الإنفاق، العذاب، بل يمهلهم، ويدع لهم فسحة من الوقت حتى تنتهى أعمارهم فى هذه الدنيا، ليكون لهم فى هذه الفسحة مجال لتصحيح موقفهم، واللّحاق بالمنفقين الذين سبقوهم إلى رضوان الله.. وهو سبحانه مطلع على سرهم وجهرهم، عالم بما أنفقوه، وما يخلوا به.. وهو سبحانه «العزيز» الذي هو مستغن بعزته عن إنفاق المنفقين، وعون المعينين، وهو «الحكيم» الذي يقيم موازين الناس بالحكمة والعدل، ويضع كل إنسان بمكانه الذي هو أهل له.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 999 65- سورة الطلاق نزولها: مدنية. عدد آياتها: اثنتا عشرة آية. عدد كلماتها: مائتان وأربعون كلمة. عدد حروفها: ألف وستون حرفا. مناسبتها لما قبلها كان مما تضمنته السورة السابقة: «التغابن» - قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ» .. وفى هذا- كما قلنا- تحذير من فتنة الأزواج، والأولاد، وأن هذه الفتنة قد تعظم ويشتد خطرها، فلا يمكن مدافعتها والنجاة منها إلا بالفرقة، وقطع علائق الصلة.. ولما كانت الفرقة بين الرجل وزوجه لا تكون إلا بالطلاق، فقد كان من المناسب فى هذا المقام أن تبيّن بعد ذلك أحكام الطلاق، والصورة التي يكون عليها، حتى لا يؤدّى ذلك إلى جور وعدوان، بل ينبغى أن يكون الرفق، والحكمة، من الأدوات العاملة فى حلّ عرا الزوجية بين الزوجين، إذا لم يكن بدّ من حلّها، امتثالا لقوله تعالى: «فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» (229: البقرة) . هذا، وفى مجىء سورة الطلاق عقب الحديث عن فتنة الأزواج والأولاد- فى هذا ما يشير، فى إعجاز مبين، إلى أن الطلاق لا يكون إلا فى حال يتحكم فيها الخلاف بين الرجل والمرأة، حتى يكاد يكون فتنة، لا يمكن الخلاص منها إلا بهذا الدواء المرّ، وإلا بهذا الداء الذي يذهب به داء أشد منه.. وإن فى الشر خيارا.. وبعض السمّ ترياق لبعض وقد يشفى العضال من العضال الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1000 بسم الله الرحمن الرحيم الآيات: (1- 7) [سورة الطلاق (65) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1001 التفسير: قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً» . الخطاب هنا للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- والمراد به المسلمون جميعا.. فالمسلمون مخاطبون من الله سبحانه وتعالى فى شخص النبىّ، الذي يتلقّى خطاب الله عنهم، لأنه إمامهم وهاديهم، وحامل الدعوة من الله إليهم.. وقد خوطب النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- من ربّه، بقوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ» . وبقوله سبحانه: «يا أيها الرسول» ولم يخاطب باسمه، تكريما له من ربّه، بهذه الملاطفة التي تشير إلى المحبة والقرب من ربّه، الذي يخلع عليه ما يخلع من أوصاف التكريم، ويناديه بها، حتى لكأنها علم عليه وحده. وقوله تعالى: «إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ» أي إذا لزم الأمر، ولم يكن بدّ من وقوع الفرقة منكم، بين الرجل والمرأة. وقوله تعالى: «فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ» أي فليكن الطلاق فى مواجهة الحساب لعدتهن.. أي ليكن هذا الطلاق منظورا فيه العدة.. وذلك بتخيّر الوقت المناسب للطلاق.. فاللام فى قوله تعالى «لعدتهن» للتوقيت، أي لوقت استقبال العدة، مثل قولك: انتهيت من هذا الأمر ليلة بقيت من المحرم، أي مستقبلا لهذه الليلة.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1002 وهذا يعنى أن تطلّق المرأة فى طهر لم تمس من الرجل فيه، فإذا طلقت فى الطهر المتقدم للقرء الأول من أقرائها فقد طلقت مستقبلة لعدتها.. وهذا- كما يقول الزمخشري- «أحسن الطلاق، وأدخله فى السنة، وأبعده من الندم» .. لأن الرجل إذا طلق المرأة وهى فى طهرها، دون أن تدعوه نفسه إليها، كان من المستبعد أن يتوق إليها بعد طلاقها، وبهذا لا يكثر ندمه على فراقها.. وعن إبراهيم النّخعى، أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يستحبون ألّا يطلقوا أزواجهم للسنة- أي طلاق السنة، وهو أن يكون فى طهر لم تمس فيه- كانوا لا يطلقونهن إلا واحدة، ثم لا يطلقون غير ذلك، حتى تنقضى العدة.. وكان ذلك أحسن عندهم من أن يطلق الرجل ثلاثا فى ثلاثة أطهار.. وقال مالك بن أنس: «لا أعدّ طلاق السّنة إلا واحدة» .. وكان يكره الثلاث، مجموعة أو متفرقة. وأما أبو حنيفة وأصحابه، فقد كرهوا ما زاد على واحدة فى طهر واحد، فأمّا مفرقا فى الأطهار، فلا. وعند الشافعي- رضى الله عنه- لا بأس بإرسال الثلاث، وقال: لا أعرف فى عدد الطلاق سنّة، ولا بدعة، وهو- أي الجمع، والتفريق- مباح. يقول الزمخشري تعقيبا على هذا: «فمالك، يراعى فى طلاق السّنة، الوحدة والوقت.. وأبو حنيفة، يراعى التفريق والوقت.. والشافعي، يراعى الوقت وحده» . قوله تعالى: «وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ» أي اضبطوا حسابها، وهى أن تكون الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1003 مستوفية الزمن الذي بينه الله سبحانه وتعالى، كما ستبين الآيات بعد ذلك، وذلك فى شأن الزوج المدخول بها، وله أن يراجعها قبل انقضاء العدة إذا لم يكن قد طلقها ثلاثا.. ويكون بعد انقضاء العدة فى هذه الحال، كأحد الخطّاب، فإن كان قد طلقها ثلاثا، فلا تحل له إلا بعد زواج من غيره وطلاق وانقضاء عدة.. قوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ» - هو دعوة للرجال خاصة، إلى تقوى الله فى هذا الموقف، وألا يكون الطلاق عن عدوان، أو انتقام، أو اتباع لشهوة عارضة، أو نزوة طارئة، فإن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- يقول: «إن من أبغض الحلال إلى الله الطلاق» . وقوله تعالى: «لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ» .. هو نهى للرجال عن أن يخرجوا مطلقاتهم قبل انقضاء العدة، بل ينبغى أن يمسكوهن فى بيت الزوجية، فإنهن زوجات إلى أن تنقضى العدة. وفى إضافة بيوت الأزواج إلى الزوجات- ما يدخل فى شعور كلّ من الرجل والمرأة، أن الزوجية لا تزال قائمة بينهما فى أثناء العدة، وأن الزوجة ما زالت فى بيتها، بيت الزوجية، وهذا من شأنه أن يجعل المسافة النفسية قريبة بينهما، وأن يكون ذلك داعية إلى إصلاح ذات البين، وإزالة أسباب الفرقة.. فالمرأة فى أثناء العدة لا تزال فى بيتها، بيت الزوجية، وليست غريبة عنه، وهى بهذا الشعور تتصرف كما كانت تتصرف قبل إيقاع الطلاق عليها.. وهذا مدخل واسع إلى المصافاة، وإصلاح ما بالنفوس.. قوله تعالى: «وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ» .. قيل فى معنى الفاحشة المبينة هنا أقوال.. منها: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1004 أن يثبت عليها الزنا، فتخرج من بيت الزوجية، لإقامة الحدّ عليها.. أو أنها تمتنع عن زوجها إذا دعاها إلى نفسه، فتعتبر ناشزا، وبهذا يسقط حقها فى السكنى والنفقة أثناء العدة. أو أن تخرج هى من تلقاء نفسها مراغمة لزوجها، فيعتبر هذا خروجا منها عن أمر الله، الذي ألزمها فيه الإقامة فى بيت الزوجية.. وهذا القول الأخير، هو أقرب الآراء إلى المعنى المراد.. وقوله تعالى: «وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ.. وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» .. أي هذه أحكام الله وحدوده التي أقامها لشريعته، ومن يتعد هذه الحدود ويخرج عنها، فقد ظلم نفسه، لأنه تعرّض لسخط الله، وعقابه.. وقوله تعالى: «لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً» .. أي لا تدرى أيها المطلّق ماذا سيكون فى التزامك لحدود الله، وإمساكك زوجك فى بيت الزوجية، فقد يحدث الله أمرا، يجىء على غير ما تتوقع من فراق بينك وبين زوجك، فيصلح الله ما بينكما، وبعيد الحياة الزوجية، التي كانت آخذة طريقها إلى الزوال.. قوله تعالى: «فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ.. ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً» .. أي فإذا بلغت المطلقة أجلها، ووافت مشارف العدة، ولم تبق إلا لحظة، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1005 ينتهى عندها الأمر، إلى مراجعة، أو طلاق- كان الرجل بالخيار، إما أن يمسك مطلقته بمعروف، أو يفارقها بمعروف، فلا يكون إمساكه لها للضرار والنكاية، ولا يكون فراقها للانتقام والتشفي.. وإنما الذي يقضى به شرع الله، أن يكون كلّ من الإمساك، أو الفراق، قائما على العدل، والإحسان، وتجنب البغي والعدوان.. ثم أن يكون هذا، وذاك، بمحضر من شاهدى عدل يشهد ان المراجعة، أو الفراق.. وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبى حنيفة، أمّا عند الشافعي، فهو واجب فى الرجعة، مندوب إليه فى الفرقة.. وفائدة هذا الإشهاد، هو ألا يقع بينهما التجاحد، ولئلا يموت أحدهما فيدّعى الآخر ثبوت الزوجية ليرث، فى حال أنّ الفراق قد تم بينهما. وقوله تعالى: «ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» أي ذلك التدبير الذي دبره الله سبحانه وتعالى، وتلك الحدود التي رسمها لهذا الأمر، إنما يوعظ به، ويستقيم عليه من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فيحول هذا الإيمان بينه وبين التعدّى على حدود الله.. وقوله تعالى: «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً» أي ومن يلتزم حدود الله، ويراقب ربه ويخش سلطانه- يجعل له مخرجا مما هو فيه، من معاناة وضيق، وهو فى مواجهة هذا الموقف، الذي تتغير فيه حياته.. فإذا اتقى الله، ولزم حدوده، اختار له الله سبحانه وتعالى الطريق المستقيم، الذي يتبدل فيه حاله من ضيق إلى سعة، ومن همّ إلى فرج، سواء أكان ذلك بإمساك الزوجة أو فراقها، أو فى أي أمر من أمور الحياة يعرض له، فإن تقوى الله فى هذا الأمر، كفيلة بأن تبلغ به مرفأ الأمن والسلام الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1006 قوله تعالى: «وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً» .. هو معطوف على قوله تعالى: «يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً» .. وهو واقع فى جواب الشرط: «ومن يتق الله» .. وقد جاء أحد جوابى الشرط فاصلة للاية.. ثم جاء الجواب الثاني بدءا لآية أخرى. وهذا الفصل بقوله تعالى: «مَخْرَجاً» ليس لرعاية الفاصلة، كما يذهب إلى ذلك علماء البلاغة وأكثر المفسرين.. فإن كلام الله تعالى منزه عن أن تحكمه الضرورات التي تحكم أعمال البشر، من شعر ونثر.. وإن هذا الفصل لهو إعجاز من أعجاز القرآن.. هذا ما ينبغى أن نستيقنه، سواء اهتدينا إلى مواقع هذا الإعجاز، أو لم نهتد إليها.. والذي نقوله- والله أعلم- إن قوله تعالى: «وَمَنْ يَتَّقِ» هو شرط يواجه به كل من الزوج والزوجة.. وأما الجوابان، وهما: «يجعل له مخرجا» ثم «ويرزقه من حيث لا يحتسب» فأولهما الزوج، الذي وعده الله سبحانه بأن يجعل له مخرجا، إذا هو اتقى الله.. وأما الجواب الآخر، فهو الزوجة، التي وعدها الله سبحانه، بأن يرزقها من حيث لا تحتسب، ولا تقدّر، إذا هى اتقت الله، فى موقفها من زوجها فى فترة العدة.. وهذا لا يمنع من أن يكون ذلك الشرط، وجواباه، للعموم، بمعنى أن كلّ من اتقى الله، يجعل الله له مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب.. ولكن لمّا كان ذلك فى مواجهة الزوجين، المزمعين على الفراق، جاءت الجملة الشرطية ضابطة لحالهما فأعطت كلّا منهما ما يناسبه.. ثم كان منها هذا الشمول الذي يسع الناس جميعا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1007 وقوله تعالى: «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» : شرط وجواب، يدخل فيه كلّ من الزوج والزوجة، كما يدخل فى حيّزه الناس جميعا.. فمن يتوكل على الله، ويسلم أمره إليه، فالله حسبه، وكافيه، ومدبّر أمره.. يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه: «من انقطع إلى الله كفاه الله كلّ مؤونة، ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها» . وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ» .. أي أنه سبحانه هو المالك المتصرف فى هذا الوجود، وأن كلّ شىء بيده، خاضع لمشيئته، مستجيب لإرادته، وما يريده سبحانه فهو واقع لا محالة، دون أن يعوّقه معوّق، أو يغيره أحد.. وقوله تعالى: «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً» . أي أن كل شىء فى هذا الوجود، هو بتدبير وتقدير من الله سبحانه، وليس هناك من شىء يجىء عفوا، أو يقع مصادفة واتفاقا.. كما يقول سبحانه: «وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ» (8: الرعد) . قوله تعالى: «وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً» فى هذه الآية بيان للعدة التي تعتدها المطلقات من النساء، وهى تختلف باختلاف أحوالهن. فذوات الحيض، عدتهن ثلاثة قروء، كما يقول سبحانه: «وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ» (228: البقرة) والقرء: يطلق على الطهر والحيض.. فتعتد ذات الحيض ثلاث حيضات، تطهر فيهن ثلاث مرات. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1008 وأما اللائي يئسن من المحيض، وهنّ اللائي بلغن سنّ اليأس، حتى انقطع الحيض عنهن.. فهؤلاء عدتّهن ثلاثة أشهر.. وأما اللاتي لم يحضن أصلا، لصغرهن، أو لأنهن من الممتدات الطهر أبدا، فلا يحضن- هؤلاء عدتهن ثلاثة أشهر كذلك.. وأما ذوات الحمل، فعدتهن وضع حملهنّ.. وأمّا قوله تعالى: «إِنِ ارْتَبْتُمْ» فهو اعتراض بين المبتدأ والخبر، للإشارة إلى الحال الداعية إلى هذا الحكم الذي تضمنته الجملة، وهو أن يكون ذلك عن شك وارتياب، فى حال المرأة التي بلغت السنّ الميئوس فيها من الحيض، ثم ترى الدم، لا تدرى إن كان دم حيض، أو استحاضة.. فهذه عدتها ثلاثة أشهر، أي أنها تعتد بالأشهر، ولا تعتد بالقروء.. قوله تعالى: «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً» .. أي من يلتزم حدود الله، فيما أمر ونهى، جعل الله له يسرا فى كل أمر يعالجه، فإنه من هدى الله على نور من ربه، «وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» . (40: النور) قوله تعالى: «ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ» أي هذه الأحكام التي بيّنها الله سبحانه فى هذه الآيات، هى أمر من الله سبحانه وتعالى، يجب الوفاء به، حيث يحاسب المقصّر، ويجازى المطيع.. وقوله تعالى: «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ، وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً» .. هو دعوة عامة إلى تقوى الله والتزام حدوده.. وأن من يتق الله يكفر الله عنه سيئاته، بما فعل من إحسان كما يقول سبحانه: «إن الحسنات يذهبن السيئات» «ويعظم له أجرا» أي ويضاعف له الثواب. قوله تعالى: «أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1009 عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ.. فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى» .. هذا فى حكم المطلقات طلاقا بائنا، أما من طلقن طلاقا رجعيا، فقد جاء حكمهن فى قوله تعالى: «لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ» . فالمطلقة طلاقا بائنا، لها- إلى أن تنقضى عدّتها- السكنى، خارج بيت الزوجية، ولا نفقة لها ولا كسوة، ولا يتوارثان.. وأما إن كانت حاملا فلها النفقة والكسوة والمسكن، حتى تضع حملها، وبذلك تنقضى عدتها.. كما يفهم من قوله تعالى: «وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ» فدل ذلك على أن النفقة واجبة للمطلقة طلاقا بائنا، إذا كانت حاملا، أما غير الحامل فقد جاء الأمر بسكناها دون النفقة عليها. هذا، وقد اختلف فى النفقة للمطلقة ثلاثا قبل انقضاء عدتها، فقال أكثر العلماء، لها السكنى ولا نفقة لها، وقال آخرون، لها السكنى والنفقة، لأنها محبوسة على الرجل لحقّه عليها، حتى تنقضى عدتها، فاستحقت النفقة كالزوجة.. وهذا رأى أبى حنيفة، استنادا إلى قوله تعالى: «وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ» ، وترك النفقة من أكبر الأضرار.. ونحن نميل إلى هذا الرأى القائل بوجوب النفقة للمطلقة طلاقا بائنا، وذلك أولا: أن الأمر بإسكانهن، من غير نفقة عليهن، أشبه بالحبس، بل إنه الحبس خير منه، لأن المحبوس فى جريمة، يقدم له الطعام والشراب! وثانيا: لا يتفق مع روح الشريعة السمحاء أن تلقى بالمرأة بعد الطلاق، فى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1010 هذا السكن المهجور، الذي لا يصحبها فيه إلا ما تحمل من هموم وأحزان، وإلا ما تمضغ من مرارة هذه المصيبة التي حلت بها، وقد أخرجتها من بيتها، ثم تضنّ عليها هذه الشريعة بشىء من العزاء، وهو ما يقدم لها من نفقة، فى فترة هذا السجن الانفرادى!؟ وثالثا: ما جاء فى قوله تعالى: «وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ» .. ليس فيه ما يحجب عن غير الحامل حقّها فى الإنفاق عليها، وإنما جاء ذلك ليرفع عن أولات الحمل ما قد يوهم بأن لا نفقة لهن إلا فى حدود ما ينفق على غير دوات الحمل، زمنا، وقدرا، بمعنى أن ينفق على ذوات الحمل فى حدود ثلاثة أشهر، أي بمقدار ما ينفق على غير الحامل.. فجاء قوله تعالى: «وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ» - جاء رافعا لهذا الوهم من جانبيه جميعا.. فينفق على ذات الحمل حتى تضع حملها، ثم ينفق عليها قدرا مراعى فيه حالة الحمل الذي تحمله، بحيث يكفل لها الغذاء المناسب لحالها وحال الطفل الذي يغتذى منها.. فالنفقة على ذات الحمل تختلف عن النفقة على غير الحامل وقوله تعالى: «مِنْ وُجْدِكُمْ» أي مما تجدون بين أيديكم، أي مما هو موجود ومتاح لكم.. وقوله تعالى: «وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ» - هو خطاب للأزواج بأن يلتزموا حدود الله، مع مطلقاتهن، اللاتي أمسكوا بهن فى بيوتهم، وألا يسلطوا عليهن من الكيد والضر ما يحملهن على ترك ما لهن من حقوق على أزواجهن.. وقوله تعالى: «فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ» - هو أمر للأزواج بأن يقوموا بأداء النفقة المناسبة لمطلقاتهم، إذا هن قمن بإرضاع ما ولدن لهم من أولاد.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1011 وسمّى ما يقدم للمطلقة من نفقة على الرضيع أجرا، إشارة إلى أن الأب هو المتكفل بالإنفاق على الولد دون الأم، وأن الأم- مع وجود الأب- تعتبر كالأجنبية فى حال طلاقها، ومن هنا كان استحقاقها للأجر، لأنه فى مقابل عمل للأب، تستوفى عليه الأجر منه.. والائتمار بالمعروف، هومداولة الأمر بين الرجل ومطلقته، بالمعروف، واللطف، وذلك للاتفاق على ما فيه مصلحة الرضيع.. فليذكر كل منهما أن الأمر الذي يتداولانه بينهما، هو خاص بولدهما معا، وأن من مصلحة الوليد أن تجتمع عليه عواطف الأبوة والأمومة معا، وألا يكون انفصال الأبوين سببا فى حرمانه من هذه العاطفة، من أحدهما، أو كليهما.. إذ لا ذنب له فيما حدث بينهما من خلاف أدى إلى هذه الفرقة.. فليذكر الأبوان هذا، وليذكرا أيضا أنهما إذا فاتهما أن يعملا بقوله تعالى: «أو تسريح بإحسان» أو قوله سبحانه: «ولا تنسوا الفضل بينكم» - فلا يفوتهما أن يستقيما على حدود قوله سبحانه: «وأتمروا بينكم بمعروف» وأنه إذا كان قد وقع من أحدهما أو كليهما خروج على حدود الله فى الفرقة التي وقعت بينهما، فإنه ينبغى ألا يضاعف هذا العدوان بعدوان آخر على حدود الله، بظلم هذا الوليد، الوافد من عند الله، ضيفا عليهما.. وقوله تعالى: «وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى» أي أنه إذا لم يقع بين الرجل ومطلقته اتفاق على أن تقوم الأم بإرضاع الولد، سواء أكان ذلك التعاسر والتشاد من جهة الأب، أو من جهه الأم، فإن الوليد يجب أن يكفل له حقه، وأن تحفظ عليه حياته، وذلك بأن يجد له الأب مرضعا أخرى غير أمه.. فإن لم يكن ذلك ميسورا، أو لم يقبل الطفل ثديا غير ثدى أمه، ألزمت الأم بإرضاع طفلها، وألزم الأب بأداء النفقة، أو الأجر، المناسب للأم.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1012 وفى إسناد التعاسر إلى الأبوين، وإن كان ذلك من أحد الطرفين، للإشارة إلى أن هذا التعاسر الذي وقع، هو محسوب عليها معا.. لأنه إذا كان التعنت والتشدد من أحدهما، فإنه كان من الممكن- لو تلطف الطرف الآخر، وحاسن ولم يلق التعنت بالتعنت- كان من الممكن أن يتم الاتفاق ويقع التياسر بينهما.. ولهذا فهما شريكان فى التعاسر الذي يقع بينهما. قوله تعالى: «لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً» .. هو أمر بالنفقة الواجبة على الوالد لزوجه وولده، وأنها إنما تكون فى حدود طاقته، فى حال يسره، أو عسره، غير منظور فى هذه النفقة إلى حال الأم، فى يسر أو عسر.. وقوله تعالى: «وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ» أي ومن ضيّق عليه فى رزقه، فإنه لا يعفى من النفقة على طفله، وإنما عليه أن ينفق مما هو متاح له، وإن كان قليلا.. فإنه هو المسئول عن أمر هذا الطفل، ولن يرفع عنه عبء هذه المسئولية بحال أبدا.. فكما هو عامل بكل وسعه على الإنفاق على نفسه وحفظ حياته من التلف، كذلك يجب أن يعمل بما فى وسعه على الإنفاق على هذا الوليد الذي هو بعض منه.. وقوله تعالى: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها» - هو رفع الحرج، ودفع للمشقة التي قد يحمل عليها الأب فى سبيل الإبقاء على ولده، وأنه إذا كان المطلوب من الأب شرعا وطبعا أن ينفق على ولده، فإن ذلك إنما يكون فى حدود الطاقة، وعلى قدر الإمكان.. «لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها، وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ» .. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1013 فالولد نعمة، لا ينبغى أن تكون نقمة يشقى بها أىّ من الأب أو الأم.. وقوله تعالى: «سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً..» هو وعد من الله سبحانه للمضيّق عليهم فى الرزق، يأن هذا الضيق إلى سعة، وإن هذا العسر إلى يسر، فليتحمل الأب هذا الضيق، وألا يضيق به، ثم ألا يحمله الضيق على أن يلتوى فى سلوكه إزاء الإنفاق على ولده الرضيع، أو يتحلل من هذا الواجب المفروض عليه.. الآيات: (8- 12) [سورة الطلاق (65) : الآيات 8 الى 12] وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1014 التفسير: قوله تعالى: «وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً» . مناسبة هذه الآية وما بعدها للآيات التي قبلها، هى أن الآيات السابقة قد رسمت حدودا أقامها الله سبحانه وتعالى العلاقة بين الزوجين، وما قد يعرض لهذه العلاقة من عوارض تنتهى إلى الفرقة بينهما، وقد توعّد الله سبحانه الذي يتعدّى هذه الحدود من الزوجين.. وهنا فى قوله تعالى: «وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها.. الآية» - عرض لمن يتعدّون حدود الله عامة، وما يأخذهم الله به من بلاء ونكال فى الدنيا، ومن عذاب شديد منكر فى الآخرة.. وفى هذا العرض، يرى كلّ من الزوجين أنهما إذا خرجا عن حدود الله، فلن يفلتا من سلطانه، ولن ينجوا من حسابه وعقابه، لأن أيّا منهما مهما بلغ من جاهه وسلطانه، فلن يكون أقوى من أية قرية من تلك القرى التي اغترت بقوتها، وبسطة الرزق لها، فعتت عن أمر ربها ورسله، فحاسبها الله حسابا شديدا، وعذبها عذابا نكرا.. وكاين: بمعنى «كم» الخبرية التي تفيد التكثير، أي وكم من القرى التي عتت عن أمر ربها ورسله، فحاسبها الله حسابا شديدا، وعذبها عذابا نكرا؟ فما أكثر هذه القرى التي وقعت تحت هذا الحكم.. وعتت: من العتو، وهو التطاول بالبغي والعدوان، والتمرد والعصيان، عن استعلاء وتكبر.. والنكر: الشديد الأليم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1015 قوله تعالى: «فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً» . أي أن هذه القرية- ومثلها كثير من القرى الظالمة العاتية- قد ذاقت عاقبة أمرها الوبيل، وتجرعت كئوس العذاب، فكانت نهايتها الخسران المبين فى الدنيا حيث دمر الله عليها وعلى أهلها.. قوله تعالى: «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً.. فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً» . أي، وإذا كان مصير هذه القرى العاتية الظالمة، هو الخراب والدمار فى الدنيا، فإن ذلك ليس هو نهاية مطافها، وإنما هناك عذاب الآخرة الذي أعده الله لأهلها، وهو عذاب شديد، لا يقاس به ما حلّ بهم من عذاب فى الدنيا. وفى الحديث عن القرية فى قوله تعالى: «فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً» ثم الحديث عن أهلها فى قوله تعالى: «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ..» فى هذا تفرقة بين حالين: فالحال الأولى فى الدنيا، حيث تشهد القرية مصارع أهلها، وحيث يشملها من الخراب والدمار ما يجعلها بعضا من هؤلاء القوم الذين وقع بهم عذاب الله. ولهذا جاء الحديث عن القرية. أما الحال الثانية، التي تتحدث فيها الآيات عن القوم، فهى عن حالهم فى الآخرة، حيث لا قرى لهم، وحيث يلقون العذاب ولا شىء معهم مما كان لهم فى الدنيا من مال، ومتاع، وديار، ولهذا جاء الحديث عن أهل هذه القرية. وقوله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ» .. هو إلفات لأهل العقول الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1016 وأصحاب البصائر، أن يكون لهم مزدجر، من هذا الذي حلّ بالظالمين، المعتدين، من نقم الله، فى الدنيا، ومن العذاب الشديد فى الآخرة، وأن يتقوا الله، ويلتزموا حدوده، حتى لا يحلّ بهم ما حلّ بالظالمين من قبلهم. وإنما خوطب أولو الألباب، لأنهم هم الذين يمكن أن ينتفعوا بهذا الخطاب، وأن يكون لهم من عقولهم داع يدعوهم إلى الاعتبار، وإلى تلقّى العظة مما وقع لغيرهم، قبل أن ينزل بهم.. فالعاقل من اتعظ بغيره، قبل أن يكون هو عظة لغيره.. وقوله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا» هو بدل من قوله تعالى: «يا أُولِي الْأَلْبابِ» أو صفة لأولى الألباب، أي فاتقوا الله أيها العقلاء المؤمنون.. فإن الذين آمنوا، إنما آمنوا بما معهم من عقول دلتهم على مواقع الهدى، وأرتهم ما فى الإيمان من خير فآمنوا.. أما الذين أمسكوا بكفرهم وضلالهم، فإنهم ليسوا من أصحاب العقول.. «إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا» (44: الفرقان) .. ومن تمام الإيمان أن يسلك بصاحبه مسالك الهدى، وأن يقيمه على التقوى.. أما الإيمان- مجرد الإيمان- فإنه إن لم يتحول إلى طاقة من القوى الدافعة إلى السلوك الحميد، والعمل الطيب، كان زرعا بلا ثمر. وقوله تعالى: «قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً» أي قد أنزل الله إليكم ما فيه تذكرة لعقولكم، وهو القرآن الكريم، فانظروا فيه، وتدبروا آياته، وستجدون منه الهدى، والنور.. وقوله تعالى: «رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ» .. رسولا، بدل من «ذكرا» فى قوله تعالى: «قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً» فهذا الذكر الذي أنزله الله إليكم، يتمثل فى هذا الرسول الذي يتلو عليكم آيات الله البينات الكاشفات لطريق الحق، والهدى.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1017 وفى تسليط الفعل «أنزل» على الذكر، الذي هو القرآن، ثم على الرسول الذي يتلو آيات الله- فى هذا إشارة إلى مقام الرسول الكريم، وأنه- صلوات الله وسلامه عليه- أشبه بآية من آيات الله المنزلة من السماء، وأنه منزل إليهم من عند الله، كما تتنزل عليهم آياته.. وهذا يعنى أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- هو فى ذاته مصدر هدى، ومطلع رحمة ونور، وأنّ من عجز عن أن يدرك ما فى آيات الله من حق وخير، يستطيع أن يرى تأويل آيات الله فى رسول الله.. فهو صلوات الله وسلامه عليه- كتاب الله المنظور، على حين أن القرآن هو كتاب الله المسموع.. والله سبحانه وتعالى يقول: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً» (45، 46 الأحزاب) .. فهو صلوات الله وسلامه عليه- سراج منير مرسل من عند الله، كما أن القرآن الكريم «كِتابٌ مُبِينٌ» منزل من عند الله.. وقوله تعالى: «لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ» .. هو بيان لمطالع الهدى من رسول الله، ومن كتاب الله الذي بين يديه، وأن هذه المطالع إنما تطلع على الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وأنهم هم الذين يستضيئون بهذا الهدى، فيخرجون من دائرة الظلام إلى حيث يكون النور.. أما الذين كفروا، فهم فى عمى، وفى ضلال، كما يقول سبحانه: «قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ، فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» (44: فصلت) .. قوله تعالى: «وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً.. قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً» . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1018 هذا وعد من الله سبحانه وتعالى لمن آمن بالله وعمل صالحا، وانتفع بهذا النور الذي أنزله الله- بأن يدخله الله جنات تجرى من تحتها الأنهار، خالدا فيها، لا يتحول عنها أبدا، حيث يرزق رزقا حسنا من فضل الله وإحسانه، فى هذه الجنات التي ينعم فيها بما شاء من نعيم لا يحيط به وصف.. وفى إسناد الإيمان والعمل الصالح ودخول الجنة، والرزق الحسن فيها- فى إسناد هذه الأفعال إلى ضمير المفرد: «يؤمن بالله.. ويعمل صالحا.. يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار.. قد أحسن الله له رزقا» - فى هذا إشارة إلى أن هذه الأفعال، إنما هى من شأن الإنسان نفسه، وجزاؤها واقع عليه وحده.. فالإيمان، والعمل الصالح، مطلوبان من الإنسان، كإنسان له وجود ذاتى، يناط به التكليف، وتقع عليه آثار أعماله من حسن أو سيء.. ودخول الجنة، والرزق الحسن فيها، هو الجزاء الذي يتلقاه المؤمن جزاء إيمانه وعمله الصالح. أما إسناد الخلود فى الجنة إلى جماعة المؤمنين الذين أدخلهم الله الجنة مع هذا المؤمن، فذلك لأنهم جميعا شركاء فى هذا الخلود.. فكلهم خالد فى هذه الجنات، وإن اختلفت منازلهم فيها بحسب أعمالهم.. فهم فى المنازل على أحوال مختلفة، كلّ فى منزلته، وإن كانوا فى الخلود على سواء.. ثم إن الخلود فى الجنة يوحى بثقل هذا الزمن الذي لا ينتهى، وخاصة إذا كان المرء وحده، فى عزلة داخل زمن لا حدود له.. فإذا كان هذا الخلود مع مشاركة لأعداد من الناس لا حصر لها، كان ذلك الخلود سائغا، بل ومطلوبا، حيث يأنس الناس بالناس- وفى هذا يقول المعرى: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1019 ولو أنّى حبيت الخلد وحدي ... لما أحببت فى الخلد انفرادا قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً» .. هو عرض لقدرة الله، وبسطة سلطانه، على هذا الوجود، وأنه سبحانه خلق سبع سموات، وخلق من الأرض سبع أرضين.. وليست المثلية التي بين السموات، والأرض مثليّة فى القدر، والحجم، وإنما هى مثلية فى التنوع والاختلاف، فكما أن لكل سماء نظاما، مختلفا عن الأخريات، كمّا وكيفا، كذلك لكل إقليم من أقاليم الأرض، أو كل طبقة من طبقاتها، نظام، يختلف عما سواه، قدرا، وكيفا.. ومن النظر فى خلق السموات والأرض، يتبين ما لله سبحانه وتعالى من قدرة، وماله سبحانه، من علم قائم على هذه العوالم، يضبطها، ويدبّر أمرها.. ومن علم هذا، علم أنه- كإنسان مخلوق لله- لا يخرج عن سلطان الله، ولا يغيب عن علم الله شىء مما عمل، وأنه محاسب على ما يعمل من خير أو شر، فليتق الله، وليعمل صالحا، حتى لا يقع تحت غضب الله، وينزل منازل الهلكى، من الضالين المكذبين بآيات الله، ورسل الله.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1020 66- سورة التحريم نزولها: مدنية. عدد آياتها: اثنتا عشرة آية.. عدد كلماتها: مائتان وأربعون كلمة.. عدد حروفها: ألف وستون حرفا.. مناسبتها لما قبلها كانت سورة «الطلاق» - قبل هذه السورة- وقد بينت للمؤمنين الحدود التي ينبغى للمؤمنين أن يلزموها فى العلاقات التي بين رجالهم ونسائهم، فى حال ينتهى الأمر فيها إلى الطلاق، وحلّ عرا الزوجية القائمة بين الرجل والمرأة.. ولما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم- كبشر- علاقات زوجية، كالعلاقات التي بين رجال المؤمنين ونسائهم، وأن هذه العلاقات، قد يعرض لها ما يعرض للعلاقات بين المرء وزوجه، فكان من المناسب أن تجىء سورة «التحريم» عقب سورة «الطلاق» لما كان فيها من حديث عن النبىّ خاصة، وعمّا يقع فى محيط حياته الزوجية.. وفى هذا التخصيص تكريم للنبى الكريم، ورفع لقدره عند ربّه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1021 بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 5) [سورة التحريم (66) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5) التفسير: قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .. نداء كريم، من رب كريم، إلى نبى كريم، يؤثر على نفسه، حتى ليحرم ما أحل الله له، فى سبيل مرضاة أزواجه اللائي تظاهرن عليه، وكدن له هذا الكيد الذي توعدهن الله عليه، ودعاهن إلى التوبة منه.. ففى هذا الاستفهام الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1022 دعوة للنبى من ربه أن يرفق بنفسه، وألا يحملها على ما يكره، فى سبيل إرضاء غيره.. وهذا من لطف الله سبحانه برسوله الكريم، وليس عتابا، ولا لوما، كما ذهب إلى ذلك بعض المفسرين. ويذكر المفسرون لهذه الآية وما بعدها أسبابا لنزولها.. ومن الأسباب التي يذكرونها، والتي نراها أقرب إلى مفهوم الآيات من غيرها- ما بروى من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أهديت له مارية القبطية، أدخلها ذات مرة حجرة زوجه، حفصة بنت عمر، وكانت حفصة غائبة، فلما جاءت، ووجدت النبي، ومارية فى حجرتها، غضبت، وقالت فيما قالت للنبىّ: إنه ما اتخذ حجرتها مأوى لمارية، دون حجرات غيرها من نسائه، إلا لهوا نها عليه.. فأرضاها النبىّ الكريم، وحلف لها ألا يقرب مارية بعد هذا، وأوصاها ألا تتحدث بما كان إلى أحد من نسائه، حتى لا تثير غيرتهن فى أمر قد قضى النبي قضاءه فيه، وهو تحريم مارية.. قالوا، ولكن الذي حدث، هو أن حفصة أذاعت هذا السر، وأفضت به إلى عائشة- رضى الله عنها وعن أزواج رسول الله جميعا- وكان من هذا حديث متصل يدور بين أزواج النبي تألّم منه النبي، وضاق به صدره فآلى «1» من نسائه جميعا، ألا يقربهن شهرا. وفى هذا نزلت الآية: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ» والآيات التي بعدها..   (1) الإيلاء: الحلف بيمين غير الطلاق وهو أن يحلف المرء على زوجه ألا يقربها مدة معينة، لا نتعدى أربعة أشهر. [ ..... ] الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1023 وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ» - ليس عتابا، كما يبدو. وإنما هو دعوة من الله سبحانه وتعالى- فى لطف ورفق- إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه ألا يحرم ما أحل الله له، وألا يشق على نفسه بالأخذ باليمين الذي حلف بها، وقد جعله الله سبحانه وتعالى فى سعة من أمره، بالتحلّه من هذه اليمين، وذلك بالكفارة عنها. وقوله تعالى: «تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ» حال من فاعل الفعل «تحرم» وهو النبي صلوات الله وسلامه عليه، أي لم تحرم ما أحل الله لك، مبتغيا بهذا التحريم مرضاة أزواجك. قوله تعالى: «وَاللَّهُ غَفُورٌ» - هو دعوة للنبى الكريم إلى أن يتحلل من يمينه التي حلفها بألا يقرب (مارية) .. فالله سبحانه يغفر له هذه اليمين بالكفارة عنها، والله- سبحانه- غفور، وهو سبحانه «رحيم» وإن أولى الناس برحمة الله، هو رسول الله، فليرحم الرسول الكريم نفسه، ولا يشقّ عليها بهذا التحريم لما أحل الله له، فى سبيل مرضاة أزواجه، إذ كانت مرضاتهن عدوانا على حق النبي، فى التمتع بما أحل الله له. وقوله تعالى: «قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» هو بيان لبعض آثار مغفرة الله ورحمته، وهو ما فرضه سبحانه، وقضى به، من التحلل من الأيمان بالكفارة عنها، إذا كان التحلل من اليمين خيرا من إمضائها.. وفى هذا يقول الرسول الكريم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، فليكفّر عن يمينه، ثم ليفعل الذي هو خير» . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1024 وقوله تعالى: «وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ» - إشارة إلى لطف الله سبحانه، ورعايته لمواليه، فالخلق كلهم عبيد الله، والله سبحانه سيدهم، ومولاهم.. فى هذا إشارة إلى- مارية- التي كانت مولاة وملك يمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تكن زوجا له بعد.. وأن مارية، وغيرها من نساء النبي على سواء عند الله، لأنهن جميعا من موالى الله سبحانه وتعالى.. فلم ينظرن إلى «مارية» هذه النظرة التي يرينها فيها أبعد من أن تأخذ مكانها معهن فى بيت رسول الله؟ وقوله تعالى: «وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» أي أن الله سبحانه- وهو مولاكم- هو العليم بكن وبمن هو أولى عنده بالفضل والإحسان.. «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى» (32: النجم) .. وهو سبحانه الحكيم فى تقديره وتدبيره، وفى وضع كل مخلوق بموضعه المناسب له. قوله تعالى: «وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ» تعرض هذه الآية الحديث الذي أسرّه النبي إلى بعض أزواجه، وهو- كما أشرنا من قبل- الحديث الذي أسرّ به النبىّ إلى «حفصة» وطلب إليها ألا تخبر أحدا من نسائه، وأنه التقى «بمارية» فى حجرتها.. وقوله تعالى: «فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ» أي أخبرت به غيرها، وأعلنته بعد أن كان مستورا، وأظهرته بعد أن كان خافيا.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1025 وفى التعبير عن كشف هذا السرّ بقوله تعالى: «نَبَّأَتْ بِهِ» إشارة إلى ما كان لهذا الحديث عند إظهاره من أثر فى بيت النبىّ، وأنه أحدث هزّة، كشأن كل نبأ.. لأن النبأ هو الخبر المثير، الذي يغطّى على غيره من الأخبار.. وقوله تعالى: «وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ» أي أعلم الله النبىّ بهذا الخبر الذي أذاعته حفصة، على ما كان يجرى بين نسائه من حديث بشأنه. وقوله تعالى: «عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ» - هو جواب «لمّا» أي لما أذاعت «حفصة» هذا السرّ، وأعلم الله النبىّ بما حدث: «عرّف بعضه وأعرض عن بعض» أي كشف النبي عن بعض هذا الحديث الذي أذاعته حفصة، ولم يذكر لها كل ما دار بينها وبين من أفضت لها به، وما اتفقتا عليه من كيد فيما بينهما.. وذلك حتى لا يجرح شعورها، ولا يخدش حياءها، فلم يصرح لها بكل ما عرف، بل أخبرها بهذا فى إشارة دالة غير فاضحة.. فإن الكريم لا يستقصى.. ومن أكرم من سيد الكرماء عليه الصلاة والسلام؟ وقوله تعالى: «فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ» أي حين علمت حفصة من النبي أنه يعلم كثيرا مما دبرت هى وصاحبتها من كيد، سألت النبي عمن أنبأه بهذا الحديث الذي كان بينها وبين صاحبتها، والذي لم يكن معهما من شهد ما تحدث به، فقال لها النبي- صلوات الله وسلامه عليه- «نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ» أي الذي أخبرنى بما أسررتما، هو الله سبحانه، وهو العليم بكل شىء، الخبير بما فى السرائر من خير أو شر. قوله تعالى: «إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ» .. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1026 هو دعوة إلى اللتين دبر تا هذا الكيد النبىّ، سواء أكانتا حفصة وعائشة، أم غيرهما، من أزواجه- صلوات الله وسلامه عليه- هو دعوة إليهما من الله سبحانه وتعالى، أن يتوبا إليه جل شأنه، مما كان منهما فى حق النبىّ، وفيما وقع فى نفسه الشريفة من أذى من فعلهما، وإن كانتا لم تقصدا النبىّ بأذى، وإنما كان ذلك عن تنافس فى حبه، وحرص على أن تنال كل واحدة من نسائه أكبر قدر من القرب منه، والاستظلال بظل جلال النبوة وعظمتها.. وقوله تعالى: «فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما» هو سبب متصل بالشرط: «إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ» أي إن تبتما إلى الله، إذ قد صغت قلوبكما، أي مالت عن قصد السبيل.. ويكون الشرط دعوة آمرة بالتقوى، أي توبا إلى الله فقد صغت قلوبكما.. فإن تبتما إلى الله غفر الله لكما.. فجواب الشرط محذوف.. وفى جمع القلوب، مع أن المخاطب مثنى إشارة إلى أن القلبين قد أصبحا قلوبا، لما وقع فيهما من خواطر مختلفة، ذهب كل خاطر بشطر منها.. فكان كل قلب مجموعة من القلوب.. وقوله تعالى: «وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ.. فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ» .. أي وإن لم تتوبا إلى الله، وتمضيا فيما أنتما فيه من كيد للنبىّ ومن تظاهر بينكما وتساند فى الكيد له- فإن الله هو مولاه الذي يدفع عنه هذا الكيد وجبريل، ظهير له، وناصر، بما ينزل عليه من آيات ربه، وكذلك كل صالح من المؤمنين.. هو ظهير للنبىّ، ومدافع عنه.. ثم الملائكة جميعا، هم عون النبىّ فى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1027 كل موقف من مواقفه.. فجبريل والصالح من المؤمنين، والملائكة، هم جميعا جند الله.. وإذا كان الله سبحانه هو مولى لرسول الله، فإن هؤلاء الجند هم فى نصرة من يتولاه الله.. وفى إفراد صالح المؤمنين، إشارة إلى أن الذي يكون فى هذا الركب الكريم الذي ينتظم الملائكة، لا بد أن يكون على درجة عالية من الإيمان، يكاد يرتفع بها إلى عالم الملائكة.. وهذا نفرر قليل من المؤمنين، يعدّون فردا فردا.. وقوله تعالى: «وَجِبْرِيلُ» مبتدأ، وقوله تعالى: «وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ» معطوف عليه.. وقوله تعالى: «بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ» - خبر للمبتدأ.. أي أن هؤلاء جميعا، هم بعد أن يدخل النبىّ فى ولاية الله سبحانه وتعالى له، يكونون سندا وعونا للنبىّ.. قوله تعالى: «عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً» .. هو تهديد لأزواج النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- إن لم يستقم أمرهن معه، وقد دعاهن الله سبحانه إلى التوبة، ثم تهددهن إن هن تظاهرن على النبىّ أن الله سبحانه هو مولاه، ولن يتخلى عنه، وقد جعل له من جبريل ومن صالح المؤمنين، ومن الملائكة أعوانا وجندا يسندونه، ويشدون ظهره.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1028 والتهديد هنا بطلاقهن، وخروجهن من بيت النبوة، ثم باختيار الله سبحانه وتعالى، النبىّ من النساء، من هنّ أهل للسكن فى بيت النبىّ، والاستظلال بظل النبوة.. والأوصاف التي ذكرها الله سبحانه وتعالى فى الآية النساء اللاتي يختارهن الله سبحانه للنبىّ- هى أوصاف، وسمات، قائمة فعلا فى أزواج النبىّ، وأن كل واحدة منهن تتميز بصفة ظاهرة من هذه الصفات، هى الغالبة على أحوالها.. فمنهن من غلبت عليها صفة الإسلام، الذي هو سمة للسلام، والموادعة واللطف، ومنهن من غلبت عليها صفة الإيمان، ومنهن من غلبت عليها صفة القنوت وهكذا.. وهذا يعنى أن زوجات النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- قد تخيرهن الله سبحانه من أهل الإيمان والكمال، كما يقول سبحانه: «وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ» (26: النور) .. أما الاستبدال بخير منهن، فإن هذا إنما يكون فى حال هنّ فيها خارج بيت النبوة، وذلك إذا لم يتبن إلى الله، ولم يصلحن ما أفسدن من علاقة بينهن وبين النبىّ، بعد هذا الغبار الذي أثاره هذا الحديث الذي ذاع بينهن.. أما وهنّ فى بيت النبوة لم يخرجن من هذا الحمى الطهور، فإنهن خير نساء خارج بيت النبوة.. هذا، وفى العطف بالواو بعد ذكر تلك الصفات السبع الأولى من غير عطف- يشير إلى أمرين: أولهما: قطع هذه الرتابة التي امتدت وطالت، بذكر تلك الصفات على نغم واحد.. «مُسْلِماتٍ.. مُؤْمِناتٍ.. قانِتاتٍ.. تائِباتٍ» عابدات.. سائحات ثيبات.. ذلك أن من إعجاز النظم القرآنى، أنه يوقظ المشاعر والمدارك، بهذه الطّرقة الخفيفة، التي تجىء بعد هذا التوقيع التعالي، المتشابه من النغم، الذي من شأنه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1029 أن يبعث شيئا من الخدر والفتور بتلك المتتاليات الواقعة على الأذن.. فإذا جاءت هذه «الواو» أحدثت تغييرا فى مجرى النغم، فيتنبه السامع، ويستيقظ من إغفاءته.. وثانيا: أن هذه الصفات السبع التي سبقت حرف العطف، يمكن أن تكون فى مجموعها مما تتصف به المرأة الواحدة، فتجمع بين الإسلام، والإيمان، والقنوت، والتوبة، والتعبد، والسياحة، أي الصوم، والثيوبة.. أو البكورة.. أما أن تكون ثيبا وبكرا فهذا محال.. ولهذا جاء العطف هنا، فكانت الثيوبة مع ما سبقها من صفات، مما يمكن أن تكون عليه حال بعض النساء.. وكانت البكورة مع ما سبقها أن تكون لبعض آخر منهن.. وقد جاء على هذا الأسلوب من النظم قوله تعالى: فى سورة التوبة: «التَّائِبُونَ.. الْعابِدُونَ.. الْحامِدُونَ.. السَّائِحُونَ.. الرَّاكِعُونَ.. السَّاجِدُونَ.. الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ.. وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» (الآية: 112) .. فقد جاء العطف بعد سبع صفات، فى سرد لم يتوسطه حرف عطف، كما أن المعطوف لم يكن آخر ما يعطف، بل عطفت عليه صفة أخرى.. وهذا يقوى من الرأى للقائل بأن رتابة السرد، هى التي تقضى بهذا العطف عند بلوغ حد معين من المسرودات، لا يتجاوز سبع كلمات.. الآيات: (6- 9) [سورة التحريم (66) : الآيات 6 الى 9] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1030 التفسير: قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» . مناسبة هذه الاية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، قد عرضت لهذا الحدث الذي وقع فى بيت النبىّ، حيث هناك أطهر النفوس وأكرمها، ومع هذا فإن النفس البشرية، لم تسلم من العوارض التي تظهر فى سمائها الصافية حينا بعد حين، فتحتاج إلى محاسبة ومراجعة، حتى تنقشع هذه السحب عن سمائها، ويعود إليها صفاؤها، وإشراقها.. فإذا كان هذا فى بيت النبوة، فما ظنك بما يقع فى آفاق النفوس خارج هذا البيت الكريم، من زلات، وهزات، تتصدع لها النفوس، وتضلّ معها العقول؟ وإذن، فالأمر يحتاج إلى مراقبة دائمة من الإنسان لنفسه، وحراسة واعية من الآفات التي تتهدد إيمانه، وترعى مواطن الخير فيه.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1031 قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ» . هو تنبيه للإنسان من غفلته عن الأعداء المتربصة به، وبأهله، والتي إن لم يأخذ حذره منها أوردته موارد الهلاك، هو وأهله.. ووقاية الإنسان نفسه، من النار، هى فى أن يستقيم على شريعة الله، ويقف عند حدود أوامرها ونواهيها.. ففى ذلك سلامته من عذاب السعير.. أما وقاية أهله، فتكون بنصحه لهم، وإرشادهم إذا ضلّوا، وتنبيههم إذا غفلوا.. ثم قبل هذا كله، يجب أن يكون هو القدوة الحسنة لهم، فى طاعة الله، وفى اتقاء حرماته.. لأن الخطاب هنا إنما هو لرأس الجماعة، فى الأسرة، ونحوها، كالأب، والأخ الأكبر، والعالم، وذوى الوجاهة والمكانة فى هذا المجتمع الصغير.. فهو هنا مسئول مسئولية الراعي عن رعيته، كما يقول الرسول الكريم: «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته» . وفى قوله تعالى: «وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ» - إشارة إلى قوة الطاقة الحرارية لهذه النّار، التي تجعل الحجارة وقودا لها، كما توقد نار الدنيا بالحطب.. وقوله تعالى: «عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» - هو عرض لخزنة جهنم وحرّاسها، وما هم عليه من غلظة وشدّة.. فهم بهذه الغلظة وتلك الشدة يتعاملون مع أعنى المجرمين، وأضل الضالين.. وهم بما يطلع على أهل النار من غلظتهم وشدتهم- هم عذاب إلى عذاب! قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ.. إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» . هو خطاب للكافرين الذين سيردون هذه النار، وسيكونون حطبا ووقودا لها- خطاب لهم بألا يعتذروا فى هذا اليوم، يوم القيامة، فإنه لا يقبل منهم عذر، فهذا وقت الجزاء بما عمل العاملون، وقد عملوا هم السوء، فكان الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1032 جزاؤهم هذا العذاب الذي هم فيه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» (57: الروم) . قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» . هو دعوة إلى المؤمنين عامة، أن يتوبوا إلى الله، وأن يرجعوا إليه كلّما بعدوا قليلا أو كثيرا عنه، بما اقترفوا من آثام، وما اجترحوا من سيئات.. فإن التوبة تغسل الحوبة، وهى الأسلوب الذي يصالح به العبد ربّه، ويفتح به أبواب رحمته ورضوانه. والتوبة النصوح، هى التوبة الصادرة عن قلب مفعم بالندم، وعن ضمير مثقل بما خالطه من إثم، ومن وراء ذلك عزيمة صادقة، ونيّة منعقدة على عدم العودة لما كان منه التوبة.. وقوله تعالى: «عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» . عسى، وإن كانت أسلوبا يفيد الرجاء، فإن هذا الأسلوب إذا تعلق بالله سبحانه وتعالى، كان معناه الوجوب، والوقوع.. لأن الرجاء إنما يكون فى حقّ من لا يقدر، والله سبحانه قادر على كل شىء.. أما استعمال أسلوب الترجّى فى جانب الله سبحانه وتعالى، فهو منظور فيه إلينا، وإلى أنه ينبغى أن نقيم أمرنا مع الله على رجاء، فلا يأس من رحمته، ولا قطع بالنجاة من عذابه، وبهذا يكون العبد المؤمن على صلة دائمة بالله، يرجو رحمته، ويخشى عذابه.. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1033 كما يقول سبحانه: «أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ.. إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً» (57: الإسراء) . وقوله تعالى: «يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ» ظرف متعلق بقوله تعالى «وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» أي يدخلكم الجنات يوم لا يخزى الله النبىّ والذين آمنوا معه.. ونفى الخزي عن النبىّ والذين آمنوا معه، هو إدخالهم الجنة، وعرضهم يوم القيامة فى معرض التشريف والتكريم، حيث يعرض الكافرون معرض الخزي والهوان.. ولقد كان من دعاء المؤمنين ما أشار إليه سبحانه وتعالى فى قوله: «رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ» (194: آل عمران) وهو الدعاء الذي دعا به إبراهيم ربّه.. فى قوله تعالى على لسانه: «وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» (87- 89: الشعراء) .. وقوله تعالى: «نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» - هو حال من أحوال المؤمنين فى هذا اليوم، وذلك أنهم وهم سائرون إلى الجنة، يتقدمهم نور يسعى بين أيديهم، ونور يشع فى أيمانهم، وهو الكتاب الذي سجلت فيه أعمالهم، فكانت تلك الأعمال- لحسنها- نورا يسعى بين أيديهم.. ثم إنهم وهم فى طريقهم إلى الجنة، مع هذا النور الذي يسعى بين أيديهم كما يسعى الخدم بين يدى الضيوف القادمين على مضيف كريم- إنهم وهم فى الطريق إلى الجنة، يكونون على إشفاق من أن ينقطع عنهم النور الهادي، فيسألون ربهم قائلين: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1034 «ربنا أتمم لنا نورنا، واغفر لنا ما نجد فى صحف أعمالنا من سيئات، فإنك على كل شىء قدير، وإن من شأن القادر العفو والصح، والمغفرة.. وقد غفر الله لهم، وأتم لهم نورهم، فمضى معهم نورهم إلى أن دخلوا جنات النعيم.. جعلنا الله منهم، وألحقنا بهم..» قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» .. مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة قد توعدت الكافرين بالنار التي وقودها الناس والحجارة، وأنهم إذا اعتذروا وهم على طريق النار فلن يقبل منهم عذر، لأن الله إنما أخذهم بهذا العذاب الغليظ لما ارتكبوا من منكر غليظ هو الكفر.. وإذ كان الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- هو دعوة الحق إلى الإيمان بالله، وإذ كان الكافرون هم الذين يقفون فى وجه هذه الدعوة، ويصدون الناس عن سبيل الله، فقد ناسب أن يقوم النبي فى هذه الحياة الدنيا بما يملك من وسائل الردع والكبت، للكافرين.. فهو- صلوات الله وسلامه عليه.. سلطان الله، وبهذا السلطان يودّب العصاة، ويأخذ المجرمين.. ولهذا ناسب أن تأخذ الآية الكريمة مكانها هنا.. الآيات: (10- 12) [سورة التحريم (66) : الآيات 10 الى 12] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1035 التفسير: قوله تعالى: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ» .. مناسبة هذه الآية وما بعدها، لما سبقها من آيات، هى أن السورة قد عرضت لمواقف كانت من أزواج النبي، عليه الصلاة والسلام، وقد كادت هذه المواقف تخرجهن من بيت النبوة، وتحرمهن هذا المكان الكريم اللائي هن فيه، محفوفات برحمة الله ورضوانه- فناسب ذلك أن تجىء هنا تلك الآيات التي تعرض أحوالا مختلفة لبعض النساء.. حيث كان بعضهن فى بيت النبوة، فلما لم يستقمن على طريق الحق والخير، أخذهن الله ببأسه، وألقى بهن خارج بيت النبوة، يتخبطن فى ظلمات الضلال والكفر، وكانت عاقبتهن الخسران، والوبال، والعذاب فى نار جهنم، ولم يغن عنهن حرم النبوة اللائي تحصنّ فيه ظاهرا، وهتكن ستره باطنا.. والمثل البارز هنا، ما كان من امرأة النبيين الكريمين: نوح ولوط، «كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما» أي أخذتا طريقا غير الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1036 طريقهما، ووقفتا منهما موقف العدوّ المحادّ لهما.. «فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» أي لم يكن لهما من النبيين الكريمين شافع يردّ عنهما بأس الله، فأهلكهما لله فى الدنيا مع القوم الظالمين، إحداهن بالغرق، والأخرى برجوم السماء.. أما فى الآخرة، فالنار مثواهما مع أهل الكفر والضلال: «وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ» .. وعلى عكس هذا، ما كان من امرأة فرعون.. حيث ضمّها إليه رجل كان من أشد عباد الله كفرا، وأبعدهم فى الضلال مذهبا.. ومع هذا فقد استنارت بصيرتها بنور الهدى، فآمنت بالله، وأبصرت طريقها إليه وسط هذا الظلام الكثيف المتراكم.. وبهذا نجت بنفسها من هذا المصير الذي صار إليه فرعون والملأ الذين معه.. «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» .. وقد استجاب الله سبحانه وتعالى لها، وأدخلها فى عباده المؤمنين، وأبقى لها ذكرا خالدا فى المكرمين من عباده.. وهذه مريم ابنة عمران، التي نذرتها أمها للخدمة فى بيت الله، والعمل فى طاعته.. إنها نبتة طيبة، فى منبت طيب.. قد قام أمرها على الطريق المستقيم، وهى فى بطن أمها، فلما استقبلت الحياة احتواها بيت الله، وضمها إليه نبى من أنبياء الله، هو زكريا عليه السلام.. وهكذا كانت عناية الله تحفّ بها، وألطافه تتوالى عليها.. حتى كانت الصلاح، والتقوى، والطهر، وبهذا كانت الأنثى التي استخلصتها الإنسانية كلها، لتلقّى كلمة الله، ولتلد بنفخة من روح القدس، مولودا يتخلق فى كيانها من غير أن يشاركها فيه رجل.. وفى هذا يقول سبحانه: «وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ» (12: التحريم) الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1037 فهذه ثلاثة أمثال، تحتوى النساء جميعا، فى ثلاث مجموعات.. المجموعة الأولى: المرأة التي فسدت طبيعتها.. تكون فى بيئة طيبة، صالحة، فيغلب فسادها، وخبث ريحها، هذا الطيب الذي يهب عليها من بيئتها، فلا تتأثر به، ولا تتقبله طبيعتها التي ألفت هذا العفن الذي ينضح منها.. والمجموعة الثانية، هى المرأة التي طابت طبيعتها، وسلمت فطرتها.. تكون فى بيئة فاسدة عفنة، فلا تتقبل هذا الفساد، ولا تتأثر به، بل تظل محتفظة بفطرتها السليمة، وبينابيع الخير التي تجرى فى كيانها، فترتوى منها، وتعيش عليها. والمجموعة الثالثة: المرأة التي طابت طبيعتها، وسلمت فطرتها.. تنشأ فى بيئة طيبة صالحة، فيزداد طيبها طيبا، وصلاحها صلاحا.. وبقي من هذا التفصيل وجه رابع، لم يذكره القرآن، وهو المرأة الفاسدة طبيعة.. تنشأ فى البيئة الفاسدة.. والسبب فى عدم ذكر هذا الوجه ظاهر، لأن النتيجة اللازمة له، لا تخرج عن حكم واحد، هو ازدياد الفساد فسادا، حين يجتمع الفساد إلى الفساد.. تماما، كما يزداد الصلاح صلاحا باجتماع الصلاح إلى الصلاح. وهذا يعنى أمورا: أولا: أن الذاتىّ من الأمور، يغلب العرضىّ، ويقهره.. بمعنى أن ما فى كيان الإنسان من استعداد فطرى، هو القوة العاملة فى الإنسان، وأن ظروف البيئة- مع تأثيرها القوى فى الكائن الحي، وفى الإنسان بالذات، خلقيّا، وعقليّا، ووحيّا- هذه الظروف مهما تكن، فإنها لا تقوى على طمس معالم الاستعداد الفطري المهيأ له الإنسان، سواء أكان ذلك الاستعداد طيبا أو خبيثا.. وهذا ما فهمنا عليه قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1038 وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (2: التغابن) أي خلقكم فمنكم من كانت خلقته مهيأة للإيمان مستعدة له، ومنكم من كانت خلقته لا تقبل الإيمان أبدا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ، وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ» (125: الأنعام) وثانيا: أن احتكاك الشر بالخير، كثيرا ما تتولد عنه دوافع قوية، تغرى الخير بالتشبث بموقفه، وإطلاق جميع القوى الكامنة فيه، لدفع هذا الخطر الذي يتهدده.. وإنه لولا هذا الاحتكاك، بين الشر والخير، لظلّت كثير من قوى الخير كامنة، ساكنة أشبه بالطيب فى العود، لا يفوح طيبه إلا عند حكه أو عرضه على النار.. كما يبدو ذلك فى امرأة فرعون. وهذا يعنى أن ما يبتلى به المؤمنون، الذين صدق إيمانهم، هو تثبيت لهذا الإيمان، وإظهار لكرم جوهره، وصفاء عنصره.. وثالثا: أن الخير وإن كان قليلا فى كمّه، فإنه كثير فى كيفه وأن قوى الشر كلها مجتمعة، لا تستطيع أن تطفئ شعلة الإيمان التي احتواها قلب مؤمن، وإن استطاعت أن تخمد أنفاس هذا المؤمن، وتزهق روحه.. وهذه امرأة فرعون، تقهر بإيمانها جبروت هذا الجبار، وتذلّ كبرياءه، وتلفظه زوجا، وتلفظ سلطانها، ملكة غير آسفة عليه، أو على سلطانها، أو حياتها، فى سبيل الاحتفاظ بهذه الشعلة المقدسة من نور الإيمان، مضيئة فى قلبها. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1039 [الجزء الخامس عشر] 67- سورة الملك نزولها: مكية، نزلت بعد سورة الطور. عدد آياتها: ثلاثون آية. عدد كلماتها: ثلاثمائة وثلاثون كلمة. عدد حروفها: ألف وثلاثمائة وثلاثة عشر حرفا. مناسبتها لما قبلها كانت الآيات التي ختمت بها سورة «التحريم» السابقة على هذه السورة، معرضا للصراع بين الخير والشر، والحرب بين الإيمان، والكفر- فيما كان من امرأة نوح وامرأة لوط، وخروجهما من المعركة خاسرتين كافرتين.. ثم ما كان من امرأة فرعون، وصراعها مع قوى الشر المحدقة بها من كل جهة، ثم انتصارها، وخروجها من وسط هذا الظلام المطبق، إلى حيث النور والهدى.. ثم كان مما بدئت به سورة «الملك» قوله تعالى: «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» ليقرر أن نتيجة هذا الصراع بين المحقّين والمبطلين، والمحسنين والمسيئين- إنما تظهر على حقيقتها كاملة يوم القيامة، ولهذا كان مما قضت به حكمة الله سبحانه وتعالى أن يكون موت، ثم تكون حياة بعد هذا الموت، ليحاسب الناس على ما عملوا فى الدنيا، من خير أو شر.. فكان من المناسب أن تلتقى هذه الحقيقة التي قررتها سورة «الملك» مع تلك الحقيقة التي ختمت بها سورة «التحريم» .. وبذلك يتأكد المراد منهما معا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1043 بسم الله الرحمن الرّحيم الآيات: (1- 11) [سورة الملك (67) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11) » الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1044 التفسير: قوله تعالى: «تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» . معنى «تبارك» أي تمجّد، وتعظم، وكثر خيره وبركته على مخلوقاته.. فهو.. خبر يراد به إظهار ما أفاض الله سبحانه على هذا الوجود من خير وبركة، فالله سبحانه، بيده الملك كله، لا يملك أحد معه شيئا، وهو سبحانه القادر على كل شىء.. وإنه ليس بكثير على من لا ينفذ خيره، وعلى من يملك كل شىء، ويقدر على كل شىء- أن يفيض هذا الخير على الوجود، حتى لينال منه البرّ والفاجر، وحتى ليكون من الفجار من يملك من متاع الدنيا ما يقيم به سلطانا قاهرا على الناس، مثل فرعون الذي حشر، فنادى، فقال أنا ربكم الأعلى.. وإنه إذ كانت هنا دنيا يتقلّب فيها الناس، فإن هناك وراء هذه الدنيا حياة أخرى، أخلد وأبقى، وهى الحياة التي خلق الناس فعلا لها، وأنهم لم يخلقوا لهذه الدنيا، إلا لتكون معبرا لهم إلى الآخرة، كما يقول سبحانه: «وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» (64: العنكبوت) . ولكن كثيرا من الناس جعلوا هذه الحياة الدنيا هى حياتهم، التي لا حياة لهم بعدها، ولهذا فإنهم لم يلتفتوا إلى الحياة الآخرة، ولم يعملوا لها حسابا.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1045 [الموت.. والحياة] وفى قوله تعالى: «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ» .. - فى هذا تنبيه لهؤلاء الغافلين عن الحياة الآخرة، وذلك إذا نظروا فرأوا أن هناك عمليتين تجريان عليهما، وهما الموت والحياة.. فهاتان صورتان تتداولان الإنسان، كما تتداولان عالم الأحياء كله.. فالكائن الحىّ، كان ميتا، أي عدما، ثم أخرجته قدرة الله سبحانه إلى الحياة، ثم تعيده تلك القدرة إلى الموت مرة أخرى.. ثم تردّه إلى الحياة للحساب والجزاء. فإذا جاء من عند الله من يخبر بأن بعد هذا الموت حياة أخرى، وأن الموت ليس نهاية الإنسان- فهل يقع هذا عند العقلاء موقع الإنكار؟ وكيف والشواهد كلها تشهد بإمكانيته؟ بل وتقطع بأنه أمر لا بد منه، من حيث أن هذه الحياة التي لبسها الإنسان بعد العدم، إنما كانت ليقوم بها على خلافة الله فى الأرض، حيث بسط سلطانه- بعقله- على كل ما فى هذا الوجود الأرضى.. ومخلوق هذا شأنه، لا بد أن يرقى صعدا إلى أفق أعلى من هذا الأفق الأرضى.. وإن هذه الخلافة التي للإنسان على الأرض ليست خلافة جماعية، تحمل فيها الجماعة الإنسانية كلها تبعتها، وإنما هى خلافة يحمل فيها كل فرد مسئوليته، ويحاسب على ما كان منه، فيجزى بالإحسان إحسانا، وبالسوء سوءا.. وذلك يقضى بأن يردّ الإنسان إلى الحياة مرة أخرى، ليحاسب، وليثاب أو يعاقب.. والسؤال هنا، هو: إذا كان كذلك، وكان لا بد من الحساب والجزاء على ما كان من الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1046 الإنسان- فلم لا يحاسب فى الحياة الدنيا؟ ولم الموت ثم الحياة؟ وما حكمة الموت ثم الحياة؟ أليست هذه الحياة الجديدة هى عودة بالإنسان- نفسا وذاتا- إلى حياته الأولى، ووصل لما انقطع منه بالموت؟ وهل يضيف الموت شيئا جديدا إلى الإنسان حتى يكون لموته مساغا.. ونقول: إن هذه التصورات هى نتيجة لهذا الفهم الخاطئ للموت الذي يقع على الإنسان بعد الحياة، حيث يبدو منه أنه انقطاع لجرى حياة الإنسان، ثم إنه بعد زمن ما- قد يطول أو يقصر- يعود إلى الحياة مرة أخرى، يوم القيامة!! ولو فهم الموت على حقيقته، وأنه ليس إلا تحوّلا من منزل إلى منزل، وانتقالا من حال إلى حال- لو فهم الموت على هذا، لما كان لمثل هذه التصورات أن تجد لها مكانا فى تفكير الإنسان، يوقع فى نفسه هذه العزلة الموحشة بين الموت والحياة.. فالموت- فى حقيقته- هو حياة جديدة تلبس الإنسان خارج هذا الجسد الذي تركه الموت جثّة هامدة.. وتلك الجثة الهامدة التي يخلفّها الموت وراءه، هى التي تعطى الموت تلك الصورة المخيفة المفزعة.. ذلك أننا نرى الإنسان فى ثوب الحياة، يموچ بالنشاط والحركة.. ثم يطرقه الموت، فإذا هو هامد همود الجمادات التي بين أيدينا، ثم هو فى لحظة يغيّب فى الثرى، ثم إذا فتّش عنه بعد زمن، رؤى وقد تحول إلى أنقاض، ثم إذا أعيد إليه النظر بعد زمن آخر لم ير لهذه الأنقاض أثر!! وعن هذا التصور، يقول المشركون الذين لا يؤمنون بالحياة الآخرة- يقولون ما يقوله سبحانه وتعالى على لسانهم: «وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1047 أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟ ..» (10: السجدة) ولكن لو جاوزنا هذا الجسد، لوجدنا أن الحياة التي كانت تلبسه، قد اكتسبت بخلاصها منه بالموت، قوة لا حدود لها، حيث حرجت من هذا الحيّز الضيق الذي كان يحتوبها، وانطلقت فى هذا العالم الرحيب، تحلّق فيه بقدر ما احتفظت به من خصائصها الروحية حال تلبسها بالجسد.. وفى هذا يقول الرسول الكريم: «الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا» .. وهو شرح لمعنى قوله تعالى: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» (42: الزمر) .. أما أن الميت يبقى بعد موته فى حال همود، وجمود، إلى أن يجىء يوم البعث والنشور، فهذا فهم خاطئ أيضا.. فالإنسان إذ يموت، فإن الموت- كما قلنا- لا يقع إلا على جسده، أما روحه، فإنها تجد فى موت الجسد فرصتها للخلاص من القيد الذي قيدها به.. وعلى هذا، فإن الإنسان إذا مات، فإنما يموت موتا ظاهريّا يرى فى هذا الجسد، وأما هو فى حقيقته، فهو حىّ فى هذا الروح الذي انطلق من الجسد محمّلا بكل ما ترك الجسد فيه من آثار طيبة، أو سيئة.. وفى هذا يقول الرسول- صلوات الله وسلامه عليه-: «من مات فقد قامت قيامته» .. وهذا يعنى أن الميت إذ يموت، يبعث فى الحال بعثا جديدا، بمعنى أنه يقوم من عالم النوم الذي كان فيه، كما يشير إلى ذلك الحديث الذي ذكرناه من قبل، وهو: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا» .. وهذا يعنى أيضا أن هناك قيامتين: قيامة خاصة بكل إنسان، وهى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1048 قيامته ساعة موته، وهى- كما قلنا- قيامة من عالم النّيام، عالم الحياة الدنيا- ثم قيامة عامة، وهى التي يبعث فيها الناس جميعا من عالم القبور، حيث تلتقى الأرواح بأجسادها مرة أخرى، على صورة يعلمها الله سبحانه وتعالى.. أما هذه الحياة التي عاشها الإنسان على هذه الأرض، فهى اختبار وابتلاء له، تتكشف فيه حقيقة طبيعته التي أوجده الله عليها.. إنه فى هذه الحياة أشبه بحبة بذرت فى الأرض مع ما بذر من حبوب، ثم لا تلبث كل حبة أن تكشف عن حقيقتها، وعن الثمر الذي تثمره، من جيّد أو ردىء.، فإذا آن وقت الحصاد، جمع كل زرع مع ما بشا كله.. وقد يسأل سائل: ولماذا هذا البذر والغرس؟ أليس صاحب البذر والزرع، هو الله سبحانه وتعالى، وهو سبحانه عالم بما كمن فى هذا البذر من ثمر؟ والجواب على هذا، أن علم الله سبحانه بالمخلوقات قبل أن تخلق، هو علم مكنون.. وخلق المخلوقات فى صورها، وأشكالها، وأزمنتها، وأمكنتها هو إظهار لهذا العلم المكنون، وأنه لولا هذا لما قام الخلق، ولما اتصف سبحانه بصفة «الخالق» ولظلّ الوجود فى حال كمون.. يقول سبحانه: «هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ» (24: الحشر) . ويقول سبحانه أيضا: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ» (1- 2: العلق) ويقول جل شأنه: «اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62: الزمر) . فكان مما اقتضته إرادة الله سبحانه أن يخلق هذا الذي خلق من موجودات وعوالم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» (50: طه) .. وبهذا صار لكل مخلوق ذاتيته ومكانه فى هذا الوجود. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1049 فللحياة حكمة، وللموت حكمة، وللبعث بعد الموت حكمة.. «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» (28. البقرة) .. «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115: المؤمنون) وقضية الحياة بعد الموت هى مضلّة الضالين، وهى الغشاوة التي تحجبهم عن الله سبحانه وتعالى، فلا يرون مالله سبحانه وتعالى من قدرة، وأنه سبحانه قادر على كل شىء، وأن بعث الحياة فى تلك الأجساد الهامدة، والعظام البالية، ليس بأبعد فى مجال المنطق الإنسانى، من خلقها أول مرة، من تراب، أو من نطفة من ماء مهبن.. ولكن هل يكون للمنطق مكان عند من ختم الله على قلبه وسمعه، وجعل على بصره غشاوة؟ «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» (41: المائدة) قوله تعالى: «الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ» . أي أنه سبحانه كما خلق الموت والحياة، خلق سبع سموات طباقا.. أي بعضها ينطبق على بعض، وقائم عليه قيام اشتمال واحتواء، وهذا يعنى أن الوجود دائرى الشكل، وأنه دوائر، بعضها داخل بعض، يجمعها مركز واحد، أشبه بتلك الدوائر التي يحدثها حجر يلقى به فى الماء الساكن، فتنداح من موقع الحجر دوائر، بعضها أكبر من بعض.. وهكذا إلى مالا نهاية. وقوله تعالى: «ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ» أي ما ترى من اختلال أو نقص فى نظام الوجود، وما أبدع الخالق من مخلوقات.. فكل ما خلق الله يحمل شارة دالّة على قدرة الخالق، وعلمه، وحكمته، وإبداعه فيما خلق- الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1050 وفى هذا إلفات إلى قدرة الله سبحانه، وإلى إحكام ما خلق.. وأن كل مخلوق مهما صفر شأنه، وضؤل شخصه، هو صنعة الحكيم العليم، فيه من روعة الصنعة، وقدرة الصانع، ما فى أعظم المخلوقات وأروعها.. فليس فيما صنع الله سبحانه- حسن وأحسن، بل كل ما خلق الله على صفة واحدة، هى الحسن فى أكمل كماله، وأبدع آياته.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ» (88: النمل) وفى إضافة الخلق إلى «الرحمن» - إشارة أخرى إلى أن المخلوقات إنما خلقت جميعها بيد الرحمة التي مستها جميعا.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ» (156: الأعراف) . وقوله تعالى: «فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ» هو دعوة إلى الإنسان أن ينظر بعقله ليرى مصداق قوله تعالى: «ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ» .. أي أن من شكّ في هذه الحقيقة، أو من لم يقع له بعد علم بها، فليلق بصره على هذا الوجود، وليقف بين يديه وقفة المتأمل الدارس، ثم ليسأل نفسه: هل يرى من فطور؟ أي هل يرى خللا، أو اضطرابا، أو تفاوتا؟ والفطور: هو التشقق، والتصدع، الذي من شأنه أن يصيب الشيء الذي أصيب به.. والفطور إنما يكون فى المواد الجامدة لا السائلة. وقوله تعالى: «ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ، يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ» أي إذا انكشف لنظرتك التي ألقيتها على هذا الوجود، أنه ليس فى خلق الله من تفاوت، أو من فطور، فلا تقف عند حدود هذه النظرة، التي أعطتك علما يقينيّا بأن ليس فى خلق الله الرحمن من تفاوت أو فطور. فهذا الذي وقع لك من علم، هو خير كثير، فاحرص عليه، واجعل منه زادا تتزود به فى طريقك إلى الإيمان بالله.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1051 ثم اطلب مزيدا من هذا العلم، وذلك بمعاودة النظر بعد النظر، فى ملكوت الله، الذي لا حدود له.. فإنك إن فعلت سلك بك ذلك طريقا لا نهاية له، من العلم اليقينيّ، بقدرة الله، وعظمته، وجلاله. وإن بصرك إذ يعود إليك بعد هذه الرحلة الطويلة السابحة فى ملكوت الله، سيعود إليك «خاسئا» أي منزجرا، مرتدّا فى استخزاء، أمام هذا الجلال الذي ببهر الأبصار، ويخلب العقول، بعد أن يبلغ به التعب والإعياء غايته، وبعد أن يرى الإنسان الذي حصّل ما حصل من علم الدارسين المتفحصين، أنه ما زال على شاطىء بحر لا نهاية له!! والحسير: المتعب الكليل، الذي أعيا من طول النظر.. ويجوز أن يكون المعنى على صورة أخرى، وهى أنه مهما عاود الناظر النظر والبحث وراء الوقوع على تفاوت فى خلق الرحمن، فإنه لن يجد شيئا من هذا، ولو أجهده السير، وطال به المطاف، حتى يسقط إعياء.. وهذا يعنى أن العلم وحده لا يقيم الإنسان على إيمان يقينىّ، إلا إذا التقى هذا العلم بقلب سليم، تنقدح فيه شرارة العلم، فيضىء بنور الحق والهدى. وفى هذا ما يشير إلى أن العقل، وإن كان من المطلوب منه أن ينظر فى ملكوت الله، وأن يقرأ فى صحف الوجود ما شاء من آيات الله- فإن عليه أن يعلم أنه على ساحل محيط لا نهاية له، وأنه إذا أراد أن يحتوى كلّ ما فى هذا الوجود، فإن ذلك لن يقع له، ولن يجد آخر المطاف إلا العجز والإعياء.. فليرض إذن بما يقع له من علم، وليتخذ من هذا العلم، الشاهد الذي يقيم فى قلبه إيمانا وثيقا بالله، وبماله من قدرة، وعلم، وحكمة، وجلال.. فذلك حسبه من العلم الذي يبلغ به شاطىء الأمان.. قوله تعالى: «وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ» هو إشارة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1052 إلى صفحة من صحف الوجود، التي يمكن أن يرتادها النظر، وأن يقرأ فيها العقل آيات من قدرة الله وإحكام صنعته.. فالسماء الدنيا، هى أقرب سماء إلينا، وهى المطلّة على الأرض التي نعيش عليها.. وإن العين- أي عين- لترى فيها مصابيح تزينها، وتنتثر على صفحتها كأنها اللآلئ.. ومن هذه السماء الدنيا تنطلق رجوم وشهب ترمى بها الشياطين، التي تتطاول إلى هذه السماء، وتحاول الاتصال بالملأ الأعلى.. فالضمير فى قوله تعالى: «وجعلناها» يعود إلى السماء. أي وجعلنا من عالمها رجوما للشياطين.. ويجوز أن يعود الضمير إلى المصابيح، وفى هذا يقول سبحانه: «إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ» (6- 10 الصافات) . وفى هذا إشارة إلى أن للعقل حدودا، ينبغى أن يقف عندها فإن تجاوز حدوده، رمى بشهب من الشكوك، فاحترق بنارها، كما يحترق الشيطان الذي يصعّد فى السماء، ويجاوز الحدود التي تحتملها طاقته.. وليس فى هذا حجر على العقل فى الانطلاق إلى أبعد مدى، ولكن ليكن على حذر من أن يضلّ، ويتوه، أو يغرق فى عباب هذا المحيط العظيم. قوله تعالى: «وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ» - هو وعيد للشياطين، وأنه إذا لم يرجم بعضهم بتلك الرجوم القاتلة فى الدنيا، فإنهم جميعا على موعد مع عذاب السعير، الذي أعده الله سبحانه وتعالى لهم، فى الآخرة. فقوله تعالى: «وَأَعْتَدْنا لَهُمْ» - إشارة إلى أن هذا العذاب حاضر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1053 معدّ لهم منذ الأزل.. ومنه قوله تعالى: «هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ» (23: ق) أي حاضر.. وقوله تعالى: «وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» - هو معطوف على قوله تعالى.. «وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ» . أي أعتدنا للشياطين عذاب السعير، وللذين كفروا بربهم أعتدنا لهم كذلك عذاب جهنم، وبئس المصير الذي يصيرون إليه.. فالشياطين من الجنّ، والكافرون من الإنس، لهم جميعا عذاب أليم، معدّ لهم، وهو فى انتظار ورودهم عليه يوم القيامة. قوله تعالى: «إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ» .. أي أن جهنم هذه التي أعدها الله سبحانه للكافرين، ستلقاهم لقاء يسوءهم، كما يسوءهم عذابها.. إنهم سيجدون منها عدوّا راصدا لهم، كأنّ بينها وبينهم ثارات قديمة، فإذا أمكنتها الفرصة فيهم، أخذتهم أخذ العدوّ عدوّه، حين تمكنه الفرصة منه.. إنه لا يشفى غيظها منهم، إلّا أن تضربهم بكل ما فيها من قوة. فهى تشهق شهيق من وجد فرصته فى عدوه بين يديه، وقد طال انتظاره لها لتلك الفرصة.. إن هؤلاء الكافرين، هم أعداء الله، والنار جند من جند الله المسلط على أعدائه.. فهم لهذا فى موقف العدوّ من هذه النار، المسلطة عليهم من الله سبحانه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1054 قوله تعالى: «تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ» . أي أن جهنم حين برد عليها هؤلاء الواردون من أهلها، تلقاهم، مغيظة محنقة، تكاد تميز من الغيظ، أي تتقطع وتتمزق من الغيظ، والحنق عليهم، لا يشفى غليلها، إلا أن تحتويهم، وتجعلهم وقودا لها.. وقوله تعالى: «كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ» - أي كلما ألقى فى جهنم «فوچ» أي جماعة ممن قضى الله فيهم أنهم من أصحاب النار- كلما ألقى فوج من هذه الأفواج المتتابعة، سألهم خرنة جهنم وزبانيتها هذا السؤال: «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟» . وهذا السؤال تقريعى وتوبيخى للواردين على جهنم.. لأنهم ما وردوا جهنم إلا لمخالفتهم النذير، أي الرسول الذي أرسله الله تعالى إليهم، لينذرهم عذاب هذا اليوم، فكذبوا الرسول، ولم يؤمنوا بما جاءهم به من عند الله.. ولو أنهم اتبعوا هذا النذير ما وردوا جهنم.. وهذا يعنى أنه لا يعذّب إلا من بلغتهم رسالة رسل الله، ثم خالفوها، ولم يقبلوا ما دعوا إليه منها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (15: الإسراء) .. وفى قوله تعالى: «كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ» وفى التعبير عن سوق الكافرين إلى جهنم بالإلقاء- فى هذا ما يشير إلى هوان هؤلاء المجرمين، وعدم احترام آدميتهم، وأنهم إنما يعاملون معاملة الأشياء المستغنى عنها، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1055 من النفايات والفضلات، حيث نطرح بعيدا بغير حساب، فتقع حيث تقع، غير ملتفت إليها. قوله تعالى: «قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ» - هو جواب الواردين على النار، لما سئلوا عنه من زبانية جهنم بقولهم: «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ» ؟ فكان جوابهم: بلى! أي قد جاءنا نذير، ولكن كذبنا بهذا النذير، وقلنا ما نزل الله من شىء، أي من كتب، وما أرسل من رسل.. وقوله تعالى: «إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ» يجوز أن يكون من جواب أهل النار، ومن مقولاتهم للمنذرين الذين جاءوهم، حيث كذبوهم، ثم رموهم بالضلال الكبير، الذي لا يخفى أمره على أحد.. ويجوز أن يكون هذا تعقيبا من زبانية جهنم على ما سمعوه من جواب أهل النار.. و «إن» نافية بمعنى «ما» ، أي ما أنتم إلا فى ضلال كبير.. قوله تعالى: «وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ» .. هذا من حديث النفس لأصحاب النار، حيث يرجعون بالملامة على أنفسهم، ويتهمون أنفسهم بأنهم كانوا فى غفلة من أمرهم، وأنهم لم يكونوا أصحاب سمع أو عقل، إذ لو كانوا أصحاب سمع وعقل ما كذبوا رسل الله، ولما وردوا هذا المورد الوبيل.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1056 وقدّم السمع على العقل، لأنهم إنما أدينوا فى الآخرة من جهة سمعهم، وما جاءهم عن طريقه من آيات الله، على لسان رسله.. فلم يحسنوا الاستماع إلى ما أنذرهم به الرسل، ولم يقبلوا ما دعوا إليه من الإيمان بالله واليوم الآخر، ولم يعرضوا ما سمعوا على عقولهم. ثم إنهم إذ لم يأخذوا بهذا البلاغ السمعي، ولم يكن لهم من عقولهم بلاغ عقلىّ، يقيم لهم طريقا إلى الإيمان بالله، ويدعوهم إليه فقد ضلّوا، وهلكوا.. قوله تعالى: «فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ» .. أي أن هؤلاء المعذّبين بنار جهنم، قد شهدوا على أنفسهم أنهم كانوا ظالمين، وأنهم أهل لهذا العذاب الذي هم فيه.. وقوله تعالى: «فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ» - دعاء عليهم بالبعد من رحمة الله ورضوانه، يرميهم به كل لسان.. ناطق أو صامت، فى هذا الوجود.. الآيات: (12- 15) [سورة الملك (67) : الآيات 12 الى 15] إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1057 قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» .. هو بيان للطرف المقابل للذين كفروا بربهم، والذين عرضتهم الآيات السابقة وعرضت أحوالهم، وما يلقون من هوان وعذاب يوم القيامة.. وكما أن فى الآخرة عذابا، فإن فيها رحمة ورضوانا، كما يقول سبحانه: «وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ» (20: الحديد) .. وإذا كان للذين كفروا بربهم، عذاب جهنم وبئس المصير، فإن للذين آمنوا، مغفرة وأجرا عظيما.. والذين يخشون ربهم بالغيب، هم الذين خافوا عذاب يوم القيامة، وخافوا لقاء ربهم، قبل هذا اليوم الغائب عنهم.. ثم إنهم هم الذين يخشون ربهم فى سرهم، كما يخشونه فى علانيتهم، حيث يشهدون سلطان الله قائما عليهم فى كل حال من أحوالهم. فهم لشهودهم هذا السلطان، لا يعصون الله، ولا يفعلون ما لا يرضاه، وهم لهذا مجزبّون من الله تعالى، بمغفرة ذنوبهم التي تقع منهم، وهم على خشية من الله، كما يقول سبحانه: «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ» (60: المؤمنون) .. وإلى جانب غفران ذنوبهم يكون مضاعفة أجرهم لما يعملون من حسنات.. «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» .. قوله تعالى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» - هو بيان شارح، ودعوة إلى الإيمان بالغيب، الذي أشار إليه قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» .. أي أن سبحانه وتعالى، عالم بما نحفى وما نعلن، مطلع على ما نعمل فى سر أو جهر.. وإذن فليكن سلطان الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1058 الله مشهودا لنا فى كل حال.. وأنه إذا كنا لا نجاهر بالمنكر أمام الناس، فكيف نجاهر بالمعاصي أمام الله؟ فليس فيما نفعل أو نقول، سرّ بالنسبة إلى الله سبحانه، بل كل أعمالنا وأقوالنا، هى جهر منّا بين يديه، على أية حال لنا.. «سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ» (10: الرعد) .. فمن ترك المعاصي جهرا، ولم يتركها سرّا، فهو إنما يفعل ذلك خوفا من الناس، لا من خشية الله، وفى ذلك استخفاف بجلال الله، وسوء أدب مع الله.. قوله تعالى: «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» .. هو تقرير لما جاء فى قوله تعالى: «وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» .. فإن علم الله سبحانه وتعالى بما نسرّ وما نجهر به من قول- أمر لا يصحّ أن ينكره أو يشك فيه عاقل.. فنحن صنعة الله.. من التراب، إلى النطفة، إلى العلقة، إلى المضغة، إلى أن نصبح بشرا سويا.. وإذا كان ذلك شأن الله فينا- أفيخفى على الله بعد ذلك شىء من ظاهرنا، أو باطننا؟ أفيخفى على الصانع شىء من أسرار ما صنع؟ أيخفى على صانع آلة من الآلات البخارية، أو الكهربية، أىّ جزء من أجزائها.. دقّ، أو عظم؟ ألا يعلم السرّ فى كل حركة من حركاتها، أو سكنة من سكناتها؟ ألا يعلم لم تتحرك، ولم تسكن؟ .. فإذا كان ذلك كذلك فيما يخلق المخلوقون، فكيف لا يكون هذا الربّ العالمين، وخالق المخلوقين؟ .. فالاستفهام فى قوله تعالى: «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ» استفهام تقريرى.. وقوله تعالى: «وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» صفتان من صفات الله تعالى» الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1059 تكشفان عن سعة علمه، ونفوذ هذا العلم إلى أعمق أعماق الوجود.. فهو علم «اللطيف» الذي لا يحجب عنه شىء «الخبير» الذي لا تخفى عليه حقيقة أي شىء.. قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» .. هو خطاب للناس جميعا، وإلفات لهم إلى فضل الله عليهم، وإحسانه إليهم، إذ خلقهم، وأقامهم على خلافة الأرض، وجعل الحياة فيها ذلولا لهم، أي مذللة، ميسرة لهم، بما أوجد فيها من أسباب الحياة، وأدوات العمل للعاملين فيها.. وقوله تعالى: «فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ» - هو دعوة إلى العمل فى هذه الحياة، وإلى السعى فى الأرض، والضرب فى وجوهها المختلفة.. فالله سبحانه قد وضع بين أيدى الناس خيرات كثيرة ممدودة على بساط هذه الأرض، وعليهم هم أن يتحركوا فى كل وجه على هذا البساط، وأن يمدّوا أيديهم إلى كل شىء يقدرون عليه من هذا الخير، فإن هم لم يفعلوا، فقد بخسوا أنفسهم حقها من الحياة الكريمة على هذه الأرض، ونزلوا إلى درجة الحيوانات التي تأكل من حشائشها، وخسيس ثمارها.. ومناكب الأرض، هى أجزاؤها العليا فيها، أشبه بمنكبي الإنسان، وهما جانبا الكتفين.. وهذا يعنى أن يستدعى الإنسان قواه كلها، وأن يعمل فى الحياة عملا جادّا، يحشد له طاقانه الجسدية والعقلية، حتى يأخذ مكانا متمكنا من الأرض، يستطيع به أن يقهر قوى الطبيعة فيها، وأن يقودها بقوته، وأن يتحكم فيها بسلطانه.. فهذا هو مكان الإنسان الذي يعرف قدر إنسانيته، ويحترم وجوده بين المخلوقات فيها.. إنه الخليفة على هذه الأرض، ومقام الخلافة يقتضيه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1060 أن يأخذ مكان الصدارة فيها، وأن يجلس مجلس السلطان من رعيته.. وفى تعدية الفعل «امشوا» بحرف الجر «فى» بدلا من «على» - إشارة إلى أن ينفذ الإنسان فى أعماق هذه المناكب، وإلى أن يعمل على كشف أسرارها، لا مجرد اتخاذها طريقا يمشى عليه.. وقوله تعالى: «وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» هو خاتمة مطاف الإنسان، بعد انتهاء رحلته فى الأرض.. فهو بعد هذه الرحلة، تطوى صفحة وجوده على الأرض، ثم تنشر حياته من جديد، بين يدى الله فى الحياة الآخرة.. الآيات: (16- 27) [سورة الملك (67) : الآيات 16 الى 27] أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1061 التفسير: قوله تعالى: «أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ» . مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة كانت دعوة موجهة من الله سبحانه وتعالى إلى الناس جميعا، أن يأخذوا أما كنهم من الأرض، وأن يعملوا قواهم كلها فيما أودع الله لهم فيها من خير، ليقطفوا من ثمارها، ويأكلوا من طيباتها.. وذلك فى قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» .. وهذه الأرض التي مكّن الله سبحانه للناس من السعى فيها- من يمسكها أن أن تميد بهم؟ ومن يحفظ وجودهم عليها، فلا تفتح فاها لتبتلعهم؟ أليس ذلك من تدبير الحكيم العليم؟ ومن رحمة الرحمن الرحيم؟! .. فما بال هؤلاء المشركين لا يؤمنون بالله، وقد جاءهم رسول كريم يدعوهم إلى الله، ويحمل بين يديه كتابا منيرا، تنطق كل آية من آياته بمعجزة قاهرة متحدّية؟. أأمنوا أن يخسف الله بهم الأرض، فإذا هى «تمور» أي تضطرب وترتجف بما يحدثه هذا الخسف من انقلاب، تفقد به توازنها، وتلقى بهم من فوق ظهرها؟ أأمنوا عذاب الله أن ينزل بهم وهم على هذه الأرض، وقد حادّوا الله وحاربوه..؟ والمور: الاضطراب الشديد، المنبعث من رجّة عظيمة، ومنه قوله تعالى: «يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً» (9: الطور) .. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1062 وفى قوله تعالى: «مَنْ فِي السَّماءِ» - إشارة إلى علوّ سلطان الله، الله، وإلى تمكّنه منهم.. وليس فى هذه المكانية تحديد لوجود الله، وإنما هى إشارة إلى علوّ سلطانه، وتمكن قدرته. وقوله تعالى: «أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ» .. الحاصب: ما يحصب به، أي يقذف به من حصا ونحوه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى للكافرين والمشركين: «إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ» (98: الأنبياء) .. أي أنهم يلقون فيها كما يلقى الحصا.. ومنه الحصباء، وهى دقاق الحصا.. وفى الآية، تهديد للمشركين بأن يرموا من بالسماء بالصواعق والرجوم، إن لم تأخذهم الأرض بالزلازل والخسف.. فهم واقعون تحت البلاء، يأخذهم من السماء، أو يأتيهم من الأرض، أو من السماء والأرض معا.. فكيف يبيتون على أمن من هذا البلاء، وهم على عداوة ظاهرة لله، وفى حرب سافرة معه، ومع رسوله، ومع أوليائه المؤمنين به..؟ وفى قوله تعالى: «فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ» تهديد بعد تهديد، بأنهم إن أمهلهم الله سبحانه، فلم يعجل لهم العقاب، فإن عقاب الله راصد لهم، إن لم يلقهم اليوم فغدا، وإن لم يأخذهم به في الدنيا، أخذهم به فى الآخرة، ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1063 قوله تعالى: «وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» .. وفى هذا إلفات للمشركين إلى ما كان لله سبحانه من نقم، ومن مهلكات أرسلها على الذين كفروا من قبلهم.. فلينظروا فى آثار هؤلاء الذين كفروا من قبلهم، وليشهدوا كيف كان أخذ الله لهم، بعد أن أتوا ما أنكره الله تعالى عليهم من منكررات.. إذ ليس وراء هذا الإنكار من الله، إلا الانتقام والعذاب. قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ.. ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ» .. هو دعوة مجدّدة إلى هؤلاء المشركين، أن يعيدوا النظر فى موقفهم الضال عن طريق الهدى، بعد أن طالت مسيرتهم فى هذا الطريق المنحرف، وبعد أن أصبحوا فى معرض سخط الله، ونقمته.. فتلك هى فرصتهم الأخيرة، إن أفلتت منهم، ولم يستقيموا على الطريق المستقيم، فليس لهم بعد هذا إلا أن يردوا موارد الهالكين.. والدعوة التي يدعى إليها المشركون هنا، للإيمان بالله، والاستقامة على طريق الحق- هى دعوة موجهة إلى عقولهم التي غطّى عليها الجهل والضلال، وذلك بأن يوقظوا هذه العقول، وأن ينظروا بها إلى آيات الله التي بين أيديهم من صحف الوجود، بعد أن أصمّوا آذانهم عن آيات الله التي تتلى عليهم.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1064 وآيات الله التي بين أيديهم كثيرة لا يحصرها عدّ.. ثم إنه لكيلا تزيغ أبصارهم، ولا تضطرب عقولهم أمام هذه الآيات الكثيرة- فها هى ذى آية وضعها الله تعالى بين أيديهم، ودعاهم إلى النظر فيها، وتقليبها على جميع وجوهها.. فلينظروا إلى الطير، وقد صفت أجنحتها- أي بسطتها فى جو السماء- ثم لينظروا إليها، وقد قبضت هذه الأجنحة، أو ضمتها، وهى فى حالتيها تلك، محلقة فى الجو، سابحة فى السماء، لا تسقط، كما تسقط الأجسام من أعلى إلى أسفل.. لينظروا إلى الطير فى حاليها تلك.. فماذا يقع فى عقولهم من هذا النظر، إن كان لهم نظر، وكانت لهم عقول؟ .. من يمسك هذه الطير؟ ومن منحها تلك القدرة على أن تسبح فى السماء. ومن يمسكها أن تسقط من الجو؟ «ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ» .. فأين أبصارهم؟ وأين ما تعطيه هذه الأبصار من شواهد على وجودها..؟ قوله تعالى: «أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ» .. وإذا لم يستجب المشركون لهذه الدعوة التي يدعون فيها إلى آيات الله وإلى الإيمان به- فعلى أي شىء يعوّلون فى الخلاص من نقمة الله وعذابه. ألهم جند ينصرونهم من دون الله، ويدفعون عنهم بأسه إذا وقع بهم؟ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1065 إنهم لمخدعون مغرورون، إن كان ذلك من أمانيّهم، ومن متعلقاتهم ظنونهم، كما يقول الله سبحانه وتعالى عنهم: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» (18: يونس) . و «إن» فى قوله تعالى: «إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ» حرف يفيد النفي، بمعنى «ما» أي ما الكافرون إلا فى غرور، يحتويهم، ويشتمل عليهم.. قوله تعالى: «أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ. بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ» .. وهذا سؤال آخر، مطلوب من المشركين أن يجدوا له جوابا: من يرزقهم إن أمسك الله الرزق عنهم؟ هل من رازق لهم غير الله؟ إن هذه الوقفات مع المشركين، وهذه المراجعة التي يراد بها الكشف عن آفات الضلال المسلطة عليهم، لا تزيدهم إلا بعدا عن الحقّ، وإلا عتوّا وعنادا، ولجاجا فى العناد والكفر. واللجاج فى الشيء: الإغراق فيه. ومجاوزة الحدّ.. والعتو: العناد الشديد. قوله تعالى: «أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» ؟ وهذه بديهة من البديهيّات، توضع موضع القضايا المطلوب من المشركين الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1066 النطر فيها، والوصول إلى حكم لها.. وذلك بعد أن عجزت عقولهم عن أن تنظر فيما ينظر فيه العقلاء!. والقضية هى: أىّ أهدى سبيلا، وأسلم عاقبة.. من يمشى مكبّا على وجهه، لا يرى ما بين يديه، ولو كان هاوية يهوى إليها، أو وحلا يغوص فيه- أم الذي يمشى مفتّح العينين، رافع الرأس، مستقيم الخطا؟ .. وفى هذا استخفاف بعقولهم، وإنزالهم منزلة الأطفال الذين يلقّنون المعلومات تلقينا.. ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك: «قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» - جاء تلقينا لهم، وإلزاما إياهم بتلك الحقائق، سواء عقلوها أو لم يعقلوها.. فالإله الذي حدثتهم الآيات السابقة عنه، ودعتهم إلى النظر فى آياته، وإلى الإجابة على عدد من الأسئلة التي من شأن العقلاء أن يسألوها أنفسهم، وأن يتولّوا الإجابة عليها، فى سبيل التعرف على الله- هذا الإله، هو الذي جعل لهم السمع، والأبصار، والعقول.. ولكن كثيرا من الناس لا يشكرون الله تعالى على هذه النعم بل ولا يعترفون به ربّا، وفى هذا يقول سبحانه: «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» (13: سبأ) . وهذا الإله، هو الذي ذرأ الناس، أي خلقهم، وأقامهم على هذه الأرض وبثّهم فيها، وهو الذي سيحشرهم إليه بعد موتهم.. والذرء: الخلق، وذرأ الشيء: كثّره وبثه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1067 هذه حقائق، مطلوب من الرسول أن يبلغها الناس جميعا. فمن صدّق وآمن، فقد اهتدى، وسلم.. ومن أعرض وكفر، فقد ضلّ وخسر. قوله تعالى: «وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» .. هو بيان لما انتهى إليه أمر هؤلاء المشركين، بعد هذه الوقفة الطويلة معهم، وبعد هذه المراجعة لحسابهم المغلوط، الذي اطمأنوا إليه.. إنّ كل هذا لم يزحزحهم عن موقف الضلال الذي هم فيه.. وإنهم مازالوا على تكذيبهم بالبعث، والحساب والجزاء، فيسألون هذا السؤال، الذي يدل على رفضهم لكل ما قدم إليهم من أدلة، وما عرض عليهم من آيات: «مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟» .. يقولون هذا فى استهزاء وسخرية.. وكأنهم يقولون النبي، وللمؤمنين: دعونا من كل هذا الذي تخوضون فيه، وقولوا لنا: متى هذا الوعد؟ أي متى يوم القيامة الذي تقولون عنه وتجعلونه موعدا للحساب والجزاء؟ متى يومه؟ إن كنتم صادقين فى هذا الزعم، فحددوا له موعدا لهذا اليوم، طال هذا الموعد أم قصر.. أما إطلاق هذا اليوم ضالّا فى غياهب الغيب، فهذا دليل على أن الحديث عن هذا اليوم، هو حديث مكذوب، وقول مفترى.. إذ لو أنه كان حديثا قائما على واقع من الحق، لعلم المتحدّث به، الموعد الذي يقع فيه.. أما أن يتحدث متحدث عن أمر سيقع، ثم لا يربط هذا الحديث عنه بزمن معلوم، فذلك رجم بالغيب، أشبه بأخبار الكهان والمنجّمين.. هكذا كانوا يفكّرون ويقدّرون.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1068 وقد جاءهم الرد المفحم فى قوله تعالى: «قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ» .. إن الرسول لم يقل لهم يوما إنه يعلم الغيب، أو أنه إله مع الله، وإنما بادأهم من أول الأمر، بما أمره الله سبحانه أن يلقاهم به فى قوله تعالى: «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ» (110: الكهف) .. وقوله سبحانه: «إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ» (15: يونس) .. وإذ كان هذا شأنه، فإنه لا يعلم من أمر الساعة شيئا: «قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي» (187: الأعراف) . إن موعد الساعة فرع من أصل، وجزئية من أمر كلىّ، هو الساعة ذاتها، أي القيامة والبعث، والحساب والجزاء.. هذه هى القضية.. فإن آمنوا بها إيمان غيب، فإن من تمام هذا الإيمان أن يؤمنوا بكل ما جاء فى القرآن عنها.. وإن لم يؤمنوا بها أصلا، فلا معنى إذن لأن يسألوا عن متعلقاتها.. قوله تعالى: «فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ» . إنه يوم آت لا ريب فيه، ولكن اقتضت حكمة الله أن يخفى ميقاته، كما يقول سبحانه: «إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى» (15: طه) «1» .. فلو كشف هذا اليوم للناس لفسد نظامهم،   (1) انظر تفسيرنا لهذه الآية فى سورة طه (الكتاب الثامن ص: 785) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1069 واضطربت حياتهم، ولو كان بينهم وبينه مئات السنين أو ألوفها، تماما كما لو عرف الإنسان اليوم الذي يموت فيه.. إنه بهذا الكشف، يموت كل يوم مئات المرات، ولو كان بينه وبين الموت عشرات السنين.. وفى الحديث عن رؤية المشركين لهذا اليوم بصيغة الماضي «رأوه» ، وهم مازالوا فى هذه الدنيا، وفى إنكار، وتكذيب له- فى هذا إهمال لإنكارهم، وعدم اعتداد بمعتقدهم الفاسد فى أمر البعث، ثم سوقهم إليهم سوقا فى الدنيا وهم متلبسون بهذا الإنكار، فإذا هم بين يدى ما ينكرون.. وقوله تعالى: «زلفة» أي دانيا، وقريبا منهم، بحيث يعاينونه، ويقعون تحت سلطانه.. ومنه قوله تعالى: «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ» (90- الشعراء) أي دنت وقربت لهم، لتكون بين أيديهم. وقوله تعالى: «سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا» - أي حلّ بها السوء، ونزل بها الكرب.. وإسناد السوء إلى الوجوه، لأنها هى التي تتجلّى على صفحتها آثار المشاعر، والأحاسيس، والأفكار التي تدور فى كيان الإنسان، من فرح أو حزن، ومن لذة أو ألم.. وفى إقامة «الذين كفروا» بدلا من ضميرهم، ليكون فى ذلك مواجهة لهم بهذا الذي يسؤوهم، وليبين السبب الذي من أجله حلت بهم المساءة.. وهو أنهم كانوا كافرين.. وقوله تعالى: «وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ» أي أنه حين الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1070 يلقاهم هذا اليوم، ويقع عليهم منه ما يقع من فزع وكرب، يلقاهم من يقول لهم: «هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ» أي هذا الذي كنتم تطلبونه، وتلحّون فى الكشف عن وجهه ... فها هو ذا قد جاءكم.. فلم تنكرونه؟ ولم تفزعون منه؟ وهل يفزع المرء من أمر كان شديد اللهف على لقائه؟ و «تدعون» معناه تطلبون، وتتمنون.. ومنه قوله تعالى عن أصحاب الجنة: «وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ» (31: فصلت) . وفى تعدية الفعل تدعون بحرف الجر «الباء» .. «به تدعون» وهو متعدّ بنفسه- لتضمّنه معنى الفعل، «تهتفون» أو «تستعجلون» .. ونحوهما، مما يدل على شدة الرغبة للشىء، والطلب له. الآيات: (28- 30) [سورة الملك (67) : الآيات 28 الى 30] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30) التفسير قوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» . مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة قد طلعت على المشركين الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1071 المكذبين بيوم القيامة- طلعت عليهم بهذا اليوم، وكشفت عما وقع عليهم من ملاقاته، من هلع وفزع..! وإنه ليس هذا، وحسب، هو الذي يلقاه الكافرون من هذا اليوم، بل إن هناك عذابا أليما فى نار جهنم التي أعدت لهم.. وهذا ما جاءت الآية الكريمة لتقريره، فى أبلغ صورة، وذلك أن هذا العذاب الواقع بالكافرين لا يصرفه عنهم أحد، من صديق أو قريب، وأن ما يقع لغيرهم من إساءة أو مسرة، لا أثر له فى العذاب الواقع بهم.. فاذا أهلك الله النبي ومن معه أو رحمهم فى هذه الحياة الدنيا، فليس في هذا ما يخلّص الذين كفروا، من عذاب الآخرة، أو يدفعه عنهم.. إنه واقع بهم، فلا محيد لهم عنه، ولا منقذ له منه.. إنهم كانوا يتمنون هلاك النبي، ويتوقعون أن يصبحوا يوما فلا يرون له مكانا فيهم، وهذا ما ذكره الله تعالى عنهم فى قوله سبحانه: «أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» (30 الطور) وفى هذا- على ما قدّروا- راحة لهم من عناء، وعافية من بلاء. وإنهم لواهمون فى تقديرهم هذا، مخدوعون فيما يتمنون، إذ ماذا يعود عليهم من موت النبي؟ إنه صلوات الله وسلامه عليه- لا يملك لنفسه، ولا لمن معه نفعا ولا ضرّا، بل الأمر كله بيد الله، وأن النبي- صلى الله عليه وسلم- ليس هو الذي يتولّى حساب هؤلاء الكافرين، ويأخذهم بالعذاب الذي أعدّ لهم، حتى إنه لو مات لرفع عنهم العذاب- وكلا.. إنه ليس هو الذي يتولى هذا، بل الذي يتولاه، هو الله سبحانه، وليس للكافرين من مجير من هذا العذاب. قوله تعالى: «قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ.. آمَنَّا بِهِ.. وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا.. فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1072 أي إن النبي ومن معه، هم فى مقام العبودية لله، كسائر الناس جميعا.. إن آمنوا بالله، وأحسنوا العمل، غفر الله لهم، وأنزلهم منازل المكرمين.. ولهذا جاء قوله تعالى إلى النبي الكريم، بإعلان هذا الايمان بالله فى وجه الكافرين، ليكون لهم من ذلك علم بأن النبي ليس خارجا عن هذه الدعوة التي يدعوهم إليها، وأنه عبد الله مؤمن به، متوكل عليه.. وتلك هى سبيل المؤمنين معه.. فهل يؤمن الكافرون بالله؟ وهل يأخذون الطريق الذي أخذه النبي وأصحابه؟: «فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ» (137: البقرة) . قوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ» هو تهديد للكافرين بأن يسلط الله تعالى عليهم البلاء فى الدنيا، وأن يرميهم بالمكاره، وأن ينزع عنهم نعمه التي يعيشون فيها. فلو أن الله سبحانه ذهب بهذا الماء الذي هو قوام حياتهم، وحياة حيوانهم ونباتهم، فمن يأتيهم بجرعة ماء منه؟ وغور الماء: هو ذهابه غائرا فى الأرض، أي منسربا فيها، ضائعا فى بطنها. والماء العين، هو الماء الذي يفيض من العيون.. وفى الآية الكريمة إشارة إلى النبي الكريم، وإلى القرآن الذي بين يديه، أنه هو الحياة التي منها حياة القلوب والنفوس، وأنه لو ذهب هذا النبي- كما يتمنون- لكان فى هذا هلاكهم، وضياعهم، بذهاب مصدر الهدى والنور لهم. إنه لن يأتيهم نبى بعده، ولن ينزل عليهم من الله كتاب بعد هذا الكتاب، الذي إن فاتهم حظهم منه، فقد فاتهم ماء الحياة، وغذاء الأرواح. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1073 68- سورة القلم نزولها: مكية.. نزلت بعد العلق.. عدد آياتها: اثنتان وخمسون آية.. عدد كلماتها: ثلاثمائة كلمة.. عدد حروفها: ألف ومائتان وستة وخمسون حرفا.. مناسبتها لما قبلها بين هذه السورة، وسورة الملك قبلها، أكثر من مناسبة.. فأولا: ختمت سورة «الملك» بقوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ» .. وفى هذا- كما قلنا- تهديد للمشركين بذهاب هذا النور الذي يرفعه النبي صلى الله عليه وسلم لأبصارهم، من آيات الله، وكلماته.. وبدئت سورة القلم بقوله تعالى: «ن. وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ» .. لتلفت المشركين إلى هذا النور القرآنىّ الذي يكتبه الكاتبون، بعد أن يتلقاه النبىّ من ربّه، وأنهم إن لم يبادروا إلى الإمساك به فى قلوبهم، وحفظه فى صدورهم، يوشك أن يفلت من بين أيديهم، فلا يلقوه أبدا.. كما أن فى ذكر القلم وما يسطر به الكاتبون، إلفاتا عامّا إلى شأن الكتابة والكاتبين، الذين هم أهل العلم والمعرفة، وأن هؤلاء المشركين امّيون لم ينالوا حظّا من العلم عن طريق الكتابة والكتاب، وها هم أولاء وقد جاءهم رسول كريم، كان مفتتح دعوته دعوة آمرة بالقراءة، ثم تلاها بعد ذلك هذا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1074 القسم بحروف الكتابة، وأدواتها- وذلك ليخرجوا من ظلام هذا الجهل الذي غطّى على أعينهم، وحال بينهم وبين أن يهتدوا إلى هذا النور الذي يدعوهم الرسول الكريم إليه.. فالجهل هو الآفة التي أفسدت على هؤلاء المشركين رأيهم فى دعوة السماء لهم إلى الإيمان، ولو أنهم أخذوا حظّا من العلم، لاستقام طريقهم على الحق، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (2: الجمعة) . وثانيا: جاء فى ختام سورة «الملك» قوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا» - وفى هذا ما يشير إلى نظرة الكراهية والاستثقال التي ينظر بها المشركون إلى النبي، وإلى مقامه فيهم، حتى إنهم ليتمنون زواله من بينهم.. وجاء فى مفتتح سورة «القلم» ما يضفى على النبىّ الكريم حلل التكريم والتمجيد التي خلعها عليه ربّه، فوصفه سبحانه بهذا الوصف الربّانىّ، الذي لو قسّم فى الخلق جميعا لأرضاهم، وأغناهم، وأسعدهم، فيقول الله سبحانه «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» .. وفى هذا ما يكبت المشركين، ويملأ قلوبهم حسرة وكمدا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1075 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الآيات: (1- 16) [سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 16] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) التفسير: قوله تعالى: «ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ» . اختلف المفسرون فى تأويل كلمة «ن» فأضافوا إليها مفهوما جديدا غير تلك المفاهيم الكثيرة التي تشارك فيها غيرها من الحروف التي بدئت بها أوائل السور.. فهى بهذه المفاهيم.. حرف من تلك الحروف، يقع عليها الخلاف الذي وقع فى هذه الحروف وكثرت المقولات فيها «1» ..   (1) انظر المبحث الخاص بهذا تحت عنوان: «مفهوم جديد للحروف فى أوائل السور» من التفسير القرآنى للقرآن، الكتاب الثالث عشر صفحة: 89. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1076 أما المفهوم الخاص الذي جعل لهذه «الكلمة» ، أو هذا الحرف، فهو أن يراد به ما يقال عن «الحوت» العظيم الذي تقوم عليه الأرض، كما يزعم لزاعمون.. وكأنّ المفسرين قد نظروا فى هذا إلى قوله تعالى: «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ» (87: الأنبياء) ثم إلى ما جاء فى قوله سبحانه فى هذه السورة: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ» (الآية: 48) .. فالسورة تبدأ بالحرف «ن» وفى خاتمتها يذكر «صاحب الحوت» .. وصاحب الحوت هو «ذو النون» .. أي يونس عليه السلام.. وإذن فهذه قرائن على أن حرف «ن» هو اسم للحوت! .. هذا ما نحسب أن المفسّرين الذين قالوا إن «ن» هى الحوت، قد نظروا إليه، وأخذوا قولهم هذا عنه. ولكن أي حوت هو؟ أهو الحوت الذي ابتلع يونس عليه السلام؟ وكلّا فإن الحوت الذي يقسم الله سبحانه وتعالى به، يجب أن يكون ظاهرة فريدة من ظاهرات الوجود.. ليكن إذن هو الحوت الذي تتحدث عنه قصة أو قصص خلق العالم، التي كانت تعيش فى خيال كثير من الأمم والشعوب!! إن هذا الحوت الذي يقال إنه يحمل الأرض، أو بمعنى أدقّ، يحمل الثور الذي يحمل الأرض بقرنه- هو من مواليد الخرافات والأساطير، وما يروى عنه من مقولات تضاف إلى الصحابة أو التابعين، هو أحاديث مكذوبة على هؤلاء السادة الأعلام، الذين يرفعهم قدرهم ودينهم عن أن يقولوا بغير علم، والذين لو ثبت لهم قول، لكان هذا القول من الحق المتلقّى من نور النبوة، ولما اصطدم أبدا مع واقع الحياة، وما يكشف عنه العلم من حقائق. فالحرف، أو الكلمة «ن» هى من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، والراسخون فى العلم، الذين يعرفونه بإحالة المتشابه على المحكم، والذين هم على الإيمان به إيمانهم بالمحكم.. إذ «كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا» .. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1077 هذا من حيث المعنى.. أما من حيث اللفظ، فإن لهذا الحرف أثره فى صورة النظم الذي جاءت عليه السورة.. حيث كانت فواصلها تنتهى بمقطع أشبه بلفظ «نون» .. أي أنه مقطع مكون من ثلاثة أحرف، أولها متحرك، وثانيها حرف مدّ ساكن يتبع هذه الحركة، وثالثها حرف ساكن بالوقف عليه. وهذا للقطع الذي يمثله حرف «ن» الذي ينطق هكذا: «نون» هو لازمة النغم الموسيقى الذي تضبط عليه فواصل الآيات فى السورة كلها.. مثل: يسطرون.. مجنون.. عظيم.. مفتون.. إلى خاتمة السورة. وقوله تعالى: «وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ» هو معطوف على «ن» المقسم به أي أقسم بنون، والقلم وما يسطرون.. والمراد بالقلم، هو أداة الكتابة، التي يكتب بها العلماء، العلوم والمعارف.. فهو نعمة من نعم الله الجليلة، التي تخطّ على الصحف ثمرات العقول، ونتاج الأفهام. وقد نوه سبحانه وتعالى بالقلم، ورفع قدره، فكان أول ما وضع بين يدى النبي الكريم فى أول آيات افتتحت بها رسالته: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» (1- 5: العلق) وفى القسم بما يسطر الكاتبون بالقلم- إشارة إلى أن هذه الأداة المكرمة ينبغى ألا يكتب بها إلا ما كان من الحق والخير، وإلا ما كان دعوة إلى هدى وتوجيها إلى خير.. إنه أداة تسجيل العلوم والمعارف وحفظها، وهو ينقل عن الإنسان نتاج تفكيره، وثمرات عقله، ويقيم له بهذا ذكرا خالدا فى الحياة، بقدر ما يحمل القلم عنه من خير، وما ينشر من نفع، فكان لهذا جديرا بأن يصان من أن يخطّ باطلا، أو يسجل لغوا.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1078 وقوله تعالى: «ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ» هو جواب القسم.. وهو تكذيب لهذه التهمة الحمقاء التي كان المشركون يرمون بها النبي، حين جاءهم يقول لهم: إنه رسول الله، وإنه يتلقى آيات الله التي يحملها إليه رسول الوحى جبريل عليه السلام.. فلقد هالهم هذا الأمر، واستعظموه، ورأوا أن القول به لا يكون من عاقل، لأنه لا يقع فى تصورهم أن يكون إنسان على اتصال بعالم السماء، وبرب السماء! إن اتصال الرسول بالله، ومخاطبة الملك له، يعنى عندهم أمرا مستحيلا، أشبه بمن يقول لهم: إنى أنا الذي أرسيت هذه الجبال بيدي، فلا يرون فى قائل هذا القول إلا أنه يهذى هذيان المخمور، أو المحموم، أو المجنون.. والباء فى قوله تعالى: «بمجنون» حرف جر، ومجنون خبر المبتدأ «أنت» أي: ما أنت بذي جنة، وفائدة حرف الجر هنا، أنه يقوم حجازا فاصلا بين النبي، وبين إسناد الجنون إليه.. فهذا الجنون، وإن كان واقعا تحت حكم النفي المسلط على المبتدأ «أنت» إلّا أنه هو حقيقة ثابتة، لم يتناولها النفي الذي وقع على المبتدأ: «ما أنت» . فالمنفىّ عنه الجنون هنا، هو شخص النبي.. أما الجنون ذاته فإن نفيه عن النبي، إنما جاء تابعا للنفى الواقع على ذات النبي فى هذا المقام: «ما أنت» .. أي لست أنت الذي يوصف بهذا الوصف، بل غيرك هو المجنون، من هؤلاء الذين باعوا عقولهم فى سوق الغواية والضلال.. وهذا المعنى وإن كان يتحقق مع عدم ذكر حرف الجر، بأن يجىء النظم هكذا «ما أنت مجنون» فإن فيه مواجهة للنبى بهذه الصفة، التي هى أبعد الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1079 الصفات منه صلوات الله وسلامه عليه، إنها داء خطير يتناول وجود الإنسان، ويذهب بكل معالم إنسانيته.. ولهذا جاء مع نفى تلك الصفة عن النبي- هذه المباعدة الادية بينه وبينها، فقام حجاز بينه وبينها بقوله تعالى: «بِنِعْمَةِ رَبِّكَ» .. ثم قام حجاز آخر بحرف الجر «الباء» .. «ما أَنْتَ- بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ» . وفى هذا كله ما يؤكد تلك الحقيقة التي جاءت الآية الكريمة لتقريرها، وهى بعد النبي- بعدا معنويا، وحسيّا- عن أن يلم بحماه الكريم شىء يمسّ عقله فى سلامته، وكماله.. ومثل هذا قوله تعالى: «وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ» وقوله سبحانه: «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» .. ففى هذين المقامين توكيد لنفى هاتين الصفتين المذمومتين عن النبي: التجبر، والتسيطر.. وهذا آكد وأبلغ فى نفى هاتين الصفتين عن النبي، من أن لو جاء النظم هكذا: «ما أنت جبار» . «ما أنت مصيطر» ، برفع هذه الحواجز المادية التي تحجز السوء عن أن يواجه به النبي، حتى ولو كان هذا السوء واقعا فى قيد النفي.. وقوله تعالى: «بِنِعْمَةِ رَبِّكَ» - إما أن يكون جملة معترضة بين المبتدأ والخبر، يرادبها الإشارة إلى أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- فى نعمة سابغة من ربه، وهو بهذه النعمة معافى من كل عارض سوء يعرض له فى عقله، أو روحه، أو قلبه. فهذا أشبه بمن يقال له: أنت- بحمد الله- فى عافية، أو أنت- ولله الحمد- فى أمان.. وإما أن يكون قوله تعالى: «بِنِعْمَةِ رَبِّكَ» ، متعلقا بمحذوف، حال من الضمير المستكنّ فى قوله تعالى: «بِمَجْنُونٍ» .. أي ما أنت بمجنون، والحال أنك محفوف بنعمة ربك..! الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1080 قوله تعالى: «وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ» معطوف على جواب القسم: «ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ» ، وهو وعد من الله سبحانه للنبى الكريم، بالأجر العظيم المتصل، غير الممنون، أي غير المنقطع عنه أبدا، وذلك جزاء جهاده، وصبره على ما يلقى من أذى قومه، وسفاهتهم عليه.. والأجر غير الممنون، هو غير المقطوع، أي الدائم المتصل. ويجوز أن يكون معنى الأجر غير المنون هنا، هو الأجر الذي لا منّة عليك فيه من أحد، أي لا فضل لمخلوق عليك فيه.. فهو فضل خالص من عند الله لك، وإنك لأهل له، بما احتملت من أذى فى سبيل دعوة الحق التي تدعو إليها.. وفى هذا تنويه بقدر النبي، ورفع لمقامه عند ربه، وأن هذه المنزلة التي يلغها هى- وإن كانت من فضل الله- محسوبة من كسب النبي، ومن سعيه المحمود المبرور، عند ربه. قوله تعالى: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» . هو تقرير لما تضمنه قوله تعالى: «وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ» - فهذا الأجر غير الممنون، هو ثمرة لهذا الخلق العظيم، الذي كان عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم.. وحسب رسول الله بهذا الوصف الكريم، من الله سبحانه وتعالى- حسبه بهذا شرفا وعزّا، حيث توّجه ربه- جلّ وعلا- بتاج الكمال كله، إذ ليس بعد حسن الخلق حلية تتحلى بها النفوس، أو تاج تتّوج به الرءوس.. ففى مغارس الخلق الحسن، كانت رسالات المرسلين، ومن أجل حماية هذه المغارس، وإطلاع ثمرها، كانت دعوة الرسل، وكان جهادهم، الذي توّج بدعوة سيد الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1081 الرسل، وجهاد خاتم النبيين.. وفى هذا يقول صلوات الله وسلامه عليه: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» .. قوله تعالى: «فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ» .. هو وعيد للمشركين، وفضح لما هم فيه من ضلال، وأنه سيأنى يوم تنكشف فيه حالهم، ويرون فيه سوء أعمالهم، كما سيرون ما كان عليه ضلالهم فى رسول الله، وفى مقولاتهم الباطلة فيه.. وقوله تعالى: «بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ» متعلق بالفعلين: «فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ» فالفعلان يتنازعان العمل فيه، إذ هما مسلطان عليه.. فالنبى سيبصر، وهم- أي المشركون- سيبصرون، بأيّ- منه أو منهم- المفتون.. والمفتون، هو، الذي فنن بنفسه، وغرّه الغرور، فركب مركب الفتن والضلال، وهو على ظنّ أو يقين بأنه أهدى سبيلا، وأقوم طريقا.. ويكون قوله تعالى: «بِأَيِّكُمُ» متعلقا بفعل محذوف دلّ عليه المقام..» أي ستبصر ويبصرون بأيكم تتعلق الفتنة، وبأيكم يتحقق وصف المفتون، أو يتمثل شخصه.. أي فستبصر أيها النبي، وسيبصر المشركون، بأيكم كان الشيطان متلبّسا به، مستوليا عليه، مالكا زمامه؟ .. والجواب واضح لا يحتاج إلى بيان، والنبي على يقين منه، وإن كان المشركون عن هذا في غفلة وضلال، وفى ادعاء وغرور.. وهذا مثل قوله الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1082 تعالى: «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (24: سبأ) . قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» .. أي إنكم إذا لم تعلموا أيها المشركون وأنتم فى هذه الدنيا، أنكم مفتونون ضالون، قد أغواكم الشيطان وفتنكم- فإن ربك- أيها النبي- هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله، وانقاد لشيطانه، وبمن هو على طريق الهدى ودين الحق، فيجازى كلّا بما عمل. قوله تعالى: «فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ» .. هو نهى للنبى الكريم، عن أن يستمع للمكذبين، الذين يكذبون بآيات الله، ويقفون منه هذا الموقف الضال الآثم.. وفى هذا النهى جواب على قوله تعالى: «بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ» - حيث يحذّر النبي من أن يتبع سبيل هؤلاء الضالين، أو يستمع لهم.. فهو على هدى، وهم على ضلال. وفى قوله تعالى: «وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ» - هو بيان للمدخل الخبيث، الذي يريد المشركون أن يدخلوا على النبي منه، وأن يخادعوه به.. فهم- وقد أبوا أن يستجيبوا للنبى، وأعياهم الوعد والوعيد معه أن يحوّلوه عن موقفه- هم يجيئون إليه بتلك الدعوة الخبيثة الماكرة، وهو أن يدهن أي يدارى أمره عنهم، فلا يذكر آلهتهم بسوء، ولا يظهر دعوته فى الناس، وبذلك يتركونه وشأنه، فلا يعرضون له بسوء، ولا يلقونه بأذى!! الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1083 فقد جاء المشركون إلى النبي أكثر من مرة، يعرضون عليه، المال والجاه، على أن يدع ما يدعو إليه، فلما أعياهم الأمر، ولم يجدوا من النبي أذنا صاغية إليهم- جاءوا يدعونه إلى أن يعبدوا الإله الذي يعبده، مع آلهتهم التي يعبدونها، وأن يعبد هو آلهتهم التي يعبدونها مع إلهه الذي يعبده، وبهذا يرضونه فى إلهه، ويرضيهم هو فى آلهتهم، فنزل قوله تعالى: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ... » إلى آخر السورة.. وأصل الإدهان: المداراة، والملاطفة، وطلاء الأمر بطلاء زائف، حتى يقبل تحت هذا الزيف.. وقوله تعالى: «فَيُدْهِنُونَ» خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: فهم، أي فهم يدهنون.. والمعنى، فلا تطع المكذبين، فهم يدهنون، وودوا لو تدهن.. وهذا يعنى أن المشركين المكذبين هم على حال من الخديعة والغش فيما يقولون.. فهم يدهنون مع أنفسهم، فيخادعونها بهذا الباطل الذي يزينونه لها، وهم يدهنون مع الناس فيما يحدثونهم به، وهم يدهنون مع النبي فيما يعرضون عليه من أمور.. وهذا شأن كل من يمسك بالباطل.. إنه غير مطمئن إليه، فهو يحاول دائما أن يلبسه أثوابا بعد أثواب، من التمويه والخداع، حتى يدارى ما به من علل.. وفى مجىء النهى عن طاعة المكذبين بدلا من النهى عن تصديقهم- إشارة إلى ما هو أبعد من مجرد عدم التصديق، وهو لازمه، إذ يلزم من عدم التصديق للحديث، عدم إجابته والأخذ بمضمونه.. وهذا أبلغ من مجرد الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1084 النهى عن التصديق، فقد لا يصدّق المرء محدّثة فيما يدعوه إليه، ثم تغلبه نفسه على متابعته، والاستجابة له فيما يفعل. ولهذا اتجه النهى مباشرة إلى المطلوب منه، وهو عدم الاستجابة لتلك الدعوة التي يدعو إليها المكذبون.. إنهم لا يدعون إلى خير أبدا.. قوله تعالى: «وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ» . هذه ملامح، وصفات، تشين من يتصف بها، وتحطّ من قدره فى الناس، فلا يوزن بميزان الإنسان السوىّ، الذي يطمئن إليه الناس، ويتعاملون معه فى ثقة واطمئنان.. إنه لا يتصف بهذه الصفات إنسان له على ميزان الإنسانية وزن.. وهى صفات تجتمع وتتفرق فى هؤلاء المشركين الضالين.. وسواء اجتمعت هذه الصفات كلها فى شخص واحد، أو ظهرت عليه أعراض بعضها. فإن أية صفة منها تدعو إلى غيرها، إذ هى جميعها لا تصدر إلا من طبع لئيم، ولا تنضح إلا من نفس خبيثة فاسدة.. فكثير الحلف: كذوب، منافق.. يدارى كذبه ونفاقه بهذا الستار الأسود، من كثرة الأيمان الكاذبة الفاجرة.. ولهذا وصف بأنه «مَهِينٍ» أي حقير دنىء، لأنه لا يحترم نفسه، ولا يرتفع بها عن أن يبيعها بهذا الثمن البخس، حيث يعرضها فى سوق النفاق والكذب، سلعة رخيصة، لا تجد من ينظر إليها إلا إذا جلجلت من حولها صيحات الأيمان الكاذبة.. والهماز المشاء بالنميم، هو وجه قبيح من وجوه أهل الكذب والنفاق.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1085 حيث يهمز الناس أي يعيبهم، وينالهم بالسوء، فى غيبتهم، ومن وراء ظهورهم.. فهو جبان، مهين، لا يجرؤ على أن يلقى الناس مواجهة.. وهو إذ يرمى الناس بالمساءات من وراء ظهورهم، يمشى كذلك بينهم بالنميمة، فينقل إليهم من المقولات ما بوقع العداوة والبغضاء بينهم، سواء أكان ما ينقله حقّا أو باطلا.. والمنّاع للخير: شخص مهين ذليل، ممسك بما فى يده، ضنين به، لأنه يرى أنه فى وجه الهلاك والضياع، إن هو لم يحصّن نفسه بالمال، ولم يقم عليها حارسا منه.. إن ذاتيته أضعف من أن تحمى ذاتها، ومن ثمّ كان لا بدّ لها من شىء آخر تحتمى به، وهو المال، وكل ما يمكن أن يكون مصدر نفع مادىّ.. وهذا شأن النفوس الضعيفة المهينة، كما هو شأن ضعاف الحيوان، كالنمل والذرّ.. إنها تختزن طعامها لأيام وشهور، وربما لسنين، كما أنها تجر كل ما يصادفها إلى بيتها، سواء أكانت فى حاجة إليه أم لم يكن لها به حاجة.. وفى هذا يقول الشاعر: وهل يدخر الضرغام قوتا ليومه ... إذا ادخر النمل الطعام لعامه؟ إن الضن بالخير الذي يكون بين يدى الإنسان، لا يكون إلا من نفس ضعيفة مهينة، ليس فى قدرتها العطاء، والإثمار، وإنما هى أشبه بالنباتات المتسلقة، لا تطلع زهرا، ولا تخرج ثمرا، ولا تنشئ طيبا، ولا تنشر ظلّا. والمعتدى الأثيم، هو هذا الكذوب، المنافق، الهماز، المشاء بالنميم، الضنين بالخير، لأنه فى كل هذه الصفات يحمل عدوانا، ويقترف إثما.. عدوانا على الناس بالكذب عليهم، ونهش أعراضهم من وراء ظهورهم، والسعى بالنميمة بينهم، وبالضنّ بما لهم من حق فيما بين يديه من خير.. وإثما على نفسه، بما حمل من أوزار بهذا العدوان على الناس.. والعتلّ: هو الجافي، الغليظ الطبع، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1086 الوحشىّ الطبيعة، الذي ينهش فى أعراض الناس، ويقطّع أواصر الأخوة بينهم، دون أن تتأثر لذلك مشاعره، أو تألم لذلك نفسه، شأنه فى هذا شأن الحيوان المفترس. والزنيم: هو الدعىّ فى نسبه، المنسوب إلى غير أبيه. أي ولد الزنا.. وفى قوله تعالى: «بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ» - إشارة إلى أن هذه الصفة، وهى الزنامة، هى صفة تفوق فى شناعتها تلك الصفات المذكورة كلها.. أي ومع الصفات الشنيعة كلها، فإنه قد جمع إليها الزنامة، التي هى وحدها مجمع المساءات كلها.. وينسب المفسرون هذه الصفات إلى الوليد بن المغيرة، تارة، وإلى الأخنس ابن شريق تارة أخرى.. ويقولون:، إن الوليد لم يكن ابن المغيرة، وإنما ادعاه المغيرة ونسبه إليه، وهو فى الثامنة عشرة من عمره.. والرأى عندنا، أن هذه الصفات تجمع مجتمع أهل الضلال جميعا، من منافقين ومشركين.. وهى صفات لا يمكن أن تحتملها طبيعة بشرية، باعتبارها صفات ذاتية، ثم يكون لهذا الإنسان المتصف بها وجود بين الناس، وإن غاية ما يمكن أن تحتمل النفس البشرية من طبائع السوء، هو أن تكون على صفة من تلك الصفات اللئيمة، ثم ينضح عليها من تلك الصفة كثير أو قليل من المقابح والمنكرات.. بمعنى أن تكون تلك الصفة الذميمة هى الأمّ التي تتجمع حولها صفات أخرى ذميمة، تكون أشبه بالأعراض لهذه الصفة.. أما أن تكون كل صفة منها ذات وجود ذاتى فى إنسان، فهذا ما يخرج الإنسان جملة من عالم الإنسانية، ويجعله زنيما، أي دعيّا فى نسبه إلى الإنسانية.. ولهذا جاء لفظ «كلّ» فى قوله تعالى: «وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ» الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1087 ليشير إلى أن هذه الصفات ليست مقصورة على شخص بعينه، وإنما هى صفات يدخل فى دائرتها كل اتصف بها على أي وجه من الوجوه.. وهذا مثل قوله تعالى: «وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً» (28: الكهف) .. وعلى هذا فإنه يمكن أن يكون للزنيم هنا معنى أعم من معنى أن يكون الإنسان دعيّا فى نسبه إلى أب، أو قبيلة، وذلك بأن يحمل على أنه دعىّ فى نسبه إلى المجتمع الإنسانى كله، فإن من تستولى عليه صفة من هذه الصفات، جدير بها أن تجعله مستنبتا للخبائث كلنا، فنغتال فيه كل معنى من معانى الإنسانية، وبهذا يصبح وجوده فى الناس، وجودا غير شرعى، ويكون انتماؤه إليهم انتماء الأدعياء إلى غير آبائهم.. فهو لصيق فى الناس، كما أن المنتسب إلى غير أبيه لصيق بمن انتسب إليه.. فكيف بمن جمع هذه الرذائل جميعها، واحتواها فى كيانه؟ هذا، وإذا كانت هذه الآيات قد واجهت حالا من أحوال الوليد أو غيره ممن يقال إنها نزلت فيهم، فإن هذا لا يعنى أكثر من أن هذا الشخص، كان الصورة التي تجتمع فيها تلك الصفات، وتحمل أكبر قدر منها، ولهذا كان أصلح من يضرب به المثل فى هذا المقام، ليكون شارة للإنسان الذي خرج من عالم البشر.. قوله تعالى: «أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ؟» أي ألأن كان هذا الصنف من الناس ذا مال وبنين، يركبه الغرور، ويستبد به الضلال، حتى إذا تليت عليه آياتنا، لوى وجهه عنها، ووصفها هذا الوصف المشين، وأضافها إلى الكذب والافتراء، وقال عنها إنها من أساطير الأولين، وخرافاتهم؟. والاستفهام يراد به الوعيد والتهديد. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1088 والذين قالوا إن الوليد بن المغيرة، هو الذي نزلت فيه الآيات، يجدون لهذا شاهدا من قوله تعالى: «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ» (11- 26: المدثر) . فهذه الآيات، قد تواترت الأخبار على أنها نزلت فى الوليد بن المغيرة.. وبين هذه الآيات، والآيات التي فى سورة «القلم» شبه كبير، كما هو ظاهر.. قوله تعالى: «سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ» .. هذا تحقيق للوعيد الذي حمله الاستفهام فى قوله تعالى: «أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ؟» والوسم، أشبه بالوشم، وهو علامة يعلّم بها الحيوان، بالكيّ فى موضع بارز من جسمه، فيكون أثر الكي علامة مميزة له، دالة على مالكه.. والخرطوم: الأنف، ولا يقال إلا للأنف الطويل، كخرطوم الفيل مثلا.. وفى هذا وعيد وتهديد لهذا الإنسان الذي ركب رأسه وشمخ متطاولا بأنفه، وهام فى أودية الضلال على وجهه، كما تهيم السائمة فى البراري والقفار.. وفى وسم هذا الضال على أنفه الذي تشامخ به، ونفخه بالغرور، حتى طال وتورم وصار كالخرطوم- فى هذا- إذلال له. وإهدار لآدميته، ودمغه بهذا الوشم كما يدمغ الحيوان.. إنه ليس من عالم الناس! ثم ليس هذا وحسب، بل إن الوسم سيكون فى أعزّ مكان منه، وهو الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1089 الأنف، الذي هو موضع الأنفة والعزة.. فما أهونه، وأضيعه، وأذلّه، هذا الحلاف المهين!! .. الآيات: (17- 33) [سورة القلم (68) : الآيات 17 الى 33] إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33) [بين أصحاب الجنة ومشركى قريش] التفسير: قوله تعالى: «إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ» . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1090 الضمير فى «بَلَوْناهُمْ» يعود إلى مشركى قريش، الذين تحدثت عنهم الآيات السابقة فى قوله تعالى: «فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ.. الآيات» .. والبلاء، والابتلاء: الاختبار، والامتحان.. بالخير، وبالشر. والآية تشير- كما يذهب إلى ذلك أكثر المفسرين- إلى ما كان من ابتلاء الله سبحانه للمشركين من مضر، إذا أخذهم الله بالقحط والجدب، استجابة لدعوة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، إذ دعا عليهم الرسول بقوله، فيما يروى عنه: «اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف» .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ» (10- 12: الدخان) .. وقد مضى تفسير هذه الآيات فى سورة الدخان.. والرأى عندنا- والله أعلم- أن هذا الابتلاء الذي ابتلى به المشركون، هو هذا القرآن الكريم، الذي جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتلوه عليهم، ويدعوهم إلى الحياة فى ظله، والقطف من ثماره.. فهو الجنة التي تؤتى ثمارها كل حين بإذن ربها، وأنهم لو جاءوا إلى هذه الجنة بقلوب سليمة، ونفوس مطمئنة لكان لهم منها زاد عتيد لا ينفد أبدا.. أما وقد جاءوها فى تلصص ومخالسة، وفى ستار من ظلمة الليل، يريدون أن يصبح الناس فلا يرون لثمرها أثرا- فقد فوت الله سبحانه عليهم ما يريدون، وحال بينهم وبين ما يشتهون..!! وسنعرض لوجه الشبه بين المشركين، وأصحاب الجنة، بعد أن نلتقى مع هذه الآيات التي عرضت لهذه الجنة وأصحابها.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1091 أما أصحاب الجنة هؤلاء، فلم يذكر القرآن عنهم إلا أنهم جماعة من الناس.. قد يكونون إخوة أو شركاء، يملكون جنة، فيها زرع، ونخيل، وأعناب، ونحو هذا مما يطلق عليه اسم «جنة» .. أما مكان هذه الجنة، وزمانها، وأعيان أصحابها، فلم يلتفت القرآن إلى شىء منه، إذ لم يكن لشىء من هذا متعلّق بالحدث، ولا بموقع العبرة الماثلة منه.. ومع هذا فقد كثرت المقولات، وتعددت الروايات، التي تحدد مكان هذه الجنة وزمانها، وعدد أصحابها، الأمر الذي يخرج بالحدث عن مضمونه، ويكاد يقطع النظر عن موضع العبرة منه، بما يزدحم بين يديه من ألوان وظلال، وحركات، وصور.. للزمان، والمكان والأشخاص.. ومن جهة أخرى، فإن هذه القيود التي يشدّبها الحدث إلى زمان بذاته، أو مكان بعينه، أو أشخاص بسماتهم- هذه القيود تجمّد الحدث، وتفقده الحياة والحركة، عبر الأزمان والأماكن، على خلاف ما لو أطلق من هذه القيود، حيث يراه الناس فى كل مكان، وزمان، ويشهدونه فى كل مجتمع، صغير، أو كبير.. وابتلاء أصحاب الجنة هؤلاء، الذين ابتلى الله سبحانه مشركى قريش، كما ابتلاهم- هو فيما كان منهم من تدبير سيء، ومكر بنعم الله عليهم، فكان أن انتزع الله سبحانه هذه النعمة من بين أيديهم، وقتلهم بالسلاح الذي كانوا يحاربونه به.. كما سنرى ذلك فيما تحدث به الآيات من قصتهم.. وقوله تعالى: «إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ» .. أي أن الابتلاء لأصحاب الجنة كان منذ وقع منهم هذا القسم الذي أقسموه على جنى ثمر الجنة وقطعها «مُصْبِحِينَ» أي فى أول مطلع الصباح، وعند استقبالهم له.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1092 وصرم، الشيء: قطعه، وانصرم حبل الودّ بين فلان وفلان، أي انقطع، وانصرم معظم الليل، أي مضى، كأنه انقطع من الليل.. وقوله تعالى: «وَلا يَسْتَثْنُونَ» هو حال من فاعل: «لَيَصْرِمُنَّها» أي أقسموا ليقطعنّ ثمر الجنة مستقبلين الصبح، غير مستثنين شيئا منها أو مبقين على شىء من ثمر هذه الجنة من غير حصاد أو جنى، حتى لا يبقى لأحد من الفقراء، نظر يتعلق بشىء من ثمرها.. فهذا ما أقسموا عليه، وقد جاء به القرآن على لسانهم.. ويجمع المفسرون على أن قوله تعالى: «وَلا يَسْتَثْنُونَ» هو بمعنى أنهم حين أقسموا على صرم الجنة صباحا، ولم يستثنوا فى هذا القسم، أي لم يقولوا: إن شاء الله!! وهذا المعنى غير مقبول من وجوه: فأولا: من جهة نظم الكلام، لأن ما ذكره القرآن عنهم هو حكاية لقول قالوه فى زمن مضى، ولهذا جاء به النظم القرآنى بلفظ الماضي: «إِذْ أَقْسَمُوا» .. فهم قد أقسموا فى الماضي، أما ما أقسموا عليه، فهو قطع ثمار الحديقة صباح الغد، أي فى زمن مستقبل، وهو: «لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ» .. أما قوله تعالى: «وَلا يَسْتَثْنُونَ» فهو من منطوقهم الذي نطقوا به، وهو من جملة ما أقسموا عليه.. فلو أن هذا القسم مطلقا، دون أن يقيدوه بالمشيئة- لو كان المعنى على هذا، لكان مقتضى النظم أن يجىء هكذا: «أقسموا ليصرمنّها مصبحين ولم يستثنوا» !! ولكن النظم القرآنى جاء كما يقول سبحانه: «أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1093 مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ» .. فالاستثناء هنا معنى مرتبط بقوله تعالى: «لَيَصْرِمُنَّها» كما تعلق به لفظ «مُصْبِحِينَ» وكلاهما حال من أصحاب الجنة.. بمعنى أنهم أقسموا ليصرمنّها كلها، غير تاركين شيئا من ثمرها، وذلك فى مطلع الصبح.. وثانيا: من جهة المعنى.. فإن فى حمل قوله تعالى: «وَلا يَسْتَثْنُونَ» على أنه استثناء مشيئة، بمعنى أنهم أطلقوا القسم من غير أن يقولوا إلا أن يشاء الله- فى هذا الحمل إفساد للمعنى، وخروج به عن الغاية المرادة من الاستثناء فى هذا المقام، لو أريد.. ذلك أن قرن القسم بالمشيئة، هو ضمان لتحققه، كما أن عدم الاستثناء قد يفوّت الأمر المقسم عليه.. وهذا يعنى أن القوم حين أقسموا ولم يستثنوا، لم يتحقق لهم ما أقسموا عليه، وهو جنى ثمار جنتهم، كما يعنى أنهم لو قرنوا القسم بالمشيئة، لتحقق لهم ما أقسموا عليه، ولكن الأمر على خلاف ذلك، فهم أقسموا، ولم يقرنوا القسم بالمشيئة- كما يقول المفسرون- ولم يتحقق لهم ما أقسموا عليه.. فكيف يتفق هذا مع ما يريد المفسرون تحقيقه بالمشيئة؟ فهل كان هذا عملا مبرورا منهم يراد له أن يتحقق، وذلك بأن يعزّز بمشيئة الله؟ ذلك إفساد للمعنى أىّ إفساد! .. ثم أكان ربط القسم بالمشيئة يدفع عنهم ابتلاء الله لهم، وأخذهم بما مكروا؟ .. وهل القسم على أمر منكر كهذا الأمر الذي أقسموا عليه يطلب له تزكية بالمشيئة، حتى يكون فى ذلك ضمان لتحققه؟ وهل من المحمود إذا أقسم الإنسان على فعل منكر أن يقدّم مشيئة الله بين يديه، فيقول مثلا: والله لأقتلن فلانا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1094 إن شاء الله؟ إن تقديم المشيئة المطلوبة من المؤمن، هو أن يكون مع الأعمال المبرورة، كأن يقول مثلا: والله لأحجّنّ هذا العام إن شاء الله، أو يقول من غير قسم- سأقوم غدا بزيارة فلان المريض.. إن شاء الله.. وهكذا فى كل أمر ليس فيه ما يكره أو ينكر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» (23- 24: الكهف) . أمّا إذا كان الأمر مكروها أو منكرا، فإن المطلوب هو عدم قرنه بالمشيئة، حتى يحرم صاحبه التوفيق فى إصابة هذا الأمر، وتحقيقه.. بل إن المرء لو أقسم على مكروه، أو منكر، كان عليه أن يتحلل من يمينه، وأن يكفّر عنها، كما يقول الرسول الكريم كما رواه مسلم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، فليكفّر عن يمينه، ثم ليفعل الذي هو خير» . وعلى هذا، فإن قوله تعالى: «وَلا يَسْتَثْنُونَ» هو من جملة ما أقسم عليه المقسمون، أي أنهم أقسموا ليصرمن جنتهم مصبحين على ألا يدعوا شيئا من ثمرها مستثنى لوقت آخر.. وهذا ما يتفق والغاية التي قصدوا إليها من تدبيرهم الذي دبروه، وهو ألا يعطوا الفرصة للفقراء والمساكين فيما كان لهم طمع فيه، وتعلق به.. وقوله تعالى: «فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ» الفاء هنا للتعقيب، وهى فاء الجزاء أيضا.. أي أنهم بعد أن دبروا هذا التدبير السيّء، وأكّدوه بالقسم، أوقع الله بهم العقاب الذي استحقوه بتدبيرهم السيّء هذا.. فطاف على جنتهم طائف من الله سبحانه، وهم نائمون، أي مرّ عليها نذير من نذر الله، وهم نائمون، يحلمون بلقاء جنتهم مصبحين، يقطفون كل ثمارها غير مبقبن على شىء، وإذا هى وقد عريت من كل ثمر!! الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1095 وفى قوله تعالى من «فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ» - إشارة إلى أن هذا الطائف المرسل إليها من عند الله، قد وضع يده عليها شجرة شجرة، وثمرة ثمرة، فلم يبق مما مرت عليه يده من ثمارها شيئا.. والطائف: من يطوف ليلا، فلا يكاد يرى، ومنه الطيف، الذي يطرق النائم، من حبيب، أو صديق. وقوله تعالى: «فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ» - أي أصبحت هذه الجنة بعد أن طاف عليها الطائف المسلط عليها من عند الله- أصبحت كالصريم، أي كالجنة الصريم، التي قطفت ثمارها.. أي أن هذا الطائف، قد سبق القوم إلى ما كانوا يريدون، فإذا هو قد جنى كل ثمرها، وكأنه بهذا قد تولى الأمر عنهم، وأراد أن يريحهم من هذا العناء الذي يكابدونه فى حصاد ثمرها، وأنه قد فعل هذا دون أن يراه فقير أو مسكين! أليس هذا هو الذي أرادوه؟ لقد تحقق لهم على أكمل وجه!! ولكن أين ذهب الثمر؟ إنهم لو وجدوه مقطوفا، حاضرا بين أيديهم، لعدّوا ذلك من فضل الله عليهم، وإحسانه إليهم.. فأين هو الثمر؟ ليس ببعيد أن يكون الآن بين أيدى الفقراء والمساكين، الذين أرادوا حرمانهم منه، وقد وصل إلى أيديهم على أية صورة من الصور.. فإنه ليس ببعيد- وقد بان لهم أن ما حدث لجنتهم كان عقوبة من الله لهم- ليس ببعيد بعد هذا أن تضاعف لهم العقوبة، فيحرموا مما أرادوا أن يحرموا منه غيرهم، ثم يساق هذا الذي حرموه إلى من أرادوا حرمانهم! ومن يدرى، فقد يكون هؤلاء المساكين قد سبقوهم إلى هذا التدبير، فدبروا لهم هذا التدبير، كما أرادوا هم بالمساكين!! وإنه غير بعيد أن تدور مثل هذه الخواطر فى رموس أصحاب الجنة فتزداد حسرتهم، ويتضاعف ألمهم.. «وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» (30: الأنفال) الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1096 قوله تعالى: «فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ» . أي نادى بعضهم بعضا، فى بكرة الصباح، أن أسرعوا إلى زرعكم، إن كنتم منفذين لما عقدتم العزم عليه بالأمس.. وقوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ» هذا من قول بعضهم لبعض، وفيه تحريض لأنفسهم على المبادرة والإسراع بتنفيذ ما اتفقوا عليه.. وكأن كلّا منهم يقول لصاحبه: هيا أسرع!! ماذا جرى؟ ألا تريد أن نمضى فيما عزمنا عليه؟ فلم هذا التباطؤ إذن؟ قوله تعالى: «فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ» . أي أنهم سرعان ما اجتمع أمرهم، فانطلقوا مسرعين، يتحدث بعضهم إلى بعض، فى صوت خفيض هامس، حتى لا يحسّ بهم أحد، ولا يستيقظ على خطوهم أو صوتهم من يشهد ما يفعلون، وهم يجنون ثمر جنتهم!. وقوله تعالى: «أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ» هو بيان لما كانوا يتخافتون به، ويوصى به بعضهم بعضا، وهو ألا يدخل الجنة عليهم أحد فى يومهم هذا.. وهذا الحديث المتخافت بينهم، هو توكيد لما كانوا قد اتفقوا عليه من قبل.. وهو مفهوم من قوله تعالى: «إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ» .. فهذا القسم، يخفى وراءه أمرا يريدون توكيده بهذا القسم، وعقد العزم عليه. فإن مجرد رغبتهم فى جنى ثمار جنتهم لا يحتاج إلى قسم، إذ كان ذلك الأمر إليهم، يفعلونه كما يشاءون، وفى أي وقت يريدون.. أما القسم، فهو لغاية أكثر من مجرد قطف ثمار الجنة وحصاد زرعها.. ثم إن فى قوله تعالى: «مُصْبِحِينَ» - إشارة أخرى تشير إلى أن وراء الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1097 هذا الأمر أمرا آخر، إذ نظر إليه على ضوء القسم الذي سبقه.. فإن التبكير بقطع الثمار وحصاد الزرع، وإن كان أمرا مألوفا، فإنه في صحبة القسم، يصبح ذا دلالة خاصة، غير تلك الدلالة العامة، وهو أنهم يريدون بهذا التبكير، المبادرة إلى إنجاز الأمر قبل أن يفضحهم النهار، وتأخذهم أعين الفقراء والمساكين. قوله تعالى: «وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ» .. أي أنهم أحكموا أمرهم، وأخذوا طريقهم إلى تنفيذه، واجتمعت بين أيديهم الوسائل الممكّنة لهم منه. فهاهم أولاء قد استيقظوا مبكّرين، وما زال الناس نياما، وهاهم أولاء قد أوشكوا أن يبلغوا جنتهم دون أن يتنبه إليهم أحد، أو يتبعهم مسكين.. والحرد: القصد، والوجهة التي يأخذها الإنسان لغايته.. ومنه قول الشاعر. سيل جاء من عند الله ... يحرد حرد الجنة المغلة والمعنى أنهم، وقد أخذوا طريقهم إلى جنتهم، خيل إليهم أنهم قادرون على القصد الذي قصدوا إليه، وإنجاز الأمر الذي دبروه، دون أن يحول بينهم وبينه حائل.. وما دروا أن يد الله قد سبقتهم إليه، وأنه قد حيل بينهم وبين ما يشتهون.. قوله تعالى: «فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ» أي أنهم حين انتهى بهم الطريق إلى حيث كانت جنتهم، طلع عليهم هناك منها ما جعلهم ينكرونها، وينكرون أنفسهم حيالها.. إنها ليست جنتهم!! الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1098 وإلا فأين ثمارها اليانعة، وزروعها الناضجة؟ كلا إنهم ضلوا الطريق إليها، وهم يركبون بقية من ظلام الليل نحوها!! وإذن فأين الطريق إلى الجنة؟ وهنا يكثر تلفت القوم، ويطول وقوفهم، ثم تستبين لهم الحقيقة، وأنهم لم يضلوا الطريق إلى جنتهم.. إنهم يقفون إزاءها، كما يقف المسافرون على رسوم الديار، وأطلال المنازل.. وقوله تعالى: «بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ» هو إضراب على قولهم: «إِنَّا لَضَالُّونَ» .. فهم- وقد عرفوا الحقيقة- ليسوا ضالين عن الطريق إلى جنتهم.. إنها هى، هى، وإن تبدلت أحوالها، وتغيرت معالمها، وذهب كل خير كان فيها.. فهم ليسوا ضالين عنها إذن، وإنما هم محرومون من ثمرها، الذي لا يدرون إلى أين ذهب! قوله تعالى «قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ؟ لَوْلا تُسَبِّحُونَ» وهنا يأخذ القوم فى مراجعة أمرهم على ضوء هذه الحقيقة التي تكشفت لهم، ويكثر بينهم الأخذ والردّ.. ويمسك القرآن من حديثهم باللّباب منه، ضاربا صفحا عما لا غناء فيه، في هذا الموقف.. ومما رآه القرآن مستحقّا للذكر من أحاديثهم، هو قول أوسطهم، وهو أقربهم إلى الخير والحق.. ففى كل جماعة- أيّا كانوا من الضلال والسفه- بعض النفوس التي لا تخلو من خير، وبعض العقول التي لا تحرم الرؤية السليمة للأمور، فى وسط هذا الضلال المنعقد حولها.. ففى بيئة فرعون- على ما كان بها من إغراق في الضلال- كانت امرأة فرعون، وكان مؤمن آل فرعون، وقد جعل القرآن لهما ذكرا طيبا في المذكورين من الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1099 عباد الله المكرمين.. والوسط من كل شىء خياره، وأعدله، ولبابه، ومنه قوله تعالى: «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» (143: البقرة) وفى الأثر: «خير الأمور أوساطها» .. وقد وصف الله سبحانه الشجرة المباركة الزيتونة بأخذها مكانا وسطا بين الشرق والغرب، فقال تعالى: «يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ» (35: النور) .. ووسط القوم أدناهم إلى الحق والخير.. وفى هذه الجماعة من أصحاب الجنة، كان فيهم من لم يرض فى قرارة وجدانه عن هذا التدبير السيئ الذي دبره أصحابه، وربما كان له موقف معارض لما أرادوا.. ولكن أصحابه غلبوه على أمره، لأن إيمانه بما كان يدعوهم إليه لم يكن متمكنا من قلبه ولو أن هذا الإيمان كان قويّا متمكنا، لما تحول عنه، ولكان بالحق الذي معه، قادرا على أن يقهر الباطل الذي معهم.. ولهذا أخذه الله بما أخذ به أصحابه، من ابتلاء.. لقد كان فى كيانه شرارة من خير، ولكنه لم يقدح هذه الشرارة بعزيمة صادقة، وإرادة عاقلة، فانطفأت جذوتها، وأصبحت رمادا لا يرجى منه خير.. وهكذا كل من يجد فى نفسه نازعة من نوازع الخير ثم يغفل عنها، إنها تموت كما تموت النبتة البازعة على وجه الأرض، إن لم تجد من يرعاها، ويسقيها.. وفى قوله تعالى: «قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ؟» - بيان لموقف هذا الإنسان المقتصد فى عدوانه، وأنه هنا يذكّر أصحابه بموقفه الذي كان منه معهم.. «أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ؟» أي ألم أقل لكم، قولا لو أخذتم به لما حدث لنا هذا الذي حدث؟. وقد حذف مقول القول، لدلالة الحال عليه.. وهذا أولى عندنا من أن يكون مقول القول هو قوله: «لَوْلا تُسَبِّحُونَ» كما يذهب إلى ذلك أكثر المفسرين.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1100 وأما قوله تعالى: «لَوْلا تُسَبِّحُونَ» .. فهو كلام مستأنف، يعقّب به على قوله: «أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ؟» .. وفى هذا التعقيب، يدعوهم دعوة جديدة، يواجهون بها هذه الحال التي هم فيها، وهى أنهم وقد أخطئوا حين لم يأخذوا برأيه أولا، فإن هذا لا يمنعهم من أن يرجعوا الآن إلى الله، ويستغفروا لذنبهم بعد أن رأوا ما أخذهم الله به. فقوله تعالى: «لَوْلا تُسَبِّحُونَ» - هو من مقول أوسطهم، وهو تحضيض لهم على الإنابة إلى الله، واستغفاره على ما كان منهم.. أي هلا تسبحون الله؟ .. أي بادروا بذكر الله، فهذا الذكر هو عزاؤنا فى هذا المصاب الذي بين أيدينا.. ويكون النظم على هذا هكذا: ألم أقل لكم، ما علمتم ولم تأخذوا به؟ وهأنذا أقول لكم الآن قولا أرجو أن تأخذوا به: ألا تسبحون الله، وتستغفرون لذنبكم؟ قوله تعالى: «قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ» . هو استجابة من الجماعة لما دعاهم إليه أوسطهم، من تسبيح الله، فقالوا سبحان ربنا.. إنا كنا ظالمين.. لقد اعترفوا بذنبهم، واستغفروا ربّهم.. وهم بين يدى رحمته.. إن شاء- سبحانه- رحمهم، وقبل توبتهم.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» . (199: البقرة) قوله تعالى: «فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ» .. أي أنه كان منهم وهم على بساط التوبة والندم- كان منهم حديث يلوم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1101 فيه كلّ منهم نفسه، كما يلوم أصحابه.. فإن الجريمة مشتركة بيتهم جميعا، ولكل منهم نصيبه منها. قوله تعالى: «قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ» .. هذا ما انتهى إليه تلاومهم، ومراجعتهم لما كان منهم.. فلقد استبان لهم أنهم كانوا معتدين حقّا، قد ركبوا طريق الطغيان، والاعتداء على حقوق المساكين فيما خوّلهم الله سبحانه من نعم.. وهذا الاعتراف بالذنب، هو الطريق الصحيح إلى التوبة، إن صدقته النية، وانعقد عليه العزم.. قوله تعالى: «عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ» - هو من مقول القوم فى رجوعهم إلى الله سبحانه، بعد أن اعترفوا بذنبهم، وطلبوا المغفرة من ربهم، فكان هذا مدخلا لهم إلى أن يطمعوا فى فضل الله، وأن يرغبوا إليه فى أن يبدّلهم خيرا من جنتهم تلك التي ذهبت.. قوله تعالى: «كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» .. أي بمثل هذا العذاب الدنيوي نوقع عذابنا بأهل الضلال.. فهو عذاب قد ينالهم فى أموالهم، أو أنفسهم.. ولكنه ليس كلّ العذاب.. بل هناك عذاب أقوى وأشد وأكبر.. هو عذاب الآخرة.. وهذه التفرقة بين عذاب الدنيا، وعذاب الآخرة، لا يعرفها إلا أهل العلم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1102 الذين يؤمنون بالله، وباليوم الآخر، وما فيه من أهوال، وما أعد فيه للظالمين، والمجرمين، من عذاب عظيم.. والسؤال هنا: ما وجه الشبه بين هذا البلاء الذي ابتلى به أصحاب الجنة، وما ابتلى الله المشركين به؟. الذي ينظر فى الآيات التي عرضت لقصة اصحاب الجنة، يرى أنها تمثل تمثيلا دقيقا صادقا موقف المشركين من رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- ومن الخير الذي يبسط به يده الكريمة إليهم، وأنهم كانوا بين يدى هذا الخير، بين مغالين ومقتصدين فى التدبير السيئ له، وأن المغالين منهم قد غلبوا على المقتصدين، فكانوا جميعا فى هذا الموقف المنحرف من الخير الذي يدعون إليه، والذي يريدون حرمان الفقراء والمستضعفين من الاتصال به، والإفادة منه.. وهكذا تجرى أحداث قصة أصحاب الجنة خطوة خطوة، مع مسيرة المشركين، وموقفهم من تلك الجنة السماوية التي بين أيديهم.. لقد ضلوا عنها أول الأمر، وحرموا زمنا من ثمرها الطيب المبارك، ثم رجعوا إلى الله نادمين مستغفرين، بعد أن مسّهم بعض العذاب فى الدنيا، بما أصيبوا به فى بدر وغيرها، وبمن مات منهم على شركه وكفره، فعاد الله سبحانه وتعالى عليهم بالتوبة والمغفرة. الآيات: (34- 47) [سورة القلم (68) : الآيات 34 الى 47] إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1103 » التفسير: قوله تعالى: «إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ» . هو فى مقابل التهديد، الذي هدد به المشركون، الذي ابتلاهم الله سبحانه، كما ابتلى أصحاب الجنة، بما أخذهم به من عذاب قبل يوم الفتح، ثم إن وراء هذا عذابا شديدا فى الآخرة، لمن لم يعدل عن طريق الضلال، ويأخذ طريق الحق، والهدى، ويلتقى مع ربه على توبة وإيمان.. فالآخرة ليست دار عذاب وحسب، وإنما هى دار نعيم كذلك.. فهى دار عذاب للكافرين وأشياع الكافرين، وهى دار نعيم للذين آمنوا وعملوا الصالحات.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ» (20: الحديد) .. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1104 قوله تعالى: «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ» ؟ هو استفهام يراد به النفي.. أي أننا لا نجعل المسلمين كالمجرمين، فلا نسوّى بين هؤلاء وأولئك فى الجزاء.. فإذا كانت النار هى مثوى المجرمين، فإن الجنة هى دار المسلمين.. وفى التعبير عن المسلمين بدلا من المتقين، الذين جاء هذا الاستفهام تقريرا وتوكيدا لما وعدوا به فى قوله تعالى: «إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ» - فى هذا التعبير إشارة إلى أن ذلك كان فى أول الدعوة الإسلامية، إذ الدعوة فى أساسها دعوة إلى الإسلام، والذين استجابوا لها كانوا يسمون المسلمين.. فكلمة الإسلام حينئذ كانت الكلمة الجامعة للإسلام، والإيمان، والتقوى، جميعا، إذ لم يدخل فى الإسلام إلا من أشرق قلبه بنور الحق واليقين، فلم يكن إسلام من أسلم فى أول الدعوة، عن رهبة، أو طمع فى شىء من متاع الدنيا.. إن كل مسلم استجاب لدعوة الإسلام فى هذا الدور من الدعوة الإسلامية، كان مسلما، وكان مؤمنا، وكان تقيّا، أي آخذا الإسلام كلّه، ظاهرا، وباطنا، إذ كان الذين استجابوا للإسلام، إنما استجابوا عن فطرة سليمة، ونفس مطهرة من رجس الجاهلين، وقلوب متفتحة للحق، متشوفة إلى الهدى، وحيث وطنوا أنفسهم على احتمال البلاء، وتلقى ضربات المشركين، بثبات ويقين.. فلم يكن- والأمر كذلك- شىء يدخل على إسلامهم من نفاق أو طمع فى جاه أو مال.. بل هى التضحية والفداء، فى سبيل الحق الذي آمنوا به.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1105 فالمسلمون هنا فى قوله تعالى: «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ» يحققون بإسلامهم معنى التقوى فى أصدق مقاماتها، وأعلى منازلها.. وحسبهم أن يكونوا مسلمين ليضفى عليهم هذا الاسم صفة المؤمنين المتقين.. ومن جهة أخرى، فإن كلمة «المسلمين» فيها معنى السلام، والسلامة، وخلوّ الإنسان مما يؤاخذ عليه.. فإذا وقعت المقابلة بين المسلمين والمجرمين، وطلب إلى المشركين أن يجيبوا على هذا السؤال: أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟ لم يكن لهم أن يشغبوا، وأن يجدوا مهربا من الجواب الذي يقهرهم الواقع على النطق به.. فإنهم لو قالوا: نعم، نسوى بين المسلمين والمجرمين، فإن المسلمين الذين استجابوا لمحمد، هم فى نظرنا مجرمون- إنهم لو قالوا هذا لوجدوا من يسفّه رأيهم.. لأنهم حكموا فى قضية غير القضية التي دعوا إلى قولهم فيها.. إن القضية ليست بين الإسلام والشرك، وإنما هى بين أهل السلام، وبين المجرمين.. فهل يسوّى بين البريء والمجرم؟ ولهذا جاء قوله تعالى: «ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» منكرا عليهم أن يقولوا بهذه التسوية بين المسلمين والمجرمين. ولو أنه لم يكن لكلمة المسلمين، هنا، منصرف إلى معنى آخر غير معناها الديني الذي هو علم على أتباع محمد- لو أن ذلك كان كذلك، لما كان هناك وجه للاعتراض على المشركين فى تسويتهم بين المسلمين والمجرمين، لأن ذلك- على ما فيه من ضلال وسفه- هو رأى المشركين فى المسلمين. وعلى هذا فلا يكون لقوله تعالى: «ما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟» متوجه إليهم، لأنهم حكموا بما يعتقدون.. فلا يطلب منهم- والأمر كذلك- أن يقولوا غير ما قالوه- وإن كان ضلالا، وزيفا!! الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1106 أمّا لو كان لكلمة المسلمين، مصرف إلى معنى آخر غير معناها الديني، كالسلامة، والبراءة، ونحوها- فإن التسوية بين البريء والمجرم لا يقول بها أحد، ولو قال بذلك لتوجه إليه اللوم، والإنكار، والتسفيه.. وهذا ما يتحقق بكلمة «المسلمين» التي تشير إلى أناس بأعيانهم، هم أصحاب محمد، ثم إلى صفة بارزة في هؤلاء الأصحاب، وهى أنهم أهل سلام، لم يعتدوا على أحد، ولم يعترضوا طريق أحد، بل إنهم هم الذين كانوا يتعرضون للأذى والضرّ من هؤلاء المجرمين، الذين يلقونهم بالمساءة ابتداء من غير سبب! وأما التعبير عن «المجرمين» بدلا من المشركين، الذين يواجهون بهذا الحديث، فهو وصف يلبسهم مع الشرك، لباس المجرمين، الذين يساقون إلى المحاكمة، متلبسين بجرمهم. فقد يكون المشرك، ولا سلطان لأحد عليه، يأخذه بشركه، ويعاقبه عليه، ولكنّ هؤلاء المشركين، هم واقعون تحت سلطان قاهر، لا يفلتون من عقابه الذي حق عليهم بعد أن بلّغهم الرسول رسالة ربه.. فهم قبل بعثة الرسول إليهم، كانوا مشركين، واقعين تحت قوله تعالى: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (15: الإسراء) .. أما الآن، وقد جاءهم الرسول، وبلّغهم ما أرسل به إليهم، ولم يقبلوا منه ما دعاهم إليه من الإيمان بالله وحده- أما الآن، فهم مشركون، مجرمون، يساقون إلى الحساب، والجزاء.. وإنه لا جزاء للمشركين المجرمين إلا النّار.. قوله تعالى: «ما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟» هو تعقيب على قوله تعالى: «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ» .. وفى هذا نخس المشركين، وإيقاظ لهم من غفلتهم، وكشف لهم عن ضلالهم.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1107 إذ كيف يسوّى بين المسلمين والمجرمين؟ بين أهل السلامة والاستقامة، وبين أصحاب الآثام، وأرباب الجرائم..؟ إن هذا لا يقول به عاقل، ولا يقبله منطق العقلاء! قوله تعالى: «أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ» هو إضراب على إجابتهم الباطلة، التي أجابوا بها فيما بينهم وبين أنفسهم، على ما سئلوا عنه فى قوله تعالى: «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ؟» والتي أنكرت عليهم، وسفهت أحلامهم من أجلها.. فإذا كان لهم ما يدفعون به عن أحلامهم تلك السفاهة، وأن يضيفوا ما أجابوا به إلى كتاب درسوه وتلقوا عنه هذا الجواب، فليأتوا بهذا الكتاب، إن كانوا صادقين، وليأخذوا من هذا الكتاب ما يختارون، مما يقيم لهم حجة على ما يقولون، فإن أي قول يقولونه من هذا الكتاب سيقبل منهم أيّا كان منطقه، وأيّا كان موقعه من الحق.. إنهم أميّيّون، لا كتاب معهم، وإتيانهم بكتاب أمر غير ممكن لهم. وفى هذا تحدّ للمشركين، ونفى قاطع أن يكون لهم كتاب.. إنهم لم يكونوا أبدا أهل كتاب، ولو أنهم أرادوا أن يكونوا أصحاب كتاب لما كان لهم غير هذا الكتاب الذي يتلوه عليهم رسول الله.. فقوله تعالى: «إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ» هو احتكام إلى هذا الكتاب، وهو القرآن الكريم، وإلى مقولاته، وهو كتاب لا وجود له بين أيدى المشركين الذين أبوا أن يقبلوه، وأن يضيفوا أنفسهم إليه. قوله تعالى: «أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ؟ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ» .. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1108 وإذا لم يكن ثمة كتاب بين أيدى المشركين، يحتكمون إليه، ويأخذون مقولاتهم منه.. فهل لهم على مقولاتهم تلك، عهد موثّق بالحلف عليه مع الله سبحانه وتعالى، لا ينقطع إلى يوم القيامة؟ إن يكن هذا، فإن لهم ما يحكمون، دون أن يردّ حكمهم! والحقّ أنه لا عهد لهم من الله! وإذا لم يكن بينهم وبين الله عهد، وإذا لم يكن فى أيديهم كتاب، فلم يبق إذن معهم إلا عقولهم تلك التي غشيها الضلال، واستبد بها السفه، والتي خرجت منها تلك المقولات الفاسدة، وهذه الأحكام الباطلة، التي يؤخذون بها، ويحاسبون عليها، دون أن يكون لهم شفيع من كتاب درسوه، أو عهد مع الله وثقوه.. قوله تعالى: «سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ» . هو أمر للنبى الكريم أن يلقى المشركين بهذا السؤال، وهو أن يخرجوا من بينهم الزعيم الذي يتولى عنهم القول بأن لهم كتابا، أو أن لهم مع الله عهدا، ثم يكون هذا الزعيم ضامنا وكفيلا بتقديم الحجة على هذا أو ذاك، ساعة الحساب، ويوم الجزاء! فأين منهم من يتولّى هذا الأمر عنهم، ويحمل مسئوليته دونهم؟ قوله تعالى: «أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ؟ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ» .. وإذا لم يكن للمشركين شىء من هذا كله، فلا كتاب معهم، ولا عهد من الله لهم، ولا زعيم منهم يزعم أن لهم شيئا من هذا- فهل لهم شركاء الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1109 مع الله، قد اتخذوهم من دون الله، يدفعون عنهم عذاب يوم القيامة، الذي ساقتهم إليه عقولهم الضالة؟ فإن يكن لهم شركاء ينصرونهم من دون الله، فليأتوا بهؤلاء الشركاء إن كانوا صادقين.. وقد أخذ القرآن الكريم فى هذا كل مسلك يمكن أن يسلكه المشركون للإفلات من تلك الجريمة، جريمة الشرك والكفر، وسدّ عليهم منافذ الخلاص من بين يديه منها، ومن العقاب الراصد لهم عليها.. لقد سقطت من أيديهم كل حجة تسند ضلالهم وكفرهم. وقوله تعالى: «يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ» . هو جواب على سؤال من المشركين يواجهون به هذا التهديد الذي سيق إليهم من قوله تعالى: «أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ» . وكأنهم إذ يسمعون هذا التهديد المتحدّى يقولون: «متى تأتى بهؤلاء الشركاء» ؟ إنهم حاضرون معنا.. إنهم آلهتنا تلك التي نعبدها.. فيجيئهم الجواب: «يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ» .. وقوله تعالى: «يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ» هو كناية عن يوم القيامة، وما فيه من شدائد وأهوال.. فإن العادة قد جرت أنه حين يشتد الأمر يشمّر الإنسان عن ساقه، حتى لا تعوقه ملابسه عن الحركة، والجري، فى مواجهة الشدائد، أو الفرار منها.. وفى هذا يقول الشاعر: قد شمّرت عن ساقها فشدّوا ... وجدّت الحرب بكم فجدوا وقوله تعالى: «وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ» أي فى هذا اليوم يوم القيامة «يدعى المشركون إلى السجود» أي تدعوهم داعية حالهم إلى أن يستجيبوا لله، وأن يؤمنوا به، ليلحقوا بالمؤمنين، ويخلصوا من عذاب النار الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1110 التي يساقون إليها، ولكن لا يستطيعون ذلك، أي لا يمكّنون من هذا، ولا يفعلونه، لأن الآخرة دار جزاء وحساب، وليست دار عمل وكسب.. لقد مضى زمن السجود، فلا سبيل لهم إليه.. قوله تعالى: «خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ» .. هو بيان لحال المشركين يومئذ، حين حاولوا السجود لله، وتدارك ما فاتهم، فلم يفلحوا، وقد لبستهم حال من الغم، والكمد، فخشعت لذلك أبصارهم ذلة وانكسارا.. وقوله تعالى: «وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ» .. هو جواب لسؤال مقدر، وهو: ما ذنب هؤلاء المشركين إذا دعوا إلى السجود ولم يستطيعوا؟ وهل يكلّف الإنسان ما لا يستطيع؟ وهل يحاسب على ما يجاوز استطاعته؟ فكان الجواب: إنهم لم يحاسبوا على عجزهم عن السجود يوم القيامة، لأنّهم فى حال لا يمكّنون فيها من هذا السجود، وإنما هم يحاسبون على امتناعهم عن السجود، حين دعوا إليه وهم سالمون، أي وهم فى الدنيا، حيث تصحّ العبادة، وتقبل الأعمال.. فالمراد بالسلامة هنا، هو سلامة الوقت الذي تصحّ فيه الأعمال، وتقع موقع القبول. قوله تعالى: «فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ» ذرنى، أي دعنى، واتركني. وهذا الفعل من الله سبحانه، هو تهديد مزلزل لهؤلاء المشركين، الذين يكذبون بآيات الله، ولا ينتفعون بوعد أو وعيد منها.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1111 إنها حرب يعلنها الله سبحانه وتعالى على المكذبين بآيات الله، وحسب المكذبين بآيات الله، ضياعا وهلاكا أن يحاربهم الله.. والواو فى قوله تعالى: «وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ» - واو المعيّة، أي بمعنى مع.. وقوله تعالى: «سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ» أي سنسوقهم إلى الهلاك رويدا رويدا، وندفع بهم إلى جهنم خطوة خطوة، دون أن يشعروا أنهم سائرون إلى هذا البلاء العظيم، بل إنهم ليحسبون أنهم على هدى، وأنهم على موعد مع الخير العظيم الذي يلوح لهم من وراء هذا السراب الخادع الذي يتراءى لهم، فإذا انتهى بهم المطاف إلى غايته، وتكشف لهم أنهم كانوا مخدوعين بهذا السراب، تضاعفت حسرتهم، وعظمت مصيبتهم. وفى قوله تعالى: «فذرنى» - مع أن الله سبحانه وتعالى لا يحجزه أحد عما يريد- إشارة إلى إطلاق يد الله فيهم بالعذاب والنكال، فهو مثل قوله تعالى: «سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ» .. والمراد بالحديث هنا فى قوله تعالى: «فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ» - هو القرآن الكريم، وما يسوق إلى المشركين من نذر بالبلاء والعذاب. والاستدراج: هو فتح منافذ الإغراء إلى الشيء. واستدراج الله سبحانه وتعالى لأهل الضلال، هو أن يخلى الله سبحانه وتعالى بينهم وبين أنفسهم، وما زينت لهم من أباطيل، فينتقلون من ضلال إلى ضلال، خطوة خطوة، حتى يقعوا فى الهاوية.. قوله تعالى: «وَأُمْلِي لَهُمْ.. إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ» . أي ومن هذا الاستدراج الذي يستدرج به الله سبحانه، المشركين، أنه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1112 يمهلهم، ويملى لهم، فلا يعجّل لهم العذاب فى الدنيا، حتى تمتلىء كأسهم من الآثام والمنكرات.. وقوله تعالى: «إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ» أي إن تدبيرى محكم، فإذا أمليت لظالم فإنما أملى له، لأضاعف له العذاب، لمضاعفته هو المنكرات والسيئات، حين امتدّ عمره، وكثر المال فى يده، ليحارب به الله، ويسلك به كل سبيل من سبل الفساد والضلال. قوله تعالى: «أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ» . هو مواجهة للمشركين بهذا السؤال التهكمى، بعد أن ووجهوا بالوعيد والتهديد فى قوله تعالى: «فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ» .. إذ ماذا يحجزهم عن الاستجابة لهذا الخير المدعوّين إليه؟ وما لهم لا يمدون أيديهم إليه؟ أأنت أيها النبي تطلب إليهم ثمنا لهذا الخير الذي تقدمه لهم، حتى إن هذا الثمن يثقلهم، ويحول بينهم وبين الوصول إلى هذا الخير؟ إن أحدا لم يطلب منهم شيئا فى مقابل هذا الرزق الكريم المبسوط للناس جميعا.. ولكن هى نفوسهم الخبيثة التي عافت هذا الطعام السماوي، ووقفت إزاءه نافرة منه، وهو يقدّم إليها بلا ثمن.. قوله تعالى: «أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ» .. أي أم عندهم علم الغيب، فهم يستملون منه أنباء المستقبل، ويرون على ضوئه ما ينتظرهم على طريق الحياة؟ إنهم لا يلتفتون إلى هذا النور الذي بين يدى النبىّ، الذي لا يسألهم أجرا عليه. فهل معهم نور يهتدون به؟ وهل عندهم علم من الغيب يكشف لهم معالم الطريق الذي هم سائرون فيه؟ إنهم يسيرون فى ثقة واطمئنان، ولا يدرون الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1113 أنهم محجوبون عن رؤية المصير المشئوم الذي هم صائرون إليه.. إنهم أشبه بالماشية التي تجترّ فى هدوء واطمئنان، وهى في طريقها إلى المذبح! الآيات: (48- 52) [سورة القلم (68) : الآيات 48 الى 52] فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52) [النبي.. وصاحب الحوت] التفسير: قوله تعالى: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ» بهذه الآية، والآيات التي بعدها تختم سورة «القلم» التي كانت معرضا لضلال المشركين، وسفههم، وتطاولهم على رسول الله، كما كانت معرضا للدفاع عن القرآن الكريم، وعن الرسول، وتتويجه بهذا التاج الرباني الذي زينه به الله سبحانه وتعالى، بثنائه عليه، فى قوله سبحانه: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» .. ثم تتابعت آيات السورة، تتوعد المشركين، وتهددهم بالعذاب الأليم فى الدنيا والآخرة، إذا هم لم يستجيبوا للرسول، ولم يتلقوا ما تمتد به إليهم يده، من رزق الله الذي لا يسألهم عليه أجرا.. ثم يجىء هذا الختام الذي يتلّقى فيه النبي من ربه سبحانه دعوة إلى الصبر على الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1114 ما يلقى من سفاهة السفهاء، وحماقة المحمقين من قومه.. فهذا هو حكم الله، الذي يدعوه إلى امتثاله: إنه الصبر، ولا شىء غير الصّبر.. وقوله تعالى: «وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ» - هو شدّ من عزم النبىّ على الصبر، وتوكيد لالتزامه، والتمسك به، وألا يزايل موقفه الذي هو فيه، كما فعل صاحب الحوت- وهو يونس عليه السلام- حين أخلى مكانه بين قومه، وتركهم مغاضبا لهم، بعد أن دعاهم إلى الله، وتوقفوا عن إجابة دعوته.. ولو أنه صبر على عنادهم، وعاود نصحهم يوما بعد يوم، لاستجابوا له، فقد كان فيهم- مع هذا العناد- بقيّة من خير، يمكن أن تكون شرارة يتوهج منها نور الإيمان، لو وجدت من ينفخ فيها برفق، وأناة، ويتلطف فى الإمساك بها من غير تعجل.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى عن موقف يونس عليه السلام: «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» (87: الأنبياء) .. فيونس عليه السلام- هو الذي ذهب مغاضبا لقومه، أي محدثا الغضب من قبل أن تجتمع لديه أسبابه القويّة الداعية إليه.. وقوله تعالى: «إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ» بيان لحال يونس عليه السلام، وهو فى بطن الحوت، ثم بيان لحاله، وهو ينادى فى جوف الحوت.. فالله سبحانه وتعالى ينهى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- عن أن يكون فى موقف كموقف يونس- عليه السلام- حين نادى ربه فى حال هو فيها مكظوم، أي مغيظ، محنق، محتنق من الغيظ، والضيق.. والكظم: مخرج النفس من الصدر، وكظم فلان: أي حبس نفسه.. وكظم الغيظ: حبسه، ومنه قوله تعالى: «وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ» . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1115 ومن هنا يتبين أن المكظوم، «غير الكاظم.. فالكاظم، هو الذي غلب غيظه وقهره، وأما المكظوم، فهو الذي ملكه الغيظ، وقهره، وغلبه على أمره.. وعلى هذا، فإن الذي يحذّر النبي منه، هو ألا يغلبه الغيظ، كما غلب يونس عليه السلام، بل المطلوب منه، هو أن يكظم غيظه، وأن يقهره، وألا يجعل لهذا الغيظ سلطانا عليه، يحمله على مفارقة قومه، وإخلاء مكانه فيهم، كما فعل يونس.. وفى هذا يقول الحق تبارك وتعالى: «وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ.. وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (134: آل عمران) فقوله تعالى: «وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ» أي لا تكن كيونس إذ نادى ربه، وقد غلبه الغيظ، وحمله على أن يترك قومه، وينزل فى هذا المكان الضيق، وهو بطن الحوت. فالذى يحذّر منه النبي، ليس هو مناداة ربه، وإنما مناداته فى حال يكون قد غلبه فيها غيظه.. فإن دعاء الله، واللّجأ إليه- وإن كان محمودا على كل حال وفى كل حال- إنما يكون فى أحمد أحواله، وأعلى مقاماته، حين يكون صاحبه متجملا بالصبر على ما أصابه، ممسكا بزمام نفسه، ثقة بالله، واطمئنانا إليه، في أشد الأهوال، وأعظم المحن، فلا يضيق بمحنة، ولا يكظم بشدة، لأنه مسلم أمره إلى لله، لا جىء إلى حمى سلطانه.. قوله تعالى: «لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» أي أن يونس- عليه السلام- لولا أن أدركته نعمة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1116 ربه، وإحسانه إليه «لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ» أي لخرج من بطن الحوت وهو مذموم ملوم من ربّه.. ولكن الله سبحانه وتعالى، استجاب له، حين دعاه من بطن الحوت.. ثم اختاره ربّه من بعد أن خرج من بطن الحوت، فخلع عليه لباس النبوة، الذي عرّى منه أو كاد، حين فارق قومه.. فخروج يونس من بطن الحوت، هو رحمة من رحمة الله به، وإعادته إلى وضعه الأول فى مقام النبوة، هو نعمة مجددة أنعم الله بها عليه، إذ جعله بها من الصالحين، الذين سلموا من الذم، ونجوا من الملامة والعيب.. إنه بعث جديد له. ففى قوله تعالى: «فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ» - إشارة إلى حال جديدة، أعقبت الحال التي خرج عليها يونس من بطن الحوت، فهو- عليه السلام- خرج كما يخرج السجين من سجنه، يحمل معه آثار الذنب الذي كان منه.. ولكن الله سبحانه تدارك عبده، فأزال عنه هذا الأثر، وخلع عليه خلعة النبوة التي كانت تنتظره، على باب السجن الذي خرج منه، وبهذا ردّ إليه اعتباره، بعد هذا البلاء العظيم.. والسؤال هنا: ماذا كان من النبي- عليه الصلاة والسلام- من موقف مشابه لموقف يونس- عليه السلام- حتى ينبّه إلى الحذر من أن يأخذ الطريق الذي أخذه صاحب الحوت؟ نقول- والله أعلم-: كان النبي صلوات الله وسلامه عليه- قد بلغ به الحال بينه وبين قومه، ماملأ صدره ضيقا بهم، وحيرة فى أمرهم، بعد أن لقيهم بكل طريق، وجاءهم بكل حجة، فلم يكن منهم إلا السفاعة، والتطاول، والإمعان فى المجافاة له، والأذى لأصحابه الذين آمنوا به، وإن الموقف ليبلغ غايته من التأزم والضيق، حين يخرج النبي- صلوات الله وسلامه عليه- الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1117 إلى «ثقيف» بالطائب، ويعرض عليهم دين الله، ويبلّغهم ما أرسل به إلى الناس، ثم لا يلقى منهم إلا استهزاء وسخرية، وإلا تطاولا بالألسنة، ورجما بالأحجار، فيتركهم وقد أيئسوه من أن يجد لدعوته أذنا تسمع، أو عقلا يعى وهنا تنزل تلك الآيات على الرسول الكريم، داعية إياه إلى الصبر، محذرة إياه من أن يأخذ موقفا كموقف أخ له من أنبياء الله قبله، هو يونس عليه السلام.. وهذا على أن هذه الآيات مكية، فى سورتها المكية.. أما على الرأى الذي يقول إنها آيات مدنية فى السورة المكية، فإنه يجعل نزول هذه الآيات فى أعقاب غزوة أحد، بعد أن أصاب المشركون ما أصابوا من صحابة رسول الله، ومنهم عمه حمزة. رضى الله عنه، وبعد أن أصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من سهام المشركين حتى شجّ رأسه، وكسرت رباعيته وسال دمه. وعلى أىّ، فإن نزول هذه الآيات، كان فى حال اشتد فيها ضيق النبي، وكاد يقع اليأس فى قلبه من إيمان هؤلاء المشركين، الذين ركبوا رءوسهم، وأسلموا للشيطان قيادهم.. هذا، وفى تلك الآيات إشارة إلى أن عاقبة هؤلاء المشركين، هى الإيمان بالله، والاستجابة للرسول، كما آمن قوم يونس، بعد أن عاد إليهم، وجدّد دعوتهم إلى الإيمان بالله.. كما يقول سبحانه: «فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ» (98: يونس) - وفى هذا إشارة من أنباء الغيب إلى مستقبل هذه القرية، وهى مكة، وأن أهلها سيؤمنون، كما آمن قوم يونس. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1118 فهؤلاء المشركون الذين يقفون هذا الموقف العنادىّ الضالّ من رسول الله، سوف يدخلون فى دين الله، وسوف يرى فيهم النبىّ القوم المؤمنين الذين تقوم بأيديهم دولة الإسلام.. وغاية ما هناك أن يصبر النبىّ، وأن يحتمل هذا الموقف المتأزم بينه وبين قومه، فإن الضيق إلى فرج، وإن العسر إلى يسر. وهكذا كانت الآية من البشريات المسعدة، التي بشّر بها النبىّ فى قومه، الذين كان شديد الحرص على هدايتهم ونجاتهم من الهلاك الذي يتدافعون إليه.. وفى قوله تعالى: «وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ» . هو حال من فاعل الفعل فى قوله تعالى: «وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ» .. والفاعل هو ضمير يعود إلى النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه، المتلقّى لخطاب ربّه.. أي فاصبر لحكم ربك، وإن كان قومك يرمونك بنظراتهم القاتلة. فالله سبحانه وتعالى، إذ يدعو النبىّ إلى الصبر على المكاره التي يحملها من قومه، يدعوه إلى هذا فى حال بلغت فيه عداوة قومه غايتها، حتى إنهم ليكادون يزلقونه أي يسقطونه فزعا من نظراتهم المصوّبة إليه بسهام الحنق والغيظ والانتقام.. فهم حين يستمعون إلى الذكر- وهو القرآن الكريم- تغلى مراجل غيظهم، فتنطلق من أعينهم نظرات ملتهبة كأنها السهام، فإذا رأى النبىّ صلى الله عليه وسلم هذه النظرات تنوشه من كل جانب، فزع، وكرب وكاد يسقط من هول ما يطلع عليه من عداوة القوم!! وللعين قدرتها الخارقة على إظهار مكنون الإنسان، من حبّ أو بغض، ومن وعد أو وعيد، فهى المرآة التي تنعكس عليها مشاعر الإنسان، ويتجلى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1119 على صفحتها ما يعتمل فى كيانه من رضا أو سخط، ومن سكينة أو فزع، حتى ليبلغ الأمر أن تكون العين سلاحا قاتلا، يصيب مقاتل من يرمى بها.. وفى هذا يقول الشاعر، فى أعداء التقوا بنظراتهم المتوعدة بالشر، قبل أن يلتقوا بسيوفهم المسلولة للقتال.. يقول: يتقارضون «1» إذا التقوا فى موطن ... نظرا يزيل مواقع الأقدام وفى النظرة الحاسدة شىء من هذا، فإنها ترمى المحسود، فى غفلة منه، فتصيب منه مقتلا.. لأنها نظرة منطلقة من قلب يغلى كمدا، وحسرة، على ما بيد المحسود من نعمة الله. وليس هذا ما لقدرة العين وسلطانها فى الإنسان وحده، بل إنها عند كثير من الحيوانات تكون سلاحا عاملا فى الصراع الدائر بينها.. فالحيّة، كثيرا ما تجد فى نفسها القدرة على إصابة عدوّها بنظرة منها، فإذا أرسلت إلى عدوها نظرة والتقت عينه بعينها، شلت حركته وجمد فى مكانه، وربّما مات قبل أن تصل إليه..! فالصبر الذي يدعى إليه النبىّ من ربه، هو فى تلك الحال، التي بلغت فيه عداوة القوم له غايتها، بما يرمونه به من نظرات ملتهبة، حين يسمعون آيات الله تتلى عليهم.. وليس هذا النظر المشحون بسموم العداوة وحسب، بل إنهم يرمونه مع هذا بسهام أخرى من أفواههم، كقولهم: مجنون، وساحر..   (1) يتقارضون: أي يتبادلون، كأنما يقرض أحدهما الآخر شيئا، فيرد المقترض ما اقترض. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1120 وقوله تعالى: «وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ» .. هو رد على هذه التهمة الفاجرة الظالمة التي تنطلق بها أفواه هؤلاء المشركين، وهو تثبيت للنبى فى موقفه، وإلفات له إلى ما بين يديه من آيات القرآن الكريم، الذي هو ذكر للعالمين، وحياة مجددة للناس، جيلا بعد جيل، وإنه لا ذكر، ولا قدر لمن فاته الاتصال بهذا الكتاب، وتلقّى عنه، وقطع مسيرة الحياة فى ظله، وهذا مثل قوله سبحانه وتعالى: «وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ» (44: الزخرف) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1121 69- سورة الحاقة نزولها: مكية، نزلت بعد سورة الملك. عدد آياتها: اثنتان وخمسون آية.. عدد كلماتها: مائتان وخمس وخمسون كلمة.. عدد حروفها: ألف وأربعمائة وثمانون حرفا.. مناسبتها لما قبلها كان ختام سورة «القلم» دعوة من الله سبحانه وتعالى، إلى النبي الكريم أن يصبر على موقفه من قومه، وألا يتحول عنه، كما تحول صاحب الحوت، وإن لقى من قومه أشدّ العداوة، والشنآن، وأن يمضى فى طريقه معهم منتظرا حكم الله بينه وبينهم، كما حكم الله بين إخوانه النبيين وأقوامهم.. وتجىء سورة «الحاقة» مفتتحة بهذه المعارض التي يتجلى فيها ما حكم الله سبحانه به بين بعض أنبيائه وأقوامهم، وما لقى المكذبون المعاندون منهم من مرسلات الهلاك عليهم فى الدنيا، التي أخذتهم مرة واحدة، فما أبقت منهم باقية.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1122 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الآيات: (1- 12) [سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12) التفسير: قوله تعالى: «الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ» . هكذا تبدأ السورة الكريمة، بهذه الكلمة: «الحاقة» التي تقع على الأسماع موقع الصيحة الراعدة المزلزلة فى هدأة الليل تغشى الناس بالفزع المذعور، الذي تدهش له العقول، وزيغ به الأبصار، وتخرس معه الألسنة، وقد امتلأ الجو بهذا التساؤل الكبير الذي يطلّ من كل عين: ما هذا؟ ما هذا؟. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1123 «مَا الْحَاقَّةُ؟» . إنها مع صوتها الراعد المزلزل، ملففة فى أطواء المجهول.. لا يعرف لها وجه، ولا تبين لها حقيقة، حتى لكأنها القدر، ترمى الناس بما فى يديها من نذر، من حيث لا يحتسبون، ولا يقدّرون.. وهذا مما يضاعف فى فزع الناس منها، وفى الكرب المشتمل عليهم إزاءها.. «وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ؟» . ومن يستطيع أن يجيب على هذا السؤال: «مَا الْحَاقَّةُ؟» إن أحدا لا يستطيع أن يتصور حقيقتها، أو يبلغ إدراكه الإحاطة بها.. وفى هذا التجهيل فى الجواب الذي يجاب به عنها، مضاعفة للفزع والكرب المستوليين على الناس منها. وكأنّ المعنى هو: «الْحَاقَّةُ» .. وهذا إخبار من الله سبحانه وتعالى بها، وإعلان للناس بوقوعها حيث يشتمل عليهم الفزع، ويستبدّ بهم الخوف من مجرد التلفظ بها.. «مَا الْحَاقَّةُ؟» وهذا سؤال من الناس عن هذا الكائن العجيب، الذي يشيع ذكره الرعب والفزع.. وكأنهم يتجهون بهذا السؤال إلى النبىّ الذي ألقى بهذا الاسم على أسماعهم!! «وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ؟» وهذا جواب من الله سبحانه على تساؤل السائلين للنبىّ عن الحاقة.. إن النبىّ الذي يسألونه، ويرجون الجواب عنده، لا يدرى ما هى الحاقة؟ إنها شىء من وراء تصورات العقول، واحتمال المدارك.. أما معنى الحاقة من حيث اللغة، فهو اسم فاعل من الحقّ.. وحقّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1124 الشيء: وجب.. ووقع، فالحاقة لغة، بمعنى الواجبة، والواقعة.. أي الواجبة الوقوع.. وهذا يعنى أنها شىء سيقع حتما.. أما ما صفة هذا الشيء الذي سيقع، وما صورته فى العقول- فهذا شىء لا يمكن أحدا أن يدرك وصفه، أو يتمثل صورته.. إنه شىء مهول لم يقع للناس شىء مثله، فكيف يستقيم له تصور فى أفهامهم؟ وجواب السؤال عن الحاقة فى قوله تعالى: «مَا الْحَاقَّةُ» يمكن أن يكون هو قوله تعالى «كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ» .. كما سنتعرض لهذا بعد قليل، ويمكن أن يكون السكوت عن الجواب هو الجواب، لأن الذين كفروا لا يستمعون إلى هذا الجواب، ولا يؤمنون به، كما فعلت ذلك عاد وثمود.. وإذن، فخير جواب على هؤلاء السائلين المتعنتين، هو عدم الردّ عليهم، وتركهم فى بلبال وحيرة. قوله تعالى: «كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ» . يمكن أن يكون هذا- كما قلنا- جوابا للتساؤل عن «الحاقة» .. وهو جواب من الله سبحانه وتعالى، بعد أن نفى عن النبىّ إمكان الإجابة عليه.. كما يمكن أن يكون استئنافا يراد به التعقيب على هذه التساؤلات عن الحاقة.. وفى هذا الجواب تشنيع على فعلة ثمود وعاد، وتكذيبهم بالقارعة.. فكأن التكذيب بالقارعة، يضاهى الحاقة نفسها، فى هو لها الذي لا تتصوره العقول، وكأنّ الجواب هو: كذبت ثمود وعاد بالحاقة التي هذا شأنها.. و «القارعة» كائن مجهول أيضا، كالحاقة.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1125 فالقارعة، والحاقة، كلمتان مترادفتان.. وقد سميت بكل منهما سورة من سور القرآن الكريم.. وبدئت سورة القارعة بلفظ «القارعة» كما بدئت سورة الحاقة بلفظ «الحاقة» .. وكما جاء نظم الآيات الثلاث الأولى من الحاقة، جاء نظم الآيات الثلاث الأولى من القارعة.. هكذا: «الْقارِعَةُ، مَا الْقارِعَةُ؟ وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ؟» .. وقد كشفت سورة «الحاقة» عن وجه من وجوه هذه «الحاقة» وما بين يديها من نذر البلاء، فيما أخذ الله المكذبين بها، من بلاء ونكال، هو أشبه فى هوله بما يكون من أحداث الساعة، أو موقف الحساب والجزاء يوم القيامة، وذلك فيما يقول سبحانه وتعالى، عن مهلك ثمود وعاد.. يقول سبحانه: «فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ» . فهذا ما أخذ الله به المكذبين «بالقارعة» من ثمود، وعاد. فأما ثمود، فقد أهلكهم الله بالطاغية، وهى الصاعقة المزلزلة العاتية، التي جاوزت كلّ حدّ معروف لها فى ظواهر الطبيعة، ولهذا سميت طاغية، ولهذا كان عقاب ثمود بها، لأنها طغت، واعتدت على صالح رسول الله، وعلى ناقة الله، كما يقول سبحانه: «كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها وَلا يَخافُ عُقْباها» (11- 15 الشمس) وكما يقول جل شأنه: «وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» (17: فصلت) . وأما عاد، فقد أهلكهم الله بريح صرصر عاتية.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1126 والريح الصرصر، هى الريح العاصفة الباردة، القاتلة ببردها. وفى قوله تعالى: «سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً» - إشارة إلى اشتمال العذاب عليهم هذا الزمن الذي تجرعوا فيه غصص الموت، قطرة قطرة.. وحصر عدد الليالى بسبع، وعدد الأيام بثمانية- إشارة إلى أن الأيام تسبق الليالى، وأن النهار يسبق الليل، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ» (40: يس) » .. فهذا هو كتاب الله الذي يصدّق بعضه بعضا، «وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً» (82: النساء) . كما يشير هذا إلى أن العذاب وقع بالقوم نهارا، وجاءهم عيانا، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ» (24: الأحقاف) . وقوله تعالى: «حسوما» صفة أيام، التي تحتوى فى كيانها الليالى أيضا لأن الأيام ثمانية، والليالى سبع.. فهو فى حقيقته صفة للأيام والليالى معا. والحسوم، من الحسم، وهو القطع.. يقال حسم فلان الأمر: أي قطعه.. ومنه الحسام، وهو السيف، إذ أن من أفعاله أنه يحسم حياة من يضرب به. وأعجاز النخل: أصولها، الممسكة بها على الأرض.. والخاوية: الجوفاء، التي فرغ جوفها، بعد موتها وجفافها. وفى تشبيه القوم بأعجاز النخل- إشارة إلى ما كان عليه القوم من فراهة الأجسام، وضخامة الأبدان، وقوة الكيان، كما وصفهم الله سبحانه على لسان   (1) انظر فى هذا تفسيرنا لتلك الآية فى سورة «يس» الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1127 نبيهم هود، عليه السلام: «وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً» (69: الأعراف) ويقول سبحانه: «وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ» (130: الشعراء) . وكما كشفت سورة «الحاقة» عن هذا الهول الذي حلّ بالمكذبين بالقارعة، والذي تتمثل فيه بعض مشاهد القيامة- كشفت سورة «القارعة» عن أحداث القارعة نفسها، وهى القيامة، كما يقول سبحانه: «الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ» وهكذا تلتقى السورتان: «الحاقة» و «القارعة» فى تصوير أحداث هذا اليوم العظيم، يوم القيامة، الذي يكذب به المشركون، ويلحّون في التساؤل عنه، وعن اليوم الذي يقع فيه، تحديا لما ينذرهم به الرسول من أهواله، وإمعانا فى تكذيبه، حيث يلقاهم العذاب فى الدنيا والآخرة جميعا. قوله تعالى: «وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً» . هو معطوف على قوله تعالى: «كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ» . والمؤتفكات: هى قرى قوم لوط، التي ائتفكها الله، أي قلبها على أهلها، وجعل عاليها سافلها.. وقد جاء فى آية أخرى أنها مؤتفكة، وذلك فى قوله تعالى: «وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى» (53: النجم) .. كذلك ورد فى أكثر من موضع من القرآن أنها قرية. كما فى قوله تعالى: «إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ» (31: العنكبوت) .. فما تأويل هذا؟ تأويل هذا- والله أعلم- أن هذه القرية كانت رأس القرى التي حولها، فهى أشبه بالأمّ لها.. ومن هنا كان الحديث عنها، وعن أهلها، لأنهم هم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1128 الذين يمثلون غالبية القوم، ووجوههم، كما تحدث القرآن الكريم عن مكة ووصفها أنها أمّ القرى، فقال تعالى: «وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها» ! (92: الأنعام) . «والخاطئة» أي الفعلة الخاطئة، التي بيّنها الله سبحانه وتعالى بقوله: «فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ» ومجيئهم بالخاطئة: أي ارتكابهم الخطيئة، وحملهم إياها يوم القيامة. وفى الجمع بين فرعون، وقوم لوط، مع اختلافهما زمانا، ومكانا، وخطيئة- إشارة بليغة محكمة، إلى ما بين القوم من نسب قريب فى الضلال، لا من حيث صورته، ولكن من حيث واقعه ومضمونه.. فقوم لوط، قد أتوا منكرا ابدعا، لم يأته أحد فى العالمين من قبلهم، كما يقول سبحانه وتعالى على لسان نبيهم لوط عليه السلام: «أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ» (80: الأعراف) وأما فرعون فقد كان أمة وحده فى الضلال والاستعلاء.. ولهذا ذكر وحده، دون أن يكون معه قومه، فهو كيان الضلال كله، الذي نضح منه على قومه رذاذ من هذا الضلال، فكانوا من المجرمين.. ففرعون صورة فريدة فى الجبارين، وقوم لوط صورة فريدة فى المجرمين. وفى الجمع بين فرعون وقوم لوط فى مقام العصيان لرسول الله، مع أن كلّا منهما كان له موقف مع رسول من رسل الله- إشارة إلى أن رسل الله جميعا، هم رسول واحد، من حيث الرسالة التي يحملها الرسول من الله إلى الناس، والدعوة التي يدعوهم إليها، وهى الإيمان بالله.. فمن كذب برسول من رسل الله فهو مكذب برسل الله جميعا.. وقوله تعالى: «فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً» أي أخذهم الله أخذة متمكنة منهم بحيث تنالهم جميعا، وتشتمل على كل شىء منهم ولهم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1129 والرابية، المكان العالي المرتفع عما حوله، كالربوة. وقد ابتلع البحر فرعون ومن معه، كما ابتلعت الأرض قوم لوط، واحتوتهم ومنازلهم فى بطنها.. إنهم هووا جميعا إلى القاع. قوله تعالى: «إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ-» مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، ذكرت مصارع القوم الظالمين، وقطع دابرهم جميعا، بحيث لم يترك الخراب من دار ولا ديار.. ومع هذا، فإن هؤلاء المشركين من قريش، ما زالوا أحياء، يعيشون فى الناس، لم يأخذهم الله سبحانه بما أخذ به الضالين من قبل.. وهؤلاء المشركون هم بقية من ذرية القوم الذين نجوا من الهلاك، وهم الذين آمنوا بالله، من بين المكذبين والضالين.. وإنه لجدير بهؤلاء المشركين أن يأخذوا طريق النجاة من عذاب الله، كما أخذه آباؤهم الأولون من المؤمنين الذين نجوا من عذاب الله.. هذا وإذا كانت الآية تشير من قريب إلى أظهر صورة من صور النجاة للمؤمنين، وهلاك الكافرين، وهو ما كان من نوح، وقومه، وسفينته، وطوفانه.. حيث غرق الكافرون فى الطوفان، ونجا نوح ومن معه من المؤمنين بالسفينة- إذا كانت الآية تشير من قريب إلى هذا، فإنها تشير من بعيد إلى نجاة الذين آمنوا بالله من كل بلاء ساقه الله إلى الكافرين المكذبين برسل الله، فى كل زمان ومكان. وقوله تعالى: «لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ» أي لنجعل هذه الإشارة إلى نجاتكم فى أصلاب آبائكم الأولين، الذين الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1130 آمنوا ونجوا من الطوفان- لنجعل هذه الإشارة تذكرة لكم أيها المشركون، تذكرون بها أنكم من أصلاب آباء كانوا مؤمنين، فكونوا مثلهم، إذا كنتم حقّا تحرصون على التمسك بما كان عليه آباؤكم، إذ تقولون: «حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا» (104: المائدة) .. فإن فى آبائكم مهتدين، وضالين.. فتخيروا من ترونه أهلا للاتباع من هؤلاء الآباء. وقوله تعالى: «وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ» معطوف على قوله تعالى: «لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً» أي ولتعيها أذن واعية.. فهذه التذكرة، لا تعيها، ولا تعقلها وتحتفظ بها، وتحفظها، إلا أذن عاقلة، بينها وبين العقل صلة وثيقة.. أما الأذن التي تسمع، ولا تورد ما تسمع على العقل، فهى أذن حيوانية، لا ينال منها صاحبها خيرا أبدا. الآيات: (13- 18) [سورة الحاقة (69) : الآيات 13 الى 18] فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) التفسير: قوله تعالى: «فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً» . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1131 تعرض الآيتان الكريمتان هنا مشهدا من مشاهد القيامة، وما يقع فيها من انقلاب شامل فى صورة العالم التي ألفها الإنسان، وعاش فيها بحواسه المحدودة.. وقد تحدثنا فى سورة «الواقعة» عن هذه التغيرات التي ذكرها القرآن الكريم عن يوم القيامة، وقلنا إن هذه التغيرات ليست واقعة على الموجودات من أرض وجبال، وبحار، ومن سماء ونجوم، وشمس وقمر، وإنما التغير الذي يحدث، هو فى الإنسان المتلقّى لهذه الموجودات، حيث تغيرت طبيعته بعد البعث، وأصبح له من القوى فى حواسه ومدركاته أضعاف أضعاف ما كان له فى حياته الأولى، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» (22: ق) .. فلقد كشف للإنسان الغطاء فى هذا اليوم، عن كثير من عوالم الوجود، مما لم يكن من الممكن أن يراه، أو يعلمه، وهو فى الحياة الدنيا.. فقوله تعالى: «فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ» يشير إلى أنه نفخ فى الصور، بعث الموتى من القبور بتلك النفخة الواحدة، لأن هذه النفخة هى أمر من أمر الله، فإذا أمر الله أمرا وقع كما أمر، كما يقول سبحانه: «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (82: يس) وكما يقول سبحانه: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ» (51: يس) وقوله تعالى: «وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً» .. أي رفعت الأرض والجبال، فكانتا كيانا واحدا.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1132 وحمل الأرض وجبالها، هو ظهورها معلقة فى الفضاء، كما هى عليه فى حقيقتها، التي هى أشبه بكرة معلقة فى فلك الكون.. هكذا يراها الإنسان يوم القيامة بما عليها من جبال، وبحار، حين يكون محلقا في سموات عالية فوق هذه الأرض.. ودكّ الأرض مع الجبال، هو اندماجهما فى كيان واحد، وذلك فى مرأى العين، التي تنظر إليهما من بعيد، كما ننظر نحن من عالمنا الأرضى إلى القمر، فنراه سطحا مستويا، لا جبال فيه، ولا وهاد.. وهذا يعنى أن الناس إذ يبعثون يوم القيامة، يخرجون من العالم الأرضى، إلى عالم آخر.. فالأرض هى عالم الناس الدنيوي، ولا شك أن للناس فى الآخرة عالما غير هذا العالم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً» (47: الكهف) فبروز الأرض لا يبدو إلا لمن خرج منها، ونظر إليها من مكان خارج عن فلكها.. كما يشير إلى ذلك أيضا، تلك الحالة التي سيبعث الناس عليها فى قوله تعالى: «يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ» (4: القارعة) وفى قوله سبحانه: «يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ» (7: القمر) . قوله تعالى: «فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ» - هو جواب إذا الشرطية الظرفية، فى قوله تعالى: «فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ..» .. أي إذا كان هذا النفخ فى الصور، وحمل الأرض والجبال ودكهما- إذا كان هذا، فهو يوم وقوع الواقعة، وهى القيامة.. ووقوع الأمر: مجيئه من عل، فى قوة وتمكن، بحيث لا يمكن ردّه.. ومنه قوله تعالى: «فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» .. وقوله سبحانه: «قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ» (71: الأعراف) .. فهو وقوع لامردّ له. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1133 وفى مجىء جواب الشرط فعلا ماضيا فى قوله تعالى: «فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ» ، مع أن مقتضى سياق النظم أن يكون فعلا مضارعا هكذا: «فيومئذ تقع الواقعة» - فى هذا إشارة إلى أن وقوعها أمر محقق لذاته، غير متوقف على شرط.. فهى واقعة لا محالة، سواء وقع شرطها أم لم يقع، وشرطها واقع لوقوعها، لا أنها هى التي تقع لوقوع شرطها.. وقوله تعالى: «وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ» . معطوف على قوله تعالى: «فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ» .. أي وانشقت السماء.. ومعنى انشقاق السماء، ظهور هذا السقف الذي يظلنا، والذي يبدو وكأنه سقف منعقد، محبوك، لا يمكن النفوذ منه- ظهوره يومئذ لنا على حقيقته، وهو أنه ليس إلا فضاء لانهاية له، وأنه مهما صمّد المصعدون فيه، لا يلقاهم إلا الفضاء الرحيب الذي لا ينتهى.. وهذا مثل قوله تعالى: «وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً» (19: النبأ) . وقوله تعالى: «فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ» - إشارة إلى ما يبدو عليه هذا السقف من وهى وضعف، فلا تردّ السماء من يخترق طبقاتها، أو ينفذ من أقطارها.. قوله تعالى: «وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ» . أي ويرى الملائكة فى هذا اليوم على جنبات السماء، فى أحوال شتى.. بين ساجد، وقائم، وغاد، ورائح.. هكذا يراهم الناس يومئذ.. فالملائكة المحجوبون عن أنظارنا اليوم، نراهم يوم القيامة، كما يرى بعضنا بعضا، سواء الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1134 فى هذا من كان من أهل الجنة، أو من أهل النار.. وقد ذكر القرآن الكريم لقاءات كثيرة للناس مع الملائكة، فى موقف الحساب، وفى الجنة، وفى النار.. والضمير فى «فوقهم» فى قوله تعالى: «وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ» يعود إلى «الملك» بمعنى الملائكة.. فهو مفرد لفظا، جمع معنى، كما فى قوله تعالى: «وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا» .. أي ويحمل عرش ربك فوق هؤلاء الملائكة «ثَمانِيَةٌ» . وقد اختلف فى الثمانية: أهم ملائكة، عددهم ثمانية؟ أم هم ثمانية صفوف من الملائكة؟ أم ثمانية أفلاك، هى أطباق السموات، التي فيها الجنات الثماني؟ وهذا يعنى أن عرش الله، أي سلطانه، قائم على هذا الوجود العلوي، مستو عليه.. والعرش، وحملة العرش، والملائكة، والكرسي، والقلم، واللوح، ونحوها، هو مما يلزمنا التصديق به كما تحدث القرآن الكريم عنه، دون البحث عن الصورة التي تكون عليها هذه المبدعات التي استأثر الله سبحانه وتعالى وحده بعلمها. والسؤال عن هذه الغيبيات، بدعة، والتصدّى لتكييفها تكلّف، وقد يجر إلى الافتراء على الله.. وتفويض العلم بها إلى الله، والإيمان بها على ما أخبر به القرآن عنها، هو الإيمان السليم، القائم على التسليم لله، والتصديق بما نزل على رسول الله، من آيات الله.. وهو الإيمان بالغيب، الذي أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله: «ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1135 هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (2- 5: البقرة) .. قوله تعالى: «يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ.. لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ» . أي فى هذا اليوم الذي تقع فيه الواقعة، أي تقوم القيامة- فى هذا اليوم يعرض الناس على رب العالمين.. أي يقدمون للحساب والجزاء، حيث لا يخفى على الله من أعمالهم صغيرة ولا كبيرة.. وقوله تعالى: «لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ» جملة حالية من نائب الفاعل، وهو الضمير فى «تُعْرَضُونَ» .. أي تعرضون فى حال قد تكشفت فيها أحوال الناس وظهر ما فى سرائرهم، وحصّل ما فى صدورهم، فكان باطنهم كظاهرهم، يرونه هم، ويراه بعضهم من بعض الآيات: (19- 37) [سورة الحاقة (69) : الآيات 19 الى 37] فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37) الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1136 » التفسير: بعد أن أنذرت الآيات السابقة الناس بالنفخ فى الصور، والبعث من القبور، ثم ساقتهم للعرض على الله، للحساب والجزاء- جاءت تلك الآيات بعدها لتضع الناس مواضعهم، وتنزلهم منازلهم يوم القيامة.. فهم سعداء وأشقياء.. أصحاب الجنة، وأصحاب النار.. وقوله تعالى: «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ قُطُوفُها دانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ..» هو بيان لأحوال أهل السلامة فى هذا اليوم، يوم القيامة.. حيث تسير خطواتهم إلى الجنة، على هدى ونور من ربهم، وحيث تلقاهم البشريات على كل مرحلة من مراحل مسيرتهم إلى رضوان الله. فمنذ يخرج المؤمن من هذه الدنيا، وتفارق روحه الجسد، وهو يرى مشاهد النجاة، وينشق أرواح الجنة، ويشم أريجها العطر.. كما يشير إلى هذا قوله تعالى: «الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (32: النحل) فهذه أولى بشريات المؤمن، وهو على أول الطريق إلى الله، والدار الآخرة.. فإذا كان يوم القيامة، ووقع النفخ فى الصور، وبعث الموتى من القبور- الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1137 لم يحزن هؤلاء المؤمنون ولم يجزعوا، من فزع هذا اليوم، بل تتلقاهم الملائكة، تخفف عنهم من وقع الصدمة، وتخبرهم بأن هذا هو اليوم الذي وعدوا به، وعملوا له، وانتظروه.. وفى هذا يقول الله سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» (101- 103: الأنبياء) . فإذا سبق الناس إلى المحشر، وعرضوا للحساب، وجد كل إنسان كتاب أعماله فى يده، فمن كان من أصحاب الجنة، أخذ كتابه بيمينه، ومن كان من أهل النار، أخذ كتابه بشماله، وهنا يعرف الناس- فى صورة مجملة- المصير الذي سيصير إليه كل منهم، وهنا تعلو أهل المحشر أحوال شتى، تختلط فيها صيحات الفوز، وزغاريد الفرح، بأنّات الحسرة، وزفرات اليأس.. فمن أخذ كتابه بيمينه، تراه وقد استطاره الفرح، واستخفّه الظفر، فجعل يلوّح بكتابه، وينادى به فى الناس: أن اقرءوا كتابيه!! إنه يريد أن يشهد الناس معه هذه الحال التي هو فيها، وليشاركوه هذه الفرحة الكبيرة التي لا تحتملها نفسه!. وقوله تعالى: «إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ» هو من مقولة صاحب الكتاب المأخوذ باليمين، لمن يلقى من أهل المحشر.. فهو إذ يأخذ كتابه بيمينه، يطير فرحا، فيحدّث كل من يلقاه من أهل المحشر، ويدعوهم إلى أن يقرءوا كتابه، وأن يروا ما فى وثيقة النجاح التي فى يده، من أعمال طيبة، وأن هذه الأعمال الطيبات، إنما هى التي أعدّها لهذه اليوم، وعملها فى دنياه، لأنه كان على يقين من أنه سيبعث وسيحاسب!! الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1138 أرأيت إلى الناس فى ساجة القضاء، وقد نطق القاضي ببراءة بعض الناس، وإدانة البعض؟ إنه صورة مصغرة إلى أبعد حدود الصّفر، لحال الناس يوم القيامة، فى موقف الحساب والجزاء. والظن هنا، ظن يقين، وليس ظنّ شك وتردد. وفى التعبير عن الإيمان بالآخرة بلفظ «الظن» ، الذي يغلب على معناه التوقع والاحتمال، لا اليقين- فى هذا ما يشير إلى أن الإيمان بالغيب- وإن وقع فى قلب المؤمن موقع اليقين، فإنه يظل فى منطقة الظن من عقله، حيث لا يسلم العقل السليم إلا بما يقع فى دائرة إدراكه، وتلك الدائرة لا يدخل فى محيطها ما كان من الغيبيات، وإنما يقع ذلك الغيب فى محيط القلب، وبقدر ما يكون فى القلب من اطمئنان، بقدر ما يقع فى العقل من إدراك، والعكس صحيح أيضا.. وليس الظن الغالب فى مقام الإيمان بالشيء، بالذي ينقص من قيمة هذا الإيمان، والعمل بمقتضاه، فإن أغلب معارفنا ومدركاننا مبنى على الظن الغالب، لا اليقين المحقق، ومع هذا فإننا نقيم وجودنا على هذه المعارف، وتلك المدركات.. ومثل هذا الظن ما جاء فى قوله تعالى: «لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ» (12: النور) . فهذا الظن الحسن الذي يدعى المؤمنون إليه، فى نظرتهم إلى ما يقع من إخوانهم المؤمنين، مما قد يكون موضع ريبة واتهام- هو كاف فى إمساك الألسنة عن قول السوء، والمسارعة إلى الاتهام.. فهو ظن عامل موجّه، لا ظن توقف وارتياب. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1139 قوله تعالى: «فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ قُطُوفُها دانِيَةٌ» . هو بيان لحال من أوتى كتابه بيمينه، وللجزاء الحسن الذي يلقاه يوم القيامة.. إنه سيكون فى عيشة راضية، أي فى حياة طيبة، يجد فيها الرضا كله، فى جميع أحواله.. وفى وصف العيشة بأنها هى الراضية، إشارة إلى أن حقيقة هذه العيشة هى الرضا نفسه، الذي يسع النفوس جميعا، على اختلاف مقاماتها ومنازعها.. وهذا أبلغ- فى مقام الرضا- من أن يكون الوصف بالرضا لمن يعيش فى المعيشة.. فقد يرضى الإنسان بلون من المعيشة، هى فى حقيقتها معيشة تافهة حقيرة، تأباها كثير من النفوس الكبيرة، وتراها شقاء وبلاء إذا هى حملت عليها.. فمن الناس من تكفيه اللقمة يشبع بها بطنه، ويراها أملا مرجوّا، إذا تحقق له، سعد به، ورضى عنه، وإن كان ذلك من فتات موائد القمار، والعهر، أو من شباك النصب والاحتيال، أو من صدقات المتصدقين، وإحسان المحسنين.. على حين أن كثيرا من الناس لا يرضيهم من العيش إلا أن يكونوا فى مقام الصدارة والسيادة، وإلا أن يضعوا فى أيديهم كل أسباب الملك والسلطان. وهكذا تبدو المسافة بعيدة غاية البعد، بين ما يحقق الرضا لبعض النفوس، وما يحققه لبعض آخر منها.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1140 وقد تداول هذا المعنى كثير من الشعراء.. فعن النفوس النازلة، التي يرضيها التافه الحقير من نفايات الحياة، يقول المتنبي: وفى الناس من يرضى بميسور عيشه ومركوبه رجلاه والنعل جلده!! وعن النفس العالية الكبيرة التي لا يرضيها إلا أن تأخذ مكانها مع مطالع النجوم ومسارات الكواكب، يقول المتنبي أيضا- ويعنى نفسه: - وشرّ ما قنصته راحتى قنص ... شهب البزاة سواء فيه والرخم فوصف المعيشة بأنها عيشة راضية، كما جاء بها النظم القرآنى، فى قوله تعالى: «فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ» - وصفها بأنها هى العيشة الراضية- هو الوصف الذي يحقق الرضا لجميع النفوس، صغيرها وكبيرها، فلا يجد الإنسان- أي إنسان- حيث تقلّب فى هذه العيشة، إلا الرضا المطلق، الذي لا يتكلف له جهدا، وهى معيشة تنزل الناس جميعا منزلة عالية، وترتفع بنفوسهم عن كل ما هو دون محتقر.. أما ما يذهب إليه علماء البلاغة: من تخريج هذا المعنى، على ما يخرّجون عليه من قولهم: إن اسم الفاعل: «راضِيَةٍ» هو معدول به عن اسم المفعول «مرضىّ» أي مرضى عنها- ففيه إفساد للمعنى الذي تحمله المعجزة القرآنية فى كلمة «راضية» وحجب لوجهها المعجز الذي رأيناها عليه، فقد تكون المعيشة مرضية، وهى فى حقيقتها تافهة لا تتعلق بها إلا النفوس الصغيرة.. وقوله تعالى: «فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ قُطُوفُها دانِيَةٌ» - هو بيان لتلك الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1141 المعيشة الراضية، وكشف عن وجهها الكريم. وأين يجدها الذين وعدهم الله بها؟ إنها فى جنة عالية، علوّا حسيا، ومعنويا، وإن قطوفها- أي ثمارها- دانية لمن يعيشون فيها، فليس علوّها هذا بالذي يبعد ثمرها عنهم.. بل إن ثمرها دان قريب، يجده طالبه حاضرا عتيدا بين يديه فى أي وقت يشاء.. كما يقول سبحانه: «وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا» (14: الإنسان) . فهذه هى العيشة الكريمة الراضية، التي تتعلق بها النفوس الكبيرة، وتتطلع إليها الهمم العالية.. قوله تعالى: «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ» . الخطاب هنا لأصحاب اليمين جميعا، وقد استقر بهم المقام الكريم فى الجنة، واجتمع بعضهم إلى بعض، وسعد بعضهم بلقاء بعض، ونازع بعضهم بعضا طيباتها وثمراتها.. ففى هذه المشاركة رضا إلى رضا، وسعادة إلى سعادة.. وقوله تعالى: «بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ» - إشارة إلى ما كان من المؤمنين من أعمال طيبة صالحة فى الأيام الخالية، أي الحياة الدنيا، التي خلّفوها وراءهم.. فالباء فى قوله تعالى: «بِما أَسْلَفْتُمْ» باء السببية.. أي «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً» أي طيبا، لا ينالكم مما تأكلون أو تشربون تخمة أو سوء هضم، أو نحو هذا، مما يقع للآكلين والشاربين فى الدنيا، وذلك بسبب ما قدمتم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1142 فى أيام حياتكم الدنيا، من صالح الأعمال.. «إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً» . (22: الإنسان) قوله تعالى: «وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ» .. هذا هو الوجه المقابل لأصحاب اليمين، وهم أصحاب الشمال.. وقد جاء بهم النظم القرآنى أفرادا لا جماعات، كما جاء بأصحاب اليمين أفرادا كذلك، لأن الحساب يوم القيامة، إنما يقوم على هذا الوجه، وهو أن يحاسب كل إنسان بما عمل، كما يقول سبحانه: «وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً» (95: مريم) .. فكل من أوتى كتابه بشماله، يلقاه هذا الكتاب بالحكم المحكوم به عليه، وهو أنه من أصحاب النار، فلا يكاد يقع ليده حتى يستبد به الهلع والفزع، ويركبه جنون الهول، فيظل يهدى، ويعوى، حتى تتقطع أنفاسه.. «يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ. وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ» .. فلقد كان الأمر مستورا عنه قبل هذا الكتاب، فلما جاء الكتاب طلع عليه بهذا البلاء المبين.. فلقد عرف حسابه، وإنه لحساب خاسر، يهوى به إلى عذاب السعير..!! وأين المفر؟ إنه لا مفر إلا بالموت.. «يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ» .. ولكنها أمنية لن تتحقق أبدا.. فما أقسى الصبر على هذا البلاء، وما أشد الوقوع فى هذه المحنة التي يشتهى الموت فرارا منها!! كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1143 قوله تعالى: «ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ. هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ» . هو من هذيان هذا الشقىّ، الذي أحاطت به خطيئته.. إنه طلب الموت فما وجده.. وطلب ماله ليفتدى به نفسه من هذا العذاب، فما رآه.. واستنجد بكل ما كان له من قوة، وجاء، وسلطان، فلم يسعفه شىء.. «هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ» ..! وفى التعبير بقوله: «هلك» بدلا من ذهب.. إشارة إلى أن هذا السلطان لن يلقاه أبدا، ولن يعود إليه بحال.. لقد هلك، وما كان لهالك أن يتعلق به أمل.. قوله تعالى: «خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ» . إنه بعد أن ترك هذا الشقىّ الأثيم، يهذى ويعوى، ويلهث، باحثا فى كل وجه، متطلعا إلى كل أفق، يطلب وجها للخلاص من هذا البلاء- إنه بعد أن ترك هكذا حتى تقطعت أنفاسه، وسقط إعياء- لم يترك لشأنه هذا، وما هو فيه من بلاء، بل قرع أذنه هذا الصوت الآمر، بأخذه، ووضع القيد فى عنقه، ثم سحبه إلى جهنم، وربطه هناك فى سلسلة طولها سبعون ذراعا!! وهل بقي مع هذا الشقىّ قوة، حتى يخشى من أن يفرّ من هذا المصير المساق إليه؟ إنه لا يقوى على الحركة، فكيف يفرّ؟ وإن فرّ، فإلى أين؟ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1144 ولكن هذا القيد الذي أحاط بعنقه، وهذه السلسلة الطويلة التي يسحب منها، إنما هو إذلال له، وامتهان لكرامته بين الناس، ومعاملته معاملة الحيوان الذي يقاد من مقوده، ويربط فى حظيرته.. ولا نتجاوز بالحديث عن هذه الأدوات الجهنمية، من قيود، وسلاسل، ومقامع، وغيرها من أدوات النكال والتعذيب- لا نتجاوز بها الحدود التي يتسع لها اللفظ القرآنى.. فهناك- يقينا- أدوات عذاب- وقانا الله شرها- من سلاسل، وأغلال، ومقامع، وطعام من زقوم، وشراب من حميم، وغير ذلك مما ورد ذكره فى القرآن الكريم.. ولكن ما صفة هذا؟ ولم كان طول السلسلة سبعين ذراعا؟. هذا مالا نتكلف البحث عنه، وطلب الجواب له..! وحسبنا أن نقول كما علمنا الله أن نقول فى مثل هذا المقام: «آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا» (7: آل عمران) . قوله تعالى: «إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ» . هو بيان للسبب الذي من أجله صار هذا الشقىّ إلى هذا المصير المشئوم.. «إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ» الذي ملك بعظمته وسلطانه أمر هذا الوجود، والتصرف فيه كما يشاء، دون أن يكون لأحد سلطان معه. وفى وصف الله سبحانه وتعالى بالعظمة هنا، إشارة إلى أن هذا اليوم- يوم القيامة- يتعرّى فيه كل ذى سلطان من سلطانه.. فقد كان للناس فى الدنيا، شىء من الإرادة، والتصرف، والملك والسلطان، ولكنهم فى هذا اليوم سلبوا كل شىء، وتعرّوا من كلّ شىء.. ولهذا يقول الحق سبحانه فى هذا اليوم: «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟» فيجيب الوجود كله: «لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1145 وفى قوله تعالى.. «وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ» .. إشارة إلى ما لرعاية المساكين والعطف عليهم من تقدير واعتبار، فى مقام الإيمان، حيث جاء ذلك بعد الإيمان بالله، معطوفا عليه، وموازنا له.. وهذا يعنى أن من الإيمان بالله العطف والإحسان إلى عباد الله، إذ كان هؤلاء المساكين هم ضيوف الله، فمن أكرمهم لله، أكرمه الله، ومن أهانهم، وأمسك يده عنهم، أهانه الله، وأمسك رحمته عنه. والحضّ على الشيء: الحثّ عليه، وإغراء الغير به.. وفى التعبير عن الدعوة إلى إطعام المسكين، بلفظ «الحضّ» .. إشارة إلى ما فى الطبيعة الإنسانية من شحّ وبخل، وحبّ للذات.. وأن الإحسان إلى الفقراء لا يكون إلا عن مغالبة هذه الطبيعة، وحمل النفس على ما يخالف هواها.. وهذا إنما يكون عن مراودة بين الإنسان ونفسه، وحثها على البذل والسخاء. ثم إن فى بذل الإنسان، وسخائه فى وجوه البر والمعروف، حضّا صامتا على إشاعة الإحسان بين الناس، حيث يرى فيه الناس قدوة حسنة فى هذا المقام. قوله تعالى: «فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ» . فهذا هو جزاء من لم يؤمن بالله العظيم، ولم يحضّ على طعام المسكين.. إنه لا صديق له يدفع عنه هذا العذاب، لأنه لم يكن له من عباد الله صديق ينال من خيره وبرّه.. فإذا ضاقت به الحال فى هذا اليوم، فإنه لا يجد المعين الذي يمينه، لأنه لم يقدم لأحد عونا فى حياته الدنيا.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1146 ثم لأنه لم يطعم المسكين، وتركه يمضغ الجوع، والحرمان- فليس له فى هذا اليوم طعام إلا من غسلين، أي من صديد، مما يفرزه المعذّبون بنار جهنم.. فهو يتغذّى من هذه الإفرازات الذاتية التي تفرز من جسده المحترق، كما ترك هو الجائع المسكين يتغذّى من داخل جسده، ويأكل بعض أعضائه بعضا.. وقوله تعالى: «لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ» هو وصف لهذا الطعام الجهنمىّ.. إنه طعام أصحاب الخطايا والآثام، طعام المجرمين، لا طعام لهم إلا هذا الطعام، وما أشبهه! هذا، وفى خطاب أصحاب اليمين بلفظ الجمع فى قوله تعالى: «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ» .. مضاعفة لنعيمهم، وزيادة فى تكريمهم، إذ يجمعهم الله على بساط هذا النعيم، حيث يأنس بعضهم ببعض، وحيث يتنازعون كئوس الخمر التي يطوف عليهم بها الولدان المخلدون.. «عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ» . وعلى عكس هذا، قد أفرد أصحاب الشمال فى عذاب الجحيم، وحتى لكأنما كل واحد منهم قد اشتمل عليه العذاب وحده، لا يشاركه فيه أحد، مما قد يكون مصدر عزاءله.. وفى هذا مضاعفة لعذابه، وبلائه.. «خُذُوهُ فَغُلُّوهُ، ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ، ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ» .. إن هذا أشبه بالحبس الانفرادى، الذي يعانى فيه أهله، تلك الوحشة القاتلة، التي تجمع هموم الدنيا كلها فى قلوبهم، غير مشارك لهم فيها أحد.. الآيات: (38- 52) [سورة الحاقة (69) : الآيات 38 الى 52] فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1147 التفسير: قوله تعالى: «فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ» . القسم هنا منفى بلا النافية فى قوله تعالى «فَلا أُقْسِمُ» وليست «لا» زائدة كما يذهب إلى ذلك كثير من المفسرين.. فنحن على رأى واحد فى أن لا زيادة فى حرف أو كلمة فى نظم القرآن! وهذا القسم المنفي. إما أن يكون نفيه لأن المقسم عليه، وهو القرآن الكريم، وبأنه قول رسول كريم- حقيقة ثابتة، ظاهرة، لا تحتاج إلى قسم.. وإما أن يكون المقسم لهم- وهم هؤلاء- المشركون، لا يصدّفون بهذا الحديث، سواء حلف لهم عليه أم لم يحلف.. وإذن فالأولى أن يكون الحديث إليهم مرسلا من غير قسم، لأن من لا يصدق المتحدّث إليه، بغير قسم، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1148 لا يصدقه إذا هو أقسم، بل إن القسم ربما زاد من شكوكه فى صدق من يحدّثه. والذي نبصره، هو ما يقع تحت حواسنا ومدركاننا من هذا الوجود والذي لا نبصره، هو ما لا يقع تحت الحسّ والإدراك، وهو هذا الوجود العظيم، الذي مبلغ علمنا به لا يتجاوز قطرة من محيطات.. وقوله تعالى: «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ» . هو المقسم عليه.. وهو القرآن الكريم، وأنه قول رسول كريم. والرسول الكريم، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يحدّث القوم بآيات الله التي يتلوها عليهم.. ونسبة قول القرآن الكريم إلى الرسول، لأنه هو الذي يتحدث به، ويبلغه إلى الناس، على أنه كلام الله، ومن عند الله.. فمعنى القول هنا «البلاغ» .. أي هذا القرآن هو بلاغ من رسول كريم، لا أنه من كلامه هو، ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك: «تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» ليقرر هذه الحقيقة، كما جاء بعد هذا قوله سبحانه: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ. لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ» ليؤكد هذه الحقيقة، ويقطع كل شبهة بأن لرسول الله شيئا من هذا القرآن الذي يتلوه على الناس، وإنما هو من كلام ربّ العالمين.. وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد بقوله تعالى: «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ» جبريل عليه السلام، أمين الوحى.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1149 وهذا- والله أعلم- مما يحتمله النظم القرآنى، وإن كان الأولى عندنا أن يكون المراد بالرسول الكريم، هو رسول الله، إذ كان الموقف هنا موقف دفاع عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وردّا على اتهام المشركين له بأنه كاهن، وبأنه شاعر.. فكان المقام يقضى بأن يوضع الرسول بموضعه الصحيح، وهو أنه رسول كريم، وأن ما ينطق به ليس من منطق الكهانة ولا الشعر، وإنما هو منطق مبعوث كريم من ربّ العالمين، يبلّغ ما أرسل به إلى عباد الله. وفى وصف الرسول بأنه «كريم» - إشارة إلى أنه يقدّم هذا الخير العظيم للناس، فى سخاء، ويبذله، فى غير منّ، لا يطلب عليه أجرا.. قوله تعالى: «وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ.. قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ» . هو نفى لتهمة الشعر التي يلصقها المشركون بالقرآن.. فالرسول ليس بشاعر، وما ينطق به ليس من باب الشعر، ولا من واردات الشعراء أبدا.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ» (69: يس) وقوله تعالى: «قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ» .. أي أنه مع وضوح هذه الحقيقة وضوحا لا يحتاج إلى طول بحث، ومعاناة نظر، فإنكم أيها المشركون تتمارون فى هذه الحقيقة، وترفضون الإيمان بها، وإن وقع لكم شيء من الإيمان بأن هذا الكلام ليس من أودية الشعر، فإنه سرعان ما يغلبكم الهوى، ويطغى عليكم الضلال، فتركبون الحماقة، وتردّدون هذا القول الذي يكذبكم به الواقع المحسوس، إذ كان إيمانكم إيمانا قليلا.. فى كيفه وكمّه.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1150 قوله تعالى: «وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ.. قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ» .. أي وليس هذا القرآن من قول كاهن، لأن لغة الكهانة لغة غامضة، معمّاة بالألغاز.. وهذا كلام عربىّ مبين.. وقوله تعالى: «قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ» استبعاد لهم من أن يرجعوا إلى عقولهم، وأن يعرضوا عليها هذا الذي يسمعونه من آيات الله، وهذا الذي يحفظونه من مقولات الكهان ليروا بعد ما بينهما، وأنه إن كان لهم من هذا ذكر، فهو أشبه بأطياف الأحلام، لا يلبث أن يقع فريسة للجهل والغفلة.. قوله تعالى: «تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» . هو قولة الحقّ فى القرآن الكريم، وأنه منزل من رب العالمين، ليس من كلام بشر، أيّا كان، شاعرا، أو كاهنا، أو حكيما، أو عالما.. قوله تعالى: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ» . هو استبعاد لأن يكون من رسول الله فى هذا القرآن كلمة من عنده، أضافها إليه، ثم أسندها إلى الله.. فإنه لو فعل ذلك- ومحال أن يفعله- لكان عقابه أشد العقاب من الله.. «لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ» أي لأمسكنا به من يمينه.. «ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ» أي لذبحناه، وقطعنا وريده، الذي هو ينبوع الحياة. ثم لم يكن لأحد منكم أن يمنع عنه هذا العقاب الذي تأخذه به، ويحجز بينه وبين الجزاء الذي نوقعه عليه. «فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ» الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1151 وإذن، فلم يكذب محمد؟ ولم يقول على الله ما لم يقله الله؟ ألأجل نفسه يفعل هذا؟ إنه لم يطلب أجرا، ولم ينل منكم كثيرا أو قليلا.. بل كل ما كان له منكم هو هذا الأذى المتصل، وتلك السفاهة الحمقاء.. أم لأجلكم أنتم كان هذا الافتراء؟ ولم يعرّض نفسه لا نتقامنا، وأنتم لن تدفعوا عنه ما نأخذه به من عقاب؟ إن الذي يغامر هذه المغامرة، إما إن تكون لحساب نفسه، ومن أجل هذا يحتمل ما يحتمل فى سبيلها.. وإما أن يكون لحساب غيره الذي يجد منه الحماية ساعة الخطر.. فإذا لم يكن هذا أو ذاك، فإنه يصبح من المحال أن تقع منه تلك المغامرة بالافتراء على الله، لغير سبب معقول، أو حكمة ظاهرة. قوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ» .. هذا هو القرآن الكريم.. إنه ليس بقول شاعر، ولا بقول كاهن، ولا متقوّل من رسول الله على الله، وإنما هو تنزيل من رب العالمين.. وهو تذكرة للمتقين، يذكرهم بما فى فطرتهم السليمة، من إيمان بالله، وتقبّل للحق والخير.. فهل بقي لكم من فطرتكم- أيها المشركون- شىء تلتقى به مع الحق، وتؤمن به؟ قوله تعالى: «وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ» . هو تهديد لهؤلاء المشركين، الذين يكذبون بآيات الله، وأن الله سبحانه وتعالى يعلم المكذبين بهذا الحديث، والمتهمين للرسول، وإن وراء هذا العلم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1152 حسابا، وجزاء، وعذابا أليما.. وفى خطاب المشركين بأن منهم مكذبين.. إشارة إلى أن كثيرا منهم كان يعلم صدق النبي، ولكن الكبر والعناد يحولان بينهم وبين الخضوع للحق، والولاء له، كما يقول سبحانه: «فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» (33: الأنعام) . قوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ» .. وأي وإن هذا القرآن لحسرة على الكافرين، يوم ينكشف لهم أنهم بتكذيبهم له، وكفرهم به، قد وردوا النار، وألقوا فى العذاب المهين.. فتمتلىء لذلك قلوبهم حسرة وكمدا، لأنهم لم يؤمنوا به، ولم يأخذوا طريق النجاة على هداه.. لقد كان مركب نجاة أقلعت، ولن يلحقوا بها.. قوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ» .. أي هذا القرآن هو حق من حق.. وأنه الحق المستيقن، الذي لا يأت يه باطل من بين يديه ولا من خلفه.. وفى إضافة الحق إلى اليقين، إشارة إلى أنه من موارد اليقين، وأنه حق هذا اليقين، وخلاصة ما فيه.. فهو حقّ مصفّى من حق، إن كان الحق فى حاجة إلى تصفية!! قوله تعالى: «فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» . هو دعوة للرسول الكريم أن يلقى هذه المنّة العظيمة بنزول القرآن عليه، بتسبيح ربه العظيم، وبحمده، وتنزيهه، والولاء له.. فهذا هو بعض ما ينبغى فى مواجهة نعم الله، وفى مقام الشكر عليها.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1153 وإذا كان القرآن الكريم هو مأدبة الله التي يصعم منها المؤمنون، وينالون منها الشّبع لقلوبهم، والرىّ لأرواحهم- فإن التسبيح باسم الله العظيم مطلوب منهم، بعد هذا الشبع، وذلك الري، للقلوب والأرواح.. فلينتظموا صفوفا وراء إمامهم الكريم، رسول الله، وليسبحوا معه باسم ربهم العظيم.. والتسبيح باسم الله، هو تسبيح لذات الله سبحانه وتعالى، فى اسمه الكريم، أما ذاته سبحانه فلا يعرف لها كنه، ولا يقع لها فى العقل تصور، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1154 70- سورة المعارج نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة الحاقة.. عدد آياتها: أربع وأربعون آية.. عدد كلماتها: مائتان وثلاث عشرة كلمة.. عدد حروفها: سبعمائة وسبعة وخمسون حرفا.. مناسبتها لما قبلها كان مما تحدثت عنه آيات سورة «الحاقة» ما يلقى الكافرين من عذاب ونكال يوم القيامة.. وأنهم يسحبون فى سلاسل إلى النار، ويسجرون فيها، ثم يطعمون غسلينها وزقومها.. وهذا الحديث عن النار، وما يلقى فيها المكذبون بآيات الله وبرسل الله، من عذاب وهوان- هذا الحديث لا يلقى من المشركين إلا الهزء والسخرية، والتحدّى، لأنهم لا يؤمنون بالبعث.. ومن ثم فلا يصدقون بما وراء البعث من من حساب وجزاء.. وإنه لتبلغ بهم الجرأة فى التكذيب أن يقول قائلهم: «اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (32: الأنفال) . ولهذا جاءت سورة «المعارج» مفتتحة بهذا الوعيد، لتواجه به المكذبين بيوم القيامة، ولتلقاهم بالعذاب الذي أنذروا به، والذي يستعجلونه، هزؤا به، وسخرية منه. وبهذا نجد التلاحم بين السورتين، أكثر من أن يكون تلاحم جوار، وإنما هو تلاحم نسب وقرابة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1155 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الآيات: (1- 18) [سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 18] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18) التفسير: قوله تعالى: «سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ» .. لم تذكر الآية الكريمة اسم هذا السائل، بل جاءت به منكّرا هكذا: «سائل» - لأنه لا يعدو أن يكون واحدا من هؤلاء السفهاء، الرقعاء، الذين ركبهم الجهل، والغرور، حتى لقد خيل إليهم أنهم أوتاد هذه الأرض، وأنهم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1156 لو أخلوا مكانهم منها لفسد نظام الكون، واضطرب أمر الناس!! والسؤال من السائل هنا، هو سؤاله عن هذا العذاب: متى هو؟ وهو المنكر لما يسأل عنه، وكأنه بهذا الإنكار، إنما يهتف به أن يأتيه الآن، وأن يقع به فى الحال.. إنه على استعداد لا ستقبال هذا العذاب، لأنه على يقين من أنه شىء لا وجود له! .. وفى تعدية الفعل «سأل» بحرف الباء، مع أنه يتعدى بالحرف «عن» - إشارة إلى تضمن الفعل معنى المطالبة بهذا العذاب، والهتاف به، كما يقول الله سبحانه وتعالى على لسان هؤلاء المشركين: «فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ» (32: الأنفال) فكأن المعنى: طلب طالب، ودعا داع بالعذاب الواقع. وقوله تعالى: «لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ» هو ردّ على هذا السؤال المتحدّى، المنكر.. أي أن هذا العذاب هو معدّ للكافرين، مقبل إليهم، لا يدفعه عنهم دافع.. وقوله تعالى «مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ» متعلق بمحذوف، تقديره مرسل عليهم من الله ذى المعارج.. والمعارج الأماكن المرتفعة، التي يكون الصعود إليها دائريّا، كالصعود إلى المئذنة ونحوها، ومنه قوله تعالى: «وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ» (33: الزخرف) .. وفى الآية الكريمة إشارة إلى أن العروج إلى السماء، لا يكون فى خط عمودى، وإنما فى خطوط مقوسة، داخل قبة الفلك، التي تمثل دائرة عظيمة لا نهاية لها.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1157 وفى جمع «المعارج» إشارة أخرى إلى أن هناك أكثر من معرج، وأن لكل سماء معرجها الذي يعرج إليها منه، أشبه بالمبني ذى الطوابق العديدة، لكل طابق معرج يعرج فيه إليه.. ووصف الله سبحانه وتعالى بأنه ذو المعارج، إشارة ثالثة إلى علو سلطانه، وأن العذاب المرسل منه إلى الكافرين، عذاب يسقط عليهم من سموات عالية، فلا يمكن لقوة أن تحول بينه وبين أن يهوى على رءوس الكافرين.. إنه أشبه بالأحجار التي تهوى من السماء على رءوس من هم في دائرة سقوطها.. قوله تعالى: «تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ..» هو إشارة إلى مدى هذا العلو الذي لتلك المعارج، التي يقوم عليها سلطان الله، وأن الملائكة والروح، تصعد هذه المعارج فى يوم.. ولكن أي يوم هو؟ إنه يعدل خمسين ألف سنة من أزمان الدنيا.. أي أن ما يقطعه الملك فى عروجه إلى السماء فى يوم واحد، يقطعه الإنسان فى خمسين ألف سنة بأقوى ما يمكن أن يتوسل به من وسائل، من صواريخ، ومركبات كوكبية وغيرها.. والمراد بالروح، إما أن يكون جبريل عليه السلام، أو أرواح البشر، أو مخلوقات من عالم الروح غير الملائكة. والمراد بهذا أنها مخلوقات ذات سرعة مطلقة من غير قيد المادة ومعوقاتها.. إنها أرواح، لا أجساد لها.. وقوله تعالى: «فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا» .. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1158 هو تطمين للنبىّ، وتسرية عنه، لما يلقى من عناد قومه، واستهزائهم به، تحديهم للعذاب الذي ينذرهم به.. إن عليه أن يوطن نفسه على الصبر، والصبر؟؟؟، الذي لا يصحبه ضجر أو ملل.. ثم إن هذا الخطاب للنبى الكريم، فيه تهديد للمشركين المكذبين، بما سيقع بهم وراء هذا الصبر الذي يلقاهم النبىّ به، محتملا سفاهتهم، وسخريتهم.. فهو كقوله تعالى: «فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً» (17: الطارق) قوله تعالى: «إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً» الضمير فى «يرونه» يعود إلى العذاب الواقع بالكافرين، المرسل عليهم من الله ذى المعارج.. فالمشركون المكذبون باليوم الآخر، يرون العذاب بعيدا، أي بعيد الوقوع، بعدا يبلغ حد الاستحالة، أو يرونه بعيدا، لأنه إذا جاء فإنما يجىء يوم القيامة، التي لا يدرى أحد متى تكون على فرض وقوعها.. فهذا الزمن المجهول، يبدو بعيدا بحيث يكون من العبث أن يرجو منه المرء خيرا، أو يخشى منه شرا.. هكذا يقوم حساب هذا اليوم عند اللّاهين والغافلين، الذين لا يعيشون إلا ليومهم.. «يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ.. وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» . (12: محمد) وقوله تعالى: «وَنَراهُ قَرِيباً» أي أنه وإن بدا هذا اليوم بعيدا فى نظر المشركين والمكذبين- هو فى حقيقته قريب، وأنه إذا طلع عليهم بعد آلاف السنين، بدا لهم أنه ابن يومهم هذا الذي هم فيه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها» (46: النازعات) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1159 قوله تعالى: «يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ» . هو بيان للأحداث التي تقع يوم القيامة، يوم العذاب الذي ينتظر أهل الشرك الضلال. ففى هذا اليوم، تكون السماء «كالمهل» وهو خثارة الزيت، بعد غليانه، وتكون الجبال «كالعهن» وهو الصوف المصبوغ بلون الحمرة، بعد أن ينفش وتنحلّ أجزاء بعضه عن بعض.. وفى تشبيه السماء بالمهل، والجبال بالعهن، وما يغلب على التشبيهين من لون الحمرة- فى هذا إشارة إلى تغير طبيعة لون الجوّ، فى مرأى العين، وذلك حين يكون موقع النظر من خارج الغلاف الجوى للأرض، حيث تبدو السماء، والأرض، مكسوّنين بلون أشبه بلون الأفق الداكن بعد الغروب، أو قبل الشروق.. هذا، وقد عرضنا للحديث فى أكثر من موضع عن هذه التغيرات التي تحدث يوم القيامة، فى العالم الأرضى، وما يتصل به من عوالم السماء، وقلنا إن هذه التغيرات إنما هى واقعة بالنسبة لإحساس الإنسان يومئذ بها، نتيجة لتغيّر موقفه من الأرض، وتغير طبيعته بعد البعث.. أما عوالم الوجود فى الأرض وفى السماء، فإنها تجرى على ما أقامها الله سبحانه وتعالى عليه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ» (48: إبراهيم) . فهذا التبدّل هو تبدّل فى مدارك الإنسان لهذه العوالم، لتبدّل موقفه منها، ورفع الغطاء الكثيف الذي كان على بصره وبصيرته فى الحياة الدنيا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1160 وقوله تعالى: «وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً» .. أي فى هذا اليوم، لا يسأل صديق عن صديق، ولا يلتفت قريب إلى قريب، لما يواجه الناس يومئذ من أهوال، وما يحيط بهم من كروب. قوله تعالى: «يُبَصَّرُونَهُمْ.. يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ.» . هو بيان للحال التي يكون عليها الناس يوم القيامة، وأن كلّ إنسان مشغول بنفسه، لا يسأل عن أحد، ولا يسأل عنه أحد.. إن كان من الناجين مضى إلى مرفأ النجاة، ناجيا بنفسه، دون أن يلتفت إلى وراء، أو عن يمين أو شمال.. وحسبه أنه نجا.. وإن كان من الهالكين فحسبه ما يعانى من شدّة وبلاء.. «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» .. (37: عبس) وقوله تعالى: «يُبَصَّرُونَهُمْ» .. أي يرونهم رؤبة كاشفة لأحوالهم وما هم فيه من كرب وبلاء.. وضمير الرفع «الواو» وضمير النصب «الهاء» فى «يبصرونهم» ، يعودان إلى «حميم» و «حميما» ، لأن كلّا منهما فى معنى الجمع، وإن كان مفردا، لأنه نكرة تفيد الاستغراق فى حال النفي.. والتقدير أنه لا يسأل الأصدقاء أصدقاءهم، لأن كلّا من طرفى التساؤل، على حال واحدة، من الوجوم، والاشتغال بالنفس عن الغير، فالجميع فى هذا اليوم على سواء فيما يذهلهم من هموم، فلا سائل، ولا مسئول. وفى الفعل «يبصرونهم» ما ليس فى الفعل «يبصرونهم» وذلك: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1161 أولا: أن يبصّرونهم يفيد أن أهل الموقف- لما هم فيه من بلاء- لا يكادون يبصرون شيئا.. ولكن كأن قوة خارجة عنهم تحملهم حملا على أن يفتحوا أعينهم على هذا المكروه الذي يحيط بهم، ويهجم عليهم.. وثانيا: أن يبصّرونهم، تجعل المبصرين والمبصرين على سواء، فكل منهم يبصر، ويبصر، فى حال من الفزع والهلع، لا تدع لأىّ سبيلا إلى الاختيار فيما ينظر إليه.. وقوله تعالى: «يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ... » هو حال من ضميرى الرفع والنصب فى يبصرونهم.. أي أنه يبصر بعضهم بعضا، ويكشف بعضهم حال بعض، فى حال يود فيها المجرم لو يفتدى من عذاب هذا اليوم ببنيه، وصاحبته وأخيه، وفصيلته التي تؤويه، ومن فى الأرض جميعا.. [من الإعجاز النفسىّ.. فى القرآن] ولا بد من وقفة هنا بين يدى قوله تعالى: يودّ المجرم لو يفتدى من عذاب يومئذ ببنيه. وصاحبته وأخيه. وفصيلته التي «تُؤْوِيهِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ» .. حيث نجد صورة من صور الفرار من الخطر، يتخفف فيها الإنسان مما بين يديه من كل عزيز عليه، غال عنده، ولكنه محمول على هذا تحت وطأة البلاء المحيط به.. ولهذا فهو لا يلقى بكل مدخراته جملة واحدة، وإنما يخلى يده من بعض، ويشدّ يده على بعض، حتى إذا لم يجد فيما فعل ما يخفف عنه البلاء، ألقى بكل مامعه جميعا، لعله يجد فى هذا طريقا للإفلات من يد هذا الخطر المطلّ عليه.. والفرار من الخطر، وطلب النجاة من مواطن الهلاك، غريزة مركوزة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1162 فى الكائن الحىّ، يقوم عليها بقاؤه وحفظ نوعه.. وإنه حين يفقد الكائن الحىّ فعالية هذه الغريزة، يفقد الحياة فى أولى خطواته على طريقها.. سواء فى ذلك الإنسان، أو الحيوان، وحتى النبات.. وأكاد أقول والجماد أيضا!! .. والإنسان بما فيه من عقل وذكاء، قد مكّن لهذه الغريزة فى كيانه، وأقام منها حارسا يقظا عليه، ووضع بين يدى هذا الحارس أكثر من سلاح يدفع به أي خطر يقع، أو يتوقع أن يقع.. وفى الآخرة أهوال تأخذ الناس بالنواصي والأقدام.. (إن زلزلة الساعة شىء عظيم، يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد) (1- 2: الحج) . فى هذا الموقف الرهيب، يساق المجرمون، والعصاة، إلى ساحة القصاص، حيث يرون رأى العين مصيرهم الذي هم صائرون إليه، والمنزل الذي سينزلونه من جهنم، التي إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا.. إن القلوب لتنخلع من هذا الهول، إن كان هناك قلوب لم تذهب بها مطالع الأهوال، ولم تفتتها الآلام والحسرات.. إنها حال لا يمكن أن تتصورها العقول، ولا أن يحيط بها وصف، لأنها مما لن يقع إلا فى هذا اليوم. هناك صراخ وعويل، وزفرات وأنين، ولهفات وحسرات، يختلط بعضها ببعض، فتملأ أسماع العالمين بهذه المناحة المروّعة، التي تزيد فى الآلام، وتضاعف من العذاب!. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1163 وأين المفر؟ إنه لا مفر من النار إلا إلى النار، ولا مفزع من البلاء إلا إلى البلاء!. ومع هذا اليأس القاتل، فإن قسوة العذاب، وشدة البلاء، تحمل المجرمين على أن يفزعوا إلى أي مفزع، ويتجهوا إلى أي متجه.. إنها محاولات لا بدّ منها، وحركات تجرى فى النفس، ولا تتخذ لها طريقا عمليا، حيث اليأس المطلق، الذي لا يلوح فى سمائه المتجهمة بصيص من أمل، ولا أثر لرجاء.. وننظر فى هذه الصورة المعجزة، التي صورها القرآن الكريم لمسارب النفوس ومجرى الخواطر، فى زحمة هذا المعترك الضنك الذي تبلغ فيه القلوب الحناجر.. إنه لو قدر لآلات التصوير السينمائى أن تدخل إلى عالم النفس، فترصد حركاتها، وتكشف عن خفاياها، لما أمكنها أن تأتى بما يقرب من هذه الصورة القرآنية فى إحكامها، وصدقها، وإحاطتها الشاملة بما تكنّ الضمائر، وما تخفى الصدور.. وننظر فى الصورة القرآنية، التي عرضتها الآيات الكريمة. (يودّ المجرم لو يفتدى من عذاب يومئذ يبنيه، وصاحبته وأخيه، وفصيلته التي تؤويه، ومن فى الأرض جميعا ثم ينجيه.. كلا.. إنها لظى، نزاعة للشوى، تدعو من أدبر وتولى، وجمع فأوعى) .. إن الإنسان هنا فى فم الهلاك، وفى دائرة العذاب المطبق عليه.. وإن لذعة العذاب لتخرج الإنسان عن نفسه، وتجعل أعضاءه- فى متدافع هذا العذاب- يرمى بعضها بعضا، ويتّقى بعضها ببعض.. إنه لا شىء يحرص عليه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1164 الإنسان هنا.. إن أقرب شىء إليه، وأعزّه إلى نفسه، ليقدّمه فى غير وعى، ليدفع به هذا العذاب الذي يأكله، كما تأكل النار الحطب! إنه لا يملك غير نفسه، وقد احتواها العذاب! فهل يحرص بعد هذا على شىء؟. إنه يود أن لو كان بين يديه أبناؤه.. إذن لا تقى بهم هذا العذاب، ولجعلهم دريئة له، يتلقون عنه ألسنة اللهب، ووهج السعير.. ولكنه إذ يرمى بأبنائه فى جهنم ثم لا يجد فيهم غناء، يمد يده إلى من هم أبعد إليه منهم.. إنها صاحبته، أي زوجه، وأم بنيه، ثم هى زوج وصاحبة معا، قد سكن إليها، وتعلق قلبه بها، وليست مجرد زوجة!. ثم ماذا؟ إنها لم تغن عنه شيئا.. وها هو ذا يمدّ يده إلى من هم أبعد من بنيه، وصاحبته.. إلى أخيه.. ثم إلى أهله وعشيرته.. ثم إلى كل من تطوله يده من قريب أو بعيد.. ثم لا يزال هكذا حتى يأتى على كل ما فى الأرض، من أنفس، ومتاع.. إن هذا الترتيب المتتابع فى تقديم ضحايا الفداء، لا يمكن أن يقع على هذا الوجه إلا بحساب دقيق محكم لاتجاهات النفس، وإلا بتقدير واقعي لارتباطها الشعورى بكل ضحية يضحّى بها فى هذا المقام. وقد يبدو غريبا- فى ظاهر الأمر- أن يقدّم الإنسان أول ما يقدم للفداء والتضحية، أعزّ شىء لديه، وهم أبناؤه، وقد كان المتوقع أن يضنّ بهم، أو أن يجعلهم آخر سهم يرمى به فى وجه هذا الهلاك الذي يحتويه!! وهذا الحساب إنما يجرى على هذا الوجه، حين تكون الأمور على ما ألف الناس، وحين يكون فى الأمر شىء من السّعة، ولو كان بمقدار سمّ الخياط.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1165 أما والعذاب هو عذاب جهنم، فإن المعابير تختلّ والموازين تضطرب.. وهل ينتظر من الإنسان فى مزدحم هذا الهول أن يعرف ضوابط ومعايير؟ وهل يدع هذا العذاب لإنسان سبيلا الاختيار، أو فرصة للموازنة؟. إن أقرب شىء للإنسان فى هذا الموقف، هو درعه التي يتقى بها لفح العذاب، ولو كان هذا الشيء عضوا من أعضائه!! ولكن انظر حين يكون فى الأمر شىء من السعة، وحين يكون الإنسان خارج دائرة العذاب، لم يقع فيه بعد، ولم تغلق عليه أبواب جهنم. إنه هنا يملك شيئا من الاختيار.. ولهذا فإنه فى ابتداء منطلقه من وجه الخطر، يتخفف من المهم فالأهم، ويتخلى عن العزيز فالأعزّ.. إنه لا يقدم فدية، ولكنه يحلّ نفسه من الروابط التي تربطه بالولد، والصاحبة، والأب والأم، والأخ. تلك الروابط التي تجعل منه ومن هؤلاء الأقربين كيانا واحدا، أشبه بالجسد وأعضائه.. فهو إذ يحلّ عقد الروابط بينه وبين هذه الأعضاء، يبدأ بأبعدها عنه، فيحلها عقدة عقدة، حتى ينتهى إلى أقرب عضو إليه، ولا عضو أقرب منه بعد هذا إلا نفسه ذاتها.. وشاهد هذا فى القرآن الكريم.. فى قوله تعالى: «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» (34- 35: عبس) . فهنا حركة فرار من خطر داهم.. أو شر مقبل، أو حيّة مهاجمة، أو نار علقت بالدار والمتاع، أو نحو هذا.. وهنا لا يلتفت الإنسان إلا إلى نفسه، لينجوبها الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1166 فإن راوده الأمل، ونازعته نفسه إلى حمل شىء معه، كان نظره إلى أعزّ شىء عنده، يجعله معه، ويمنّى نفسه بالنجاة به، فإن هو قد وجد فرصة النجاة ضيقة تخفف مما حمل، ورمى بالعزيز، دون الأعزّ.. ثم إذا ضاقت الدائرة بحيث لا تتسع إلا لنفسه، رمى بكل شىء، وطلب السلامة لنفسه، والفرار بجلده. إن هذه الدقة البالغة غاية الأحكام، فى تصوير الحقائق، وانتزاعها من أغوار النفس، ومسارب الفكر، لا تكون فى غير القرآن الكريم، ولا تجىء إلا من تلقائه، حيث القدرة المعجزة، والبيان المفحم.. ولو ذهب كانب أو شاعر، يصور هذه الأحوال، لما أمكن أن يقارب هذا التصوير القرآنى، ولا أن يقع فى ظلاله.. وهب شاعرا أو كانبا وقع فى نفسه هذا الترتيب، أفتظن أنه كان يستطيع أن يجد له هذا البيان الواضح السمح، الذي يتدفق تدفق النور من وجه الصباح الوليد؟ ثم أكان يفرّق في هذا المقام بين زوجة وزوجة بهذه اللفظة المعجزة: «صاحبته» التي تضمن لهذا الترتيب بين أهل الإنسان وعشيرته، الصدق والواقعية؟ ثم ماذا؟ ثم هذا العطف بالواو فى الآيتين: «يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ. وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ.» . «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ» . (34- 36: عبس) . هذا العطف بالواو.. ماذا تقول فيه؟ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1167 إن علماء البلاغة يقولون: إن الواو لا تفيد ترتيبا ولا تعقيبا، وأنها لمطلق الجمع.. وربما كان هذا حقّا.. وهو حق فعلا، ولكنه فى مجال الكلام الذي يكال كيل التمر، ولا يوزن وزن الدّر، والذهب. أما حين يرتفع مستوى الكلام إلى أعلى منازل البلاغة، ثم يجاوزها فيكون من كلام الله سبحانه فى كتابه الكريم، فإن الأمر يختلف، حيث يكون لكل حركة معنى، ولكل وضع من النظم مقصدا، لا يتحقق إلّا به. فالواو فى القرآن الكريم، صالحة فى أغلب الأحيان، لأن تفيد الترتيب والتعقيب، فتجعل للمتقدم وضعا غير وضع المتأخر، ومع اشتراكهما فى الحكم، فإنهما على درجات فى هذا الحكم، وتلك خاصة من خصائص البيان القرآنى، وسر من أسراره، لا يشاركه فيه غيره من شعر أو نثر.. وهكذا فرّق أصحاب البصر بكتاب الله بين المتعاطفين بالواو، وجعلا لكل منهما مكانا خاصا من المشاركة فى الحكم الذي اشتركا فيه.. فأبو بكر رضى الله عنه، يقيم حجته على الأنصار، بتقديم المهاجرين عليهم من قوله تعالى: «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ» - فيقول لهم: «أسلنا قبلكم، وقدّمنا فى القرآن عليكم» .. وقد سلّم الأنصار له بهذه الحجة ولم ينازعوه فيها.. وإذن، فهذا الترتيب الذي جاءت عليه الآيات الكريمة فى الموضعين السابقين هو ترتيب لازم، وإن كانت الواو هى أداة العطف فى هذا الترتيب! ثم لعلّ سائلا يسأل: إذا كان هذا الترتيب لازما، فلماذا لم يجىء العطف بالفاء ليكون ذلك أدلّ على المراد، وأبلغ فى بيان المطلوب؟ وأكاد أوثر ألّا أجيب على هذا التساؤل، وأدع السرّ الإعجازي للعطف الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1168 بالواو محجّبا فى جلاله لا يغشى حماه إلا من يسعى إليه، ويقف على مشارف حماه، يخالس النظر إليه، ويرشف من رحيقه قطرة قطرة.. ولأنى على يقين من أن أي جواب أجيب به عن هذا التساؤل، لا يمكن أن يقطع النظر عن البحث وراء أسرار هذا العطف تلك الأسرار التي لا تنفد أبدا، على كثرة ما يقع منها لأنظار الناظرين فيها. ولهذا، فإنى لا أرى داعية إلى الإمساك عن الإجابة على هذا التساؤل، بما وقع لى.. ثم إن لغيرى أن يقبل هذه الإجابة، أو يعدّلها، أو يبحث عن جديد غيرها.. وإنه لواجد جديدا، وجديدا.. فأقول: لعل أول ما يبدو من إيثار النظم القرآنى العطف بالواو، هو أن هذا العطف بالواو فى هذا المقام، يتسع لتحقيق المعنى الذي تتحق به الموافقة للواقع. ذلك أن هذا الترتيب فى التخلّي عن الأعزاء، أو سوقهم إلى ساحة التضحية والفداء، لا يقع بهذا التحديد على تلك الصورة المعروفة، التي تقع فى الحياة، حين يكون للمرء فرصة للاختيار، فيقدم ويؤخر، فيما يتخلى عنه، أو يقذف به فى وجه العذاب، واحدا، بعد واحد.. وكلّا، فإن شدّة الهول، ووقدة السعير، لا يكون المرء معها فرصة للتفكير والاختيار، وإنما هو يتخلى عنها جميعا مرة واحدة، ويقذف بها كلها دفعة واحدة!! ولكنها- مع هذا الحشد لها- تأخذا هذا الوضع فى الترتيب الذي جاء بها عليه النظم القرآنى.. والعطف بالواو، وبالواو وحدها، هو الذي يحقق هذه الصورة المجتمعة المتفرقة فى آن واحد.. وذلك لأن الواو لمطلق الجمع من جهة، وللترتيب بين المتعاطفين من جهة أخرى، ثم إنه ليس بين متعاطفيها إمهال ملتزم، كما يكون ذلك بين المتعاطفين بالفاء، أو ثم.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1169 تقول الآيات الكريمة فى هذه السورة: «يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ، وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ» - فتضع هؤلاء الضحايا جميعا على مذبح الفداء مرة واحدة، ثم هى- مع هذا- تضعهم بهذا الترتيب، فيما يشبه الزّمن العدمي!! وتقول الآيات الكريمة فى سورة أخرى: «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ.» (عبس: 34- 36) فتفرض على المجرم الفارّ من وجه العذاب- أن يرمى بكل هؤلاء جميعا دفعة واحدة كما يرمى بحصيات من يده، مرة واحدة ولكن- وبتدبير معجز- تخرج تلك الحصيات من يده على هذا الترتيب الذي جاءت به الآيات.. فهو يفر من أهله جملة واحدة، لا يفصل بين أفرادها زمن، ولكنها جملة مفصلة، تمر فى أسرع من آنات الزمن! ولو أن العطف وقع بالفاء، أو ثم فى الموقفين، لكان فى هذا الترتيب فواصل زمنية لازمة، لا يحتملها الموقف، ولا يحكيها واقع الحال! هذه واحدة.. وأخرى.. وهى أن الطبيعة البشرية فى مجموعها، وإن كانت تجرى على هذا الترتيب الذي جاءت عليه الآيات فى الموقفين، فى مقام المفاضلة بين الأهل والولد.. الابن، فالصاحبة (الزوج) ، فالأب، فالأم، فالإخوة، فالأهل والعشير.! ولكن هناك حالات خاصة تقضى بأن يكون لبعض الناس موقف خاص من هذا الترتيب، فيقدّم صنفا على صنف، لانحراف فى التفكير، أو لفساد فى الطبيعة، أو فتور فى العلاقة، أو غير هذا مما يغيّر فى وضع العلاقة الطبيعية بين المرء وأقاربه.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1170 وإنه لو جاء العطف بالفاء أو ثم، لكان هذا الترتيب حكما ملزما للناس جميعا أن يجروا عليه فى هذه المواقف، ولكان هذا الحكم غير صادق كل الصدق، ولوجد من الناس من ينقضه، ويخرج عليه.. أما العطف بالواو فإنه يتسع لقبول مثل هذه الحالات العارضة على الطبيعة البشرية، حيث أن العطف بها لا يفيد هذا الترتيب الملزم.. فهى- أي الواو- تفيد الترتيب المطلق من جهة، وبذلك تحقق الحكم العام الذي يجرى عليه معظم الناس، ثم هى من جهة أخرى، لا تجعل هذا الترتيب أمرا ملزما- لأن الترتيب ليس من طبيعتها، ولكنه شىء عارض فى مقام الإعجاز- وبذلك تتناول الأطراف المنحرفة من مجموع الإنسانية، وتجعل لها مدخلا فى الحكم، ومكانا فى الصورة. ثم ماذا بعد هذا؟ ثم كثير وكثير لا ينتهى أبدا.. «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً..» قوله تعالى: «كَلَّا إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى..» «كلا» ردع، وزجر، ونفى.. فإنه لا نجاة من هذا العذاب، ولا مفر من أن يقع بأهله، فلا يدفعه دافع من جاء أو سلطان، أو فدية من مال وبنين «إِنَّها لَظى» - تعليل لنفى النجاة عن أصحاب النار، وردّ أي فدية لو كان يملك أحد شيئا يقدّمه فى هذا اليوم.. إنها لظى! فهل يملك أحد أن يفرّ منها؟ وفى قوله تعالى: «إِنَّها لَظى» تلويح بهذه النار الجهنمية فى وجه المجرمين.. «إِنَّها لَظى!» وكفى..! فهل يستطيع أحد أن يفلت من «لظى» إذا أوقعه شؤمه، وضلاله فى طريقها؟ ذلك محال. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1171 وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم لعلى كرم الله وجهه، وقد عرض نفسه لينازل عمرو بن ودّ يوم الخندق، وقد تهيبه المسلمون يومئذ.. فقال صلوات الله وسلامه عليه- لعلىّ كرم الله وجهه-: «إنه عمرو!!» فقال علىّ: «وأنا على!!» . وسميت «لظى» لتلظّى لهيبها، وتأججه، وزفيره وشهيقه. «نَزَّاعَةً لِلشَّوى» حال من أحوال «لظى» .. وصاحب الحال «لظى» ، وهى معرفة، لأنها واحدة فى بابها، وعلم مفرد فى صفاتها وأفعالها.. والشوى: الأصراف، كاليدين، والرجلين. وفى قوله تعالى: «نَزَّاعَةً لِلشَّوى» إشارة إلى أن أول ما تحدثه النار فى الكائن الحىّ الذي يشوى بها، هو انخلاع أطرافه.. وهذا يعنى أن يفقد المعذّب بالنار القدرة على الحركة، إذا انفصلت عنه رجلاه اللتان يتحرك بهما، كما يفقد القدرة على الدفاع عن نفسه بيديه بعد أن عجز عن الفرار، إذ قد انخلعت عن جسده هاتان اليدان.. وهكذا يصبح كتلة مستسلمة للعذاب، مقيدة بقيد العجز المطلق.. وقوله تعالى: «تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى» .. حال أخرى من أحوال لظى، وأنها تدعو إليها من أعرض عن الإيمان بالله، وأعطى ظهره لدعوة الحق.. فكأنها يدعوتها تلك إنما تستقبل من أقبل عليها، وولى وجهه نحوها، حين أعرض عن الإيمان بالله، وكما تستقبل من أعرض عن الإيمان- تستقبل من جمع المال وأوعاه أي وضعه فى وعاء، وضمن به عن الإنفاق فى وجوه الخير، والإحسان.. وفى الجمع بين الإعراض عن الإيمان بالله، والإمساك عن الإنفاق فى سبيل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1172 الله- إشارة إلى شناعة البخل، وأنه يعدل الكفر، وهذا مثل قوله تعالى: «إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ» (33- 34: الحاقة) . الآيات: (19- 35) [سورة المعارج (70) : الآيات 19 الى 35] إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) التفسير: قوله تعالى: «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً» . الإنسان هنا، هو الإنسان الذي ضلّ عن سبيل الله، وكفر به، وبرسله وباليوم الآخر. وجاء الحكم على الإنسان مطلقا، على التغليب، لأن أكثر الناس هم هذا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1173 الإنسان الهلوع، كما يقول سبحانه: «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» (103: يوسف) وفى قوله تعالى: «خلق» - إشارة إلى أن هذا الذي عليه الإنسان من كفر وضلال، هو مما سبق به قضاء الله فيه، واقتضته مشيئته، كما يقول سبحانه: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (2: التغابن) ومع هذا القضاء السابق، والمشيئة الغالبة، فإن الإنسان مكلّف بأن يأخذ طريق الخير، ويتجه إلى جانب الأمن والسلامة من عذاب الله، لأنه لا يدرى ما قضاء الله فيه، ومشيئته له.. ولكن الذي يدريه ويقطع به، هو أن للنجاة طريقا، ينبغى أن يسلكه، وللهلاك طرقا يجب أن يتجنبها.. إنه يفرّق حتما بين النور والظلام.. وفى النور الهدى والسلامة، ومع الظلام الضلال والضياع. فإذا آثر الظلام على النور، والضلال على الهدى، ولم يتحرك بإرادته للخلاص مما هو فيه، فقد لزمته الحجة، وحق عليه العقاب. والهلوع: من الهلع، وهو الجزع الشديد. وقوله تعالى: «إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً» هو بيان الهلع الذي هو طبيعة غالبة فى الإنسان.. فإن من شأن هذه الطبيعة التي تملّكها الهلع، أنه إذا مس الإنسان شر لم يصبر عليه، واستبد به الجزع، واستولى عليه اليأس.. لأنه لا يستند إلى قوة القوىّ العزيز، ولا يستعين بعون الرّحمن الرّحيم.. إنه فى دائرة مغلقة عليه مع هذا البلاء الذي نزل به، لا يرى لهذا البلاء دافعا، ولا يتوقع من وراء هذا الضيق فرجا.. أما المؤمن بالله، فإنه إذا مسّه الشر، وأصابه الضر، نظر إلى وجه ربه الكريم، وبسط يد الرجاء إليه، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1174 يطمع فى رحمته، ويرجو كشف الضر عنه، فيجد فى هذا الرجاء متنفسا لكربه، وكشفا لضره. هكذا المؤمنون بالله، لا يحزنهم هم نازل، ولا يكربهم بلاء مطبق، لأنهم فى ضمان من رحمة الله، وعلى رجاء من فضله.. «وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ» (83: 84: الأنبياء) إن المؤمن على يقين من أن له ربّا يشكو إليه، وأن ربه سميع الدعاء، واسع الرحمة: «وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» (186: البقرة) . إن المؤمن لا يأسى على شىء فاته من أمور الدنيا، ولا يجزع لشىء أصابه من همومها، إذ هو على يقين من أن ذلك بقضاء وقدر، وأنه بتقدير العزيز الحكيم، وأن ما قدره الله سبحانه، هو الخير، وإن رآه الإنسان شرا، كما يقول سبحانه: «وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» (216: البقرة) ويقول جل شأنه: «فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً» (19: النساء) .. وفى هذا كله عزاء للمؤمن عند كل مصيبة، ومواساة عند كل كرب.. وفى هذا يقول الله سبحانه وتعالى: «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» (155: 157: البقرة) . أما الذي لا يؤمن بالله، ولا باليوم الآخر، فإنه قد خلّى بينه وبين مصيبته، يتجرع غصصها، ويمضغ جمرها، ويبيت على أشواكها، دون أن يجد للصبر طريقا، أو يرى للعزاء وجها.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1175 هذا الإنسان الذي لا يؤمن بالله فى مواجهة الرزايا، وفى لقاء المصائب، هو طعام للجزع، ووقود لليأس والحسرة! أما فى حال العافية، والرخاء، وسعة الرزق، وفيض المال، فهو متسلط جبار، لا يرى لأحد شيئا مما ملك، بل إن هذا الملك الذي فى يده، يغريه بإذلال الناس، واستعبادهم، حتى يزداد علوا، ويزداد غيره نزولا، ففى ذلك متعة له، ورضا لنفسه، وهناءة لقلبه.. كما يقول سبحانه: «وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً» . إنه لا يرى أبدا أن هذا الذي بين يديه، هو وديعة عنده، يمكن أن تسترد يوما ممن أودعها إياه ... وإنما يقوم تقديره على أن هذا الذي وقع له، هو من تدبيره، أو هو أمر لازم لذاتيته، ولما فيه من مزايا خاصة، أثمرت له هذا الثمر.. إنه يتصور أنه من عنصر كريم، لا يثمر إلا هذا الخير، الذي هو فيه، كما أن غيره من الفقراء والمساكين والضعفاء، هم من عنصر لا يجىء منه غير الفقر، والمسكنة والضعف.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى الكشف عن تفكير هذا الإنسان الضال المغرور بنفسه، إذ يقول سبحانه على لسانه: «وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي» (50: فصلت) أي هذا من طبيعة ذاتى، وخصّيصة وجودى.. أما الفقراء، وذوو الحاجة، فإنهم ليسوا أهلا لغير الفقر والحاجة، ولو كانوا يستحقون غير ما هم فيه، لما بخل الله عليهم به. «أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ» (47: يس) وقوله تعالى: «إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ..» . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1176 هو استثناء من قوله تعالى: «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً» . فالحكم العام على الإنسان، هو أنه هلوع جزوع، إذا مسه الشر.. منوع بخيل، إذا مسّه الخير.. ويستثنى من هذا الحكم العام أولئك الذين آمنوا بالله من بنى الإنسان، ثم امتثلوا شريعة هذا الإيمان، فأتوا ما أمرهم الله به، واجتنبوا ما نهاهم عنه.. والصلاة، هى الركن الأول من الأركان التي قام عليها الإيمان، ولهذا كانت أول صفة يتصف بها المؤمنون، لأنها هى الطريق الذي يصلهم بالله. فإذا تركها المؤمن، انقطعت صلته بربه، إلى أن يعود إليها، وفى هذا يقول الله تعالى: (إننى أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدنى وأقم الصلاة لذكرى) (14: طه) فالصلاة هى التي تذكّر بالله، وتصل العبد بربه، وتملأ قلبه خشية منه، وولاء له. ثم تأتى الصفة الثانية التي يتصف بها المؤمن بعد الصلاة، وهى الزكاة، فيقول سبحانه: «وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ» .. فإن من شأن من يؤمن بالله، ويداوم على الصلاة- من شأنه أن يذكر ربه، ويذكر أن ما فى يده، هو من رزق الله له، ومن إحسانه إليه، وهو بهذا لا يبخل بهذا المال، ولا يضن به على الإنفاق فى وجوه البرّ، لأن ما ينفقه هو مدّخر عند الله له، ثم هو فى الوقت نفسه، لا ينقص شيئا من رزقه المقدر له.. فما أنفقه فى وجوه الخير، هو صدقة زائدة، تصدّق الله سبحانه وتعالى بها عليه، لتكون طهرة له.. وما أمسكه فى يده، هو الرزق المقدر له.. والحق المعلوم فى أموال المؤمنين، هو الزكاة المفروضة عليهم.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1177 والسائل: هو الذي يسأل عند الحاجة، والمحروم: هو المحتاج الذي لا يسأل، حياء وتعفّفا.. هذا وقد جمع الله سبحانه وتعالى بين الصلاة والزكاة فى سبعة وعشرين موضعا من القرآن الكريم، كما التزم القرآن الكريم تقديم الصلاة على الزكاة فى كل موضع اجتمعتا فيه.. وفى هذا الجمع بين الصلاة والزكاة- إشارة إلى أنهما من باب واحد، فى باب الإيمان والإحسان! .. ثم إن فى تقديم الصلاة على الزكاة، إشارة إلى أن الصلاة هى التي تخلق فى الإنسان العواطف والمشاعر التي تدعو إلى الرحمة، والعطف، والإحسان، فالزكاة ثمرة من ثمرات الصلاة.. والثمرة فرع من أصل، هو الشجرة! وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ» .. أي ومن صفات المؤمنين بالله، الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، أنهم يصدقون بيوم الدّين، ويؤمنون بالبعث، والحساب والجزاء، فإنه بغير هذا التصديق بيوم الدين، لا يكمل إيمانهم بالله، ولا يقوم عندهم شعور واضح بهذا الإيمان، إذ أن الإيمان بالحساب والجزاء هو الذي يعطى الإيمان بالله، الواقع العملي لهذا الإيمان، بما يقدّم الإنسان من أعمال صالحة، وبما يتجنب من أعمال سيئة، إعدادا ليوم الحساب، واستعدادا للقاء الله فى هذا اليوم.. ولو أخلى الإيمان بالله، من الإيمان باليوم الآخر، لكان الإيمان بالله- إن وجد- مجرد فكرة ذهنية، لا يكاد يكون لها أثر فى سلوك الإنسان، ولا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1178 حساب فيما يأتى وما يذر من الأعمال.. وسمّى يوم القيامة «يوم الدين» لأنه يوم الدينونة، ويوم الحساب، حيث يدان الإنسان، ويجازى بما عمل.. وأصله من الدّين، لأن لله سبحانه وتعالى دينا على كل مخلوق، بخلقه من عدم، ثم بما أودع فيه من قوى، ثم بما أفاء عليه من فضله وإحسانه.. ولهذا كان كل موجود مسبّحا بحمد الله، قضاء لبعض هذا الدين.. وقد وفىّ كل مخلوق دينه لخالقه، إذ لم ينحرف عن الطريق الذي أقامه الله سبحانه وتعالى عليه، ما عدا الإنسان: فإن أي إنسان مهما اجتهد فى طاعة الله، وتحرّى مواقع مرضاته، فإنه لا يسلم أبدا من عوارض التقصير.. ولهذا كان الناس جميعا واقعين تحت الدينونة.. والديان، صفة من صفات الحق جلّ وعلا، لأنه صاحب الفضل والإحسان على هذا الوجود.. يقول الشاعر: لاه ابن عمّك لا أفضلت فى حسب ... عنّى ولا أنت ديّاني فتخزونى وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ» - إشارة إلى أن الخشية من عذاب الله، هى القوة العاملة فى توجيه الإنسان إلى الخير، وتجنبه للشر، أكثر من الطمع فى الجنة والرغبة فى نعيمها.. فمن طبيعة الإنسان أنه يحرص على أن يتوقىّ الشر، ويعمل له حسابا، أكثر من حرصه على تحصيل الخير والجدّ فيه.. ومن هنا كان من المبادئ العامة فى الشريعة الإسلامية: «أنّ دفع المضار مقدم على جلب المنافع» فإن دفع الضرر، هو فى الوقت نفسه جلب لمنفعة، هى السلامة من هذا الضرر، والعافية من بلائه.. فدفع المضار الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1179 مقترن دائما بجلب المصالح والمنافع.. على خلاف ما يكون من جلب المنافع، فإنه قد تجلب المنفعة، ولا يكون معها دفع مضرة.. مثل جلب المال إلى المال بعد سدّ حاجة الإنسان. فإن جلب المال لدفع الحاجة، هو دفع لضرر وجلب لمصلحة معا، وجلب المال لغير سدّ حاجة، هو جلب لمنفعة، لا يصحبه دفع ضرر.. وشتان بين الأمرين.. وفى هذا يقول الله تعالى: «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» (185: آل عمران) .. فالزحزحة عن النار دفع لضرر، جلب معه مصلحة، وهو دخول الجنة.. أما من دخل الجنة ابتداء من غير أن يتحقق أنه زحزح عن النار، فإن شبح النار لا يزال مطلّا عليه، لأنه لم يعلم حقيقة أمره مع النار.. ولعل هذا هو السر فى قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» (71- 72: مريم) . وقوله تعالى: «إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ» .. أي أن المؤمن- مع إيمانه بالله، وإقامته الصلاة. وإيتائه الزكاة، وتصديقه باليوم الآخر- كل ذلك لا يخلى نفسه من الشعور بالخوف من الله، والوقوع تحت طائلة عذابه.. فما أحد يدرى ما الله صانع به، وما أحد يدرى أهو من أهل الجنة أم من أهل النار، وإن كان- مع هذا- طريق قائم على الجنة، وأعمال تبلغ بالعاملين على هذا الطريق، إلى الجنة.. وطريق قائم على النار، وأعمال تسوق العاملين على هذا الطريق، إلى النار.. ثم الحكم بعد هذا كله إلى الله وحده، «يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» .. (31: الإنسان) الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1180 [الإسلام.. وشهوة الجنس] قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ» . أي وكذلك من صفات المؤمنين- مع إيمانهم بالله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والتصديق باليوم الآخر، والخشية من عذاب الله- هم أنهم لفروجهم حافظون، أي حافظون لها من الوقوع فى الحرام. وقوله تعالى: «إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ» .. «إلّا» هنا بمعنى لكن، التي تفيد الابتداء لا الاستثناء.. فما بعدها منقطع عما قبلها.. وهذا يعنى أن الحفظ للفروج هنا، هو حفظ مطلق، لا استثناء فيه.. فإمّا حفظ، أو غير حفظ.. لأن غير الحفظ يكون عدوانا، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى موضع آخر: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ «1» (5- 7: المؤمنون) فعدم حفظ الفروج يكون عدوانا على حرمات الناس.. وعلى هذا يكون المعنى، أن من شأن المؤمنين أن يحفظوا فروجهم، وألا يكون منهم عدوان على حرمة الناس، أما عدوانهم على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم من إماء، فإنهم غير ملومين فيه.. ففى قوله تعالى: «فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ» - إشارة خفيّة إلى أن هذه الإباحة للأزواج، وما ملكت الأيمان، ليست على إطلاقها، وإنما هى محفوفة بسياج متين، ومحاطة بحراسة قوية، لا يؤذن بالدخول إليها إلا بحساب، وتحت مراقبة!.   (1) انظر تفسير هذه الآية فى سورة (المؤمنون) من التفسير القرآنى للقرآن. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1181 وهذا يعنى أن للفروج حرمة حتى فى مواقع الحلال، فلا تبتذل، ولا تمتهن، ولا تسترخص، ولا تستباح، كما تستباح فروج البهائم فى غير ستر من الحياء والتصون.. إنها أكرم وأعز من أن ينظر إليها كما ينظر إلى المتاع.. إنها شرف الإنسان وعرضه وكرامته، فإذا أحل الله للإنسان أن يستبيح شرفه، وعرضه وكرامته لحساب نفسه، فليكن ذلك فى حدود نفسه، بحيث لا يطلع عليه أحد.. وهذا هو بعض السرّ فى قوله تعالى: «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ» (187: البقرة) - فقوله تعالى: «هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ» يجعل من كلّ من الزوج وزوجه كيانا واحدا، يجمّل كلّ منهما صاحبه بلباس ضاف من الستر والحياء، والتصوّن..! هذا هو أدب الإسلام، وتلك هى تربيته العالية للإنسان، والارتفاع بإنسانيته إلى هذا المستوي الكريم من التعفف والتصوّن، والتسامى على شهوات الحيوان الكامن فيه.. فلو أن إنسانا يكون ملاكا يمشى على الأرض لكانه هذا الإنسان المسلم الذي ينشّأ فى حجر الإسلام، ويربى على تعاليمه، ويتأدب بآدابه. ودع ما يتخرص به أعداء الإسلام وحاسدوه، من أن الشريعة الإسلامية تقوم أساسا على استرضاء الغرائز البهيمية فى الإنسان، وخاصة ما يتصل بالعلاقة بين الرجل والمرأة، التي وقف بها الإسلام- كما يقولون كذبا وافتراء- عند حدّ إشباع الشهوة الجنسية، وإطلاق العنان لها، بلا حدود ولا قيود، بحيث يستطيع الرجل دائما أن يضم فى بيت الزوجية أربع نساء، يتبدل بهن كل يوم- إن شاء- أربعا!! وهكذا يستطيع المسلم أن يتزوج مئات النساء، وأن يلتقى كل يوم بوجوه جديدة منهن.. هذا إلى الإماء والجواري- إن كان هناك إماء وجوار! الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1182 وحتى الجنة التي وعد الإسلام بها أتباعه، هى جنة حور وولدان، يجد المرء منهما بين يديه مئات، وألوفا، دون وقوف عند حدّ.! هكذا يشنّع أعداء الإسلام على الإسلام، ويرمونه بهذه التهم الظالمة متخذين من ظاهر بعض النصوص القرآنية، حججا يقيمونها على مفهوم خاطئ، ويتأولونها تأويلا قائما على الهوى، يعينهم على ذلك ما وصل إليه حال المجتمع الإسلامى فى بعض بيئاته الجاهلة التي لا تعرف من الإسلام إلا اسمه، ولا تأخذ منه غير ظاهر الأشكال والرسوم، دون أن يكون لها حظ من صميم هذا الدين الذي جاءت رسالته لتسوية خلق الإنسان، والبلوغ به إلى غاية كمالاته، كما يقول الرسول الكريم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» .. فما جاء الرسول الكريم داعيا إلى جديد فى بناء الحياة العقلية، والروحية، والنفسية، والعاطفية للإنسان، وإنما جاء ليزين هذا البناء، ويجمله، ويكمله.. وبعد، أفلا يخجل أولئك الذين يتزيّون بزىّ الإسلام، ثم تخرج من أفواههم كلمات العهر والفجور، ينهقون بها كما تنهق الحمر؟ وألا يستحى أولئك الذين يتسمون بأسماء إسلامية ثم يظهرون على أعين الناس فى تلك الأثواب الفضفاضة من الخلاعة والمجون؟ إن هؤلاء الخلعاء الرقعاء، هم شهود زور يدينون الإسلام أمام محكمة الرأى العام، وينفّرون الناس منه، ويصدّونهم عن سبيله.. وإنه لخير للإسلام أن يتحول عنه هؤلاء الذين يرمونه بسهام قاتلة، إلى صفوف أعدائه، حتى لا ينخدع بهم الناس، ولا يسودّ بهم وجه الإسلام المسلمين فى أعين الناظرين إلى الإسلام وأهله!. قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ» . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1183 هو بيان لصفة أخرى من صفات المؤمنين، وهى رعاية الأمانات التي أؤتمن عليها المؤمن، سواء أكانت هذه الأمانات لله، فيما فترض سبحانه على المؤمن، من صلاة، وزكاة، وصوم، وحج- وجهاد، أو كانت من أمانات الإنسان لنفسه، كفرجه.. أو أمانات للغير، كالودائع ونحوها.. والعهود، هى المواثيق التي بين العبد وربه، وبينه وبين نفسه، وبينه وبين الناس، وهى من قبيل الأمانات.. ورعاية هذه الأمانات، هى أداؤها على الوجه الذي أمر الله به.. وفى نقض العهود خيانة للأمانة، وفى خيانة الأمانة نقض للعهد للأخوذ على المؤمن بحفظها. قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ» .. وقيام الشهادات، صفة من صفات المؤمنين، وهو أداء الشهادة على وجهها لذى يحقّ الحق، ويبطل الباطل.. «وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ» (283: البقرة) .. وفى التعبير عن أداء الشهادة على وجهها، بلفظ القيام بها، إشارة إلى أن الذي يؤديها، إنما يقيم بها ميزان العدل، كما يقول سبحانه: «وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ» (9: الرّحمن) وكما يقول جل شأنه: «وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ» (4: الطلاق) .. كما أنه يشير إلى أن أداءها أمر له شأنه وخطره، وأنه مطلوب من الإنسان أن يقوم لها بكيانه كلّه، وأن يظل هكذا قائما حتى يؤديها.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1184 وهذا مثل قوله تعالى: «وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ» (238: البقرة) .. قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ» .. وحفظ الصلاة، هو أداؤها على وجهها الصحيح، بما يسبقها من طهارة الجسد، والثوب، والمكان، وبما يقوم بين يديها من انشراح صدر، وروح نفس، واستحضار ذهن، واجتماع فكر، وبما يصحبها من خشية وجلال، فى مناجاة ذى العظمة والجلال.. فمن صفات المؤمنين أنهم على صلاتهم دائمون، أي يؤدونها فى أوقاتها، وأنهم إذ يؤدونها إنما يؤدونها على تلك الصفة، من الجلال، والرهبة، والخشوع.. وقد فصل بين أداء الصلاة فى قوله تعالى: «الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ» وبين الصفة التي تؤدّى بها فى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ» - فصل بينهما بتلك الآيات التي تدعو إلى أداء الزكاة، وإلى التصديق بيوم الدين، والخشية من عذاب الله، وإلى حفظ الفروج، وأداء الأمانات، والقيام بالشهادات- لأن أداء الصلاة مطلوب على أية حال، لا يقوم للمؤمن عذر أبدا يحلّه من أدائها فى أوقاتها.. أما أداؤها على تلك الصفة الخاصة من الخشوع، والخضوع، والرهبة، والجلال، فهو أداء للأمانة، وأنه لا تبرأ ذمة الإنسان منها إلا بأدائها على تلك الصفة، فإذا لم يؤدها على تلك الصفة، فهى لا تزال أمانة فى يده، ومطلوب منه أن يؤديها على وجهها، أما إذا لم يؤدّ الصلاة أصلا، فهو تضييع لتلك الأمانة، يحاسب «م 75 التفسير القرآنى ج 29» الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1185 عليها حساب المضيّعين للأمانات، وإنه حينئذ ليعز عليه أن يجدها، إذا هو أراد أن يؤديها، لأنها أفلتت من يده! وهذا يعنى أن دوام الصلاة، والمواظبة عليها فى أوقاتها، من شأنه أن يبلغ بالإنسان يوما، القدرة على أدائها كاملة، وأنه إذا فاته مرحلة من مراحل أدائها أن يمتلىء قلبه بالخشوع والرهبة معها، فإنه- مع المواظبة- سيجيئ اليوم الذي يجد فيه لصلاته ما يجد المصلون الخاشعون.. وهذا ما يشير إليه الرسول الكريم فى قوله لمن جاء يقول له: إن فلانا يصلّى، ولا ينتهى عن المنكر، فيقول- صلوات الله وسلامه عليه-: «إن صلاته ستنهاه» .. أي ستنهاه عن المنكر يوما ما، إذا هو واظب عليها، فإن المواظبة عليها من شأنها أن تعلق الصلاة بقلبه، ثم يكون لها بعد ذلك سلطان عليه، ثم يكون لهذا السلطان وازع، بما يشبع فى قلبه من رهبة وخشية لله!. ومن جهة أخرى، فإن التنويه بالصلاة بدءا وختاما، يجعل هذه الفضائل- التي بين أداء الصلاة، والصفة التي تؤدّى عليها- فى ضمان هذا الحارس القوى الأمين، وهو الصلاة، فإذا لم يكن بين يدى هذه الفضائل صلاة، وإذا لم يكن خلفها صلاة، جاءت هذه الفضائل فى صورة باهتة هزيلة، لا تلبث أن تجف، وتموت، ولا يبقى لها فى كيان الإنسان داع يدعو إليها، أو هاتف يهتف بها.. ومن هنا كانت الصلاة عماد الدين، كما يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه. قوله تعالى: «أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ» . فهذا هو جزاء المؤمنين الذين يكونون على تلك الصفات، التي بيّنتها الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1186 الآيات السابقة.. إنهم مكرمون عند الله، فى جنات، يتقلبون فى نعيمها، حيث يكونون فى ضيافة أكرم الأكرمين، رب العالمين.. الآيات: (36- 44) [سورة المعارج (70) : الآيات 36 الى 44] فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44) التفسير: كانت الآيات السابقة على هذه الآيات، حديثا متصلا عن المؤمنين، وما ينبغى أن يكونوا عليه من صفات كريمة عالية، حتى ينالوا رضوان الله، ويدخلوا فى جنات النعيم، يتلقون فيها من ربهم فواضل الإكرام والإحسان.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1187 وهذه الآيات، تواجه المشركين، الذين أبوا أن يستجيبوا لدعوة الإيمان، وأن يكونوا من المؤمنين.. وفى قوله تعالى: «فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ. عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ» ؟ المراد بالذين كفروا هنا، هم المشركون، الذين دخلوا فى الحكم الذي أشار إليه قوله تعالى فى الآيات السابقة: «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً» . وقد استثنى من هذا الحكم العام على الإنسان- المؤمنون، الذين هم على صلاتهم دائمون، والذين فى أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم.. إلى آخر ما وصفهم الله سبحانه وتعالى به من صفات تدنيهم من التقوى، وتقربهم من الله.. وقد وعد الله هؤلاء المؤمنين بمقام كريم فى جنات نعيم.. وإنه إذ تنتهى آيات الله بالمؤمنين إلى هذا الموقف، وتنزلهم منازل الرضوان فى جنات النعيم- تلتفت إلى هؤلاء المشركين، فتسأل النبي الكريم عنهم، سؤال المنكر لهذا الموقف الذي هم فيه من النبىّ: «فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ؟» أي ما بالهم يتحركون بين يديك يمينا وشمالا، مسرعين إلى شئون شتى، من جدّ أو هزل، دون أن يلتفتوا إليك، أو يستجيبوا لدعوتك؟. وقبل النبي: تجاهه، وقبالته.. ومهطعين، أي مسرعين.. كما في قوله تعالى: «مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ» (8: القمر) . وقوله تعالى: «عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ» بيان لحال المشركين، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1188 وهم يهطعون جماعات جماعات، عن يمين النبي وعن شماله، ينطلقون فى كل وجه، كما تنطلق الماشية في المرعى، على حين يرون النبي والمؤمنين، فى شغل بعبادة الله، وسعى إلى الصلاة، فلا يكون منهم إلى النبي وأصحابه إلا نظرات تائهة بلهاء، أو عيون متغامزة فى سخرية واستهزاء.. والعزون. الجماعة، ومنه العزّة، وهى تكون غالبا من لوازم الكثرة. قوله تعالى: «أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ؟» . الاستفهام إنكارى، وقد جاء الجواب عنه بالنفي فى قوله تعالى: «كَلَّا.. إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ» . أي كلا.. إنهم لن يدخلوا مداخل المؤمنين أبدا، ولن يكون لهم إلى جنة النعيم سبيل. وقوله تعالى: «إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ» .. هو بيان لقدرة الله سبحانه وتعالى، وأن أمر البعث الذي ينكرونه، وهو الذي يفسد عليهم رأيهم فيما يسمعون من آيات الله- هو هيّن بالنسبة لخلقهم من هذه النطفة، التي لا تعدو أن تكون نفاية من تلك النفايات التي تلفظها أجسامهم، كالمخلط، أو اللعاب ونحوها.. ومع هذا فإن هذه النطفة يقوم منها إنسان سوىّ الخلق، خصيم مبين!!. فهذه النطفة التي يتخلق منها الإنسان، هى مما يعلم هؤلاء المشركون علما مستيقنا، بالتجربة الواقعة، التي لا تغيب عن أشدّ الناس غباء وجهلا. قوله تعالى: «فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ، عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ» . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1189 «لا» فى قوله تعالى: «فَلا أُقْسِمُ» للنفى.. أي نفى القسم برب المشارق والمغارب، تنزيها لله سبحانه وتعالى، أن يقسم به على أمر لا يحتاج إلى قسم، لظهوره، ظهورا يكاد فى عداد البديهيات.. وهو أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يذهب بهؤلاء المشركين، ويقطع دابرهم، ثم يأتى بمن هم خير منهم وعيا، وإدراكا، واستقامة على طريق الهدى.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ» . (19: إبراهيم) . وقوله تعالى: «وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ» أي أننا حين نطلب من نريد إهلاكه، لا يفوتنا، ولا يعجزنا، كما فى قوله تعالى: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا؟ ساءَ ما يَحْكُمُونَ» (4: العنكبوت) وكما يقول سبحانه على لسان الجن: «وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً» (12: الجن) قوله تعالى: «فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ» .. هو تهديد لهؤلاء المشركين، وذلك بأن يدعهم النبي وما هم فيه من خوض فى الباطل، ولعب فى مواقع الضلال، حتى يلاقوا اليوم الذي يوعدون، وهو يوم القيامة، وما توعّدهم الله به من عذاب.. قوله تعالى: «يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ» . «يَوْمَ يَخْرُجُونَ» - هو بدل من «يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ» .. ففى هذا اليوم الموعود، يخرجون من الأجداث، أي القبور، سراعا، حيث يساقون سوقا إلى موقف الحساب، والجزاء، وكأنهم فى سرعتهم ذاهبون إلى نصب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1190 يجتمعون عنده، ليشهدوا مجلسا من مجالس عبادتهم، يمنّون فيه أنفسهم بالربح العظيم من عبادته. والنّصب: واحد الأنصاب، وهو الصنم، وكل ما نصب ليعبد من دون الله ويوفضون: أي ينتهون إلى هذا النصب.. وأوفض إلى كذا، وأفضى إليه.. أي تتبعه، وانتهى إليه سراعا.. قوله تعالى: «خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ» . «خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ» حال من أحوال هؤلاء المشركين، بعد خروجهم من قبورهم وسوقهم إلى الموقف أو المحشر.. إنهم يسرعون مسوقين إلى هنالك، وقد خشعت أبصارهم ذلة، وهوانا. وقوله تعالى: «تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ» حال أخرى من أحوالهم.. أي قد أرهقتهم ذلة، وأنهكتهم، واشتدت عليهم وطأتها، وآدهم حملها.. وقوله تعالى: «ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ» إلفات للمشركين إلى هذا اليوم، وما يطلع عليهم فيه من بلاء عظيم، وكرب يقصم الظهور! إنه هو ذلك اليوم الذين كانوا يوعدون به فى الحياة الدنيا، ولا يصدقون به، ولا يعملون حسابا له.. وها هوذا قد جاءهم بالعذاب، فماذا هم فاعلون؟ لا شىء إلا الصراخ والعويل، وتقطيع القلوب حسرة وندامة.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1191 71- سورة نوح نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة النحل.. عدد آياتها: ثمان وعشرون آية.. عدد كلماتها: مائتان وأربع وعشرون.. كلمة.. عدد حروفها: تسعمائة وتسعة وخمسون.. حرفا.. مناسبتها لما قبلها ختمت سورة «المعارج» بعرض هذا الموقف الذي يقفه المشركون من النبىّ، وبدعوة النبي من الله سبحانه، أن يتركهم فيما هم فيه، ليخوضوا، ويلعبوا، حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون.. وبدئت سورة «نوح» بذكر موقف قوم نوح منه، وتأبّيهم عليه، وأنه لبث فيهم عمرا طويلا امتد ألف سنة إلا خمسين عاما، يغدو ويروح بينهم بدعوته، يعرضها عليهم فى كل معرض، ويلقاهم بها على كل وجه، فما استجابوا له.. ثم كانت عاقبتهم هذا العذاب الذي أخذهم الله به فى الدنيا، وإن لهم فى الآخرة لعذابا أشد وأنكى.. فالمناسبة بين السورتين قريبة، تجعل منهما سورة واحدة، لموقف واحد.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1192 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الآيات: (1- 14) [سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14) التفسير: قوله تعالى: «إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً..» قصة نوح هنا مع قومه- كما يذكرها القرآن الكريم- تمثل الموقف الأول لرسل الله، فى مواجهة أقوامهم، وما يلقون منهم من سفاهة، وضلال، وعناد.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1193 فالضلال، والسفه، والعناد، طبيعة، غالبة فى الإنسان، متمكنة فى بنى آدم، وإن هذه الآفات ليست أمرا عارضا فى قوم من الأقوام، أو أمة من الأمم. ولعل هذا من بعض الأسرار التي جاءت من أجلها سورة نوح، فى أعقاب سورة «المعارج» التي جاء فيها قوله تعالى: «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً» .. فهذا الإنسان يرى على صفته تلك، فى آبائه الأولين، قوم نوح.. وفى قوله تعالى: «أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» إشارة إلى أن القوم كانوا على مشارف الهاوية التي تهوى بهم إلى الهلاك، وأن نوحا إنما بعث إليهم لينذرهم بهذا الخطر الذي يتهددهم، ويوشك أن يشتمل عليهم.. وفى قوله تعالى: «قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ» - بعد الأمر الذي أمر به من ربه، دون توان أو تردد- فى هذا ما يشير أيضا إلى أن الأمر يقتضى المبادرة بإنذار القوم، قبل أن تقع بهم الواقعة التي هى وشيكة الوقوع! وفى كلمات قليلة، ألقى نوح إلى القوم بهذا الإنذار: «إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ» .. إنه لا وقت للحديث، والنار تشتمل على القوم، وتكاد تعلق بهم.. إنها كلمة واحدة: أن اطلبوا وجها للنجاة من هذا البلاء!! ثم يقدم إليهم نوح بعد هذا التنبيه إلى الخطر، مركب النجاة، الذي إن أسرعوا إليه، ودخلوا فيه، سلموا من الخطر المحدق بهم.. وهو الإيمان بالله، والاستقامة على طريق تقواه: «أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ» فإنهم إن آمنوا بالله، وعبدوه، واتقوا حرماته، يدفع عنهم يد الهلاك المطلة عليهم، ويؤخرهم إلى الأجل المسمى لهم، حتى يستوفوا أعمارهم، فلا يبادرهم العذاب، وهم على طريق الحياة.. «يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» .. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1194 وقوله تعالى: «إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ» - إشارة إلى أن الآجال المقدرة لا تؤخر أبدا، وأنه إذا انتهى الأجل الذي قدره الله، للإنسان، أو الجماعة، فلن يؤخره الله سبحانه أبدا.. وفى هذا احتراس لما يقع فى الأفهام، من أن القوم إذا استجابوا لله امتدت أعمارهم، إلى ما وراء الأجل المقدور لها عند الله.. وإنما هذا الامتداد للآجال الذي وعدوا به، هو فى ظاهر الأمر البادي لهم، وهم فى يد الهلاك، الذي سيأخذهم جميعا.. وأنهم إذا استمعوا لما يدعوهم إليه نوح، ونجوا من هذا الهلاك- كانت هذه النجاة قدرا من أقدارهم، وكان الانتظار بهم هو الأجل المقدور.. كما أنهم لو عصوا نوحا، ولم يقبلوا ما يدعوهم إليه، ووقع بهم الهلاك- كان هذا الهلاك قدرا من أقدارهم، وكان الموت المعجل لهم، هو نهاية الآجال التي قدرها الله لهم.. إن هذا التحذير، هو أمر مطلوب، وإن الفرار من وجه الخطر هو أمر مطلوب أيضا، فإذا نجا الناجي، فإنما نجا لأنه لم يستوف أجله بعد، وإذا هلك الهالك، فإنما هلك لأن أجله المقدور له قد انتهى.. ولقد دعا نوح قومه، فلم يسمعوا له، ولم يحفلوا به، فجاء إلى ربه شاكيا.. «قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً..» تلك هى حال القوم مع هذا النذير الذي جاء يدعوهم إلى النجاة من هذا البلاء المطل عليهم، وتلك قصته معهم، يعرضها على ربه، شاكيا عنادهم، طالبا من الله أخذهم بالعذاب الذي هم أهل له.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1195 وإن القوم ليبلغون فى السفاهة غايتها، ويركبون من الجهل أشرس مطاياه وألأمها.. إنهم كلما سمعوا صريخ النذير، ازدادوا فرارا منه، وقربا من موقع الخطر الذي يحذرهم منه.. وإنهم كلما سمعوا صريخ هذا النذير، جعلوا أصابعهم فى آذانهم، كأنما يسمعون منكرا، يسدون عليه المنافذ أن يصل إلى آذانهم، وإنهم لم يقفوا عند هذا، بل غطّوا وجوههم: «وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ» أي جعلوها غاشية تحجبهم عن أن ينظروا فى وجه هذا النذير، حتى لا يروا منه أية إشارة تشير إليهم، وتحذرهم من الخطر الزاحف عليهم..!! وفى قوله تعالى: «وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ» إشارة إلى ما وقع فى نفوسهم من جفاء لهذا النذير، وإلى ما أضمروا من عداوة له.. إنهم يتقونه كما يتقى الأطفال شبحا مخيفا يطلع عليهم فى أحلام اليقظة، فلا يجدون سبيلا إلى الهرب منه، إلا بحجز حواسهم عنه، وإغلاق كل المنافذ التي بينهم وبينه، من بصر أو سمع! إنهم يغطّون وجوههم بثيابهم، ويدخلون رءوسهم فى جيوبهم، خوفا وهلعا من هذا النور الذي يطلع فى سماء ليلهم المظلم البهيم.. وقوله تعالى: «ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً» .. هو بيان للأسالبب المختلفة التي اتخذها نوح، لينفذ بدعوته من هذه الحجب الصّفيقة التي أقامتها القوم على أسماعهم، وأبصارهم.. فهو تارة يدعوهم جهارا، صارخا صراخ من يتحدث إلى أصمّ لا يسمع، حتى يخترق بصراخه العاصف، هذا السد الذي أقاموه على آذانهم.. فلما لم تنفع هذه الوسيلة، معهم، أمسك لسانه، وزمّ شفتيه، حتى إذا اطمأن القوم إلى أنه قد كف الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1196 عن الحديث إليهم، همس إليهم همسا خافتا، لا يكاد يسمع، لعل كلمة عابرة تصل إلى أسماعهم من هذه النذر التي ينذرهم بها.. فهذا إعلان فى إسرار.. وفى العطف بثم فى قوله تعالى: «ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً» .. فى هذا ما يشير إلى أن كل حال من تلك الأحوال كانت تستغرق وقتا طويلا، يقف فيه نوح، حتى يملّ الوقوف، وحتى يستيئس من أن أحدا يسمعه.. إنه ينادى أمواتا، ويهتف بعوالم من الجماد.. وقوله تعالى: «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً» . هذا بيان لما كان يدعو نوح قومه إليه، ويهتف فيهم به.. إنه يناديهم، ويسرّ إليهم القول أن يستغفروا ربهم، إنه كان غفارا، يغفر لمن يستغفره، ويرجع إليه تائبا نادما.. وإنهم إن فعلوا هذا رزقهم الله رزقا حسنا، وأرسل السماء عليهم مدرارا، أي بالمطر الكثير، حيث تخصب الأرض، وتكثر الثمرات والخيرات، فحيث كان الماء، كان الخصب والخير الكثير فى الأموال والأنفس.. ومن هذا الماء يجعل الله لهم جنات، ويجعل لهم أنهارا دائمة الجريان، تسقى هذه الجنات، وتضمن لها حياة دائمة، وخضرة محددة، وثمرا موفورا. والاستغفار الذي دعا نوح قومه إليه، هو دعاه، ولجأ إلى الله، واستكانة إليه، والدعاء مخّ العبادة، لأنه لا يكون إلا عن إيمان بالله، وثقة فيه، وطمع الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1197 فى رحمته.. ولهذا كان دعاء عمر بن الخطاب رضى الله عنه عند الاستسقاء فى سبى الجدب، هو الاستغفار.. فقيل له إنك لم تدع بشىء، أي لم تطلب شيئا فى استسقائك؟ فقال: «لقد استسقيت بمجاديح السماء «1» . التي بها يستنزل المطر» يعنى أنه طلب السّقيا من أوسع أبواب السماء، بالاستغفار قوله تعالى: «ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً» هو من دعوة نوح قومه، إلى الإيمان بالله.. وهو فى هذا الاستفهام ينكر عليهم ما هم فيه من غفلة عن الله، واستخفاف بجلاله وعظمته.. إنهم لا يوقّرون له، ولا ينظرون إليه نظر من يرجو ثوابه، ويخشى عقابه.. إنهم لا يعرفون الله، ولا يقدرونه قدره! وقوله: «وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً» جملة حال، من لفظ الجلالة.. أي ما لكم لا توقرون الله، والحال والشأن أنه قد خلقكم أطوارا.. أي خلقا من بعد خلق.. إذ كنتم نطفة فى بطون أمهاتكم، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاما، ثم كسيت هذه العظام لحما.. ثم خرجتم من بطون أمهاتكم أطفالا.. ثم لبستم خارج أرحام أمهاتكم أطوارا من الحياة، فتنقلتم من الطفولة إلى الصبا، إلى الشباب، إلى الكهولة، إلى الشيخوخة.. وهكذا كانت يد القدرة القادرة تنتقل بكم من طور إلى طور، وبين الطور الأول والأخير مراد فسيح لذوى الأبصار، يرون فيه قدرة الخالق، وعظمته وحكمته، فتخشع الأبصار لجلاله، وتعنوا الجباه لقدرته..   (1) المجاديح: جمع مجدح، وهو النوء الذي ينزل معه المطر، على حسب تقدير العرب فى الجاهلية. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1198 الآيات: (15- 25) [سورة نوح (71) : الآيات 15 الى 25] أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) التفسير: قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً» هو من دعوة نوح إلى قومه، ومن نصحه لهم، وإلفاتهم إلى ما لله سبحانه وتعالى من قدرة قادرة، وحكمة بالغة، وإحسان عظيم. وفى هذا الاستفهام، دعوة إلى إيقاظ هذه العقول النائمة، وفتح تلك العيون المغلقة، التي لا ترى شيئا فيما حولها من هذا الوجود، وما فيه من آيات شاهدة على قدرة الله وحكمته. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1199 وقوله تعالى: «وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً، وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً» أي وجعل فى هذه السموات التي يعلو بعضها بعضا، ويطبق بعضها على بعض- جعل فى هذه السموات: القمر، مبعثا للنور، وجعل الشمس سراجا، يبعث الضوء والحرارة معا.. فالنور الذي يصدر عن القمر، هو نور لا حرارة فيه، لأنه من انعكاس ضوء الشمس على جسمه المعتم، فإذا انعكس الضوء على هذا الجرم، شعّ منه هذا النور الذي يبدد ظلمة الليل، ويملأ العيون بهجة، والقلوب أنسا.. أما الشمس، فهى سراج يتوقد، كما يتوقد السراج، فترسل الضوء والحرارة.. وهى سرّ حياة الكائنات الحية، وسر حركة الهواء، ونزول الأمطار، ونور القمر.. وغير ذلك كثير، مما كشف عنه العلم. قوله تعالى: «وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً» هو من حديث نوح إلى قومه أيضا.. إنه يكشف لهم فى هذا الحديث عن تطورهم فى الخلق، وأنهم نبتوا من الأرض، كما ينبت النبات.. فمن تراب هذه الأرض تخلقت الكائنات الحية، ومن ترابها تخلق الإنسان.. وإن أقرب صورة وأظهرها لتخلقه من الأرض: أن هذه النطفة التي تخلّق منها، هى من نبات الأرض، أي من الغذاء الذي مصدره هذا النبات.. فإذا امتد النظر إلى آفاق بعيدة وراء هذه النظرة المحدودة القريبة، أمكن أن يرى على الأفق البعيد: أن الإنسان فرع من شجرة الحياة التي تضرب جذورها فى أعماق بعيدة من الأرض «1» ..   (1) انظر فى هذا المبحث الخاص فى سورة البقرة: «آدم، ومادة خلقه» . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1200 قوله تعالى: «ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً» .. أي كما أنبتكم الله تعالى من الأرض، يعيدكم إلى الأرض، كما يعود إليها النبات، بعد أن يستوفى حياته فوقها.. ولكن لن تظلوا هكذا فى التراب، كما يظل النبات الذي عاد إليها، بل تخرجون منها مرة أخرى، إلى حياة غير حياتكم الأولى.. إلى الحياة الآخرة، وإلى الحساب والجزاء.. قوله تعالى: «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً» . أي أن الله سبحانه قد جعل لكم هذه الأرض بساطا، أي مقاما ممهدا، كالبساط، تستقرون عليه، وتتحركون فوقه، من غير أن يحجزكم حاجز، أو يعوقكم عائق.. وبهذا تستطيعون أن تتحركوا على الأرض كما تشاءون، وأن تنطلقوا إلى أي اتجاه تريدون، حيث تتسع أمامكم وجوه الحياة، والتقلب فى وجوه الرزق.. والفجاج: جمع فجّ، وهو الطريق المتسع بين جبلين.. وهذا يعنى أن هذه السهول الممتدة بين الجبال، هى طرق، ومسالك للعمل فى الحياة، وللتغلب فى وجوه الأرض.. قوله تعالى: «قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً» شكاة ضارعة من نوح إلى ربه، يشكو فيها قومه، الذي أصمّوا آذانهم عنه، وأعرضوا عن الاستجابة له، على حين أنهم استجابوا لمن يدعونهم إلى الغواية والضلال، من أولئك الذين لا يزيدهم ما يمدهم الله به من نعمه، وما يزدادون الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1201 به أموالا، وأولادا، إلا خسرانا، وضلالا، وبعدا عن طريق الهدى، ومحادّة لله، ولأولياء الله.. قوله تعالى: «وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً» .. معطوف على قوله تعالى: «وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً» أي أنهم قد ولّوا وجوههم إلى حيث يدعوهم رؤساؤهم، وأصحاب المال والقوة فيهم، إلى ما يدعونهم إليه من ضلال، وفجور- بل ولم يقفوا عند هذا بل أخذوا يدبرون السوء والمكروه لنوح، ولدعوته، ويبيتون له الشر الذي يلقونه به، هو ومن آمن معه. والمكر الكبار: هو المكر البالغ غاية السوء.. وهو مبالغة من المكر الكبير.. قوله تعالى: «وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً، وَلا يَغُوثَ، وَيَعُوقَ وَنَسْراً» . هذا بيان لبعض ما كان من مكرهم وتدبيرهم فيما بينهم.. فقد تواصوا فيما بينهم، على التمسك بآلهتهم تلك، وألا يصرفهم عنها ما يدعوهم إليه نوح، من الإيمان بالله.. إنها دعوة منهم إلى أنفسهم يردّون بها دعوة نوح إليهم، حتى يبطلوا مفعولها ويفسدوا آثارها.. وودّ، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، هى بعض آلهتهم، ذوات الشأن، والمقام فيهم، هذا إلى آلهة كثيرة لهم، ولكنهم اختصّوا هذه الآلهة بالذكر، وعينوها بالاسم، لما لها من مكانة خاصة فى نفوسهم.. وقد ورث مشركو العرب هذه الآلهة، فبعثوها من مرقدها، بعد أن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1202 غرقت فيما غرق بالطوفان، وجعلوها آلهة يعبدونها من دون الله، كما كان يعبدها قوم نوح.. ولهذا كان من الأسماء المعروفة عند مشركى الجاهلية التي يسمون بها أبناءهم: عبد يغوث، وعبد ودّ.. فما أشبه هؤلاء المشركين بقوم نوح، وما أجدرهم بأن يلقوا المصير الذي صار إليه القوم.. ومع هذا فإنهم وإن لم يغرقوا بالطوفان، فقد غرقوا فعلا فى طوفان ضلالهم وكفرهم بآيات الله.. قوله تعالى: «وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا» .. أي وأنهم ضلوا أنفسهم ضلالا كثيرا، لا يرجى لهم معه رجعة إلى الله.. أو أنهم أضلوا كثيرا غيرهم، واستمالوهم إلى موقفهم الضال، ليكون لهم منهم قوة، ودولة.. وهذا من كلام نوح عليه السلام، ومن شكاته إلى ربه، وهو حال من أحوال قومه.. وقوله تعالى: «وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا» - هو دعاء من نوح إلى ربه، يدعو به على قومه أن يزيدهم الله ضلالا إلى ضلالهم، بعد أن وقفوا منه هذا الموقف المعن فى العناد والسفه، وبعد أن ضلوا هذا الضلال البعيد.. قوله تعالى: . «مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً» . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1203 هو تعقيب على دعاء نوح، بلسان الوجود، الذي شهد عاقبة أمر القوم، وما أخذهم الله به من هلاك فى الدنيا، وما وراء هذا الهلاك من عذاب أليم فى الآخرة.. وقوله تعالى: «مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا» أي من خطيئاتهم أغرقوا، أي من جهة هذه الخطيئات كان غرقهم، ومن هذه الخطيئات طلع عليهم الهلاك.. فكأنّ خطاياهم هى هذا الطوفان الذي أغرقهم.. و «مما» هى: من، وما، «ومن» هى حرف الجر المسلط على «ما» و «ما» نكرة، بمعنى شىء، مهول، ومخيف.. ففى تجهيل هذا الشيء، وصف له بكل ما يخيف ويفزع، ولهذا صح أن تجىء «خَطِيئاتِهِمْ» - وهى معرفة- بدلا منه. الآيات: (26- 28) [سورة نوح (71) : الآيات 26 الى 28] وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28) التفسير: قوله تعالى: «وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1204 الواو هنا للاستئناف، وعطف موقف على موقف.. فالعطف هنا يشعر بأن نوحا فى موقف آخر، غير الموقف الذي كان يقفه بين يدى ربه، ويشكو إليه قومه وما صنعوا معه.. وهو هنا فى هذا الموقف الذي بلغ به غاية المطاف مع قومه، ينهى موقفه معهم، ويقطع صلته بهم، ويطوى صفحة رسالته فيهم، بهذا الدعاء الذي يدعو به عليهم.. «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» أي ساكن دار، وهو كناية عن القضاء على كل كافر، وما يضم بيته من مال ومتاع.. والمراد بالأرض هنا ليس مطلق الأرض، بل الأرض التي كان يسكنها قومه.. فإن نوحا أرسل إلى قوم، ولم يرسل إلى الناس جميعا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى أول السورة: «إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ» ولو كان مرسلا إلى أهل الأرض جميعا، لجاء النظم هكذا: إنا أرسلنا نوحا إلى بنى آدم.. مثلا.. قوله تعالى: «إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» . وفى هذا ما يشير إلى ما لقى نوح من قومه، وإلى ما تحمل نفسه من بغضة لهم، بعد أن تكشفت له أحوالهم، وعرف الداء الخبيث المتمكن منهم، والذي لا شفاء لهم منه أبدا، بل إنه سيكون مصدر عدوى، تذيع الكفر والضلال، وتنشره فى الأرض، بما يخرج من ظهورهم من أبناء يحملون جرثومة هذا الداء الخبيث الذي يعيش فى كيانهم. والفاجر: هو الذي جاوز الحد فى ارتكاب الآثام، ومقارفة الشرور، فى غير تحرج أو تأثّم.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1205 والكفّار: صيغة مبالغة من الكفر، وهو الذي يلغ كفره غاية ليس بعدها كفر. قوله تعالى: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً» . وفى مقابل نقمة نوح على الكافرين والضالين، تتفتّح عواطف الرحمة والحنان كلها فى قلبه، فيحيلها دعوات ضارعة إلى الله بالمغفرة له، ولوالديه، ولمن دخل بيته مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات.. ومن دخل بيت نوح مؤمنا، هم أهله، إلا امرأته، وابنه، أو هم الذين دخلوا معه دين الله، أو دخلوا معه السفينة.. ويكون دعاؤه للمؤمنين والمؤمنات- على هذا المعنى- متجها إلى أهل الإيمان جميعا، فى كل زمان ومكان.. وقوله تعالى: «وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً» .. هو بقية من المرارة والألم الذي كان يجده من قومه، والذي لم يذهب به كل ما دعا عليهم به من مهلكات، فلم ينس وهو يطلب لنفسه ولوالديه، وأهله، وللمؤمنين والمؤمنات الرحمة والمغفرة من الله- لم ينس أن يجعل خاتمه دعائه، أن يرمى القوم الكافرين بآخر سهم معه، حتى بعد أن صاروا جثثا هامدة.. والتباب: البوار، والهلاك، والبعد عن كل خير.. ومنه قوله تعالى: «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ» .. هذا، وقد يبدو أن هذا الموقف الذي وقفه نوح من قومه، فيه جفاء لهم، وغلظة عليهم، وأنه لم يأس على هلاكهم، ولم تعطفه عليهم عاطفة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1206 رحمة أو إشفاق، فرماهم بكل مهلكة، وصبّ عليهم اللعنات صبّا.. هذا، ما يبدو فى ظاهر الأمر.. ولكن، الذي يراجع حياة نوح معه قومه، وهذا الأمد الطويل الذي قضاه بينهم، وهو كما يقول القرآن الكريم ألف سنة إلا خمسين عاما، لم يدع فيها نوح لحظة إلا واجه فيها قومه، ولا طريقا إلا سلكه إليهم- ومع هذا فإن القوم لم يزدادوا إلا سفها وضلالا، وإلا مبالغة فى الكيد له، والعدوان عليه، حتى لقد فتنوا فيما فتنوا امرأته، وولده، وهذه أعظم بلية يبتلى بها صاحب دعوة فى محاربة دعوته، إذ يقوم منها أبلغ شاهد على خذلانه وإبطال حجته على الناس لما يدعوهم إليه.. إن الذي يراجع هذا الموقف بين نوح وقومه، يجد أن نوحا عليه السلام، كان أكثر أنبياء الله صبرا وحلما، واحتمالا.. فما من نبى ظل فى موقف الدعوة، يحارب أهل الضلال مثل هذا الأمد الطويل الذي وقفه نوح عليه السلام.. ولهذا كان عليه السلام واحدا من أولى العزم من رسل الله، عليهم صلوات الله، ورحمته، وبركاته. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1207 72- سورة الجن نزولها: مكية.. نزلت بعد الأعراف عدد آياتها: ثمان وعشرون آية عدد كلماتها: مئتان وخمس وثمانون كلمة عدد حروفها: تسعمائة وتسع وخمسون.. حرفا. مناسبتها لما قبلها تكشف سورة الجن فى صورة عملية، عما فى الإنسان من جانبى الخير والشر، وأنه حين تنتكس طبيعته، ويغتال جانب الشر فيه جانب الخير، يتحول إلى شيطان رجيم، تعوذ منه الشياطين، أو تتلمذ عليه! وهذا الإنسان الشيطاني يبدو على أتم صورته المنكوسة تلك، فى قوم «نوح» كما يبدو هذا الإنسان على صورة مجسدة فى كثير من مشركى قريش، كأبى جهل، والوليد بن عقبة، وعقبة بن أبى معيط، وغيرهم من شياطين قريش، الذين تصدوا للدعوة الإسلامية، وكادوا لرسول الله وللمسلمين أعظم الكيد، فلم يدعوا وسيلة يتوسلون بها إلى أذى النبي وأصحابه إلا تواصوا بها، واجتمعوا عليها. وفى سورة الجن صورة للخير ينبت فى منابت الشر، ويطلع ثمره الطيب، من بين وسط هذا اللهب المتضرم. فمن عالم الجن العاصف بالشرور المحرقة، تهب تلك الأنسام الرقيقة المنعشة، فى صورة جماعة مؤمنة منهم، لم تكد تستمع إلى آيات الله، يتلوها رسول الله فى ليلة من لياليه مع ربه- وكل لياليه لربه، ومع ربه- حتى أنصتوا إليه، وآمنوا به، ثم انقلبوا إلى قومهم منذرين! الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1208 فبين سورة «نوح» وسورة «الجن» مقابلة بين عالمين: عالم الإنس، وعالم الجن، وفى عالم الإنس شرّ كان حريّا أن يكون خيرا، وفى عالم الجن خير، كان متوقعا أن يكون شرا.. وفى هذا عبرة، وذكرى لأولى الألباب. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الآيات: (1- 15) [سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1209 » التفسير: قوله تعالى: «قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً» . جاء فى سورة الأحقاف قوله تعالى: «وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ، أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» (29- 32: الأحقاف) - وهذا يعنى أن الجن عقلاء، مكلفون من الله سبحانه وتعالى، ومدعوون إلى الإيمان بالله على يد رسل منهم، أو من البشر، فقد كان منهم المؤمنون بشريعة موسى عليه السلام، كما كان منهم الذين آمنوا بشريعة الإسلام. وهذه الآيات، هى أخبار خاص للنبى- صلوات الله وسلامه عليه- بما كان من توجيه الله سبحانه وتعالى نفرا من الجن إلى مجلس النبي، يستمعون إليه، وهو يتلو آيات الله، ليلة مبيته بموضع يقال له نخلة، وهو فى طريق عودته من ثقيف، بعد أن جاءهم يعرض عليهم الإيمان برسالته، فجبهوه بالبهت، وردوه فى غلظة وجفاء. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1210 وقد سعد النبي الكريم بهذا الخبر الذي تلقاه من ربه، وأن مالقيه من ثقيف لم يكن إلا حدثا عارضا، وأن أمداد الله سبحانه وتعالى إليه لا تنقطع أبدا، وأنه إذا كان الإنس قد أبو أن يقبلوا هذا الخير الذي يدعوهم إليه، كما أبوا على آذانهم أن تستمع إلى آيات الله يتلوها عليهم- فإن لله جندا فى عالم الظلام والضلال- عالم الجن- قد خرجوا من هذا الظلام إلى النور، وجاءوا إلى حيث يتلو النبي آيات ربه، فاستمعوا إليه، وآمنوا به، وأصبحوا دعاة لدعوته، وجندا يدافعون عنها، ويقاتلون فى سبيلها.. لقد كان هذا الخبر زادا طيبا للنبى الكريم، يتزود منه على مسيرة دعوته، التي توشك أن تنتهى المرحلة الأولى منها، فيتحول بعدها النبي- صلوات الله وسلامه عليه- من مكة إلى المدينة، بعد أن يلتقى بأهل السابقة من الأنصار، الذين جاءوا ليبايعوه على الإسلام، والنصرة، فى بيعتى العقبة الأولى والثانية «1» وهنا فى سورة «الجن» أمر من الله تعالى للنبى بأن يتحدث إلى قريش، وإلى الناس عامة، بأنه قد تلقّى وحيا من ربه، بأن نفرا من الجن، قد استمعوا إليه، وآمنوا به، وتحدثوا عن القرآن الذي استمعوا إليه، هذا الحديث الذي يصف القرآن ببعض ماله من صفات المجادة والعظمة والجلال.. وقد يقول قائل: ما الفرق بين الخبر الذي تلقاه النبي فى سورة الأحقاف، وهذا الأمر الذي تلقاه فى سورة «الجن» وهو يحمل فى كيانه محتوى هذا الخبر الذي تلقاه فى سورة الأحقاف؟ وما الفرق بين أن يجىء الخبر غير مصدّر بالأمر بالقول، وبين الخبر الذي يجىء مطلقا، إذا كان القرآن كله فى معرض العرض على الناس، دون أن يختص النبي بشىء منه يحتجزه لنفسه، ولا يذيعه فى الناس؟   (1) انظر فى هذا المبحث الخاص تحت عنوان: بيعة العقبة وليلة الجن «التفسير القرآنى للقرآن» - الكتاب الثالث عشر- سورة الأحقاف. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1211 ونقول- والله أعلم- إن الخبر الذي تصدّر إلى النبي بهذا الأمر من الله سبحانه بلفظ «قل» إنما يراد به مواجهة المشركين خاصة، والاستعداد لتلقّى ما يثيره هذا الخبر فيهم من ثائرات البهت والتكذيب، وما يفتح لهم من أبواب التشنيع على الرسول والسخرية منه، وأن على النبىّ ألا يلتفت إلى تخرصات هؤلاء المشركين، ولا يحفل بما يثرثرون به من لغو وهذر، إزاء هذه الحقيقة التي استيقنها النبىّ، بعد أن أخبره الله سبحانه وتعالى بها، فى الآيات التي تلقاها من سورة الأحقاف.. فالخبر الذي تلقاه النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- فى سورة الأحقاف: «وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ..» هو أشبه بالسرّ بينه وبين الله سبحانه وتعالى، وإن كان هذا السرّ لا يلبث أن يذاع بعد أن تلقاه النبىّ قرآنا يتلوه على الناس.. أما الخبر الذي تلقاه- صلوات الله وسلامه عليه.. فى سورة الجنّ، فهو أمر بالمبادرة بإذاعة هذا السرّ، الذي كان من شأنه أن يذاع، إن لم يكن اليوم فغدا، أو بعد غد.. إنه حثّ على المبادرة بإذاعة هذا الخبر، وتلاوته جهرا على الناس حتى يقرع أسماع المشركين، وليكن منهم ما يكون!! وسؤال آخر.. هو: (مخاطبات القرآن وحكايتها كما هى.. ما سرّها؟) هذا الخبر، أو هذه الأخبار، التي يتلقاها النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- مصدّرة بلفظ «قل» أو «يا أيها النبىّ» أو «يا أيها الرسول» لماذا يلتزم النبىّ أن ينقلها كما تلقاها، دون أن يتصرف فيها، فيأخذ منها ماله، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1212 ويدع ما ليس له، بمعنى أن يقطع مقول القول، عن القول، أو أداة النداء والمنادى، عن الخاطب به، فيقول ما أمر بقوله، دون أن يصدره بلفظ: قل، أو يا أيها النبىّ؟ إن المألوف فى لغة التخاطب أن يقال للإنسان مثلا: قل: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» .. فيقول: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» ولا يقول: «قل لا إله إلا الله محمد رسول الله» : إنه لو قال هذا لما كان ممتثلا للأمر. بل مردّدا لصدى الكلام الذي سمعه.. أفهذا كان شأن رسول الله حين لم ينقل الصورة اللفظية التي سمعها، قولا، ومقولا؟ والجواب- والله أعلم- من وجوه: فأولا: هذا الأمر الموجه إلى النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- والمصدّر بلفظ «قل» هو أمر صادر إليه من الله سبحانه وتعالى، وأن هذا الذي يوحى من الحق جل وعلا، يملأ الوجود كله، ويسرى فى كل ذرّة من ذرّاته، فهو ليس مجرد قول من شخص إلى شخص، وإنما هو من كلام ربّ العزّة، الذي تبلغ كلماته أسماع الكون، وتنفذ إلى أعماق كل ذرة موجودة فيه. وثانيا: وتأسيسا على هذا.. أن النبىّ صلوات الله وسلامه عليه.. حين تبلغه كلمات ربّه، يمتلىء بها كيانه، وتفيض بها مشاعره، وتلبسه هذه الكلمات كما تلبس الروح الجسد.. ومن هنا فإنه لا يستطيع أن يفصل بعضا منها عن كيانه، كما لا يستطيع الإنسان أن يقطع بعض روحه، لأنها سر مضمر فيه، يجده ملء وجوده، ولكن لا يعرف لها ذاتا، ولا كنها، ولعلّ هذا من بعض ما يشير إليه قوله تعالى: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1213 فإذا كان ما يتلقاه النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- من كلمات ربّه، هو روح منه، فهل يستطيع أن يغيّر من حقيقة الرّوح؟: «قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» (85: الإسراء) .. فهو سبحانه وحده، الذي يملك أمرها، ويملك أن يغير أو يبدّل فيها كما يشاء.. ولعل هذا بعض ما يشير إليه قوله تعالى: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا.. لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ» (115: الأنعام) . وثالثا: أن اتصال الأمر بالمأمور به فى كتاب الله، يجعل المأمور به دائما حيّا فى حياة الناس جميعا، ويجعل المؤمنين به فى حال حضور مع النبي، وهو يتلقى أمر ربه.. فكلماتلا المؤمنون آية من آيات الله، فيها خطاب من الله سبحانه وتعالى لنبيه الكريم- تمثّل لهم منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلقى هذا الخطاب من ربه، ويصدع، بما يحمل هذا الخطاب إليه من أمر، أو نهى.. وهذا من شأنه أن يحرك مشاعرهم إلى متابعة النبي والتأسّى به، كلما تلوا آيات الله، وطلع عليهم هذا المشهد الذي يرون فيه رسول الله فى مجلس التأديب، والتعليم من ربه.. وهذا هو بعض السر فى أن كانت تلاوة القرآن، من عبادة المؤمنين التي تعبّدهم الله تعالى بها.. كما يقول سبحانه «فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ» (20: المزمل) . ورابعا: فى خطاب الله سبحانه وتعالى للنبىّ، وفى خطابه سبحانه للمؤمنين، فى القرآن الكريم، شاهد يشهد بأن هذا القرآن هو من عند الله سبحانه وتعالى، لفظا ومعنى، وأنه ليس للنبى فيه كلمة واحدة، وأنه كلام الله سبحانه وتعالى، وأن النبي هو اللسان الذي أنطقه الله بكلماته التي أوحاها إليه، فسمعها الناس منه دون أن يبدل حرفا منه.. فإن الذي يتلقاه النبىّ من كلمات ربّه، هو روح تستولى عليه وتشيع فى كيانه كله. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1214 ويمكن أن نشبه هذا- مع الفارق البعيد فى صورتى التشبيه- بما يكون من مسجّلة الصوت، حين تلتقط صوتا ما، ثم تعيده كما تلقته، دون أن يقع فيه أي تبديل، أو تحريف.. فالنبى صلوات الله وسلامه عليه، إذ يسمع قوله تعالى له: «قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ.. الآية: (84: آل عمران) - لا يملك أن يبدل حرفا مما سمع، ولا يستطيع إلا أن يقول كما سمع: «قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ، وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا.. الآية» والنبي إذ يسمع قوله تعالى: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» . (199: الأعراف) - لا يستطيع إلا أن يقول: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» .. وهكذا يحكى النبىّ ما سمع، دون أن يبدل كلمة، أو يغير حرفا.. والله سبحانه وتعالى يقول له: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» (67: المائدة) فالأمر بالتبليغ، هو أمر بتبليغ ما أنزل إليه، كما هو، كلمة كلمة، وحرفا حرفا.. فإن بدل حرفا، أو غير كلمة- وحاشاه- فما بلّغ ما أنزل إليه من ربه.. إنه المطلوب من النبي فى مقام التبليغ أن يقول ما يقال له من ربه، لأن ما أنزل إليه، سواء أكان خطابا خاصا، أو خطابا عاما للناس- هو منزل للناس أيضا، كما يقول سبحانه: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» (44: النحل) فهو- صلوات الله وسلامه عليه- مطالب أولا بأن يبلّغ الناس ما نزّل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1215 إليهم، وهو ما نزل عليه من كلمات الله.. ثم هو مطالب ثانيا، بعد هذا التبليغ أن يبين للناس ما خفى عليهم فهمه مما نزل عليهم من آيات الله.. فالتبليغ شأن، وبيان ما يبلّغه شأن آخر.. وبهذا التدبير الحكيم فى نظم القرآن، يظل النبي صلوات الله وسلامه عليه، قائما فى مقام الخطاب من ربه، وفى الحضور بين يديه، كلما تلا آية من آيات الله، أو سمع تاليا يتلوها عليه، فقد روى أنه صلى الله عليه وسلم، كان يطلب إلى بعض أصحابه أن يقرءوا عليه ما تيسر من كلام الله، فيقول قائلهم له: أأتلوه عليك وعليك أنزل؟ فيقول صلوات الله وسلامه عليه: «نعم إنى أحب أن أسمعه من غيرى.. ففى البخاري عن عبد الله بن مسعود، قال: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ علىّ» فقلت يا رسول الله: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: «نعم.. إنى أحب أن أسمعه من غيرى» فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) فقال: «حسبك الآن» .. فإذا عيناه تذرفان» . وهذا الأسلوب الذي جاء عليه نظم القرآن، والذي يجعل النبي فى مقام الحضور، والخطاب من الله بكلمات الله- هذا الأسلوب من شأن القرآن وحده، ومما اختص به من بين الكتب السماوية المنزلة.. فالتوراة ليس فى نظمها موقف واحد لأى نبى من الأنبياء مع الله سبحانه وتعالى، يمثله في موقف حضور وخطاب من الله سبحانه، حتى موسى عليه السلام الذي كلمه الله تكليما من غير وساطة ملك الوحى، جاءت كل كلمات الله سبحانه وتعالى إليه فى التوراة على سبيل الحكاية.. هكذا: «وكلم الرب موسى قائلا: «فى الشهر السابع، فى أول الشهر يكون لكم عطلة، تذكار هتاف البوق محفل مقدس.. عملا ما من الشغل لا تعملوا، ولكن تقدمون وقودا للرب.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1216 وكلم الرب موسى قائلا: «أما العاشر من هذا الشهر السابع فهو يوم الكفارة.. محفلا مقدسا يكون لكم، تذللون نفوسكم، وتقدمون وقودا للرب» (لاويين الإصحاح: 23) .. وتقول التوراة أيضا: «فقال الرب لموسى: قل لهارون مدّ يدك بعصاك على الأنهار والسواقى والآجام، وأصعد الضفادع على أرض مصر.. فمدّ هارون يده على مياه مصر، فصعدت الضفادع، وغطت أرض مصر، وفعل كذلك العرافون بسحرهم وأصعدوا الضفادع على أرض مصر» (خروج: الإصحاح: 8) .. وتقول التوراة: «فقال الرب لموسى: انظر.. أنا جعلتك إلها لفرعون وهارون أخوك يكون نبيك.. أنت تتكلم بكل ما آمرك، وهارون أخوك يكلم فرعون ليطلق بنى إسرائيل من أرضه» (خروج: الأصحاح: 7) .. وهكذا تمضى كل مخاطبات التوراة، فيما يتلقّى موسى من ربه، وفيما يتلقى بنو إسرائيل من موسى.. وهذا يعنى أن موسى عليه السلام، كان بعد أن يتلقى كلمات الله سبحانه وتعالى إليه- كان يلقى قومه بما أمره به فيهم، فيقول لهم: قال الله لى كذا، وكذا، فيكتبون هم: قال الله لموسى كذا، وكذا.. دون أن يتقيدوا بالنص الحرفىّ لما سمعوه من موسى، فبدلا من أن يكتبوا: قال الله لى كذا، يكتبون: قال الله لموسى كذا وكذا، كما أن موسى عليه السلام، لم يتقيد بالنص الحرفى لما استمع من ربه، فبدلا من أن يقول، كما قال الله سبحانه وتعالى له: يا موسى افعل كذا، أو قل لقومك كدا» - بدلا من أن يقول هذا، يقول: قال الله لى فعل كذا، أو افعلوا كذا.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1217 وهذا الخروج على النص الحرفى، وإن بدا أنه مما يقتضيه الحال، حيث ينتقل موسى من حال المخاطب (بفتح الطاء) إلى حال المخاطب (بكسر الطاء) وحيث ينتقل قومه من حال المواجهة له، إلى حال الغيبة فى نقل ما سمعوا منه- هذا، وإن بدا أنه لازم لمراعاة مقتضى الحال- إلا أنه يشير إلى أمور: أولها: أن كلمات الله التي استمع إليها موسى، ظلت مرتسمة فى كيانه، مضمرة فى فؤاده، وأن ما ينشره على قومه منها إنما هو صورة هذه الكلمات وظلالها، والأنوار المشعة منها.. أما ما تلقاه محمد من كلمات ربه، فإنه عرضها كما سمعها، حرفا حرفا، وكلمة كلمة.. كما يقول له سبحانه له. «اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ» (45: العنكبوت) .. وذلك أنه ليس المطلوب من كلمات الله إلى موسى أن يقيم منها معجزة متحدّية، على خلاف ما أوحى الله به إلى محمد من كلماته، فإنه سبحانه جعل على فمه معجزات متحدية.. وإن المعجزة لا تتم حتى تعرض كما تلقاها من ربه، دون أن يغير من وضعها، أو يبدل من صورتها.. وثانيا: أن ما أوحى الله سبحانه وتعالى به إلى موسى، يجوز روايته بالمعنى، دون التقيد بالنص اللفظي، على خلاف القرآن الكريم، فإنه لا يجوز روايته أو تلاوته بالمعنى، كما يجوز ذلك فى الحديث القدسىّ، الذي يشبه وحي التوراة. وثالثا: أن القرآن الكريم، هو الكتاب الذي تأخذ آياته، وكلماته، الوصف بأنها آيات الله، وكلمات الله، وأن التوراة وغيرها من الكتب السماوية، تأخذ الوصف بأنها وصايا لله، أو أوامر لله، أو شريعة لله.. وأما تكليم الله سبحانه وتعالى لموسى فهو خاص بموسى وهو أوامر الله سبحانه وتعالى إليه هو، فى خاصة نفسه.. أما الشريعة التي حملها موسى إلى قومه، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1218 فهى ما تضمنته الألواح التي تلقاها موسى من ربه، فهى أشبه بالأحاديث القدسية التي تلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى لموسى عليه السلام: «يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ، وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ» (144- 145: الأعراف) فالله سبحانه وتعالى- كما تشير الآيات- قد اصطفى موسى بهذه الرسالات التي تلقاها لتكون شريعة لقومه، كما اصطفاه بتكليمه.. فالرسالات التي تلقاها موسى شىء، وتكليم الله له شىء آخر.. كلام الله صفة من صفاته، والرسالات خلق من خلقه. وعلى هذا، فالقرآن الكريم خطاب مباشر من الله سبحانه وتعالى للنبى والمؤمنين، أما التوراة، فهى حكاية خطاب الله تعالى لموسى، ثم هى حكاية لخطاب موسى لقومه الذين تلقوها منه. ونعود بعد هذا إلى موقفنا بين يدى قوله تعالى: «قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً» . النفر: الجماعة بين الثلاثة والعشرة.. والإسماع: الإصغاء والالتفات إلى المسموع.. وهذا يعنى أن جماعة الجنّ التي توافدت على مجلس القرآن بين يدى النبىّ صلوات الله وسلامه عليه- قد أعطت سمعها للقرآن، والتفتت بمشاعرها كلها إليه.. ذلك أنّ «استمع» غير «سمع» من حيث المعنى الاشتقاقى الذي يدل عليه كلّ منهما لما يسمع، فالاستماع يدل على التطلع إلى سماع الحديث الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1219 والإقبال عليه، أما «السمع» فيدلّ على مجرّد وقوع المسموع إلى أذن السامع، سواء أكان ذلك عن قصد، أو غير قصد، وسواء أكان مقبلا أو معرضا! ولهذا جاء الأمر إلى المؤمنين وهم فى مجلس القرآن أن يستمعوا، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (204: الأعراف) ولم يجىء الأمر بلفظ «اسمعوا» .. فإن الاستماع هو الذي يحقق معنى الإصفاء والإنصات الذي جاء تاليا للأمر بالاستماع. وإنه بغير الاستماع لا يتحقق الإصغاء.. وهذا ما كان من الجنّ فى مجلس القرآن، ودعوة بعضهم بعضا إلى الإنصات إليه، كما يقول سبحانه، عنهم: «وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا» (29: الأحقاف) . فالله سبحانه، قد وجههم إلى النبي مستمعين، لا سامعين.. وهذا يعنى أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم بأمر هؤلاء الجن الذين استمعوا إليه فى تلك الليلة، حتى أنبأه الله سبحانه وتعالى بذلك، ولم تكن منه فى تلك الليلة دعوة إليهم، وإنما هم الذين دعوا أنفسهم إلى الإيمان، بعد أن استمعوا إلى ما استمعوا إليه من آيات الله التي كان يتلوها النبي، قائما بين يدى ربه، متعبدا بتلاوتها.. وفى هذا إشارة إلى تلك المفارقة البعيدة بين المشركين الذين يدعون إلى آيات الله، فلا يستمعون إليها، ولا يؤمنون بها، وبين الجن الذين يضرب بهم المثل فى العتوّ، والعناد، والضلال، حيث ورد واردهم على النبي، وحضر مجلس تلاوته، من غير أن يدعوا إلى هذا.. فاستمعوا، وأصغوا، ثم اهتدوا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1220 وآمنوا.. فمال هؤلاء المشركين لا يؤمنون؟ وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون؟. وأما ما يروى من أن النبي صلى الله عليه وسلم قد التقى بالجن، ودعاهم إلى الله سبحانه، فيما تلا عليهم من آيات الله، فقد يكون ذلك فى ليلة بعد تلك الليلة، وبعد أن حمل هؤلاء النفر إلى قومهم نبأ النبي الذي نزل عليه هذا القرآن الذي استمعوا إلى بعض منه.. فجاءوا يطلبون مزيدا، ويلقون النبي لقاء مواجها، بعد أن عرفوا ما بين يديه من هدى ونور. وعلى أىّ فإنه ليس مما يدخل فى عقيدتنا، أو يلزمنا التصديق به، أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث إلى الجن، كما بعث إلى الإنس، وحسبنا أن نؤمن بأنه رسول الله إلينا نحن البشر، وأن الرسالة الإسلامية، وكتابها الكريم، موجهان إلينا نحن البشر، أما أن تستفيد من ذلك عوالم أخرى فذلك ما لا يدخل فى عقيدتنا، ولا يلزمنا البحث عنه. والله أعلم. وقوله تعالى: «فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً» - هو بيان للأثر الذي كان للقرآن من استماع الجن إليه، وأنهم عجبوا لما سمعوا، لأنهم لم يسمعوا كلاما مثله، فكان ذلك مثار عجبهم، ودهشهم.. إنهم يسمعون كلاما، ولكنه كلام عجب، فيما له من سلطان على النفوس، وتمكن من القلوب.. وقولهم «سمعنا» بدلا من «استمعنا» لأنهم خرجوا من مجلس الاستماع، وقد أصبح الذي استمعوا إليه مسموعا لهم سماعا متمكنا، واعيا.. ولو قالوا «استمعنا» لدلّ ذلك على أنهم تكلفوا جهدا لما سمعوا، وأنهم حملوا أنفسهم على ذلك حملا طوال مجلس الاستماع، والواقع غير هذا، فإنهم ما إن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1221 جلسوا بين يدى ما يتلى من آيات الله، حتى ملك القرآن زمامهم، وأحال وجودهم كله آذانا صاغية، وقلوبا خاشعة، من غير معالجة أو معاناة، من داخل أنفسهم أو خارجها.. وقوله تعالى: «يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ» هو صفة أخرى للقرآن، على لسان الجن، بعد الصفة الأولى التي وصفوه بها.. فالصفة الأولى، وصف لنظمه، وأنه كلام عجب لم يسمعوا مثله.. والصفة الأخرى، وصف لمعانيه، ولما اشتمل عليه نظمه العجيب من معان كريمة، مضيئة بنور الحق، تهدى إلى الرشد، والفلاح.. وقوله تعالى: «فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً» - هو المسبب عن هذه الأوصاف، التي رآها الجن فى القرآن، والتي وقعت فى نفوسهم منه، ولهذا فهم يؤمنون بهذا القرآن، وبأنه كلام الله، ونوره المرسل هدى ورحمة للعالمين.. وهم لهذا لن يشركوا بالله، ولن يعبدوا إلها معه، كما كانوا يفعلون من قبل فعل الضالين والمشركين من الإنس.. وقوله تعالى: «وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً» .. جدّ ربنا: ملكه، وسلطانه، ومجده،. وأصل الجد: الحظ، والنصيب الذي يصيبه الإنسان فى حياته من حظوظ الدنيا.. فجدّه هو كل ماله من مال، ومتاع، وبنين، وعلم، وجاه وسلطان.. وقوله تعالى: «وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا» هو معمول لفعل محذوف، معطوف على قوله تعالى: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1222 «إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً» «سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً» وعلمنا مما سمعنا أنه «تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً» .. وهكذا كل ما جاء على لسان الجن بعد هذا، هو معمول لفعل مترتب على استماعهم لما استمعوا من آيات الله وما كشفت لهم من حق وهدى. وقولهم: «تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً» أي عظم مجده، وتعالى سلطانه، وتنزهت عزته عن أن يتخذ صاحبة أو ولدا.. فإن اتخاذ الصاحبة أو الولد، إنما يكون عن حاجة إليهما، بحيث لو افتقد الإنسان وجودهما بين يديه تطلعت إليهما نفسه، وشغل بهما قلبه، والله- سبحانه- فى غنى عن كل شىء.. فكل شىء هو منه، وله، وإليه.. قوله تعالى: «وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً» .. أي وعلمنا مما استمعنا إليه من هذا القرآن العجب أن ما كان يقوله السفهاء منّا عن الله، وعن اتخاذه الصاحبة والولد- هو قول بعيد عن الحق، مشتط عن الصواب، فى حق الله سبحانه، وفيما ينبغى أن يكون لذاته من كمال، وجلال، وأن هؤلاء الذين جعلوا لله أندادا، واتخذوا من دونه أولياء، ونسبوا إليه الزوج والولد- هؤلاء ضالون مشركون.. والشطط، والاشتطاط، الخروج عن القصد والاعتدال، ومجاوزة الحد فى القول، أو العمل.. وهذا مثل قوله تعالى على لسان أصحاب الكهف: «لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً» (13: الكهف) .. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1223 قوله تعالى: «وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً» .. أي وكان مما علمنا من استماعنا لهذا القرآن العجب- أننا كنا على ظن خاطئ فيما ظنناه من أن الإنس والجن لن تقول على الله كذبا، وأن تقوم فيهم تلك الدعوات المضللة، وهذه العقائد الباطلة، مع ما فيهم من عقول، وما بين أيديهم من الشواهد الناطقة، التي تشهد بوحدانية الله تعالى، وتفرده بالملك والعزة والسلطان.. ولقد بان لنا أن الإنس والجن قالوا على الله كذبا، فيما نسبوه إليه من الزوج والولد، وفيما جعلوا له من أنداد، وشركاء.. وذلك بعد أن استمعنا إلى آيات الله، وعرفنا طريق الحق الذي أضلّنا عنه المضلون، وأغوانا بالانصراف عنه المغوون، لقد كنا مخدوعين بهذا الظن الذي ظنناه فى الجن والإنس من أنهم لن يفتروا على الله، ولن ينسبوا إليه مالا يليق به..! قوله تعالى: «وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً» .. الرهق: الإعياء، والضعف، والكلال، مما يعترى الإنسان من معاناة أمر صعب يحاوله، ثم لا يبلغ منه شيئا، لأنه يحاول أمرا محالا، أو قريبا من المحال.. ومنه قوله تعالى: «سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً» (17: المدثر) .. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1224 والمعنى: أنه قد اتضح لنا مما سمعناه من هذا القرآن العجب، أن ما كان من استعانة بعض شياطين الإنس، بشياطين الجن، فى اختلاق الأكاذيب، وتلفيق المفتريات على الله- اتضح لنا أن ذلك لم يزد العائذين بالجن، إلا ارتكاسا، وعجزا، عن الوصول إلى طريق الحق، وأن كل ما اختلفوا من أكاذيب، وما لفقوا من مفتريات، لم يمس جوهر الحقيقة، ولم يعمّ سبيل الحق عن طلابه، والساعين إليه، وأن هذه الأكاذيب، وتلك المفتريات إذا طلعت عليها شمس الحقيقة فرت من بين يديها، كما يفر ظلام الليل بين يدى أضواء الصبح! قوله تعالى: «وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً» . أي وأننا علمنا مما استمعنا إليه من هذا القرآن العجب، أن الإنس ظنوا كما ظننا نحن الجن، أن لن يبعث الله أحدا من رسله بعد موسى، وعيسى، عليهما السلام.. وهذا ظن باطل، فها هوذا رسول من عند الله، يتلو هذا القرآن العجب، فيبلّغ به رسالة الله. وفى هذا الذي ينطق به الجن بعد أن آمنوا، تبكيت للمشركين، واستخفاف بعقولهم، واستخفاف لأحلامهم، وأنهم عموا عن هذا الهدى الذي طلعت شمسه فى سمائهم، فلم يهتدوا به، وقد سبقهم إليه أبعد الخلق عنه، وهم الجن. قوله تعالى: «وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً» ومن دلائل هذا الرسول الذي بعثه الله، ليس هذا القرآن وحسب.. بل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1225 إننا قبل أن نلتقى به فى مجلس القرآن، شاهدنا إرهاصات عجيبة، تنبىء بأن حدثا عظيما قد حدث فى هذا الوجود، وأن آثار هذا الحدث لا بد أن يكون لها شأن بهذا العالم الأرضى، وما يعيش فيه من جن وإنس.. وذلك أننا لمسنا السماء، كما اعتدنا أن نلم بها من قبل، ونستطلع أنباءها، فوجدناها قد ملئت حرسا شديدا من الملائكة، وشهبا راصدة يرمون بها كل من يدنو من مشارف السماء.. وهذا أمر لا بد أن يكون له ما بعده!! وها نحن أولاء قد عابنّا ما بعد هذا الأمر، فى هذا الرسول، وفيما بين يديه من آيات الله.. قوله تعالى: «وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً» . أي وأننا كنا نصعّد فى السماء، ونتخذ هناك مقاعد نستمع فيها إلى ما يجرى فى الملأ الأعلى، وذلك قبل مبعث هذا النبي.. أمّا الآن فإن من يحاول أن يستمع منا، يجد شهابا رصدا برمى به قبل أن يبلغ المجلس الذي اعتاد أن يتخذه من قبل.. قوله تعالى: «وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً» أي ولقد حرنا فى تأويل هذا الحدث، وعجزنا عن أن نجد التعليل الصحيح له، وللأحداث التي تنجم عنه، وهل هذا شرّ يراد بمن فى الأرض من جنّ وإنس، أم هو خير لهم.؟. إن الأيام هى التي ستأتى بتأويل هذا.. وها نحن أولاء نشهد عناد المشركين، وتصدّيهم لدعوة رسول الله، وتكذيبهم لما جاءهم به من عند الله، فهل سيمضون فى طريقهم هذا، فتكون عاقبتهم أن يدمر الله عليهم كما دمر على المكذبين برسل الله قبلهم، أم أنهم سيراجعون أنفسهم، ويرجعون إلى عقولهم، فيؤمنون بالله، ويهتدون بهذا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1226 النور الذي يحمله رسول الله إليهم؟ لا ندرى أشر أراد الله بالناس من هذه الرسالة، بإلزامهم الحجة، ثم إهلاكهم، أم أنه أراد لهم الهداية والرشاد، فيهتدوا ويرشدوا؟ إن الأمر لم ينته إلى نهايته بعد.. وسنرى ما يكون؟ قوله تعالى: «وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ.. كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً» . وهنا يلتفت هؤلاء النفر من الجن إلى قومهم، وهل يتقبلون هذا الهدى الذي اهتدوا هم إليه، بعد استماعهم إلى آيات الله، التي تلاها عليهم رسول الله، أم أنهم يرفضونه كما رفضه هؤلاء المشركون من قريش؟ إنهم يتساءلون هذه التساؤلات قبل أن يبرحوا مجلس النبي، وفى قلوبهم الإيمان، وبين أيديهم الهدى.. ثم يحدّث بعضهم بعضا، بأن حال قومهم هى حال الناس من أبناء آدم، فيهم الصالحون، وفيهم الفاسدون، وفيهم من هم بين الصالحين، والفاسدين.. إنهم طرائق مختلفة.. لكل منهم طريقة كما أن الناس طرقهم.. والطرائق: جمع طريقة، وهى المتجه الذي يأخذه المرء فى حياته، من استقامة أو عوج.. والقدد: جمع قدة، وهى القطعة من الشيء، أىّ قطعة، ومنه قوله تعالى: «وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ» (25: يوسف) أي قطعته.. وقوله تعالى: «وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً» أي وأننا بعد تطوافنا فى الأرض وفى السماء، قد أيقنّا أننا بين يدى الله حيث كنا، وأننا تحت قهر سلطانه القائم على الوجود كله.. وأننا لن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1227 نخرج من سلطان الله، ولن نفر من القدر المقدور لنا، سواء انطلقنا فى وجوه الأرض، أو صعدنا فى أجواء السماء.. والظن هنا بمعنى اليقين. قوله تعالى: «وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ.. فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً» . أي وهذا شأننا نحن من بين قومنا، وذلك أننا لما سمعنا الهدى- أي القرآن- آمنا به.. ومن يؤمن به فإنه لا يخاف بخسا، بنقص حسناته، ولا رهقا بمضاعفة سيئاته، بل سيجزى الجزاء الذي يقوم على ميزان العدل المطلق.. ومعنى نفى الخوف من البخس والرهق، هو أن المؤمن يلقى الله وبين يديه بشريات إيمانه، التي تملأ قلبه سكينة وأمنا، أما غير المؤمن فإنه يتوقع أن يسام سوء العذاب، وأن يلقى الهوان والنكال من كل وجه، فهو فى مهب عواصف الخوف دائما.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ» (40: فصلت) . وقوله تعالى: «فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً» - هو جواب الشرط، وقد اقترن بالفاء لوقوعه منفيا. قوله تعالى: «وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً» - هنا يعود الجن إلى أنفسهم مرة أخرى، فينطقون بما تنطق به حالهم، من أن منهم مسلمين، أي مستقيمين على طريق الإسلام، والسلامة، ومنهم القاسطون، أي الظالمون، المنحرفون عن طريق الحق والهدى.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1228 وقسط، فهو قاسط: أي ظلم، واعتدى.. وأقسط، فهو مقسط: أي عدل، واستقام.. ومنه قوله تعالى: «وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» (9: الحجرات) وقوله تعالى: «فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً» هو تعقيب من الجن، أو من المؤمنين، أو من الوجود كله.. على هذا الخبر الذي أخبر به الجن عن أحوالهم.. وأن الذين أسلموا وجوههم لله، وآمنوا بالله ورسوله، والكتاب الذي أنزل على رسوله- قد تحروا رشدا، أي اختاروا طريق الهداية والرشاد، وأنهم تعرفوا إليه بعد نظر الاستدلال. فالمسلمون قد تخيروا طريق الأمن والسلامة، ولن تكون خاتمتهم إلا الأمن والسلامة.. وأما الحائدون عن طريق الإسلام، الذين ركبوا طرق الضلال، فهم حصب جهنم وحطبها.. وقد فرق النظم القرآنى بين الحالين، فجاء على غير أسلوب المقابلة التي يقتضيها نظم كلامنا نحن البشر.. ولو جاء النظم على أسلوب المقابلة، لكان هكذا: «فمن أسلم فأولئك لهم الجنة، وأما من كفر فأولئك هم أصحاب النار» أو جاء فى صورة أخرى هكذا: «فمن أسلموا فقد اهتدوا وشدوا، وأما من كفروا فقد ضلوا وخسروا..» ولكن هذا كلام الله المعجز، المتحدى للإنس والجن أن يأتوا بمثله! فالذين أسلموا قد اختاروا طريق السلامة بعد بحث ونظر.. وقد يؤدى بهم هذا الطريق إلى الجنة أو لا يؤدى، لأن دخول الجنة أمر لا يملكه أحد، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1229 ولا يناله مخلوق، بعمله، وإنما هو بتوفيق الله، ومن فضله، وإحسانه.. ولكنهم أي (المسلمون) قد اختاروا الطريق الذي ينبغى أن يختاره كل عاقل، وهم على رجاء وطمع من رحمة الله، ومغفرته، ورضوانه.. إنه طريق الأمن والسلامة، وقد اهتدوا إليه بعقولهم، ووجب عليهم أن يسلكوه.. أما خاتمة هذا الطريق، فهى فى علم الله، وليس من شأننا أن نقطع بها، وإن كان لنا أن نحسن الظن بفضل ربنا وإحسانه.. وأما الذين كفروا، فالنار موعدهم، لا محيص لهم عنها، لأنهم ركبوا طريقا مهلكة، لا يقيم سالكها إلا على متن الهلاك، ولا يبيت إلا على موعد معه.. وهذا ما يحكم به العقلاء على كل من يركب مهلكة من المهالك، إنهم لا يتوقعون له إلا أن يهلك على يديها.. تماما، كمن يدخل على الأسد عرينه، أو يمد إلى الحية يده فى جحرها.. إنه لا محالة هالك. الآيات: (16- 28) [سورة الجن (72) : الآيات 16 الى 28] وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28) التفسير: قوله تعالى: «وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً» هو دعوة من الله سبحانه وتعالى إلى هؤلاء القاسطين الذين يسرعون إلى الهلاك بخطى حثيثة، حيث يكونون حطبا لجهنم- أنه دعوة إليهم بالرجوع إلى الله والاستقامة على طريق الحق، والإيمان بالله ورسوله، واليوم الآخر.. وقوله تعالى: «لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً» - هو وعد منه سبحانه لأهل الإيمان بأنه لا يفوّت عليهم ما يطلبون فى الدنيا من خير، فإن الإيمان بالله، والعمل للآخرة، لا يعوّق من سعى الإنسان ولا يعطل من جهده فى تحصيل الرزق.. فالرزق بيد الله، وأنه سبحانه لا يعاقب المؤمنين بالتضييق عليهم فى الرزق، وإنما هو يرزقهم بما هو أصلح لهم وأنفع، وأنه إذا كان من المؤمنين من يرى أنه مضيق عليه فى رزقه، فذلك ابتلاء من الله سبحانه وتعالى له، وأن هؤلاء الذين لا يرضون من الإيمان إلا أن يكون معه سعة فى الرزق وكثرة فى الأموال والأولاد- هؤلاء لو آمنوا لأفاض الله سبحانه عليهم من الرزق، ولأرسل السماء مدرارا عليهم، حيث يكون من وراء ذلك الخصب والنماء، ووفرة المال الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1230 والمتاع، ولكن هذا الرزق هو فتنة لهم، أي امتحان وابتلاء.. فإن هذا الرزق عبء، قد يؤودهم حمله، وقد يقصم ظهورهم، إذا هم لم يحسنوا سياسته، ولم يحفظوا أنفسهم من إغرائه، ويؤدوا حقّ الله فيه.. وهذا مثل قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ» (96: الأعراف) . هذا، وقد قرن الله سبحانه الإيمان بالتقوى، وذلك ليكون للإيمان هذه الثمرة الطيبة التي يبارك الله بها الرزق، وينمّيه، ويملأ قلوب المتقين أمنا وسكينة ورضا.. فالتقوى، إذا خالطت قلب إنسان، رفرفت عليه أعلام السلام، وإذ دهرت فيه مغارس الخير، فوجد القليل كثيرا، والشرّ خيرا، والفقر غنى.. إنه فى رضا دائم، وفى حبور لا ينقطع.. فمن استقام على طريق الحقّ، فهو فى عيشة راضية، وفى سعادة غامرة، وإن لم يكن بين يديه من حطام الدنيا إلا لقيمات، يتبلّغ بها.. إنه يجد من نور الإيمان، ومن ثمرات التقوى، أنه قد حاز الخير كله، وحصل من الحياة أكرم جواهرها، وأغلى ما يعرض فى سوقها. وقوله تعالى: «وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً» إشارة إلى أن من يبتعد عن الله، ويأخذ طريقا غير طريق الهدى، فإنه لن يجد الأمن والسلام أبدا، ولو اجتمع بين يديه ما يشاء من مال وبنين.. بل إنه سيتقلب فى أحوال شتّى من القلق والهمّ، ويتنقل من سيىء إلى أسوأ، حيث تنمو هذه العلل، وتتضاعف هذه الآلام، مع الزمن، حتى تبلغ غايتها، حين يذهب كل شىء كان فى يده، من قوة، وشباب، ومال، وأصحاب، ثم يقطع الموت فى نهاية الأمر، ما بينه وبين كل ما معه من أسباب، وإذا هو فى موقف الحساب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1232 والجزاء، فيساق إلى مصيره المشئوم، ثم يلقى به فى نار جهنم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى» (124: طه) . وفى التعبير عن أخذ المعرض عن ذكر ربه بالعذاب، وتدرجه فيه صعدا- فى التعبير عن هذا بقوله تعالى: «يسلكه» - إشارة إلى اتصال هذا العذاب، وأنه فى اتصاله وتعدده أشبه بحبات العقد، ينتظمها سلك واحد.. فهو- أي المعرض عن ذكر ربه- فى دائرة مغلقة من العذاب، يظل يدور فيها، دون أن يستطيع الإفلات منها، أو الخروج عنها، مع تدرجه فى العذاب، وتنقله فيه من سيىء إلى ما هو أسوأ، حتى يلقى به فى العذاب الأليم.. وفى هذا ما يشير إلى أن المعرض عن ذكر ربه، هو فى عذاب دائم متصل، فى الدنيا والآخرة، وأنه ينتقل من عذاب الدنيا، إلى عذاب الآخرة: «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» (33: القلم) .. قوله تعالى: «وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً» .. المراد بالمساجد- والله أعلم- هو مواطن السجود فى الأرض.. فحيث كان مكان فى هذه الأرض، يصلح للسجود، ووضع الجباه عليه، فهو لله سبحانه وتعالى، أي هو ملك لله، الذي خلق السموات والأرض.. فالسجود فى ملك الله لغير الله، كفر مبين، وضلال عظيم.. إنه عدوان على الله، ومحادّة له.. ويجوز أن تكون المساجد، جمع «مسجد» اسم آلة، وهو العضو المشارك فى عملية السجود.. ويكون المراد بالمساجد هنا، أعضاء السجود، وهى عظام الكفّين، وأطراف القدمين، وعظما الركبتين، وعظم الجبهة، وهى سبعة عظام، كما يشير إلى ذلك قول الرسول الكريم: «أمرت أن أسجد على الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1233 سبعة أعظم» .. فهذه الأعضاء- أعضاء السجود، هى لله، وهو سبحانه الذي خلقها، فلا ينبغى أن يسجد بها لغير خالقها.. قوله تعالى: «وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً» . عبد الله، هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفى إضافته- صلوات الله وسلامه عليه- إلى الله سبحانه وتعالى بصفة العبودية، تكريم وتشريف له، ورفع لمقامه الكريم عند ربه، وأنه عبد الله، الخالص العبودية لله، والمثل الكامل لهذه العبودية، التي تحققت فيه وحده، فانفرد بها فى هذا المقام، فحيث أضيف عبد إلى الله من غير ذكر اسمه، فالمقصود هو محمد صلوات الله وسلامه عليه.. وقد أضاف الله سبحانه وتعالى كثيرا من عباده المكرمين إليه بلفظ العبودية، ولكنها لم تكن إضافة مطلقة، بل كانت مقيدة بذكر اسم هذا العبد المضاف إلى الله، كما يقول سبحانه: «ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا» (2: مريم) وكما يقول تبارك اسمه: «وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ» (41: ص) ويقول جل شأنه: «وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ» (45: ص) وفرق كبير فى مقام التكريم والتشريف بين إضافة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعبودية إلى ربه إضافة مطلقة، وبين قيد هذه الإضافة بالاسم الدال على صاحبها، وإن كانت تلك الإضافة مما يلبس صاحبها تاج الكمال وينزله أعلى منازل الرضوان.. ولكن فوق هذا المقام الكريم العظيم مقام، ينفرد به رسول الله محمد وحده.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1234 وقد أضيف رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- عبدا لربه، إضافة مطلقة، على صور متعددة، فتارة يضاف إلى ضمير الذات العلية فى مقام الغيبة، كما فى قوله تعالى: «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» (1: الإسراء) وتارة يضاف إلى ضمير الذات فى مقام الحضور، كما فى قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ» (41: الأنفال) وتارة يضاف إلى اسم الذات كما فى قوله تعالى: «وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ» . (19: الجن) ولا شك أن فى تنوع هذه الإضافات زيادة تشريف وتكريم، فوق هذا التشريف والتكريم، حيث يضيف الحق سبحانه وتعالى عبده، متجليا عليه بذاته ظاهرا، وباطنا.. وبهذا المقام العظيم استحق الرسول الكريم، أن يصلّى عليه ربه، وأن تصلى عليه ملائكة ربه، وأن يدعى كل مؤمن ومؤمنة بالله، للصلاة عليه: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ.. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً» (56: الأحزاب) .. فصلى الله عليك يا رسول الله وعلى آلك وصحبك، وسلم تسليما.. وقوله تعالى «يَدْعُوهُ» أي يدعو ربه، وهو حال من الفاعل فى قوله تعالى: «وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ» وقوله تعالى: «كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً» أي كاد المشركون أن يكونوا لبدا على النبىّ، أي جمعا واحدا عليه، يجتمع بعضهم إلى بعض فى مساندة وتلاحم، كما يجتمع اللّبد، وهو الشعر الكثيف، حيث يكون كتلة واحدة مثل لبد الأسد المجتمع على صدره، وحول عنقه، ومنه قوله تعالى: «يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً» (6: البلد) أي كثيرا مجتمعا بعضه إلى بعض.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1235 وفى هذا التصوير لاجتماع المشركين، وتكتلهم على الوقوف فى وجه النبىّ- فى هذا ما يشير إلى أمور: أولها: أن هذا المجتمع الذي يضم المشركين بعضهم إلى بعض فى مواجهة النبىّ- ليس له من داعية معقولة، وإنما هو صادر عن كائنات ميتة، لا حسّ ولا إدراك لها، إنها تجتمع وتتفرق، بيد من يجمعها أو يفرقها، كما يجتمع الشعر ويتفرق فى يد من يجمعه، أو يفرقه.. والشيطان هنا هو اليد التي تجمع هؤلاء المشركين، أو تفرقهم حسب مشيئته فيهم.. وثانيها: أن هذه الجموع الكثيفة المحيطة بالنبيّ من المشركين، إنما هى على كثرتها غثاء كغثاء السيل، وأنها لا تلبث أن تعر من وجه الحق إذا طلع عليها وضربها الضربة القاضية.. إنها كائنات من مخلفات الحياة، ليس لها جذور تمدها بالغذاء، وتمسك عليها الحياة.. وإنه سرعان، ما تجف وتتطاير، فتذهب بها الريح، وترمى بها فى كل وجه.. وثالثها: أن هذا اللبد المجتمع حول النبىّ، هو أشبه باللبد المجتمع حول رقبة الأسد، فهو شىء عارض، لا يؤثر فى ذاتية الأسد، وأنه يتطاير فى كل لحظة ليخلى مكانه لغيره. ورابعها: أن هذا اللّبد المجتمع حول النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- وإن كان فى هذا الوقت لبدا يشوكه، ويؤذيه، فإنه سيتحول عما قريب إلى لبد يحميه، ويدفع عنه كل أذى.. وهكذا فإنه بعد سنوات قليلة اجتمع للنبىّ من هؤلاء المشركين جند الله، المدافعون عن دينه، والمجاهدون فى سبيله، وهم المهاجرون، الذين كانوا مع إخوانهم الأنصار الكتيبة الأولى حملت راية الإسلام. وركزتها في أعزّ، وأمكن مكان، ودافعت عنها بالأرواح والأموال، وفدّتها بالأبناء والآباء.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1236 قوله تعالى: «قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً» .. هو توجيه من الله سبحانه للنبىّ الكريم، بما يلقى به قومه الذين كادوا يكونون عليه لبدا.. فهو إذ يراهم وقد صاروا عصبا عليه، قد اجتمعوا على عداوته والكيد له- إذ يراهم على تلك الحال، يقول لهم: «إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً» .. فهذه هى دعوتى.. فماذا تنكرون منها؟ وماذا تنكرون من الذين يعبدون ما أعبد؟ إنها دعوة لا إكراه فيها، فمن قبلها، فذلك من شأنه هو، ومن أعرض عنها، واتخذ سبيلا غيرها، فذلك من شأنه أيضا.. فلم إذن تصدّون الناس عن سبيل الله؟ ولم لا تتركون الناس وما اختاروا، كما تركتم أنتم وما اخترتم؟ قوله تعالى: «قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً» . هو من قول النبي المشركين، فهو إذ يعبد ربّه، ويوجه إليه وجهه، وحده، لا شريك له، فإنه لا يملك المشركين ضرّا، ولا رشدا.. وإنما ذلك إلى الله وحده. «فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ» (125: الأنعام) . وفى مقابلة الضرّ بالرشد، إشارة إلى أن الضر لا يكون إلا عن متابعة الهوى، واتباع أهل الضلال، كما أن الخير، لا يكون إلا من ثمرات الهدى، والاستقامة والتقوى.. وهكذا تقع المقابلة بين الضرّ والرشد، وقوعا يشمل الظاهر والباطل جميعا.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1237 فالضرّ، ظاهر، يخفى وراءه الهوى، والضلال، والشرك.. والرشد باطن، يفوح منه طيب الخير، وتهمى من سمائه غيوث الرحمة والإحسان.. أو بعبارة أوضح نقول: إن الضرّ فرع غاب أصله، والرشد أصل غاب فرعه.. فالضرّ ثمر كريه مرّ حاضر، لا تكاد تقع العين عليه حتى تعرف الشجرة التي أثمرته.. والرّشد، شجرة طيبة مباركة.. يكفى أن تقع العين عليها فتعرف الثمر الطيب الكريم، الذي تجود به.. أو نقول: إن المقابلة هنا بين المسبب، وهو الضرّ، وبين السبب لما يقابله وهو الرشد الذي مسبّبه الخير.. وهكذا فى كلمتين، يتجلى وجه من وجوه إعجاز القرآن.. ففى المقابلة بين هاتين الكلمتين: الضرّ، والرشد، تتحرك المعاني المولدة منهما، ويقابل بعضها بعضا، فتتآلف منها صورة معجزة، الكلمة القرآنية، التي لا ينفد لها عطاء. فعلى وجه الضرّ تلوح معالم الشرك، والكفر، والضلال، وتتراقص شياطين الغواية، والإثم.. وعلى وجه الرّشد، تتألق عرائس الخير، وتتهادى حور الجنان وولدانها. وهنا سؤال، وهو: لماذا آثر النظم القرآنى، المقابلة بين الضرّ والرشد، على المقابلة بين الكفر، والخير، أي المقابلة بين مسبب وسبب، دون المقابلة بين مسبّب ومسبب، أو بين سبب وسبب؟ ونقول- والله أعلم- إنه فى جانب الضرّ أغفل السبب الوارد منه هذا الضرّ، وهو الكفر والشرك، وأقيم المسبّب- وهو الضرّ- مقامه، ليرى الشرك والكفر فى ثمرتهما المرّة النكدة التي أثمراها.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1238 وأما فى جانب الرّشد، فقد أغفل المسبب عنه، وهو الخير، والنعمة والسلامة والعافية، وما أشبه هذا مما يسعد به الإنسان فى الدنيا والآخرة، وأقام السبب مقامه، وذلك للتنويه بالرّشد فى ذاته، وأنه وحده خير، وخير كثير، وأنه يجب أن يكون مطلوبا لذاته، غير منظور إلى الخير الذي يجىء منه.. إنه فى ذاته خير، فلا حاجة إلى النظر فيما وراءه. والنبىّ- وهو رسول الله، والحامل لرسالته، والداعي إليها- هو فى قبضة الله، وتحت سلطان مشيئته.. وأنه لو أراد الله ضرّه، فليس هناك من يدفع عنه هذا الضرّ، وليس له من ملتحد، أي ملجأ يلجأ إليه، فرارا من هذا الضرّ الذي هو رهن بمشيئة الله.. إنه لا محاباة عند الله، حتى ولو لرسول الله- وإنما الناس عند الله بأعمالهم، وما هم عليه من إيمان وكفر، ومن تقوى وفجور.. والله سبحانه وتعالى يقول: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» (13: الحجرات) أي أشدكم خوفا من الله، ومراقبة له، واتقاء لحرماته.. ولما كان رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، هو أتقى الأتقياء، كانت منزلته عند الله أعلى المنازل وأكرمها، فهو مطمئن إلى ماله عند الله من مقام كريم، وأجر عظيم.. قوله تعالى: «إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً» هو مستثنى من قوله تعالى: «قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً» فهو بمعنى لا أملك لكم من الله شيئا، إلا هذا البلاغ الذي أبلغكم به من الله، وإلا هذه الرسالات التي أحملها إليكم فى آيات الله.. فهذا هو الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1239 الذي أملكه من الله لكم، بعد أن ملّكنى إياه.. وها هو ذا أعرضه عليكم، وأبلغكم ما أرسلت به إليكم.. أما ما وراء هذا، فلا أملك لكم من الله شيئا منه، فلا أملك هداية لمن أضله الله، أو إضلالا لمن هداه الله.. وفى جمع «الرسالات» مع أن رسالة الرسول واحدة، لا جمعا- فى هذا إشارة إلى أن كل آية من آيات الله، هى رسالة من رسالات الله، إلى عباد الله، يرون فى أنوارها، مواقع الهدى والرشاد، وإنه بحسب الإنسان العاقل أن يتلو آية من آيات الله، أو يستمع إليها، فيجد طريقه إلى الإيمان والهدى.. ولقد استمع الجن إلى آيات من القرآن الكريم فكان فيها هداهم ورشدهم.. وقوله تعالى: «وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً» . هو تعقيب على قوله تعالى: إلا بلاغا من الله ورسالاته، فهذا البلاغ من الله، وتلك الرسالات المنزلة فى آياته- هو مما بلغه الرسول إياهم، ودعاهم إلى تصديقه، والإيمان به، وأن من يعص الله، فلم يؤمن بآياته، ويعص الرسول، فلم يستجب له- فإن له نار جهنم خالدا فيها أبدا.. فذلك هو جزاء من يعصى الله ورسوله.. وفى عود الضمير مفردا على اسم الشرط «من» فى قوله تعالى: «فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ» ثم عوده عليه جمعا فى قوله تعالى: «خالِدِينَ فِيها أَبَداً» - فى هذا إشارة إلى أن العصيان لأمر الله ورسوله، هو عن استجابة لهوى الإنسان وحده، وأنه هو المسئول عن ركوبه هذا الطريق المهلك.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1240 أما المصير الذي يصير إليه هذا الإنسان، فهو مصير عام يلتقى عنده أهل الضلال جميعا، وهو النار.. قوله تعالى: «حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً» هو تهديد المشركين، وأنهم إذا كانوا فى يومهم هذا، يعتزون بقوتهم، وكثرة عددهم، ويتسلطون على تلك القلة المستضعفة المؤمنة، ببغيهم وعدوانهم، ويجتمعون لبدا عليهم- فإنه سيأتى اليوم الذي يوعدون فيه بهذا العذاب، حيث يرون أنه قد تخلّى عنهم كل ما كان موضع قوة وعزة لهم، وأنهم قد صاروا حطبا لنار جهنم. ويجوز أن يكون مما يوعدون به، هو ما تهددهم الله به من الهزيمة والخذلان فى الدنيا، فى قوله تعالى: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ» (45: القمر) وفى قوله تعالى: لنبيه الكريم: «وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ» (46: يونس) .. وغير ذلك من الآيات التي أشارت إلى نهاية هذا الصراع القائم بين المشركين، والمؤمنين.. وأن النصر، والغلب والعزة ستكون لله، ولرسوله، وللمؤمنين.. ولقد رأى المشركون مصداق قوله تعالى: «فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً» - لقد رأوا ذلك رأى العين، يوم الفتح، حيث دخل النبي مكة على المشركين فى عشرة آلاف من أصحابه، فانقبع المشركون، وزلزلت الأرض بهم، ثم جاءوا إلى النبي مقيدين بقيد المهانة والذلة، حتى أطلقهم الرسول الكريم بقولته الخالدة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» ! الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1241 قوله تعالى: «قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً» «إن» هنا نافية، بمعنى «ما» .. أي قل أيها النبي لهؤلاء المشركين، إن هذا اليوم الذي توعدون به، والذي ستعلمون فيه أنكم أضعف ناصرا وأقل عددا- هذا اليوم لا أدرى متى هو؟ .. أهو قريب، قد أظلكم، وأطلّ عليكم بوجهه، أم هو ممتد إلى ما يعلم الله سبحانه ويجعل له أمدا ينتهى عنده.. وفى قوله تعالى: «يَجْعَلُ» بمعنى يقدّر، وفى التعبير عن التقدير بفعل المستقبل، إشارة إلى إخراج هذا التقدير من حيز العلم المكنون عند الله، إلى حيز الواقع والمشاهد، حيث يبدو الناس ما وعدوا به يوم ينتهى الأمد المعلوم عند الله لهذا اليوم. قوله تعالى: «عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً» - أي أن ربى هو عالم الغيب، فلا يعلم الغيب إلا هو، ولا يظهر، أي يطلع على غيبه أحدا، إلا من ارتضى من رسول. فقوله تعالى: «إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ الله» هو استثناء من قوله تعالى: «فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً» .. أي أنه سبحانه قد استأثر وحده بعلم الغيب، وأنه سبحانه لا يطلع أحدا على هذا الغيب إلا من ارتضى أي اختار من بعض رسله.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1242 و «من» فى قوله تعالى: «مِنْ رَسُولٍ» للتبعيض، للإشارة إلى أنه ليس كل رسل الله يطلعهم الله على الغيب- وإنما يختار الله سبحانه من يشاء منهم، فيطلعه على ما يأذن لهم به من الغيب.. فإن الذي يوحيه الله سبحانه وتعالى إلى بعض رسله، هو من بعض هذا الغيب، حيث لا يعلم هذا الموحى به إلا الرسول.. كما أوحى الله سبحانه إلى نوح بغرق قومه، وكما أوحى إلى إبراهيم بهلاك قوم لوط. وكما أوحى إلى صالح بهلاك قومه بعد ثلاثة أيام من عقر الناقة.. فهذا من الغيب الذي أطلع الله سبحانه بعض رسله عليه. والرسول- صلوات الله وسلامه عليه- كان يعلم مما علّمه الله، كثيرا من الأحداث التي تقع على مسيرة دعوته، سواء أكان ذلك عن طريق الفهم الخاص لرسول الله بما ضمت عليه آيات القرآن من أسرار، أو كان هذا عن وحي خاص من الله سبحانه إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه.. وقوله تعالى: «فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً» .. أي أن الله سبحانه لا يطلع على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول، فإنه يطلعه على بعض الغيب، وذلك بما يقصّ عليه من أخبار إخوانه السابقين من الرسل، وما ووجهوا به من أقوامهم من سفاهات، وضلالات، وما احتملوا فى سبيل تبليغ رسالة الله، من ضر وأذى.. فهذا هو الرصد الذي يسلكه الله من خلف الرسول، أماما يسلكه بين يديه، فهو إخباره بما سيقع له من بعض الأحداث ذات الشأن العظيم، على طريق مسيرته هو بدعوته.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1243 والرصد هو، الاستعداد، والترقب للأمر، والرصد يقال الواحد الراصد، والجماعة الراصدين، والشيء المرصود، أي المعد.. والمراد بالرصد فى الآية الكريمة- والله أعلم- هو المعالم المنصوبة بين يدى الرسول، ومن خلفه، مما يقصّه الله سبحانه وتعالى على الرسول من قصص الرسول السابقين، والمعاصرين لهذا الرسول، وبما يطلعه عليه من بعض أنباء الغيب مما سيقع له على طريق دعوته.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى مخاطبا النبي الكريم، بعد أن قص عليه قصة يوسف: «ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ» (102 يوسف) .. وقوله تعالى: «وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ» (120: هود) .. وعلى هذا يكون الضمير فى قوله تعالى: «لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ» - عائدا إلى الرسول، الذي أطلعه الله سبحانه على بعض الغيب، وأن هذا الرسول بما علم من أنباء الرسل من قبله، قد علم أنهم أبلغوا رسالات ربهم، وأنهم أدوا أمانة التبليغ على وجهها، غير عابئين بما يلقاهم فى هذه السبيل من عنت وبلاء.. وفى هذا تثبيت الرسول فى موقفه المواجه لقومه، وما يرمون به من منكر القول، وسفيه العمل.. لما يرى من إخوانه الرسل، وما أصابهم من أقوامهم. وقوله تعالى: «وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً» معطوف على قوله تعالى: «أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ» .. أي ويعلم الرسول أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم، وأن الله قد الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1244 أحاط بما كان لدى الرسل من طاقة صبر، وقوة واحتمال، على مواجهة السفهاء والضالين من أقوامهم، وأنه سبحانه قد علم كل شىء، وأحصاه عددا، لا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء.. هذا وجه من وجوه التأويل لقوله تعالى: «إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا» .. وقيل، إن الرصد الذي يسلكه الله سبحانه وتعالى من بين يدى الرسول ومن خلفه، هو الحفظة من الملائكة، القائمين على الوحى المبلغ إلى الرسول، حتى يحفظوه من استراق سمع الشياطين له.. وعلى هذا يكون الضمير فى قوله تعالى: «ليعلم» عائدا إلى الله سبحانه وتعالى، أي ليعلم الله أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم على الوجه الذي أوحى إليهم به.. وعلم الله هنا ليس مقيّدا، ولا معلولا بهذا الرصد الذي يسلكه الله بين يدى ما يوحى به إلى رسله ومن خلفهم.. فعلم الله سبحانه وتعالى، علم ذاتى، لا يتعلق بأسباب، ولا يتولد عن علل.. وإنما المراد بالعلم هنا، العلم بما وقع من الرسل، فعلا، بعد أن كان هذا العلم واقعا على الأحداث قبل أن تقع. وعلى هذا يكون قوله تعالى: «وأحاط بما لديهم وأحصى كل شىء عددا» حالان من فاعل: «ليعلم» وهو ضمير عائد على الله سبحانه وتعالى: أي ليعلم الله سبحانه أن الرسل قد أبلغوا رسالاته، والحال أنه سبحانه قد أحاط بما لديهم قبل أن يعملوه، وأحصى كل شىء عددا، قبل أن يوجد.. والله أعلم.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1245 73- سورة المزمل نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة القلم. عدد آياتها: عشرون آية. عدد كلماتها: مائتان وخمس وثمانون.. كلمة. عدد حروفها: ثمانائة وستة وثلاثون حرفا.. مناسبتها لما قبلها ختمت سورة «الجن» بهذا العرض الذي يكشف عن مقام رسل الله عند ربهم، وأنهم وحدهم من بين البشر، هم الذين اختارهم لرسالته إلى عباده، ولما يطلعهم عليه من الغيب المتصل برسالاتهم، وببعض الأحداث التي تقع لهم على طريق هذه الرسالات.. والنبي صلوات الله وسلامه عليه، واحد من هؤلاء الرسل الكرام، الذين اختارهم الله سبحانه لتبليغ رسالاته إلى الناس، ولما يوحى إليهم به من آياته التي لا يعلمها إلا هو.. فناسب ذلك أن تجىء سورة «المزمل» تالية سورة «الجن» وفيها هذا النداء الكريم من الله سبحانه وتعالى إلى رسوله، وقد آذنه بأنه قد اختير من الله سبحانه ليكون رسولا، وليتلقّى آيات الله الموحى بها إليه من ربه، وأنها من الغيب الذي سيطلعه الله عليه.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1246 بسم الله الرحمن الرحيم الآيات: (1- 14) [سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14) التفسير: قوله تعالى: «يا أيها المزمل» . النداء هو من الحق جلّ وعلا، إلى رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، وكان ذلك فى أول الدعوة، حيث تلقى الرسول الكريم أمر ربه بأنه رسول الله، وذلك فى قوله تعالى: «اقرأ باسم ربك الذى خلق خلق الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1247 الإنسان من علق.» وقد استقبل الرسول هذه الدعوة، استقبال الإنسان لأمر غريب يقع له، مما لم تألفه الحياة، ومما لم يقع له أو لغيره المعاصرين له.، فوقع فى نفسه شىء من الخوف، والفزع لهذا الحدث، ولما له من عواقب لا يدرى ما يأتيه منها.. ويروى فى هذا أن النبىّ صلوات الله وسلامه عليه، كان فى أول أيام رسالته كلما عرض له جبريل، وناداه من قريب أو بعيد فزع، وكرب وعاد إلى أهله يرجف فؤاده، ويقول زمّلونى، دثرونى.. والمزّمل: أصله المتزمّل، وهو المتلفف فى يرد، أو نحوه.. والمزّمل: الحامل الثقال من الأمور، ومنه: الزّاملة، وهى الراحلة التي تحمل الزاد والمتاع، ونحوه.. ونداء النبىّ الكريم، بهذه الصفة التي كان عليها.. وهى المزمل.. هو غاية اللطف، والتكريم والإحسان، من الله سبحانه وتعالى.. حيث لا يكون هذا النوع من الخطاب إلا بين متحابين متصافيين، قد زالت حواجز الكلفة بينهما.. وهذا جائز من الله سبحانه وتعالى، لأنه هو الملك للأمر كله، يدنى من يشاء ويبعد من يشاء، ويخاطب أحبابه وأولياءه، كما يخاطب الحبيب حبيبه، والخليل خليله.. أما النبىّ، والملائكة، وغيرهم من عباد الله المقربين فإنه لا يجوز لهم أن يخاطبوا الله سبحانه إلا من مقام العبودية المطلقة لجلال الله وعظمته.. «يا أيها المزمل» !! كم وجد الرسول الكريم من سعادة، وغبطة، ورضا.. بهذا الوصف الذي أصبح علما هو آثر الأسماء عنده، وأحب، الصفات إليه؟ وهذا يعنى أن جميع أحوال النبىّ، هى غير أحوال الناس، وأن كلّ حال منها هى علم على النبىّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1248 وحده، حتى ما كان منها فى ظاهره مما لا يتمدّح به، هى بالنسبة إليه صفات كمال لا يتصف بها غيره. وللرسول الكريم وصف وصف به الإمام عليا- كرم الله وجهه- حين رآه نائما فى المسجد وقد علا جبينه بعض التراب، وكان مغاضبا السيدة فاطمة رضى الله عنها، فقال له الرسول صلوات الله وسلامه عليه: «قم يا أبا تراب» يقول الإمام علىّ: فكان هذا الوصف هو أحبّ ما أنادى به!! وقوله تعالى: «قم الليل إلا قليلا» .. هذا هو المنادى به النبىّ من قبل الله سبحانه وتعالى، بعد أن أوقظ من نومه بهذه اللمسة الرفيقة الحانية، من يد اللطف والرحمة، من ربّ لطيف رحيم.. «يا أيها المزمل» وفى هذه الدعوة، انتقال بالنبيّ الكريم من حال المزمل، والنوم، إلى اليقظة الكاملة، والتشمر للعمل، والقيام له.. «قم الليل إلا قليلا» . والمراد بقيام الليل، هو اليقظة فيه، يقظة كاملة، واعية عاملة، حتى لكأنه فى حال قيام دائم، وإن كان جالسا.. قوله تعالى: «نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا» نصفه، بدل من «قليلا» فى قوله تعالى: «قم الليل إلا قليلا» وهو بيان لمقدار قيام الليل إلا قليلا منه.. فنصف الليل، إذا قامه النبي، يعدّ منه قياما لليل، إلا قليلا منه، وأقل قليلا من نصف الليل، بعد كذلك من النبي قياما لليل إلا قليلا منه، وكذلك إذا هو زاد فى قيامه على نصف الليل.. وهذا يعنى أن أمر النبي- صلوات الله وسلامه عليه- بقيام الليل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1249 إلا قليلا، هو أمر قائم على اليسر، حسب أحوال النبي، وعلى قدر استعداده فى كل حال من أحواله.. ففى ليلة، يقوم الليل كله إلا قليلا، وفى ليلة أخرى، يقوم نصف الليل، وفى ثالثة، يقوم أقل من نصف الليل، وفى رابعة يقوم اكثر من نصفه.. وفى كل هذا، هو- صلوات الله وسلامه عليه- قد أدى غاية المطلوب منه، وهو قيام الليل إلا قليلا منه.. وقوله تعالى: «ورتل القرآن ترتيلا» - معطوف على قوله تعالى، «قم الليل إلا قليلا» .. إذ ليس المطلوب هو قيام الليل فى ذاته، وإنما المراد هو الذي يصحب هذا القيام، من ترتيل القرآن ترتيلا.. فالواو هنا بمعنى المعية والمصاحبة.. ويجوز أن تكون واو الحال، والجملة بعدها حالية، أي قم الليل مرتلا القرآن ترتيلا.. وترتيل القرآن، هو قراءته فى تمهل وتتابع، بحيث تتابع الحروف والكلمات، فيأخذ كل حرف مكانه على الفم من كل كلمة، كما تأخذ الكلمة مكانها من كل آية، حتى ينتظم منها جميعها موكب متحرك فى نظام أشبه بنظام حبات الدر فى عقدها.. وهكذا كانت قراءة رسول الله للقرآن.. عن أم سلمة- رضى الله عنها- قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقطّع قراءته آية آية» وعن أنس- رضى الله عنه- قال: «كان يمدّ صوته مدّا» وعن ابن عمر رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقال لصاحب القرآن «1» : اقرأ وأرق، ورتّل كما كنت ترتل فى الدنيا، فإن منزلتك عند آخر تقرؤها» ولفظ الترتيل، يحتمل هذه المعاني كلها.. وهو من ترتّل الأسنان، إذا   (1) أي فى الآخرة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1250 استوت وحسن نظامها، ويقال ثغر رتل إذا كانت أسنانه مستوية لا تفاوت فيها.. قوله تعالى: «إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا» - هو بيان للسبب الذي من أجله دعى النبي إلى قيام الليل، وإلى نزع ثوب الدّعة والسكون.. إنه صلوات الله وسلامه عليه- سيواجه- بعد اصطفائه المرسالة- أمرا عظيما، وإنه سيكلف أداء مهمة شاقة، تحتاج إلى أن يبذل لها كل جهده، وأن يقوم عليها فى كل لحظة من حياته، ليلا ونهارا.. فهذا القول الذي سيلقى عليه، وهو القرآن الكريم، هو قول ثقيل بما يحمل من تكاليف، هى عبء ثقيل عند كثير من الناس، كما أنها حمل ثقيل على النبي فى حملها إلى الناس، ودعوتهم إليها.. إن عهد النوم بالليل قد انتهى! فليوطّن النبي التي نفسه منذ الآن على الجهاد، وحمل هذا العبء، وليأخذ للموقف عدته، وإلّا ضعف عن حمل الرسالة، وأداء أمانة تبليغها، وقد علم أن إخوانه من الرسل، قد أبلغوا رسالات ربهم، وما كان له أن يقصر عنهم، وهو خاتمهم، وسيدهم. وهذا التنبيه من الله سبحانه لنبيه الكريم، بما سيلقاه على طريق رسالته، من صعاب، وما يحمله فى سبيلها من أعباء- هو الذي يهيىء النبي جسميّا ونفسيّا للمهمة الخطيرة التي نيطت به، وألقيت عليه.. وقوله تعالى: «إن ناشئة الليل هى أشد وطئا وأقوم قيلا» . اختلف فى معنى «ناشئة الليل» .. أهي أول الليل، أو آخره، أو وسطه، أم هى اليقظة بعد النوم.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1251 والذي نميل إليه أن ناشئة الليل هى أوله، حيث يبدأ فيها نشوء الليل، وحيث هى التي يتحقق بها ما دعى إليه النبىّ من قيام الليل إلا قليلا منه، فإنه لو نام الإنسان أول الليل فهيهات أن يضبط الوقت الذي يستيقظ فيه، ومن ثمّ فقد لا يقوم شيئا من الليل، فضلا عن أن يقوم الليل كله إلا قليلا منه.. وقوله تعالى: «هى أشد وطئا» أي أثقل على النفس وأشق، لأن الإنسان يصل بها تعب النهار، الذي يحمل الإنسان على أن يلقى بهذا التعب عند أول الليل، كما يلقى المسافر مشقة السفر عند أول منزل ينزله.. وفى هذه المشقة، مضاعفة الثواب، ودربة على تعوّد المتاعب، ومغالبة منازع النفس وأهوائها.. وقوله تعالى: «وأقوم قيلا» أي أن قيام ناشئة الليل، أكثر فائدة، وأطيب ثمرا.. حيث يكون الإنسان مغالبا لهواه، قاهرا سلطان نفسه، مستعليا على حاجة جسده، وتلك أحسن أحوال الإنسان لتقبل الخير، والإفادة منه.. والقيل الذي مع الرسول الكريم، هو القرآن الكريم، وهو أقوم قول وأعدله، وأكمله، فى جميع الأحوال، والأزمان.. لا تتغير ذاتيته، ولا تتعرض صفاته لزيادة أو نقص.. لأنه كامل فى ذاته، لا يقبل كما له زيادة، كما أنه لا يقبل نقصا.. لأن الكامل كمالا مطلقا، لا يكون على هذا الوصف إلا إذا تنزه كماله عن التعرض الزيادة أو النقص.. أمّا وصف القيل المراد به القرآن هنا، بأنه أقوم قيلا، أي أسدّ قولا وأنفعه- أما هذا الوصف، فليس لذاتية القول، وإنما هو للأثر الذي يحدثه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1252 هذا القول فيمن يتلقاه، ويرتله.. فإن هذا الأثر يختلف باختلاف المتلقّين له، وباستعدادهم العقلي، والنفسىّ والروحي، للفهم عنه، والتجاوب معه.. كما أن هذا الأثر يختلف باختلاف أحوال المتلقّى الواحد، وبتأثر هذه الأحوال بظروف الزمان، والمكان.. فبعض الأزمنة تفعل فيها الكلمة ما لا تفعله فى أزمنة أخرى، وبعض الأمكنة، تجعل الكلمة وقعا على نفس متلقيها، لا يجده منها فى مكان آخر.. تماما كشأن النبات من الحب والفاكهة، فإن لكل فاكهة ولكل حب مكانا لا يجود إلا فيه، وزمانا لا تنطلق فيه طاقاته وقواه كاملة إلا إذا احتواه هذا الظرف من الزمان.. وأول ما ألقى على النبي من قول ثقيل، هو هذا الأمر التكليفي الذي كلف به من ربه، وهو أن يقوم من نومه، وأن يرفع هذا الغطاء المتزمل به، وأن يقوم الليل كله إلا قليلا منه، ذاكرا الله بتلاوة القرآن وترتيله.. ويجوز أن يكون هذا القول الثقيل، هو ما يحمل إليه هذا القول من حمل أمانة تلك الرسالة العظيمة التي يقوم عليها، ويواجه الناس بها، وقد حمل النبي أعباء هذه الرسالة نحوا من ثلاث وعشرين سنة، احتمل فيها ما تنوء الجبال الراسيات بحمله.. ويجوز أن يكون هذا القول الثقيل، هو الوحى نفسه، وما كان يجد النبي من جهد فى تلقى كلمات الله منه.. هذا، والذين ذهبوا إلى أن ناشئة الليل، هى آخر الليل إنما نظروا فى قول الله سبحانه: «أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا» - وفى هذا تنويه بهذا الوقت- وقت الفجر- وأنه وقت مبارك، تتفتح فيه النفس لتقبل الخير، وتشرق فيه بنور الحق، كما يشرق وجه النهار، ويسفر، حين يطلع الفجر.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1253 وعلى هذا يكون قوله تعالى: «إن ناشئة الليل هى أشد وطئا وأقوم قيلا» هى دعوة إلى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- إلى أن يمدّ فى قيام الليل، حتى يبلغ الفجر، ليلتقى مع هذا الوقت المبارك المشهود، وإن كان فى السهر، ومغالبة النوم ما تشتد وطأته عليه.. ولهذا جاء بعد ذلك قوله تعالى: «وأقوم قيلا» ليكون خيرا مرصودا ينتظر النبىّ على نهاية الليل الذي قطعه قياما، وترتيلا، وبهذا يشتد عزمه، وتشتد رغبته فى السهر ليلتقى مع هذا الخير الذي هو على موعد معه هناك.. مع الفجر! وعلى هذا التأويل، يكون القول بأن ناشئة الليل، هى آخر الليل، أولى عندنا مما قلناه من أنها أول الليل.. والله أعلم.. وقيل إن ناشئة، الليل، هو ما يتجدد فيها من ساعات، ينشأ بعضها إثر بعض، وعلى هذا تكون شاملة الليل كله باعتبار ظرفا طيبا للعبادات والطاعات، وذلك لخلو النفس فيه من الشواغل التي تشغلها بالنهار.. قوله تعالى: «إن لك فى النهار سبحا طويلا» .. السبح: الحركة، المطلقة، المتحررة من القيود.. ومنه يقال الفرس السريع الجري: سابح، وقد أقسم الله سبحانه بالسابحات، فقال سبحانه: «والنازعات غرقا والناشطات نشطا والسابحات سبحا» (1- 3: النازعات) .. ومنه التسبيح، وهو إطلاق اللسان بذكر الله.. وهذه الآية بيان لسبب آخر من أسباب دعوة النبىّ مجاهدة نفسه أولا، وتدريبها على ركوب الصعاب من الأمور، حتى يستطيع أن يستقل بحمل القول الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1254 الثقيل الذي سيبلقى عليه. فإن قيام الليل مع شدّة وطأته لا يكفى وحده لمواجهة الرسالة المكلّف بحملها، وتبليغها إلى الناس، وإنما يقتضيه هذا أن يقوم النهار كلّه، يطوف على الناس، ويلقاهم بها فى كل مكان، ويسبح بها إلى كل أفق كما تسبح الطير فى السماء.. وأنه إذا كان النبىّ قد جعل الليل لمناجاة ربه، فليجعل النهار لمواجهة الناس.. إنه بمناجاة ربه بالليل يتزود بالزاد الطيب الذي يعينه على رحلة النهار مع الناس ودعوتهم إلى الله، فإذا أقبل الليل عاد إلى تلك المناجاة يستروح أرواح الطمأنينة والرضا، ويتخفف من أعباء يومه الثقيل، وما لقى فيه من خلاف عليه، واستخفاف به من أهل السفاهة والجهالة، ليستقبل يوما آخر.. وهكذا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا» (52: الفرقان) .. فهذا السبح الطويل الذي يسبحه النبىّ الكريم فى النهار- هو جهاده للكافرين بآيات الله التي يتلوها عليهم، ويحاجّهم بها، ويتلقى ما يرمونه من بهت وتكذيب.. يروى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وقد نصح له بعض أصحابه بأن يرفق بنفسه، وأن يأخذ لها حظها من الراحة والنوم بالليل أو النهار، فأجابه عمر بقوله: «إنى إن نمت الليل ضيّعت حق الله، وإن نمت النهار ضيعت حق الرعية.. فكيف بالنوم مع هذا أو ذاك؟» .. فإذا كان هذا شأن عمر، فرع شجرة الإسلام الطيبة المباركة، فكيف بالشجرة ذاتها؟ .. وكيف برسول الله، وبالأمر العظيم الذي ندبته السماء له، وأناطت به حمله؟ ذلك أمر لا نوم معه فى ليل أو نهار.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1255 قوله تعالى: «واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا» .. هو دعوة إلى الرسول الكريم أن يكون دائما مع ذكر الله، فى الليل أو فى النهار، مع نفسه، أو مع الناس، فلا يقطعه هذا السبح الطويل فى النهار مع الناس، عن ذكر الله أبدا.. إن رسالته كلها هى ذكر الله، والتذكير به، فهو حيث كان فى ذكر الله، وفى تلاوة آياته.. وفى التعبير عن ذكر الله بذكر اسمه تعالى، إشارة إلى أن ذكر اسم الله، هو الذي يذكّر بالله، وهو الذي يستحضر به ماله سبحانه من صفات الكمال والجلال التي تشعّ من أسمائه وصفاته.. وفى هذا يقول سبحانه: «ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها» (180: الأعراف) .. ويقول جل شأنه: «قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى» (14- 15: الأعلى) .. ويقول سبحانه: «ولذكر الله أكبر» (45: العنكبوت) .. ويقول سبحانه: «وأقم الصلاة لذكرى» (14: طه) .. وقوله تعالى: «وتبتل إليه تبتيلا» .. التبتل: الانقطاع، والبتل القطع.. ومنه البتول، وهى التي انقطعت عن الدنيا وشواغلها بعبادة الله.. ومعنى التبتل إلى الله، الانقطاع إليه، وتوجيه العقل، والقلب إليه جميعا، دون التفات إلى غيره.. وهذا هو شأنه- صلوات الله وسلامه عليه- فكل وجوده لله.. كلامه وخطوه، وقيامه، وقعوده، ونومه، ويقظته. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1256 وليس التبتل هنا معناه الرهبنة، والانقطاع عن الحياة، وإنما هو العمل لله وحده فى معترك الحياة، بمعنى أن تكون أعمال النبي، وجهاده بالقول، وبالسيف، مرادا بها وجه الله وحده، معزولا عن كل مطلب من مطالب الحياة الدنيا، ومجانبا لكل حظ من حظوظ النفس، إلا ما يمسك الأود، ويحفظ الحياة.. قوله تعالى: «رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا» أي هو رب المشرق والمغرب، أي هو رب هذا الوجود كله.. فإذا ذكر المؤمن اسم ربه، ذكر بذلك ما لله سبحانه من سلطان، وأنه مالك الملك، وحافظه، ومدبر كل أموره وأحواله، وهذا هو الذي يعطى الذاكر ثمرة طيبة، إذا هو ذكر ربه بهذه المشاعر الخالصة له سبحانه وتعالى. وفى التعبير بالمشرق والمغرب، عن الوجود كله، وحصره فى هاتين الجهتين، مع أن الجهات أربعة، هى المشرق والمغرب، والشمال، والجنوب- فى هذا أمور، منها: أولا: أن التعبير القرآنى، جاء بلفظ مشرق، ومغرب، ولم يجىء بلفظ شرق وغرب.. وهذا يعنى أنه يشير إلى مشرق الشمس، والقمر، والكواكب، والنجوم، ومغربها.. فهذه العوالم، لها مشرق، ومغرب، وليس لها شمال، وجنوب.. وثانيا: أن المشرق، والمغرب، يشملان- ضمنا- الشمال والجنوب.. حيث أن المشرق يشير إلى جهة الشروق، التي تمتد من أقصى الشمال، إلى نهاية الجنوب.. وكذلك المغرب، فإنه يمتد من طرف الشمال، إلى طرف الجنوب. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1257 وثالثا: أن دورة الأرض، وهى الكوكب الذي نعيش عليه، هى دورة من الغرب إلى الشرق، وليست من الشمال إلى الجنوب، أو من الجنوب إلى الشمال.. ولذا فإن في حركتها تلك لا يظهر إلا وجه المشرق، ووجه المغرب، جامعين كلّ شمال وكل جنوب يقع في محيطهما.. وقوله تعالى: «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا» .. أي أنه سبحانه هو المتفرد بالسلطان على الوجود، لا يشاركه أحد، ولهذا كان التعلق به وحده، والتوكل عليه وحده، هو الطريق إلى السلامة، والنجاة.. وفى قوله تعالى: «فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا» إشارة إلى تفويض الأمر لله وحده، وجعله سبحانه هو الوكيل الذي يكل إليه الإنسان أموره، ويفوّض له التصرف فيها.. ووكالة الله سبحانه وتعالى للإنسان، هنا، هى وكالة عن اختيار وطواعية، وعن ثقة فى الله، وإقرار بالعجز من العبد عن أن يكون له تصريف فى أي شىء إلا بما قضى الله سبحانه وتعالى له به، وقدّره.. وهذا هو الإيمان فى حقيقته، وفى أكمل صوره، وتلك حال المؤمنين حقا فى صلتهم بالله، وفى تعاملهم مع الله.. أما غير المؤمنين بالله، الذين لا يتوكلون عليه، ولا يفوضون أمورهم إليه- فإنهم مقهورون تحت سلطان الله، وفى إجراء مقاديره عليهم.. ويستوى فى هذا المؤمنون، وغير المؤمنين.. ولكن الفرق بين المؤمنين وغير المؤمنين، هو فى أن المؤمنين قد امتلأت قلوبهم طمأنينة ورضا بهذا العقد الذي عقدوه مع ربهم، فى تفويض أمورهم إليه، وإلقائها بين يديه، وهذا من شأنه أن يقيمهم على رضا دائم بما يقع لهم، فلا يرون فيما صنعه الوكيل لهم إلا الخير، والإحسان، سواء أكان ذلك مما يسرّ الناس أو يسخطهم، ومما يرونه خيرا أو شرّا.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1258 إن المؤمن الذي فوض لله أموره، لا يرى عاقبة هذه الأمور إلا أنها الخير، والخير كله.. أما غير المؤمن بالله، فإنه يحمل وحده هموم نفسه، ويتولّى تصريفها، غير ملتفت إلى أن يدا قوية قادرة حكيمة، رحيمة، هى التي تتصرف فيها بسلطان غالب، ومشيئة سابقة، وقدر مقدور- فهو لهذا فى معاناة دائمة، وفى مخاوف ووساوس لا تنقطع، من عواقب أموره.. فإذا جاءه من أمر ما يسره، لم تنطلق من نفسه رنة الفرح، لأن هناك أمورا أخرى أصدرها، وينتظر مواردها عليه ولا يدرى ما يجيئه منها، فلا تقع الفرحة خالصة بما وقع ليده مما يسره.. وإن أصابه ما يسوءه، قتل نفسه حسرة وندما، لأنه فعل كذا، ولم يفعل كذا، وأنه لوسلك بأمره هذا الذي ورد عليه بهذا السوء مسلكا آخر- لما حدث له هذا الذي حدث.. وهكذا يظل يمضغ الحسرة والأسى، حتى آخر لحظة من حياته.. فلا هو لما يسرّ مطمئن، ولا هو لما يسوء واجد عزاء وسلوانا. قوله تعالى: «وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا» .. هو معطوف على قوله تعالى: «فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا» .. أي اتخذ ربك الذي لا إله إلا هو، وكيلا، تستند إليه فى جميع أمورك، بعد أن انقطعت إليه، ووضعت وجودك كله فى سبيل مرضاته.. واصبر على ما يأتيك من المشركين من أقوال ضالة مفتراة، وما يرمونك به من تهم باطلة كاذبة.. اصبر على سفاهتهم تلك وقولهم إنك مجنون، وإنك شاعر، أو كاهن، أو مفتر متقوّل على الله.. اصبر على كل هذا، فذلك هو من آثار هذا القول الثقيل الذي ألقيناه عليك، وتلك هى المهمة الثقيلة التي انتدبناك لحملها.. وإنه لا يعنيك على حمل هذا العبء الثقيل إلا توكلك على الله، واعتصامك بالصبر: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1259 آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» (153: البقرة) . وقوله تعالى: «وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا» .. أي واهجر المشركين إذا انقطع بينك وبينهم ما ترجو لهم من خير- اهجرهم هجرا جميلا.. أي كن رفيقا بهم، متوددا إليهم، ولا يحملنّك ما يرمونك به من سفاهة وجهل، على بغضتهم، والدعاء عليهم.. بل ارفق بهم، والتمس العذر لهم، فهذا هو شأن العالم مع الجاهل، والطبيب مع المريض.. فإذا انتهى بك الأمر معهم إلى القطيعة، فليكن ذلك بحكمة وبرفق من جهتك، كأن تقول: سلام عليكم.. لى عملى ولكم عملكم.. إنى لا أملك لكم ضرا ولا رشدا.. إلى غير ذلك مما علمك الله، من الدعوة إليه، بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هى أحسن. وقوله تعالى: «وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا» . النعمة: التنعم، والرّفه.. ومنه النعمة، وهى كل ما ينعم به، جسديا، أو نفسيّا، أو روحيّا.. وقوله تعالى: «وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ» تهديد مزلزل مفزع لهؤلاء السادة المتنعمين، من مشركى القوم، فإنهم هم الرءوس الفاسدة، العفنة، التي تقود تلك الحملة الضالة التي تؤذى النبي، وتقف لدعوته بالمرصاد.. وأولو النعمة: هم المترفون من أصحاب المال. والخطاب النبىّ صلوات الله وسلامه عليه، وهو دعوة إليه من ربه ألا يستشفع عند الله لهؤلاء الضالين، وما سيأخذهم الله سبحانه وتعالى به من عذاب، فى هذه الدنيا، وما أعد لهم فى الآخرة من نار جهنم، وعذاب السعير.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1260 وفى هذا التهديد من الله سبحانه وتعالى المشركين، بعد دعوة النبي بأن يهجرهم هجرا جميلا، وأن يزايل موقفه من بينهم فى رفق- فى هذا إشارة إلى أن يترك النبي الأمر لله، فهو الذي سيتولى حساب هؤلاء المشركين.. فليدع الأمر لله، ولا يقطع ما بينه وبين قومه من أواصر النسب والقرابة.. فهم قومه، وأولى الناس بعطفه، ومودته.. وهذا أسلوب من أساليب التهديد، التي تبدو فى صورة من أمسك بيده سيفا، أو رمحا، ثم رفعه فى وجه عدوه، الذي يحتمى فى ظل صديق أو شفيع، فهو يقول لهذا الصديق أو الشفيع: ذرنى، أي اتركني، وهذا الشقي، أضربه الضربة القاضية..! ومن هذا الأسلوب يبدو أن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- هو الدّرع الواقية لهؤلاء الضالين من أن ينزل عليهم غضب الله، وأن هذا الغضب واقع بهم، إذا هم غاضبوا النبي، وحملوه حملا على أن يخلى مكانه فيهم.. وقد كان! فإنه ما إن بلغ الكتاب أجله لموقف النبي من هؤلاء المشركين، وخروجه من بينهم مهاجرا- حتى تتساقط عليهم سحب العذاب، فيكون لهم فى بدر يوم، تقطع فيه رءوس كثيرة من هؤلاء المكذبين أولى النعمة، ثم يكون لهم فى يوم الفتح، يوم تذل فيه رقابهم، وتخضع فيه أعناقهم، فلا يرتفع لمشرك بعد هذا اليوم رأس، ولا يشمخ أنف..!! وفى قوله تعالى: «وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا» - إشارة إلى أن العذاب الذي يتهدد هؤلاء المشركين، هو مطلّ عليهم، لا يلبث إلا قليلا حتى يقع عليهم.. وقد كان!! ويجوز أن يكون المراد بالإمهال القليل، هو إشارة إلى إعطاء هؤلاء المشركين فرصة يراجعون أنفسهم، ويرقبون مسيرة الدعوة الإسلامية، وأثرها فى القلوب والعقول، فلربما كان لهم من ذلك عبرة وعظة.. وقد كان.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1261 فإن أكثر هؤلاء المشركين قد دخل فى الإسلام، وأصبح من القوى العاملة على نصره، والتمكين له.. قوله تعالى: «إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا» . هذا هو ما سيلقى المشركون يوم القيامة، إذا هم ماتوا على ما هم عليه من شرك.. إنهم سيردون إلى الله، وإنه ليس لهم عند الله إلا أنكال، وجحيم، وطعام ذو غصة وعذاب أليم.. فهذه صورة من صور العذاب التي يتجرع أهل الضلال كئوسها قطرة قطرة يوم القيامة.. فهل يريد أصحاب الترف والنعيم أن يذوقوا هذا البلاء؟ إنه موجود عندنا، لا نتكلف له جهدا، وإنه ينتظر الضالين المكذبين. والأنكال، جمع نكل، وهى ضروب من المساءات، التي تساق إلى أهل الضلال يوم القيامة، قبل أن يلقى بهم فى نار جهنم، ومنها هذا السوق العنيف الذي يساقون فيه إلى المحشر، وهذا الفضح لهم على رءوس الأشهاد، بما كان منهم من مخاز، وضلالات، ومنها تلك السلاسل التي يقادون بها من أعناقهم، ويسحبون بها إلى النار على وجوههم.. ثم هذا الجحيم أي النار المستعرة، التي يتأجج، ويتسعر وقودها.. ثم هذا الطعام ذو الغصة، وهو الطعام الكريه، الذي لا يجد الطاعم مساغا له، فيزور به، ويضيق حلقه عن ابتلاعه، فيصاب بغصة منه.. كل هذا، هو مما أعده الله لأهل الشرك والضلال.. وقوله تعالى: «يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ» هو بيان للظرف الذي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1262 يلقى فيه المشركون هذا النكال، والعذاب الأليم فى نار جهنم. وفى قوله تعالى: «تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ» - إشارة إلى ما يحدث للأرض فى هذا اليوم من اضطراب، حيث تشقق القبور، ومخرج ما فيها، وحيث تموج بهذه الأمواج المتدافعة من الخلق الذين يساقون إلى المحشر! ورجفة الأرض والجبال، هى من رجفة الخلائق يوم البعث، من فزعهم من أحوال هذا اليوم العظيم، كما يقول سبحانه: «وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ» (87: النمل) . وقوله تعالى: «وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا» - إشارة أخرى إلى ما يصيب الجبال من أحداث هذا اليوم وشدته، وأنها تتفتت، وتنهار، وتبدو مثل كثيب من الرمل، المهيل، أي غير المتماسك. الآيات: (15- 16) [سورة المزمل (73) : الآيات 15 الى 19] إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19) التفسير: قوله تعالى: «إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا» الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1263 هو عودة إلى هؤلاء المشركين، بعد تهديدهم بالعذاب فى الدنيا، والنكال وعذاب جهنم فى الآخرة- عودة إليهم بعرض دعوة الإسلام عليهم من جديد، ليراجعوا أنفسهم، وليطلبوا السلامة من العذاب، القريب، والبعيد، الذي ينتظرهم.. ويكثر فى القرآن الكريم، مواجهة المشركين بفرعون، وما كان منه من كفر وضلال، وما أخذه الله به من بلاء ونكال.. وقد قلنا فى غير موضع، إن هذا الجمع بين المشركين وبين فرعون يشير فيما يشير إليه، إلى ما بين هؤلاء المشركين وبين فرعون من مشابه كثيرة، فى العناد، والجهل، والضلال، والاستعلاء على سماع كلمة الحق، والنفور منها.. وقوله تعالى: «رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ» - إشارة إلى أن مهمة الرسول هو تبليغهم، وأداء الشهادة عند الله فيهم، بما كان منهم من هدى أو ضلال، ومن استجابة له، أو إعراض عنه.. كما يقول سبحانه: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» (41: النساء) . قوله تعالى: «فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا» - هو بيان للمشركين، يرون فيه ما كان من فرعون، وما حل به.. لقد عصى فرعون الرسول، وهو موسى، فأخذه الله تعالى أخذا وبيلا، أي أخذا مخزيا، مهينا، مهلكا.. فهل يعصى هؤلاء المشركون الرسول الذي أرسله الله إليهم؟ إنهم إن يفعلوا فعل فرعون، فسوف يلقون ما لقى فرعون.. إنهم ليسوا أشدّ من فرعون بأسا، ولا أقوى منه قوة، ولا أعز نفرا، ولا أكثر قبيلا.. قوله تعالى: «فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا» . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1264 هو تعقيب على قوله تعالى: «فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا» - أي فكيف تدفعون عن أنفسكم عذاب هذا اليوم الذي يجعل الولدان شيبا، إن كفرتم ولم تؤمنوا بالله، ولم تستجيبوا لما يدعوكم إليه الرسول؟ كيف تدفعون عن أنفسكم هذا العذاب؟ أأنتم أقوى من فرعون قوة وأشد بأسا وأكثر نفرا؟ لقد أخذ فرعون بكفره، وستؤخذون أنتم بكفركم، إن كفرتم، وأمسكتم بهذا الكفر.. وفى قوله تعالى: «إِنْ كَفَرْتُمْ» - احتراس، يراد به قيد هذا العذاب الذي يتهددهم، وأنه رهن بما ينكشف عنه موقفهم من النبي.. فهم إلى هذه اللحظة فى سعة من أمرهم، مادام النبي فيهم، وما داموا فى الحياة، لم تطو صحف أعمالهم بعد بالموت.. وفى هذا إغراء لهؤلاء المشركين بالإيمان، وإفساح الطريق لهم إليه.. وقد دخل كثير منهم فى دين الله، وأصبحوا مؤمنين،. وهذا هو بعض الحكمة فى قوله تعالى: «وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا» .. وقوله تعالى قبل ذلك: «وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا» . وقوله تعالى: «السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ» هو وصف لهذا اليوم الذي تشيب من هوله الولدان.. وكما أن الأرض ترجف منه، والجبال تنهال، وتصبح كثبانا مهيلة من الرمال- كذلك السماء تنفطر به، أي تتشقق به، أي بسببه. فالباء فى «به» .. للسببية وجاء الخبر عن السماء مذكرا «مُنْفَطِرٌ» ولم يقل «منفطرت» للإشارة إلى بنائها، أو سقفها، الذي يقع عليه التشقق والانفطار.. أي منفطر به بناؤها.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1265 وقوله تعالى: «كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا» أي كان وعد الله تعالى واقعا لا محالة.. أي أن هذا الوعد ليس مجرد قول، بل هو قول، بتحول إلى فعل واقع، ومشاهد محسوس.. وقوله تعالى: «إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ.. فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا» .. هذه الآيات التي تحمل النذر، والبشريات معا، هى تذكرة، يجد فيها أولو العقول السليمة، تجاوبا مع الفطرة، فيذكرون بها الميثاق الذي أخذه الله عليهم وهم فى ظهور آبائهم، من الإيمان به، والإقرار بربوبيته ووحدانيته، كما يقول سبحانه: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى!!» (174: الأعراف) . وقوله تعالى: «فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا» - إشارة إلى أن الطريق إلى الله مفتوح لكل من يريد الاتجاه إليه، فليس هناك من يحول بين الإنسان وبين اتصاله بربه، كما أنه ليس هناك من يحمل الإنسان حملا على أخذ هذا الطريق.. «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» (29: الكهف) .. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1266 الآية: (20) [سورة المزمل (73) : آية 20] إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20) التفسير: قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ..» الآية بهذه الآية المباركة تختم السورة الكريمة، فيلتقى ختامها مع بدئها، الذي كان دعوة من الله سبحانه وتعالى إلى النبي الكريم بقيام الليل إلا قليلا، أو نصفه، أو أقل أو أزيد من النصف، وقد امتثل النبي أمر ربه، فقام من الليل ما شاء الله أن يقوم، فى اطار هذه الحدود التي حددها الله سبحانه وتعالى له، فقام أحيانا الليل كله، وقام أحيانا الليل كله إلا قليلا منه، وقام أحيانا أخرى نصفه، أو أقل أو أزيد من النصف.. وفى هذا الختام، يتلّقى النبي الكريم من ربه سبحانه وتعالى، هذا الخبر المسعد له، وذلك بأن الله سبحانه قد تقبل منه قيامه، وأنه سبحانه سيجزيه على طاعته، وامتثاله أمر ربه- بأن يخفف عنه هذا التكليف الشاق عليه، وعلى تلك الجماعة من المؤمنين، التي تأسّت بالنبي، وقامت الليل مثله.. فقوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ» ليس المراد منه الإخبار بعلم الله، وإنما المراد بهذا الخبر ما يترتب على وقوعه، وهو الجزاء الذي يستحقه المخبر عنه، بسبب وقوع ما أخبر به عنه.. وقوله تعالى: «أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ» . هو بيان شارح لما الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1267 أمره الله سبحانه وتعالى به من قيام الليل فى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ» - فقوله تعالى: «أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ» أي أقرب إلى ثلثى الليل- يدخل فيه الليل كله إلا قليلا.، كما يدخل فيه مازاد على النصف.. فإن أدنى من ثلثى الليل، يحتمل طرفى الزيادة والنقص من الثلثين، فما زاد عن الثلثين قليلا، يعتبر أدنى منهما من جهة، كما أن ما نقص عنهما قليلا، يعد أدنى منهما من جهة أخرى.. وأما قوله تعالى «وَنِصْفَهُ» فهو يقابل ما جاء فى قوله: «نِصْفَهُ» المذكور فى أول السورة.. وأما قوله تعالى: «وَثُلُثَهُ» فهو يقابل قوله تعالى: «نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا» أي انقص من النصف قليلا.. وقوله تعالى: «وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ» هو معطوف على فاعل: «تَقُومُ» أي تقوم أنت، ويقوم طائفة من الذين معك، أي من الذين آمنوا وأصبحوا معك، لا عليك.. وفى هذا ما يشير إلى أن قيام الليل لم يكن فرضا على المؤمنين، ولا واجبا، وإنما كان الذين قاموا الليل مع النبي جماعة من المؤمنين، لا كل المؤمنين، تأسّوا بالنبي، دون أن يدعوا إلى هذا القيام، وإلا لو كان فرضا الزم المسلمين جميعا، ولكان الذين لم يقوموا الليل، آمنين، غير مؤمنين، الأمر الذي لم تشر إليه الآيات، من قريب أو بعيد.: أما النبي- صلوات الله وسلامه عليه- فقد كان قيام الليل فى أول رسالته- فرضا عليه وحده، دون المؤمنين، لأنه مكلف بمهمة لم يكلّف بها الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1268 أحد غيره، وإن هذه المهمة شاقة ثقيلة تحتاج إلى دربة ومران على احتمال الصعاب والمشقات، كما أنها تحتاج إلى رصيد كبير من الزاد الذي يتزود به من قيامه الليل، وترتيله القرآن. ثم إنه بعد أن بدأت الدعوة الإسلامية، تأخذ طريقها العملي، ويواجه بها النبي قومه- رفع الله سبحانه وتعالى عن النبي عبء قيام الليل، فجعل ذلك أمرا على سبيل الندب والاستحباب، وفى أي وقت وقدر من الليل، كما يقول سبحانه: «وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» (79: الإسراء) .. قيل إنه كان بين نزول أول المزمل وما حملت إلى النبي من أمر بقيام الليل، وبين هذه الآية الأخيرة من السورة، التي جاء فيها حكم التخفيف بقراءة ما تيسر من القرآن- كان بين نزول أول السورة وآخرها عشرة أشهر، وقيل سنة، كما يروى ذلك عن السيدة عائشة رضى الله عنها، وقيل إنه كان بينهما عشر سنين!!. ونحن نميل إلى الرأى الثاني وهو القول بعشر سنين.. وذلك لأمور: أولها: أن مدة عشرة أشهر أو سنة، غير كافية فى التدريب على حمل هذا العبء الثقيل الذي سيحمله النبي، فى تبليغ الدعوة الإسلامية، وأن ما ينتظر النبي فى الدور المدني من اتصال الحرب بينه وبين المشركين واليهود، لا تدع له فرصة لسهر الليل الطويل.. على خلاف ما كان عليه الأمر فى مكة، حيث كان لقاء النبي مع آيات ربه بالليل، هو الزاد الذي يعيش عليه خلال تلك المدة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1269 وثانيها: أن المواجهة بين النبي- صلوات الله وسلامه عليه- وبين المشركين فى مكة، كانت مواجهة كلامية لم تخرج إلى حد القتال.. فالدور المكي من الدعوة كان كله حربا من جانب واحد، هو جانب قريش، لم يؤذن المسلمين بعد فيه بالقتال، لأنهم لم يكونوا يملكون فى مكة القدرة على التجمع، والتحرك، كما كانوا لا يملكون وسائل القتال وعدده.. وثالثها: فى قوله تعالى: «وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» - فى هذا إشارة إلى أن هذه الآية نزلت والمسلمون كانوا قد أوشكوا أن يكونوا قوة مقاتلة تلتقى مع المشركين فى ميادين القتال.. وأن هؤلاء الذين كانوا يقومون الليل تأسيا بالنبي، كانوا يشاركون فى هذه المعارك، الأمر الذي يجعل من قيام الليل عبئا آخر إلى أعباء الحرب، فكان التخفيف عن النبي، وعن المتأسّين به فى قيام الليل، أمرا مطلوبا فى تلك الحال- أي حال التحام المسلمين مع المشركين واليهود فى القتال، وذلك فى العهد المدني قوله تعالى: «وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» - أي يضبط زمن كل منهما، فى تكوير أحدهما على الآخر، فيطول هذا، ويقصر ذاك.. «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً» (3: الطلاق) أي حسابا وتقديرا.. قوله تعالى: «عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ» أي علم الله سبحانه وتعالى أنكم لن تحصوا أوصاف الثناء عليه سبحانه وتعالى مهما طال قيامكم بالليل.. وهذا ما يشير إليه الرسول الكريم فى قوله، مناجيا ربّه: «سبحانك لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» وهذا الذي ذهبنا إليه، هو المعنى الذي نستريح له.. ولم نجد أحدا من المفسرين قد ذهب إلى هذا الرأى، وإنما كانت آراؤهم كلها تدور حول الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1270 معنى واحد، هو أن الله سبحانه علم أنكم لن تقدروا على إحصاء الليل وتحديد مواقيته، ومعرفة متى يكون ثلث الليل أو نصفه، أو ثلثاه؟ .. أما النهار فإنه من الممكن ضبط أجزائه، ولهذا عاد الضمير فى «تحصوه» على الليل وحده دون أن يعود عليه هو والنهار.. هكذا يقولون!! وهذا المعنى الذي يذهب إلى معنى العجز عن إحصاء أجزاء الليل- وإن كان له مفهوم وقت نزول القرآن، حيث لم تكن هناك المقاييس الزمنية المعروفة اليوم، كالساعة ونحوها، فإن هذا المفهوم الآن غير واقع.. والقرآن الكريم حكم قاض بالحق المطلق، وشاهد ناطق بالصدق المصفّى، أبد الدهر.. «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» .. ثم إن إحصاه الليل، وتقدير وقته، من الممكن أن يتحقق حتى فى زمن نزول هذه الآية، وذلك برصد النجوم، وتحديد منازلها، وقد كان العرب على علم بهذا، وأنّ نظرة من أحدهم إلى مواقع النجوم فى السماء، كان يعرف بها أين هو من الليل؟ وماذا ذهب منه؟ وماذا بقي..؟ ومن إعجاز القرآن الكريم أنه يتسع لمفاهيم الحياة كلها فى كل زمان ومكان.. وعلى هذا يمكن أن بتوارد على قوله تعالى: «عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ» أكثر من مفهوم، وكل مفهوم، منها يسدّ حاجة الناس فى عصرهم، وما بلغته مداركهم من العلم. وعلى هذا يكون قوله تعالى: «وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» خبرا عن الله سبحانه وتعالى، ويكون قوله تعالى: «عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ» خبرا ثانيا أي والله يقدر الليل والنهار، والله علم أن لن تحصوه أي تبلغوا حق الثناء عليه.. ويجوز أن يكون قوله تعالى: «وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ» صلة لموصول محذوف، هو الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1271 صفة لله، بمعنى والله المقدر لليل والنهار.. ويكون قوله تعالى: «عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ» خبرا للفظ الجلالة.. بمعنى: والله المقدر لليل والنهار علم أن لن تحصوا الثناء عليه، مهما امتد الزمن بكم، وطال الليل أم قصر.. وقوله تعالى: «فَتابَ عَلَيْكُمْ» .. الفاء السببية، أو التفريع.. أي علم الله أنكم لن تحصوا الثناء عليه «فَتابَ عَلَيْكُمْ» أي فقبل منكم هذا التقصير، قبول التائب من ذنبه، فيرفع عنه وزره، ويغسل ذنوبه كما يغسل الثوب مما علق به. وفى التعبير عن رفع الحرج عن المؤمنين فى قيام الليل، على ما جاء فى قوله تعالى: «قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ» - فى التعبير عن هذا بالتوبة، مع أن هؤلاء المؤمنين لم يأتوا ذنبا، إن كان منهم تقصير فى قيام الليل، لأن قيام الليل لم يكن فرضا عليهم، وإنما كان مندوبا ومستحبّا، اقتداء بالنبي، وتأسيّا به، وترسما لخطاه- فى التعبير عن هذا بالتوبة، إشارة إلى لطف الله بالمؤمنين، وإكرامه لهم، وأنهم- وإن كانوا يأتون أمرا لهم فيه سعة- فإن إلزام أنفسهم به، يقتضيهم أن يؤدوه كاملا على الوجه المرسوم له.. تماما كأفعال المتطوع، فى العبادات من صوم، وزكاة وكالنذر ونحوه.. فإن المؤمن إذا ألزم نفسه شيئا من هذا، وجب عليه أن يؤديه كاملا، مستوفيا جميع أركانه، آخذا كل صفاته.. إنه عقد عقده الإنسان مع ربه، وأن أي خلل فى أركان هذا العقد، هو نقض له.. والله سبحانه وتعالى يقول: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (1- المائدة) ومن جهة أخرى.. فإن التهاون، والاستخفاف بما يأتيه المؤمن- الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1272 متطوعا- من عبادات، وإخلاء نفسه من شعور الجدّ فيها، والاحتفاء بها، بوصف أنه إنما يأتى به متطوعا، وأنه لا حرج عليه فى أن يؤديه على أية صورة- إن هذا من شأنه أن يذهب بجلال العبادة وقد سيتها، ويجعلها أشبه باللهو واللعب.. وأنه إذا كان المؤمن شأن فى أداء فرائض الله، فليكن هذا شأنه فى جميع ما يتعبد لله سبحانه وتعالى به، من فرائض وواجبات ونوافل.. فهو فى جميع أحواله، فى مقام التعبد لله، يستوى فى هذا ما كان فرضا، أو واجبا، أو تطوعا.. فإن العبادة هى العبادة، والمعبود هو المعبود، والعابد هو العابد.. فالفرائض، والواجبات، والنوافل، كلها فى مقام التعبد لله، على درجة واحدة، فيما ينبغى لها من جلال وتوقير، لأنها جميعها موجهة إلى الله سبحانه وتعالى.. والله سبحانه وتعالى طيّب لا يقبل إلا طيبا.. ففى قوله تعالى: «فَتابَ عَلَيْكُمْ» - إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى، قد أعفى المؤمنين من هذا الإلزام الذي ألزموه أنفسهم، وقد أعنتهم الوفاء به ورهقهم الاستمرار عليه.. فتاب الله عليهم، وأحلّهم من هذا الإلزام، وتجاوز عن تقصيرهم، توخرج بهم من الضيق إلى السعة، لطفا منه ورحمة، وإحسانا.. وقوله تعالى: «فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ» .. هو تفريع على قوله تعالى: «فَتابَ عَلَيْكُمْ» .. أي ولأن الله قد تاب عليكم، فاقرءوا ما تيسر من القرآن، دون أن يكون ذلك مقيدا بقدر محدود من الليل، أو النهار، حتى تؤدوا ذلك القدر اليسير من التلاوة على الوجه الأكمل، وفى حال حضور جسدى، ونفسى وعقلى.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1273 قيل إن قراءة ما تيسر من القرآن، يجزىء فيها قراءة مائة آية، وقيل أقل من هذا، إلى عشر آيات.. وفى هذا اليسر، ما يمكّن للمؤمنين- كما قلنا- من لقاء الله سبحانه وتعالى على ذكره، لقاء واعيا، يقظا، تنشط له أعضاء الإنسان كلها، ويحضره وجوده جميعه، فى غير تكاسل، أو فتور، أو غفلة.. وهذا يعنى أن العبادة ليست كيلا يكال بكمّه، ويقدّر بكثرته.. وإنما هى صلة روحية بالله، تكفى فى تحقيقها شرارة منطلقة من قلب سليم، فيتوهج بنور الحق، ويتصل بنور الله، الذي هو نور السموات والأرض.. وقوله تعالى: «عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى، وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» .. هذا بيان للسبب الذي من أجله أحلّ الله المؤمنين من هذا الإلزام الذي ألزموا به أنفسهم، وهو أنهم لن يستطيعوا أن يقوا بهذا الالتزام على وجهه، لأنه سيكون منهم من يمرض، ويكون منهم من يضرب فى الأرض ابتغاء الرزق، ويكون منهم من يقاتل فى سبيل الله.. وهذه كلّها معوقات تعوق عن أداء هذا الإلزام على وجهه.. وهذا من شأنه أن يوقع المقصّر منهم- بعذر من هذه الأعذار- فى حرج، ويقيمه مقاما قلقا مضطربا، ويوقع فى نفسه كثيرا من مشاعر الأسى والحسرة.. وهنا سؤال، هو: إذا كان قيام الليل بالنسبة لمن قاموه من جماعة المؤمنين، هو على سبيل التطوع، فكيف يجد المؤمن حرجا فى أنه لم يقم الليل، لمرض، مثلا؟ أليس هذا عذرا، قد يسقط عنه بعض الفرائض، والواجبات، فكيف بالتطوع، والنافلة؟ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1274 ونقول- والله أعلم- إن ذلك وإن كان صحيحا، فإنه لا يخلى نفس المؤمن الحريص على دينه من الحسرة والألم أن فاته هذا الخير، وأقعده المرض عن اللحاق بإخوانه الذين حصّلوا هذا الخير.. تماما كمن يفطر رمضان لمرض، أو شيخوخة، وكمن يقعده العجز عن الجهاد فى سبيل الله.. إنه وإن كان قد خرج من باب الحرج، فإنه لم يدخل فى باب العابدين المجاهدين..! ولهذا كان من رحمة الله، ولطفه، وإحسانه بالمؤمنين- أن يدعوهم جميعا إلى ساحة رضاه، وأن يمد لهم موائد الخير ليصيبوا منها جميعا، وليأخذ كلّ قدر طاقته، سواء أكان مريضا، أو ضاربا فى الأرض ابتغاء الرزق، أو مجاهدا فى سبيل الله.. فهذا القدر اليسير من تلاوة القرآن، يدخل المسلمين جميعا فى مقام الإحسان، ويتيح لهم جميعا أن يشاركوا فى التأسّى بالنبي فى قيام الليل.. وبهذا لا ينفرد ذوو الهمم العالية من المؤمنين الذين أشار إليهم الله سبحانه وتعالى بقوله: «وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ» - لا ينفرد هؤلاء وحدهم بالتأسى بالنبي فى هذا المقام، وإن انفردوا بالمنزلة العليا، وأخذوا مكان الصف الأول فيه.. ومن جهة أخرى، فإن المخاطبين فى قوله تعالى: «عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» - المخاطبون هنا- والله أعلم- هم جماعة من المؤمنين بأعيانهم، وهم أولئك الذين قاموا مع النبي- صلوات الله وسلامه عليه- ما قام من الليل، أدنى من ثلثيه، أو نصفه، أو ثلثه. فهذه الجماعة، هى التي جاءت الآية الكريمة هنا لتحلّها من هذا الالتزام الذي ألزمت به نفسها، حتى لقد تورمت أقدام كثير منهم، وكاد يؤدى بهم ذلك إلى التلف، وهم على إصرار بأن يمضوا فى طريقهم إلى غايته، مهما يصبهم من عناء ورهق.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1275 فهؤلاء الجماعة من المؤمنين، لن يظلوا على تلك الحال التي هم عليها.. بل إنه ستعرض لهم أحوال أخرى، تلجئهم إلجاء إلى عدم الوفاء بهذا الالتزام، كالمرض، أو السفر في تجارة ونحوها، أو القتال فى سبيل الله، الذي سيشهده بعضهم إن لم يكونوا شهدوه فعلا.. ثم كان هذا التخفيف عاما لجميع المؤمنين، حيث يتاح لهم جميعا أن يأخذوا بحظهم من قيام الليل، ولو لحظات منه.. وفى ذكر القتال فى سبيل الله هنا، نبأ من أنباء الغيب، بما سيلقى المؤمنون على طريق الإيمان من جهاد فى سبيل الله، ومن قتال بينهم وبين المحادّين لله، والصادّين عن سبيل الله.. وذلك على أن الآية مكية، كما يقول بذلك بعض العلماء.. وقوله تعالى: «فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ» هو توكيد لقوله تعالى: «فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ» وفى هذا تطمين لقلوب المؤمنين الذين دعتهم الآية الكريمة إلى التحول عن هذا الموقف الذي ألزموه أنفسهم، من قيام الليل.. فهو أمر يكاد يكون ملزما بالتخفيف. فما أبرّ الله بعباده، وما أوسع رحمته لهم، فسبحانه، سبحانه، من ربّ برّ رحيم..!! قوله تعالى: «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» . أي وحسبكم مع قراءة ما تيسر من القرآن، وقيام ما تيسر لكم من الليل- حسبكم- مع هذا- أداء ما افترض الله عليكم من إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة.. وقوله تعالى: «وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» هو دعوة إلى التصدق والإنفاق تطوعا، دون أن يقدّر ذلك بقدر معين، فهو أمر موكول إلى الإنسان، وما تسمح به نفسه.. إنه أشبه بقراءة ما تيسر من القرآن، الذي يتسع لآيات معدودات، كما يتسع للقرآن كله.. فمن تصدق بالقليل، فقد أقرض الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1276 الله قرضا حسنا.. «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» - وإن كان لكل محسن جزاء ما قدم من إحسان، كلّ على قدر ما أعطى.. والقرض الحسن، هو الذي لا منّ فيه ولا أذّى، والذي يكون من طيبات ما كسب الإنسان، كما يقول سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ» (267: البقرة) وكما يقول سبحانه: «وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ» (267: البقرة) . وقوله تعالى: «وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً» - هو تعقيب على الأمر بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وإقراض الله قرضا حسنا.. فهذه كلّها طاعات، وقربات يتقرب بها إلى الله، وهى كلّها خير مدخر لصاحبه عند الله، يجده عند الحاجة إليه يوم الحساب والجزاء- خيرا من هذا الخير، قدرا، وأعظم أجرا.. قوله تعالى: «وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .. أي ومع إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وإقراض الله قرضا حسنا، فإن العبد لا يزال مقصرا فى حق ربه، مهما بلغ من طاعة، ومهما قدم من خير- فإن ذلك كله لا يفى ببعض نعم الله على الإنسان.. فليستشعر المؤمن هذا أبدا، وليكن على علم بأنه مقصر فى حق ربه، وأنه لا ملجأ له لتلافى هذا النقص، إلا طلب المغفرة، والرحمة من ربه.. والله سبحانه «غَفُورٌ رَحِيمٌ» يغفر للمستغفر، لأنه رحيم يرحم من طلب الرحمة لنفسه، وسعى إلى إقالتها من عثراتها.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1277 74- سورة المدثر نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة المزمل. عدد آياتها: ست وخمسون آية. عدد كلماتها: مائتان وخمس وخمسون.. كلمة عدد حروفها: ألف حرف، وعشرة حروف. مناسبتها لما قبلها كانت سورة «المزمل» دعوة لإيقاظ النبي، وتنبيهه إلى الحياة الجديدة التي سيبدأ رحلتها منذ اليوم الذي التقى فيه برسول الوحى في غار «حراء» مستفتحا رسالة السماء إليه بقوله تعالى: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» وقد أخذ النبىّ من هذا اللقاء ما أخذه، من قلق وجزع،. حتى لقد لزم يبته، وأرخى ستارا بينه وبين الحياة، لا يدرى ماذا ينتظره في غده! وجاء الوحى الذي لقيه في الغار، ليشرح له الموقف، وليبين له، أن الأمر الذي تلقّاه، ليس هو أن يقرأ ما يسمع منه وحسب، وإنما ذلك هو بدء قراءة دائمة متصله بينهما، ثم هو بدء قراءة بين «محمد» وبين الناس جميعا.. إنه منذ اليوم، هو رسول الله إلى الناس جميعا، وأنه محمّل برسالة من عند الله يؤديها إليهم.. وأداء هذه الرسالة يقتضيه بأن يرفع هذا الغطاء عنه، وأن يستيقظ استيقاظا كاملا، وأن يصحو صحوة لا يخالطهافتور، حتى يستطيع أن يحمل هذه الرسالة الكبرى، ويواجه الناس بها: «إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا» الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1278 ولقد استيقظ «المزمل» ورفع الغطاء عنه، وقام الليل إلا قليلا، يرتل ما نزل عليه من آيات ربه، ويعيش معها بوجوده كله، حتى يتمثل هذه الآيات حرفا حرفا، وكلمة كلمة، وحتى يكون هو نفسه على مستوى هذه الآيات، كمالا، وروعة، وجلالا.. إنه الوعاء الحامل لآيات الله إلى الناس، وإن للوعاء وزنه، وقدره، وأثره، فى المادة الحامل لها، وفيما يرى الناظرون إليها منه، وما يقع في نفوسهم منها.. وإذ قد استيقظ «المزمل» وأخذ أهبته المهمة الجديدة التي كلف بها، وتزود لها بالزاد الذي يعينه عليها، ولم يبق إلا أن يؤذن له ببدء المسيرة إلى حيث يلتقى بالناس، ويؤذّن فيهم برسالة الله المرسل بها إليهم- إذ يصل الأمر إلى هذا الحدّ، فها هو ذا رسول الوحى، يطرق الباب على النبي، ثم يدخل عليه، فيجده متدثرا في ثيابه، قائما في محراب ذكره لله، وترتيله آيات الله، فيهتف به بقوله تعالى: «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ» إنها دعوة إلى قيام غير القيام الأول الذي دعى إليه في قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا» وإن المزمل غير المدثر.. فالمزمل نائم، متعب، مجهد.. والمدثر، متلفف فى ثيابه، فى حال قيام، أو قعود، وإن لم يكن مشمرا للعمل.. وأصل المدثر: المتدثر، فأدغمت التاء فى الدال، وكذلك الأصل الاشتقاقى للمزمل. وإن المدثر ليقوم الآن لينذر، ويبلغ رسالة ربه إلى الناس، وليخلع الأردية المتدثر بها، وليلبس ثوب العمل. لقد بدأت إذا الرحلة الجديدة.. فليقم النبي، وليشدّ رحاله، والله سبحانه وتعالى معه، يعينه، ويثبت أقدامه.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1279 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الآيات: (1- 7) [سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) التفسير: قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ..... » هذه هى الوصايا التي يوصى بها ربّ السماء رسول الله، عند أول خطوة يخطوها برسالته إلى الناس.. إنه مدعوّ إلى أن يقوم بكل قواه، ليلقى الناس منذرا، غير ملتفت إلى عناد المعاندين، ولا متهيب كبر المتكبرين.. فالله- سبحانه- الذي يدعو الناس باسمه، هو أكبر من كل كبير.. فليذكر هذا دائما، فإنه إذا ذكر كبرياء الله، تضاءلت أمام عينيه كبرياء كل كبير.. وأن ينفض عن ثيابه غبار الدّعة والراحة، وأن يطهرها من غبار الزمن الذي عاشه بها قبل النبوة.. إنه منذ اليوم يلبس. ثياب النبوة، إنها ثياب الجهاد، فى سبيل الله، ولبوس الحرب والقتال لأعداء الله.. وإنّ من شأن المحارب إذا أخذ لبوس حربه أن ينظر فيه، وأن يصلح منه ما يحتاج إلى إصلاح، حتى يكون صالحا للعمل، دفاعا أو هجوما.. وهذا هو تطهير الثياب. ومما ينبغى أن يأخذ به النبي نفسه فى ثياب النبوة، أن يهجز الرجز، وهو كل ما يمسّ طهارة هذا الثوب، سواء أكان ذلك ناجما من الاحتكاك بالحياة، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1280 والمجادلة مع المشركين، أو كان ذلك مما يعرض النفس من ضجر، وقلق ومعاناة، من تلقاء هذا العبء لذى تنوء بحمله الجبال.. وهذا هو هجر الرجز والفاءات في قوله تعالى: «وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ» يرى كثير من النجاة وتابعهم في هذا كثير من المفسرين، أن هذه الفاءات زائدة.. ونحن على رأينا من أنه ليس هناك حرف زائد فى كتاب الله الكريم، وأن كل حرف أو كلمة، لها دلالتها التي لا يتم المعنى المراد فى القرآن إلا بها.. وهذه الفاءات، هى من نوع الفاء في قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ» فالفاء فى قوله تعالى: «فَأَنْذِرْ» واقعة فى جواب الأمر.. وكذلك الفاءات فى قوله تعالى: «وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ» - هى واقعة فى جواب أمر مقدر، معطوف على قوله تعالى فى أول السورة: «قم» .. وعلى هذا يكون المعنى فى ابتدائه على هذا الوجه: يا أيها المدثر قم فأنذر الناس، وقم فكبر ربك، وقم فطهر ثيابك، وقم فاهجر الرجز.. ثم للاهتمام بالمفعول به، وقصر مر فعل الفاعل عليه، قدم هذا المفعول على الفعل، فى قوله تعالى: «وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ» وحذف فعل الأمر «قم» المكرر فى الآيات الثلاث، اكتفاء بتقديره وراء حرف العطف «الواو» الذي يأخذ نصيبه معنى لا لفظا من الفعل «قم» فى قوله تعالى: «قم فأنذر» الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1281 وفى الحق أن هذا التخريج النحوي لا ينبغى أن ندخل به على آيات الله، فذلك مما لا يتفق ومقام الإعجاز القرآنى، الذي يزرى بقدره، أن يوزن بميزان الكلام البشرى، الذي يخضع الضرورات، ويقبل الخطأ والانحراف.. تماما كما يزرى بقدر الذهب أن يوزن بميزان الحصى، إن كان الحصى ميزان.. وحسبنا فى هذا المقام أن نقف بين يدى مثل هذه الآيات- التي يجد فيها النحاة مجالا القول- فنضرب صفحا عن النحو ومقولاته، ونفتح قلوبنا، وعقولنا إلى هذا النور الذي يتدفق من آيات الله وكلماته، فيكشف لنا معالم الطريق إلى مواقع الهدى، والخير والفلاح. ونمود إلى موقفنا بين يدى آيات الله فنقول: كذلك ينبغى أن يعلم النبي من أول الأمر، أنه رحمة مهداة من عند الله إلى عباد الله، كضوء الشمس، ونور القمر، وماء السحب.. وإنه مما يكدر هذه النعمة، أن يرى الناس منه استعلاء، أو تطاولا بتلك المنن التي سيقت إليهم على يده.. فإن النفوس تكره ممن يحسن إليها أن يمنّ عليها بإحسانه، ويذكّرها به، وكأنه يريد لذلك ثمنا، أىّ ثمن، من ولاء وخضوع، أو من جاه وسلطان «وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ» والأولى من هذا، أن يبذل المحسن إحسانه، من غير التفات إلى مواقعه ممن أحسن إليهم بالنسبة إليه، وما أحدثه ذلك فى نفوسهم من تصافر أمامه، أو تسبيح بحمده والثناء عليه.. والإحسان من النبي- كما قلنا- هو إحسان منظور إليه على أنه من الله مباشرة إلى الناس، وأن النبىّ هو حامل هذا الفضل، وموصّل هذا الإحسان إليهم.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1282 وبهذه النظرة إلى رسالة النبي، من جهته هو، ومن جهة المرسل إليهم، تقوم الرسالة على ميزان صحيح، مستقيم.. فالرسول يرى في ضوء هذه النظرة، أن حسابه فى هذه الرسالة مع ربه، وأن جزاءه عليها، هو من الله سبحانه وتعالى.. وهذا يجعل من شأنه ألا ينظر إلى الناس نظرة المحسن المتفضل.. والمرسل إليهم يرون أن الذي يدعوهم إليه، هو ربهم، وليس بشرا مثلهم، وأنهم إذ يستجيبون المرسول، فإنما يستجيبون لله.. وهذا من شأنه أن يخفف كثيرا من مشاعر الغيرة والحسد عندهم، ويذهب بكثير من دوافع الحميّة والأنفة والاستعلاء التي تملأ صدورهم، والتي كثيرا ما تقوم حجازا بين الناس والناس، فى تبادل المنافع، وتقبل النصح والإرشاد.. وفى قوله تعالى: «تستكثر» - حال من فاعل «وَلا تَمْنُنْ» أي لا تمنن مستكثرا من المنّ.. وهذا يعنى أن بعض المنّ مسموح به فى هذا المقام، على أن يكون ذلك من أجل خدمة الدعوة ولحسابها، كأن يقول النبي لقومه: «لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» (23: الشورى) «ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ» (86: ص) ونحو هذا مما علمه الله سبحانه وتعالى النبي أن يقوله المشركين فى موقف الاحتجاج عليهم، ودفع التهم التي يتهمونه بها.. فهذا وإن كان فيه شىء من المنّ، إلا أن له ما يبرره من تصحيح أخطاء، وتلبيسات، وقعت فى نفوس المشركين، من مقام الرسول فيهم هذا المقام، وأنه فى نظرهم إنما يبغى من وراء هذا شيئا ما، وإلا فماذا يحمله على ركوب هذا المركب الصعب إليهم؟ ثم يكون ختام ما يوصى به النبي فى هذا المقام أن يتجمل بالصبر، وأن يوطن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1283 نفسه على احتمال الضر والأذى، فإن طريقه إلى قومه ملىء بألوان من المساءات والسفاهات التي يرصدونها له.. ولمن هذا الصبر على المكاره؟ إنه لله، وفى سبيل الله.. «وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ» هذا، ويلاحظ أن الإنذار فى قوله تعالى: «قُمْ فَأَنْذِرْ» - قد جاء مطلقا من قيد الزمان، والمكان، والإنسان.. فحيث كان النبي فى أي مكان وأي زمان، فهو قائم بالإنذار، وحيث التقى بإنسان من أية أمة، وأي قبيل كان مطلوبا منه أن ينذره.. إنه رحمة عامة، تملأ الزمان والمكان، وتستوعب الناس جميعا في كل زمان، وكل مكان. الآيات: (8- 30) [سورة المدثر (74) : الآيات 8 الى 30] فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1284 قوله تعالى: «فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ» فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ» التفسير: الفاء في قوله تعالى: «فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ» هى فاء الفصيح، ويراد بما بعدها الإفصاح عما تضمنه الكلام قبلها، من إشارات وتلميحات.. وهنا نجد أن قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ. وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ. وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ. وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ» - نجد فى هذه الآيات دعوة آمرة من الله سبحانه وتعالى إلى النبىّ بأن يقوم فى الناس منذرا، ولم تبين له الآيات ما ينذر به، فجاء قوله تعالى: «فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ. فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ. عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ» .. جاء مفصحا عما ينذر به، وهو يوم القيامة، وما يلقى أهل الضلال فيه من شدائد وأهوال.. وقد يسأل سائل: أبهذا النذير يبدأ الرسول رسالته، ولا يبدؤها بالدعوة إلى الإيمان بالله، الذي هو رأس الأمر كله، ومقطع الفصل فيما بين المؤمن والكافر؟ والجواب على هذا- والله أعلم- هو- كما قلنا فى أكثر من موضع- أن الإيمان بالحياة الآخرة، وبالحساب والجزاء، هو مضلّة الكافرين جميعا، إذ يبدو لهم أن بعث الموتى من قبورهم بعد أن يصبحوا رفاتا وترابا- أمر لا يمكن أن يقع، ولا تستطيع عقولهم تصوّره، وأن كثيرا من مشركى العرب كانوا يؤمنون بالله إيمانا مشوبا بالضلال، وباتخاذ معبودات يعبدونها من دون الله تقربا إليه بعبادتها، وأنهم كانوا- مع هذا- مستعدّين أن يقبلوا الإيمان بالله، وعبادته وحده، ولم يكونوا مستعدين أبدا، أن يقبلوا هذا الإيمان، وفى مقرّراته البعث والحساب والجزاء.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1285 ولهذا نجد أكثر مواقف القرآن الكريم مع المشركين، هو فى الرّد على مقولاتهم فى البعث، وفى إنكارهم له، واستبعادهم لوقوعه.. فما أكثر ما ذكر القرآن الكريم من مقولاتهم فى هذه القضية، وما أكثر ما عرض عليهم من الأدلة والحجج، التي تبطل معها مدّعياتهم، وتسقط بها حججهم.. أما فى مقام وحدانية الله، فلم يكن للمشركين موقف كهذا الموقف من قضية البعث، ولم يكن لهم جدل طويل يديرونه مع النبىّ، كما كان ذلك شأنهم فى أمر البعث، وإن كلّ ما ذكره القرآن عنهم من حجة فى أمر الوحدانية، لا يعدو أن يكون دفاعا عن وجود آلهتهم واعتبارها ممثلة لله فى الأرض.. كل إله منها يصلهم بالله عن طريق خاص به.. ولم تتسع عقولهم القاصرة أن ترى الله غير مجسد فى هذه الدّمى، وتلك النّصب. فكان مما ذكره القرآن عنهم قوله تعالى: «أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ..» (5: ص) وقوله تعالى فيما يقولونه عن آلهتهم، وصلتها بالله: «هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» (18: يونس) .. «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» (3: الزمر) . من أجل هذا بدأت رسالة النبىّ بالإنذار بهذا اليوم، يوم القيامة، وما فيه من عذاب أليم المشركين والكافرين، وأهل الضلال جميعا.. وهذا ما كان من الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- فإنه ما إن تلقّى هذا الأمر من ربّه، حتى دعا قومه إليه- كما تقول كتب السيرة الموثقة- وخطب فيهم قائلا: يا معشر قريش: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا «1» بسفح هذا الجبل أكنتم تصدّفوننى؟» قالوا نعم: أنت عندنا غير متّهم، وما جرّبنا عليك كذبا قط. قال: «فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد» فقال أبو لهب- لعنه الله-: تبّا لك سائر اليوم.. ألهذا دعوتنا؟» فنزلت سورة اللهب.   (1) أي عدوا مغيرا بخيله. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1286 فهذا أول ما أنذر به النبي قومه.. وهو يوم القيامة.. وقوله تعالى: «فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ» أي نفخ فى الصور، وسمى الصور ناقورا، لأنه ينقر فيه حتى يحدث صوتا.. فهو اسم آلة، مثل ساطور، وقادوم.. وقوله تعالى: «فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ» هو جواب «فإذا» ، أي فإذا نفخ فى الصور، فعندئذ يطلع هذا اليوم العسير على الكافرين. وقوله تعالى: «عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ» .. هو توكيد لقوله تعالى: «فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ» وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في آية أخرى: «يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ» «8: القمر» قوله تعالى: «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ» . هذا عرض لصورة من صور المنذرين الذين أنذرهم الرسول فسخروا منه ووقفوا جبهة متحدية له آخذة الطريق عليه إلى الناس وإلى تبليغهم رسالة ربه. ويقال إن الموجّه إليه هذا التهديد، هو الوليد بن المغيرة.. وبهذا القول- إن صحّ- يكون الوليد هو الصورة التي يرى فيها كلّ مشرك معاند، ذاته ويشهد المصير الذي هو صائر إليه.. وقوله تعالى: «ذرنى» هو تهديد بالنكال والبلاء وباتجاه عذاب الله كله إلى هذا الإنسان الشقي الموجه إليه هذا الإنذار.. وقد أشرنا إلى معنى هذا عند تفسير قوله تعالى: «وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا» .. في سورة المزمل (11) وقوله تعالى: «وحيدا» هو حال من فاعل: «خلقت» وهو الله سبحانه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1287 وتعالى، أو هو حال من المفعول المحذوف وتقديره الهاء المحذوفة في «خلقت» ويجوز أن يكون حال من المفعول به في «ذرنى» أي ذرنى وحيدا مع من خلقته. وقوله تعالى: «وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً» أي مالا كثيرا، متصلا، لا ينقطع.. وقوله تعالى: «وَبَنِينَ شُهُوداً» أي وجعلت له بنين حاضرين بين يديه، أي لم يموتوا، كما يموت كثير من البنين، بعد أن يوهبوا لآبائهم. فهذا المال الذي أعطيته إياه، لا يزال بين يديه ممدودا متصلا، وهؤلاء الأبناء الذين بين يديه، حاضرون شهود لم يغيبوا عنه.. وفى هذا تهديد له بذهاب هذا المال، وفقد هؤلاء الأبناء، كما ذهبت أموال كثيرين، ومات أبناء كثيرين.. وقوله تعالى: «وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً» - أي هيأت له حياة رخيّة، بالمال، والبنين، الذين هما زينة الحياة الدنيا.. وقوله تعالى: «ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ» ثم إن هذا الضال العنيد، على طمع أن أزيده مالا وبنين، وذلك بما زين له ضلاله بأنه إنما أوتى ما أوتى لفضيلة اختصّ بها، ولصفات استأثر بها دون الناس، وأنّ ما بين يديه قليل إلى ما يمنّى به نفسه الملوءة غرورا.. وقوله تعالى: «كَلَّا.. إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً» - هو رد على أمنيات هذا الضال، وتوقعاته بأن يزداد مالا وبنين.. وكلا.. بل إن ما معه سيأخذ منذ اليوم فى النقصان، حالا بعد حال، حتى يموت، ونفسه تتقطع حسرة على ما ذهب من ماله وولده.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً» أي سآخذه بالرهق والشدة حالا بعد حال، مصعّدا به من شدة إلى أشد منها.. وهكذا حتى يذهب كل ماله، وجميع بنيه، وهو يرى ذلك فيتقطع قلبه حسرة وكمدا.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1288 قوله تعالى: «إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ» .. فى هذه الآيات صورة معجزة من صور البيان القرآنى، الذي تعجز أدق ألوان البيان مجتمعة أن تتعلق بأذياله.. فبالكلمة، شعرا ونثرا، وبالصورة المتحركة والساكنة، والناطقة والصامتة، وبالموسيقى، ألحانا مفردة ومجتمعة.. وبكل ما عرفت الإنسانية من ألوان الإبانة والتعبير- لا يمكن أن تجىء- ولو من بعيد- بمثل هذه الصورة القرآنية التي صوّر بها هذا الإنسان الشقىّ العنيد، ظاهرا وباطنا، فلم تدع الصورة خلجة من خلجات ضميره، أو مسربا من مسارب تفكيره، أو همسة من همسات خاطره، إلا ألقت بها على قسمات وجهه، ونظرات عينيه، وحركات شفتيه، فكانت شخوصا ماثلة للعيان.. وانظر كيف كانت مسيرة هذا الضال العنيد، مع آيات الله، التي تليت عليه من رسول الله.. فلقد روى أن الوليد بن المغيرة- وكان ذا مكانة بارزة فى قريش، وأشدهم عداوة لرسول الله، وكان موسم الحج قد حضر- دعا سادة القوم إليه، فقال لهم: يا معشر قريش، إنه حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستفد عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا (يعنى رسول الله) فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيه، فيكذّب بعضكم بعضا.. قالوا فأنت يا أبا عبد شمس، فقل، وأقم لنا رأيا نقول به، قال: بل أنتم، فقولوا أسمع! الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1289 قالوا: نقول: كاهن!! قال: لا، والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان، فما هو- أي النبي- بزمزمة الكاهن ولا سجعه.. قالوا: فنقول مجنون؟ قال: ما هو بمجنون.. لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه، ولا تخالجه، ولا وسوسته!! قالوا.. فنقول شاعر! قال: ما هو بشاعر.. لقد عرفنا الشعر كله، رجزه، وقريضه، ومقبوضه، ومبسوطه، فما هو بالشعر.. قالوا فنقول: ساحر!! قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو- أي النبي- بنفثه، ولا عقده! قالوا: فما تقول يا أبا عبد شمس؟، قال: «والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق وإن أعلاه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا، إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه أن تقولوا: إنه ساحر. جاء بقول هو سحر، يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه.. فتفرقوا عنه بذلك الرأى، وجعلوا يلقون أهل الموسم على كل طريق، ويقولون لهم: احذروا ساحرنا! وبروى عن ابن عباس، أن الوليد بن المغيرة هذا، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يدعوه إلى أن يرجع عن دعوته، وألا يشيع الفرقة والخلاف بين أهله وعشيرته، فتلا عليه النبي آيات من آيات الله، فرقّ لها قلب الوليد، وخرج من بين يدى النبي، وكأنه يحدث نفسه بأمر غير الذي جاء به. فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه، فقال: يا عمّ. إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا! قال: لماذا؟ قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله (أي لتنال مما عنده من طعام أو نحوه) فقال: لقد علمت قريش أنى من أكثرها مالا! قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له، كاره لما يقول! فقال: وماذا أقول؟ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1290 فو الله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار منّى ... والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، وإن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته!! قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه.. قال: فدعنى حتى أفكّر فيه، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر!! أي يأثره، ويقتفى فيه أثر غيره، فنزل قوله تعالى: «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً.. الآيات» وننظر فى سيرة هذا الضالّ العنيد مع آيات الله التي تلاها عليه رسول الله، وكيف كان يلقاها بتلك المشاعر المتضاربة المضطربة، التي تتأرجح به بين التصديق والتكذيب، والإيمان والكفر.. ثم تغلب عليه شقوته آخر الأمر، فإذا هو على رأس المكذّبين الضالين.. «إِنَّهُ فَكَّرَ» فيما تلى عليه من آيات الله.. فقد كان من شأن هذه الآيات أن تهزّ الجماد، وتذيب الصخر!. «وَقَدَّرَ» أي جعل يزن ويقدّر كلّ ما كان يطرقه من أفكار. «فَقُتِلَ.. كَيْفَ قَدَّرَ» دعاء عليه بالقتل، لهذا التقدير العجيب الذي قدّره.. إذ كيف يسوغ لمن فكر، أن يقيم ميزانا لأى كلام، مع كلمات الله؟ .. «ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ» توكيد الدعاء عليه بالقتل، وتوكيد للتعجب من توقفه بعد تفكيره، عن أن يقول قولة الحقّ فى آيات الله. «ثُمَّ نَظَرَ» أي نظر فيما اجتمع له، من آراء مختلفة فى القرآن.. أهو شعر؟ لا ليس بشعر؟ أهو كهانة؟ لا ليس من الكهانة فى شىء.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1291 أهو قول مجنون؟ كلّا فما قائله بمجنون، ولا فيما يقوله إلّا أحكم المنطق وأصوب القول.. وهكذا، تدور الخواطر فى نفسه، وتصطرع الآراء فى عقله، وهو عاجز عن أن يخرج من هذه العاصفة المزمجرة التي احتوته. «ثُمَّ عَبَسَ» .. هذه انطباعة من أثر هذا الصراع الدائر فى كيانه.. لقد طرقه خاطر مخيف فردّه بهذا العبوس، والتجهم.. ولعل هذا الخاطر كان يدعوه إلى أن يستسلم للحق، ويخرج على قريش معلنا إيمانه بآيات الله، وتصديقه برسول الله!! ولكن هذا العبوس قد ردّ هذا الخاطر، وألقى به فى عباب الخواطر التي تموج فى صدره. «وَبَسَرَ» أي زاد على العبوس تقطيبا، وزمّا لفمه، وتكشيرا عن أنيابه.. وهذه كلها تكشف عن حركات نفسية، تغدو وتروح، وتقبل وتدبر، فى صدر هذا الشقي العنيد، الذي يموج بهذه المشاعر المتضاربة. «ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ» هذه هى الجولة الأخيرة فى هذا الصراع الذي كان محتدما فى نفسه.. لقد انهزم العقل، وانتصر الهوى، وغابت الحكمة، وحضر الطيش والنزق.. وانتهى الأمر بأن أعطى هذا الشقي العنيد ظهره للحقّ، وأخذته العزّة بالإثم، فأبى أن يتبع سبيل المؤمنين. «فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ» !! وبدلا من أن يقول: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» .. قال «إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ» أي ما هذا الذي يتلوه محمد علينا- ما هو إلا سحر، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1292 عجيب، لا بد أن يكون قد تلقاه عن خبير بالسحر وفنونه، واقتفى أثره فيه.. «إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ» .. ثم لقد ازداد الشقىّ العنيد جرأة على الحقّ، فبعد أن كان يلقاه خائفا لا يكاد يواجهه، فيقول عن القرآن: «إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ» رافعا قدره عن أن يكون من كلام البشر- إذا هو بعد هذه القولة الآثمة، يخطو خطوة أخرى نحو الضلال، فيقول: «إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ!» .. إنه مجرد كلام، لا يصل إلى أن يكون سحرا! وهكذا الحق بسطوته وقوته، يكشف عن جبن أعدائه، حتى وهم- فى ظاهر الأمر- غالبون منتصرون.. هذا، ومن الملاحظ أن العطف بين أحوال هذا الشقي الأثيم، قد جاء بالحرف «ثمّ» الذي يفيد التراخي.. «ثُمَّ نَظَرَ.. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ.. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ» . ففى كل حال من تلك الأحوال، عاش هذا الشقي زمنا، مقدّرا، ومفكرا، ثم إنه ما إن انتهى من هذا الصراع الذي يدور فى كيانه، وما إن أمسك بالكلمة التي يطلع بها على القوم، حتى بادر بإلقائها إليهم قبل أن تفلت منه، ويغلبه عليها ما يدور فى خاطره من كلام لا يقبلونه منه.. ولهذا جاء العطف بالفاء التي تفيد التعقيب دون تراخ، أو إمهال.. «فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ» وكما أسرع الشقىّ بكلمة الكفر يجهر بها، قبل أن تفلت منه- كذلك أسرع إليه العقاب الذي يستحقه بسبب هذه القولة الفاجرة التي صدرت عنه.. فيجىء فى أعقابها قوله تعالى: «سَأُصْلِيهِ سَقَرَ» . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1293 يجىء هذا الوعيد، الذي يحمل «سقر» إلى هذا الشقىّ، أو يحمله هو إليها، من غير حرف عطف أصلا، يفصل بينه وبين قوله الآثم، وكأنّ هذه النار التي سيصلاها، هى بعض هذا القول الخارج من فمه.. وإذا هذه النار مشتملة عليه.. تأكله، كما تأكل الحطب! و «سقر» هى جهنم، وقيل اسم من أسمائها، أو درك من دركاتها.. إنه لم يكن بين قول هذا الشقىّ، وبين الآية التي حملت إليه هذا الوعيد- لم يكن ثمة فاصل، لفظى أو تقديرىّ.. وهذا يعنى أن هذه الجريمة تحمل معها عقابها دائما، فلا ينفصل عنها بحال أبدا.. «وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ» .. استفهام يراد به الإشارة إلى أن المستفهم عنه شىء مهول، لا يمكن وصفه.. لأنه مما لم يقع فى حياة الناس أبدا.. «لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ» . إنه وصف لسقر، بأفعالها، وما تترك من آثار.. أما ذاتها فلا يمكن تصورها.. ومن صفاتها، أنها لا تبقى شيئا إلا التهمته، وجعلته وقودا لها، كما لا تذر أحدا من أهل الضلال إلا ضمته إليها، وأذاقته بأسها، لا تدع منه ظاهرا أو باطنا إلا ذاق عذابها.. «لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ» .. أي أنها مغيّرة لألوان البشر، إلى لون الفحم، بما تلفح به وجوههم من لهيبها.. «عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ» .. أي على هذه النار، التي هى سقر، تسعة عشر من الزبانية، يقومون على الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1294 حراستها، وتقليب الحطب المقدّم إليها من المكذبين والضالين، الذين يلقى بهم فيها، ليكونوا وقودا لها.. الآيات: (31- 56) [سورة المدثر (74) : الآيات 31 الى 56] وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1295 التفسير: قوله تعالى: «وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ» . فى هذه الآية بيان لما أحدثه قوله تعالى فى الآية السابقة على هذه الآية، وهى قوله تعالى: «عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ» - من تعليقات هازئة ساخرة من المشركين.. فكان من سمرهم الذي يسمرون به، هو الحديث عن هؤلاء التسعة عشر الذين يقومون على حراسة جهنم، وكيف يمكنهم أن يمسكوا الناس فيها، والناس أعداد لا حصر لها؟ إن قريشا وحدها كفيلة بأن تكفّ بأس هؤلاء الجند، أيّا كان بأسهم وقوتهم.. بل إن بعض هؤلاء الساخرين منهم ليقول: أنا أكفيكم سبعة عشر، واكفوني أنتم الاثنين!! فجاء قوله تعالى: «وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً» ليردّ على سخرية هؤلاء الساخرين، ويكبتهم بها. إن هؤلاء التسعة عشر ليسوا مجرد عدد، وإنما هم ملائكة.. وإنهم ليعرفون الملائكة، ويتخذون منهم أربابا يعبدونهم من دون الله.. فهل لهم بهذا الجند من جند الله يدان؟ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1296 وقوله تعالى: «وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا» أي ما ذكر الله عدة هؤلاء الجند، وحصرهم فى تسعة عشر، دون أن يبلغوا العشرين، مثلا، ليكونوا عددا كاملا- ما ذكرهم الله، وحصر عددهم فى هذا العدد، إلا ليمتحن بذلك إيمان المؤمنين، وضلال الضالين، وقد كشف هذا الامتحان عن فتنة المشركين الذين اتخذوا من هذا العدد سبيلا إلى التفكّه، والتندر، والاستهزاء.. وقوله تعالى: «لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً» إشارة إلى أن أهل الكتاب قد وجدوا أن ما أخبر به القرآن عن عدة أصحاب النار، من الملائكة مطابق لما عندهم من كتب الله.. كما أن المؤمنين سيزدادون إيمانا بما جاءهم من عند الله مصدقا لما فى الكتب السابقة.. وفى التعبير بالاستيقان فى جانب أهل الكتاب، وبازدياد الإيمان فى جانب المؤمنين، مراعاة لمقتضى الحال فى كلّ من الفريقين.. فأهل الكتاب- والمقصود به من أهل الكتاب هنا، هم أولو العلم منهم، الذين سلموا من الهوى المضل، الذي أفسد على كثير من علمائهم دينهم- فأهل الكتاب هؤلاء، يبعث فيهم هذا الخبر الجديد الذي جاء به القرآن- يقينا بأن ما يتلقاه محمد، هو وحي من عند الله.. هذا إلى ما كان عندهم من علم، بهذا النبي، المبشر به فى كتبهم، والمبينة صفاته فيها.. وأما المؤمنون، فهم مؤمنون بصدق الرسول، من قبل نزول هذه الآيات، ومن بعد نزولها.. ولكنهم يزدادون إيمانا كلما تلقوا من آيات الله جديدا، يثبّت إيمانهم ويزيدهم قوة استبصار لمعالم الحق.. وهؤلاء المؤمنون، هم الذين آمنوا إيمانا خالصا من شوائب الشك والارتياب.. وقوله تعالى: «وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ» . والذين أوتوا الكتاب هنا، هم مطلق اليهود والنصارى، وليس الذين الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1297 ذكروا من قبل، والذين هم خاصّة علماء أهل الكتاب.. وكذلك المؤمنون هنا، هم الذين لم يقع الإيمان بعد موقعا متمكنا من قلوبهم.. فهؤلاء وأولئك ليس من شأنهم أن يرتابوا بعد هذا الذي جاء فى آيات الله من أنباء الغيب عن عدة أصحاب النار، بعد أن تطابق هذا مع ما فى التوراة.. وقوله تعالى: وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا» - الذين فى قلوبهم مرض هم المنحرفون من علماء أهل الكتاب، الذين غلبهم الهوى على كلمة الحق أن ينطقوا بها، والكافرون، هم المشركون الذين مازالوا على شركهم.. فهؤلاء، وهؤلاء، يتخذون من قوله تعالى: «عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ» - مادة للاستهزاء، والسخرية.. كأن يقولوا مثلا: ما هذه التسعة عشر؟ ولماذا لم تكن عشرين؟ «ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا» وقد ردّ الله على تساؤلهم هذا بقوله سبحانه: «كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ» . أي هذه الأمثال التي يضربها الله للناس، هى مضلة لبعض الناس، كما أنها هداية لبعضهم.. فمن نظر إليها بقلب مريض، وبصر زائغ، لم يروجه الخير والحق فيها، وارتد إلى الوراء مرتكسا فى متاهات الغواية والضلال.. ومن جاء إليها بقلب سليم، وعقل محرّر من الهوى- رأى الطريق القويم إلى الله، فسلكه، واستقام عليه.. وهذا مثل قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا؟ يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً، وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ» (26: البقرة) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1298 وقوله تعالى: «وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ» هو ردّ على المستهزئين الساخرين، الذي اتخذوا من عدد التسعة عشر مادّة للاستهزاء والسخرية، حتى لقد بلغ بهم القول بأن الله لا يملك من الجند إلا هؤلاء التسعة عشر، ولو كان يملك أكثر منهم لجعلهم عشرين لا تسعة عشر.. وكذبوا وضلوا، فإن جنود الله لا حصر لها، ولا يعلم عددها إلّا هو سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: «وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ» الضمير «هِيَ» يعود إلى «عدة» فى قوله تعالى: «وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا» .. أي أن هذه العدة، هى موضع ذكرى، وعبرة الناس.. كما علم منها أهل الكتاب مطابقة ما جاء فى القرآن لما فى كتبهم، والتزام هذه الكتب جميعها هذا العدد، دون تبديل فيه، أو تحريف له، فيما حرّف أهل الكتاب وبدلوا، لأنه لا مصلحة لهم فى هذا التبديل، والتحريف.. ويجوز أن يكون هذا الضمير عائدا إلى «سقر» فى قوله تعالى: «سَأُصْلِيهِ سَقَرَ» ، ومع سقر الجنود القائمون عليها، وعدتهم تسعة عشر.. فسقر، والجنود القائمون عليها، هى ذكرى للبشر. قوله تعالى: «كَلَّا وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ» . «كلّا» هنا، نفى يحمل الرّدع والزجر، لأولئك الذين لم يجدوا فى تلك الآيات التي تحذرهم من النار، وتخوفهم من جنودها- لم يجدوا فى ذلك ذكرى وموعظة لهم. وكلا، إنها ليست ذكرى للبشر، أي لمعظم البشر، إذ كان أكثر الناس على الضلال، وقليل منهم المهتدون، المؤمنون. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1299 وقوله تعالى: «والقمر» قسم بالقمر. وقوله تعالى: «وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ» معطوفان على القمر، ومقسم بهما معه.. فهى ثلاثة أقسام، تجمع: القمر، والليل، والصبح. وقد جاء القسم بالقمر مطلقا، دون ذكر حال من أحواله، أو صفة من صفاته.. إنه القمر، والقمر لا يسمى قمرا إلا مع تمامه وكماله.. وجاء القسم بالليل مقيدا بظرف خاص، وهو إدباره، وتولّيه.. على حين جاء القسم بالصبح حال إسفاره، وظهوره.. وقد فرّق النظم القرآنى المعجز بين الحالين، حال إدبار الليل، وحال إسفار الصبح.. إنها لحظة واحدة، يلتقى عندها إدبار الليل، وإسفار الصبح، وقد وزّع النظم القرآنى هذه اللحظة، فجعل بعضا منها يذهب مع الليل الذاهب، وبعضا منها، يتراءى خلف الصبح المقبل.. ولهذا جاء لفظ «إذ» مع إدبار الليل «وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ» .. وهذا يعنى الزمن الماضي من تلك اللحظة.. فلقد أدبر الليل، ومضى، وذهب سلطانه الذي كان قائما على تلك الرقعة المبسوط عليها من هذا العالم.. أما الصبح، فهو وليد جديد، يخطو خطواته نحو المستقبل، فهو زمن ممتدّ، ولهذا جاء الظرف المتلبس به بلفظ «إذا» التي تدل على الزمن المستقبل.. «وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ» !! ولعل سائلا يسأل هنا: وماذا وراء الجمع بين هذه الأقسام الثلاثة: القمر، والليل المدبر، والصبح المسفر؟ إن القرآن الكريم لا يجمع بين هذه العوالم إلّا وهو يشير من هذا الجمع إلى ملحظ، فيه عبرة، وعظة- فماذا يكون هذا الملحظ؟! الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1300 نقول- والله أعلم- إن القسم بالقمر، والليل المدبر، والصبح المسفر، هو إشارة إلى مبعث النبىّ صلوات الله وسلامه عليه، وإلى ما بين يدى مبعثه وما خلفه، من مجريات الأحداث، التي تطل على الناس.. فالقمر- والله أعلم- هو إشارة إلى الرسالات السماوية التي سبقت عصر النبوّة.. فقد كانت تلك الرسالات هى النور، الذي يشعّ فى وسط هذا الظلام المخيم على العالم، وأن نور هذا القمر لا يمنح الناس رؤية كاشفة، وإن أراهم مواقع أقدامهم. وألقى فى قلوبهم شيئا من الطمأنينة والأنس، ثم إنه لا يلبس أن يختفى، ويتحول عن الناس.. وإسفار الصبح هو إيذان بمبعث النبي، وأنه الشمس التي ستشرق على هذا الوجود، وأن أضواء شمس النبوة قد أزاحت ظلمة الليل عن هذا الوجود، وأنه سرعان ما تطلع الشمس فتملا الوجود ضياء، وتكسو العالم حلّة من بهاء وجلال، حيث تنكشف حقائق الأشياء، وتسفر عن وجهها لكل ذى بصر يبصر، ومن شمس النبوة المحمدية استمدّت الرسالات السابقة نورها من ضوء هذه الشمس، قبل أن يستقبل الوجود مطلع هذه الشمس، فلما طلعت محت بضوئها آية القمر، وكان على من يريدون أن يسيروا على هدى ونور أن يستقبلوا هذا النور، وأن يملئوا أعينهم به. قوله تعالى: «إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ نَذِيراً لِلْبَشَرِ» . الضمير فى إنها يعود إلى «سقر» .. وهى إحدى منازل الكافرين والضالين يوم القيامة.. فإن جهنم- أعاذنا الله منها- لها سبعة أبواب، ولكل باب أهله الذين يدخلون منه إلى النار المعدة لهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ» (43- 44: الحجر) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1301 وقوله تعالى: «نَذِيراً لِلْبَشَرِ» تمييز لإحدى الكبر، أي أن سقر هى إحدى الكبر من جهة الإنذار والتخويف بها.. أي أنها من الآيات الكبرى، التي من شأنها أن تهز النفوس من أقطارها، وأن تبعث فى القلوب الخشية والفزع من لقاء هذه الأهوال التي تطلع بها جهنم على أهلها، وفى هذا أبلغ نذير لمن يبصر النذر وينتفع بها.. قوله تعالى: «لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ» .. هذا بدل من قوله تعالى «للبشر» أي أن سقر هى نذير لمن شاء أن يتقدم فيؤمن بالله، ويمضى على طريق الحق والهدى، كما أنها نذير لمن شاء أن يتأخر فيرتد على عقبه، ويغيب فى متاهات الكفر والضلال.. قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ..» أي كل نفس مرتهنة بما كسبت، مأخوذة بما عملت، مجزية بالخير خيرا، وبالسوء سوءا.. قوله تعالى: «إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ» هو مستثنى من قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» .. فهذا حكم عام على الناس جميعا، مؤمنين وغير مؤمنين، حيث ترتهن كل نفس بما عملت، ثم يعود الله سبحانه وتعالى يفضله على المؤمنين، أصحاب اليمين، فيدخلهم الجنة.. ولو أن دخول الجنة كان مرتهنا بالأعمال، لما دخل أحد الجنة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1302 ولكن الإيمان بالله، والأعمال الطيبة فى ظلّ الإيمان، من شأنه أن يجعل المؤمن أهلا لإحسان الله إليه، ودعوته إلى الجنة، يتبوأ منها حيث يشاء.. وفى الحديث: «لا يدخل أحد الجنة بعمله، قيل ولا أنت يا رسول الله؟. قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله برحمته» .. وقوله تعالى: «فِي جَنَّاتٍ» خبر لمبتدأ محذوف، تقديره، هم فى جنات. وقوله تعالى: «يَتَساءَلُونَ» حال من أحوال المؤمنين فى الجنة. وقوله تعالى: «عَنِ الْمُجْرِمِينَ» تتعلق بقوله تعالى: «يتساءلون» أي أن تساؤلهم فى تلك الحال هو تساؤل عن المجرمين، أهل النار. وقوله تعالى: «ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ» هو مما تساءل به أهل الجنة، عن أهل النار، حيث اطلعوا عليهم، فسألوهم: «ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ» ؟ أي ما نظم جمعكم فيها، وشدكم إليها، كما يشد الخرز في سلكه؟. وأهل النار، وأهل الجنة، يرى بعضهم بعضا، ويحادث بعضهم بعضا.. أصحاب النار.. يصرخون، ويصرخون، وأصحاب الجنة يحمدون الله أن عافاهم من هذا البلاء الذي يرون كثيرا من أهلهم، وعشيرهم، وصديقهم، بتقلبون على جمره.. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى فى قوله جل شأنه: «وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ» (50: الأعراف) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1303 قوله تعالى: «قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ» . هذا هو الجواب الذي أجاب به أصحاب النار أصحاب الجنة عن تساؤلهم عنهم: «ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ» ؟ إن الذي سلكهم فى سقر، هو أنهم لم يكونوا من المصلين، أي لم يكونوا مؤمنين، لأنهم لو كانوا مؤمنين، لكانوا من المصلين ... وأنهم لم يكونوا يؤدون حق عباد الله فيما خولهم الله من نعم، فلم يطعموا المساكين، ولم يخرجوا زكاة أموالهم، التي منها يطعم المسكين.. وأنهم يخوضون مع الخائضين، فلم يتأثّموا من منكر، ولم يتحرجوا من فاحشة. بل كانوا مع كل جماعة ضالة، وعلى كل مورد آثم.. وأنهم كانوا يكذبون بيوم الدين، أي يوم القيامة، فلم يؤمنوا بالبعث، والحساب، والجزاء.. هذا، وليس من اللازم أن تكون هذه المآثم جميعها مجتمعة فى كل واحد منهم.. فقد يكون فى أهل النار من تجتمع فيه هذه المآثم كلها، وقد يكون فيهم من تلبسّ بمأثم منها، فيدخل النار.. وعلى هذا يمكن أن تكون إجاباتهم تلك مشاعة فيما بينهم، كما يمكن أن يكون لكل أهل مأثم جوابهم الذي كشفوا به عن دخولهم النار بسببه.. وعلى أىّ فإن أىّ مأتم من تلك المآثم يخرج صاحبه من عداد المؤمنين، وبضيفه إلى جماعة المجرمين.. والمجرم، هو الكافر، كما يقول سبحانه: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1304 «إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى» (74: طه) .. قوله تعالى: «حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ» - إشارة إلى أنهم ظلموا متلبسين فى حياتهم بهذه المآتم حتى أتاهم اليقين، وهو الموت، فماتوا على ما هم عليه من ضلال.. فلم تختم أعمالهم بالتوبة والعمل الصالح.. وسمّى الموت يقينا، لأنه عند الموت يعاين المحتضر حقيقة ما كان يكذب به، من أمور الحياة الآخرة.. ومنه قوله تعالى: «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» (99: الحجر) .. روى أن أم العلاء الأنصارية، قالت: «لمّا قدم المهاجرون المدينة، اقترعت الأنصار على سكناهم، فصار لنا من المهاجرين، «عثمان بن مظعون» فى السكنى، فمرض، ثم توفّى، فجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل، فقلت: «رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتى أن قد أكرمك الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك أن الله قد أكرمه؟» فقلت: لا، والله ما أدرى!! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما هو فقد أتاه اليقين من ربه، وإنى لأرجو له الخير، والله ما أدرى وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم» ! فقول الرسول الكريم: «أما هو فقد أتاه اليقين من ربه، يشير إلى أن عثمان بن مظعون، هو الذي يعرف المصير الذي صار إليه، بعد أن مات، وكشف عن عينيه الغطاء.. فالموت هو الذي جاء بالخبر اليقين، ولهذا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1305 سمى الموت باليقين، لأنه يرد بالإنسان مورد الحق.. قوله تعالى: «فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ» .. هو تعقيب على ما ذكر المجرمون من جرائمهم التي ألقت بهم فى جهنم.. وهذا التعقيب هو من أصحاب الجنة الذين سألوهم، وتلقوا منهم جواب ما سألوا عنه، فكان تعقيبهم على هذا بقولهم: «فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ» .. فتكون الفاء هنا واقعة فى جواب شرط محذوف تقديره: «وإذن فهم كافرون، وإذن «فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ» .. لأن الكافرين لا شفيع لهم، على حين أن عصاة المؤمنين يشفع لهم من الملائكة، والنبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين، ممن رضى الله عنهم، وارتضى شفاعتهم فيمن يشفعون لهم. قوله تعالى: «فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ؟» . استفهام إنكارى، ينكر على هؤلاء المشركين إعراضهم عن التذكرة، وهو القرآن الكريم، الذي يذكرهم بالله، ويكشف لهم الطريق إليه. وقوله تعالى: «معرضين» حال من الضمير فى «لهم» .. وهذا الاستفهام فى مقام غير المقام الذي كان فيه هؤلاء الكافرون فى جهنم.. إنهم هنا فى الدنيا- بعد أن عرضوا على جهنم، وجاءهم الخبر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1306 اليقين هناك بأن لا شفيع لهم من عذابها.. فإذا أعيدوا إلى الدنيا بعد هذه الرحلة الجهنمية لقيهم هذا السؤال: «فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ» ؟ أي إذا كان هذا هو مصير الكافرين.. فما لهم- وهم الآن فى فسحة من أمرهم- يعرضون عن آيات الله التي تفتح له باب النجاة من هذا الكرب العظيم؟. «كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ» . حال من أحوالهم فى إعراضهم عن القرآن، ونفورهم منه.. إنهم ما إن يسمعون آيات الله تتلى، حتى يفزعوا وينفروا كما تنفر الحمر، وقد اشتمل عليها الذعر، حين رأت قسورة أي أسدا، مقبلا عليها.. وسمى الأسد قسورة، أخذا من القسر، والقسوة.. وفى تشبيههم بالحمر المستنفرة من بين سائر الحيوانات التي إذا رأت الأسد فرت من وجهه- لأن الحمار يمثل الغباء والبلادة من بين سائر الحيوان، وبه يضرب المثل فى هذا، كما يقول سبحانه: «كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً» (5: الجمعة) . وفى إسناد الاستنفار إلى تلك الحمر فى قوله تعالى: «مستنفرة» بدلا من أن يسند الاستنفار إلى من استنفرها، فيقال: «مستنفرة» - فى هذا إشارة إلى أن ذلك طبيعة غالبة عليها، وأن من شأنها النفور دائما، دون أن يكون هناك سبب لنفارها.. إنها ذات طبيعة وحشية، لا تأنس فى ظلّ من سكينة أبدا.. وفى وصف الحمر بأنها «مستنفرة» بدلا من «نافرة» - إشارة أخرى إلى أنها تستدعى هذه الطبيعة الكامنة منها، وتهيجها وتحركها من غير سبب يدعو إليها، كما أن بعض هذه الحمر يستدعى بعضا إلى هذا النفور، فتمضى فى طريقها عليه، من غير دافع إلا هذا التقليد الأعمى. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1307 وهذه حال تمثل أهل الضلال أصدق تمثيل، إنهم وهذه الحمر المستنفرة على سواء.. ففى طبيعتهم نفور ملازم كل دعوة إلى خير، وهم دائما يتبعون أول ناعق يدعوهم إلى النفور من وجه الحق.. وشبه القرآن بالقسورة، لما للقسورة من هيبة، تملأ القلوب، وتملك المشاعر.. ثم هو إلى مهابته وسطوته، بعيد عن الدنايا، عف عن القذر لا يأكل الميتة، ولو مات جوعا..! ولم يسمّ القرآن الأسد أسدا، وإنما سماه «قسورة» ، ليكسوه بهذا الاسم ذى الجرس الموسيقى القوى هيبة إلى هيبة، وعظمة، إلى عظمة، الأمر الذي لا يحققه لفظ أسد، الضامر، المبتذل على الأفواه لكثرة تردده. قوله تعالى: «بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً» .. هو إضراب عن دعوتهم إلى ترك الإعراض عن القرآن، حتى يكون لهم منه ذكر وموعظة.. وكلّا فإنهم لا يستجيبون لهذه الدعوة، لأن كلّا منهم يريد أن يكون له كتاب من عند الله، كهذا الكتاب الذي يدعوهم إليه رسول الله.. وهذا ما يشير إليه سبحانه فى قوله على لسانهم: «وقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ» (134: الأنعام) .. وهذا جهل وغباء لا يستقيم إلا على منطق الحمر! قوله تعالى: «كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ» . أي أنهم لن يؤتوا هذه الصحف أبدا.. وأنهم لا يؤمنون بالآخرة أبدا، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1308 ولا يخافون عذابها، ولا يعملون على توقّى هذا العذاب.. وهؤلاء هم المشركون الذين ماتوا على الشرك، ولم يقبلوا دعوة الإسلام، وهذا هو حكم الله عليهم، وقضاؤه فيهم. قوله تعالى: «كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ» .. الضمير فى «إنه» القرآن الكريم، الذي أشارت إليه الآية السابقة: «فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ» .. وإنه ليس عن شأن هذه التذكرة أن تحمل هؤلاء المشركين حملا على الخوف من عذاب الآخرة.. وليس القرآن إلا تذكرة، للغافلين، وتنبيها للشاردين.. قوله تعالى: «فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ» أي فمن شاء ذكر ربه بهذا القرآن.. إنه أمر مردّد إلى الإنسان نفسه، وإلى إقباله على ذكر الله، أو إعراضه عنه.. ولو كان الأمر على سبيل القهر والإلزام لما كان ثمّة امتحان وابتلاء تنكشف به أحوال الناس، وتختلف فيه منازلهم، ولكانوا جميعا على منزلة سواء. قوله تعالى: «وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ.. هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ» . هو دفع لما قد يقع من مفهوم خاطئ لقوله تعالى: «فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ» حيث أطلق مشيئة الإنسان.. ومشيئة الإنسان ليست مطلقة، بل هى مقيدة بمشيئة الله.. ونعم.. الإنسان له مشيئة يجدها فى كيانه، وفيما يأخذ أو يدع من أمور، وفيما يقبل أو يرفض من أعمال.. ومع هذا، فإن تلك المشيئة مرتهنة بمشيئة الله، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1309 مقيدة بها، جارية مع القدر الذي أرادته مشيئة الله.. فهى مشيئة مطلقة فى داخل الإنسان، مقيدة من خارج بالمشيئة الإلهية العامة الشاملة.. وقوله تعالى: «هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ» - أي هو سبحانه أهل لأن تتّقى محارمه، ويخشى عقابه، وهو سبحانه أهل المغفرة، يرجى عنده غفران الذنوب، لمن أناب إليه، وطلب الغفران منه.. وفى هذا إشارة إلى أن مشيئة الله العامة المطلقة، عادلة، رحيمة، منزهة عن الجور والتسلط.. إنها مشيئة الخالق فى خلقه. فالخلق فى ضمان هذه المشيئة، فى رحمة الله، أيّا كانت مشيئة الله فيهم.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ» (251: البقرة) . ويقول سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» (143: البقرة) وفى الحديث: «لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها» . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1310 75- سورة القيامة نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة القارعة. عدد آياتها: أربعون آية. عدد كلماتها: مائة وتسع وتسعون.. كلمة. عدد حروفها: ثلاثمائة واثنان وخمسون حرفا. مناسبتها لما قبلها جاء فى ختام سورة «المدثر» قوله تعالى: «كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ» جاء كاشفا عن العلة التي نجم عنها شرك المشركين، وكفرهم بآيات الله، وتكذيبهم لرسول الله.. وتلك العلة هى أنهم لا يؤمنون بالبعث، ولا يتصورون إمكان الحياة بعد الموت، ومن ثم فإنهم لا يعملون حسابا لما وراء حياتهم الدنيا، ولهذا أطلقوا عنان أهوائهم، وأسلموا زمامهم للشيطان، يعيشون كما تعيش السائمة.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» (12: محمد) . ولو كان هؤلاء المشركون يؤمنون بالآخرة، ويتصورون إمكان الحياة، بعد الموت، لكان لهم نظرة إلى ما بعد هذه الحياة الدنيا، ولعملوا حسابا ليوم يلقون فيه ربهم، ويجزون فيه على أعمالهم. وقد جاءت سورة القيامة، تعرض وقوع هذا اليوم، يوم القيامة، فى صورة واقع مشهود، له ذاتية معترف بها، فيقسم به الله سبحانه وتعالى، كما يقسم بالشمس، والقمر، والليل، والضحى، والعصر.. وغير ذلك من آياته المشهودة للعالمين. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1311 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الآيات: (1- 15) [سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15) التفسير: قوله تعالى: «لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ» . قلنا فى تفسير هذه الأقسام المنفيّة، إن المراد بها هو التلويح بالقسم، دون إمضائه، إذا كان الأمر المقسم عليه أوضح من أن يدل عليه، وأن يؤكد فى الدلالة عليه بقسم.. إنه ينزل منزلة البديهيات، وتوكيد البديهيات لا يزيدها عند الذين لا يؤمنون بها إلا إنكارا، واستبعادا.. والتلويح بالقسم، إشارة إلى أنه لو كان الأمر يحتاج إلى قسم لمضى القسم إلى غايته، ولما سلط عليه النفي الذي حال بينه وبين أن يقع على المقسم عليه.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1312 ففائدة هذا القسم المنفي أنه يقرر حقيقة، لا يرى لها وجه، لو جاء الأمر ابتداء من غير هذا القسم المنفىّ.. فالقسم المنفي هنا يكشف عن حال المواجهين بالقسم، وأنهم يكذبون بالبدهيات، ويعاندون فى المسلّمات، وأنه لو كان فى التوكيد بالقسم مقنع لهم، لوقع القسم، ولكن يستوى عندهم الأمران، التوكيد وغير التوكيد.. إنهم على أي الحالين لا يؤمنون بما يلقى إليهم من أخبار على لسان النبي، بما يوحى إليه من ربه. قوله تعالى: «وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ» معطوف على يوم القيامة.. والنفس اللوامة، هى النفس التي ترجع على صاحبها باللائمة لما يقع منه من إثم، وما يقترف من ذنب.. وهذا التلويم من شأنه أن يغيّر من وضع الإنسان القائم على الإثم، والمتجه إلى المنكر.. إنه قوة معارضة لهذا التيار الذي يدفع به إلى المنكر، وقد يتحول هذا التيار إلى الجهة المضادة لطريق الغواية المتجه إليه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ» (60- 61: المؤمنون) فمع وجل القلوب، يقع فى النفس ما يقع من لوم على ما فرط منها. وقرنت النفس اللوامة بيوم القيامة، لأن ثمرة هذا التلويم، إنما تظهر آثاره يوم القيامة.. فالنفس اللوامة إنما يحملها على التلوم، الخوف من الآخرة، ومن لقاء الله، والوقوف بين يديه.. ولولا الإيمان بيوم القيامة لما راجع المرء نفسه فيما أحدث من آثام، ولما قامت فى كيانه تلك النفس اللوامة، التي تقف منه موقف المحاسب قبل يوم الحساب! الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1313 قوله تعالى: «أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ» ؟ أي أيظن الإنسان أننا لن نجمع عظامه؟ أيستكثر على قدرتنا أن نقيم من هذا التراب بشرا سويا؟ «أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟» (81: يس) .. «وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» (78- 79: يس) قوله تعالى: «بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ» أي بلى إننا نجمع عظامه، مع قدرتنا على تسوية بنانه.. فليس جمع هذه العظام التي أكلها التراب، وأبلاها البلى، هو الذي تقف عنده قدرتنا، بل إن هذه القدرة ستعيد هذه العظام إلى وضعها الأول، وستسوى أدقّ ما فى الإنسان من عظام، وهى عظام البنان، أي الأصابع.. وقوله تعالى «قادرين» حال من فاعل فعل محذوف، تقديره: بلى نجمعها، ونحن قادرون على تسوية بنانه، التي هى أدق هذه العظام، وأصغرها.. قوله تعالى: «بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ» هو إضراب على هذا الخطاب الموجه إلى الإنسان الذي ينكر البعث، ويأبى أن يصدق به.. فإن نصب الأدلة له، وإقامة الحجج بين يديه- كل ذلك لا يكشف عمى بصيرته، ولا يوقع فى نفسه إيمانا بالبعث، وإعدادا اليوم الآخر.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1314 إنه لا يريد أن يلتفت إلى ما وراء هذه الحياة الدنيا، ولا يريد أن يقيّد نفسه بعالم آخر غير هذا العالم، الذي يعيش فيه مطلقا من كل قيد، مرسلا حبله على غاربه.. وقوله تعالى: «لِيَفْجُرَ أَمامَهُ» أي ليقيم حفرة بينه وبين الحياة الآخرة التي يقال له عنها.. إنه يضع أمام نفسه العقبات التي تصرفه عن الحياة الآخرة، بما يقيم على طريق هذه الحياة من معوقات، هى تعلّات وتصورات مريضة، توقع عنده الشك فى البعث، وما وراء البعث، حتى يحلّ نفسه من ملاقاة هذا اليوم، وما يحدّث به إليه، عن هذا اليوم وأهواله.. إن ذلك اليوم يقطعه عن الحياة البهيمية التي رضى بها واطمأن إليها، فهو إذا سمع حديثا عن يوم القيامة، حاول جاهدا أن يفسد هذا الحديث، وأن يخرج به من مجال العقل والجد، إلى حيث المهاترة والهزل.. وأصل الفجر، والفجور، من فوران الشيء، وتفجره فى قوة وعنف، ومنه قوله تعالى: «وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً» ومنه الفجور، وهو التهتك والتبذل، وخلع قناع الحياء.. وفى تعديه الفعل «يريد» باللام التي تفيد التعليل- مع أن الفعل يتعدى إلى مفعوله بغير حرف- فى هذا إشارة إلى أن هذه الإرادة إرادة عاملة، وأنها ليست مجرد أمنية، أو رغبة، أو خاطرة، تطرق الإنسان، ثم لا تلبث أن تذهب غير مخلفة أثرا.. فالإرادة هنا إرادة مشدودة إلى عزم، وتصميم، على التنفيذ.. وفى طريق التنفيذ تقوم عقبات، فيعمل صاحب هذه الإرادة على تذليلها، ويحتال لإمضائها.. ولهذا ضمّن الفعل «يريد» معنى الفعل «يحتال» .. وهذا يعنى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1315 أن الإنسان يغالب قوة متحدية لإرادته وهى الفطرة المودعة فيه، فلا يملك لها دفعا إلا بالمراوغة والاحتيال وهذا المعنى هو الذي قصد إليه مجنون ليلى بقوله: أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثّل لى ليلى بكل سبيل وقوله تعالى: «يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ» هو أثر من آثار إرادة هذا الإنسان، الذي يقيم العلل، والمعاذير، بينه وبين اليوم الآخر.. فهو يسأل سؤال المنكر، المستهزئ: أيان يوم القيامة؟ أي متى يكون يوم القيامة هذا؟ وهو سؤال اتهام لهذا اليوم، وتكذيب لمن يتحدث به، أو عنه. قوله تعالى: «فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ» هو الجواب على هذا السؤال المستهزئ، الذي سأله هذا الشقي، منكرا ليوم البعث، مستهزئا به! وقد جاء الرد عليه بيوم القيامة كله، وبما يطلع به على الناس، من شدائد وأهوال.. إن الجواب لم يحدد الوقت الذي يجىء فى هذا اليوم.. إذ ليس المهم متى يجىء؟ وإنما المهم هو ماذا أعد الإنسان له يوم مجيئه؟ وماذا يلقى المكذبون والمضلون فيه من هذه الأهوال التي تطلع عليهم في هذا اليوم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ» أي جمد فلم يطرف، للهول الذي يراه من أحداث هذا اليوم.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1316 وقوله تعالى: «وَخَسَفَ الْقَمَرُ» أي ذهب نوره وقوله تعالى: «وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ» أي أصبحا جرمين، لا يرى لهما الإنسان يومئذ ضوءا.. حيث تكون الشمس أشبة بالقمر، فى أنها جسم معتم مثله، فإن ضوء الشمس إنما يرى فى كوكبنا الأرضى، بعد أن يخترق الطبقة الجوية المحيطة بالأرض، فإذا خرج الإنسان عن جو الأرض لم ير للشمس ضوءا، ورأى النجوم فى رائعة النهار الذي يكسو وجه الأرض حلّة من ضيائه. وهذا يعنى أن الإنسان سيخرج يوم القيامة من عالمه الأرضى، إلى عالم آخر، تتبدل فيه أحواله، وتتغير فى نظره حقائق الأشياء على هذه الأرض، فيرى الشمس والقمر معلقين فى هذا الفضاء، كل على هيئته، فلا غروب للشمس، ولا نقصان للقمر.. قوله تعالى: «يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ؟» أي فى هذا اليوم، يقول الإنسان- كل إنسان- أين المفر؟ أي أين الملجأ الذي يلجأ إليه الإنسان، فرارا من لقاء هذا اليوم العظيم؟ قوله تعالى: «كَلَّا لا وَزَرَ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ» الوزر: الملجأ، والحمى الذي يحتمى فيه الإنسان.. ومنه الإزار الذي يأتزر به الإنسان، ويستر جسده. إنه لا ملجأ فى هذا اليوم.. فالكلّ مسوق إلى الله تعالى، حيث المستقر هناك فى المحشر، فى موقف الحساب والجزاء.. فلا ملجأ من الله إلا إليه سبحانه وتعالى. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1317 وقوله تعالى: «يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ» أي فى هذا اليوم يخبر الإنسان، بكل ما عمل، فى حياته كلها، من أولها إلى آخرها.. ما تقدم منها وما تأخر.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» (2: الفتح) قوله تعالى: «بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ» هو إضراب على ما سبق، وأن الإنسان ليس فى حاجة إلى من ينبئه بما قدّم وأخر، بل إن كل إنسان يقوم عليه شاهد من نفسه ومن جوارحه، فهو- والحال كذلك- إنما ينبأ بأعماله من ذات نفسه، كما يقول سبحانه: «كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» . وأنت لفظ بصيرة، على تقدير مضاف أي، ذو بصيرة، وذلك حين ينكشف له يوم القيامة كل شىء، فيرى الأمور على حقائقها، ويبصر كل ما قدمته يداه، كما يقول سبحانه: «فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» (22: ق) قوله تعالى: «وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ» أي أن هذه البصيرة التي تكون للإنسان يوم القيامة، والتي يقوم منها شاهد عليه من ذاته- هذه البصيرة، لا تلتفت إلى معاذيره التي يوردها، عليها كما يقول سبحانه. «وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ» (21: فصلت) فلا يقبل من الإنسان عذر فى هذا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1318 اليوم.. كما يقول سبحانه: «فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» (57: الروم) الآيات: (16- 33) [سورة القيامة (75) : الآيات 16 الى 33] لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) التفسير: [وحي القرآن ووحي السنة.. هذا غير ذاك] قوله تعالى: «لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ» . تبدو مناسبة هذه الآيات، للآيات التي قبلها، ثم للآيات التي بعدها- تبدو المناسبة بعيدة فى ظاهر الأمر، حيث أن هذه الآيات حديث خاص إلى النبىّ، فى شأن من شئون تلقّيه الوحى.. وما بعد هذه الآيات وما قبلها، هو عرض الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1319 للمشركين والضالين فى موقف الحساب والجزاء يوم القيامة.. فما سرّ وضع هذه هذه الآيات هنا؟ وما المناسبة الجامعة بينها وبين ما تقدمها، وما جاء بعدها؟ نقول والله أعلم: إن هذا الترتيب الذي جاء عليه نظم هذه الآيات، يشير إلى أكثر من دلالة، ويومىء إلى أكثر من مقصد: فأولا: هذا القطع لنسق النظم، فى صورة فجائية، وبلا مقدمات- هو إلفات قاهر، لا إرادى، لأولئك المشركين الذين يكذبون بيوم الدين، ويكذبون بما تلا عليهم رسول الله من آيات الله، وما تحمل إليهم هذه الآيات، من أخبار هذا اليوم، وأحداثه.. وفى هذه اللفتة القاهرة يرون النبي فى مقام التلقّى عن ربه، وفى مجلس التلقين، والتعليم منه، سبحانه، وأنه- صلوات الله وسلامه عليه- يتعلم مما علمه الله، وأن هذا العلم لا يستأثر به وحده، وإنما هو مأمور بحمله وعرضه على الناس جميعا، ليأخذوا حظهم كاملا منه.. ولا شك أن هذا من شأنه أن يخفف كثيرا مما فى قلوب المشركين من مشاعر الحسد للنبى، والغيرة منه، كما أن هذا الموقف يفتح عيون كثير من المكذبين والمعاندين على وجه الحق الذي غاب عنهم فى دخان الحسد المنبعث من صدورهم، حيث يرون النبي- صلوات الله وسلامه عليه- يتلقى هذا التحذير والتأديب فى مقام التعلّم، وأنه ليس هناك أمام عظمة الله عظيم.. إن الله سبحانه هو رب العالمين، وكلهم مربوبون له، منقادون لأمره، وأن ما جاءهم به النبي قد احتمل فى سبيله جهدا أو مشقة، وهم يتلقونه منه دون أن يسألهم عليه أجرا.. وثانيا: الطبيعة البشرية يغلب عليها حب التملك، ومن أجل هذا كان شأن الناس إيثار العاجل على الآجل، والحاضر على الغائب، وكان من هذا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1320 أن صرف كثير من الناس أعينهم عن الحياة الآخرة، وأقاموا بينهم وبينها سدودا من الخداع، والتضليل، حتى لا يروا لها أثرا يلفتهم إليها، ويقطع مشاعرهم المنصرفة كلها إلى الحياة الدنيا، وما هم فيه منها.. وفى عرض النبي- صلوات الله وسلامه عليه- فى هذا الموقف الذي يستعجل فيه النطق بكلمات الآية وحفظها، قبل أن تفلت منه- فى هذا ما يكشف المشركين عن أن حب العاجل طبيعة مركوزة فى الناس، كما يقول سبحانه وتعالى: «خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ» (37: الأنبياء) وأن العجلة غير محمودة حتى فى مقام الإحسان، وفى طلب الخير.. بل إن الرفق، والتوسط فى الأمور هو المحمود، وهو الذي يتيح للإنسان فرضه التروي والتعقل، ووزن الأمور بميزان الروية والعقل.. فكيف بالمشركين وهم يخوضون خوضا فى متاع الحياة الدنيا؟ أفلا يكون منهم تمهل فى هذا الجري اللاهث وراء هذا الحطام الزائل؟ ثم ألا يكون منهم وقفة مع هذا الذي يدعوهم النبي إليه؟ وثالثا: إذا كان على النبي أن يصغى إلى الوحى، ولا يحرك لسانه قبل أن ينتهى رسول الوحى من إلقاء بإلقاء ما يوحى به إليه، وذلك لتكتمل صورة المعاني المراد إلقاؤها على النبي، ولتقع من نفسه موقعا واضحا متمكنا- إذا كان على النبي أن يفعل هذا، مع كلمات الله- أفما كان على الذين يستمعون من النبي لآيات الله، أن يصغوا إليها، وألا يفتحوا أفواههم بكلمة وهم بين يديها، حتى ينتهى عرضها، ليكون لهم سبيل إلى فهم معانيها، وإدراك بعض أسرارها؟ .. قيل إن النبي- صلوات الله وسلامه عليه- كان وهو يتلقى سورة القيامة من الوحى، وذلك فى أوائل اتصال النبي بالوحى- كان يخشى أن تفلت منه بعض الكلمات، أو يختلف عليه نظامها، فيبادر- حرصا منه- بتلقف الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1321 الكلمة من جبريل، قبل أن يتم الآية.. فلما بلغ معه الوحى إلى قوله تعالى: «بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ» - نزل عليه قوله تعالى: «لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ» .. ولا شك أن هذا شاهد من شهود القرآن التي لا تحصى، على أن هذا القرآن من عند الله، وأن ليس لمحمد إلا تلقيه من الوحى، وحمله إلى الناس.. وإلا لو كان هذا القرآن من كلام محمد- أكان محمد يلبس هذه الشخصيات جميعها، فيكون مخاطبا وغائبا، وناهيا ومنهيّا، كل ذلك فى حال واحدة، وموقف واحد؟. أيعقل فى هذا الموقف الذي يواجه فيه المشركين بهذه النذر المطلة عليهم من يوم القيامة- أيعقل فى هذا الموقف، أن يقطع محمد هذا العرض، ثم يتحول إلى نفسه، محاسبا، وناصحا وموجها؟ وما شأن الناس بهذا، لو كان محمد هو صاحب هذا الموقف، والمصور له بكلماته؟ .. إن صاحب الموقف- وهو الله سبحانه وتعالى- هو الذي يملك أن يقطع هذا العرض، وأن يلقى على المتلقى عنه، ما يشاء من توجيه، وإرشاد، حتى يجىء العرض واضحا، كاملا.. إن الذي يملك الموقف كله، قوة قائمة على محمد، وعلى من يلقاهم محمد بهذا الحديث.. وتلك القوة هى التي تدير الخطاب، وتوجهه كيف تشاء إلى أىّ من المخاطبين، أفرادا، أو جماعات.. وقوله تعالى: «لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ» نهى يراد به النصح والتوجيه إلى ما ينبغى أن يكون عليه النبي مع الوحى، وهو ألا يحرك لسانه بكلمات القرآن، قبل أن ينتهى جبريل من الوحى.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» (114: طه) .. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1322 فإن كل كلمة يوحى بها إلى النبي، هى علم يزداد به علمه، فلا يعجل يقطع هذا المدد الذي تهمى عليه غيوثه. وقوله تعالى: «لِتَعْجَلَ بِهِ» بيان للسبب الذي من أجله كان يسرع النبي بترديد الكلمات التي يسمعها من جبريل.. إنه- لشدة شوقه، إلى كلمات ربه- لا يكاد يسمع الكلمة تقع فى قلبه من جبريل، حتى يسرع بالنطق بها، ليذوق حلاوتها على لسانه، كما ذاق حلاوتها فى قلبه.. وقوله تعالى: «إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ» .. هو تطمين النبي- صلوات الله وسلامه عليه- من أنه لن يفوته حفظ شىء مما يوحى إليه من آيات ربه، فإن الله سبحانه وتعالى، هو الذي يتولى جمع هذا القرآن كله فى صدره- صلوات الله وسلامه عليه- كما سيتولى سبحانه، حفظه على الزمن، قرآنا تعمر به قلوب المؤمنين، وترتله ألسنة الحافظين، كما يقول سبحانه: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» (9: الحجر) .. قوله تعالى: «فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ» . وفى إسناد القراءة إلى الله سبحانه وتعالى، تشريف، وتكريم النبي، الذي يسمع آيات الله متلوة عليه من ربه، وإن كان جبريل عليه السلام، هو الذي ينقلها إلى النبي.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1323 وهذا يعنى أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- إذ يتلقى آيات الله، من جبريل عليه السلام، يجد فيها نداء الحق سبحانه وتعالى له، ويسمع خطابه سبحانه وتعالى إليه.. ونقول- والله أعلم- إن النبي- صلوات الله وسلامه عليه- حين كان يوحى إليه بآيات الله، يسمع ما يوحى إليه لفظا من جبريل، ومعنى من الله سبحانه وتعالى.. وعلى هذا المعنى يكون الضمير «نا» فى قوله تعالى: «قرأناه» عائدا إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى جبريل، أي أن الحق سبحانه وتعالى يقول للنبى: إذا قرأت القرآن عليك بمعناه، وقرأه جبريل عليك بألفاظه، فلا تعجل بتحريك لسانك. بترجمة هذه المعاني إلى ألفاظ، بل تمهل وخذ الألفاظ التي يلقيها عليك جبريل، حتى تتحقق الصورة الكاملة، للمطابقة بين اللفظ والمعنى!!. وعلى هذا المعنى يكون قوله تعالى: «فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ» أي اتبع قراءة رسول الوحى جبريل، وقف عند حدود الألفاظ التي يلقيها إليك، ولا تتازعه بما يسبق إليه خاطرك من كلمات تريد أن تمسك بها من هذه المعاني التي قذفها الله سبحانه وتعالى فى قلبك، قبل أن تفلت منك.. وهذا المعنى الذي ذهبنا إليه، هو معنى لا نظن أحدا من المفسرين قد التفت إليه، على كثرة ما توارد على هذه الآية من مختلف الآراء.. فنرجو أن يكون هذا الرأى أقرب إلى الحق، وأدنى إلى الصواب.. ولعل هذا يفسر لنا تلك الحال التي كانت تعرو النبي فى أثناء الوحى، وما كان يغشاه من شدة، حتى إن جبينه ليتفصد عرقا فى اليوم الشديد البرد كما تقول السيدة عائشة رضى الله عنها!! الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1324 وليست هذه الحال التي كان يعانيها النبي من الوحى- دون سائر الأنبياء- ليست إلا لأن الله سبحانه وتعالى يتجلى على النبي- صلوات الله وسلامه عليه- فى كلماته القرآنية، ساعة تلقيها من جبريل.. ونقول إن تلك المعاناة التي كان يعانيها النبي من الوحى، هى خاصة به وحده، دون ما نعرف من الوحى الذي يوحى إلى الأنبياء، والرسل، لأن الذي يقصه القرآن علينا من أمر الرسل، وصلتهم بالوحى، هو أن- رسول الوحى، أو رسل الوحى، كانو يجيئون إليهم فى صورة بشرية كاملة، يلتقون بهم فيها كما يلتقى الناس بالناس، ويتحدثون إليهم كما يتحدث الناس إلى الناس.. فلم يكن الرسول من هؤلاء الرسل الكرام، يشعر بأن قوة خفية دخلت عليه، أو خالطت وجدانه، ومدركانه، وذلك على غير ما كان فى حال الوحى مع رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وما كان يلقى فى تلقّى الوحى من شدّة. فقد جاء الوحى إلى إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل فى صورة رؤيا رآها فى المنام.. كما يقول سبحانه على لسانه: «يا بُنَيَّ.. إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ.. فَانْظُرْ ماذا تَرى» (102: الصافات) .. كذلك جاء الوحى إليه فى صورة جماعة من الضيوف، نزلوا عليه: «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ. فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ، فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ. فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ، فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ، قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ» (24- 30: الذاريات) الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1325 كذلك جاء، الوحى إلى لوط عليه السلام، فى صورة هؤلاء الضيف الذين نزلوا على إبراهيم.. وفيهم يقول لوط لقومه: «إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ. وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ» (68- 69: الحجر) .. ويقولون هم- أي الملائكة- الوط: «يا لُوطُ.. إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ» .. وإذا كان من الرسل من تلقّى الوحى على صورة أشبه بالصورة التي تلقى عليها النبي كلمات ربه- فهو موسى عليه السلام.. ونقول أشبه بالصورة التي تلقّى عليها النبىّ كلمات ربّه، ولا نقول مثلها، لأن موسى- عليه السلام- كان يسمع من ربّه حقائق المعاني التي يلقيها إليه، ثم يصوغها هو فى الألفاظ التي يراها مناسبة لها.. ولهذا، فإنّ موسى- وإن أخذه جلال التجلي لكلمات الله عليه.. فإن ذلك كان أخفّ عليه وطئا مما كان يأخذ النبىّ صلوات الله وسلامه عليه، لأنّ النبىّ مع وقوعه تحت سلطان هذا التجلّى، كان واقعا من جهة أخرى تحت غشيان الرّوح السماوىّ له، وتلبسه به، ونقل كلمات الله إليه.. فالنبىّ هنا واقع تحت سلطان التجلّى من الله سبحانه وتعالى عليه، وتحت تلبّس الملك السماوىّ- جبريل- به.. ولهذا كان عليه الصلاة والسلام، يعانى من شدّة الوحى أكثر مما كان يعانى موسى عليه السلام.. أما الشريعة الموسوية، فقد تلقاها موسى عليه السلام مكتوبة فى الألواح.. وما كنّا نريد أن نذهب إلى هذا الذي ذهبنا إليه فى مفهومنا لتلك الآيات مخالفين بذلك أكثر المفسرين، فى فهمها على غير هذا الفهم. ثم ما كنا نريد أن نذهب إلى أبعد من هذا الذي ذهبنا إليه.. ولكن الأمر ليس إلينا، ونحن بين يدى آيات الله.. إنها هى التي تشدنا إليها، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1326 وتبسط سلطانها علينا، فلا تملك أن نبرح ساحتها إلا باستئذان، وإذن، منها، وإنه لكفران بالإحسان أن نبرح هذا المنزل الكريم الذي نزلناه من تلك الآيات، وأن نقطع هذا الرزق الموصول إلينا من بين يديها، وأن نعجل بقطع هذا الخير الذي تلقانا به. فنحن سنمضى معها على هذا الطريق إلى غايته، نرجو مزيدا من العطاء ونلتمس مزيدا من النور.. ويلقانا هنا سؤال: لماذا لم يجىء الوحى إلى النبىّ فى صورة بشرية، على نحو ما كان يأتيه عليه فى بعض الأحيان.. فيكون ذلك أخفّ وطئا عليه، من الصورة الملكية التي كان يأتيه عليها فى معظم الحالات، والتي كان يعانى منها ما يعانى من شدّة؟ والجواب على هذا- والله أعلم- هو أن الأحوال التي كان يأتى عليها الموحى به قرآنا، كان الوحى صورة خاصة، لا تتبدّل، ولا تختلف، وإن كان الموحى به حديثا قدسيا، جاء الوحى على صورة خاصة أيضا، وإن كان الموحى به حكمة، وهى السنة القولية أو الفعلية، كما يشير إليه قوله تعالى: «ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ» (39: الإسراء) - نقول إذا كان الموحى به حكمة، جاء الوحى على صورة خاصة كذلك.. وهكذا.. روى أن الحارث بن هشام سأل النبىّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله: كيف يأتيك الوحى؟ قال: «أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1327 وهذا أشده علىّ، فيفصم عنى وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل الملك رجلا فأعى ما يقول» . فالحال التي كان يأتى فيها الوحى مثل صلصلة الجرس، هى الوحى الذي ينزل بالقرآن، حيث لا يستطيع رسول الوحى، جبريل عليه السلام، أن يبلّغ كلمات القرآن إلا وهو فى حال الملكية، وهنا يجذب النبىّ إلى الخروج من حالة البشرية إلى حال هو أقرب فيها إلى عالم الملائكة، وهذا لا يكون إلا عن مجاهدة عظيمة، وإلا بعد معاناة، يجد منها النبىّ كربا، ويعانى منها شدة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «ثُمَّ دَنا، فَتَدَلَّى، فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى» (8- 9: النجم) . أمّا فى حال تمثّل الملك رجلا، فإن الملك هو الذي يحاول الخروج من صورته الملكية إلى صورة بشرية، فيلتقى بالنبيّ، كما يلتقى الإنسان بالإنسان.. وهذه الكيفية من الوحى، تكون فيما يوحى به إلى النبىّ من الأحاديث والسنن القولية أو الفعلية، أو التقريرية، التي أثرت عن النبىّ.. من قول أو فعل أو تقرير.. فى حال التشريع، وهو وحي من عند الله كذلك، وهذا مما يشير إليه قوله تعالى: «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى» (3: النجم) . وقد ثبت من تاريخ نزول القرآن، أن النبىّ صلى الله عليه وسلم، كثيرا ما كان ينزل عليه الوحى وهو بين أصحابه، فيغشاه ما يغشاه من شدّة، حتى إذا قتّى الوحى، كان أول ما يتحدث به الرسول إلى أصحابه وكتّاب وحيه، هو ما نزل به الوحى عليه من آيات ربّه.. وهكذا، فى جميع ما يروى من الأخبار الثابتة.. كل حال كان يأتى فيها الوحى إلى النبىّ مثل صلصلة الجرس، كان الموحى به إليه فى تلك الحال، قرآنا كريما، لا حديثا قدسيا، ولا سنة قولية أو فعلية.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1328 كذلك ثبت من تاريخ السنّة النبوية.. القولية، والتقريرية.. أن ما كان يوحى به إلى النبىّ فى هذا المقام، إمّا بإلهام من الله، وإمّا بوساطة رسول الوحى يتمثل النبىّ فى صورة بشرية.. فقد ثبت أنه حيث فرضت الصلاة، جاء جبريل إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم، وأخذ بيده، ثم همز الأرض بقدمه، فتفجر الماء، فتوضأ، وتوضا النبىّ معه.. ثم صلى به الصبح.. وفعل كذلك مع النبىّ عند صلاة الظهر والعصر، والمغرب، والعشاء.. وبيّن له أوقاتها، وعدد ركعاتها.. وكما فعل جبريل مع النبىّ، فعل النبىّ مع المؤمنين، وصلّى بهم الصلوات المفروضة، ثم قال: «صلّوا كما رأيتمونى أصلّى» . يروى عن ابن عباس قال: «لما افترضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم- أتاه جبريل، فصلى به الظهر حين مالت الشمس، ثم صلى به العصر حين كان ظلّه مثله، ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب الشفق، ثم صلى به الصبح حين طلع الفجر، ثم جاءه فصلى به الظهر من غده، حين كان ظله مثله، ثم صلى به العصر حين كان ظله مثليه، ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس لوقتها فى الأمس، ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب ثلاث الليل الأول، ثم صلى به الصبح مسفرا غير مشرق.. ثم قال: «يا محمد، الصلاة فيما بين صلاتك اليوم وصلاتك بالأمس» .. وعن أبى هريرة رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «سلونى، فهابوا أن يسألوه، فجاء رجل فجلس عند ركبته، فقال: «يا رسول الله: ما الإسلام؟ قال: لا تشرك بالله شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان» قال: صدقت! قال: «يا رسول الله: ما الإيمان؟ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1329 قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه، ورسله، وتؤمن بالبعث، وتؤمن بالقدر كله» قال صدقت! قال يا رسول الله: «ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإنك إن لا تكن تراه فإنه يراك! .. قال صدقت، ثم قام الرجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ردّوه علىّ» فالتمس فلم يجدوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا جبريل، أراد أن تعلّموا إذ لم تسئلوا» ! ومن ذلك أيضا، ما روى من أن النبىّ صلى الله عليه وسلم، دعا الناس، فقال هلّموا إلىّ، فأقبلوا إليه، فقال: «هذا رسول رب العالمين، جبريل، نفث فى روعى أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها، وإن أبطأ عليها، فاتقوا الله، وأجملوا فى الطلب» . ولا يعترض على هذا بما كان من أول لقاء لجبريل مع النبىّ فى غار حراء، وأنه جاءه- كما يقال- فى صورة بشرية، وأنه أقرأه قوله تعالى: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» - فكيف إذن يتفق هذا مع القول بأن الوحى القرآنىّ إنما كان ينزل به جبريل على النبي فى صورته الملكية، دائما، وفى جميع الأحوال؟ وردّنا على هذا، أن جبريل إذا كان فى أول لقاء له مع النبىّ، قد جاء فى صورة بشرية- فإنه لم يلقه بالقرآن من أول الأمر، وإنما الذي حدث- كما هو ثابت فى تاريخ القرآن- أن جبريل دعا النبي إلى أن يقرأ، فقال له: «اقرأ» .. هكذا قراءة مطلقة، وأن النبي أجابه الجواب الذي تقتضيه داعية الحال، فقال: «ما أنا بقارئ» .. وهكذا تردد الأمر بين جبريل والنبي، ثلاث مرات، فلما الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1330 كانت الرابعة غطّه جبريل غطّا شديدا، كاد يفقد معه وعيه.. ثم قال له: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ..» الآيات. فهذا هو القرآن الذي أوحى به جبريل إلى النبي، وقد أوحاه إليه فى صورة خرج بها عن حاله التي تمثل فيها له بشرا.. فإن هذه الغطة غيّرت الموقف تغيرا تاما، فجمعت بين جبريل، وبين النبي فى كيان ملكى بشرى.. فكان النبي بشرا يقترب من الملك، وكان جبريل ملكا يقترب من البشر! وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه من أن الوحى القرآنى، كان دائما على تلك الصورة التي لا يتمثل فيها جبريل رجلا، يخا؟؟؟ ب النبىّ بلسان بشرىّ، وإنما كان يأتيه مثل صلصلة الجرس.. والذي نريد أن نصل إليه من حديثتا هذا، هو أن القرآن الكريم، كان يتلقاه النبي من الوحى على صورة خاصة ملازمة دائما، وهى أن جبريل كان فيها لا يخرج عن صورته الملكية إلا بالقدر الذي يستطيع فيه أن يلتقى مع النبي وهو ساع إلى لقائه فى صورة ملائكية، بشرية، كما كان النبي يرتفع إلى أعلى أفق نحو الملائكية، ولا ينسلخ انسلاخا كاملا من ثوب البشرية، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى، فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى» (8- 9: النجم) على ما ذهبنا إليه فى تفسير هذه الآيات فى سورة النجم، وعلى أن الضمير فيها عائد إلى جبريل عليه السلام. وهذا يعنى أن جبريل عليه السلام، كان فى تلك الحال التي ينزل فيها بالقرآن واقعا تحت تجلّى الله سبحانه وتعالى عليه بكلماته التي يوحيها إلى النبي. فجبريل إذ يتصل بالنبي، فى مقام تنزل آيات الله عليه- يكون فى حال أشبه بحال النبي.. كلاهما يتلقى تجليات آيات الله عليه، وإن كان جبريل هو الذي يتلقى صدمة الصعقة أولا، حتى يخّف على النبي وقعها.. وهذا يعنى أن النبي- الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1331 صلوات الله وسلامه عليه- إنما يسمع كلام الله سبحانه وتعالى له، من خلال جبريل، أي أن جبريل عليه السلام يكون أشبه- مع المفارقة البعيدة فى صورتى التشبيه- بجهاز استقبال وإرسال معا.. يتلقى كلام الله سبحانه وتعالى، فتنطبع عليه صورته، ثم يذيعه كما انطبع عليه.. ولهذا كان يسمع النبي- الوحى- فى تلك الحال- كصلصلة الجرس، أي أنه يأت يه من جميع الجهات، لأن المتكلم به هو الله سبحانه، ولو كان جبريل هو المتكلم بالقرآن لسمع النبي كلامه من جهة واحدة، كما كان يحدث فيما يوحى به جبريل من أحاديث قدسية، أو أحاديث نبوية.. والله أعلم. هذا، وبعد أن فرغت من تقرير هذا الرأى، اطلعت على رأى لعالم جليل من علماء سلفنا الصالحين، هو الدباغ، فى كتابه «الإبريز» الذي تلقاه عن ابن المبارك.. وفى هذا الرأى يذكر الدباغ فروقا دقيقة بين القرآن الكريم، والحديث القدسي، والحديث النبوي، ومن هذه الفروق تتبين الأحوال التي كان عليها النبي، وهو يتحدث بالقرآن، أو بالحديث القدسي، أو الحديث النبوي. وقد رأينا أن ننقل كلمات الدباغ «1» ، لأنها تلقى أضواء كاشفة على موضوعنا هذا، الذي قررنا فيه أسلوب الوحى القرآنى، وكيف كان يوحى به إلى النبي.. سئل الدباغ عن الفرق بين القرآن، والحديث القدسي، والحديث النبوي.. فقال: «الفرق بينها، وإن كانت كلها خرجت من بين شفتيه صلى الله عليه وسلم، وكلها معها أنوار من أنواره صلى الله عليه وسلم- أن النور الذي فى   (1) نقلا عن كتاب: «مع الفكر الإسلامى فى بعض قضاياه» - للعالم الرباني الأستاذ محمد شاهين حمزة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1332 القرآن قديم، من ذات الحق سبحانه، لأن كلامه تعالى قديم.. والنور الذي فى الحديث القدسي من (روحه) صلى الله عليه وسلم، وليس هو مثل نور القرآن، فإن نور القرآن قديم، ونور هذا- أي الحديث القدسي- ليس بقديم.. والنور الذي فى الحديث الذي ليس بقدسى من (ذاته) صلى الله عليه وسلم.. فهى أنوار ثلاثة، اختلفت بالإضافة.. فنور القرآن من ذات الحق، ونور الحديث القدسي من روحه صلى الله عليه وسلم، ونور ما ليس بقدسى، من ذاته صلى الله عليه وسلم.. فلما سئل الدباغ: ما الفرق بين نور الروح، ونور الذات؟ أجاب: الذات خلقت من تراب، ومن التراب خلق سائر العباد، والروح من الملأ الأعلى، وهم- أي الملأ الأعلى- أعرف الخلق بالحق سبحانه.. وكل واحد- أي من الذات والروح- يحنّ إلى أصله، فكان نور الروح متعلقا بالحق سبحانه، ونور الذات متعلقا بالخلق، فلذا ترى الأحاديث القدسية تتعلق بالحق سبحانه، بتبيين عظمته أو إظهار رحمته، أو بالتنبيه على سعة ملكه، وكثرة عطائه، فمن الأول، حديث: «يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم..» ومن الثاني، حديث: «أعددت لعبادى الصالحين..» ومن الثالث حديث: «يد الله ملأى ... » وهذه من علوم الروح فى الحق سبحانه.. أما الأحاديث التي ليست بقدسية، فتتكلم على ما يصلح البلاد والعباد، بذكر الحلال والحرام، والحث على الامتثال بذكر الوعد والوعيد.. ثم يمضى الدباغ فى حديثه عن الفرق بين القرآن والحديث القدسي، والحديث النبوي يقول: إن الأنوار من الحق سبحانه، تهّبّ على ذات النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تحصل له مشاهدة خاصة، وإن كان دائما فى المشاهدة.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1333 فإن سمع من الأنوار كلام الله سبحانه، ونزل عليه ملك، فذلك هو القرآن.. وإن لم يسمع كلاما، ولا نزل عليه ملك، فذلك وقت الحديث القدسىّ، فيتكلم عليه الصلاة والسلام، ولا يتكلم حينئذ إلا فى شأن الربوبية بتعظيمها، وذكر حقوقها.. وأما الحديث الذي ليس بقدسى، فإنه يخرج من النور الساكن فى ذاته عليه السلام، الذي لا يغيب عنه أبدا، وذلك أنه عز وجل أمدّ ذاته عليه السلام بأنوار الحق، كما أمد جرم الشمس بالأنوار المحسوسة.. فالنور لازم الذات النبوية الشريفة، لزوم نور الشمس لها. ثم يزيد الدباغ الأمر وضوحا فيقول: «إذا تكلم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الكلام بغير اختياره فهو القرآن.. وإن كان باختياره، فإن سطعت حينئذ أنوار عارضة، فهو الحديث القدسي، وإن كانت الأنوار الدائمة، فهو الحديث الذي ليس بقدسى، ولأن كلامه صلى الله عليه وسلم لا بد أن يكون معه أنوار الحق سبحانه، كان جميع ما يتكلم به وحيا يوحى.. وباختلاف أحوال الأنوار افترق إلى الأقسام الثلاثة» . وهذه الأنوار القدسية التي يشير إليها «الدباغ» والتي يستمد منها النبي- صلوات الله وسلامه عليه- القرآن والحكمة- هى أنوار النبوة المفاضة عليه من ربه، فكان صلوات الله وسلامه عليه نورا من نور الحق، كما كانت كلماته من كلمات الله سبحانه.. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى فى قوله: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1334 وَسِراجاً مُنِيراً» (45- 46: الأحزاب) .. فهو- صلوات الله وسلامه عليه سراج منير، وهو نور هذا السراج كما يشير إليه قوله تعالى: «قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ» (15: المائد) قوله تعالى: «ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ» .. هو تطمين للنبى- صلى الله عليه وسلم- بأنه لن يفوته شىء مما تجلّى عليه من آيات الله، وما قذف الله سبحانه وتعالى فى قلبه من معانيها، التي كان يريد النبي أن ينطق بها، ويصورها كما وقعت له.. فليقف النبىّ إذن عند حدود الألفاظ التي يلقيها عليه جبريل، وإن كانت هذه الألفاظ لا تكشف كل ما وقع فى قلبه من معنى، فإنه مازال الوحى يتنزل، وما زالت آيات الله تجىء بتفصيل ما أجمل من أحكام، وأحداث، وقصص.. ولعل هذا هو السر فى العطف بالحرف «ثمّ» التي تفيد التراخي، حيث إن البيان إنما تمّ فى زمن متباعد، ينتظم فترة الوحى كلها، من مبدأ أول آية نزلت إلى أن تم نزول القرآن كله. فمثلا قصة موسى مع فرعون.. جاءت أولا فى كلمات معدودة، وفى صورة مصغرة جدا، مثل قوله تعالى: «وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ» (10- 13: الفجر) . ومثل قوله سبحانه: «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى فَكَذَّبَ وَعَصى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى» (15- 25: النازعات) الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1335 ففى هذا العرض الموجز لقصة موسى، كان النبي يرى فى كلمات الله تلك، - بما قذف الله سبحانه وتعالى فى قلبه من أنوار الحق- كان يرى القصة كاملة، تتحرك على مسرح الحياة، بأحداثها، وأشخاصها، وأمكنتها.. ثم كان يحاول فى أول الوحى أن يمسك بالصورة كاملة، كما وقعت له، فجاء الأمر الرباني: «لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ.. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ» قوله تعالى: «كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ» هو بيان للطبيعة البشرية التي يغلب عليها حب العاجل من الأمور، والتطلع إلى الثمرة قبل الغرس.. وترى هذه الطبيعة واضحة فى موقف آدم من الشجرة التي نهاه الله سبحانه وتعالى عن الأكل منها، مع إطلاق يديه جميعا للأكل من كل فواكه الجنة.. ولكنه زهد فى هذه الفواكه كلها، ومدّ يده إلى تلك الفاكهة المحرمة، فأكل منها، وعصى أمر ربه، وتعرض لما يتعرض له العصاة، من اللوم والعقاب.. ولم تكن هذه الشجرة، بأكرم أشجار الجنة، ولا أطيبها فاكهة، ولكنه حبّ الاستطلاع، والرغبة فى الحصول على كل شىء فى اليوم الحاضر، دون نظر إلى الغد.. وحب العاجل كما يكون فى المذموم، يكون فى المحمود.. كالسبق إلى الخير، والمبادرة بالأعمال الصالحة.. فهذا من مطالب النفوس الطيبة، ومن شهواتها، إن صح هذا التعبير.. إنها تشتهى الخير، والإحسان، وتستكثر منه فى يومها، كما تستكثر النفوس الخبيثة من الخبيث فى حاضرها، غير مبقية الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1336 شيئا لغدها، كما يقول سبحانه عن أصحاب هذه النفوس التي استنفدت كل جهدها فى الحياة الدنيا: «أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ» (20: الأحقاف) والمخاطبون بقوله تعالى: «كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ» هم المشركون، والكافرون، وأصحاب الضلالات، الذين كفروا بالحياة الآخرة وأخلوا مشاعرهم من التعلق بها، والإعداد لها.. وقد حسنت مواجهة المنكرين للبعث، الذين يؤثرون العاجلة، ويذرون الآخرة- حسنت مواجهتهم فى هذا المقام، الذي يكشف عن أنفسهم، وهم فى مواجهة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وحبه لعاجل الأمور فى مقام تفصيل الخير، والاستزادة من العلم.. فهذا مقام، وذاك مقام، وإن اشتركا معا فى أن حبّ العاجلة قسمة بينهما.. وفى هذه المفارقة البعيدة، يرى المشركون مدى استغراقهم فى الضلال، وأنهم إنما ينهون عن الاستزادة من المنكر، والضلال، على حين ينهى غيرهم عن الاستزادة من الخير والإحسان، حتى لا يشق على نفسه، ولا يكلفها فوق ما تطبق.. فالرسول يدعو إلى شريعة قائمة على السماحة ورفع الحرج، وإنه لأولى عباد الله بالأخذ لنفسه من سماحتها ويسرها.. قوله تعالى: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» . هو عرض لأحوال الذين يؤمنون بالآخرة، ويعملون لها.. فها هى ذى الآخرة، وهذه هى أحوال أهلها، وما يقع للناس فيها.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1337 فالناس هناك فريقان: مؤمنون، وكافرون.. والمنازل هناك منزلان: الجنة.. والنار فالمؤمنون منزلهم الجنة، والكافرون مأواهم النار.. وفى عرض أصحاب الجنة يومئذ بما يكشف عن وجوههم وحدها، هو عرض لحالهم جميعها، ظاهرها، وباطنها، حيث تبدو على الوجه أحوال الإنسان، وما يكون عليه من نعيم أو شقاء، ومن طمأنينة أو جزع.. ونضارة الوجوه، تحدّث عن النعمة التي يعيش فيها أصحابها، وعن الخصب والخير الذي يحفّ بهم، حتى لقد فاضت الوجوه نضارة وبشرا، وحتى لكأنها الزهر المتفتح على أنسام الربيع فى روض أريض. وقوله تعالى: «إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» أكثر المفسرون من المقولات التي تقال فى تأويل الوجوه الناظرة إلى ربها، وهل فى الإمكان رؤية الله؟ إن الرؤية معناها تحديد المرئىّ وتجسيده، والله سبحانه منزه عن التحديد والتجسيد.. فكيف يمكن رؤيته؟ وهذه قضية استنفدت كثيرا من جهد العلماء، من المتكلمين وأهل السنة، ولو أنصف هؤلاء وهؤلاء عقولهم، لأمسكوا بها عن الخوض فى لجج هذا البحر الذي لا ساحل له، فإن عقولنا تلك، إنما خلقت لهذا العالم الأرضى، ولكشف ما فيه من حقائق، أما عالم الآخرة، فعقولنا بمعزل عنه، فكيف بذات الله سبحانه وتعالى؟ وكيف بعقولنا المحدودة القاصرة يراد لها أن تحتوى هذا الجلال الذي لا حدود له، والذي وسع كرسيه السموات والأرض؟ ولهذا، فإن خير ما يحمل عليه قوله تعالى: «إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» هو ما ذهب إليه السلف من أن المراد بالنظر إلى الله، هو النظر إلى رحمة الله، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1338 والطمع فى رضوانه، والتعلق بالرجاء فيه، فى ذلك اليوم الذي ينقطع فيه كل رجاء إلا منه جلّ وعلا.. وهذا النظر إلى رحمة الله، لا يختلف عن معنى الرغبة إلى الله، والرجوع إليه، كما يقول سبحانه: «إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ» (32: القلم) وكما يقول جل شأنه: «وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» (156: البقرة) أما النظر فى وجه الله سبحانه وتعالى فى الآخرة، وأما إمكانه وكيفيته، فذلك- إن صحت الأخبار المروية عنه- مما نؤمن به غيبا، ولا نبحث عنه صورة وكيفا!! قوله تعالى: «وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ» . هو معطوف على قوله تعالى: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ..» وهو عطف حال على حال، ومقام على مقام.. فهناك وجوه ناضرة إلى ربها ناظرة، تقابلها فى الجانب الآخر، وجوه باسرة، أي كالحة مغبرّة، تتوقع أن يفعل بها الفواقر، وهى الدواهي والمهلكات.. والوجوه الناضرة، الطامعة فى رحمة ربها، هى وجوه المؤمنين، والوجوه الكالحة المتوقعة الهلاك، هى وجوه المشركين، والضالين.. وقوله تعالى: «كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ وَقِيلَ مَنْ راقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ.» . هو إعراض عن حديث يوم القيامة، الذي لا يصدّق به المشركون، وعرض لهذا المشهد الذي يراه الناس بأعينهم فى الحياة الدنيا، وهو مشهد الموت، الذي ينهى حياة الإنسان من هذا العالم الدنيوي.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1339 وفى هذا المشهد يرى المكذبون بيوم القيامة- كما يرى غيرهم- حالا من أحوال النّزع والاحتضار، وقد بلغت الروح فيها الحلقوم، كما يقول سبحانه فى آية أخرى: «فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ. وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ. فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (83- 87: الواقعة) : وقد جاء التعبير هنا عن بلوغ الروح الحلقوم، ببلوغها التراقى- وهى جمع ترقوة، والترقوتان من الإنسان هما عظمتان تمتدان يمينا وشمالا من ثغرة النحر إلى العنق- وفى ذلك ما يدل على أن الروح تتحرك أثناء النزع والاحتضار، فتنتقل من التراقى أي النحر، إلى الحلقوم، فإذا بلغت الحلقوم لفظ الإنسان أنفاسه الأخيرة، إذ كان ذلك آخر حدود الروح مع الجسد وقوله تعالى: «وَقِيلَ مَنْ راقٍ» أي التمس أهل المحتضر، الاساة والرقاة لدفع يد الموت الممتدة إليه، وهو ينازع سكراته.. والراقي، هو من يسترقى للمريض بالرّقى والتعاويذ ونحوها، رجاء أن يشفيه من دائه، أو يخفف ما به والرّقى، أسلوب من أساليب التطبب والاستشفاء عند الجاهليين، وقد ذكره القرآن هنا على لسان المتعاملين به، فهو من واقع الحال، الذي يقتضى الصدق نقله كما هو.. وقوله تعالى: «وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ» .. بيان لمرحلة ثالثة من مراحل الاحتضار.. حيث كانت المرحلة الأولى، هى بلوغ الروح التراقى، ثم كانت المرحلة الثانية استدعاء الرقاة والمتطببين.. ثم كانت المرحلة الثالثة، وهى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1340 اليأس من رقى الرقاة، فقد تيقن أهل المحتضر أنه لا يلبث إلا قليلا حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة، وها هى ذى الروح وقد بلغت الحلقوم. وقوله تعالى: «وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ» بيان لمرحلة رابعة، فى مسيرة هذا المحتضر.. إنه لا يموت، ويتحول إلى عدم، كما يظن ذلك الذين يكذبون بالحياة الآخرة، بل إنه سيحيا فى عالم آخر.. فبعد خروج الروح من هذا الجسد، تنطلق إلى عالم الحق، وتساق سوقا عنيفا إلى ربها، فيلتف الساق بالساق من شدة الكرب، وثقل البلاء، لأن هذه الروح، روح إنسان لم يكن يؤمن بربه، ولم يكن ممن يصدق بآيات الله وبرسل الله، ولم يكن من المصلّين، الذين استجابوا لله، كما يقول سبحانه: «فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى، وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى» .. أي كذب بآيات الله معرضا عنها: «ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى» أي حين أعطى ظهره معرضا عن آيات الله، أقبل على أهله، ومجتمع ناديه، يمشى معجبا بنفسه، نافحا صدره، مادّا عنقه، فاردا جناحيه، كأنه القائد المظفر، وقد عاد من الميدان يسوق بين يديه الغنائم والأسرى! والتفاف الساق بالساق، كناية عن الشدة والكرب، حيث لا يقوى المرء على التحكم فى أوصاله، أو أن يضبط حركات رجليه، فهو يمشى متخالجا متماوجا، كما يمشى المصروع.. الآيات: (34- 40) [سورة القيامة (75) : الآيات 34 الى 40] أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1341 » التفسير: قوله تعالى: «أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى» - هو دعوة إلى هذا المشرك، الكافر باليوم الآخر، المكذب بالبعث، والحساب، والجزاء- دعوة له إلى ما هو أولى به، وأحسن عاقبة له.. ولم تصرح الآية الكريمة بهذا الأولى، الذي يدعى إليه هذا الضال، بل جعلته مطلقا من غير تحديد.. وفى هذا ما يشير إلى أمور: فأولا: أن ما فيه هذا الضال من ضلال، هو أمر واضح لا يحتاج بيان ما فيه من نكر، إلى عرض الوجه المقابل له، لأنه مستغن بذاته عن أن يدل على شناعته. وثانيا: أن أي مذهب يذهبه هذا الضال، هو أهدى سبيلا من طريقه الذي يسير فيه، والذي سيلقى به فى التهلكة، إن هو تابع مسيرته عليه.. وثالثا: أن إطلاق هذه الدعوة، التي لا تحمل غير الإشارة إلى أن هناك حالا أولى من تلك الحال التي هو فيها، دون الإشارة إلى الحال التي يراد منه الاتجاه إليها- فى هذا ما يوقظ مشاعر هذا الإنسان الغارق فى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1342 ضلاله، ويهز كيانه كله، حين ينبّه إلى أن هناك خطرا محدقا به، دون أن يكشف له عن طريق النجاة من هذا الخطر.. إن عليه وحده أن يعرف مصدر هذا الخطر، وعليه وحده أن يجد الطريق إلى الفرار منه.. وذلك من شأنه أن يبعث فيه كل القوى الواعية المدركة ليدفع عن نفسه هذا البلاء المشتمل عليه، وليطفىء بيديه هذه النار المشتعلة فيه.. وقد كررت الدعوة فى قوله تعالى: «أَوْلى لَكَ فَأَوْلى» للتوكيد.. ثم كررت هذه الدعوة مؤكدة أيضا فى قوله تعالى: «ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى» مبالغة فى التنبيه والتحذير.. ويرى أكثر المفسرين أن قوله تعالى: «أَوْلى لَكَ فَأَوْلى. ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى» - هو تهديد ووعيد، وأن المراد بما هو أولى له، هو النار المعدّة له، وأن ذلك العذاب هو ما يدعى إليه.. هذا المكذب بآيات الله والرأى- والله أعلم- هو ما ذهبنا إليه، من أن هذا إلفات وتنبيه وإغراء بالرجوع إلى الله، وأخذ طريق غير طريق الضلال الذي يركبه هؤلاء الضالون.. والآيات التي جاءت عقب هذا الإلفات تؤيد الرأى الذي ذهبنا إليه، لأنها تحاجّ الإنسان وتفتح له طاقات من نور يمكن أن يرى على ضوئها طريق الحق فيسلكه.. قوله تعالى: «أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً» .. هو تعقيب على هذه الدعوة الموجّهة إلى منكرى البعث والحساب والجزاء.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1343 والإنسان هنا، هو جنس الإنسان المكذب بالبعث والحساب والجزاء. وفى الاستفهام إنكار لموقف هذا المنكر ليوم القيامة، لأنه يظن أن أن يترك سدى، أي هملا، بلا حساب، أو جزاء.. وهذا ظن خاطئ من وجوه: فأولا: أن العاقل لا يرضى لنفسه أن ينزل إلى مرتبة الحيوان، وأن ينظر إليه نظرة من يعفى من تبعة أعماله، فتلك حال لا يصير إليها الإنسان إلا إذا كان ناقص الأهلية، أو فاقدها.. وثانيا: الإنسان فى هذه الحياة، إذا أحسن عملا انتظر جزاء إحسانه، وتوقع الخير من ورائه، وأنه إذا لم يجد هذا الجزاء، استشعر مرارة الغبن وخفت فى نفسه موازين الإحسان، كما أنه إذا أسىء إليه، توقع أن يؤخذ له بحقه ممن أساء إليه، وإلا تحول إلى حيوان يستعمل مخالبه وأنيابه، مهاجما ومدافعا، فكان لا بدّ من حساب يسوّى عليه ما بين الناس من مظالم.. وثالثا: هذا الاختلاف بين مذاهب الناس فى الحياة، من محسنين ومسيئين، وعاملين، ومقصرين، وأخيار وأشرار، ومظلومين وظالمين- إلى غير ذلك مما يجعل كل إنسان منهم عالما قائما بذاته- هذا الاختلاف الحاد بينهم فى هذه الحياة، لا بد له أن يسوى، فيكون الأخيار فى جانب، والأشرار فى جانب، بعد أن كشفت تجربة اجتماعهم معا فى الحياة عن هذه المتناقضات.. وهذا لا يكون إلا فى عالم غير هذا العالم، وفى حياة غير هذه الحياة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ، ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» (35- 36: القلم) .. وعلى هذا، فإنه أولى فأولى، ثم أولى فأولى لأهل الضلال أن ينزعوا عن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1344 ضلالهم، وأن يطلبوا النجاة والسلامة لأنفسهم من الدينونة والعقاب فى الآخرة التي لا بد منها.. قوله تعالى: «أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى» .. هو دليل من الأدلة الكاشفة عن قدرة الله، وأن من متعلقات هذه القدرة بعث الموتى من القبور.. فهؤلاء الموتى، قد كانوا عدما قبل أن تخرجهم القدرة القادرة إلى الحياة، كما يقول سبحانه: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» (28: البقرة) . وهذا الإنسان الذي ينكر البعث، ويستبعده على قدرة الله- ألا ينظر إلى أثر هذه القدرة فيه؟ ثم ألا يدرس مسيرة حياته، ليعلم من أين بدأ؟ وكيف صار؟ وإلى أين انتهى؟. إنه لم يك شيئا أبدا: «أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً» (67: مريم) .. ثم إنه كان نطفة من منىّ.. لا تعدو أن تكون أشبه بالمخاط، تستقذره النفوس وتمتهنه، كما يقول سبحانه: «أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ» (20: المرسلات) .. وهو مهين لأنه لا ينتفع به فى أي وجه من وجوه النفع، إلا إذا امتدت إليه يد القدرة، فنفخت فيه من روح الحق جل وعلا.. وفى وصف المنى بأنه «يُمْنى» - إشارة إلى أنه لا يكون قابلا للإخصاب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1345 حتى يمنى، أي يخرج من صلب الرجل، بعد أن ينضج، ويصبح صالحا للقذف به فى رحم الأنثى.. قوله تعالى: «ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى» .. أي ثم أصبحت هذه النطفة علقة، وهى النطفة بعد أن تأخذ شكلا جديدا فى مسيرتها نحو الحياة، فتكون قطعة من الدم الغليظ المتجمد، لا حياة، فيها، ولا صورة محددة لها.. وقوله تعالى: «فَخَلَقَ فَسَوَّى» .. فاعل خلق هو الله سبحانه وتعالى، أي فخلق الله سبحانه وتعالى من تلك النطفة، علقة، ثم خلق من تلك العلقة صورا، وأشكالا، فسوّاها حالا بعد حال، وخلقا بعد خلق، حتى كان منها هذا الإنسان السوىّ، الذي يسمع، ويبصر، ويعقل، ويملأ هذه الدنيا خيرا، وشرّا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ» (6: الزمر) .. ولم يذكر فاعل «خلق» لأنه أوضح من أن يذكر، إذ لا خالق غير الله سبحانه وتعالى، لا يشاركه أحد فى هذا الفعل، فحيث ذكر الخلق كان فاعله هو الله سبحانه: «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» (54: الأعراف) وقوله تعالى: «فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى» . أي فجعل الله سبحانه من هذا الخلق السوىّ، الذكر والأنثى، اللذين بهما يتناسل الإنسان وتتكاثر مواليده،.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1346 والخلق- كما قلنا فى أكثر من موضع- هو إيجاد المخلوق على الصورة التي أرادها الله سبحانه وتعالى له، أمّا الجعل، فهو إعطاء المخلوق الصفة الوظيفية التي يقوم بها.. فالخلق إبداع، والجعل تسخير وتسيير لهذا المخلوق المبدع.. وهذا يعنى أن خلق المرأة والرجل يجرى على نسق واحد، ويقع على صورة واحدة، حتى إذا اكتمل خلق الإنسان، انقسم إلى مخلوقين، أحدهما ذكر والآخر أنثى، كاليدين للإنسان، إحداهما يمين، والأخرى شمال.. وباليدين معا يؤدّى الإنسان وظيفته، وبالرجل والمرأة يتم للإنسان وجوده.. فكلّ من الرجل والمرأة نصف الإنسان، وبهما معا يكمل الإنسان، ويكون له القدرة على أداء وظيفته فى الحياة.. أما ما جاء فى قوله تعالى: «وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى» فإن هذا فى مقام إلفات النظر إلى عالم المخلوقات الحية، حيث تبدو هذه المخلوقات فى أجناسها، وكأن كل جنس منها صنف واحد، حيث لا تمايز بين أفراده، مع أنه فى الحقيقة صنفان، ذكور وإناث.. فهذا مقام، وذاك مقام. قوله تعالى: «أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟» .. هذه هى القضية التي نصبت لها تلك الأدلة، التي تحدّث عن قدرة الله سبحانه وتعالى، والتي كانت السورة كلها معارض لتلك القدرة. أي: أليس ذلك الإله الذي خلق الإنسان من نطفة، بقادر على أن يحيى الموتى؟ والجواب على هذا السؤال، هو بالإيجاب الملزم لكلّ ذى عقل أن يجيب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1347 به، إذا هو استجاب للحق، وأذعن لمنطق العقل، ولم يغلبه الهوى، أو يستبدّ به العناد، ويركبه الحمق والغباء. وبهذه الآية تختم السورة، التي كان عنوانها «القيامة» .. فإنه لا قيامة إذا لم يتقرر إمكان بعث الموتى من القبور، فإذا تقرر ذلك، لم يكن الإخبار عن أن هناك بعثا، وقيامة، وحسابا، وجزاء- لم يكن هذا الإخبار بالأمر الذي يمارى فيه، أو يقع موقع الشك أو الإنكار.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1348 76- سورة الإنسان نزولها: مدنية نزلت بعد سورة الرّحمن.. عدد آياتها: إحدى وثلاثون آية.. عدد كلماتها: مائتان وأربعون.. كلمة. عدد حروفها: ألف وخمسون.. حرفا.. مناسبتها لما قبلها كانت سورة «القيامة» معرضا للأدلة، الدالة على قدرة الله سبحانه، وعلى إمكان البعث، ووقوع القيامة.. و «الإنسان» هو موضوع «القيامة» وهو الذي يساق إلى موقف الحساب والجزاء فيها.. فكان جعله عنوانا لسورة خاصة به، ثم كان جعله فى مواجهة يوم القيامة، بعد عرضها عليه- كان ذلك مما يقيم له مرآة ينظر فيها إلى نفسه، وإلى مكانه فى هذا الوجود، وإلى مسيرته فى الحياة، وكيف بدأ، وإلى أين ينتهى. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1349 بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 14) [سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) التفسير: قوله تعالى: «هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً» . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1350 يرى أكثر المفسرين أن الاستفهام هنا لا يراد به حقيقته، وإنما هو بمعنى الخبر، وأن «هل» بمعنى «قد» .. أي قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا..! والرأى عندنا- والله أعلم- أن الاستفهام على حقيقته، وأنه يحمل سؤالا موجها إلى الإنسان ليجيب عليه، وليبحث عن حقيقته، وكيف كان؟ ثم كيف صار؟ ثم إلى أين ينتهى به خط مسيرته؟ فهذا السؤال من شأنه أن يستثير تفكير الإنسان، وأن ينشّط مداركه الخامدة، وأن يفتح عينيه المغمضتين، على هذا الوجود، وعلى القدرة المسيّرة له، والقائمة على هذا النظام الممسك به. ولو لبس الاستفهام صورة الخبر- كما يذهب إلى ذلك المفسّرون- لما، كان له هذا الأثر فى تفكير الإنسان، ولما أحدث فى نفسه تلك المشاعر التي يستثيرها هذا الاستفهام الطارق لها.. والحين من الدهر، هو القطعة المقتطعة من الزمن الطويل.. لأن الدهر زمن ممتد لا نهاية له، والقطعة منه أيّا كانت، هى زمن طويل قد يبلغ ألوف السنين. وهذا يعنى أن الإنسان يمكن أن يكون قد مضى عليه دهر طويل لم يكن فيه شيئا مذكورا، أي ذا ذكر، وأثر مشهود، فى الحياة.. ولو أراد الإنسان أن يجيب على هذا السؤال وهو: كم مضى عليه من الزمن لم يكن شيئا مذكورا؟ - لاقتضاه ذلك أن يرجع ببصره إلى الوراء، وأن يفتش فى أغوار الزمن السحيق عن يوم ميلاده الذي كان فيه شيئا مذكورا.. ثم كان عليه أن يغوص أكثر وأكثر فى أعماق الزمن ليرى وجوده قبل أن يكون شيئا مذكورا.. وفى هذه النظرة العميقة المتفحصة يتسع مجال البحث، وتتشعب مسالك الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1351 الدرس، حتى لتشمل علم الحياة، وكيف بدأت جرثومة الحياة على هذه الأرض، وكيف تطورت هذه الحياة، وكيف لبست صورا، وأشكالا، لا تنتهى عند حدّ؟ إن ذلك يتطلب دراسة شاملة لأصل الحياة على هذه الأرض، ثم لتاريخ الإنسان، وخط مسيرته فى عالم الأحياء، وهذا باب واسع من أبواب العلم والمعرفة، لا تزال معارف الإنسانية كلها تقف على شاطئه. وقوله تعالى: «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً» . هو إشارة إلى موقع من مواقع الإجابة على هذه التساؤلات الكثيرة، التي لا تتصدى للإجابة عليها إلا عقول العلماء الدارسين.. أما هذا الموقع فهو مما تشارك فى إمكان تصوره، والإجابة عليه عقول الناس جميعا، وهو خلق الإنسان من النطفة.. فهذا الخلق عملية مشاهدة، يراها كل إنسان فى مواليده التي يلدها، كما يشهدها فى مواليد الكائنات الحية التي تزخر بها الحياة من حوله.. فهذه دعوة إلى كل عقل، لينظر إلى تلك الحقيقة المشاهدة، فى واقع الحس، والتي لا يستطيع أن ينكرها، أو يكابر فيها.. «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ» .. والنطفة، هى التي أشار إليها قوله تعالى فى آخر سورة القيامة: «أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى» .. والتي هى ماء الذكر، يقذف به فى رحم الأنثى. والأمشاج: هى الأخلاط.. واحدها: مشج، ومشج، ومشيج.. ومشج الشيء بالشيء: هو مزجه وخلطه به. وهذا يعنى أن تلك النطفة وإن بدت فى مرأى العين مجرد ماء، هى فى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1352 حقيقتها ماء مشوب بأشياء أخرى، أودعتها فيه قدرة الخالق جل وعلا، كما أودعت فى هذه البذرة، صورة الشجرة ولون زهرها، وطعم ثمرها.. كذلك هذه النطفة الأمشاج، قد حملت فى كيانها صورة الإنسان، ولونه، ومستوى إدراكه، ومستودع عواطفه، ومشاعره، وكل ما يكون به إنسانا له ذاتيته التي يتميز بها عن غيره من أبناء جنسه! وقوله تعالى: «نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً» أي فجعلنا هذا الإنسان سميعا بصيرا لنبتليه، ونختبر ماذا يعطى من ثمر بهذه القوى التي أودعناها فيه، من السمع والبصر.. وقدّم الابتلاء وهو المسبّب، على سببه الذي هو السمع والبصر المودعان فيه- للإشارة إلى أن الإنسان إنما خلق للابتلاء، وأنه لم يخلق عبثا.. فهو الكائن الوحيد فى هذه الأرض، الذي حمل الأمانة، أمانة التكليف، التي عرضت على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان.. فالفاء فى قوله تعالى: «فجعلناه» فاء السببية، أي فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه.. ووصف الإنسان بأنه سميع بصير، لا بأنه سامع ومبصر، إشارة إلى أن سمعه وبصره ليس كسمع الحيوان وبصره، وإنما هو سمع يحوّل المسموعات إلى حقائق ومعان، تنفذ إلى أعماق المسموع، وإلى ما وراء دلالات الصوت الذي يقع على الأذن من كل ما يطرقها من مسموعات، سواءا كان كلمات، أو غير كلمات.. وكذلك الشأن فى البصر، فهو ليس بصرا ينقل الأشياء إلى العين، كما تنقلها المصوّرة، وإنما هو بصر يدخل إلى دائرة العقل الذي يكشف عن الحقائق المضمرة فى كيان الشيء المبصر.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1353 وبهذا السمع، والبصر، صار الإنسان سميعا، بصيرا، أي ذا قدرة على استطلاع النتائج المرتقبة من كل مسموع ومبصر، وما وراءه.. من خير أو شر، أو حق وباطل.. وبهذه القوى الإضافية التي أضافها الخالق جلّ وعلا إلى الإنسان، وأخرجه بها عن دائرة الحيوان- كان مناطا للتكليف، وأهلا للحساب والجزاء.. قوله تعالى: «إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً» .. أي بهذا السمع والبصر، وما يفعلان فى الإنسان، وما يكشفان له من حقائق- أراه الله سبحانه وتعالى، السبيل الذي ينبغى أن يسلكه، وأقام له على هذه السبيل المعالم التي يقيم بها خطوه عليها، بما بعث إليه من رسل، وما شرع له من شرائع، وما بيّن له من أحكام.. وهنا يترك له الخيار فيما هو صانع بنفسه، فيتقدم أو يتأخر، ويستقيم أو ينحرف، ويشكر، أو يكفر، كما يقول سبحانه على لسان سليمان عليه السلام: «هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ.. وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ» (40: النمل) وكما يقول سبحانه فى آخر هذه السورة: «لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ» .. وقوله تعالى: «إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً» . هو بيان للجزاء الذي سيلقاه الذين يكفرون بالله، ولا يستقيمون على صراطه المستقيم.. ومعنى: أعتدنا، أي أعددنا، وأحضرنا، والسلاسل: القيود، تكون الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1354 فى الأرجل والأيدى.. والأغلال: الأطواق، تكون فى الأعناق.. والسعير: النار المتسعرة بوقودها.. ولا بد هنا من الإشارة إلى الرسم العثماني لكلمة «سلاسلا» ورسمها بالألف، من غير تنوين. وكان من حقها أن تكتب من غير ألف.. والسؤال هنا: لم كتبت بهذا الرسم؟: أذلك لأن الكتابة العربية لم تكن يوم كتابة المصحف العثماني قد استوفت شكلها الكامل، وقامت أسسها على قواعد مضبوطة؟ أم أن ذلك كان عن قصد وعمد؟ والجواب على هذا- والله أعلم- هو أن القول بأن الكتابة العربية لم تكن قد استوفت شكلها النهائى يوم أن كتب المصحف العثماني- قول مستبعد.. وذلك لأن ألفاظا وردت فى القرآن الكريم على صيغة «فعائل» أو «مفاعل» ولم تكتب بالألف، مثل قوله تعالى: «كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً» (11: الجن) وقوله سبحانه: «وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ» (72: التوبة) وقوله تبارك اسمه: «قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ» (100: الإسراء) فلو كان ذلك عن نقص فى رسم الكتابة لأخذت أمثال هذه الصيغ الممنوعة من الصرف، شكلا واحدا فى كتابتها. وإذن فما الحكمة، فى رسم «سلاسلا» بهذه الصورة؟ والذي يقع فى مفهومنا لهذا- والله أعلم- هو أن هذه الألف الزائدة قد زيدت عن قصد، ولحكمة تراد لها، وهى أن هذه الألف تشير إلى معنى مضمر فى كلمة «سلاسلا» وأنها سلاسل طويلة جاوزت فى طولها الحد المعروف للسلاسل التي يقيد بها الحيوان، أو الإنسان.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1355 ولعلّ سائلا يسأل: أهذا يعدّ تفسيرا لبعض كلمات القرآن، يصحب الرسم التي ترسم به هذه الكلمات؟. ونقول- والله أعلم- نعم! إنّه إشارة إلى معنى من معانى الكلمة، ودلالة من دلالاتها، وهذا المعنى أو تلك الدلالة، ليس عن مجرد اجتهاد شخصىّ من كتّاب المصحف العثماني، وإنما هو عن نظر إلى معنى صريح جاء فى آية أخرى، يحدّث عن هذه السلاسل وطولها، وذلك فى قوله تعالى: «ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ» (32: الحاقة) فهل رأى الناس سلسلة طولها سبعون ذراعا يشدّ إليها إنسان أو حيوان؟ فهذه السلاسل، هى من نوع هذه السلسلة الغريبة، ولهذا رسمت ذلك الرسم الغريب فى صورته شكلا، ونطقا.. إذ كانت الألف تحتمل مطّ الصوت بها وامتداده، وإطالته، كما طالت تلك السلاسل، طولا غريبا. وما قلناه فى لفظ «سلاسل» يقال فى لفظ «قَوارِيرَا قَوارِيرَا» ، فقد رسم هذا اللفظ فى الموضعين بألف زائدة فى آخره، دون تنوين.. وهذا الرسم يشير إلى غرابة هذه القوارير، وأنها ليست مما للناس عهد به.. فما رأى الناس أبدا قوارير من فضة، أي أكوابا زجاجية، هى فى حقيقة أمرها من فضة! فالأ كواب إما من فضة، وإمّا من زجاج.. أما أن تكون فضة وزجاجا معا، فذلك هو الذي لا يقع فى تصوّر أحد.. ولكن هذه أكواب الجنة التي يشرب بها عباد الله هناك شرابهم.. إنها أكواب من فضة، ولكنها فى صفاء الزجاج، وشفافيته، حيث يرى من ظاهرها لون ما فيها من شراب، وهذا لا يكون إلا لآنية الزجاج وحده.. قوله تعالى: «إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً» . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1356 الأبرار. جمع برّ، أو بارّ.. والبارّ: هو النقي الطاهر، الذي لم يغيّر من فطرته الطاهرة النقية شىء من كبير الذنوب أو صغيرها.. والكأس: إناء الشراب، ويطلق على الشراب نفسه.. كما يقول الشاعر: وكأس شربت على لذّة وأخرى تداويت منها بها ولا يقال له كأس إلا إذا كان فيه شراب، فإذا كان فارغا سمّى قدحا. والكافور: نبت طيّب الريح.. أي أن هؤلاء الأبرار يشربون من كأس ممزوجة بالكافور الذي يجعل لها ريحا طيبة، إلى جانب مذاقها الطيب. وإذ كان معنى الكأس هنا هو الشراب الذي فيها، كان معنى شرب الأبرار من تلك الكأس أنهم يشربون من هذا الشراب، أو من هذه الخمر، التي مزاجها كافور.. قوله تعالى: «عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً» . هو بيان لهذه الكأس، أو هذه الخمر، وهى أنها عين يشرب بها عباد الله.. ونصب «عينا» على أنه مفسّر لقوله تعالى: «مِنْ كَأْسٍ» على سبيل الاختصاص للمدح.. وعباد الله، هم الأبرار الذين ذكرهم الله سبحانه فى قوله: «إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً» .. وفى إضافتهم إلى الله سبحانه تعالى، تشريف، وتكريم، لهؤلاء الصفوة الكرام من الناس، فهم عباده، وهم أهل ودّه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1357 وفى قوله تعالى: «يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً» أي أنها عين تتفجر دائما كلما أرادوا أن يشربوا من خمر هذه العين.. فما هى إلا همسة خاطر حتى تنبع العين، ويتفجر منها الخمر، على هيئة كئوس تتناولها الأيدى من قريب. وفى تعدية الفعل «يشرب» بحرف الجر «الباء» مع أنه يتعدى بنفسه أو بحرف الجر «من» فيقال شربت اللبن، أو شربت من اللبن- فى تعدية هذا الفعل بالباء، إشارة إلى أن العين التي يشرب منها عباد الله، هى خمر وكأس معا، وأنهم إذ يشربون بهذه العين التي هى خمر، يشربون الخمر ذاتها.. وهذا يعنى أن هذا الشراب الذي ينبع من تلك العين، لصفائه، ورقته، وشعشعة أضوائه- قد امتزج بالكأس، فصارا معا كيانا واحدا، لا يدرى الناظر إليهما، أينظر إلى كأس أم إلى خمر.. فكلاهما أصفى من الهواء، وأرق من الشعاع.. وإلى هذا المعنى يشير أبو نواس فى قوله: رقّ الزجاج ورقت الخمر ... وتشاكلا فتشابه الأمر فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر وهذا المعنى الذي ذهبنا إليه، إنما لمحناه من قوله تعالى: «إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً» حيث عدل النظم القرآنى عن تعدية الفعل «يشرب» إلى أداة الشرب بالباء، كما هو المألوف، إذ يقال شربت بالكأس وبالكوب، وعدى إلى تلك الأداة بمن.. ثم جاء قوله تعالى: «عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ» فعدل عن تعدية الفعل إلى مادة الشراب بحرف الجر من، إلى تعديته بحرف الجر الباء «عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ» .. وبهذا أحلّ النظم القرآنى مادة الشراب (العين) محلّ الكأس، على حين أقام الكأس مقام العين! .. وبهذا تبدو الصورة هكذا.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1358 - «إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ» ومقتضى النظم: «إن الأبرار يشربون بكأس» - «عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ» ومقتضى النظم كذلك: «عينا يشرب منها عباد الله» : وقد عدّ وصف أبى نواس للخمر والكأس أبلغ ما قالت العرب من وصف جامع للخمر وللكأس معا.. ولكن الذي ينظر فى الوصف القرآنى للخمر والكأس، لا يجد من وصف أبى نواس إلا طنين ذباب، بين يدى نغم علوىّ آسر، يملك زمام العقول، ويهزّ أوتار القلوب! وأين زبالة المصباح من ضياء الشمس، وروائها؟ وأين ضآلة المخلوق من عظمة الخالق وجلاله؟ أبو نواس آلة مصورة لروض جميل رائع، ولكن لا حياة فيه، ولا ريح زهره ولا مذاق لثمره.. والنظم القرآنى ينقل هذا المنظر فى كلمات تنبض بالحياة، وتندى بالطيب فتنشق الأنوف عبيره، وتطعم الأرواح مذاق جناه!! أبو نواس يستعين على إخراج الصورة بالأسلوب التقريرى المباشر، فيقول «رق الزجاج ورقت الخمر..» فهو يقرر الصفة التي عليها كلّ من الكأس والخمر، وهى الرقة.. ثم يبنى على هذه المقدمة حكما مسلّما به، وهو التشاكل والتشابه بين شيئين كل منهما على صفة الآخر.. وهذا عيب فى الأسلوب البلاغى، الذي يعتمد على التلميح دون التصريح، ويستغنى بالإماءة، عن المواجهة والمكاشفة! الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1359 فإذا استمعت إلى قوله تعالى: «عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ» تمثلت لك العين كأسا يشرب بها، ثم نازعتك نفسك إلى البحث عن أداة الشرب، فلا تجد إلا العين شرابا وكأسا معا.. وإذا استمعت إلى قوله تعالى: «يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً» تمثلت لك الكأس عينا يشرب منها، فإذا شاقك أن ترى العين وجدتها هى الكأس والشراب معا، قد أصبحا كيانا واحدا.. هذا، ولم يجمع النظم القرآنى بين الوصفين- وصف الخمر، ووصف الكأس- حتى يقيم منهما الصورة التي تحقق صفتهما معا- لم يفعل النظم القرآنى هذا الصنيع، لأن كل صورة منهما تحقق الوصف المطلوب للكأس والخمر أتم تحقيق.. فإذا نظر الناظر فى الصورتين معا وجد أنهما وجهان لحقيقة واحدة! كأس وخمر، وخمر وكأس.. وقد جاء النظم القرآنى بهذا الإعجاز من أقرب طريق، وأيسره، فبكلمة واحدة، لا بل بحرف واحد، أقام هذا الإعجاز، وكشف عن وجه هذه المعجزة.. فما زاد النظم القرآنى عن أقام حرف «الباء» مكان الحرف «من» فى إحدى المعجزتين، على حين أقام الحرف «من» مقام حرف «الباء» فى المعجزة الأخرى! فهذا كلام الله، تتجلى معجزاته فى غير بهرج من اللفظ، ولا خلابة أو تهويل من النظم.. حتى ليبدو- فى ظاهره- وكأنه مما يتكلم به الناس، من منثور ومنظوم.. تماما كما كانت تبدو عصا موسى فى يده، عصا يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه.. لكن ما إن ألقاها من يده حتى سرت فى كياتها نفخة من روح الحق، وإذا هى حية تسعى؟ .. وهكذا كلمات الله، تبدو الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1360 فى ظاهرها، وكأنها من مادة ما نتكلم به، من حروف وكلمات، ولكنها آيات معجزة، تتحدّى، وتفحم، وتعجز. قوله تعالى: «يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً» النذر: ما ألزم الإنسان به نفسه من طاعات وقربات، ومنه قوله تعالى، على لسان مريم عليها السلام: «إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا» (26: مريم) والوفاء بالنذر: هو إمضاء لعقد عقده الإنسان مع ربه، بما يتقرب به إليه، فهو عقد ملزم، لا ينبغى الفكاك منه، والله سبحانه وتعالى يقول: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (1: المائدة) وهذا النذر، هو من صفات الأبرار، حيث لا يقفون عند أداء ما فرض الله سبحانه وتعالى عليهم من فرائض، وما أوجب عليهم من واجبات، ولا ما سن لهم الرسول الكريم من سنن، بل يتجاوزن ذلك إلى طلب المزيد من القربات لله، فى كل ما يرون لله سبحانه فيه رضا، ولو شقّ ذلك عليهم، وحرمهم لذة النوم، والشبع، والرىّ.. ولم تعطف هذه الآية على ما قبلها، لأنها جواب عن سؤال، هو تعقيب على ما ذكر فى الآيات السابقة، مما وعد الله سبحانه وتعالى به الأبرار، من عظيم المثوبة، وكريم الجزاء- فكان مما يسأل عنه فى هذا المقام هو: وبم استحق هؤلاء المكرمون هذا التكريم؟ وماذا كان شأنهم فى الحياة الدنيا؟ فكان الجواب: «يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً» .. (7: الإنسان) الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1361 وجىء بالجواب فى صورة المستقبل «يوفون» ، مع أن السؤال عن حال من وقع منهم الوفاء كان فعلا فى الماضي قد وقع منهم، واستحقوا الجزاء الحسن عليه- وذلك للإشارة إلى أن هذا الفعل ليس مقصورا على جماعة بأعيانهم، فى زمن معين، بل هو فعل ممتد الزمن على مدى الحياة الإنسانية فى هذه الدنيا، فهو فعل متجدد الأزمان، والأعيان.. وكأنّ الجواب هو هكذا: هذا الجزاء لمن يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا.. وقوله تعالى: «وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً» - صفة أخرى من صفات هؤلاء الأبرار، وهى أنهم يخافون لقاء الله يوم القيامة، وما يغشى الناس فى هذا اليوم من أهوال وشدائد، فهو يوم شره عظيم مستطير.. فمن لم يعمل حسابه، ويتزود له بالأعمال الصالحة، احتواه هذا الشر، واشتمل عليه.. إنه امتحان قاس لا يجوز بحره المتلاطم إلّا من أعد نفسه له.. قوله تعالى: «وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً» . أي ومن صفات هؤلاء الأبرار أنهم يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.. فالطعام الذي عليه قوام الحياة وملاكها، لا يؤثرون أنفسهم به، بل يجعلون لمن يعوزهم هذا الطعام نصيبا منه، ولو كانوا هم أنفسهم فى أشد الحاجة إليه. وفى قوله تعالى: «على حبه» - إشارة إلى أن هذا الطعام ليس شيئا رخيصا مبتذلا، كشأنه فى أحوال الرخاء، ووفرة حاجات النفوس منه، وإنما هو الطعام فى أحوال القحط، والجدب، وفى أزمان المجاعات التي تكون فيها لقمة الطعام أعز ما يملك الناس، وأثمن ما يحرصون عليه من مال ومتاع، حتى إن المرء ليسترخص كل عزيز يملكه، فى سبيل شىء منه.. وهذا ما يشير إليه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1362 قوله تعالى: «لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» (92: آل عمران) ولهذا استحق هؤلاء المطعمون لهذا الطعام أن يكونوا فى الأبرار، لأنهم أنفقوا مما يحبون، ومما تشتد رغبة النفس إليه، وحرصها عليه.. والمسكين، واليتيم، والأسير، هم أضعف أعضاء الجسد الاجتماعى، وهم الذين يتلقون أول الضربات وأقساها وأفعلها، فى أزمان المحل، والجدب، فيكونون أول حطب تشتعل فيه نار المجاعات. فالمسكين قد أضرعه الفقر، وأذلّه الحرمان، حتى فى أوقات الرخاء واليسر، وهو فى حال القحط والمجاعة أشد ضراعة، وأكثر ذلة وضعفا وحرمانا.. واليتيم- والمراد به اليتيم الفقير- قد اجتمع عليه اليتم والفقر معا، فذهب اليتم بالجناح الذي كان يظله، وقصّ الجناح الذي كان يطير به، على حين ذهب الفقر بكل حبة كانت فى عشه. والأسير، سجين فى قيد الأسر.. إن كان ذا غنى فهو لا سبيل له إلى ما يملك، وإن كان قويّا ذا حول وحيلة، فقد عطّل الأسر كل قواه، وسلبه كل ماله من حول وحيلة. ومثل الأسير كل من انقطعت وسائله المتاحة له، وحيل بينه وبين مصادر رزقه، وعمله، كالمرضى والمساجين، وأبناء السبيل، وذوى العاهات، ونحوهم. قوله تعالى: «إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً» . هو حكاية لقول الأبرار، الذين يطعمون- فى ساعة العسرة- المسكين واليتيم والأسير، فهم إنما يطعمون من يطعمون ابتغاء وجه الله، لا يريدون على ما أطعموا جزاء، ولا شكورا ممن أطعموهم.. ولو أنهم فعلوا ذلك لما كان لهم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1363 فضل، ولما استحقوا عند الله أجرا، لأنهم استوفوا جزاء ما عملوا، ممن صنعوا بهم هذا الصنيع.. وهذا القول من الأبرار ليس بلسان المقال، يواجهون به من أطعموهم، فإنهم لو فعلوا، لكان ذلك من باب المنّ والأذى، الذي يحبط الأعمال، ويمحق الإحسان- وإنما هو بلسان الحال، ومما انطوت عليه ضمائرهم، وانعقدت عليه نيّاتهم.. قال مجاهد، وسعيد بن جبير، رضى الله عنهما: «والله ما قالوا ذلك بألسنتهم، ولكن علمه الله من قلوبهم، فأثنى به عليهم، ليرغب فى ذلك راغب» .. وروى عن عائشة رضى الله عنها، أنها كانت إذا بعثت بالصدقة إلى أهل بيت من الفقراء، سألت من بعثته: ماذا قالوا لك؟ فإن ذكر أنهم دعوا لها، أخذت هى بالدعاء لهم، ليبقى لها عملها خالصا لوجه الله. قوله تعالى: «إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً» . وهذا أيضا مما يقوله الأبرار المتصدقون، بلسان الحال، لا بلسان المقال.. إنهم إنما فعلوا ما فعلوا ابتغاء وجه ربهم، وخوفا من لقائه يوم القيامة، حيث مزدحم الأهوال، وحيث يكثر العويل، والبكاء، وصرير الأسنان!! ووصف اليوم بأنه هو العبوس القمطرير، لأنه يطلع على الناس أغبر متجهما، يرمى بالنذر والمهلكات.. وإنه على صفحة الأيام والليالى تنطبع أحوال الناس، فالحزين يرى الحزن مخيّما على وجه أيامه ولياليه، والمتوجّع الشاكي، لا يسمع من أصداء الزمن إلا توجعا وأنينا، على حين يجد الخلّى المغتبط، الأيام الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1364 والليالى، تغازله بالبسمات، والضحكات.. وهكذا تتلون ساعات الزمن بألوان النفوس، وتصطبغ بما فيها من مساءات أو مسرات.. يسمع المحزون هديل الحمام، وسجع البلابل، فيقع ذلك على أذنه وقع العويل والنواح، ويسمع السعيد الهانئ تلك الأصوات، فتوقّع على سمعه أعذب الألحان، وأحلى الأنغام.. وإلى هذا المعنى يشير الشاعر إلى وقع هديل الحمام من النفوس، فيقول: شجا قلب الخلىّ فقيل غنّى ... وبرّح بالشجيّ فقيل ناحا والقمطرير: وصف للعبوس بأنه عبوس بالغ الغرابة فى شدته، متناه فى صفته.. ولفظ القمطرير، يحكى بجرسه ما يشبه هدير الرعد، وقصف العواصف. فبناؤه اللفظىّ يجسّم أصدق صورة لمعناه.. قوله تعالى: «فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً» . أي أن هؤلاء الأبرار، الذين خافوا هذا اليوم، وأعدوا العدة له، قد وقاهم الله شره، ودفع عنهم مكارهه، وألقى عليهم نضرة النعيم، وبهجة الرضوان، ففاضت نفوسهم مسرة وحبورا. قوله تعالى: «وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً» . أي وجعل الله سبحانه جزاءهم عنده أن أدخلهم الجنة، وكساهم فيها خير ما يكسى به أهل النعيم في الدنيا، وهو الحرير، ولكنه حرير الجنة الذي لا يعلم صفته إلا الله تعالى. وقوله تعالى: «بما صبروا» - إشارة إلى أن جزاءهم هذا الجزاء الطيب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1365 إنما كان بصبرهم فى الدنيا على أعباء التكاليف، وأداء الواجبات.. فالطاعات والأعمال الصالحة كلها لا تؤدّى إلا بمجاهدة النفس، ومغالبة الهوى. وفى الحديث: «حفّت الجنة بالمكاره، وحفّت النار بالشهوات» قوله تعالى: «مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً» هى حال من أحوال الأبرار، وقد أخذوا منازلهم من الجنة، ولبسوا فيها فاخر الحلل.. فإذا نظر إليهم ناظر هناك، رآهم متكئين على الأرائك، قد أخلوا أنفسهم من هموم الدنيا، وتوقعات المساءات منها، من مرض، أو فقر، أو شيخوخة، أو موت.. والأرائك: جمع أريكة، وهى السرير، مرخى عليه السّتر الرقيقة، رفها وتنعّما.. وفى الاتكاء على السرر، مع أن الاتكاء إنما يكون على الوسائد، على حين أن النوم يكون على السرر- فى هذا إشارة إلى أن هذه السّرر هى متكأ لأهل الجنة، وأنها بمنزلة الوسائد فى الدنيا، وأن أهل الدنيا إذا اتخذوا السرر، وجملوها بما جملوها به، ليكون منامهم عليها، فإن أهل الجنة يتخذون هذه السرر للاتكاء، والاسترخاء عليها، لأن أهل الجنة لا ينامون.. وقوله تعالى: «لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً» أي أنهم لا يرون فى هذه الجنة شمسا، أي حرّا، لأن الشمس هى مصدر الحرارة، كما أنهم لا يرون زمهريرا، أي لا يحسون بردا، ولو لم تكن هناك شمس.. بل إن الجنة نور من نور الحق جلّ وعلا، وجوها سجسچ، لا حرّ فيه ولا برد.. جوّها سجسج وفيها نسيم ... كل غصن إلى لقاه يميل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1366 وأين جو من جو؟ وأين نسيم من نسيم؟ وأين ما فى دار الفناء مما فى دار البقاء؟ قوله تعالى: «وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا» . ودانية: معطوف على قوله تعالى: «متكئين» .. وظلالها فاعل لاسم الفاعل: «ودانية» .. أي أن هذه الجنة قد أرسلت ظلال أشجارها على هؤلاء الأبرار.. أما قطوفها أي ثمارها، فقد ذللت لهم، أي انقادت، وخضعت لمشيئتهم، فحيث أرادوها وجدوها حاضرة بين أيديهم، يأخذون منها ما يشاءون، ومنه قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا، فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ» الآيات: (15- 22) [سورة الإنسان (76) : الآيات 15 الى 22] وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1367 التفسير: قوله تعالى: «وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ ... » . أي ومن نعيم الأبرار فى الجنة، أنه يطاف عليهم فيها بأوان من فضة، قد ملئت بألوان النعيم، من مأكول ومشروب، كما يطاف عليهم بأكواب لم ترها عين فى الحياة الدنيا، فهى أكواب من فضة، ولكنها فى شفافية الزجاج، حتى ليحسبها الرائي قوارير، أي زجاجا.. والواقع أنها من الفضة، والفضة مهما رقّت لا تشفّ أبدا، فلو استطاع صانع أن يصنع من درهم فضة إبريقا، أو دلوا، لما شف هذا الإناء عما فى داخله كما يشفّ الإناء من الزجاج.. وقوله تعالى: «قَدَّرُوها تَقْدِيراً» .. الضمير فى قدروها يعود إلى السقاة الذين يطوفون بتلك الآنية، وهذه الأكواب.. وأنهم جعلوها بمقادير وأحجام مقدرة بحسب طلب كل طالب.. كما يصح أن يعود هذا الضمير على الشاربين، وأنهم إذا رغبوا فى الشراب انتصبت فى الحال بين أيديهم تلك الأكواب، فكانت على قدر ما رغبوا. ومما يساق إلى الأبرار من نعيم، أنهم يسقون فى هذه الأكواب- التي أصبحت بالشراب كأسا- يسقون كأسا قد امتزج فيها طعم الزنجبيل بمذاق الخمر.. والزنجبيل: عروق نبات تمتد فى الأرض، نقيعه حرّيف الطعم، يكون أشبه بالتفكهة لشارب الخمر.. فالضمير في «فيها» من قوله تعالى: «يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً» يعود إلى تلك الأكواب التي هى قوارير من فضة.. فالأكواب، وصف لكئوس الشراب وهى فارغة، والكأس مسمّاها وهى ملأى بالشراب.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1368 وقوله تعالى: «عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا» أي ويسقون عينا فى هذه الكأس تسمّى سلسبيلا.. فقوله تعالى: «عَيْناً فِيها» عطف بيان لقوله تعالى: «كَأْساً» .. فالعين هى الكأس، والكأس هى الأكواب.. يرون هذا المشهد يمرّ بهم فى لحظة خاطفة.. فأداة الشرب، وهى الكوب، تبدو أولا، ثم- وفى لحظة لازمنية- ترى كأسا ملأى بالشراب.. ثم- وفى لحظة لازمنية أيضا- ترى هذه الكأس عينا تفجر تفجيرا، لا ينفد شرابها، مادامت الكأس على فم الشارب، فإذا أخذ حاجته منها غاضت هذه العين، وغاب وجه الساقي القائم على خدمتها، ليفسح المكان لألوان أخرى من النعيم.. لا تنتهى أبدا.. والسلسبيل: الدائم الجريان، السائغ الطعم، فيجرى فى الحلق جريان الماء فى منحدر الوادي. وبه سميت العين، من تسمية الموصوف بصفته.. وقد جمعت الأكواب، حتى إذا امتلأت بالشراب، أفردت، فكان لكل شارب كأسه الذي يشرب منه، والعين التي تفيض من هذه الكأس.. وهذا من إعجاز القرآن الكريم فى جلال التصوير، وروعة الأداء، وصدق العرض.. ولا تظنن أنا ذهبنا مذهب الشطط، أو الشطح فى تأويل هذه الآيات.. فما ذلك إلا شعاعة من سناها العلوي، الذي يملأ الوجود كله.. وإن هذا الترف الذي يبدو من الصورة التي عرضناها لمجلس الشراب، هو صورة باهتة هزيلة للحقيقة الواقعة التي يعيش فيها أهل هذا المجلس، فى الجنة.. قوله تعالى: «وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً» الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1369 أي أن الذين يطوفون بهذا الشراب، ويقومون على خدمة الشاربين، هم ولدان، أي غلمان فى أول بواكير الشباب، إذا رآهم راء حسبهم لؤلؤا منثورا.. صفاء، ورونقا، ونضارة، وإشراقا.. وفى مجىء نظم الآية فى صورة خطاب- بعث لأشواق المخاطب، ودعوة له إلى مشاهدة هذه الأحوال، ثم العمل على أخذ مكانه مع هؤلاء الذين ينظر إليهم. والمخلدون: الذين لا يتحولون عن حالهم تلك أبدا، ولا يتأثرون بمرور الدهور والأزمان.. وهو من الخلد: أي الثبات، وعدم التحول، والانتقال من مكان إلى مكان.. يقال، أخلد فلان فى مكانه، أي لزمه، وأخلد إلى الراحة أي أقام فى ظلها.. ومنه جنّة الخلد، أي الخلود والدوام فيها. واللؤلؤ المنثور، هو اللؤلؤ المتناثر الحبات، الذي لم ينتظمه عقد.. واللؤلؤ المنثور أبهى منظرا، وأبهر موقعا فى العين، منه لو كان منضّما بعضه إلى بعض.. كالمنثور من الزهر فى الروض، تتنقل العين فى محاسنه من زهرة إلى زهرة، على حلاف ما لو ضمّ بعضه إلى بعض لأخذته العين كله بنظرة واحدة!! قوله تعالى: «وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً» ثم: أي هناك، فى الجنة، وما يلقاه أهلها فيها من نعيم.. إنك لو كنت هناك- جعلنا الله وإياك من أهلها- لرأيت نعيما لا حدود له، وملكا كبيرا قائما بين يدى أصحاب النعيم. والمراد بالملك الكبير هنا، السلطان العظيم الذي هو مظهر من مظاهر الملك، وسمة من سماته.. وأي سلطان أعظم من سلطان أهل الجنة، حيث تمضى إرادتهم فى كل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1370 شىء، وتنفذ مشيئنهم فى كل شىء؟ إن خطرات النفوس، وهمسات الخواطر- أيّا كانت هذه الخطرات، وأيّا كانت هذه الهمسات- تتمثل لهم واقعا حاضرا بين أيديهم، قبل أن يكتمل ميلاد الخطرة، أو تتشكل صورة الهمسة!! فمن فى هذه الدنيا بلغ من نفوذ سلطانه معشار هذا السلطان؟ وتاء الخطاب فى قوله تعالى: «إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ» وفى قوله سبحانه: «وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ» - هو لكل مستمع لهذه الآيات، أو تال لها، وفى هذا ما يبعث أشواقه إلى الجنة، ويشدّ عزمه على العمل لها، ليكون من أهلها، المنعمين بنعيمها، لا أن يكون من المشاهدين لهذا النعيم من بعيد، كما يشهد أصحاب النار أصحاب الجنة!! وهذا عندنا- والله أعلم- أولى من القول بأن هذا الخطاب للنبى صلوات الله وسلامه عليه.. فالنبى- صلوات الله وسلامه عليه- مخاطب بالقرآن كله، ثم إنه- صلوات الله وسلامه عليه- قد رأى الجنة ونعيمها، كما رأى أكثر من الجنة ونعيمها، فى مسراه- صلوات الله وسلامه عليه- وفى عروجه إلى الملأ الأعلى: «لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى» (18: النجم) قوله تعالى: «عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً» أي أن هؤلاء الأبرار، يطعمون أطيب المطاعم، ويشربون ألذ وأمرأ المشارب، وهم فى حال اتكاء واسترواح، وبين أيديهم اللؤلؤ المنثور من الغلمان يقومون على خدمتهم، وإذ يفيض عليهم من هذا النعيم، ما تشرق به وجوههم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1371 من رضا ورضوان- تراهم وقد ألبسوا أفخر الثياب، وحلّوا بأثمن الحلي، وأكرمها.. فهذا مما يتم به النعيم، وتكمل به المسرات.. والسندس، ضرب من نسيج الحرير الرقيق، والإستبرق نسيج أغلظ من نسيج السندس.. أي أن السندس يكون شعارا، والإستبرق يكون دثارا.. و «عاليهم» ظرف، بمعنى فوقهم، أي تعلوهم ثياب سندس خضر.. وفى التعبير بلفظ «عاليهم» بدلا من عليهم- هو- والله أعلم- إشارة إلى أن هذه الملابس لا تلتصق بأجسامهم كما تلتصق ثيابنا على أجسادنا فى هذه الدنيا، وإنما هى ألوان من النور، أشبه بألوان الطيف، تنعكس على هذه الأجسام النورانية.. وهذا يعنى أن الحياة فى الجنة حياة روحية، لا يخالطها شىء من عالم المادة إلا كان فى شفافية الروح وصفائها.. وقوله تعالى: «وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً» - هو إشارة إلى عظم ما يساق إلى هؤلاء الأبرار من نعيم، حيث يتناولون هذا الشراب الطهور من ربهم، بعد أن يكونوا قد تذوقوا ألوان النعيم الأخرى.. فكان هذا الشراب من يد البر الرّحيم، هو النشوة الكبرى، التي لا يحيط بها وصف، ولا يعرف كنهها إلا من أكرمه الله بها.. فما أضل الذين ولّوا وجوههم إلى غير ربهم، وما أخسر صفقة الذين اشتروا الدنيا كلها، بقطرة من قطرات هذا الرضوان!! قوله تعالى: «إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً» هو من تحية الله سبحانه وتعالى لعباده الأبرار المكرمين، وهو يسقيهم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1372 من هذا الشراب الطّهور.. فهم إذ يتناولون هذا الشراب من ربهم، يتناولونه محمّلا بهذه التحية المباركة من المنعم المتفضل عليهم إذ يقال لهم هذا جزاء ما عملتم، وهو ثمرة ما سعيتم، إن سعيكم كان مشكورا لكم من ربكم، وهذه التحية من ربكم هى تحية شكر وحمد لسعيكم. [الجنة ونعيمها.. بين الروحي والجسدى] ونريد هنا أن نقف وقفة قصيرة مع تلك الأوصاف التي ذكرها القرآن الكريم لنعيم الجنة، والتي تبدو كأنها صورة من النعيم الدنيوي، بما فيه من ألوان المآكل، والمشارب، والدور، والقصور، والملابس، والحلّى، والأوانى والأمتعة، والجواري والغلمان، والعيون والأنهار، والأشجار والثمار، إلى غير ذلك مما اعتاد الناس فى الدنيا أن يروه، أو يعيشوا فيه.. وهذا مما دعا بعض الأدعياء أو الأغبياء إلى أن القول بأن هذه الجنة مما يحلم به المحرومون، ومما يغذّى به الدين هذه الأحلام الجائعة! ولنسلم- جدلا- من أول الأمر بأن نعيم الجنة هو من هذا النعيم الذي يعرفه الناس فى الدنيا، ويجدّون فى طلبه، ويشقون فى تحصيله، ثم يفوتهم كله، أو الكثير منه- فأى قصور يلحق هذا النعيم، وأي مطلب يعوز الذين ينزلون منازل هذه الجنة فيجدون كل ما كانت تشتهى أنفسهم فى الدنيا حاضرا بين أيديهم، لا يتكلفون له جهدا، ولا يريقون من أجله دما أو عرقا؟ أهذا نعيم تزهد فيه النفوس؟ وأ هذا مقام يبغى إنسان التحول عنه؟ ولم إذن استبدت الرغبة فى هذا النعيم بنفوس الناس فى الدنيا؟ ولم أفنوا أعمارهم فى طلبه؟ ولم أراقوا دماءهم في سبيله؟ فلتكن الجنة عالما ماديّا، ولتكن كلها سوقا حشدت فيه كل ما فى هذه الدنيا من متع ولذاذات ومسرات ومباهج؟ أليس هذا العالم هو حلم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1373 الإنسانية الذي لم ولن يتحقق لها على هذه الأرض؟ فماذا لو وجدت عالما آخر يتحقق لها فيه هذا الحلم البعيد المنال؟ وأي إنسان يزهد فى هذا النعيم إذا أتيح له، ووجد السبيل إليه؟ ولا تمدن عينيك هنا إلى أولئك الذين يقال إنهم زهدوا فى نعيم الحياة المادية من الفلاسفة والحكماء، والمتصوفة، وغيرهم ممن عفّوا، أو عافوا متعة الجسد، وراحوا يعيشون على قوت أرواحهم، وعرائس أفكارهم.. فهؤلاء جميعا- إن صدقت أحوالهم- إنما أقاموا لأنفسهم عالما من الوهم، والخيال، تتراقص فيه طيوف رؤاهم وأحلامهم، بكل ما قصرت عنه أيديهم من متع مادية استبدّ بها غيرهم.. ومن زهد منهم فى تلك المتع، وقد أتيحت له- فإنما لأنه استقصر حياته معها، أو توقع فرارها من يده! ولو كان هذا النعيم دائما، وكان لمن يعيش فيه ضمان بالخلود معه، لكان الحكماء، والفلاسفة، والمتصوفة أكثر الناس طلبا، وازدحاما على مورده.. ومع هذا، فإن ما جاء فى القرآن الكريم من أوصاف الجنة ونعيمها، ليس هو كل ما فيها من نعيم، وإنما ذلك هو معرض من معارضها، وإشارة دالة على ما وراء هذا النعيم مما لم تره عين، ولم تسمع به أذن ولا خطر على قلب بشر.. إنه هو الجزء القليل الذي يمكن أن يقع فى مفهوم الناس، وهم فى هذا العالم الدنيوي، حتى يكون للجنة التي يوعدون بها تصور، وحتى يكون لدعوتهم إليها استجابة.. ولو جاءتهم الجنة غير مألوفة لهم، لما وقعت من أنفسهم موقعا، ولما وجدت لها فى مشاعرهم ووجداناتهم مكانا.. ولا يقال- كما قيل فعلا- إن هذا النعيم الأخروى، هو نعيم جسدى، يشبع أحلام الجوعى والمحرومين، ويرضى مطالب البيئات الفقيرة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1374 المجدبة.. وهذا بدوره يعنى أن الدّين الذي يعد أهله بمثل تلك الجنة فى الآخرة، إنما هو دين على مستوى هذه الحياة البدائية فى الصحراء، التي لا تبعد الحياة فيها كثيرا عن حياة الغابة، وأن الدين ليس إلا أكذوبة خادعة تستهوى الجوعى والمحرومين بهذه الموائد الممدودة لهم فى عالم الرؤى والأحلام. فهذا القول، إن كان من جاهل، فهو جهل يفصح أهله ويخزيهم، وإن كان من عالم فهو زور وبهتان، يتخرص به المتخرصون فى غير خجل أو حياء، ممن يكيدون للإسلام، من مستشرقى أوربا وأمريكا: «يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» (8: الصف) . إن نعيم الجنة المادي، وما جاء فى القرآن مما أعد الله سبحانه وتعالى منه لأهلها، من حور عين، وولدان مخلدين، ولحم طير مما يشتهون، وفاكهة مما يتخيرون، ومن أنهار من ماء ولبن، وخمر، وعسل- إن هذا- كما قلنا- هو من مطلوب الحياة الإنسانية، وبه قوام حياة الإنسان، وسعادته، مادام الإنسان إنسانا بشرا، لم يتحول إلى عالم الملائكة، ولم يصبح روحا هائما لا ذاتية له.. وإن الإنسان، هو الإنسان، فى الدنيا، أو الآخرة.. هذا ما يجب القطع به.. إذ لا بد أن يجد الإنسان ذاته ووجوده الإنسانى كله فى الآخرة، وإلا لكان مخلوقا غريبا، ليس بينه وبين الإنسان الذي عاش فى هذه الدنيا من صلة، ثم لكان حسابه وجزاؤه فى الآخرة ليس حسابا، ولا جزاء لهذا الإنسان الذي كان فى الدنيا.. وإنه لكى يظل الإنسان إنسانا، وليلقى حسابه وجزاءه، الحسن أو السيّء، ويحد طعمه الحلو أو المر- ينبغى أن يكون على طبيعته، فى جميع أحواله، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1375 وكل حيواته.. الدنيوية، والأخروية.. إنه ينبغى أن تظل هذه «الذاتية» مع الإنسان، وأن تصحبه تلك الشخصية المشخصة له فى عالم الدنيا والآخرة جميعا.. أما أن تتفكك هذه الشخصية، أو تنحلّ، أو تخرج عن طبيعتها جملة، فإنها لن تكون ذلك الإنسان، الذي عرف فى وقت ما، أوفى حال ما، أنه فلان؟ ابن فلان! .. نعم، قد تعلو ذاتية الإنسان وتصفو مشاعره وعواطفه، وقد تنزل، وتسفّ، وتكدر.. ولكن ذلك لا يخرج بالإنسان- فى أي حال من الأحوال- عن دائرة الإنسانية- ولا يلحقه بعالم الملائكة أو الشياطين.. إن الإنسان ليتنقل فى أطوار شتى.. من الولادة إلى الطفولة، والصبا والشباب، والشيخوخة.. وهو فى كل طور من أطوار حياته، هو تلك «الذات» أو «الشخصية» التي لا يجد فيها صاحبها أن طفولته أو صباه أو شبابه أو شيخوخته- أوصال مقطعة من «ذاته» .. بل إنه هو هو، فى كل طور من هذه الأطوار، وإن تغيرت بعض ملامحه، وزادت معارفه، واتسعت آفاقه.. وشتان ما بين الطفولة والشباب، وشتان بين «سقراط» الطفل وسقراط الفيلسوف.. ولكنه هوهو سقراط، طفلا، وصبيا، وشابا، وشيخا!!. ثم مالنا ندفع مطاعن الأوربيين عن شريعة الإسلام، وما جاء فى تلك الشريعة من أوصاف حسية لنعيم الجنة- ما لنا ندفع هذا، والحال أنهم هم مطالبون أن يدفعوا هذه المطاعن ذاتها عن المسيحية، إن كانوا يؤمنون بها، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1376 أو يدفعوا بها إليها إن كانوا غير مؤمنين بها.. فإن المسيحية- على الرغم من أنها تلبس لباس الروحانية- حين تحدثت عن النعيم الذي يلقاه أهل الجنة- نجدها تعرض صورا حسية من هذا النعيم، مثل تلك الصور التي جاء بها القرآن، سواء بسواء!. فقد ذكر المسيح- عليه السلام- لتلاميذه، أنهم سيشربون معه من ابنة العنب فى ملكوت السموات: يقول لهم: «إنى لست شاربا من ابنة هذه الكرمة حتى أشربها معكم فى ملكوت السموات «1» » . فأخبر بأن فى الملكوت شرابا، وشرابا من خمر، وحيث يكون شراب، لا يستنكر المأكل.. فيقول السيد المسيح: «ستأكلون وتشربون على مائدة أبى «2» » . ثم هناك إلى جانب الأكل والشرب، غرف لأهل الجنة.. يقول السيد المسيح: «ما أكثر الغرف والمساكن عند أبى «3» » . فالقرآن إذن لم يكن بدعا بين الكتب السماوية، فيما جاء فيه عن النعيم الحسىّ فى الجنة.. فلم تتهم شريعة الإسلام وحدها بأنها شريعة الجسد، وبأنها الشريعة التي تغرى أتباعها بهذه الألوان التي يسيل لها لعابهم، وتستيقظ لها حيوانيتهم؟. إنها تهمة ظالمة باطلة..!   (1) إنجيل متى (26: 29) . (2) إنجيل متى: (22: 3) . (3) إنجيل يوحنا (14: 2) . [ ..... ] الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1377 أما أنها ظالمة، فلأنها تتجه إلى الإسلام وحده، دون الشرائع والديانات التي تقول بما يقول به الإسلام فى وصف هذا النعيم.. وأما أنها باطلة، فلأنها تقوم على فهم خاطئ للإنسان، وللوحدة الذاتية، التي ينبغى أن يحتفظ له بها فى الحياة الآخرة.. تلك الوحدة التي تجمع الروح والجسد معا.. فلا يكون الإنسان إنسانا إلا يجسد وروح، ولا يعرف الإنسان السعادة أو الشقاء إلا إذا كان لكلّ من الجسد والروح نصيب مما يسعد به الناس أو يشقون!. إن أهل الجنة يحملون معهم نفوسا بشريّة، لها رغباتها، ومنازعها، ومن شأن نعيم الجنة، الذي يحقق النعيم الكامل- من شأنه أن يشبع- فى غير ملل- هذه الرغبات وتلك النوازع، وإلا كان نعيما غير كامل.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ، وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ» (31: فصلت) . وعلى هذا فإن لنا أن نقول إن نعيم أهل الجنة- هذا النعيم الحسى، الذي جاء فى القرآن، من مطاعم، ومشارب، وملابس، ومساكن- هو نعيم مطلوب للإنسان، لا يتم نعيمه إلا إذا أخذ حظه منه، وهو نعيم خالص من الشوائب، التي تعلق بكل نعيم دنيوى.. ثم إن وراء هذا النعيم الحسى، نعيما روحيّا.. فهناك مسرات الروح التي لا حدود لها.. وإنها لمسرات لا يمكن أن توصف بألفاظ وعبارات، ولا يمكن أن تضبط لها صورة، وغاية ما يمكن أن يقال عنها إنها بهجة النفس ولذة الروح.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1378 أما مادة تلك اللذة، وهذه البهجة، فلا يمكن أن توصف بألفاظنا، أو تدرك بعقولنا المحدودة القاصرة.. ولقد أشار القرآن الكريم إلى بعض دلالات هذا النعيم الروحي، ولكنه لم يكشف عن مادة هذا النعيم وعناصره.. فهناك نضرة النعيم التي تسفر بها وجوه أهل الجنة: «تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ» (24: المطففين) . وهناك الأمن والاطمئنان من كل ما يزعج النفس أو يقلقها من حاضر أو مستقبل: «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ.. لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ» (49: الأعراف) ثم أليس الخلاص من جهنم، وأ ليست السلامة منها، مصدر نعيم نفسى لا ينفد أبدا؟ إنها لسعادة غامرة، وهناءة كاملة، أن يرى أهل الجنة عذاب السعير، وهم فى مأمن من هذا العذاب.. «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» (185: آل عمران) ومن أجل هذا كان من حمد أهل الجنة لله سبحانه وتعالى أن أنقذهم من عذاب النار، هو ما ذكره الله سبحانه من قولهم «وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ، لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ» (35: فاطر) أليس هذا نعيما للنفس، وروحا للروح.. يتجدد فى كل نظرة ينظر بها أصحاب الجنة إلى أصحاب الجحيم؟ ثم ماذا يطلب الإنسان من النعيم، غير أن يجد فيه السعادة المطلقة.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1379 السعادة التي لا يدخل عليها ما يقطعها، أو ينقص منها، أو يفسد طعمها؟ إن سعادة الجنة، هى سعادة دائمة خالدة، لا تنفصل عن أهلها، ولا ينفصلون عنها، وذلك هو نعيم أهل الجنة، سواء أكان ماديّا أو معنويّا، جسديّا أو روحيّا.. «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا، خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا» (107- 108: الكهف) . وحسب هذا النعيم أنه غير زائل عن أهله، وحسب المنعمين به أن يقيموا عليه، ولا يبغون عنه حولا. وأعجب ما فى هذه القضية، أن يجىء الإنكار على الإسلام لهذا النعيم الجسدى الذي يعد به أتباعه فى الآخرة- من عجب أن يجىء هذا الإنكار من أوربا وأمريكا، التي فنيت شعوبها فناء مطلقا فى عالم المادة، حتى لقد كادت تتغير الطبيعة الإنسانية فى هذه المجتمعات، وتختفى المشاعر والعواطف.. حتى بين الآباء والأبناء.. وإنه لو كان لتلك الشعوب أن تحلم بجنة فى الآخرة، لما كانت جنة أحلامهم تلك إلا أنهارا تجرى من خمر، وإلا حانات تعج بالراقصين والراقصات، وإلا موائد ممدودة للطعام والشراب، والقمار.. فإن هذا الذي بلغته شعوب أوربا وأمريكا من تقدم فى العلوم والفنون، وإنما كان وسيلة إلى تحقيق هذا النعيم المادىّ الذي إن فات أحدهم حظه منه، ولم يستطع الوصول إليه، ضاقت الدنيا فى عينيه، واستولى عليه الكرب والهم.. ثم لم يكن له بدّ من أن يركب أحد طريقين: فإما أن يلبس ثوب الوجودية، ويتحول إلى حيوان يعيش فى غابة، فلا يغير من ثيابه، ولا يصلح من هندامه، ولا يقص شعرا ولا ظفرا، ولا يغطى جسدا ولا يستر عورة.. وهو بهذا يخرج عن عالم الناس، ومن ثمّ فلا يعنيه أن يملك مثل ما يملكون، أو يتمتع مثل ما يتمتعون.. إن له متعته الخاصة التي هى على غير ما يتمتع به الناس.. وهل يلذ للذئاب مثلا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1380 أن تجلس إلى مائدة، وأن تتناول مما يطعم منه الناس.؟ أما من لم يجد له مكانا فى هذا العالم فثمة طريق آخر.. طريق المنتحرين.. وليس ثمة طريق ثالث. الآيات: (23- 31) [سورة الإنسان (76) : الآيات 23 الى 31] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31) التفسير: بعد أن عرضت الآيات السابقة وجود الإنسان، ولفتته إلى أصل خلقه، وأين كان؟ وكيف بدأ؟ وإلى أين صار؟ وبعد أن لقيت هذا الإنسان بما سيلقى فى الآخرة عن عذاب ونكال، إذا هو كفر بالله، وجحد حق خالقه عليه، وما سيلقى من نعيم ورضوان، إذا هو عرف ربه، وذكر حقه عليه، وخاف مقامه بين يديه- بعد هذا العرض، عادت آيات الله، تدعو النبي- صلوات الله وسلامه عليه- إلى حضرة ربه سبحانه وتعالى، لتسمعه حديثه إليه، فيلقاه الحق سبحانه وتعالى بقوله: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1381 «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا» . أي أن هذا القرآن الذي تتلوه على الناس، هو منزل عليك من عند ربك، وليس رسول الوحى جبريل- عليه السلام- إلا رسولا من عند الله إليك به. وفى قوله تعالى: «نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا» - إشارة إلى أن هذا القرآن ينزل على النبىّ آيات آيات لا جملة واحدة، كما يفيد ذلك لفظ الفعل «نزل» الذي يفيد وقوع الفعل حالا بعد حال، لامرة واحدة. قوله تعالى: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً» . والآثم: من غلب عليه الاستغراق فى معاطاة الآثام، من أهل الكفر والضلال.. والكفور: من استغلظ كفره، ولج به الضلال والعناد، فلا يرى حقّا، ولا يذعن لحق إذا هو رآه.. وكل من الآثم والكفور، آثم وكافر معا، ولكن منهم من غلب إثمه على كفره، ومنهم من غلب كفره على إثمه.. والفاء فى قوله تعالى: «فاصبر» فاء السببية، أي وبسبب أنا أنزلنا عليك القرآن تنزيلا،، اصبر لحكم ربك.. أي اصبر على امتداد نزول القرآن عليك، وما دام القرآن لم يختم فإن مسيرتك لم تنته وزادك فى هذه المسيرة، هو الصبر.. فاصبر.. وحكم الله سبحانه وتعالى، هو ما يقضى به جل شأنه بين النبي وقومه.. واللام فى «لِحُكْمِ رَبِّكَ» هى اللام الحينية، أي التي بمعنى حين، أي إلى حين حكم ربك. وقوله تعالى: «وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً» نهى للنبى عن أن يستمع الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1382 إلى ما يدعوه إليه المشركون من قومه، من الكفّ عن دعوتهم، وإنذارهم بآيات الله التي يتلوها عليهم، أو أن يصغى إلى ما يعرضونه عليه من دنياهم التي يلوحون له بها.. وفى هذا إعلام للمشركين بأن النبىّ مأمور من ربه بالصبر على أذاهم، وبألا يستمع إلى ما يدعونه إليه، وهم يعلمون أن النبي لا يخالف أمر ربه.. ولهذا كان لهذا الأمر الموجه إلى النبي من ربه، وقع على نفوس المشركين، وتيئيس لهم مما يطمعون فيه من النبي.. وقوله تعالى: «وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» . هو معطوف على قوله تعالى: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ..» أي ومما يعينك على الصبر على ما تكره من قومك، وما يقيمك بالمقام المطمئن الذي تثبت به قدمك على طريق الدعوة التي تدعو بها- هو أن تذكر اسم ربك، وتستحضر جلاله، وعظمته، وعندئذ تجد كل هؤلاء المتعاظمين، والمتعالين، نمالا تدبّ على الأرض، أو ذبابا يجتمع على قذر! والبكرة: أول النهار، والأصيل آخره.. فهذا عمل النبىّ بالنهار، إلى جانب دعوته التي يقوم بها فى الناس.. إنه ذكر لاسم الله، فى مفتتح نهاره، ومختتمه. فإذا كان الليل، خلا إلى ربه، وأطال ذكره، وتسبيحه، وسجوده، وهذا ما جاء الأمر به بعد ذلك فى قوله تعالى: «وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا» . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1383 «وَمِنَ اللَّيْلِ» أي ومن بعض الليل لا كلّه.. فحرف الجر «من» التبعيض.. فهنا أمران: أمر بالسجود، لله بعضا من الليل.. وأمر بالتسبيح له تسبيحا طويلا ممتدا، ما وسع الجهد.. وهذا على معنى أن «طويلا» صفة لمصدر محذوف دل عليه الفعل «سبحه» أي سبحه تسبيحا طويلا فى وقت الليل.. وهذا المعنى الذي ذهبنا إليه، هو أولى عندنا مما ذهب إليه المفسرون من أن طويلا صفة لقوله تعالى: «ليلا» .. فإن وصف الليل هنا بالطول لا معنى له.. فالليل هو الليل، طويلا كان أم قصيرا.. ثم إن «من» التي تفيد التبعيض لا تجعل لوصف الليل بالطول معنى.. وقوله تعالى: «إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا» . الإشارة هنا بهؤلاء، هى إلى المشركين الموصوفين بالإثم والكفر.. إنهم يحبون العاجلة، أي الدنيا، ويستهلكون وجودهم كله فيها، ولا يعطون شيئا للآخرة، بل يطرحونها وراء ظهورهم، وهى لاحقة بهم، لا تدعهم حتى تمسك بهم، ويطلع عليهم منها يوم ثقيل وقعه، بما يلقون فيه من كرب وبلاء.. قوله تعالى: «نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا» . الأسر: القوّة، والمراد به ما أودع الله سبحانه وتعالى فى الإنسان من قوى جسدية. وعقلية، وروحية، ونفسية.. فهذه القوى التي أودعها الخالق جلّ وعلا فى كيان الإنسان، هى قوى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1384 مجتمعة، متساندة، متآلفة، يعمل بعضها مع بعض كأنها قوة واحدة.. وفى هذا بيان لما لله سبحانه وتعالى من فضل وإحسان، على الإنسان، الذي خلقه، فأحسن خلقه، وأقامه على هذه الصورة التي علا بها على أفق الحيوان، فصار بشرا سويا، وأصبح خليفة لله على هذا الكوكب الأرضى. وقوله تعالى: «وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا» .. إشارة إلى قدرة الله القادرة التي لا يفلت من سلطانها مخلوق، والتي تخلق ما تشاء وتختار، دون معوّق، أو معقب.. وهؤلاء الآدميون الذين خلقهم الله سبحانه على تلك الصورة من الإحكام والإتقان، لا يمسكها إلا الله، ولا يحفظ عليها وجودها إلا هو، فإذا أراد سبحانه أن يبدّل بهؤلاء الآدميين غيرهم نفذت إرادته ومضت مشيئته.. «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ» (38: محمد) . وفى جمع الأمثال: إشارة إلى أن قدرة الله سبحانه لا حدود لها، وأنه قادر على أن يقيم مكان هؤلاء الآدميين أمثالا، لا مثلا واحدا.. قوله تعالى: «إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا» أي إن هذه الآيات، وما ضمّت عليه، من علم، وحكمة، هى تذكرة وموعظة، وهى دليل هاد، وقائد أمين، لمن شاء أن يتعرف طريقه إلى الله، ويسلك مسالك الهدى والرّشد.. وإنها لا تحمل قوة مادية قاهرة ملزمة تسوق الناس سوقا إلى الله، وإنما هى إشارات مضيئة إلى طريق الله. فمن شاء أقام وجهه على هذا الطريق، ومن شاء تنكّبه، وأدار ظهره له.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1385 قوله تعالى: «وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ.. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً» . هو تعقيب على الآية السابقة، يراد به الاحتراس من أن تفهم المشيئة الإنسانية على إطلاقها، فهذه المشيئة مقيدة بمشيئة الله، دائرة فى فلكها.. فمن كانت مشيئة الله سبحانه وتعالى فيه أن مؤمن، جرت مشيئته وراء مشيئة الله فكان من المؤمنين، ومن كانت مشيئة الله سبحانه وتعالى فيه أن يكفر، جرت مشيئته وراء مشيئة الله، وكان من الكافرين.. ولم كانت مشيئة الله سبحانه وتعالى مختلفة فى الناس، ولم تكن مشيئة واحدة؟ .. إن ذلك تقييد لمشيئة الله سبحانه أولا، ثم هو إلزام لله سبحانه ثانيا، ثم هو إفساد لصورة الوجود ثالثا.. إذ أن من مقتضى وحدة المشيئة فى المخلوقات أن يكون الوجود كله لونا واحدا، لا أرض ولا سماء، ولا نجوم ولا كواكب ولا جماد ولا نبات ولا حيوان.. إلى غير ذلك مما ضمّ عليه هذا الوجود من مخلوقات، إذ أن تعدد هذه المخلوقات، واختلافها، صورا، وأشكالا، وألوانا وأمكنة وأزمانا، هو من عمل مشيئة الله سبحانه فى كل مخلوق خلقه.. إنها مشيئة واحدة، يقع على كل مخلوق حظه منها، وذلك بتقدير العليم الحكيم. «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً» يفعل ما يشاء عن علم محيط بكل شىء، وعن حكمة، مقدّرة لكل شىء.. قوله تعالى: «يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ.. وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» . ومن مشيئته سبحانه، أنه يدخل من يشاء فى رحمته.. وأعد للظالمين عذابا أليما.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1386 والمراد بالرحمة هنا الجنة، لأن الرحمة هى السبب الموصل للجنة! وأنه بغير رحمة الله لا سبيل لأحد إلى الجنة.. ولهذا يقول الرسول الكريم: «لا يدخل أحدكم الجنة بعمله» .. قيل ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله «برحمته» .. ومن أسرار كتاب الله الكريم أن كان مفتتحه: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» وكان مفتتح كل سورة منه «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» .. وكان مفتتح كل تلاوة لآياته الاستعاذة من الشيطان الرجيم، باسم الله الرّحمن الرّحيم.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1387 77- سورة المرسلات نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة الهمزة. عدد آياتها: خمسون آية.. عدد كلماتها: مائة وإحدى وثمانون كلمة. عدد حروفها: ثمانمائة وستة عشر حرفا. مناسبتها لما قبلها كان ختام سورة «الإنسان» السابقة على هذه السورة، هو قوله تعالى: «يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً» وفى هذا وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين.. وهذا الوعد، وذلك الوعيد إنما يتحققان يوم القيامة، فكان لا بد من إبراز هذا اليوم، والتأكيد على وقوعه، وذلك مما يزيد فى إيمان المؤمنين، ويرفع الحجب الكثيفة عن عيون كثير من الذين لا يؤمنون.. وهذا ما جاءت هذه السورة «المرسلات» مقررة، ومؤكدة له. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1388 بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 7) [سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) التفسير: قوله تعالى: «وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً» .. ما المرسلات؟ اختلف المفسرون فى معنى المرسلات، وتعددت مقولاتهم فيها، وكثرت الروايات والأسانيد التي تضاف إلى صحابة رسول الله فى هذا المقام.. وهذا الاختلاف الشديد بين تلك المقولات، مما يضعف هذه الروايات، بل ويكذب نسبتها إلى من نسبت ادعاء إليهم.. إذ لو كانت صحيحة لما كانت إلا قولا واحدا.. لأن صحابة رسول الله لم يقولوا في تأويل كلام الله برأيهم، بل كل ما صحت نسبته إليهم من أقوال فى معنى حرف، أو كلمة، أو آية، هو مما علموه من رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.. وليس للرسول الكريم إلا قول واحد. فى المقام الواحد.. «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى» (3: النجم) . وعلى هذا. فإن ما نقوله أو يقوله غيرنا فى تفسير كلمة «المرسلات» هو اجتهاد فى تحرى أقرب المفاهيم التي يطمئن إليها كل مفسر، حسب ما أداه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1389 إليه اجتهاده.. وهنا لا بأس أن يختلف المفسرون، إذ ليس قول أحدهم حجة على الآخرين.. وذلك على خلاف ما إذا نسب التفسير إلى أحد من صحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإنه إذا ثبتت نسبته إليه كان حجة علينا. والرأى الذي نرتضيه من آراء المفسرين فى تفسير كلمة «المرسلات» هو القول بأنها الرياح، فقد جاءت كلمة «العاصفات» بعدها قرينة قوية على أنهما من مورد واحد، وإن اختلفا قوة وضعفا.. فقد جاء فى القرآن الكريم وصف الريح بهذا الوصف، فقال تعالى: «وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً» (81: الأنبياء) .. والقرآن يفسر بعضه بعضا، ويشهد بعضه لبعض.. وهناك قرينة أخرى، وهى أن القرآن الكريم قد أكثر من لفظ أرسل، ويرسل عند الحديث عن الرياح، كما يقول سبحانه: «وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ» (57: الأعراف) وقوله سبحانه: «وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ» (22: الحجر) وقوله تبارك اسمه: «فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ» (69: الإسراء) .. فقوله تعالى: «وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً» هو قسم بالرياح المرسلة من عند الله، فى هبوب دائم، على الوجه المعروف للناس من الرياح.. وقوله تعالى: «فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً» .. هو حال من أحوال الرياح، حين يشتدّ هبوبها، فتتحول إلى عواصف.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1390 وقوله تعالى: «وَالنَّاشِراتِ نَشْراً» .. هى الرياح فى حال أخرى من أحوالها، ومع أثر من آثارها، وهى حين تنشر السحب فى جو السماء، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً» (48: الروم) .. وقوله تعالى: «فَالْفارِقاتِ فَرْقاً» .. هى الريح أيضا وأفعالها بالسحب.. فهى بعد أن تبسطها فى السماء، تسوقها أمامها، وتذهب بها إلى مواقع مختلفة متفرقة من الأرض، بعضها شرقا، أو غربا، وبعضها شمالا أو جنوبا.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ، ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ» (43: النور) .. وقوله تعالى: «فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً» .. هى السحب الممطرة، التي تلقى بما حملت من ماء، على المواقع التي ساقها الله سبحانه وتعالى إليها.. ويسمى المطر «ذكرا» لأنه مما يذكر بالله سبحانه وتعالى، ويحدّث عن واسع فضله، وعظيم رحمته، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1391 يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ» (48: الشورى) .. وقوله سبحانه: «وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ» (49: الروم) فأنظار الناس وآمالهم متعلقة بالمطر، فى حال إمساكه، أو حال نزوله، لأن فيه حياتهم، وحياة حيوانهم وزروعهم.. وقوله تعالى: «عُذْراً أَوْ نُذْراً» . هو بيان لقوله تعالى «ذكرا» .. فهذا الذكر الذي يحدثه المطر، إما أن يكون إعذارا، أو إنذارا.. فهو إعذار للمؤمنين الذين غفلوا عن ذكر الله سبحانه وتعالى، وهو إنذار للكافرين الذين لا يذكرون الله أصلا.. وقوله تعالى: «إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ» .. هو جواب هذا القسم الذي أقسم الله سبحانه وتعالى به فى مفتتح السورة.. والذي يوعد به الناس، هو يوم القيامة، وما يلقون فيه من جزاء. ومن إعجاز القرآن الكريم هنا أنه فرق بين الرياح فى مهابّها على الأرض، وبين الرياح فى مدارها مع السحاب، فى طيّه ونشره، وفى سوقه وتوجيه مساره.. فيقسم سبحانه وتعالى أولا بالرياح على إطلاقها وعمومها،: «وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً» ثم يعطف على هذه الرياح حالا من أحوالها العارضة، وهى العواصف: «فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً» .. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1392 ثم يقسم سبحانه وتعالى قسما آخر بالرياح، وهى تنشئ السحاب وتنشره: «وَالنَّاشِراتِ نَشْراً» ويعطف على هذه الرياح- صور مواليدها التي تولّدت عنها، من سحب متفرقة، ومن غيوث هاطلة: «فَالْفارِقاتِ فَرْقاً، فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً» .. وفى القسم بالرياح وآثارها، إلفات إلى قدرة الله سبحانه وتعالى، وإلى أن تلك القدرة التي سخرت هذه الرياح، وأودعت فيها ما أودعت من أرواح سارية، يستمد منها الأحياء حياتهم، ويلتقطون أنفاس الحياة منها، ثم لا تقف عند هذا بل تسوق إليهم مادة الحياة وقوامها، من هذا الماء الذي يتحلّب من السحاب المتولد عنها، والمنشّأ على يديها- هذه القدرة لا يعجزها أن تبعث الموتى من قبورهم، وأن تحشرهم يوم القيامة للحساب والجزاء: «إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ» .. فمن كذب بهذا الوعد استبعادا له، وإعجازا لأية قدرة أن تحققه- جاءه من عالم الرياح شهود عدول، يدينونه ويفضحون مدعياته الباطلة.. الآيات: (8- 15) [سورة المرسلات (77) : الآيات 8 الى 15] فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1393 التفسير: قوله تعالى: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ» . وإذ تقرّر أن يوم الفصل آت لا ريب فيه، وأن ما يوعد الناس به فى هذا اليوم واقع لا محالة- إذ تقرر هذا جاءت الآيات لتعرض صورا من مشاهد هذا اليوم، وما يقوم بين يديه من إرهاصات.. فمن إرهاصات هذا اليوم التي تتقدم وقوعه، أن تطمس النجوم، أو يذهب ضوءها، فلا تراها العيون على ما عهدتها عليه من قبل فى هذه الدنيا.. وأن تنشق السماء، فلا ترى سقفا مصمتا مغلقا كما تبدو للناظرين اليوم: «وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً» .. وأن تضيع معالم الجبال، فلا يرى لها على وجه الأرض ظل: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً، فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً، لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً» .. (105- 107: طه) وقد أشرنا فى غير موضع من تفسيرنا: «التفسير القرآنى للقرآن» «1» - إلى أن تغير هذه المعالم الكونية يوم القيامة- إنما هو نتيجة لتغير موقف الإنسان منها، وما يطرأ على حواسه المتلقية لها من تغير.. أما هذه المعالم فى ذاتها فهى باقية على ماهى عليه.. ومن إرهاصات يوم القيامة أن تؤقت الرسل، أي يؤجل بعثها إلى الناس، فلا يبعث فيهم رسول.. وهذا يعنى أننا منذ بعثة الرسول محمد- صلوات الله وسلامه عليه- ونحن على مشارف هذا اليوم الموعود، إذ كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه- خاتم رسل الله، وأن لا نبى بعده.. وهذا ما يشير إليه الرسول الكريم بقوله «بعثت أنا والساعة كهاتين» - وأشار-   (1) انظر مثلا، تفسيرنا لسورة «الطور» . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1394 صلوات الله وسلامه عليه- بأصبعيه: السبابة والوسطى» . ويجوز أن يكون المراد بالرسل هنا- والله أعلم- العقول الرشيدة، والفطر السليمة فى الناس، حيث أن مع كل إنسان رسولا إلى نفسه، هو عقله، وفطرته.. فإذا انتهى الأمر بالناس إلى أن تضل عقولهم جميعا عن الحق، وأن تزيغ قلوبهم جميعا عن الهدى، فلم يبق فيهم مؤمن بالله، قائم على شريعته- كان ذلك إيذانا بقرب يوم القيامة، وإرهاصا من إرهاصات وقوعه، ويكون معنى توقيت الرسل هنا، تعطل العقول عن عملها، ووقوع الخلل والفساد فى الطبيعة البشرية وتنكيسها فى الخلق. ومما يشهد لهذا المعنى الذي ذهبنا إليه، ماورد فى الآثار من تبدل أحوال الناس بين يدى نفخة الصور الأولى، وانتكاس طبيعتهم، كما يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «بدأ الدين غريبا، وسيعود كما بدأ.. فطوبى للغرباء» وقوله تعالى: «لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ» هو سؤال وارد على الخبر فى قوله تعالى: «وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ» - أي إلى أىّ يوم هذا التوقيت، أو التأجيل للرسل؟ فكان الجواب: «لِيَوْمِ الْفَصْلِ» أي ليوم القيامة.. فهو غاية لتأجيل الرسل، وتعطيل عملهم.. والسؤال هنا هو: وهل إذا كان تأجيل الرسل أو تعطيل عملهم غايته هو يوم القيامة، فهل إذا جاء يوم القيامة ينتهى هذا التوقيت، ويعود الرسل إلى مكانهم فى الناس؟ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1395 والجواب: أن نعم وعلى كلا الرأيين الذين ذهبنا إليهما.. فإن رسل الله- صلوات الله وسلامه عليهم- سيظهرون مرة أخرى مع أقوامهم فى مشهد الحساب والجزاء، يشهدون على أقوامهم، وما كان منهم من استجابة لهم، أو خلاف عليهم، وتكذيب بهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ.. وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» (41: النساء) وقوله سبحانه: «يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ. فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ؟» (109: المائدة) . أما العقول التي ضاع رشادها، والقلوب التي عميت بصيرتها- فإنها تجىء يوم القيامة وقد انكشف الغطاء عنها، فترى الأمور رؤية كاشفة، وتعرف الحقّ واضحا مشرقا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» (22: ق) قوله تعالى: «وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ» يوم الفصل، هو يوم القيامة، الذي يفصل فيه سبحانه وتعالى بين الناس. والاستفهام يراد به تهويل هذا اليوم، وما يقع فيه من أحداث، لا يمكن أن تتصورها الأوهام، ولا أن تحيط بها العقول. وقوله تعالى: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» .. هو جواب الشرط «إذا» فى قوله تعالى: «فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ» وما عطف عليه. والويل: هو الهلاك والبلاء المبين.. وهو وعيد للمكذبين بهذا اليوم، حيث لم يعدّوا أنفسهم له، ولم يعملوا حسابا للقائه.. «إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً» (27: النبأ) الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1396 الآيات: (16- 28) [سورة المرسلات (77) : الآيات 16 الى 28] أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) التفسير: قوله تعالى: «أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» . هو مواجهة للمشركين للمكذبين بيوم الفصل، وتهديد لهم بالهلاك الدنيوي، وأخذهم بما أخذ الله به المكذبين من قبلهم فى الأمم السابقة، بعيدها وقريبها.. والأولون الذين أهلكهم الله، هم قوم نوح، وعاد، وثمود.. والآخرون هم من جاءوا بعدهم، كقوم فرعون، وقوم لوط.. والمراد بالاستفهام هنا، التقرير، واستنطاق الواقع الذي شهدته الحياة، وسجله التاريخ.. وقوله تعالى: «كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ» - هو تعقيب على هذا التقرير.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1397 أي كما فعلنا بالأولين، وألحقنا بهم الآخرين، كذلك نفعل بالمجرمين، فى كل أمة، وفى كل جيل.. فهذا هو حكم الله فى أهل الضلال، لا استثناء فيه.. وفى هذا إشارة إلى المشركين الذين يواجهون النبي بعنادهم وضلالهم، ويركبون نفس الطريق الذي ركبه الضالون من الأولين والآخرين قبلهم.. فالويل لهم يومئذ من عذاب الله المرصود لكل مكذّب بهذا الحديث.. قوله تعالى: «أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ؟» هو دعوة إلى هؤلاء الضالين المكذبين من المشركين، أن يعيدوا النظر فى موقفهم من إنكار البعث، وتكذيبهم به، واستبعادهم له، حتى يخلصوا بأنفسهم من هذا الويل المطلّ عليهم، فتلك هى فرصتهم الأخيرة، فإن لم يبادروها ويصححوا موقفهم فيها، أقلعت سفينة النجاة، وتركتهم يغرقون فى هذا الطوفان المقبل عليهم!! فهؤلاء الذين يستبعدون البعث، ويستعجزون قدرة الله عن إعادتهم إلى الحياة بعد الموت- ألم يخلقهم الله من ماء مهين؟ فما الفرق بين خلقهم من هذا الماء المهين، وبين بعثهم من التراب؟ والماء المهين، هو ماء الرجل، وهو المنىّ الذي يتخلق منه الجنين فى رحم الأمّ. ووصف الماء الذي خلق منه الإنسان بأنه مهين- إشارة إلى أنه فى ظاهره شىء لا وزن له فى مرأى العين، بل هو شىء مستقذر، لا يحرص عليه الإنسان.. قوله تعالى: «فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ» . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1398 أي أن هذا الماء المستقذر المهين، قد جعله الله سبحانه وتعالى، ماء مصونا محفوظا «فِي قَرارٍ مَكِينٍ» - هو رحم الأم. إن هذا الماء المهين إذن، ليس كما يبدو فى ظاهر الأمر شيئا محقرا، أشبه بفضلات الإنسان، وإنما هو فى حقيقته حياة، تضم فى كيانها هذه المخلوقات البشرية.. إنه الناس، فى صورهم وأشكالهم.. إنه صورهم المضمرة، ووجودهم المستور.. ولهذا صانه الله سبحانه وتعالى، وأودعه هذا القرار المكين الذي أعده له. وقوله تعالى: «إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ» . متعلق بقوله تعالى: «فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ» أي أن هذا المستودع الذي أودع فيه هذا الماء، لا يمسك هذا الماء إلا إلى زمن محدود، وغاية ينتهى إليها، وهى مدة حمل الجنين فى رحم الأم، من استقرار النطفة فيه إلى خروجها منه بشرا سويّا. وقوله تعالى: «فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» . أي فقدرنا بقدرتنا وحكمتنا مسيرة هذه النطفة فى الرحم، وتنقلها فيه من طور إلى طور، وذلك بقدر معلوم، وتقدير موزون، وحساب محكم دقيق.. وقوله تعالى: «فَنِعْمَ الْقادِرُونَ» هو ثناء من الله سبحانه وتعالى على ذاته الكريمة، التي لا يحسن الثناء عليها، ولا يوفيها حقّها، إلا هو سبحانه وتعالى، وفى هذا يقول الرسول الكريم، فى تمجيد ربه والثناء عليه: «سبحانك.. لا أحصى ثناء عليك.. أنت كما أثنيت على نفسك» .. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1399 وفى هذا الثناء من الله سبحانه وتعالى على ذاته الكريمة- إشارة إلى أن هذا الإبداع فى الخلق، والإحكام فى التصوير، مشهد يقف الوجود كله مبهورا أمام جلاله وروعته، ثم لا يجد من صيغ الثناء ما ينطق به فى هذا المقام، فكان صمته أبلغ من كل كلام، وكانت حجته على الصمت، أن نطق أحكم الحاكمين رب العالمين.. فليس بعد قول الله قول، ولا بعد ثنائه ثناء! فالويل يومئذ لمن كان لا يرجو لله وقارا، ولا يعرف لجلاله قدرا! قوله تعالى: «أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً، أَحْياءً وَأَمْواتاً» . هذا مشهد آخر من مشاهد قدرة الخالق جلّ وعلا.. فإذا عميت بعض البصائر عن أن ترى مسيرة هذه النطفة الصغيرة، وأن تشهد ما انطوت عليه من حياة، وما تفجر منها من مخلوقات- فإنها تستطيع أن تنظر إلى كائن آخر، أكبر حجما من هذه النطفة.. إنه الأرض!! الأرض كلها بما على ظهرها، وما فى بطنها.. فماذا يرى من هذه الأرض، ظاهرا أو باطنا؟ إنها النطفة.. مكبرّة!! إنها حياة وموت.. فى وقت معا.. إنها حياة منطلقة من موات، وموات يتخلف من حياة.. إنها رحم كبير، يتفتح لنطف الماء الذي يتحلب عليه من السحاب! - «وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً.. فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» (5: الحج) . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1400 - «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ» (27: السجدة) . - «أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا» (25- 31: عبس) . ومعنى «كفاتا» أي مستودعا.. يقال: كفت الشيء، أي ضمه إلى نفسه، مثل كفله. وقوله تعالى: «أَحْياءً وَأَمْواتاً» عامل النصب فى أولهما فعل محذوف، مفهوم من قوله تعالى: «كفاتا» أي مستودعا يضمّ أحياء وأمواتا.. ويجوز أن يكون عامل النصب هو «كفاتا» بمعنى ضامّة أحياء وأمواتا.. قوله تعالى: «وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» .. هو إشارة إلى الجبال التي تبرز على وجه الأرض عالية شامخة، تهول، وتروع، وتحدّث عن عظمة الصانع العظيم الذي أقامها. وقوله تعالى: «وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً» أي ماء عذبا، زلالا، هو بعض هذا الماء الملح، الذي على كثرته لا تقوم عليه حياة الإنسان.. أفبعد هذا تكذبون بالبعث، وتنكرون يوم الجزاء؟ فالويل لكم من هذا الضلال الذي أنتم غارقون فيه.. أيها المكذبون! الآيات: (29- 40) [سورة المرسلات (77) : الآيات 29 الى 40] انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1401 التفسير: قوله تعالى: «انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ» .. هو إشارة إلى المكذبين بيوم الفصل، بعد أن أصروا على موقفهم من التكذيب به، وبعد أن ضربوا صفحا عن كل ماقام بين أيديهم من شواهد، وما انتصب لهم من أدلة على قدرة الله التي لا يعجزها شىء، فمضوا فى طريق الكفر والضلال، حتى ضمتهم القبور.. ثم هاهم أولاء يبعثون من قبورهم، ويتلفتون إلى أي مساق هم مسوقون إليه، وإذا صوت مزلزل يخترق أصماخ آذانهم، ويلقى فيها بهذا الأمر الصادع: «انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» .. أي انطلقوا إلى موقف الحساب والجزاء، إلى ساحة الفصل، فهذا يومه الذي كنتم به تكذبون.. ثم يتبع هذا الأمر بأمر آخر يكشف لهم عن وجه المنطلق الذي ينطلقون إليه: «انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ» . وأين ذلك الظل ذو الثلاث شعب؟ إنه على غير ما يعرف الناس من ظل فى الحياة الدنيا.. فليبحثوا عنه هنا فى المحشر.. إنه بلا جدال ليس من ظلال الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1402 الجنة، فظلال الجنة ممتدة دائمة، كما وصفها الله سبحانه وتعالى فى قوله: «أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها» (35: الرعد) وفى قوله تبارك اسمه: «وَأَصْحابُ الْيَمِينِ، ما أَصْحابُ الْيَمِينِ، فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَظِلٍّ مَمْدُودٍ» (27- 30 الواقعة) . وإذن فهذا الظل لا مكان له إلا فى جهنم، إذ ليس فى هذا اليوم إلا الجنة والنار.. وإنه لهناك فعلا.. وقد جاء فى القرآن الكريم وصف لهذا الظل الجهنمى فى قوله تعالى: «وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ؟ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ» (41- 44: الواقعة) واليحموم الدخان الأسود الكثيف، الذي ينعقد فى الجو.. والدخان الكثيف، إذا خرج من موقده، كان فى أول أمره كتلة واحدة، فإذا ارتفع قليلا فى الجو تخلله الهواء، ورق قليلا، وكان طبقة أرق من الطبقة التي تحته،، ثم إذا علا فى الجو، رقّ، فكان أرق مما تحته.. ثم إذا ارتفع أكثر من هذا المدى ذاب فى الهواء وتبدد، ولم يعد له ظل!! فهذا هو الظل، وتلك هى شعبه الثلاث التي تشعب إليها، وكأن كل شعبة من الشعب الثلاث كيان قائم بذاته، وإنما سميت شعبة لأن أصلها من مصدر واحد، هو النار. وقوله تعالى: «لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ» - هو وصف لهذا الظل الجهنمى.. إنه لا ظليل، أي لا يستظل به من حر، ولا يأوى إلى ظله محرور، من الكائنات الحية، وإنه لا يغنى من اللهب، أي لا يدفع عنهم لهب جهنم الذي ينوشهم من كل جانب.. وفى دعوتهم إلى الانطلاق إلى ظلّ هو من دخان جهنم، لا إلى جهنم ذاتها، مع أنهم مدعوون إليها أصلا- فى هذا استهزاء بهم، وسخرية منهم، ومبالغة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1403 فى إيلامهم، حيث يلوّح لهم بالظل، الذي يفتح لهم بابا من الأمل، فإذا هذا الظل لا يتمتع به إلا من أخذ مقعده من النار!! قوله تعالى: «إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ» الضمير فى إنها يعود إلى جهنم، التي يقوم على سمائها هذا الظل ذو الثلاث شعب. وفى وصف الشرر الذي ترمى به بأنه كالقصر، أي البيت العظيم- إشارة الى ضخامة حريقها، الذي لا تبلغ جبال الدنيا مجتمعة بعضا من ضخامته. وقوله تعالى: «كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» الجمالات: جمع جمّل، وهو الحيوان المعروف. وفى جمع الجمل، على جمالات، إشارة إلى أنها من الجمال المتخيرة من بين الجمال، ضخامة، وامتلاء.. مثل رجالات، التي هى جمع لرجال ذوى صفات متميزة.. وفى وصف الجمال بأنها صفر، إشارة إلى وصف لون الشرر، بعد أن وصف بالضخامة بأنه كالقصر.. وفى وصف لون الشرر بالجمالات الصفر، دون غيرها من كل ذى لون أصفر- إشارة إلى الحركة، واللون، والضخامة، جميعا.. فهذا الشرر ينطلق بعضه إثر بعض فى تتابع كأنه قطعان من الجمال الصفراء، ينطلق بعضها إثر بعض! فالويل للمكذبين، من هذا البلاء المحيط بهم، ومن هذه النار التي ترمى بهذا الشرر العظيم.. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1404 قوله تعالى: «هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» .. أي هذا اليوم الذي تقع فيه هذه الأهوال بالمكذبين الضالين، هو يوم لا ينطقون فيه، ولا تتحرك ألسنتهم بمثل هذا الزور الذي كانت تتشدق به فى الدنيا.. «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» (65: يس) وهذا لا ينفى أنهم يتكلمون يوم القيامة، ولكن ليس الكلام الذي كان يجرى على ألسنتهم فى الدنيا، من زور وبهتان، ومن تفاخر وتطاول على العباد.. إن كل شىء فيهم يومئذ ينطق بالحق! وقوله تعالى: «وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ» - أي لا يؤذن لهم بكلام يلقون فيه بأعذار يعتذرون بها عن جناياتهم فى الحياة الدنيا: «فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» (57: الروم) فالويل لهؤلاء المكذبين، ولكل مكذب بيوم الدين.. قوله تعالى: «هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ» أي هذا هو يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون، لقد وقع، فلا مناص لكم منه، ولا مخرج لكم من البلاء الذي أنتم ملاقوه فيه، وقد التقيتم فيه بمن سبقكم من المكذبين قبلكم، الذين ضربت لكم الأمثال بهم فى الدنيا، فلم تنتفعوا بها، ولم يكن لكم فيمن سبقكم عبرة.. قوله تعالى: «فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1405 أي فإن كان لكم أيها المكذبون الضالون حيلة تحتالون بها، أو كيد تكيدون به، لتخرجوا من هذا البلاء- فهاتوه!! فالأمر هنا، أمر تعجيز، حيث يواجه المأمور بما هو محال. فادفع بكفك إن أردت فخازنا ... ثهلان ذو الهضبات هل يتحلحل؟ إنه لا كيدلهم، ولا حيلة بين أيديهم لدفع هذا البلاء، فالويل لهم من عذاب الله.. الآيات: (41- 50) [سورة المرسلات (77) : الآيات 41 الى 50] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) التفسير: قوله تعالى: «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ» هذا عرض لحال أهل الإيمان والتقوى، يوم القيامة، حيث يدعون إلى الجنة، وما فيها من ظلال وعيون، وفواكه مما تشتهى الأنفس، وتلذا الأعين وقد دعى أهل الضلال من قبل إلى جهنم، وإلى ظلها ذى الثلاث شعب! وقوله تعالى: «كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ» الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1406 هو دعوة لأهل الجنة إلى هذه الموائد الممدودة لهم وما عليها من نعيم الجنة وثمارها.. فليأكلوا ما طاب لهم، وليهنئوا بما أكلوا وما شربوا، فهذا جزاء ما كانوا يعملون.. إنه الجزاء الذي أعده الله لأهل الإحسان من عباده. وفى هذا العرض للمتقين، وفى هذه الدعوة التي تستحثهم على الطعام والشراب- كبت للمكذبين الضالين، وإثارة للحسد الذي يأكل قلوبهم، إن كان ثمّة بقية لم تأكلها نار جهنم.. قوله تعالى: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ.. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» . هو مواجهة للمكذبين الضالين، وهم فى أماكنهم من دنياهم، وما هم فيه منها من لهو ولعب، إنه ليس لهم إلا الويل، والبلاء.. فليأكلوا، وليتمتعوا فى دنياهم بما شاءوا.. إنهم مجرمون، يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام، ثم تساق إلى الذبح.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» (12: محمد) فمن كانت النار تنتظره، كيف يهنؤه طعام، أو يسوغ له شراب؟ وفى قوله تعالى: «قَلِيلًا» إشارة إلى أن هذا المتاع الذي ينا المشركون فى الدنيا.. هو- مهما كثر- متاع قليل، لا يلبث أن يزول معبا وراءه يلاء طويلا، وعذابا دائما. وقوله تعالى: «إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ» هو تعليل لهذا الوعد من قوله تعالى: «كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا» .. وهذا مثل قوله تعالى: «قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا» (75: مريم) قوله تعالى: «وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» هو معطوف على قوله تعالى: «إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ» ومن إجرامهم أنهم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1407 كانوا «إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا» أي استجيبوا لله وأسلموا له «لا يَرْكَعُونَ» أي لا يسمعون، ولا يستجيبون، عنادا، واستكبارا، وضلالا.. فالويل والبلاء يومئذ للمكذبين.. وهؤلاء فريق منهم. وفى العدول عن الخطاب إلى الغيبة، استدعاء لغيرهم أن يشهد موقفهم هذا الآثم، وأن ينكره عليهم، ويتلقى منهم عبرة وموعظة، فلا يقع تحت طائلة هذا التهديد الذي هدّدوا به.. قوله تعالى: «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ» إنكار لموقف هؤلاء المشركين من دعوة الحق التي دعوا إليها، والتي حملها إليهم القرآن الكريم، الذي يتلوه عليهم رسول كريم.. وأنهم إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن، ولم ينكشف لهم على ضوئه طريق الهدى والإيمان، فبأى حديث إذن بعد هذا الحديث يؤمنون؟ وبأى نور بعد نوره يبصرون؟ إنهم إذا لم يهتدوا بهذا القرآن فلن يهتدوا أبدا، ولن يجدوا إلى نور الحق سبيلا.. هذا، وقد تكرر فى السورة الكريمة قوله تعالى: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» - عشر مرات، وكلها تدعّ المكذبين الضالين دعّا، وتلقاهم على رأس كل مرحلة من مراحل مسيرتهم إلى جهنم، بالويل والثبور، وترجمهم باللعنات، تصبها على رءوسهم صبّا.. وأكثر من هذا، فإنهم وهم يساقون إلى جهنم، وإذا يلقون فى جحيمها، ويستظلون بظلها ذى الثلاث شعب- يجيئهم حديث عن أهل الجنة، وما يلقون فيها من نعيم، فإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب الجنة، ردّوا عنها بهذه الصاعقة يرمى بها فى وجوههم: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ» انهم ليس لهم إلا الويل، يأتيهم من كل لسان، وفى كل مقام. تم الجزء التاسع والعشرون، ويليه الجزء الثلاثون.. إن شاء الله الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1408 [الجزء السادس عشر] (78) سورة النبأ نزولها. مكية، نزلت بعد سورة المعارج عدد آياتها: أربعون آية. عدد كلماتها: مائة وثلاث وسبعون كلمة. عدد حروفها: ثمانمائة وستة عشر حرفا. مناسبتها لما قبلها كانت سورة «المرسلات» قبل هذه السورة- حديثا متصلا عن المشركين، وكانت نهاية هذا الحديث معهم أن القى بهم فى جهنم، وأخذ كل منهم مكانه فيها.. ثم أعيدوا إلى مكانهم من هذه الحياة الدنيا، حيث يأكلون ويتمتعون، كما تأكل الأنعام، دون أن يكون لهم من تلك الرحلة المشئومة بهم إلى جهنم، وما رأوا من أهوالها- ما يغير شيئا مما فى أنفسهم من ضلال وعناد، فما زالوا على موقفهم من آيات الله التي تتلى عليهم، وما زالوا فى تكذيب لرسول الله، وفى عجب واستنكار، حتى ليتساءل الوجود كله: إذن فبأى حديث بعد هذا الحديث يؤمن هؤلاء الضالون المكذبون؟ وتجىء سورة «النبأ» بعد هذا التساؤل الاستنكارى لنمسك بهم وهم فى حديث عن هذا الحديث، وفى بلبلة واضطراب من أمره، وفى تنازع واختلاف فيه، لا يجدون- حتى فى أودية الزور والبهتان- الكلمة التي يقولونها فيه، والتهمة التي يلصقونها به.. إن أية قولة زور يزينها لهم الشيطان ليلقوا بها فى وجه القرآن، لتسقط على رءوسهم، كما يسقط الحصى برمى به فى وجه الشمس، ليخفى ضوءها، أو يعطل مسيرتها.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1411 بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 16) [سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 16] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) التفسير: قوله تعالى: «عَمَّ يَتَساءَلُونَ» ؟ أي عن أي شىء يتساءل هؤلاء المشركون؟ وهل هناك مشكلة مستعصية عليهم، حتى يكون منهم هذا التساؤل الملحاح، الذي يصبحون فيه ويمسون؟ قوله تعالى: «عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ» . يجوز أن يكون هذا جوابا عن السؤال الوارد فى قوله تعالى: «عَمَّ يَتَساءَلُونَ» ؟ أي أنهم يتساءلون عن النبأ العظيم، الذي اختلفت فيه آراؤهم، وتشعبت به فى طرق الضلال عقولهم، دون أن يتعرف أحد منهم الطريق إلى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1412 الهدى، وإلى الخروج من دوامة هذا الاختلاف.. إنهم لا يختلفون فى سبيل البحث عن الحقيقة، والتعرف عليها، وإنما خلافهم فى أن يجدوا طريقا واحدا من طرق الضلال والبهتان، تجتمع عليه كلمتهم، ويلتقى عنده رأيهم. والنبأ العظيم، هو الأمر ذو الشأن، الذي تغطّى أخباره كل خبر، فتتجه إليه الأنظار، وتشغل به الخواطر.. والمراد به هنا، القرآن الكريم، وما يحدثهم به عن البعث والقيامة، والحساب.. الأمر الذي لا تحتمل عقولهم تصور إمكانه. ويجوز أن يكون قوله تعالى: «عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ» سؤالا آخر بعد السؤال الأول: «عَمَّ يَتَساءَلُونَ» ؟. أي أيتساءلون عن هذا النبأ العظيم، الذي هم مختلفون فى مذاهب القول فيه، وفى أن ما يحدثهم به النبي- صلوات الله وسلامه عليه- عن البعث، والحساب والجزاء، شىء لا يصدق، وأن ذلك إنما هو من خداع «محمد» واستهوائهم لاتّباع دعوته، لحاجة فى نفسه؟ أذلك هو النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون؟ قوله تعالى: «كَلَّا سَيَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ» هو رد على هذا الذي يتساءلون عنه.. إنه أمر لا يدعو إلى تساؤل من عاقل، ولا يثير خلافا بين عقلاء.. إذ كان أظهر من أن يسأل عنه، وأوضح من أن يختلف فيه، وأنهم إذا جهلوه لجهلهم، أو تجاهلوه بعنادهم- فإنه سيأتى اليوم الذي يعلمونه فيه يقينا، ويرونه عيانا.. وفى تكرار الخبر، توكيد له، وتقرير لتلك الحقيقة السافرة، التي تقوم بين يديها ومن خلفها، الأدلة القاطعة، والبراهين الناطقة! الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1413 قوله تعالى: . «أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً، وَالْجِبالَ أَوْتاداً، وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً، وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً، وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً، وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً، وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً، وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً، لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً، وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً..» هذا عرض لبعض الأدلة والبراهين التي تقوم شاهدة على قدرة الله سبحانه وتعالى، وعلى ما فى متناول هذه القدرة من التصريف فى عالم الإنسان، حياة، وموتا، وبعثا.. وقد كان من شأنهم- لو كان لهم عقول- أن يقفوا بين يدى هذه المعارض من قدرة الله، وأن يقرءوا فى صحفها ما يحدثهم عن جلال الله وقدرته.. فهذه الأرض، قد جعلها الله بقدرته القادرة «مهادا» أي فراشا ممهدا، وبساطا ممدودا، يتحرك فيها الإنسان، ويسلك مسالكها، ويجد وسائل العيش والحياة فيها.. وهذه الجبال، قد جعلها الله سبحانه «أوتادا» تمسك الأرض، حتى لا تميد وتضطرب.. إنها أشبه بالأوتاد التي تشد الخيمة، وتمسك بها.. ثم هأتم أيها الناس، وقد خلقكم الله أزواجا، ذكرا وأنثى، حتى تتوالدوا فى هذه الأرض وتتكاثروا، ويتصل نسلكم فيها، وتعمر وجوهها بأجيالكم المتعاقبة عليها.. وليست هذه المزاوجة لكم وحدكم، أيها الناس، بل هى أمر عام ينتظم عوالم الأحياء كلها، من نبات وحيوان.. بل إن هذا الحكم ليمتد، فيشمل كل ما خلق الله.. فكل مخلوق، من عالم الجماد، أو النبات أو الحيوان، لا يقوم له وجود إلا إذا كان له ما يقابله من جنسه، مقابلة عنادّيّة، من شأنها الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1414 أن تستثير قواه، وتبعث كوامنه، وهو بالتالى يستثير المقابل له، ويستخرج كوامنه، وبهذا يلتقيان، ويتزاوجان، وتتكون من تزاوجهما طاقة يتولد عنها مخلوق جديد، وهكذا الشأن فى عالم المعاني أيضا.. فالذكر تقابله الأنثى، والأنثى يقابلها الذكر، والنور يقابله الظلام، والنهار يقابله الليل، واليقظة يقابلها النوم، والحياة يقابلها الموت، والحق يقابله الباطل، والجميل يقابله القبيح.. وهكذا، فليس شىء فى الوجود قائم بذاته، متفرد بوجوده.. وذلك لتكون الوجدانية خالصة لله الواحد القهار. قوله تعالى: . «وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً» السّبات: السكون، والهمود، والمسبوت الميّت، يقال: ضربه فأسبته، أي أحمد أنفاسه، وأبطل حركته.. والسبت: القطع. ومن قدرة الله سبحانه وتعالى، ومن آثار رحمته، أنه جعل النوم موتا لنا ونحن أحياء، فألبسنا الحياة والموت معا.. نحيا، ونموت، ونموت ونحيا، وذلك فى كل يوم من أيام حياتنا. فالنوم، صورة مصفرة من الموت، وانطلاق الروح فى حال النوم، وسياحتها ورحلتها المنطلقة بعيدا عن الجسد، هو أشبه بانطلاقها انطلاقا مطلقا بعد الموت، وارتحالها الأبدى فيما وراء المادة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» (42: الزمر) وقوله سبحانه: «وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ» (60: الأنعام) قوله تعالى: «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1415 أي ومن فيض قدرته- سبحانه- ومن تدبير حكمته، أنه جعل الليل لباسا، أي ساترا، يستر الكائنات، كما يستر الثوب الجسد، ويرخى على الأحياء سترا يمسك حواسها المنطلقة أثناء النهار، ليعطيها فرصتها من الراحة والسكون، وليتيح للقوى المندسة فى كيان الإنسان، من مدركات- وعواطف، ومشاعر- أن تنطلق، لتجد وجودها كاملا، وبهذا يحدث التوازن بين كل القوى المتزاوجة فى الإنسان.. بين جسده وروحه، بين مادياته ومعنوياته، بين حركته وسكونه، بين يقظته ونومه.. قوله تعالى: «وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً» المعاش: الحياة.. وسميت الحياة معاشا باسم سببها، وهو العيش الذي لا حياة لحىّ إلا بما يتبلغ به من طعام.. أي ومن قدرة الله سبحانه، ومن فيض فضله ورحمته، أن جعل النهار مبصرا، ليرى الأحياء فيه مواقع معاشهم، ووسائل كسبهم.. قوله تعالى: «وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً» السبع الشداد، السموات السبع.. ووصف السموات بأنها شداد، إشارة إلى ما يبدو لنا من قيامها سقفا مرفوعا فوقنا، دون أن تسقط علينا، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ» (6: ق) وقوله تعالى: «وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ» (47: الذاريات) الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1416 وأمّا القول بأنها الكواكب السبعة، فغير صحيح، لأن الكواكب ليست سبعة، وإنما الذي عرف منها إلى الآن تسع، وهناك كواكب كثيرة لم تكتشف بعد، وقد تبلغ المئات عدّا.. وأصحّ من هذا أن يقال إنها الطرائق السبع، التي ذكرها الله سبحانه وتعالى فى قوله: «وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ» (17: المؤمنون) وهى أطباق السموات السبع، كما يقول سبحانه: «الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً» (3: الملك) قوله تعالى: «وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً» والسراج الوهاج، هو الشمس، ووصف السراج بأنه وهاج، إشارة إلى توهج الشمس وتوقدها، فهى كرة من نار، متّقدة.. قوله تعالى: «وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً» المعصرات: هى السحب التي يتحلب منها الماء، أشبه بالثوب المبلول، يعتصر، فيتساقط الماء منه.. وفى وصف السحب بأنها معصرات، إشارة إلى أن الماء الذي تحمله متلبس بها، مندسّ فى كيانها، بل هى فى حقيقتها ماء، ووعاء.. معا.. والثجاج أو السحاح. المتدفق. قوله تعالى: «لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً، وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1417 هو بيان لما يتولد من هذا الماء المتدفق من السحب، فبهذا الماء يخرج الله الحب والنبات، ومنه يخرج هذه الجنات المتشابكة الأعصان، المتعانقة الأفنان.. والله سبحانه قادر على أن يخرج النبات من غير ماء، ولكن أقام سبحانه نظام الوجود على أسباب ومسببات.. فمنه سبحانه الأسباب، ومنه تبارك اسمه المسببات.. والحب: ما يقتات منه الناس، كالبرّ، والشعير، والذرة، والأرز، ونحوها.. والنبات: ما تأكل منه الأنعام، كالكلأ ونحوه.. فهذه بعض مظاهر قدرة الله.. أفلا يرى المشركون المكذبون بالبعث، المختلفون فيما يحدثهم به النبىّ عنه- أفلا يرون أن بعثهم لا يعجز هذه القدرة القادرة، التي أبدعت هذه الآيات، وأحكمت صنعها؟ وألا يحدث ذلك لهم علما يرفع هذا الخلاف الذي هم فيه؟ الآيات: (17- 30) [سورة النبإ (78) : الآيات 17 الى 30] إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30) الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1418 التفسير: قوله تعالى: «إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً» هو تهديد للمشركين بهذا اليوم الذي يكذبون به، ويختلفون فيه.. إنه آت لا ريب فيه، وهو يوم الفصل، فيما هم فيه مختلفون، وفيما يقضى به الله سبحانه وتعالى فيهم من عذاب.. والميقات: الموعد الذي أقّت لهذا اليوم.. قوله تعالى: «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً» هو بدل من يوم الفصل، فيوم الفصل، هو يوم النفخ فى الصور، فإذا نفح فى الصور، بعث الموتى من قبورهم، وجاءوا إلى المحشر أفواجا، أي زمرا، إثر زمر.. قوله تعالى: «وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً، وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً» الواو فى قوله تعالى: «وفتحت» واو الحال، والجملة بعدها حال من فاعل «فتأنون أفواجا» .. أي تأتون جماعات وأمما، وقد فتحت السماء فكانت أبوابا، وأزيح عن أعينكم هذا الغطاء الذي ترونها فيه- وأنتم فى الدنيا- سقفا سميكا مطبقا.. وكذلك الجبال تبدو وكأنها سراب يتراقص على وجه الأرض.. وقد أشرنا من قبل إلى هذا التبدل الذي يقع فى عوالم الوجود يوم القيامة، وقلنا إنه تبدل يقع فى حواس الإنسان ومدركاته، يومئذ، لا فى هذه العوالم ذاتها «1»   (1) انظر هذا البحث فى الكتاب الرابع عشر (سورة الطور ص 545) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1419 يقول الأستاذ الإمام «محمد عبده» رحمه الله فى هذا المعنى: «يتغير فى ذلك اليوم- يوم القيامة- نظام الكون، فلا تبقى أرض على أنها تقلّ، ولاسماء على أنها تظلّى، بل تكون السماء بالنسبة إلى الأرواح مفتحة الأبواب، بل تكون أبوابا، فلا يبقى علو ولا سفل، ولا يكون مانع يمنع الأرواح من السير حيث تشاء.. ثم يقول: «والآخرة عالم آخر غير عالم الدنيا التي نحن فيها، فنؤمن بما ورد به الخبر فى وصفه، ولا نبحث عن حقائقه مادام الوارد غير محال.. ولا شك أن امتناع السماء علينا إنما هو لطبيعة أجسامنا فى هذه الحياة الدنيا.. أما النشأة الأخرى، فقد تكون السماء بالنسبة لنا أبوابا ندخل من أيها شئنا بإذن الله..» وقوله تعالى: «إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً» هو تهديد للمشركين، المكذبين بيوم القيامة، وبما فيه من حساب وجزاء.. فهذه جهنم على موعد معهم، قد أعدت لهم، ورصدت للقائهم.. إنها مآب ومرجع للطاغين المكذبين، الذين لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر.. قوله تعالى: «لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً» الأحقاب، جمع حقب، والحقب: جمع حقبة.. والحقبة من الزمن، القطعة الطويلة الممتدة منه، وسميت أجزاء الزمن حقبا لأن بعضها يعقب بعضا، ومنه الحقيبة، التي يحملها المرء خلف ظهره، والمراد أن هؤلاء الطاغين الذين أخذوا منازلهم فى جهنم، لا يخرجون منها، بل يعيشون فيها أزمانا بعد أزمان، تتبدل الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1420 فيها أحوالهم: «كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها، لِيَذُوقُوا الْعَذابَ» (56: النساء) فهم ليسوا على حال واحدة، بل هم فى أحوال شتى من العذاب، يتقلبون فيه، وينتقلون من حال إلى حال، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ» (19: الانشقاق) وقوله سبحانه: «سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً» (17: المدثر) وقوله سبحانه فى آية تالية، فى هذه السورة: «فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً» قوله تعالى: «لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً جَزاءً وِفاقاً» الضمير فى «فيها» يعود إلى جهنم، وبحوز أن يكون عائدا إلى الأحقاب.. أي أن الطاغين الذي ألقوا فى جهنم، لا يذوقون فيها «بردا» أي شيئا من البرد الذي يخفف عنهم سعير جهنم، أولا يجدون شيئا من الراحة والسكون، بل هم فى عذاب دائم: «لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ» (75: الزخرف) كما أنهم لا يسقون فيها شرابا إلا ما كان من حميم وغساق.. والحميم: الماء الذي يغلى، والغساق: ما يسيل من أجسادهم من صديد يغلى فى البطون كغلى الحميم.. فهذا جزاء من جنس عملهم.. إنهم لم يعملوا إلا السوء، فكان جزاؤهم من حصاد هذا السوء الذي زرعوه، «حزاء وفاقا» لما عملوا، ومجانسا له.. قوله تعالى: «إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً. وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً» هو بيان للسبب الذي من أجله صاروا إلى هذا المصير الكئيب المشئوم.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1421 إنهم كانوا لا يتوقعون حسابا، ولا يؤمنون به، بل كذبوا بآيات الله التي تحدثهم عن البعث والجزاء والحساب، فلم يعملوا لهذا اليوم حسابا. والكذاب: وصف للكذب، ومبالغة فى صفته، كما أن كذاب (بالفتح) مبالغة لمن اتصف به.. أي أنهم كذبوا بآيات الله تكذيبا منكرا شنيعا، لما صحب تكذيبهم من سفاهة وتطاول على رسول الله.. وفى التعبير عن تكذيبهم بالحساب، بقوله تعالى: «لا يرجون» ، مع أن الرجاء عادة إنما يكون لتوقع الخير- فى هذا إشارة إلى أن يوم القيامة، من شأنه أن يكون أملا مرجوّا عند الناس، ففيه الحياة الحق، والخلود الدائم، والنعيم الكامل، وأن مقام الإنسان فى الحياة الدنيا هو مقام قلق، وإزعاج، لا ينبغى للعاقل أن يقيم وجوده عليه، بل ينبغى أن يسعى إلى التحول عنه، والنظر إلى ما وراءه، والرجاء فى حياة أكرم، وأفضل، وأبقى.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» (110: الكهف) قوله تعالى: «وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً» أي وكل شىء كان أو يكون فى هذا الوجود محصّى فى كتاب مبين.. وكذلك أعمال هؤلاء المكذبين الضالين محصاة عليهم، مسجلة فى كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. قوله تعالى: . «فَذُوقُوا.. فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1422 هو من سياط البلاء والنكال التي تنهال على أصحاب النار، وهم على هذا المورد الوبيل، أن يشربوا من هذا العذاب، وأن يتجرعوا كئوسه الملأى بالحميم والغساق، وأن ما هم فيه فى لحظتهم تلك أهون مما يذوقونه فى كل لحظة آتية.. إنهم ينتقلون من عذاب إلى ما هو أشد منه، حالا بعد حال، ولحظة بعد لحظة، فليبادروا بشرب ما بأيديهم، قبل أن يشتد لهيبا، ويزداد غليانا. الآيات: (31- 40) [سورة النبإ (78) : الآيات 31 الى 40] إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40) التفسير: قوله تعالى: «إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً حَدائِقَ وَأَعْناباً وَكَواعِبَ أَتْراباً وَكَأْساً دِهاقاً» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1423 هو وصف لما يتلقى المتقون من ربهم، من فضل وإحسان، فى مواجهة ما لقى للكذبون الضالون من عذاب ونكال. فالمتقون لهم عند ربهم «مفاز» أي لهم مدخل إلى جناته ورضوانه، وإلى ما فى هذه الجنات من ثمار طيبة.. منها العنب، وقد خصّ العنب بالذكر، لأنه كما يبدو- فى الحياة الدنيا- طيب الثمر، دانى القطوف، ممتد الظل.. - وفى هذه الجنة «كواعب» جمع كاعب، وهى الفتاة التي نهد ثدياها، وذلك فى أول شبابها، وهؤلاء الكواعب «أتراب» أي متما ثلات فى الخلقة، حسنا، وبهاء، وشبابا.. وهذا يعنى أنهن خلقن على صورة من الكمال ليس بعدها غاية، حتى يقع تقاوت فيها.. وفى هذه الجنة كئوس «دهاق» مترعة ملأى، لا تفرغ أبدا. مما فيها من خمر لذة للشاربين. قوله تعالى. «لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً» أي ومن نعيم أهل الجنة ألّا يدخل على نفوسهم شىء مما يكدر صفاءها، من لغو القول، وهجره، وفحشه.. «وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ، وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» (10: يونس) قوله تعالى: «جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً» . أي هذا النعيم الذي يساق إلى المتقين فى جنات النعيم، هو جزاء لهم من ربهم، على ما عملوا من صالح، وما أحسنوا من عمل. وقوله تعالى: «عَطاءً حِساباً» إشارة إلى أن هذا الجزاء الذي يجزيهم به ربهم، ليس على قدر أعمالهم، فإن أعمالهم- مهما عظمت- لا تزن مثقال ذرة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1424 لمن هذا النعيم، وإنما ذلك عطاء من ربهم، وفضل من فضله، وإحسان من إحسانه.. أما أعمالهم الصالحة، فليست إلا وسيلة يتوسلون بها إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى، فإذا رضى الله عنهم أرضاهم، وأجزل العطاء لهم.. وفى العدول عن خطاب المؤمنين إلى خطاب النبي فى قوله تعالى: «مِنْ رَبِّكَ» بدلا «من ربهم» - فى هذا تكريم للنبى الكريم، وأنه من فضل ربّه عليه كان هذا العطاء الذي وسع المؤمنين جميعا. وفى قوله تعالى: «حسابا» إشارة أخرى إلى أن هذا العطاء ذو صفتين: فأولا، هو عطاء بحساب، حسب منازل المتقين عند الله، وحسب درجاتهم من التقوى، وثانيا، هو عطاء يكفى كل من نال منه، فلا تبقى له حاجة يشتهيها بعد هذا العطاء.. هذا، وقد أشرنا- فى غير موضع- إلى أن نعيم الجنة، وإن استجاب لكل ما تشتهى الأنفس وتلذ الأعين، فإنه يختلف بحسب مقام المتنعمين به، حيث تقّبلهم لهذا النعيم، واتساع قواهم له.. وهذا التقبل وهذا الاتساع يتبع مقام المتنعم ومنزلته عند الله.. وقد ضربنا لهذا مثلا بمائدة ممدودة عليها كل ما تشتهى الأنفس من طيبات، وحولها أعداد من المدعوين إليها.. فكلّ ينال منها قدر طاقته، وشهوته، وإن كانوا جميعا قد نالوا ما يشتهون منها.. ولكن شتان بين من أخذ لقيمات، وبين من قطف من كل ما عليها من ثمار! قوله تعالى: «رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً» . هو وصف لله سبحانه وتعالى، المنعم بهذه النعم الجليلة.. إنها من ربّ م 90 التفسير القرآن ج 30 الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1425 العالمين، رب السموات والأرض وما بينهما، من رب رحمن رحيم. وقوله تعالى: «لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً» - إشارة إلى أن هذا النعيم الذي ينعم به المتقون، إنما هو من رحمة الرحمن الذي أنزلهم منها هذا المنزل الكريم.. ولو ساقهم الله سبحانه إلى النار لما كان لهم على الله حجة، لأن أحدا فى موقف الحساب والجزاء لا يستطيع أن يسأل الله عن المصير الذي هو صائر إليه.. إنه لا يملك خطابا، ولا مراجعة. قوله تعالى: «يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً» .. الظرف «يوم» هو قيد لهذا الوقت الذي لا يملك فيه المتقون خطابا.. فقوله تعالى: «لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً» مظروف بهذا الظرف، وهو وقت قيام الروح والملائكة صفّا بين يدى الله، فى موقف الحساب والجزاء.. وقوله تعالى: «لا يَتَكَلَّمُونَ» - هو بدل من قوله تعالى: «لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً» . والروح: هى أرواح البشر، فى موقف الحساب.. ويجوز أن يكون الروح، جبريل.. فالروح- أي الخلائق-، والملائكة، لا يتكلمون فى هذا الموقف، إلا من أذن الله له بالكلام، وقال صوابا فيما أذن الله سبحانه وتعالى له به من كلام.. فإذا أنطقه الله يومئذ، فإنما ينطق بالحق. قوله تعالى: «ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً» . أي ذلك اليوم، هو اليوم الحق، الذي كذّب به المكذبون، واختلف فيه المختلفون.. فمن شاء النجاة والفوز فيه، اتخذ مآبا ومرجعا إلى ربه، وعمل الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1426 حسابا لهذا المرجع والمآب، وأعد لنفسه العمل الصالح لهذا اليوم.. قوله تعالى: ِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً» . أي بهذا الحديث، وبهذه الأدلة التي سيقت لكم فيه، قد جاءكم النذير أيها المكذبون بيوم القيامة، وهو نذير بالعذاب لكم فى هذا اليوم، وهو يوم قريب، وإن ظمنتموه بعيدا بعدا، تائها فى الزمن.. إنه مطلّ عليكم، ويومها ينظر المرء ما قدمت يداه، ويرى ما عمل من خير أو شر، ويومها يتمنى الكافر أن لو كان ترابا من هول ما يطلع عليه من سيئات أعماله.. وهى أمنية لا سبيل له إليها..!! الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1427 (79) سورة النازعات نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة «النبأ» عدد آياتها: ست وأربعون آية.. عدد كلماتها: مائة وتسع وسبعون كلمة. عدد حروفها: سبعمائة وثلاثة وخمسون حرفا. مناسبتها لما قبلها ختمت سورة «النبأ» بهذا النذير الذي يلقى به فى وجه المكذبين باليوم الآخر، وبما يلقاهم منه من بلاء، حتى إنه ليتمنى الكافر يومئذ أن يكون مغيّبا فى التراب، غائصا فى أعماقه، من هول ما يراه.. وقد جاءت سورة «النازعات» مفتتحة بهذه الأقسام، على أن هذا اليوم واقع لا شك فيه، ولم يذكر لهذه الأقسام جواب، لأن جوابها قد سبقها، فى قوله تعالى: ِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً ... الآية» أي أن هذا العذاب القريب الذي أنذرنا كم به واقع، وحقّ «النَّازِعاتِ غَرْقاً، وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً.. الآيات» . بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 14) [سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1428 التفسير: قوله تعالى: «وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً. وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً. وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً. فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً. فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً» . يقول الأستاذ الإمام «محمد عبده» رحمه الله، عن هذه الأقسام التي أقسم الله سبحانه وتعالى بها من مخلوقاته- يقول: «جاء فى القرآن الكريم ضروب من القسم، بالأزمنة والأمكنة والأشياء.. والقسم إنما يكون بشىء يخشى المقسم إذا حنث فى حلفه به أن يقع تحت للؤاخذة- نعوذ بالله أن يتوهم شىء من هذا فى جانب الله- وما كان الله جل شأنه ليحتاج فى تأكيد أخباره إلى القسم بما هو من صنع قدرته، فليس لشىء فى الوجود قدر إذا نسب إلى قدره تعالى، الذي لا يقدره القادرون، بل لا وجود لكائن إذا قيس إلى وجوده- سبحانه- إلا لأنه انبسط عليه شعاع من أشعة ظهوره جل شأنه. ولهذا، قد يسأل السائل عن هذا النوع من الخبر الذي اختص به القرآن وكيف يوجد فى كلام الله؟ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1429 فيجاب، بأنك إذا رجعت إلى جميع ما أقسم الله به، وجدته إما شيئا أنكره بعض الناس، أو احتقره لغفلته عن فائدته، أو ذهل عن موضع العبرة فيه، وعمى عن حكمة الله فى خلقه، أو انعكس عليه الرأى فى أمره، فاعتقد فيه غير الحق الذي قرر الله شأنه عليه- فيقسم الله به، إما لتقرير وجوده فى عقل من ينكره، أو تعظيم شأنه فى نفس من يحقره، أو تنبيه الشعور إلى ما فيه عند من لا يذكره، أو لقلب الاعتقاد فى قلب من أضله الوهم، أو خانه الفهم .... «ومن ذلك النجوم.. قوم يحقرونها لأنها من جملة عالم المادة، أو يغفلون عن حكمة الله فيها، وما ناط بها من المصالح، وآخرون يعتقدونها آلهة تتصرف فى الأكوان السفلية تصرّف الرب فى المربوب، فيقسم الله بأوصاف تدل على أنها من المخلوقات، التي تصرّفها القدرة الإلهية، وليس فيها شىء من صفات الألوهية ... ثم يقول الإمام: «وهناك أمر يجب التنبيه عليه، وهو أن من الأديان السابقة على دين الإسلام، ما ظن أهله أن هذا الكون الجسماني، وما فيه من نور وظلمة، وأجرام، وأعراض- إنما هو كون مادى، لم يشأ الله كونه إلا ليكون حبسا للأنفس، وفتنة للأرواح، فمن طلب رضا الله، فليعرض عنه، وليبعد عن طيباته، وليأخذ بدنه بضرب من الإعنات والتعذيب وأصناف الحرمان، وليغمض عينيه عن النظر إلى شىء مما يشتمل عليه هذا الكون الفاسد فى زعمه- اللهم إلا على نية مقته، والهروب منه.. فأقسم الله بكثير من هذه الكائنات، ليبين مقدار عنايته بها، وأنه لا يغضبه من عباده أن يتمتعوا بما متعهم به منها، متى أدركوا حكمة الله فى هذا المتاع، ووقفوا عند حدوده فى الانتفاع» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1430 وقد رأينا أن ننقل رأى الإمام فى هذه الأقسام التي أقسم الله سبحانه بها فى القرآن، لأننا لم نجد قولا خيرا من هذا القول، ولا أوضح منه فى هذا المقام. قوله تعالى: «وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً» اختلف المفسرون- كشأنهم دائما فيما يحتمل التأويل والتخريج- فلم يجتمعوا على رأى فى مدلول كلمة «النازعات» . والرأى عندنا- والله أعلم- أنها هى النجوم البعيدة، الغائرة، الغارقة فى أطباق السماء العليا.. فالنزع: بمعنى الانطلاق، والنزوح البعيد.. والغرق: بمعنى الإغراق فى الأمر، ومجاوزة الحدود.. «وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً» هى النجوم، القريبة- نسبيّا، - منّا، فنرى لها حركات ظاهرة، على خلاف النجوم، الغارقة فى أجواء السموات العلا، حيث تبدو وكأنها مقيدة فى أماكنها، أما النجوم القريبة، فتظهر عليها الحركة، وتبدو كأنها نشطت من عقالها.. «وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً» هى الكواكب، المطلة علينا فى سماء الدنيا، كالشمس، والقمر، والمشترى والمريخ، وزحل، وغيرها. فهذه الكواكب لقربها منا، نراها سابحة فى الجو، كما تسبح الطيور.. - «وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» (38: يس) .. «فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً» .. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1431 هى هذه الكواكب السابحة سبحا، وهى- كما يبدو من ظاهر حركاتها- فى سباق مع بعضها، حيث ترى الشمس مرة أمام القمر، ويرى القمر مرة أمامها.. «فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً» .. هى أيضا نفس هذه الكواكب، السابحات سبحا، والسابقات سبقا.. إنها فى تعاملنا معها، تضبط الزمن، ساعات، وأياما، وشهورا.. «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ» (12: الإسراء) .. وتدبير هذه الكواكب لأمورنا، هو فيما يظهر من آثارها فى حياتنا، من حرّ وبرد، ومن هبوب رياح، ونزول أمطار، وإنضاج ثمار، ومدّ وجزر فى البحار، وغير ذلك مما نشهده من حركة الشمس والقمر، وما يتبع هذه الحركة من آثار فى عالمنا الأرضى، برّا، وبحرا، وجوّا.. قوله تعالى: «يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ» .. ليس هذا جواب القسم، فجواب القسم- كما قلنا- هو مادل عليه ختام سورة النبأ، أما هذا فهو بيان لما يجرى فى يوم القيامة، الذي جاء القسم لتوكيده، الأمر الذي يقتضى التسليم به، فلم يبق إلا بيان ما يحدث فيه.. والراجفة: الأرض، والرادفة السماء.. فالأرض ترجف يوم القيامة، ثم تتبعها السماء، فيما يقع فيها من أحداث هذا اليوم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ» (48: إبراهيم) .. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1432 وقيل: الراجفة: النفخة الأولى، وهى صعقة الموت: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ» (68: الزمر) .. والرادفة: النفخة الثانية، وهى نفخة البعث: «ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ» (68: الزمر) .. وجملة «تتبعها الرادفة» حال من «الراجفة» .. وقوله تعالى: «قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ» .. الواجفة: الخائفة، المذعورة: المضطربة.. والوجيف: ضرب من السير السريع المضطرب. وهو إخبار عن حال المشركين الذين يكذبون بيوم الدين، وذلك حين تطلع عليهم أمارات الساعة، وإرهاصاتها.. وفى الإخبار عن القلوب، دون أصحابها، إشارة إلى أن القلوب فى هذا اليوم، هى التي تتلقى هذه الأحداث، وتتفاعل بها، وأن الإنسان فى هذا اليوم قد استحال إلى قلب واجف مضطرب، كل جارحة فيه، وكل عضو من أعضائه، قد صار قلبا، يدرك، ويشعر، وينفعل.. وذلك من شدة وقع الأحداث، التي يتنبه لها كيان الإنسان كله.. وفى تنكير القلوب، إشارة إلى أنها قلوب غير تلك القلوب التي عهدها الناس، إنها هذا الإنسان المجتمع فيها بكل أعضائه وجوارحه. قوله تعالى: «أَبْصارُها خاشِعَةٌ» .. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1433 أي أبصار هذه القلوب أو أبصار أصحابها، إذ لا فرق بين الإنسان وقلبه يومئذ.. والخاشعة الذليلة.. وإنما أوقع الذلّ على الأبصار، لأنها هى المرآة التي تتجلى على صفحتها أحوال الإنسان، وما يقع فى القلب من مسرات ومساءات.. قوله تعالى: «يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ. أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً» ؟. الحافرة: الحياة الأولى التي كان عليها الإنسان.. يقال رجع إلى حافرته، أي إلى الطريق الذي جاء منه.. والفعل «يقولون» هو الناصب للظرف: «يوم ترجف الراجفة» أي يوم ترجف الراجفة، متبوعة بالرادفة، متبوعة بقلوب يومئذ واجفة، أبصارها خاشعة- فى هذا اليوم يقول المشركون: «أإنا لمردودون فى الحافرة» أي أنردّ إلى الحياة الدنيا مرة أخرى بعد أن نموت، ونتحول إلى عظام بالية؟ إن هذه الأحداث لتشير إلى أن هناك بعثا وحياة بعد الموت!! لقد قال الذين يحدثوننا عن يوم القيامة إن هناك إرهاصات تسبقه، وهذه هى الإرهاصات.. فهل يقع البعث حقا؟ إن ذلك مما تشهد له هذه الأحداث!. وهكذا تتردد فى صدورهم الخواطر المزعجة، والوساوس المفزعة. قوله تعالى: «قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ» .. أي عندئذ، وبعد أن يعاين المشركون أمارات الساعة، وهم فى هذه الدنيا، وبعد أن يتبين لهم أن أمر البعث جدّ لا هزل، وأنه لا شكّ واقع- عندئذ «قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ» أي رجعة قد خسرنا فيها أنفسنا، إذ لم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1434 نكن نتوقعها، ولم نعمل لها حسابا.. قوله تعالى: «فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ» . «هى» ضمير الشأن، أي فإنما الحال والشأن زجرة واحدة، أي صيحة واحدة، أو نفخة واحدة.. «فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ» أي فإذا هم على ظهر الأرض.. والساهرة: الأرض، وسميت ساهرة، لأنه لا نوم للناس يومئذ فيها، بل هم فى سهر دائم، بعد مبعثهم من نومهم فى القبور.. الآيات: (15- 26) [سورة النازعات (79) : الآيات 15 الى 26] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26) التفسير: بعد أن واجهت الآيات السابقة المشركين، بما يقع فى نفوسهم من الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1435 كمد وحسرة، حين تفجؤهم الساعة بأحداثها، وحين بقلت من أيديهم الطريق إلى النجاة- جاءت هذه الآيات لتعرض عليهم وجها من وجوه الضلال، فيه مشابه كثيرة منهم، وهو وجه «فرعون» وقد أشرنا فى غير موضع إلى أن القرآن الكريم كثيرا ما يجمع بين هؤلاء المشركين وبين فرعون، إذ كانوا أشبه الناس به، عنادا، واستعلاء، وكبرا. وقوله تعالى: «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى» .. الخطاب من الله سبحانه وتعالى للنبى- صلوات الله وسلامه عليه- وفيه استدعاء له من هذا الجو الخانق الذي ينفث فيه المشركون سمومهم والذي ترمى فيه أنفاسهم بدخان كثيف من تلك النار المشتعلة فى قلوبهم، كمدا، وغيظا من النبىّ ودعوته.. وفى هذا الخطاب إدناء للنبىّ الكريم من ربه جلّ وعلا، وإيناس له. والاستفهام، يراد به الخبر.. أي لم يأتك حديث موسى.. فاستمع إليه إذن! وقد جاء الخبر فى صيغة الاستفهام، لما يؤذن به الاستفهام هنا من عظيم اللطف، وكريم الإحسان من الله سبحانه إلى النبىّ الكريم، حتى ليخاطبه مولاه خطاب الحبيب إلى الحبيب، فى رفق، ومودّة، ليقول له: «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى» ؟ أي أعلمت حديث موسى؟ وأ تريد أن تعلمه؟ ألا، فاستمع!! وفى هذا ما يشير إلى أن ذلك أول ما تلقاه النبىّ من آيات الله، من نبأ موسى وفرعون.. وقوله تعالى: «إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً» أي الحديث الذي الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1436 نريد أن نبلغك إيّاه من أمر موسى، هو ما كان من نداء الله سبحانه وتعالى، إياه، وهو بالواد المقدس «طوى» .. و «الوادي المقدس» ، هو واد فى أسفل جبل سيناء، من الجانب الأيمن منه، فى الطريق المتجه من الشام إلى مصر.. كما يقول سبحانه: «وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا» (52: مريم) و «طوى» اسم لهذا الوادي. قوله تعالى: «اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى» هو بيان لما نودى به موسى من ربه، أي ناداه سبحانه بقوله تعالى: «اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ» وقوله تعالى: «إنه طغى» هو بيان لسبب الدعوة بالذهاب إليه.. إنه طغى، وتجاوز الحدود فى بغيه وعدوانه، وفى كفره وضلاله. قوله تعالى: «فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى» . وتلك هى الرسالة التي يحملها موسى من ربه إلى فرعون.. وقوله تعالى: «هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى» أي هل تودّ أن تتزكى، ويتطهر؟ وفى هذا الأسلوب الاستفهامى، ترفق وتلطف فى الدعوة إلى الله، وفى مواجهة عناد المعاندين وكبر المتكبرين باللطف واللين.. إن الحكمة تقضى فى مثل هذا المقام، أن يستميل الداعي إلى الحقّ من يدعوه إليه، وأن يترفق فى الدخول إلى قلبه، حتى يجد منه أذنا صاغية، وقلبا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1437 واعيا، إذا كان فيه بقية من عقل، أو يقظة من ضمير.. ولو جاء الداعي إلى من يدعوه إلى العدول عن الطريق الذي هو عليه- لو جاءه آمرا، أو زاجرا، أو فاضحا لحاله المتلبس بها، لما وجد منه إلا إعراضا وازورارا، وتكرّها لسماع ما يلقى إليه من حديث، فكيف إذا كان هذا المدعوّ جبارا عنيدا كفرعون؟ ولهذا جاء قوله تعالى: «فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى» راسما لموسى هذا المنهج الحكيم لدعوة هذا الجبار العنيد، كما جاء ذلك فى قوله تعالى: «اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى، فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى» (43- 44: طه) . وفى هذا الأسلوب القرآنى الخطة المثلى، والمثل الكامل القويم، لأصحاب الدعوات، من القادة، والزعماء، والمصلحين.. إنهم لن يبلغوا بدعوتهم مواطن الإقناع، ولن يحصلوا منها على ثمر طيب، إلا إذا جعلوا الرفق واللين سبيلها إلى الناس، والا إذا غذّوها بمشاعر الحبّ، والرغبة الصادقة فى الإصلاح، وبخاصة إذا كان الداعي يدعو إلى حقّ، ويهدف إلى هدى وإصلاح: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (145: النحل) . وليس مما يدخل فى هذا الباب، المداهنة، والمخادعة، والنفاق.. فذلك كله شر، إذا اختلط بالدعوة الصالحة أفسدها، وإذا خالط الحقّ أثار الدخان الكثيف فى سمائه الصافية، فغشّى على الأبصار، وحجب الرؤية عن مواقع الهدى.. قوله تعالى: «فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1438 هنا كلام كثير محذوف، دلّ عليه المقام، أي فجاء موسى إلى فرعون ودعاه فى رفق ولطف إلى الله، فما كان من فرعون إلا أن ردّ موسى ردّا قبيحا، وأغلظ له القول، ورماه بالكذب والجنون، فلما أراد موسى أن يدفع هذه التّهم عنه، ويثبت لفرعون أنه رسول ربّ العالمين، تحدّاه فرعون بأن يأتى بما يدلّ على أنه رسول من عند الله- «فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى» وهى العصا وانقلابها حية تسعى.. وهى أكبر الآيات التي بين يدى موسى.. وقوله تعالى: «فَكَذَّبَ وَعَصى، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى، فَحَشَرَ فَنادى، فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» . هذا بيان لموقف فرعون بعد أن أراه موسى الآية الكبرى.. لقد كذب بما رأى، واتهم موسى بأنه ساحر.. ثم جمع سحرته، ولقى بهم موسى، معلنا فى الناس أنه الرب الأعلى، وأن الرب الذي يدعو إليه موسى، هو رب دونه منزلة وعلوّا.. فهكذا يبلغ الضلال والسّفه بالضالين السفهاء!! وفى قوله تعالى: «ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى» إشارة إلى أنه بعد أن رأى الحية وأفاعيلها، وما أوقعته فى قلبه وقلوب من معه- لبس ثوب الحية، فجعل يسعى فى الناس مهددا متوعدا، باعثا الرعب والفزع فى القلوب، حتى يخرج منها هذا الفزع الذي استولى عليها من حيّة موسى. قوله تعالى: «فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى» هذه هو ختام القصة.. لقد انتهت بهزيمة فرعون، وخزيه، وفضح ربوبيته على أعين الناس.. ثم لم يقف الأمر عند هذا، بل أخذه الله بالعذاب الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1439 فى الآخرة، بأن أعد له أسوأ مكان فى جهنم، كما أخذه بالعذاب فى الدنيا بأن أماته شرّ ميتة، بأن أهلكه غرقا، ثم ألقى جثته المتعفنة على الشاطئ، وقد عافت حيوانات البر أن تطعم منها، بل ظلت هكذا عبرة وعظة، فى هذا الإله المتعفن، الذي يزكم الأنوف ريحه النتن، «فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً» (92: يونس) وقدّم نكال الآخرة على نكال الأولى، لأن عذاب الآخرة أشد وأقسى، لا يكاد ما لقيه فرعون من عذاب فى الدنيا يعدّ شيئا بالنسبة سيلقاه لما فى الآخرة. وقوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى» أي إن فى هذا الحديث، وفى الأحداث التي يعرضها القرآن، لعبرة وعظة، لمن كان له عقل يرى به مصير أهل السوء والضلال، فيخشى على نفسه مثل هذا المصير، فيباعد بينها وبين السوء والضلال. الآيات: (27- 41) [سورة النازعات (79) : الآيات 27 الى 41] أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31) وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41) الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1440 التفسير: تجىء هذه الآيات، بعد هذا العرض الذي عرضت فيه الآيات السابقة- فى إيجاز- قصة موسى وفرعون، وما لقى فرعون من خزى وبلاء فى الدنيا، وما أعد له فى الآخرة من عذاب أشد خزيا، وآلم وقعا من كل عذاب- تجىء هذه الآيات، لتلقى المشركين، بقوة الله سبحانه وتعالى، وليرى المشركون كيف تجليات هذه القدرة، وكيف آثارها، وأنهم ليسوا أربابا، كما ظن فرعون فى نفسه أنه ربّ، وربّ أعلى.. قوله تعالى: «أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها، رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها» ؟ أي ما قوتكم أنتم أيها المشركون مع قوة الله؟ وأين قوتكم من قوة بعض مخلوقات الله؟ أأنتم أشد خلقا وقوة أم السماء؟ فمن بنى هذه السماء؟ ومن أقامها سقفا مرفوعا فوقكم؟ الله بناها، والله رفع سمكها، أي قامتها، والله سواها، على هذا النظام البديع، وما تتزيّن به من كواكب ونجوم. وقوله تعالى: «وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها» والله- سبحانه- هو الذي أغطش، أي أظلم ليلها، أي ليل هذه السماء، وفى إضافة الليل إلى السماء، إشارة إلى أن الليل إنما يرى كونا معتما، مطبقا على الأرض.. فهو ليل السماء، التي أطفئ سراجها، وهو الشمس.. «م 91 التفسير القرآنى ج 30» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1441 والله- سبحانه- هو الذي أخرج ضحى هذه السماء، وأضاء سراجها، وأوقده، بعد أن أخرجه من عالم الظلام. والإشارة إلى الضحى، من بين أوقات النهار، إلفات إلى الوقت الذي يمتد فيه نور الشمس، فيغمر الآفاق كلها.. وهو ما يسّمى رائعة النهار. قوله تعالى: «وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها. أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها. وَالْجِبالَ أَرْساها. مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ» . أي والله سبحانه، هو الذي دحا الأرض، وبسطها، بعد أن رفع السماء وسواها.. وهو سبحانه الذي أخرج من هذه الأرض الماء الذي فيه حياة كل حى.. وبهذا الماء أخرج الله المرعى، أي ما يأكله الناس والأنعام.. والماء الذي يخرج من الأرض، هو من هذا الماء الملح، الذي سخرته القدرة الإلهية، ليكون بخارا، فسحابا، فمطرا، فماء عذبا تفيض به الأنهار، وتتفجر منه العيون.. وكما أخرج الله سبحانه الماء والمرعى من الأرض، أرسى فيها الجبال لتمسكها وتحفظ توازنها.. وقوله تعالى: «مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ» هو مفعول له، أي دحا الله الأرض وأخرج منها الماء والمرعى، متاعا لكم ولأنعامكم وزادا تتزودون به لحياتكم وحياة أنعامكم.. وفى جعل المرعى متاعا للناس والأنعام- إشارة إلى أن الناس والأنعام سواء فى هذا الرزق الذي أخرجه الله سبحانه وتعالى من الأرض، وأن العقل الذي امتاز به الناس على سائر الحيوان، ليس هو الذي يفيض عليهم هذا الرزق، وإنما هو فضل من فضل الله، ورزق من رزقه! إنهم يرزقون من فضل الله كما ترزق الأنعام.. سواء بسواء.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1442 قوله تعالى: «فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى» أي فإذا وقعت الواقعة، وجاء اليوم الموعود، الذي هو طامة كبرى، وبلاء عظيم على أهل الضلال والفساد، والذي يتذكر فيه كل إنسان ما عمل من خير وشر، وبرزت الجحيم، أي ظهرت بارزة واضحة لمن كانت له عينان يبصر بهما- إذا كان كل ذلك، حوسب الناس على ما عملوا، ولقى كل عامل جزاء عمله.. فجواب الشرط محذوف، دل عليه ما بعده من قوله تعالى: «فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا..» قوله تعالى: «فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى» أي أنه إذا حوسب الناس، اختلفت منازلهم، حسب أعمالهم.. فأما من طغى واستكبر، وسلك مسلك فرعون، وآثر الحياة الدنيا، ولم يعمل للآخرة عملا- فإن جهنم هى مأواه، ومنزله الذي يأوى إليه.. قوله تعالى: «وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى» . أي وأما من خشى ربه، وخاف حسابه وعذابه، وصرف نفسه عن هواها، ابتغاء مرضاة الله- فإن الجنة مأواه، ومنزله الذي بهنأ فيه بنعيم الله ورضوانه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1443 وفى قوله تعالى: «وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى» - إشارة إلى أن لأهواء النفس سلطانا قاهرا، وأنه إذا لم يقم الإنسان على نفسه ناهيا ينهاها، وزاجرا يزجرها عن اتباع هواها كلما دعتها دواعيه- انقاد لهذا الهوى الذي يغلبه على أمره، ويطرحه فى مطارح الضلال، والهلاك. الآيات: (42- 46) [سورة النازعات (79) : الآيات 42 الى 46] يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46) التفسير قوله تعالى: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها» أي يسألونك عن الساعة أيان مرساها» أي يسألك المشركون أيها النبي، عن القيامة: متى موعدها؟ ومتى تلقى مراسيها على الشاطئ الموعود؟ وفى قوله تعالى: «أَيَّانَ مُرْساها» - إشارة إلى أن الحياة الدنيا، أشبه بسفينة أقلعت بالناس، آخذة مسيرتها بهم على أمواج الزمن، حتى تلقى بهم على الشاطئ الآخر، المقابل للشاطىء الذي أقلعت منه سفينتهم.. فكأنهم يقولون: متى ترسو بنا سفينة الحياة على مرفأ هذا اليوم الموعود؟ إنهم يسألون سؤال المنكر المستهزئ. وقوله تعالى: «فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1444 أي فى أي شىء أنت أيها النبي من ذكرها لهم؟ إنك لا تدرى ما جواب هذا السؤال الذي يسألونك فيه عن يومها، لأنك لم تسأل ربك هذا السؤال، ولم تشغل نفسك به، ولم تتكلف له جوابا، لأنه ليس الذي يعنيك من هذا اليوم موعده، وإنما الذي أنت مشغول به منه، هو لقاؤه، والإعداد له.. وهو آت لا ريب فيه.. قوله تعالى: «إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها» أي أن أمر الساعة عند الله، وإليه منتهى مسيرة الناس إليها، لا يعلم أحد متى يكون ذلك.. كما يقول سبحانه: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها؟ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً» (187: الأعراف) قوله تعالى: «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها» أي أنه ليس لك أن تسأل عنها، ولا أن تجيب السائلين عن سؤالهم عن يومها، فليس ذلك من رسالتك، وإنما رسالتك هى أن تنذر بها، وتحذّر منها، من يخشاها، ويعمل حسابها، ويعدّ نفسه ليومها. قوله تعالى: «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها» أي أن هؤلاء الذين يسألون عن الساعة، ويستعجلون يومها، استهزاء، واستخفافا، دون أن يعدّوا أنفسهم لها- هؤلاء سيعلمون حين تطلع عليهم أن رحلتهم إليها لم تطل، وأنهم لم يلبثوا فى دنياهم إلا عشية ليلة، أو ضحى هذه الليلة.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1445 (80) سورة عبس نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة النجم. عدد آياتها: اثنتان وأربعون آية. عدد كلماتها: مائتان وثلاث وثلاثون.. كلمة. عدد حروفها: خمسمائة وثلاثة وثلاثون.. حرفا. مناسبتها لما قبلها كان مما ختمت به سورة «النازعات» قوله تعالى: «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها» وكان فى ذلك ما يشير إلى المقام الذي يأخذه النبي من قومه، الذين لج بهم الضلال والعناد، وجعلوا همهم المماحكة والمجادلة، ولقاء النبي بالأسئلة التي لا محصّل لها ولا ثمرة منها.. إنهم لم يؤمنوا بوقوع هذا اليوم- يوم القيامة- وسؤالهم عن موعد شىء لا يؤمنون به ولا يصدقون بوجوده، إنما هو ضلال من ضلالهم. وجاءت سورة «عبس» مفتتحة بهذا الموقف، الذي كان بين النبي وبين جماعة من المعاندين الضالين، الذين طمع النبي فى هدايتهم، فصرف إليهم وجهه كله، دون أن يلتفت إلى ذلك الأعمى، الذي آمن بالله، والذي جاءه يطلب مزيدا من النور والهدى.. وكلّا، فإنه ليس ذلك من محامل دعوة النبي، التي رسم الله له طريقها فى قوله: «إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها» .. وهؤلاء الضالون المعاندون لا يخشون الله، ولا يؤمنون باليوم الآخر، ولن يؤمنوا أبدا مهما طال وقوفك معهم.. وكلا: «إِنَّها تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1446 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الآيات: (1- 16) [سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 16] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) التفسير: قوله تعالى: «عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى» . فاعل عبس ضمير غيبة، يراد به النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه. والأعمى الذي جاء إلى النبي، فلم يهشّ له، هو عبد الله بن أم مكتوم الأعمى.. وهو صحابى جليل، من المهاجرين الأولين. وفى توجيه الحديث إلى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- بضمير الغائب، تكريم له من الله سبحانه وتعالى، وحماية لذاته الشريفة، من أن يواجه بالعتب واللوم، وأن تلتفت إليه الأنظار وهو فى تلك الحال التي يكون فيها بموضع اللائمة والعتاب.. فالذى عبس غائب هنا عن محضر هذه المواجهة والعتاب. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1447 ويذكر النبي الكريم من هذا العتاب الرفيق من ربه، أنه كان فى مواجهه جماعة من عتاة المشركين، ومن قادة الحملة المسعورة عليه، وعلى دعوته، وقد انتهزها النبي فرصة، لإسماعهم كلمات الله، لعل شعاعات من نورها، تصافح قلوبهم المظلمة، فتستضىء بنور الحق، وتفيء إلى أمر الله، وتتقبل الهدى المهدى إليها.. فإن ذلك لو حدث لانفتح هذا السد الذي يقف حائلا بين الناس، وبين الإيمان بالله، ولدخل الناس فى دين الله أفواجا.. ويذكر النبي أيضا، من هذا العتاب الرقيق من ربه، أنه وهو فى مجلسه هذا مع عتاة قومه، أن هذا الأعمى، قد ورد عليه، ولم يكن يعلم من أمر النبىّ ما هو مشغول به، فجعل يسأل النبي أن يقرئه شيئا من آيات الله، فلم يلتفت إليه النبي، وهو يسأل، ويسأل، حتى ضاق به الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وظهر ذلك على وجهه الشريف.. «عَبَسَ وَتَوَلَّى» .. والعبوس: تقطيب الوجه، ضيقا، وضجرا، والتولّي: الإعراض عن الشيء، تكرّها له.. وإذ يذكر النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- موقفه هذا، بعد أن تلقى تلك اللفتة الكريمة الرحيمة من ربه، ويراجع نفسه عليها، يلقاه قوله تعالى: «وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى. أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى» . وهنا ينتقل النبي- صلوات الله وسلامه عليه- من حال الغيبة إلى حال الحضور، فبعد أن كان ينظر إلى ذاته من داخل، وكأنه مع ذات غير ذاته، إذا هو يرى ذاته ماثلة بين يديه، وكأنه هو الذي يحاسبها ويراجعها، وكأنه هو الذي يخاطب نفسه، ويقول لذاته: «وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى» ! وتبدو الصورة هكذا: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1448 الذي عبس وتولى غائب، ليس هنا فى مجلس النبىّ.. إنه هناك.. بعيد بعيد.! ثم إن هذا الغائب، إذ يبسم بعد عبوس، وإذ يقبل بعد إعراض، وإذ يكون على الحال التي تتناسب ومقام الخطاب من ربه.. هنا يقبل عليه ربه- سبحانه وتعالى- مخاطبا معلّما، ومرشدا.. فتوجيه الخطاب من الله سبحانه، إلى النبي أولا، بضمير الغائب، فيه عتب، وفيه إعراض، وخطابه سبحانه إلى النبىّ ثانيا، بضمير الحاضر، فيه الرضا بعد العتب، والإقبال بعد الإعراض.. وفى قوله تعالى: «وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى» - إشارة إلى ما كان يبغى هذا الأعمى من حضوره مجلس النبي، والإلحاح بسؤاله.. إنه يسأل سؤال من يريد مزيدا من العلم، ومزيدا من الهدى. والاستفهام هنا يراد به النفي، أي ومن أين لك أنت أن تعلم أن هذا الأعمى لا ينتفع بما يسألك عنه، حتى تعرض عنه؟ أنت لا تعلم، وقد كان ينبغى فى تلك الحال أن تجيبه إلى ما سأل، لعله ينتفع بما يتعلمه، ولعله يتزكى، أي يتطهر بما يفاض عليه من علم، أو لعله يتلقى من حديثك إليه ما يقيم له عظة تنفعه، وتزيد فى إيمانه.. قوله تعالى: «أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى» . هنا تفصيل لمجمل هذا الحدث، الذي جاء من أجله هذا العتاب.. أي كان موقفك هنا أيها النبي معدولا به عن الطريق الذي ينبغى أن يكون عليه.. وإليك بيان هذا الموقف: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1449 أما من استغنى عنك، وزهد فيما فى يديك من علم وهدى، «فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى» أي تتعرض له، وتمسك به، وتشده إليك! وإنك لتعلم أنه ما عليك إلا البلاغ، وأنه ليس من همك أن تحمل الناس حملا على الإيمان، فإنه لا عليك من لوم، إذا لم يؤمن، ولم يتطهر بالإيمان، من إذا دعوته، وبلغته رسالة ربك- فلم يستجب إليك.. هذه حال دعاك الحرص فيها على هداية الناس، إلى أن جاوزت حدود الخط المرسوم لدعوتك.. هذا من جهة.. ومن جهة أخرى، فإنك وقفت موقفا مخالفا لموقفك الأول، فبينما أنت تقبل على من أعرض عنك، وزهد فيما معك، إذا أنت تعرض عمن أقبل عليك، ورغب فيما بين يديك من نور الله!! «أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى. فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى. وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى. وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى. وَهُوَ يَخْشى. فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى» . أليس ذلك كذلك؟ ألم يكن هذا موقفك؟ وكلّا.. إن الأمر ليس على هذا الوجه.. كما سنبين لك. وفى قوله تعالى: «جاءك يسعى» إشارة إلى الرغبة المنبعثة من صدر هذا الأعمى، والتي تدفعه دفعا إلى أن يحثّ الخطا، وأن يسعى إلى النبي فى انطلاق وشوق، مع أنه قى قيد العمى والعجز. وقوله تعالى: «وهو يخشى» حال أخرى، من فاعل: «جاءك» أي تلك حال هذا الأعمى، إنه جاءك ساعيا إليك، خاشيا لله.. وقوله تعالى: «فأنت عنه تلهى» .. إشارة إلى أن ما كان فيه النبي- صلوات الله وسلامه عليه- من حديث مع هؤلاء المشركين المعاندين من قومه، وأنه حديث لا محصّل له، ولا ثمرة من ورائه، إذ كان القوم معرضين عنه، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1450 متكرهين له.. فكأنه إنما يتلهى بهذا الحديث، الذي لا يجىء بثمر.. وإن كان- صلوات الله وسلامه عليه- جادّا فى هذا الحديث كل الجد، مقبلا عليه كل الإقبال، ولكنه إنما يضرب فى حديد بارد، أشبه بمن يريد أن بستنبت الزرع فى الصخر الصلد.. فمن رآه على تلك الحال لم يقع فى نفسه إلا أنه يتلهى بما يعمل.. قوله تعالى: «كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ» .. أي ليس الأمر كما تصورته أنت أيها النبىّ، ولا على الموقف الذي وقفته هنا.. «إِنَّها تَذْكِرَةٌ» أي إن دعوتك، هى تذكرة للناس، وتنبيه للغافل، وحسب.. وليس لك أن تذهب إلى أبعد من هذا.. فمع كل إنسان عقله الذي يهديه، ومع كل إنسان فطرته التي من شأنها أن تدعوه إلى الحق والخير، وتصرفه عن الضلال والشر.. إن رسالة الرسل ليست إلا إيقاظا لهذا العقل إذا غفل، وإلا تذكيرا لهذه الفطرة إذا نسيت.. وإنه ليكفى لهذا أن يؤذّن مؤذّن الحقّ فى الناس، فمن شاء أجاب، ومن شاء أعرض!. والضمير فى «ذكره» وهو الهاء، يعود إلى الله سبحانه وتعالى، فمن شاء ذكر ربه بهذه التذكرة التي جاءته من آيات الله، التي يتلوها عليه رسول الله.. قوله تعالى: «فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرامٍ بَرَرَةٍ» .. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1451 أي هذه التذكرة- وهى آيات الله- هى فى صحف مكرمة عند الله، وهى صحف مطهرة فى مقام عال لا يرقى إليها فيه دنس.. والصحف المكرمة المطهرة، صحف اللوح المحفوظ.. قوله تعالى: «مرفوعة» أي عالية القدر، مطهرة من كل نقص أو عيب.. وقوله تعالى: «بأيدى سفرة» أي أنها محمولة من اللوح المحفوظ إلى رسل الله بأيدى ملائكة، يسفرون بها بين الله سبحانه وتعالى، وبين رسله، فهم سفراء الله إلى الرسل.. والبررة، جمع بارّ، وهو التقىّ النقي، المبرأ من الدنس والرجس.. هذا، وفى هذه الآيات التي ووجه فيها النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- بهذا العتاب الرحيم الرفيق من ربه- ما نود أن نقف عنده: فأولا: أن قدر الإنسان ومنزلته، هى فيما فى عقله من بصيرة، وما فى قلبه من استعداد لتقّبل الخير والإقبال عليه.. وأن رجلا فقيرا أعمى يحمل مثل هذا العقل وذلك القلب، ليرجح ميزانه المئات والألوف من الذين عميت بصائرهم، وزاغت قلوبهم، ولو كانوا فى الناس سادة، وقادة، بمالهم، وجاههم وسلطانهم.. روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تألف من تألف من قادة قريش وزعمائها مما أفاء الله عليه من أموال هوازن، مثل عيينة بن حصن، وأبى سفيان، ومعاوية، والأقرع بن حابس وغيرهم- سأله بعض أصحابه فى شأن جعيل بن سراقة، وأنه من فقراء المسلمين، ومن أهل البلاء فيهم.. فقال صلوات الله وسلامه عليه: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1452 «أما والذي نفسى بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع «1» الأرض مثل عيينة والأقرع، ولكن تألفتهما ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه» .. وثانيا: أن هؤلاء المشركين من قريش، لا يرى فيهم الإسلام شيئا يحرص عليه، ويشتدّ طلبه له، وأن أي مسلم من الجماعة التي دخلت فى دين الله، وآمنت به، وصدق إيمانها، هو- فى ميزان الإسلام شىء- عظيم، وأن بشاشة النبىّ فى وجهه لا يحرمه منها طمع فى إسلام هؤلاء المشركين الذين ما زالوا فى قبضة الشرك.. فالأمر هنا موازنة بين مؤمن، تحقّق إيمانه، وبين مشركين مطموع فى إيمانهم.. ومع هذا فإن سبقه إلى الإيمان- وبصرف النظر عن تقبّل هؤلاء المشركين للإيمان أو إعراضهم عنه- يجعل كفّته راجحة عليهم أبدا، ولن يلحقوا به حتى ولو وقع الإيمان فى قلوبهم مثل ما وقع فى قلبه، ففضل السبق إلى الإيمان، منزلة لا يبلغها إلا أهل السبق.. الآيات: (17- 32) [سورة عبس (80) : الآيات 17 الى 32] قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32)   (1) من طلاع الأرض: من ملء الأرض. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1453 التفسير: تعود هذه الآيات إلى الكشف عن نفوس أهل الكفر والضلال، وأنها نفوس منطوية على فساد قاتل لكل معنّى من معانى الحق والخير فيها.. وقوله تعالى: «قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ» !! هو تعجب من أمر هذا الإنسان الذي يحمل فى كيانه الكفر والضلال.. والدعاء عليه بالقتل هنا هو جار على مألوف عادة العرب من دعائهم على من يكون على بدع من الأمر، وذلك فى الاستهجان، أو الاستحسان على السواء.. وقوله تعالى «ما أكفره» أي ما أشد كفره، وضلاله.. ويجوز أن تكون «ما» للاستفهام.. أي قتل الإنسان ماذا دعاه إلى الكفر؟ والمراد بالإنسان هنا، هو جنس هذا الإنسان الضال العنيد، لا كل الإنسان على إطلاقه.. قوله تعالى: «مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ؟» هو كشف عن شناعة ضلال هذا الضال، وكفره بربه.. إنه من ضلاله البعيد، ينسى أن له خالقا خلقه من عدم أو ما يشبه العدم. قوله تعالى: «مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ. ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ» هو جواب على هذا السؤال، الذي كان من شأن الإنسان أن يجيب عليه، ولو أنه أجاب على هذا السؤال الجواب الصحيح لآمن بربه، وشكر له.. ولكنه لم يسأل نفسه، هذا السؤال، ولم يجب أو لم يحسن الإجابة على هذا السؤال إذا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1454 سئل.. وألا فليسمع الجواب الصحيح، إن كانت له أذنان يسمع بهما ... «مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ، فَقَدَّرَهُ» .. فهذا هو الجواب وقوله تعالى: «فقدره» أي فقدر خلقه، وحدد صورته، وشكّل ذاته من تلك النطفة على الوجه الذي اقتضته إرادة الخالق جل وعلا فيه.. فكان ذكرا أو أنثى، جميلا أو قبيحا، ذكيّا أو غبيّا، غنيّا أو فقيرا.. إلى غير ذلك مما يتصل بالإنسان، ذاتا، وحياة.. قوله تعالى: «ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ» أي ثم بعد أن تمّ تكوينه وخلقه، يسّره الله سبحانه وتعالى إلى الطريق الذي يسلكه فى الحياة، من استقامة وعوج، ومن هدى وضلال، ومن إيمان وكفر، كما يقول سبحانه: «وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ» (10: البلد) قوله تعالى: «ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ» ثم أمات الله هذا الإنسان بعد أن انتهى أجله المقدور له فى الحياة الدنيا، وجعل له بعد الموت قبرا يدفن ويوارى جسده فى ترابه، فلا تظهر الأحوال التي تعرض له بعد الموت، من تعفن، وتفسخ وتحلل، والتي من شأنها أن تثير الاشمئزاز والهوان للكائن الإنسانى كله.. فكان هذا الدفن فى القبر مواراة لهذه السوءات، ولهذا قيل: «من تكريم الميت التعجل بدفنه» . قوله تعالى: «ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1455 أي أنه حين يشاء الله نشر هذا الميت، وبعثه من قبره- نشره بقدرته التي لا يعجزها شىء والنشر لا يكون إلا بعد طىّ، وقد كان الإنسان حيّا، ثم طويت حياته بالموت، ثم ها هو ذا ينشر بعد طىّ، بالبعث والحياة بعد الموت. قوله تعالى: «كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ» وهذا النفي فى قوله تعالى: «كلا» هو جواب على سؤال يرد عند عرض هذه الآيات التي تتحدث عن قدرة الله سبحانه وتعالى، وعن آثارها فى هذا الإنسان الذي كفر بربه، بعد أن خلقه من نطفة، ثم سوّاه رجلا.. والسؤال هو: هل آمن هذا الكافر الذي تتمثل فيه وجوه هؤلاء المشركين جميعا، بعد أن عرضت عليه هذه الآيات؟ فكان الجواب: كلا.. لمّا يقض ما أمره الله به، ودعاه إليه، من الإيمان والعمل الصالح.. وفى نفى هذا الخبر عن الإنسان بحرف النفي «لما» التي تفيد امتداد النفي إلى الوقت الحاضر، ولا تتجاوزه إلى المستقبل، الذي لم يحكم عليه إلى الآن بالنفي أو الإيجاب- فى هذا ما يشير إلى أن هؤلاء المخاطبين من المشركين فى شخص هذا الإنسان، وإن كانوا لم يؤمنوا بالله بعد، فهم ما زالوا فى معرض الإيمان، لم ينقطع بهم الطريق إليه، وأنه يرجى منهم أن يؤمنوا، أو أن يؤمن معظمهم.. وقد كان.. فهؤلاء المشركون، قد آمنوا بالله بعد هذا، ودخلوا فى دين الله أفواجا، ولم يبق منهم بعد الفتح مشرك. والمراد بالأمر فى قوله تعالى: «ما أمره» - هو الأمر التكليفي، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1456 لا الأمر الخلقي التقديري.. إذ لو كان أمرا تقديريّا لكان نافذا لا يرد، ولما كان للمأمور أن يخرج عن هذا الأمر.. قوله تعالى: «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ. أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا. ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا. فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا. وَعِنَباً وَقَضْباً. وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا. وَحَدائِقَ غُلْباً. وَفاكِهَةً وَأَبًّا» وفى هذه الآيات لقاء مع الإنسان أمام معرض آخر من معارض قدرة الله، بعد أن عرضت عليه ذاته الإنسانية، وما لله سبحانه وتعالى فيها من عجيب الخلق وبديع الصنع، فلم يحدث له ذلك ذكرا، ولم يفتح له طريقا إلى الإيمان بالله. وفى هذا المعرض، يرى الإنسان دلائل قدرة الله، فبما هو خارج عن ذاته الإنسانية، إذ قد يرى الإنسان ما هو خارج عن ذاته، دون أن يرى هذه الذات ولا ما بداخلها.. فهذا الطعام الذي يأكله الإنسان.. من أين جاء؟ ومن جاء به؟ فلينظر الإنسان إلى هذا الطعام، ولينظر إلى أنا قد صببنا الماء صبّا، أي أنزلناه من السماء، ثم شققنا الأرض شقّا بما يخرج منها من نبات، فخرج من هذه التشققات الحبّ، وهو كل ما حصد من برّ، وأرز، وشعير، وذرة، ونحوها.. كما خرج منها العنب، والقضب، وهو ما يؤكل من النبات رطبا، كالبصل، والفجل، ونحوها. وخرج منها الزيتون، الذي يستخرج منه الزيت، ليكون إداما، والنخل الذي يثمر النمر الذي يتفكّه به بعد الطعام م 92- التفسير القرآن ج 30 الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1457 فالحب يتخذ منه الخبز، والعنب يتخذ منه الخل، والقضب- كالخس، والبصل ونحوهما- تتخذ منه المخللات، والزيتون، يتخذ منه الزيت، والنخل، يؤخذ منه التمر.. ومن هذا جميعه تنتصب مائدة كاملة بين يدى الإنسان، فيها طعامه وإدامه، وما يتخلل به أثناء طعامه، وما يتفكه به بعد الطعام!! كذلك خرج من هذه الأرض الحدائق الغلب، أي كثيرة الأشجار ذات الظلال، والفواكه، وفى هذه الحدائق متعة العين، وبهجة النفس، ومسرة القلب، يجىء إليها الإنسان، لينعم، ويهنأ بالاستظلال بظلها، بعد أن يستوفى حاجته من الطعام.. فتتم بذلك النعمة، ويكمل النعيم. وفى هذه الحدائق الغلب، ذات الظلال الممدودة، والفواكه الدانية القطوف، بسط ممدودة من العشب، الذي يكسو أرض هذه الحدائق بهجة، وجمالا.. وهذا العشب هو «الأبّ» الذي يمسك بالأرض، ويلتصق بها، ويتأبّى- مع صغره، وضعف سوقه- على الرياح والعواصف أن تنتزعه من مكانه.. هذا، وفى تلك النعم التي ينعم بها الإنسان، جانب تناله الأنعام وتأكل منه، كورق الشجر، والعنب، والقضب ونحوه. ولهذا جاء قوله تعالى تعقيبا على هذه النعم: «مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ» . وقد اختلف العلماء فى معنى كلمة «الأبّ» وتواردت عليها كثير من الآراء، والروايات، لما رأوا من غرابة هذه الكلمة، وقلة دورانها على الألسنة، ومجيئها فى سياق كلمات معروفة، كثيرة التداول، كالحبّ والعنب، والقضب، والزيتون والنخل. وحين تكثر الآراء حول معنى كلمة من الكلمات، تجلب لها الروايات التي تضيف أقوالا إلى صحابة رسول الله، بل إلى رسول الله أحيانا، يسند بها كل الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1458 ذى رأى رأيه، حتى ليجد المرء نفسه بين هذه الآراء المتعارضة المتضاربة، أن الأولى به أن يدعها جميعها، وأن يجعل هذه الكلمات من كتاب الله، من المتشابه، الذي لا يعلم تأويله إلا الله!! ومن الروايات التي رويت حول كلمة «الأبّ» ما يروونه مضافا إلى أبى بكر رضى الله عنه، وقد سئل عن معنى الأب، فقال: «أي سماء تظلنى، وأي أرض تقلنى إذا قلت فى كتاب الله ما لا علم لى به» !! كذلك يروون أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، قرأ هذه الآية مرة، فقال: «كلّ هذا قد عرفنا.. فما الأب» ؟ قالوا: «ثم رفض عمر عصا كانت بيده- أي كسرها غضبا على نفسه، ولوما لها- وقال: «هذا لعمرو الله التكلف.. وما عليك يا بن أم عمر أن لا تدرى ما الأب؟» .. ثم قال: «اتّبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب، ومالا، فدعوه!!» . ونحن نقطع بتلفيق هذين الخبرين، وإلا كان علينا أن نلغى عقولنا، وأن نعطل مداركنا، ولنا على القطع بتلفيق هذين الخبرين أكثر من شاهد: فأولا: هذه الآية، فى سورة مكية، ومن أوائل ما نزل بمكة من آيات الله.. وهذا يعنى أن هذه الآية كانت على ألسنة السابقين الأولين من المسلمين، كأبى بكر وعمر- رضى الله عنهما- وأنها كانت مما يتلى من آيات الله كل يوم مرات كثيرة، وليس يعقل- مع هذا- أن تظل كلمة «الأب» خفية الدلالة، بين هذه المجموعة من الكلمات التي تعدد نعم الله، والأب لا شك نعمة من تلك النعم، وصنف من أصنافها- نقول لا يعقل أن تظل هذه الكلمة- وهذا شأنها- خفيّة الدلالة على أصحاب رسول الله، ثم لا يتوجهون إليه- صلوات الله وسلامه عليه- بالسؤال عنها، إن كان معناها غائبا عنهم! وثانيا: لا يعقل أيضا أن يمضى العهد المكي، ثم العهد المدني، دون أن الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1459 تحدّث عمر نفسه هذا الحديث الذي تحدث به عن الأبّ، إلا بعد أن يفارق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هذه الدنيا، ويلحق بالرفيق الأعلى، ثم يجد عمر هذه الكلمة، وكأنه يتلوها لأول مرة!! وثالثا: لا يعقل أيضا أن يأتى القرآن الكريم فى معرض آياته التي تحدث المشركين عن نعم الله التي أفاضها عليهم، بكلمة لا يعرفون لها مدلولا، ولا يجدون لها فيما بين أيديهم من نعم- مكانا!!. ورابعا: ورد فى الشعر العربي الجاهلى، أكثر من شاهد، يدل على أن العرب كانوا يعرفون كلمة الأب فى قاموس لغتهم، وكانوا يستعملونها فى المعنى المناسب لها.. ومن الأشعار المروية، ما يروى عن الأعشى من قوله فى الفخر: جذمنا قيس وسعد دارنا ... ولنا الأبّ بها والمكرع «1» هذا، ويعلق الإمام محمد عبده، على الرواية المنسوبة إلى سيدنا عمر ابن الخطاب- على فرض التسليم بصحتها- فيقول: «إذا سمعت هذه الروايات، فلا تظنّ أن سيدنا عمر بن الخطاب ينهى عن تتبع معانى القرآن، والبحث عن مشكلاته، ولكنه يريد أن يعلمك أن الذي عليك من حيث أنت مؤمن، إنما هو فهم جملة المعنى.. فالمطلوب منك فى هذه الآيات، هو أن تعلم أن الله يمنّ عليك بنعم أسداها إليك فى نفسك، وتقويم حياتك، وجعلها متاعا لك ولأنعامك.. فإذا جاء فى سردها لفظ لم تفهمه، لم يكن من جدّ المؤمن- أي من حظه- أن ينقطع لطلب هذا المعنى، بعد فهم   (1) الجذم: الأصل: ويروى جدنا بدلا من جذمنا، والمكرعات: النخل التي على الماء، والمكرع: الماء نفسه، والمهل الذي يروى منه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1460 المراد من ذكره، بل الواجب على أهل الجد والعزيمة، أن يعتبروا بتعداد النعم وأن يجعلوا معظم همهم الشكر، والعمل.. ثم يمضى الإمام فيقول: «هكذا كان شأن الصحابة- رضى الله عنهم- ثم خلف من بعدهم خلف وقفوا عند الألفاظ، وجعلوها شغلا شاغلا، لا يهمهم إلا التشدق بتصريفها وتأويلها، وتحميلها ما لا تحتمله، وقد تركوا قلوبهم خالية من الفكر والذكر، وأعضاء هم معطلة عن العمل الصالح والشكر» ! .. الآيات: (33- 42) [سورة عبس (80) : الآيات 33 الى 42] فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) التفسير: قوله تعالى: «فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ» الصاخة: هى الطامة الكبرى، التي جاء ذكرها فى قوله تعالى: «فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى» (34: النازعات) وهى تلك الأحداث المزلزلة التي تقع يوم القيامة.. وسميت صاخة، لأنها تصخّ الآذان، أي تقرعها قرعا شديدا عاتيا، بما يكون من صراخ وعويل، وصرير أسنان.. فى هذا اليوم العظيم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1461 وقوله تعالى: «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ، وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» يوم، هو الظرف، الذي تجىء فيه هذه الصاخة، المدويّة، المرعبة.. وفى هذا اليوم: «يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ.» يقر من كل هؤلاء الذين كانوا ملاذه، وعونه، وأمنه، طالبا النجاة لنفسه من هذا الهول، الذي لا يدع فرصة لأحد أن ينظر إلى غير نفسه: «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» : فكل إنسان فى هذا اليوم همّه الذي يشغله، ويستغرق كل ذرة فى كيانه، فلا يبقى عنده فضل لغيره، ولو كان أحب الناس إليه وآثرهم عندهم. ومن الإعجاز النفسي للقرآن الكريم فى هذه الآيات، أنه غاص فى أعماق النفس الإنسانية، وأقام مشاعرها على ميزان دقيق محكم، فجاء هذا الترتيب لموقف الإنسان ممن يقر منهم فى زحمة هذا البلاء، حسب درجة شعوره بهم، ووزنه لكل منهم.. إنه يفرّ أولا من الناس جميعا.. جملة واحدة. لا ينظر إلى أحد.. ثم هو يجد نفسه مع أشخاص قد ارتبط بهم ارتباط الجسد بأعضائه.. هم أهله، الذي هو فرع من شجرة جمعتهم وإياه.. أخوه، وأمه وأبوه، وزوجه وبنوه! ثم هو من جهة أخرى محمول بالإكراه- تحت قسوة الموقف- أن يفر منهم جميعا.. ومع أن زحمة الأحداث، وشدة البلاء- لا تدع له فرصة للاختيار، إلا أنه فى لحظة خاطفة، من أجزاء الزمن، أشبه بالذرات- يفرّ منهم على صورة تأخذ هذا الترتيب التصاعدى، القريب، فالأقرب، فمن هو أشد قربا.. فيفر أولا من أخيه، ثم أمه وأبيه، ثم زوجة، ثم يكون آخر من ينفصل عنه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1462 أبناؤه الذين هم بضعة منه، والذين لا يبقى بعدهم من ينفصل منه إلا بعض أجزاء جسمه هو!! وليس هناك- كما قلنا- زمن يقع فيه هذا الفرار على آنات متتابعة، وإنما هى وحدة شعورية بالفرار، انقسمت فى داخلها، كما تنقسم الذرة! ويلاحظ أن الزوجة، لم تأخذ مكانها من هذا الترتيب، ولم تفضل الأبوين، إلا وهى زوجة ذات صفات خاصة، وهى أنها صاحبة وزوج معا، والزوجة حين تكون بهذه الصفة هى أقرب مخلوق إلى نفس الإنسان وآثره، بعد الأبناء! هذه هى حركة النفس الإنسانية، وتلك معطيات شعورها فى حال الفرار من الخطر، والتماس سبيل النجاة.. فإذا كان الإنسان واقعا ليد الخطر فعلا، وقد أحاط به من كل جانب، وعلقت به النار من رأسه إلى أخمص قدمه- فما الحركة الشعورية للنفس فى دفع هذا الخطر، وإطفاء تلك النار المشتعلة فيه؟ نجد الجواب على هذا فى قوله تعالى، فى سورة المعارج، إذ يقول سبحانه: «يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ كَلَّا إِنَّها لَظى» . (11- 15) إن الحركة الشعورية للإنسان هنا تأخذ اتجاها عكس الاتجاه الأول، الذي أخذته فى موقف الفرار.. ففى موقف الفرار، هناك شىء من السعة، يتيح للإنسان أن يتحرك الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1463 فيه، نحو الجهة التي يتوهم أن له سبيلا إليها، وإن لم يكن ثمّة سبيل.. أما فى موقفه وقد أحاط به البلاء، واشتملت عليه النار، فإنه ليس ثمة إلا أن يمد يده إلى أقرب شىء يمكن أن يصل إليه، ليقيم منه ستارا على جسده الذي تأكله النار، وقد يكون هذا الشيء بعض أعضاء جسده هو، كيده، التي يدفع بها النار عن وجهه مثلا!! وأقرب شىء إلى الإنسان بعد أعضائه، هم بنوه، ثم صاحبته (زوجه) ثم.. ثم أسرته من أعمام، وأبناء أعمام.. ثم أهل الأرض جميعا.. كل هؤلاء يتخذ منهم دروعا واقية له، يرمى بهم فى وجه البلاء واحدا بعد واحد، ولكن هيهات أن يجد من أىّ وقاية من هذا البلاء.. إنه مجرد أمل يراوده لو أمكنته الفرصة من تحقيقه، ولكن ليس إلى ذلك من سبيل..! فهذا وجه من وجوه الإعجاز القرآنى، الذي يستولى ببيانه على حقائق الأشياء، وينفذ إلى أعماقها وخفاياها، فإذا هى فى وجه صبح مشرق مبين!! .. «1» قوله تعالى: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ» .. هو جواب «إذا» فى قوله تعالى: «فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ» أي فإذا جاءت القيامة، فأمر الناس مختلف، فهم فريقان: - «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ» أي مشرقة بالبهجة والمسرة، تضحك استبشارا بما لاح لها من دلائل الفوز، وما هبّ عليها من أنسام الرضوان والجنان.. «وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ» أي عليها غبرة الكمد والحسد، وسواد الكآبة والمذلة.. «تَرْهَقُها قَتَرَةٌ» .. أي يعلوها الشحوب، ويعتصر ماءها   (1) انظر أيضا عرضنا لهذا الموضوع فى تفسيرنا لسورة المعارج. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1464 الرّهق والتعب.. «أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ» أي أن أصحاب هذه الوجوه المغبرة الكالحة الشاحبة، هم الكفرة الفجرة، أي الذين جمعوا بين الكفر بالله، وبين المبالغة فى الضلال، والفجور.. فالكفر ظلمات بعضها أشد ظلاما من بعض، والكفار أصناف، بعضهم أشد إيغالا فى الكفر والضلال من بعض، وشتان بين كفر أبى لهب، وأبى جهل، وبين كفر غيرهم من حواشى القوم. والحديث عن الوجوه عوضا عن أصحابها- هو- كما قلنا فى غير موضع- لما فى الوجوه من قدرة على التعبير عما فى النفوس من مشاعر وعواطف.. حيث ينطبع عليها كلّ ما يقع على الإنسان مما يسوء أو يسرّ.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1465 (81) سورة التكوير ولها: نزلت بمكة بعد سورة المسد. عدد آياتها: تسع وعشرون.. آية. عدد كلماتها: مائة وأربعون كلمة. عدد حروفها: خمسمائة وثلاثة وثلاثون.. حرفا. مناسبتها لما قبلها جاء فى سورة «عبس» عرض ليوم القيامة، وللعذاب الشديد الذي يحيط بالكافرين، حتى ليفر الكافر من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه.. وقد جاءت سورة «التكوير» بعدها، عارضة المشاهد التي تسبق هذا اليوم، لتخرح بالمشركين وراء دائرة العذاب قليلا، ليلقوا نظرة على الحياة الدنيا، التي كانوا فيها، والتي يودون الفرار إليها.. فهل إذا أتيحت لهم فرصة الفرار من هذا العذاب، وعادوا إلى الدنيا، أيصلحون ما أفسدوا من حياتهم؟ أيؤمنون بهذا اليوم، وما يلقى الكافرون فيه؟ وإنهم لفى هذا اليوم فعلا، إنهم لم يبرحوا هذه الدنيا بعد.. فماذا هم فاعلون؟ .. هذا سؤال ستكشف الأيام عن الجواب الذي يعطيه هؤلاء المشركون عنه.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1466 بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 14) [سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14) التفسير: قوله تعالى: «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ... » تكوير الشمس: ظهورها كالكرة فى أعين الناس يومئذ أي يوم القيامة، حيث يشرف عليها الإنسان من عل فيراها من جميع وجوهها، لا من وجه واحد، كما تبد ولنا الآن وكأنها قرص مسطّح. وانكدار النجوم: انطفاء بريقها، حيث أن بريق هذا الضوء الذي نراه منها، إنما هو بسبب الغلاف الهوائى المحيط بالأرض.. فإذا جاوز الإنسان الغلاف الهوائى للأرض بدت النجوم كرات لا معة معلقة فى القضاء، لا يشع منها ضوء.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1467 وتعطيل العشار، وهى النوق الحوامل، هو إلقاء ما فى بطونها من أجنة، ثم عدم تعرضها للحمل، حيث يصرفها الهول عن الاستجابة لداعى الغريزة الطبيعية فيها.. يقول الإمام القرطبي: «إن تعطيل العشار تمثيل لشدة الكرب، وإلا فلا عشار ولا تعطيل» .. ونقول: إن هذا وإن كشف عن حال الشدة والكرب فى هذا الوقت، فإنه لا يمنع من أن تكون هناك العشار، وأن يكون تعطيلها عن الحمل.. فهذا خبر جاء به القرآن، ولا بد أن يقع على ما جاء به. وحشر الوحوش: هو جمع بعضها إلى بعض، وسوقها إلى أكنانها، حيث يدفعها البلاء إلى الفرار، وطلب النجاة مما تراه من أحداث القيامة، فترتدّ عن مسارحها مسرعة إلى حيث ما تظن عنده الاختفاء من الخطر المحدق بها، فتجىء من كل وجه، ويلوذ بعضها ببعض، حيث يذهب الهول بكل ما فيها من نوازع الشر والعدوان. أما ما يقال من حشر الوحوش بمعنى بعثها، وسوقها إلى الحساب والجزاء، كما يفعل بالناس، فذلك ما لا يقوم عليه دليل من كتاب الله، حيث أن الدنيا هى دار ابتلاء وتكليف للإنسان وحده من بين سائر المخلوقات التي على الأرض، وأن هذه البهائم لم تكلف بشىء، ولم تدع ألى شىء، وإنما هى مما خلق الله سبحانه للإنسان، لينتفع بها، أو ليبتلى بالضار منها، كما فى النبات أو الجماد من نافع وضار.. ويقول الإمام محمد عبده: «وحشر الوحوش، إما جمعها لاستيلاء الرعب عليها، وخروجها من أجحارها وأوكارها، ونسيانها ما كانت تخافه، فتفر منه.. فتحشر هائمة، لا يخشى بعضها بعضا، ولا يخشى جميعها سطوة الإنسان.. وقيل حشر الوحوش هلاكها..» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1468 قوله تعالى: «وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ» .. أي رؤيت وكأنها بحر واحد، محيط بالأرض، لا حركة له، وكأنه مسجور، أي مربوط بالأرض.. أما ما يقال بأن تسجير البحار هو تضرّمها، وتلهبها، حيث تصبح كتلة من نار، فهذا لا مفهوم له، إلا أن يقال- كما قيل- إن هذا دليل على قدرة الله سبحانه، وأنه كما أنبت الشجر فى أصل الجحيم، أخرج النار من قلب الماء.. وقدرة الله سبحانه لا تحتاج للدلالة عليها إلى مثل هذه الصور الشوهاء التي تفسد نظام الوجود، وتذهب بجلال الحكمة الممسكة به فى دقة وروعة، وإحكام.. قوله تعالى: «وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ» أي زوجت الأبدان التي كانت فيها، وردّت إليها، لتخرج من قبورها للبعث والحساب، والجزاء.. فالمراء بالنفوس هنا الأرواح. وقوله تعالى: «وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ» ؟ الموءودة، من توءد من البنات، وتدفن حية، بيد أهلها، كما كان كذلك عادة عند بعض قبائل العرب فى الجاهلية.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ؟ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ» (58- 59 النحل) .. وسؤال الموءودة يوم القيامة، فى مواجهة من وأدها، مع أن الأولى- الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1469 فى ظاهر الأمر- أن يسأل الجاني لا المجنى عليه- فى هذا تشنيع على الجاني ومواجهة له بالجريمة التي أجرمها، ووضعها بين يديه، ليرى تلك الجناية الغليظة المنكرة، وليسمع من قتيلته التي ظنّ أنه سوّى حسابه معها، ليسمع منطقها الذي يأخذ بتلابيبه، ويملأ قلبه فزعا ورعبا.. أرأيت إلى قتيل يظهر على مسرح القضاء، هذ وقاتله فى موقف المحاكمة؟ ثم أرأيت إلى هذا القتيل، وهو يروى للقاضى: لم قتل؟ وكيف قتل؟ ثم أرأيت إلى القاتل، وقد أذهله الموقف، فخرس لسانه، وارتعدت فرائصه، وانهار كيانه؟ ذلك بعض من هذا المشهد الذي يكون بين الموءودة ووائدها يوم القيامة!. وقوله تعالى: «وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ» . أي صحف الأعمال، حيث يقرأ كل إنسان ما سجل فى كتابه المسطور بين يديه.. قوله تعالى: «وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ» .. وكشط السماء، هو زوال هذه الصورة التي تبدو منها لنا فى الدنيا، وكأنها سقف سميك، فتبدو السماء حينئذ، وكأنها قد أزيلت من مكانها، فكانت أبوابا مفتحة تنطلق فيها الأرواح إلى ما شاء الله من علوّ، دون أن تصطدم بشىء يردّها.. قوله تعالى: «وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ. وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1470 سعرت: أي توقدت، وتسعر جمرها، وعلا لهيبها. وأزلفت: أي قربت ودنت من أهلها.. قوله تعالى: «عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ» هو جواب «إذا» الشرطية الظرفية التي تواردت على هذه الأحداث التي تقع بين يدى الساعة، وفى يوم مجيئها.. ففى هذا اليوم تعلم كلّ نفس ما أحضرت معها من أعمال عملتها فى الدنيا من خير أو شر.. الآيات: (15- 29) [سورة التكوير (81) : الآيات 15 الى 29] فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29) التفسير: قوله تعالى: «فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوارِ الْكُنَّسِ» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1471 قلنا، فى غير هذا الموضع، إن هذه الأقسام المنفية، يراد بها التعريض بالقسم، لا وقوع القسم ذاته.. إذ كان الأمر الواقع فى معرض القسم أظهر من أن يحتاج إلى توكيد وجوده بقسم. والخنس: هى الكواكب، إذا طلع عليها النهار خنست أي غابت، واختفت معالمها عن الأنظار.. والجوار الكنس، هى هذه الكواكب فى حال ظهورها بالليل، ثم تغيبها فى الأفق الغربىّ، بفعل حركة الأرض، ودورانها اليومي من الغرب إلى الشرق.. والكناس، مأوى الظباء، وبيتها الذي تسكن إليه. والخنس: جمع خنساء، وهى الظبية، تدخل فى كناسها، ومن هذا سمّى العرب به بعض بناتهم، ومنهن الخنساء الشاعرة المعروفة تشبيها بالظبية فى جمالها وتناسق أعضائها، ثم فى خفرها، وحيائها، وصونها. هذا، ومن أسماء الشمس عند العرب «الغزالة» تشبيها لها بالغزالة فى جمالها وتحركها الرتيب الهادئ على مسرح مرعاها، حتى إذا غربت الشمس، عادت إلى كناسها، واختفت فيه. وخنست.. قال المعرى: ولم أرغب عن اللذات إلّا ... لأنّ خيارها عنّى خنسنه والفاء فى قوله تعالى: «فلا أقسم» هو مرتبط بما وقع جوابا للشرط «إذا» فى أول السورة وهو قوله تعالى «عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ» أي إن هذا الحق واقع، فلا أقسم لكم على توكيده بِالْخُنَّسِ، الْجَوارِ الْكُنَّسِ» . قوله تعالى «وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ» .. عسعس الليل، أي قفل راجعا، وذهب ظلامه الذي كان مخيما على الكون.. ومنه العسس، وهم حراس الليل من الجنود، يعسّون فى الطرقات الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1472 أي يتحركون تحت جنح الظلام، ليروا ماذا يجرى من أحداث يحدثها أهل الشرّ تحت هذا الستار من الظلام.. فالليل، متحرك، وليس ثابتا.. إنه يجرى إلى كناسه، كما تجرى الكواكب إلى كناسها.. قوله تعالى: «وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ» معطوف على قوله تعالى: «وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ» وتنفس الصبح، ظهوره، ودبيب الحياة فيه. وفى التعبير عن ظهور الصبح بالتنفس، إشارة إلى أنه مولد حياة للأحياء جميعها، حيث تبعث الحياة من جديد فى الأحياء، مع الصباح، بعد أن غشيها النوم، وحبسها عن الحركة، فبدت وكأنها فى عالم الموتى.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ» (60: الأنعام) قوله تعالى: «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ» هو جواب القسم المنفي: «فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ... » أي فلا أقسم لكم بالخنس، الجوار الكنس، ولا بالليل إذا عسعس، ولا بالصبح إذا تنفس- بأن أخبار يوم القيامة وأحداثها، واقعة لا شك فيها، وأن هذه الأخبار التي تحدثكم عن هذا اليوم، هى قول رسول كريم، هو رسول الوحى، جبريل عليه السلام، بلّغ به كلمات ربه إليه.. لا أقسم لكم بهذه العوالم على وقوع هذا الخبر، فإنه بيّن ظاهر.. (م 93 التفسير القرآنى- ج 30) الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1473 ونسبة القول، وهو القرآن، إلى جبريل، لأنه هو المبلّغ له، القائل لما قيل له من ربه سبحانه وتعالى.. وقوله تعالى: «ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ» هو من صفة جبريل عليه السلام، وهو أنه ذو مكانة مكينة عند ذى العرش، وهو الله سبحانه وتعالى.. وقوله تعالى: «مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ» ومن صفات جبريل أيضا أنه مطاع هناك من ملائكة الرحمن، أمين على ما يحمل من كلمات الله إلى رسل الله، لا يبدل، ولا يحرّف. قوله تعالى: «وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ» وإذن فما صاحبكم هذا، وهو محمد- صلوات الله وسلامه عليه- ما هو بمجنون كما تقولون عنه، وإنما هو يتلقى هذا القول الذي يقوله لكم، من رسول أمين ممن السماء، يبلغ النبىّ رسالة ربه اليه. قوله تعالى: «وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ» المفسرون على أن الهاء فى قوله تعالى: «ولقد رآه» يعود إلى جبريل، عليه السلام، وأن المرئي لجبريل، هو النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الأفق المبين، هو الأفق العالي، أي أفق السموات العلا، حيث عرج بالنبي، فظهر له جبريل على صورته الملكية.. وإنه الأولى عندنا، أن يكون هذا الضمير عائدا على القرآن الكريم، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1474 وهو هذا القول الذي تلقاه النبي من جبريل.. فلقد رأى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- القرآن الكريم بالأفق المبين، العالي الواضح، فى معراجه إلى الملأ الأعلى، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى» (18: النجم) فالقرآن هو بعض ما رأى النبي الكريم فى معراجه.. حيث كان القرآن قد نزل إلى السماء الدنيا ليلة القدر، كما يذهب إلى ذلك أكثر العلماء فى تفسير قوله تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» قوله تعالى: «وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ» أي وليس النبي- صلوات الله وسلامه عليه- بالذي يضن بأنباء الغيب التي يتلقاها من ربه، فيما تحمل إليه آيات الله من أحداث يوم القيامة، وغيرها، مما جاء فى القرآن الكريم، وإنما هو رسول من عند الله، ومطلوب منه أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ» (67: المائدة) فالمراد بالغيب هنا، هو القرآن الكريم، وآياته التي حملت إلى النبي- صلوات الله وسلامه عليه- كثيرا من أنباء الغيب، من قصص وغيره، كما يقول سبحانه: «تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا» (49: هود) وقرىء: بضنين، بظنين، أي بمتهم.. أي ليس النبي- صلوات الله وسلامه عليه- بمتهم فيما يبلغ من آيات ربه. قوله تعالى: «وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ» ؟ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1475 أي أن هذا القرآن هو من قول الله سبحانه وتعالى، الذي نقله رسول الوحى جبريل، وليس من وساوس الشيطان، ولا من مقولاته.. «وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ، وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ» (210- 212: الشعراء) وقوله تعالى: «فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ» ؟ أي فإلى أي مذهب من مذاهب الضلال تذهبون، بعد هذا البيان المبين، وبعد تلك الحجة الواضحة؟ أهناك مذهب لكم إلى غير الله، وإلى غير ما تدعوكم إليه آيات الله؟ إن أي طريق آخر غير هذا الطريق هو الضلال والهلاك وقوله تعالى: «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ» أي هذا القرآن، ما هو إلا ذكر، وهدى، للعالمين وقوله تعالى: «لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ» هو بدل بعض من كلّ من قوله تعالى: «للعالمين» أي هذا القرآن هو ذكر للعالمين جميعا.. وهو ذكر لمن شاء منكم أيها المشركون، أن يتلقى منه الموعظة والهدى، ويستقيم على طريق الحق ويسلك مسلك النجاة.. وقوله تعالى: «وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1476 الواو هنا للحال، أي من شاء منكم أن يستقيم، فليطلب الاستقامة، وليرد مواردها، وليأخذ بالأسباب إليها.. ثم إن مشيئتكم تلك مرتهنة بمشيئة الله العامة الشاملة، التي كل مشيئة منطوية تحتها، دائرة فى فلكها.. فالإنسان- وإن كانت له مشيئة- ليس بالذي يستقلّ بمشيئته عن مشيئة الله، فهو إذ يشاء شيئا، وإذ يمضى هذا الشيء، فإنما ذلك من مشيئة الله فيه.. وهذا ليس بالذي يدعو الإنسان إلى أن يعطل مشيئته، منتظرا مشيئة الله فيه، لأنه لا يعلم ما مشيئة الله فيه.. بل إن عليه أن يعمل مشيئته، كما يعمل جوارحه جميعها، فإذا وافقت مشيئته مشيئة الله، مضت ونفذت، وإن خالفت مشيئة الله لم تمض، ولم تنفذ، ومضت مشيئة الله! هذا هو المطلوب من العبد.. فإن أعطى مشيئته ما ينبغى أن يقدّمه بين يديها من بحث- ونظر، وعقل- جاءت مشيئته قائمة على طريق الحق، مثمرة له أطيب الثمر، تماما، كما إذا أيقظ حواسه، وعمل بها فى المحسوسات، كان له من معطياتها ما يصله بالحياة وصلا وثيقا، ويقيمه على طريقها دون أن يتعثر، أو يضلّ! الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1477 (82) سورة الانفطار نزولها: نزلت بمكة بعد سورة النازعات. عدد آياتها: تسع عشرة آية.. عدد كلماتها: مائة كلمة. عدد حروفها: ثلاثمائة وتسعة عشر حرفا. مناسبتها لما قبلها هذه السورة الكريمة، هى على شاكلة سابقتها «التكوير» .. كل منهما حديث عن يوم القيامة وإرهاصاتها.. فكان جمعهما فى هذا السياق من جمع النظير إلى نظيره، ليتأكد ويتقرر فى الأذهان.. بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 12) [سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1478 التفسير: قوله تعالى: «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ» . هو مشابه لقوله تعالى: «إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ» ، وانفطار السماء هو تشققها وزوال هذا السقف الذي يبدو منها فى مرأى العين.. وقد أشرنا إلى هذا من قبل.. وقلنا إن هذا التغير فى نظام الوجود يوم القيامة، هو بسبب تغير حواسنا ومدركاتنا، وانتقالنا من عالم إلى عالم.. وقوله تعالى: «وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ» .. وتناثر الكواكب: هو ظهورها لنا على حقيقتها، فهى تبدو الآن- فى موقع النظر- أشبه بالمصابيح المعلقة فى السقف.. فإذا كان يوم القيامة ظهرت لنا على حقيقتها، وهى أجرام هائلة، معلقة فى الفضاء، كذلك تبدو لنا يوم القيامة فى منازل مختلفة فى علوّها، فبعضها أعلى من بعض علوّا سحيقا يقدر بألوف السنين الضوئية، على حين تظهر لنا اليوم، وكأنها على درجة واحدة فى علوها، حيث تأخذ- كما يبدو لنا- مكانها من هذا السقف المرفوع فوقنا، وكأنها مصابيح مضيئة فى سقف مرفوع، على سمت واحد. وقوله تعالى: «وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ» وتفجير البحار، هو ما يبدو يومئذ من إحاطتها بالكرة الأرضية من جميع جوانبها، على بحين تبدو هذه القارات وكأنها جزر صغيرة غارقة فى الماء وقوله تعالى: «وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1479 وبعثرة القبور، هو إخراج ما فيها من أموات، حيث تنطلق منها الحياة التي كانت مندسّة فيها، وكأنها قذائف تنفجر من باطن الأرض.. قوله تعالى: «عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ» .. هو جواب «إذا» الشرطية الظرفية، وما بعدها من معطوف عليها.. أي إذا حدثت هذه الأحداث، علمت كل نفس ما قدمت من عمل صالح للآخرة، وما فاتها أن تعمله فى الدنيا من خير.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي» (23: 24 الفجر) .. وفى تنكير «نفس» - إشارة وحدة النفوس فى هذا اليوم من حيث العلم بما لها وما عليها، فالنفوس جميعها سواء فى هذا العلم الذي يكشف كل شىء، حتى لقد أصبحت نفوس الناس جميعا أشبه بنفس واحدة.. قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ» .. الخطاب بيا أيها الإنسان، استدعاء لمعانى الإنسانية التي أودعها الله سبحانه وتعالى فى الإنسان، من قوى عاقلة مدركة، من شأنها أن تميز بين الخير والشر، وتفرق بين الإحسان والإساءة، وأن تضع بين يدى الإنسان ميزانا سليما يضع فى إحدى كفتيه ما أحسن الله به إليه، ويضع فى الكفة الأخرى ما يقدر عليه من شكر، وذلك بإحسان العمل، كما يقول سبحانه: «وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ» . (77: القصص) فإذا رأى الإنسان الكفة التي وضع فيها إحسان الله إليه ملأى بالعطايا والمنن، ثم لم يضع فى الكفة الأخرى شيئا فى مقابل هذا الإحسان، بل وتجاوز هذا، فملأ الكفة كفرا بالله، ومحادة لله ولأوليائه- فأىّ إنسان هو؟ وأي جزاء يجزى به؟ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1480 وفى اختيار صفة «الكريم» لله سبحانه وتعالى فى هذا المقام، من بين صفاته الكريمة جل شأنه- فى هذا إلفات إلى هذا الإحسان العظيم الذي أفاضه الله على الإنسان، وإلى مقدار جحود الإنسان وكفرانه، وضلاله، مع هذا الفضل الغامر، الذي يجده الإنسان فى كل ذرة من ذراته، ومع كل نفس من أنفاسه.. وفى قوله تعالى: «ما غرك» إنكار على الإنسان أن يدعوه توالى الإحسان عليه، وتكاثر النعم بين يديه، إلى أن يتخذ من ذلك أسلحة يحارب بها ربه المحسن الكريم.. وكرم الكريم، وإحسان المحسن، إذا قوبل ممن أكرم وأحسن إليه، بالاستخفاف، ثم النكران والجحود، ثم بالحرب والعدوان على الحدود- كان من مقتضى الحكمة والعدل معا، أن يؤدّب هذا الجاحد المنكر، وأن يذوق مرارة الحرمان، كما ذاق حلاوة الإحسان.. وإلا فقد الإحسان معناه، وذهب ريحه الطيب، الذي يجده الذين يعرفون قدره، ويؤدون حقه.. يقول المتنبى: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا ووضع الندى فى موضع السيف بالعلا ... مضرّ كوضع السيف فى موضع الندى وقد تأول بعض المتأولين هذه الآية تأويلا فاسدا، حين أقاموا منها حجة لأهل الزيغ والضلال، يلقون بها ربهم، إذا سئل أحدهم من ربه: «ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ؟» فيقول فى قحة، وبلا حياء: «غرّنى كرمك» !! إن ذلك مكر بالله، والله أسرع مكرا! ونعم، إن الله كريم كرما لا حدود له.. ولكن هذا الكرم، لا يقع إلا حيث المواقع التي تحيا به، وتثمر أطيب الثمر فى ظله.. إنه كرم بحكمة، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1481 وحساب وتقدير.. «وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ» (8: الرعد) ولقد وسع كرمه سبحانه، سيئات المسيئين، فتقبل توبتهم، وجعل السيئة سيئة، والحسنة عشرا، إلى سبعمائة، وأضعاف السبعمائة: «وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» . (261: البقرة) ثم كيف يعرف كرم الكريم، ويطمع فى أن ينال منه، من لا يعرف الكريم ذاته، ومن لا يرجو له وقارا؟ إن حجة هؤلاء داحضة، ومكر أولئك يبور! قوله تعالى: «الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ» . هو بيان لبعض كرم الكريم، سبحانه وتعالى، على الإنسان، وإحسانه إليه. فلقد خلق الله سبحانه هذا الإنسان فى أحسن تقويم، فعدل خلقه، وأحسن صورته، ومنحه عقلا امتاز به على كثير من المخلوقات: «وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا» (70: الإسراء) . وقوله تعالى: «فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ» - «ما» هنا للتفخيم، الذي يشير إلى قدرة الصانع، وما أودع فى جرم الإنسان الصغير، من قوى عمر بها هذه الأرض، وفتح بها مغالق كنوزها، واستأهل أن يكون خليفة الله عليها.. قوله تعالى: «كَلَّا.. بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ. وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1482 «كلا» رد على جواب مفترض، ينبغى أن يجيب به الناس على قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ» وهو قولهم: لم نغتر بكرمك يا كريم.. فجاء الرد عليهم «كلا» لقد غرّكم كرمى.. وإلا فلماذا «تكذّبون بيوم الدين» ؟ أليس تكذيبكم بما جاءت به رسل الله إليكم، مع مواصلة إحسانى إليكم، وتوالى نعمى عليكم- أليس ذلك منكم اغترارا بكرمى؟ وعلى هذا يكون الإنسان المخاطب فى قوله: «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ» - هو ذلك الإنسان الكافر بالله، المكذب بآياته.. وهو الغارق فى المعاصي، الذي لم يلتفت إلى ما وراء الحياة الدنيا، ولم يعمل للآخرة حسابا، كأنه مكذب بها.. والحافظون، هم الملائكة الموكلون بالناس، وبتسجيل ما يعملون من خير أو شر.. وهم الكرام عند الله، المكرمون بفضله وإحسانه، الكاتبون لما يعمل الناس.. الآيات: (13- 19) [سورة الانفطار (82) : الآيات 13 الى 19] إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) التفسير: قوله تعالى: «إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1483 هو بيان لحال من لا يغترون بكرم الله، ومن يغترون به. فالذين قدروا الله قدره، وعرفوا فضله وإحسانه، فآمنوا به، واستقاموا على شريعته، ولزموا حدوده- هؤلاء فى نعيم يوم القيامة، حيث ينزلهم الله فى جنات، ينعمون فيها بما يشتهون.. والأبرار: جمع برّ، وهو الذي عمل البر، والبرّ هو كل عمل طيب فى ظل الإيمان بالله، واليوم الآخر، والملائكة والكتاب والنبيين.. وسمى البرّ برّا، لأنه برّ بما عاهد الله عليه، وبالميثاق الذي واثقه به. قوله تعالى: «وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ» . والفجار: جمع فاجر، والفاجر من يفجر عن أمر الله، ويتعدى حدوده.. قوله تعالى: «يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ» . أي هذه الجحيم، التي يلقى فيها الفجار، إنما يصلونها ويعذبون بها يوم الدين، أي يوم القيامة، الذي يكذبون به. وقوله تعالى: «وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ» . أي لا يغيبون عنها، ولا يخرجون منها أبدا، بعد أن يدخلوها.. ويجوز أن يكون المعنى أنهم ليسوا غائبين عنها فى هذه الدنيا، فهم مشرفون عليها، مسوقون إليها بفجورهم، وإن لم بروها.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1484 قوله تعالى: «وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ. ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ» . استفهام يراد به عرض هذا اليوم على ما هو عليه من هول لا يوصف، ولا يعرف كنهه، لأنه شىء لم تره العيون، ولم تحم حوله الظنون. قوله تعالى: «يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ» أي أن هذا اليوم المهول، هو يوم يتعرّى فيه الناس من كل قوة وسلطان، فلا يملك أحد لأحد شيئا، ولا يدفع أحد عن أحد مكروها.. فالأمر كله بيد الله، لا يملك أحد معه من الأمر شيئا. وفى قيد الأمر لله بيوم القيامة، مع أن الأمر كله لله فى جميع الأزمان والأحوال- إشارة إلى أن الناس وإن كانوا فى الدنيا يظنون أنهم يملكون شيئا، وأنهم يملكون فيما بينهم الضر والنفع- فإن هذا الظاهر من أمرهم فى الدنيا، لن يكون لهم منه شىء فى الآخرة.. كما يقول سبحانه: «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» (16: غافر) الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1485 (83) سورة المطففين نزولها: نزلت بمكة، بعد العنكبوت.. وهى آخر ما نزل بمكة.. وقيل أول ما نزل بالمدينة عدد آياتها: ست وثلاثون.. آية عدد كلماتها: مائة كلمة، وتسع كلمات عدد حروفها: أربعمائة وثلاثون.. حرفا مناسبتها لما قبلها أجملت سورة الانفطار التي سبقت المطففين مصير الفجار، ومصير الأبرار.. فجاءت سورة المطففين. مفصلة شيئا من هذا المصير، كما جاءت كاشفة مبينة عن وجوه من فجر الفجار، كالتطفيف فى الكيل والميزان، والتكذيب بيوم الدين، والاتهام لرسول الله، ولآيات الله.. بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 17) [سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 17] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1486 التفسير قوله تعالى: «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ» التطفيف: الخروج عن سواء السبيل فى الكيل والميزان، زيادة أو نقصا.. وقد بين الله ذلك فى قوله تعالى: «الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ» .. فهؤلاء هم المطففون، قد توعدهم الله سبحانه وتعالى بالويل والعذاب الشديد فى الآخرة، لأنهم يأكلون أموال الناس بالباطل، فيأخذون أكثر مما لهم إذا كالوا أو وزنوا، أو يأخذونه كاملا وافيا «يستوفون» على حين يعطون أقل مما عليهم إذا كالوا لغيرهم أو وزنوا لهم «يخسرون» .. إنهم اؤتمنوا فخانوا الأمانة، ووضع فى أيديهم ميزان الحق، فعبثوا به، واستخفوا بحرمته.. فيستوفون حقهم كاملا إذا أخذوا، ويعطونه مبخوسا ناقصا إذا أعطوا!! وفى قوله تعالى: «اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ» وفى تعدية الفعل بحرف الجر «على» - إشارة إلى أن هذا الذي يكيلونه هو شىء لهم على غيرهم.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1487 أمّا تعدية الفعلين «كالوهم ووزنوهم» بدون حرف الجر «إلى» - فهو إشارة إلى أنهم فى تلك الحال هم الذين يكيلون ويزنون، فكأنه قيل: وإذا أعطوهم مكيلا أو موزونا يخسرون.. قيل إن أهل المدينة، كانوا قبل الإسلام أخبث الناس كيلا، فلما جاء الإسلام، وكشف لهم عن شناعة هذا العمل، وما يجر على مقترفيه من نقمة الله وعذابه- أصبحوا أعدل الناس كيلا ووزنا إلى اليوم.. والقول بأن هذه السورة هى آخر ما نزل بمكة، أولى من القول بأنها نزلت فى المدينة.. ذلك أن نزولها بالمدينة، وفى أول مقدم الرسول إليها، فيه مواجهة بالخزي والفضيحة، والتشنيع، على هؤلاء القوم الكرام، الذي استجابوا لدين الله، ورصدوا أنفسهم وأموالهم لنصرته، وفتحوا مدينتهم ودورهم لإيواء المسلمين الفارّين بدينهم من مشركى قريش.. وإن الذي يتفق وأدب الإسلام وحكمته لعلاج هذا الأمر المنكر، الذي قيل إنه كان فاشيا فى أهل المدينة- الذي يتفق مع أدب الإسلام وحكمته أن يعلن رأيه فى هذا الأمر، وحكمه على فاعليه، بعيدا عن موقع المواجهة، وأن يرمى به فى وجه المشركين قبل أن تنتقل الدعوة من ديارهم، حتى إذا بلغت سورة المطففين أسماع أهل المدينة، انخلعوا من هذا المنكر، واستقبلوا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وقد طهرت مدينتهم من هذا الخبث. والخيانة فى الكيل والميزان، ليست كما يبدو فى ظاهرها، أمرا عارضا هينا، لا يمسّ إلا جانبا من حواشى حياة الجماعة، ولا يؤثر تأثيرا ذا بال فى نظام حياتها.. وكلّا، فإن هذا الداء، إذا تفشّى فى مجتمع من المجتمعات، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1488 أفسد نظامه كله، وامتد ظله الأسود الكئيب على حياة المجتمع، مادياتها ومعنوياتها جميعا.. وحسب أي جماعة ضياعا وهلاكا، أن تفقد الثقة فى معاملاتها، وأن يكون الاتهام نقدا متبادلا بين أفرادها، أخذا، وإعطاء.. ونتصور هنا جماعة قد شاع فى معاملاتها النقد الزائف، واختلط بالنقد الصحيح.. فهل يجتمع لهذه الجماعة شمل، أو يستتب فيها نظام، أو تغشاها سكينة واطمئنان؟ .. إن حياة الناس قائمة على التبادل، والأخذ والعطاء، فإذا لم يقم ذلك بينهم على ثقة متبادلة بينهم كما يتبادلون كل شىء، انحلّ عقد نظامهم، وتقطعت عرا أوثق رابطة تربط بين الناس والناس، وتجمع بعضهم إلى بعض وهى الثقة. وفى القرآن الكريم، إشارة صريحة إلى خطورة التبادل، القائم بين الناس- أخذا وعطاء، والذي إذا لم يقم على أساس متين من العدل والإحسان، أتى على كل صالحة فى حياة الناس.. وهذا ما نراه فى دعوة نبى الله شعيب- عليه السلام- ورسالته فى قومه.. إنها رسالة، تعالج هذا الداء الذي استشرى فى القوم وتطبّ له قبل أي داء آخر، بعد داء الكفر.. فإنه لا يقوم بناء، ولا يستنبت خير، إلا إذا اقتلع هذا الداء، وطهرت منه الأرض التي يراد استصلاحها، وغرص البذور الطيبة فيها.. يقول الله سبحانه وتعالى على لسان شعيب إلى قومه: «يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ.. إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ.. وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ» (84: هود) ويقول سبحانه على لسانه أيضا: م 94- التفسير القرآنى ج 30 الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1489 «أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» (181- 183 الشعراء) . إنها قضية حق وعدل.. فإذا افتقد الحق مكانه فى قوم، وإذا اختلت موازين العدل فى أيديهم، فليأذنوا بتصدع بنيانهم، وانهيار عمرانهم، وبوار سعيهم، وسوء مصيرهم.. وقوله تعالى: «أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» .. هو استفهام إنكارى، لهذا الأمر المنكر الذي يأتيه المطففون فى الكيل والميزان.. إن هؤلاء المطففين لا يظنون أنهم مبعوثون ليوم عظيم، فيه حساب، وجزاء.. ولو كانوا يظنون هذا ما اجترءوا على أكل حقوق الناس بالباطل، ولحجزهم عن ذلك حاجز الخوف من الله، ومن لقائه بهذا المنكر الشنيع.. وفى التعبير بفعل الظن، بدلا من فعل الاعتقاد فى البعث، إشارة إلى أن مجرد الظن بأن هناك بعثا، وحسابا، وعقابا- يكفى فى العدول عن هذا المنكر، وتجنبه، توقّيا للشر المستطير، الذي ينجم عنه.. فكيف بمن يعتقد البعث، ويؤمن به؟ إنه أشد توقيا للبعث، ومحاذرة منه، وإعدادا له.. وقوله تعالى: «كَلَّا.. إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ» .. كلّا هو رد على قوله تعالى: «أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ؟» .. وكلا.. إنهم لا يظنون أنهم مبعوثون، ولو ظنوا أنهم مبعوثون ما فعلوا هذا الذي فعلوه من التطفيف فى الكيل والميزان.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1490 وقوله تعالى: «كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ» - هو إشارة إلى أن هؤلاء المطففين من الفجار، الذين خرجوا على حدود الله، وأن كتابهم الذي سجلت فيه أعمالهم المنكرة، كتاب منكر، فى مكان منكر. والسجّين: مكان مطبق، مغلق على هذا الكتاب، وهو مبالغة من السجن، وهو الحبس.. وفى هذا إشارة إلى أن هذا الكتاب- لما يضم من شنائع ومنكرات- قد ألقى به فى مكان بعيد عن الأعين، كما تلقى الجيف، أو يردم على الرمم. وقوله تعالى: «وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ» تهويل، وتشنيع، على هذا المكان الذي ضمّ هذا الكتاب العفن، الذي تفوح منه رائحة هذه المنكرات الخبيثة.. وقوله تعالى: «كِتابٌ مَرْقُومٌ» هو بدل من «سجين» .. حيث يدل ذلك على أن هذا الكتاب المنكر، والمكان الذي ألقى فيه، قد صار شيئا واحدا، هو هذا الكتاب المرقوم، أي الموسوم بتلك العلامات، والشواهد الدالة على ما ضم عليه من آثام ومنكرات.. قوله تعالى: «وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ» هو تهديد ووعيد لهؤلاء الذين يكذبون بالبعث، ولا يظنون أنهم مبعوثون ليوم عظيم.. إن لهم الويل، والهلاك، والعذاب الأليم فى هذا اليوم العظيم، الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين.. وقوله تعالى: «وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1491 الْأَوَّلِينَ» أي أنه لا يكذب بهذا اليوم إلا كل معتد على حرمات الله، غارق فى الإثم والضلال.. وإن من كان هذا شأنه من التهالك على المنكر، ولا ستغراق فى الإثم، هو فى سكرة مما هو فيه، لا يود أن يفيق منها أبدا، ولا ينتظر لليلة سكره صباحا، يقطع عنه أضغاث أحلامه، وهذيان خماره. إن آفة الذين لا يؤمنون باليوم الآخر، ليست عن حجة من عقل أو منطق، وإنما هى كامنة فى تلك الشهوات المستبدة بهم، والمتسلطة عليهم، والتي من شأنها- لكى تضمن وجودها، وتدافع عن بقائها- أن تدفع كل خاطر يزحمها، أو طارق يتهدد وجودها.. فإذا اتجهت النفس إلى الإيمان باليوم الآخر، بدا لها هذا القيد الذي يقيدها به الإيمان، ويحول بينها وبين هذا المرعى الذي تنطلق فيه هائمة على وجهها.. وهنا يضعف ذوو النفوس الخبيثة عن قبول هذا الالتزام بالوقوف عند حدود الله، فيتهمون هذا الهاتف الذي يهتف فى ضمائرهم بالإيمان بالله واليوم الآخر ليظلّوا عاكفين على ما هم فيه من آثام ومنكرات. روى أن الأعشى الشاعر الجاهلى، حين سمع بأمر النبىّ، جاء يريد الإسلام، فتلقته قريش، وقالوا له إن محمدا يحرّم الزنا، فقال: هذا لا إربة لى فيه، فقالوا: إنه يحرم الخمر، فقال: أما هذه، فإنها شهوة نفسى، وعندى خابية منها، سأروى نفسى منها سنة، ثم أعود فأدخل فى دين محمد.. فرجع ولكنه لم يعد، فقد مات فى عامه هذا!! وهكذا يتعلل أصحاب المنكرات بالعلل والمعاذير، حتى يموتوا على ما هم عليه من ضلال.. وقوله تعالى: «كَلَّا.. بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» . كلا، هو ردّ على قول هذا المعتدى الأثيم، الذي إذا تتلى عليه آيات الله الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1492 قال: «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» .. إنه يغمض عينيه عن هذا النور المشع، الذي يبدّد ظلام ليله الغارق فى. لذاته، بتلك القولة الضالة التي يقولها عن كتاب الله: «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» !! وكلا.. ليس الأمر كما زعم، ضلالا، وافتراء.. وإنما قد ران على قلبه هذا الإثم الذي غرق فيه، فلم يعد يرى حقّا، أو يهتدى إلى حقّ! و «رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ» أي غطى على قلوبهم.. والرّين على الشيء حجبه، وتغطيته. وقوله تعالى: «كَلَّا.. إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ» . هو توكيد لهذا الرّين الذي غطى قلوبهم، وأنه قد صحبهم إلى الآخرة، فحجبهم الله سبحانه وتعالى عن رؤيته، وعن موقع رحمته وإحسانه، كما حجبوا هم أنفسهم بآثامهم عن رؤية الحقّ فى الدنيا. وقوله تعالى: «ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ، ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» . أي وليس حجبهم عن الله سبحانه وتعالى فى الآخرة، وبعدهم عن مواقع رحمته، هو كل جزائهم فى الآخرة، وإن كان جزاء أليما، وعقابا زاجرا، بل إن وراء هذا نارا تلظّى، يلقون فيها، ويكونون حطبا لها.. ثم لا يتركون هكذا للنار تأكلهم، وترعى فى أجسامهم، بل ينخسون بهذه القوارع، بما يرجمون به من كل جانب، من ملائكة جهنم وخزنتها بقولهم لهم: «ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ» فذوقوه لتعلموا إن كان ما كذبتم به حقا أو غير حق، واقعا أو غير واقع: «فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا» ؟ (44: الأعراف) الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1493 الآيات: (18- 28) [سورة المطففين (83) : الآيات 18 الى 28] كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) التفسير: قوله تعالى: «كَلَّا.. إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ» .. هو رد على هؤلاء الفجار الذين أجرموا، الذين ظنوا أن مصير الناس جميعا كمصيرهم هذا، الذي يلاقون فيه أشد الهوان، وأقسى العذاب.. وكلا.. فهناك الأبرار، أهل الإيمان والإحسان.. وأنه إذا كان كتاب الفجار، قد جمع المخازي والموبقات، وأودع فى سجين، فإن كتاب الأبرار، قد حوى المكارم والطيبات، فأخذ مكانه فى عليين. وقوله تعالى: «وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ» .. المراد بالاستفهام هنا، النفي، هو تنويه بهذا الكتاب، ورفع لقدره، وقدر المكان الذي أودع فيه.. وكما رقم كتاب الفجار، ووسم بميسم التجريم، فقد رقم كتاب الأبرار، وختم بخاتم الرحمة، والمغفرة، بمحضر من الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1494 المقربين من ملائكة الرحمن.. إنهم يطالعون صفحاته، ليروا فيها كيف طاعة المطيعين، وإحسان المحسنين، من عباد الله. وقوله تعالى: «إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ» . وكما قاد كتاب الفجار أصحابه إلى جهنم وعذابها، فإن كتاب الأبرار قاد أصحابه كذلك، ولكن إلى الجنة ونعيمها، وإنهم ليأخذون مجالس نعيمهم فيها على الأرائك، وهى الأسرة ذات السّتر، حيث يسرحون بأبصارهم فى هذا النعيم المحيط بهم، ويتحملون محاسنه ومباهجه، فيعظم نعيمهم، وتتضاعف مسراتهم.. وقوله تعالى: «تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ» أي أن آثار النعيم الذي هم فيه، تراه ظاهرا على وجوههم المشرقة بنضرة النعيم ورونقه وبشاشته. وفى التعبير بقوله تعالى: «تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ» بدلا من «ترى على وجوههم» - إشارة إلى أثر هذا النعيم الواضح على الوجوه، وأن مجرد النظر إلى هذه الوجوه يفيد علما ومعرفة، بما يلقى أصحاب هذه الوجوه من ألوان النعيم.. وقوله تعالى: «يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ، خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1495 أي أن هؤلاء الأبرار، الذين أخذوا منازلهم فى الجنة، واتكئوا على الأرائك المعدّة لهم، وسرحوا بأبصارهم فى ألوان هذا النعيم الممدود بين أيديهم إنه يطاف عليهم بالرحيق، وهو الشراب الخالص من كل كدر، المبرأ من كل سوء، وقد ختم بخاتم من المسك، فإذا فضّ ختامه عبقت منه رائحة المسك، فعطرت الجو من حوله، فتنتعش النفوس لشرابه، وتهشّ لاستقباله. «وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ» أي لمثل هذا فليعمل العاملون، ويجد المجدون، ويتنافس المتنافسون.. فهذا هو الذي ينبغى أن يطلب، ويشتد الطلب عليه، ويكثر التنافس فيه، وأما ما سواه، فهو هباء وقبض الريح. قوله تعالى: «وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ» أي أن هذا الرحيق الذي يسقى منه الأبرار فى الجنة، والذي تعبق منه رائحة المسك، هو ممزوج بتسنيم!! وقد بين الله تعالى هذا التسنيم الذي يمزج بهذا الرحيق، وهو عين من عيون الجنة، لا يعلم كنهها إلا الله سبحانه وتعالى، قد أعدها- جل شأنه- ليشرب منها عباد الله المقربون، أي أهل القرب منه، وأهل الكرامة عنده.. وفى تعدية الفعل يشرب بالباء، بدلا من حرف الجر «من» كما يقضى بذلك وضع اللغة- فى هذا إشارة إلى أن هذه العين هى شراب، وأداة للشراب أيضا، فهم يشربون بهذه العين من العين!! .. وقد أشرنا إلى هذا عند تفسير قوله تعالى: «عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً» (6: الإنسان) الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1496 الآيات: (29- 36) [سورة المطففين (83) : الآيات 29 الى 36] إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) التفسير: قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ- وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ» هو عودة بالمشركين، المجرمين إلى الحياة الدنيا، وإلى مكانهم الذي زايلوه فيها، بعد هذه النّقلة السريعة التي انتقلوا بها إلى الدار الآخرة، وشهدوا فيها ما أعد لهم هناك من عذاب ونكال.. وإذ يعود المجرمون إلى مكانهم من دنياهم، يرون بين أيديهم مشهدا من تلك المشاهد المتكررة التي يعيشون فيها مع أهل الإيمان والإحسان.. إنهم يتخذون من المؤمنين مسرحا للضحك منهم، والسخرية بهم، فإذا مرّ بهم المؤمنون تغامزوا، أي غمز بعضهم بعضا، بإشارات من أعينهم، أو غمزات بأكتافهم، وكأنهم أمام مشهد عجيب غريب، يثير العجب والضحك.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1497 وقوله تعالى: «وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ» وهذا شأنهم بعد أن ينفض مجلسهم الآثم الذي جرحوا فيه المؤمنين بتغامزهم وتلامزهم.. إنهم يعودون من هذا المجلس إلى أهلهم، وعلى أفواههم طعم هذا المنكر الذي طعموه فيها، يتشدقون به ويقصّون على أهلهم ما دار على ألسنتهم من فجور، وما رموا به المؤمنين من هجر القول، وفجره، يجعلون ذلك مادة للتندر والتفكه. والفكه: كثير الفكاهة والمزاح.. قوله تعالى: «وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ» أي وليس هذا كل ما عند المجرمين من كيد للمؤمنين، بل إنهم كلما رأوا أحدا من المؤمنين أشاروا إليه كمعلم من معالم الضلال، وكأنهم يشفقون عليه من هذا الطريق الذي يسير فيه.. فيقول بعضهم لبعض: انظروا إلى هذا المسكين المغرور، الذي يمنّيه محمد بالجنة ونعيمها!! إنه مسكين.. لقد وقع فريسة لخداع محمد وتمويهه!! وقوله تعالى: «وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ» هو ردّ على هؤلاء المجرمين، وعلى إنكارهم على المؤمنين ما هم فيه.. إنهم لم يرسلوا عليهم حافظين لهم، حارسين لما يتهددهم من سوء! وقد كان الأولى بهؤلاء المجرمين الضالين أن ينظروا إلى أنفسهم، وأن يحفظوها من هذا البلاء الذي اشتمل عليهم.. ولكن هكذا أهل السوء أبدا، يشغلون عن أنفسهم وعن حراستها من المهالك والمعاثر، بالبحث عن عيوب الناس، وتتبع سقطاتهم وزلاتهم، والتشنيع بها عليهم.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1498 قوله تعالى: «فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ» هو عودة بالمجرمين من موقفهم هذا فى الحياة الدنيا، إلى موقف الحساب والجزاء مرة أخرى، وإنزالهم منازلهم فى جهنم، حيث تتعالى صر خاتهم، على حين بنظر إليهم المؤمنون، ضاحكين منهم، ساخرين بهم، كما كانوا هم يسخرون من المؤمنين ويضحكون منهم فى الدنيا.. وقوله تعالى: «عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ» هو بيان للحال التي عليها المؤمنون، وهم يضحكون من الكفار.. إنهم يضحكون وهم جالسون، مستريحون على الأرائك، على حين يتقلب المجرمون على جمر جهنم. وقوله تعالى: «ينظرون» حال أخرى من أحوال المؤمنين، وهم يضحكون من الكفار، حال جلوسهم على الأرائك، ينظرون، أي يملئون عيونهم من نعيم الجنة الذي يحفّ بهم.. وقوله تعالى: «هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ» يجوز أن يكون معمولا لقوله تعالى: «ينظرون» أي ينظر المؤمنون وهم على أرائكهم ليروا هل ثوب الكفار، أي هل جوزوا بما كانوا يفعلون؟ وذلك ليتحقق لهم وعيد الله فى أهل الضلال، كما تحقق لهم وعده فى أهل الإيمان.. ويجوز أن يكون هذا كلاما مستأنفا، يراد به تبكيت الكفار، وهل جوزوا للجزاء الذي يستحقونه، أم أن هناك مزيدا من العذاب يريدونه إن كان فوق ما هم فيه مزيد؟ .. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1499 (84) سورة الانشقاق نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة الانفطار عدد آياتها: خمس وعشرون آية عدد كلماتها: مائة كلمة وسبع كلمات. عدد حروفها: أربعمائة وثلاثة وثلاثون حرفا مناسبتها لما قبلها تعد هذه السورة، وما سبقها، وما يأتى بعدها، حديثا متصلا عن القيامة وأحداثها.. فكل سورة منها معرض من معارض هذا اليوم المشهود.. فإذا ذهبنا نلتمس مناسبة لترتيب هذه السور، كان ذلك أشبه بالتماس المناسبة بين ترتيب الآي فى السورة الواحدة.. والمناسبة هنا وهناك قائمة أبدا.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1500 بسم الله الرحمن الرّحيم الآيات: (1- 15) [سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) التفسير: قوله تعالى: «إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ» هو مثل قوله تعالى: «إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ» - وتشقق السماء وانفطارها يوم القيامة، هو- كما قلنا- لما يكون فى قدرة الإنسان يومئذ على التصعيد فى آفاق السماء، دون أن يجد لهذا السقف الذي يراه فى الدنيا، أثرا.. فهى أبواب مفتحة، ينطلق فيها إلى ما لا حدود له.. «وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً» (19: النبأ) وقوله تعالى: «وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1501 أي أصغت، واستجابت لأمر ربها.. يقال أذن فلان لفلان، أي أصغى إليه، وأعطاه أذنه، متقبّلا ما يتحدث به إليه.. «وحقت» أي لزمتها الطاعة، وحقّ عليها الولاء والخضوع لأمر الله.. وهل تملك غير هذا؟ فإن لم تستجب لذلك طوعا أجابت كرها.. «فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» (11: فصلت) قوله تعالى: «وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ. وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ. وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ» ومدّ الأرض، هو ظهورها كالبساط الممدود، فلا ترى العين المحلقة بعيدا فوقها، جبالا ولا هضابا، وإنما تراها على مستوى واحد، لا عوج فيها ولا أمتا. وإلقاء ما فى الأرض: هو إخراج ما فيها من موتى، كما يقول سبحانه: «وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها» (2: الزلزلة) وفى التعبير هنا بلفظ الإلقاء- إشارة إلى أنها تلفظ ما فيها لفظا، كما يلقى سقط الجنين من بطن أمه. وقوله تعالى: «وتخلت» أي أنها تخلت عما ألقته من بطنها، فلم تمسك به على ظهرها، وهذا ما يشير إلى أن الحشر سيكون فى موضع آخر غير الأرض، الله سبحانه وتعالى أعلم به. قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1502 هو جواب إذا الشرطية.. أي إذا حدث هذا، فاعلم يا أيها الإنسان أنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ومعنى الكدح: السعى الشديد، وقد أكد بقوله تعالى: «كدحا» أي سعيا جادّا متصلا، لا ينقطع.. أي أنه إذا حدثت هذه الأحداث، فتلك هى أشراط الساعة، وهنا تبدأ مسيرتك إلى المحشر، أيها الإنسان، وإلى لقاء ربك، وذلك على طريق كله أهوال وشدائد، تشيب لها الولدان.. قوله تعالى: «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً» أي وهناك فى موقف الحساب، يؤتى كل إنسان كتابه: «وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» (13- 14: الإسراء) فأما من أوتى كتابه بيمينه، فهو من أهل السلامة والنجاة. إنه يحاسب حسابا يسيرا، لا رهق فيه، لا عسر.. فما هو إلا أن يعرض فى موقف الحساب، حتى يخلى سبيله. ففترة العرض والانتظار، هى هذا الحساب اليسير.. ففى الحديث عن عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حوسب يوم القيامة عذّب» قالت: فقلت يا رسول الله: أليس قد قال الله: «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً» فقال: «ليس ذلك الحساب: إنما ذلك العرض.. من نوقش الحساب يوم القيامة عذب» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1503 ثم ينقلب من هذا الحساب- وقد برئت ساحته- يزف إلى أهله من إخوانه المؤمنين بشرى نجاته وسلامته، وقد غمره السرور، وفاض عليه البشر فلا يملك إلا أن يهتف بكل من يلقاه من أهل المحشر: «هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ» (19: الحاقة) قوله تعالى: «وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ، فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً، وَيَصْلى سَعِيراً، إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ» «وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ» إشارة إلى أن المجرم حين رأى هذا الكتاب وما طلع به عليه من نذر الشؤم والبلاء- فرّ منه؟ وطرح يديه وراء ظهره بعيدا عنه، حتى لا يمسه، ولكن أنّى له أن يهرب منه، إنه لا بد أن يأخذه، فإن لم يمد يده هو إلى أخذه، لحق الكتاب به، وتعلق بشماله حيث بلغت مداها من الارتداد وراء ظهره. وفى هذه الصورة ما يكشف عن حركات النفس، وما يتبعها من حركات ترتسم على الجوارح..! وقوله تعالى: «فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً» أي أن من أوتى كتابه بهذا الأسلوب، من وراء ظهره، فسوف يصرخ صرخات الثبور، ويولول ولولات الهلاك، نادبا نفسه، ناعيا مصيره.. وكيف لا يكون منه هذا والنار قد فتحت أبوابها له. وقوله تعالى: «إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً» إشارة إلى ما كان عليه هذا الضال فى الدنيا من غرور بنفسه، وإعجاب بحاله، وبما يسوقه إلى المؤمنين من كيد.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1504 وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ» (31: المطففين) وقوله تعالى: «إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ» أي أن هذا الضالّ ظن أن لن يرجع إلى الله، وأن يبعث بعد الموت، ويحاسب على ما كان منه.. وحار: يحور: أي رجع إلى المكان الذي بدأ منه مسيرته، فى حركة دائرية تصحبه فيها الحيرة والقلق، والاضطراب.. وهكذا مسيرة الإنسان فى الحياة، بتحرك فيها على طريق دائرى، ينتهى من حيث بدأ ويبدأ من حيث انتهى. وقوله تعالى: «بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً» هو جواب بالإيجاب لما بعد النفي.. أي بلى ليحورنّ، ويرجعنّ إلى الله، الذي هو بصير بعباده، يعلم ما يصلحون له، وما يصلح لهم.. وهذه الحياة الأخرى، هى امتداد لحياة الإنسان الأولى على هذه الأرض.. والحياة على أية صورة نعمة من نعم الله، وهى على ما تكون عليه، خير من العدم.. ولو كانت الحياة الدنيا هى غاية حياة الإنسان، ثم عاد بعدها إلى العدم لكان شأنه فى هذا شأن أحط الحيوانات، من ديدان وحشرات.. وإرادة الله سبحانه وتعالى فى الإنسان أنه مخلوق مكرم مفضل على كثير من المخلوقات.. ومن مقتضى هذا التفضيل والتكريم أن تمتد حياته، وأن يتصل وجوده، وأن ينقل من عالم الأرض إلى عالم السماء! ولعل هذا هو بعض السر فى إضافة هذا الإنسان- على ضلاله- إلى ربه.. «إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً» .. فليتحمل الإنسان الضالّ، هذه النار فى سبيل الحياة، وليتطهر من أدرانه بها.. فتلك هى ضريبة الحياة، وإن كانت فادحة على أهل الكفر والضلال، كما كانت الحياة الدنيا ثقيلة على أهل العدل والإحسان.. م 95- التفسير القرآن ج 30 الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1505 وأما ما يتمناه الكافر حين يلقى به فى النار من قوله: الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً» (40: النبأ) فتلك صرخة من صرخات العذاب، إنه ينطق بها، وهو ممسك بالحياة حريص عليها، كما يفعل ذلك كثير من الناس فى الدنيا، حين تشتد بهم خطوبها، فيتمنون الموت.. ولو جاءهم الموت لفرّوا منه، وتشبثوا بحياتهم تلك.. الآيات: (16- 25) [سورة الانشقاق (84) : الآيات 16 الى 25] فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) التفسير: قوله تعالى: «فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ، لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ» .. قلنا- فى أكثر من موضع-: إن هذه الأقسام المنفية فى القرآن، إنما يقسم بها على أمور واضحة، لا تحتاج فى تقرير حقيقتها، وتوكيد وجودها، إلى قسم.. فالتلويح بالقسم هنا إشارة إلى أن ما يقسم عليه لا يحتاج إلى قسم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1506 لمن عنده أدنى نظر، أو مسكة عقل، فهو فى الواقع قسم مؤكّد بهذا النفي الذي وقع عليه.. والشفق: هو الصفرة المشوبة بحمرة، تعلو وجه النهار عند الغروب.. وهو إيذان بدخول الليل، ولهذا جاء الليل معطوفا على الشفق.. «فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ» .. وقوله تعالى: «وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ» - إشارة إلى ما يحمل الليل من نجوم وكواكب، كما أنه يحمل كل هذه الكائنات التي كانت تتحرك بالنهار، فيضمها إلى جناحه ويحملها على صدره، كما تحمل الأم وليدها.. والوسق: الحمل، الذي يوضع على ظهر الدابة. وقوله تعالى: «وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ» أي إذا اكتمل، وصار بدرا.. يقال: اتسق الشيء: أي بلغ غاية تمامه.. وفى الجمع بين الشفق، والليل، والقمر، مراعاة للمناسبة الزمنية الجامعة بينها.. فالشفق أول الليل من الأفق الغربي، والقمر أوله من الأفق الشرقي.. (حيث يكون اتساقه وكماله وهو بدر فى الليلة الخامسة عشرة.) فالمقسم به الواقع عليه النفي، هو هذا الظرف من الزمن، وهو ليلة انتصاف الشهر القمري، حيث تغرب الشمس، ويطلع القمر.. أو حيث يولّى سلطان الشمس، ويقوم سلطان القمر.. فالظرف الزمنى هنا، هو الليل الذي يقوم عليه سلطان القمر.. والليل، بمثل الإنسان فى جسده الترابي، المظلم المعتم.. والقمر، يمثل الضمير، أو الفطرة المركوزة فى هذا الإنسان، والتي الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1507 يهتدى بها إلى الحق والخير، حين تظلم شمس العقل، وتختفى فى ظلمات الحيرة، وبين سحب الشكوك والريب. ولهذا وقع القسم على تلك الحال التي يركب فيها الإنسان غواشى الضلال، وتلقاه على طريقه المزالق والمعاثر: «لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ» فلا يكون له مفزع حينئذ إلا فطرته، التي يهتدى بها إلى طريق النجاة، كما يفعل الحيوان فى تصريف أموره، على ما توجهه إليه غريزته.. فإذا افتقد الإنسان فطرته فى هذا الموطن، كان من الهالكين.. وقوله تعالى: «لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ» . هو جواب لهذه الأقسام المنفية التي لوّح بها، والتي يخفيها النفي، ويظهرها للمقام.. وقوله تعالى: «طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ» أي لتتحولن عن حالكم تلك إلى حال أخرى مطابقة لها، حيث تجدون وجودكم فى الآخرة، صادرا عن وجودكم فى الدنيا.. وفى التعبير بالركوب، عن التحول من حال إلى حال، ومن موقف إلى موقف- إشارة إلى أن ذلك لا يكون إلا على طريق شاق، يلاقى فيه الناس الأهول والمخاطر.. إنهم ينتقلون من نهار، كله سعى وعمل، إلى ليل بطل فيه كل سعى وعمل.. وفى الليل يلتقى المهمومون مع همومهم، على حين يتناجى السعداء مع آمالهم وأحلامهم! .. ثم إنهم ينتقلون من الحياة إلى الموت، ثم من الموت الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1508 إلى الحياة.. من الدنيا إلى الآخرة.. وهى رحلة طويلة شاقة يقطعها الإنسان فى جهد وعناء، متنقلا من حال إلى حال، ومتقلّبا فى صور مختلفة، ومنازل متبانية. قوله تعالى: «فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» .. أي ما لهؤلاء المكذبين باليوم الآخر، لا يؤمنون به، ولا يعملون له وقد جاعتهم؟؟ به النذر؟. وماذا أضلهم عنه، أو حجبهم دونه؟ إنه ليس إلا الكبر والعناد.. وإلا التنكر لفطرتهم التي تهتف بهم أن آمنوا بالله!. وقوله تعالى: «وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ» . ثم مالهم إذا تليت عليهم آيات الله، لا يسجدون لجلالها، ولا يخشعون لعظمتها؟ .. وفى هذا إشارة إلى ما فى القرآن من جلال تعنو له الجباه، وتخشع لسلطانه القلوب.. «لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ» (21: الحشر) .. وقوله تعالى: «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ» .. هو إضراب عن هذا السؤال، الذي يستحثهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وإلى توقير آيات الله، والخشوع بين يديها.. فهذا التحريض لهم، لا ينفعهم، ولا يؤثر فيهم.. إنهم كافرون، والكافرون من شأنهم التكذيب: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1509 «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» (6: البقرة) «إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» (96- 97: يونس) وقوله تعالى: «وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ» .. هو تهديد لهؤلاء المكذبين بآيات الله، المنكرين للبعث.. فالله سبحانه أعلم بما يجمعون من محصول ضلالهم وكفرهم.. ويوعون: من أوعى يوعى.. أي جمع وحفظ ما جمع فى وعاء.. ومنه قوله تعالى: «وَجَمَعَ فَأَوْعى» (18: المعارج) .. قوله تعالى: «فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ» . وهكذا يتحول النبي مع هؤلاء المشركين المكذبين، من منذر إلى مبشر، ولكنه مبشّر بالعذاب الأليم لهم.. فهذا ما يبشرهم به، على حين يبشر المؤمنين بجنات النعيم.. وفى التعبير بالبشرى عن بالعذاب الأليم بدلا من الإنذار به- إشارة إلى أنه لا شىء لهؤلاء الضالين المكذبين يبشرون به فى هذا اليوم، وأنهم إذا بشروا بشىء فليس إلا النار، والعذاب الأليم.. وفى هذا تيئيس لهؤلاء الضالين من أي خير!! قوله تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» .. أي لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جزاؤهم من البر والإحسان، لا ينقطع أبدا.. فالاستثناء هنا منقطع.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1510 (85) سورة البروج نزولها: مكية- نزلت بعد سورة الشمس. عدد آياتها:: اثنتان وعشرون. آية.. عدد كلماتها: مائة كلمة، وتسع كلمات. عدد حروفها. أربعمائة وثمانية وخمسون.. حرفا. مناسبتها لما قبلها هى معرض من معارض يوم القيامة، فكان سياقها مع ما سبقها، سياق الجزء من كل.. بسم الله الرحمن الرّحيم الآيات: (1- 9) [سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) التفسير: قوله تعالى: «وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1511 البروج: جمع برج، وهو القصر، أو الحصن، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ» . وبروج السماء، هى المنازل التي تنزل فيها الكواكب والنجوم فى مداراتها وبروج الشمس، هى منازلها فى حركتها على مدار السنة، وهى اثنا عشر برجا.. منها ستة شمال خط الاستواء، وستة فى جنوبه.. وقد رصد الفلكيون قديما وحديثا، هذه المنازل، وسموها بأسمائها.. وهى: الحمل، والثور، والجوزاء والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدى، والدلو، والحوت.. قوله تعالى: «وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ» .. هو يوم القيامة، الذي وعد به الناس على لسان رسل الله. وقوله تعالى: «وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ» .. الشاهد: الرائي للأشياء، المحسّ بها، حيث يشهدها واقعة فى حواسه. والمشهود: ما يقع عليه الحسّ البصري من عوالم المخلوقات، فى الأرض وفى السماء.. ففى هذه الأقسام الثلاثة جمع الله سبحانه وتعالى، عالم المخلوقات، علويّة، وسفلية، وغائبة وحاضرة، ومنظورة وناظرة.. لقد استحضر الله سبحانه وتعالى، الوجود كله، ليشهد هذا الجرم الغليظ، وليسمع حكمه سبحانه، على المجرمين الذين اقترفوه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1512 ومن هؤلاء المجرمون؟ إنهم أصحاب الأخدود!! وبماذا حكم الله عليهم؟ بالقتل بيده سبحانه، كما قتلوا المؤمنين، رجال الله، بأيديهم.. «قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ» . والأخدود: الشق فى الأرض، وجمعه أخاديد. وأصحاب الأخدود، هم قوم كافرون بالله، كان لهم موقف مع المؤمنين بالله، شأنهم فى هذا شأن كل الكافرين مع المؤمنين فى كل زمان ومكان.. ولكن أصحاب الأخدود هؤلاء، قد جاءوا بمنكر لم يأته أحد من إخوانهم من أهل الضلال، ولهذا كانت جريمتهم أشنع جريمة، يستدعى لها الوجود كله، ليشهد محاكمتهم، وليسمع حكم الله عليهم. لقد خدّوا أخاديد فى الأرض، أي حفروا حفرا عميقة فى الأرض، وملئوها حطبا، وأوقدوا فيها النار، حتى تسعرت، وعلا لهيبها، واشتد ضرامها، ثم نصبوا كراسى حولها يجلسون عليها، وجاءوا بالمؤمنين بالله يرسفون فى أغلالهم يعرضونهم على النار واحدا بعد واحد، ويلقونهم فيها مؤمنا إثر مؤمن.. والمؤمنون يرون هذا ويقدمون عليه، دون أن ينال هذا العذاب من إيمانهم، أو يردهم عن دينهم الذي ارتضوه.. وفى هذا شاهد من شهود الإيمان المتمكن من القلوب، الراسخ فى النفوس.. إنه أقوى من الجبال الراسيات، لا تنال منها الأعاصير، ولا تزحزحها عانيات العواصف! وقوله تعالى: «النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ» . وهو بدل من «الأخدود» .. أي قتل أصحاب النار ذات الوقود. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1513 وقوله تعالى: «إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ. وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ» . أي أن أصحاب الأخدود قعود على هذه النار، قائمون عليها، يشهدون تنفيذ حكمهم فى المؤمنين بالله، ويتشفون بما هم فيه من عذاب. وقوله تعالى: «وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ. الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» . أي أنه ليس بين أصحاب الأخدود هؤلاء، وبين المؤمنين، من ذنب يأخذونهم به، إلا إيمانهم بالله العزيز الحميد.. إنهم يؤمنون بالله الذي لاقوة إلا قوته، ولا عزة إلا عزته، وأن ما يملكه أصحاب الأخدود من قوة، وما يجدونه فى أنفسهم من عزة، هو شىء محقر مهين إلى جانب عزة الله، التي يلوذ بها المؤمنون.. وهم- أي المؤمنون- يحمدون الله على السراء كما يحمدونه على الضراء، فهو سبحانه المستحق وحده للحمد فى جميع الأحوال.. وهو سبحانه، له ملك السموات والأرض وما فيهن، من عتاة وجبارين ومتكبرين، وهو يرى ويعلم كل شىء، فينتقم لأوليائه، ويأخذ لهم بحقهم ممن اعتدى عليهم.. ولقد انتقم الله لأوليائه، وهاهم أولاء المجرمون قد سيقوا إلى ساحة قضائه العادل، وقد صب الله عليهم لعنته، وألقى بهم فى عذاب الحريق! وفى التعبير عن إيمان المؤمنين بفعل المستقبل: «إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا» ، بدلا من الفعل الماضي، الذي يقتضيه المقام، والذي بسبب وقوعه كانت نقمة الناقمين عليهم- فى هذا إشارة إلى أن هذا الإيمان الذي فى قلوب هؤلاء المؤمنين، هو إيمان ثابت فى قلوبهم، مصاحب لهم، لا يتحولون عنه، ولا يجليه عن قلوبهم وعد أو وعيد. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1514 هذا ولقد كثرت الأقوال فى أصحاب الأخدود، وفى الزمان الذي كانوا فيه، والوطن الذي ينتسبون إليه.. وكثرة هذه الأقوال وتعارضها يفقدها الأثر الذي لها، ويجعل كلّ قول غيرها- ولو كان من واردات الظن والافتراض- مثلها تماما فى النظر إليه عند تصوّر الحدث. والقرآن الكريم، لا يذكر أسماء الأشخاص، أو تحديد الأماكن أو الأزمان، إلا إذا كان للشخص دلالة خاصة فى ذاته، لا ترى فى غيره، وإلا إذا كان للمكان أو الزمان، أثر خاص فى الحدث الذي حدث فيه، أو صفات لا توجد فى مكان آخر، أو زمن غير هذا الزمن. أما حين لا يكون للشخص أو المكان أو الزمان وزن خاص فى ميلاد الحدث، وفى تكوين صورته، وطبعه بطابعه الخالص، فلا يعنى القرآن بذكر ذات الشخص، ولا موضع المكان، ولا حدود الزمان.. وذلك ليكون الحدث مطلقا من أي قيد، ليعطى دلالة وحكمة، حيث يلتقى بما يشبهه من ذوات الأشخاص، وملامح الزمان والمكان. الآيات: (10- 22) [سورة البروج (85) : الآيات 10 الى 22] إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1515 التفسير: قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ» . الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات: أي الذين كادوا لهم فى دينهم، وأخذوهم بالبأساء والضراء ليفتنوهم فى دينهم، ويخرجوهم منه. وهذا وعيد من الله سبحانه وتعالى لكل من تعرض لأوليائه المؤمنين والمؤمنات، بأذى، يريد أن يصرفهم عن الإيمان، أو يصدّهم عنه.. فهؤلاء الذين آذوا المؤمنين والمؤمنات بسبب إيمانهم، إذا لم ينزعوا عما هم فيه، ولم يرجعوا إلى الله مؤمنين تائبين، فقد أعدّ الله لهم عذاب جهنم، بما فيها من مقامع من حديد، ومن شدّ إلى السلاسل والأغلال، ومن حميم يصبّ فوق الرءوس، ومن غساق يقطع الأمعاء.. ثم لهم فوق ذلك كله عذاب الحريق، أي عذاب النار ذاتها، الذي يرعى أجسامهم، كما ترعى النار الحطب. قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ» . هو فى مقابل ما يلقى الذي فتنوا المؤمنين والمؤمنات، من عذاب.. إذ ليس العذاب هو كل ما فى الآخرة، بل فيها إلى جانب النار للمجرمين، جنات تجرى من تحتها الأنهار للمؤمنين المتقين: «وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ» (20: الحديد) الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1516 قوله تعالى: «إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ» البطش الأخذ بالشدة الباطشة، كما فى قوله تعالى: «إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» أي أن عقاب الله سبحانه للمجرمين عقاب شديد، متمكن منهم، لا يجدون سبيلا للفرار منه.. وفى هذا وعيد للمشركين، وشدّ لأزر النبىّ، وإلفاته إلى أن هؤلاء المشركين هم فى قبضة الله، لا يفلتون منه أبدا. وقوله تعالى: «إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ» . أي أنه سبحانه يبدىء الخلق ويعيده، فيحيى ويميت، ويميت ويحيى، وفى هذا دليل على القدرة الفعّالة الدائمة، القائمة على تدبير هذا الوجود، وتبدّل صوره حالا بعد حال، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» (29: الرحمن) . وقوله تعالى: «وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ. ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ. فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ» . أي ومن صفاته سبحانه أنه «الغفور» أي الكثير للغفرة لذنوب عباده المؤمنين، الذين يجيئون إليه تائبين مستغفرين: «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى» (82: طه) .. وهو سبحانه «الودود» أي الكثير الودّ لمن وادّ الله ورسوله، كما يقول سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا» (96: مريم) وهو سبحانه صاحب السلطان الرفيع العظيم، الذي لا يساميه سلطان. وهو- سبحانه- الفعال لما يريد.. أي يفعل ما يشاءدون معوق أو معقب.. فكل ما أراده سبحانه تمضيه قدرته.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1517 وفى هذا العرض لصفات الله- سبحانه- الجامعة بين القدرة والبطش، وبين المغفرة والود- فى هذا وعيد ووعد، وتهديد وترغيب.. فمن خاف وعيد الله بالعذاب، تلقاه وعده بالرحمة والرضوان، ومن أفزعه التهديد بالنار وعذابها، آنسه للترغيب بالجنة ونعيمها وقوله تعالى: «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ. فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ» . هو إلفات إلى طغمة من عتاة الناس وأشرارهم، من الذين استخفوا بقدرة الله، ولم يرهبوا سلطانه، فتسلطوا على العباد، وطغوا فى البلاد، فأكثروا فيها الفساد. والاستفهام هنا: إما أن يكون على حقيقته، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قد تلقى من آيات ربه قبل ذلك، حديثا عن فرعون، وثمود، وما أخذهم الله به من بلاء ونكال، وعلى هذا يكون جواب الاستفهام محذوفا، تقديره. نعم أنانى حديث الجنود فرعون، وثمود! ويكون التعقيب على هذا الجواب أظهر من أن بدل عليه، وهو: ألا ترى فى هذا الحديث ما أخذ الله به أهل البغي والتعدي؟ وهل قومك أعتى عتوّا وأشد قوة من فرعون وجبروته، وتمود وبطشهم؟ ويجوز أن يكون الاستفهام مرادا به بالنفي، أي إنه لم يأتك حديث الجنود.. وإذن فسنقصه عليك فيما سينزل عليك من آياتنا بعد.. وفى هذا ما ببعث الشوق والتطلع إلى هذا الحديث العجيب، وانتظاره فى لهفة، وترقب. وفى وصف القوم بالجنود، إشارة دالة إلى أنهم ذوو بأس وقوة، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1518 كبأس أبطال الحرب وقوتهم، وأنهم فى حرب مع أولياء الله، يلبسون لباس الحرب دائما. قوله تعالى: «بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ، وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ» هو إضراب عن انتفاع المشركين بهذه العبر والمثلات، التي يقصها الله سبحانه وتعالى من أخبار القرون الأولى، وما أخذ به أهل الضلال والسفه والعناد.. فالذين كفروا «فى تكذيب» أي هكذا شأنهم دائما، هم فى سلسلة لا تنقطع من التكذيب لكل ما يسمعون من آيات الله، دون أن يصغوا إلى ما يسمعونه، أو يعقلوه.. فالتكذيب بآيات الله وبرسل الله، هو الظرف الذي يحتويهم فى كل زمان ومكان.. وقوله تعالى: «وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ» تهديد لهم بأن الله سبحانه وتعالى محيط بهم، وهم فى غفلة عن هذا، وهم لهذا سيؤخذون دون أن يشعروا، لأنهم غافلون عن علم الله، وعن قدرته، ذاهلون عن عقابه الراصد للمجرمين الضالين.. وقوله تعالى: «بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ» هو إضراب عن هذا الإضراب.. وذلك أن المشركين، وإن لم ينتفعوا بما فى القرآن، ولا بشىء من نوره الذي يملأ الآفاق.. فهو قرآن مجيد، أي عالى القدر، رفيع الشأن لا ينال منه هذا النباح، ولا يصل إلى سمائه هذا العواء، من المشركين الضالين.. أنه فى لوح محفوظ عند الله، وفى كتاب مكنون، ولا يمسّه، ولا يصافح نوره، إلّا من طهرت أنفسهم من دنس الكفر ورجس الضلال.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1519 (86) سورة الطارق نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة البلد عدد آياتها: سبع عشرة آية.. عدد كلماتها: إحدى وستون كلمة عدد حروفها: مائتان وتسعة وثلاثون حرفا مناسبتها لما قبلها هى نسق متّسق مع ما سبقها، فى عرض أحداث يوم القيامة، وإرهاصاتها، تقريرا، وتوكيدا لهذا اليوم.. بسم الله الرحمن الرّحيم الآيات: (1- 17) [سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 17] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1520 التفسير: قوله تعالى: «وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ. وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ. النَّجْمُ الثَّاقِبُ» . القسم هنا، بشيئين، هما: السماء، والطارق! ولأن السماء معروفة، وهى هذا البناء القائم ذو السقف المرفوع فوقنا- فلهذا لم يكشف القرآن عن وجهها.. أما «الطارق» فهو مما لا يعرف على وجه التحديد، فإن لفظ «الطارق» يحتمل معانى كثيرة.. فكل ما طرق الإنسان وجاءه على غير انتظار، فهو طارق، سواء أكان شخصا أم حدثا.. وفى الحديث الشريف: «أعوذ بك من طوارق الليل والنهار إلّا طارقا يطرق بخير يا رحمن» .. ولهذا فقد جاء القرآن بهذا السؤال عنه: «وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ» ؟ حتى ينبّه إليه، ويبعث على التطلع إلى معرفته.. ثم بينه الله سبحانه وتعالى بقوله: «النَّجْمُ الثَّاقِبُ» فهذا هو الطارق.. إنه النجم الثاقب! والنجم الثاقب: قد يكون نجما واحدا، وهو النجم القطبي، الذي يثقب ظلمة الليل بضوئه المشع، كما أشرنا إلى ذلك فى سورة النجم. وقد يكون مرادا به، جنس النجم، أي كل ما يظهر فى السماء من نجوم، تثقب بضوئها أديم السماء المعتم. وقد يكون المراد به تلك الشهب الراصدة، التي ترجم بها الشياطين، وهى النيازك التي ترى ساقطة من السماء إلى الأرض فى الليل، ثاقبة الظلام المنعقد بين السماء والأرض.. «م 96 التفسير القرآنى ج 30» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1521 وهذا، هو الأنسب، لأنه يتّسق مع قوله تعالى بعد ذلك: «إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ» أي أنه كما للسماء حفظة يحفظونها من أن تدخل الشياطين حماها، كما يقول سبحانه وتعالى على لسان الجن: «وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً» (8: الجن) .. وكما يقول جل شأنه: «وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ» (5: الملك) وكما يقول سبحانه: «إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ» (6، 7: الصافات) - أي كما جعلنا للسماء حفظة يحفظونها، كذلك جعلنا على كل نفس حافظا موكّلا بها من عندنا، يسجل أعمالها، كما يقول سبحانه: «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ، كِراماً كاتِبِينَ» (10، 11 الانفطار) وكما يقول تعالى: «لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ» (11: الرعد) . وقوله تعالى: «إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ» .. هو جواب القسم.. أي ما كل نفس إلّا عليها حافظ، أي حارس أمين، ضابط لكل ما تعمل من خير أو شر، أو أن كل نفس يقوم عليها من كيانها ما يحفظ عليها وجودها، وذلك بما أودع الخالق جل وعلا فيها، من قوى مادية ومعنوية، تجعل منها جميعا أسلحة عاملة، تحمى الإنسان، وتدفع عنه ما يعترض طريقه على مسيرة الحياة، وإن أظهر حافظ يحفظ الإنسان هو عقله، الذي يميز به الخير من الشر، والخبيث من الطيب، ولعلّ هذا أقرب إلى الصواب، إذ جاءت بعد هذه الآية دعوة للإنسان إلى أن يستعمل عقله، وينظر فى أصل خلقه، ومادة وجوده.. وهو قوله تعالى: «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ» أي وإذ كان مع كل إنسان حافظ، هو عقله، فلينظر بهذا العقل الحافظ، إلى قدرة الله سبحانه وتعالى، فى ذاته هو، وإلى قدرة الله سبحانه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1522 فى إبداع هذه الذات وتصويرها.. فإنه لو نظر بهذا العقل إلى هذا الذي يوجّه إليه من حقائق، لعرف طريق الحق، وسلك مسالك الهدى. فمن أين خلق هذا الإنسان، ذو العقل والبصر؟ خلق من ماء دافق، أي ماء سائل، جار، لا كون له، ولا تماسك بين أجزائه.. وقوله تعالى: «يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ» - إشارة إلى مورد هذا الماء الدافق، وأنه ماء مخرجه من بين الصلب والترائب.. والصلب، فقار الظهر، والمراد به صلب الرجل، أي ظهره. والترائب: جمع تريبة، وهى موضع القلادة من الصدر.. والمراد بالتربية هنا تريبة المرأة.. فالماء الذي يخلق منه الإنسان، هو ماء الرجل والمرأة معا، حين يلتقيان فى رحم المرأة.. وفى وصف الماء بالتدفق، إشارة إلى أنه ماء قد خرج خروجا طبيعيا، بعد أن استوى ونضج فى صلب الرجل، وتربية المرأة، وأنه ليس ماء انتزع انتزاعا من موضعه قبل أن ينضج ويستوى.. قوله تعالى: «إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ» . أي أن الله سبحانه الذي خلق هذا الإنسان من هذا الماء الدافق، قادر على أن يرجعه إلى الحياة بعد الموت، ويخلقه خلقا آخر، كما خلقه أول مرة.. فهذا الماء لا يختلف- فى تقدير الإنسان- عن هذا التراب الذي الذي يبعث منه الإنسان بعد موته.. كلاهما شىء بعيد عن صورة الإنسان.. فما أبعد ما بين الإنسان، وبين الماء، أو التراب! الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1523 وقوله تعالى: «يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ» إشارة إلى الوقت الذي يبعث فيه هذا الإنسان إلى الحياة مرة أخرى، فذلك هو يوم «تبلى السرائر» أي يوم يخرج كل ما انطوى فى سريرة الإنسان، وكل ما احتفظ به فى صدره من أسرار، فلا يبقى سر إلا ظهر على الملأ، يوم الحساب والجزاء.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ. وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ. إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ» (9- 11: العاديات) . قوله تعالى: «فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ» . أي فى هذا اليوم، يوم يكشف عما فى الصدور، ويوضع موضع الفحص والاختبار، ليتبين الخبيث من الطيب- فى هذا اليوم لا يكون للإنسان قوة من ذات نفسه، يدفع بها السوء عنه، كما أنه لا يجد ناصرا ينصره ويعينه.. فكل إنسان مشغول بما هو فيه: «لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» . (37: عبس) وقوله تعالى: «وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ، وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ، إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ، وَما هُوَ بِالْهَزْلِ» . هو قسم بالسماء ذات الرجع، أي ذات المطر الذي ينزل من السحاب، وسمى المطر رجعا، لأنه خرج من الأرض، وإليها يرجع.. وقسم آخر بالأرض ذات الصدع، أي التي تتشقق ليخرج منها النبات، الذي يتخلق فى رحمها من هذا الماء المصبوب فيها.. فالسماء التي ينزل منها الماء، إنما تعيد هذا الماء إلى الأرض الذي خرج منها إلى السماء، والأرض التي تتصدع عن النبات تعيد هذا النبات الذي نقذ إليها من ظهرها- تعيد إلى ظهرها مرة أخرى. وفى هذا، وذاك، دليل على تلك الدورة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1524 التي يدور فيها الإنسان، فينقل من ظهر الأرض إلى بطنها، ثم يعود من بطنها إلى ظهرها.. وقوله تعالى: «إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ، وَما هُوَ بِالْهَزْلِ» . هو المقسم عليه بالقسمين السابقين، وهو أن هذا القول الذي تنطق به آيات الله، هو قول حقّ، واقع لا شك فيه، وليس هو بالهزل الذي لا تقصد به دلالاته ومعانيه.. وقوله تعالى: «إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً» . هو تعقيب على قوله تعالى: «إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ، وَما هُوَ بِالْهَزْلِ» - وهو فى موقع جواب عن سؤال هو: ماذا كان موقف المشركين من هذا القول الفصل؟ فكان الجواب: «إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً» أي يمكرون مكرا، ويستقبلون هذا القول بالمماحكة والجدل، وينصبون الشراك له، ويقيمون المعاثر فى طريقه، ليصدّوا الناس عنه.. إنهم فى حرب معه، يكيدون له بكل يقدرون عليه، مجتمعين، أو فرادى.. وقوله تعالى: «وَأَكِيدُ كَيْداً» . هو ردّ على كيد هؤلاء الكائدين، لإبطال كيدهم ولقتلهم بالسلاح الذي يحاربون به كلام الله.. وهذا مثل قوله تعالى: «وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ» .. فهم إذا كادوا للقرآن، ودبروا أمرهم بليل، فإن الله سبحانه وتعالى كيدا، حيث يأخذهم العذاب، وهم لا يشعرون. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1525 قوله تعالى: «فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً» هو تهديد للمشركين بما ينتظرهم من وراء كيدهم هذا.. وإنه ليس إلا أيام قليلة يقضونها فى دنياهم، حتى يلقاهم اليوم الذي يوعدون، وحيث يأخذهم عذاب الله، وليس لهم من دون الله من ولى ولا نصير.. وفى هذا عزاء للنبى الكريم، وتثبيت لقدمه على طريق دعوته، التي تقوم على طريقها هذه الذئاب المتربصة بها.. إنه فى حراسة الله، فليمض فى طريقه وليدع لله سبحانه ردّ هذا الكيد الذي يكادله. (87) سورة الأعلى نزولها مكية.. نزلت بعد سورة المدثر. عدد آياتها: تسع عشرة آية.. عدد كلماتها: ثمان وسبعون آية.. عدد حروفها: مائتان وواحد وسبعون حرفا مناسبتها لما قبلها ختمت سورة «الطارق» - قبل هذه السورة بقوله تعالى: «إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً. وَأَكِيدُ كَيْداً. فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً» وفى هذا- كما عرفنا- تهديد للمشركين، وتطمين لقلب النبي، وحماية له من هذا الكيد الذي يكاد له، فناسب أن تجىء بعد ذلك سورة «الأعلى» مبتدئة بقوله تعالى: «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» ، ففى هذا الاستفتاح دعوة إلى تمجيد الله وتعظيمه، والتسبيح بحمده، على أن أخذ الظالمين بظلمهم، وأبطل كيدهم.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1526 بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 19) [سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 19] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19) التفسير: قوله تعالى: «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى» «اسم ربك» أي الاسم الذي يدل على ذات الله سبحانه وتعالى، ولله سبحانه وتعالى أسماء كثيرة، ذكرها فى القرآن الكريم، كما ذكرها النبي الكريم، فى حديث رواه البخاري، وهو قوله صلوات الله وسلامه عليه «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا..» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1527 وأسماء الله تعالى، هى صفاته الموصوف بها، وهى وإن كانت مما قد نصف به ذواتنا، من العلم، والسمع، والبصر، والقدرة، وغيرها، إلا أن لله سبحانه كمال هذه الصفات، كمالا مطلقا، على حين أن ما نتداوله نحن من هذه الصفات هو فى حدود وجودنا المحدود، فيقال فلان حفيظ، وعليم، وقادر، وكريم، وهو فى هذه الصفات كائن بشرى محدود، واتصافه بها إنما هو بالإضافة إلى غيره، ممن هو أقل منه حفظا، أو علما، أو قدرة، أو كرما.. فالتسبيح باسم الله، هو ذكره سبحانه بكل ما له من الأسماء الحسنى، كما يقول سبحانه: «وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها» (180: الأعراف) والمراد بالتسبيح باسم الله، هو التسبيح لذاته سبحانه وتعالى.. ولكن الذات العلية لا يمكن تصورها، وإنما الذي يمكن تصوره- مهما بالغنا فى هذا التصور- هو ما تتصف به الذات من صفات الكمال التي تتجلى فى أسمائه الحسنى. وقوله تعالى «الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى» هو مما نذكره من صفات الله سبحانه وتعالى، حين نذكر اسمه الكريم: «الخالق» .. فإذا ذكرنا اسم الله هذا، ذكرنا منه أن الله سبحانه هو المتفرد بالخلق، لا يشاركه أحد فيما خلق فى السماء أو فى الأرض.. وهو سبحانه الذي سوّى ما خلق، فأقام كل مخلوق على أتم صورة له وأكملها، كما أقام من هذه المخلوقات جميعها صورة مسوّاة محكمة للوجود كله «ما ترى فى خلق الرحمن من تفاوت» (3: الملك) وقوله تعالى: «وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1528 أي وهو سبحانه الذي قدّر لكل مخلوق ما هو مناسب له، ملائم لوجوده، محتفظ له بمكانه بين المخلوقات.. «الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» (50: طه) فكل مخلوق، من إنسان، أو حيوان، أو نبات، أو جماد- ميسر لما خلق له.. كما فى الحديث الشريف: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» قوله تعالى: «وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى» ومن آثار الخالق سبحانه وتعالى، أنه أخرج من الأرض ما يأكل منه الناس والأنعام.. فكل ما على الأرض من نبات، هو مرعّى للناس، وللحيوان، وأنه إذا كان الإنسان بعقله قد أدخل الصنعة على هذا المرعى، فاتخذ من الحبّ خبزا، ومن الفاكهة شرابا- فإن ذلك لا يخرج بهذا النبات عن أن يكون مرعى لنا وللأنعام، يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها، أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها، وَالْجِبالَ أَرْساها، مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ» (30- 33 النازعات) فالناس والأنعام سواء أمام هذه المائدة الممدودة من فضل الله. وقوله تعالى: «فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى» - إشارة إلى أن هذا المرعى الأخضر، لا يثبت على حال واحدة، بل إنه يتنقل من حال إلى حال، فيتحول من الحياة والخضرة، إلى الجفاف، والموات، فيكون «غثاء» أي هشيما «أحوى» أي أسمر اللون، بعد أن يلوّحه الجفاف، ويذهب منه ماء الحياة الذي كان يسرى فى كيانه.. وهذا من إبداع القدرة، التي تبدي وتعيد. قوله تعالى: «سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى» . مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم فى أول السورة أن يسبح باسمه، وأن يذكره، وذلك بتلاوة آيات الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1529 الله التي يتلقاها وحيا من ربه، فإن خير ذكر لله، هو بتلاوة آياته سبحانه وتعالى، ولهذا كان أول ما تلقاه النبي- صلوات الله وسلامه عليه- من ربه، هو قوله تعالى: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» فهو مثل قوله تعالى: «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى، وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى، فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى» . ولما كانت هذه السورة- سورة الأعلى- من أوائل ما نزل من القرآن، فقد كان النبي الكريم يحرص أشد الحرص على أن يحفظ حفظا موثّقا كلّ ما يتلقى من وحي.. فلما حمى الوحى وبدأت آيات الله تنزيل عليه تباعا، خشى أن يثقل على حافظته حفظ ما يوحى إليه، ولهذا كان يسمع الآية من جبريل عليه السلام فيعيد تكرارها على لسانه حتى يثبت حفظها فى قلبه، فنزل عليه قوله تعالى: «لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ» (16- 19: القيامة) .. ثم جاء قوله تعالى: «سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» .. وذلك ليقطع على النبىّ كل خاطر يخطر له من أن شيئا مما نزل عليه من آيات الله، يكون فى معرض النسيان يوما ما.. وفى قوله تعالى: «إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ» - إشارة إلى أن هذا الحكم المطلق المؤيد بعدم النسيان، هو رهن بمشيئة الله، وأن مشيئة الله مطلقة لا يقيدها شىء.. فلو شاء سبحانه أن يذهب بما حفظ النبىّ من آيات الله لذهب به، ولكنه، سبحانه لم يشأ، فهى مشيئة مقيدة بمشيئة، وكلا المشيئتين من الله، وإلى الله.. وهذا مثل قوله تعالى: «وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1530 (86: الإسراء) ولكنه سبحانه وتعالى لم يشأ هذه المشيئة! وبذلك يظل النبىّ مع هذا الوعد الكريم من ربه، على ثقة واطمئنان، بأن ما يتلقى من آيات ربه، سيكون محفوظا فى صدره، ثم هو فى الوقت نفسه لا يخلى نفسه من معاناة الحفظ، والتلاوة، ومراجعة ما حفظ، وذلك ليعطى وجوده حقه من الطلب والمعاناة، وإلا- وحاشاه- كان أشبه بآلة مسجلة، تملأ، ثم تدار، لتفرغ ما ملئت به.. ولهذا كان من بعض حكمة الله سبحانه فى نزول القرآن منجما، ما أشار إليه سبحانه فى قوله تعالى: «كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ» وذلك بمعايشة كلمات الله، وقتا كافيا، تقرّ فيه فى صدر النبىّ، وتثبت بالحفظ، والمراجعة والمعاناة.. والدليل على ما ذهبنا إليه، ما ثبت من تاريخ القرآن، من أن النبىّ عليه الصلاة والسلام، كان يعرض على جبريل كلّ عام ما نزل عليه من القرآن، فلما كانت السنة التي توفى فيها النبىّ، عرض على جبريل القرآن كله، مرتين، وقيل ثلاث مرات، وذلك لتأكيد ما حفظ النبىّ وتوثيقه.. وهذا يعنى أن سنن الله الكونية- وهى من مشيئته وحكمته- قائمة أبدا، وأن الأخذ بالأسباب مطلوب فى كل حال، ومع كل مخلوق، حسب وجوده فى عالمه.. وقوله تعالى: «إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى» هو تأكيد لهذا الوعد مع الاستثناء، وأن الله سبحانه، الذي وعد النبىّ بألا ينسى ما يحفظ، هو عالم الجهر والسر، وهو سبحانه الذي يملك خطرات النفوس، وخلجات الصدور، فيتصرف فيها كيف يشاء.. وقوله تعالى: «وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى» .. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1531 أي والله سبحانه وتعالى لا يشقّ عليك أيها النبىّ، ولا يكلفك ما لا تطيق، فهو ميسر لك أمرك جميعه، ومن أولى دلائل اليسر أنه أعانك على حفظ القرآن وتثبيته فى صدرك، فلا يذهب شىء منه.. ومن تيسيره عليك أنه جعل الشريعة التي أنت داع إليها وقائم بها شريعة يسر وسماحة، لا حرج فيها، ولا إعنات، كما يقول سبحانه: «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» .. (78: الحج) قوله تعالى: «فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى» .. أي وبهذه الشريعة السمحاء ادع الناس إليها، وذكّر بها، ووجه القلوب والعقول إلى الله بها.. وقوله تعالى: «إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى» - إشارة إلى أن يذكّر النبىّ ما وجد للذكرى نفعا، والذكرى لا تخلو من نفع أبدا، فإنها إذا لم تجد فى الناس من يستجيب لها، وينتفع بها، فإنها واجدة فيهم أيضا من يستجيب وينتفع، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ» (55: الذاريات) . وهذا يعنى أن النبىّ صلى الله عليه وسلم لا يتخلّى عن مهمة التذكير أبدا.. فقيد الأمر بالتذكير، بنفع الذكرى قيد لازم، ومن لزوم هذا القيد أن يكون النبىّ مذكّرا بدعوته دائما، لأن مع كل ذكرى نفعا، وما دام النفع معها، فهى مطلوبة من النبىّ أبدا، وهو مذكر أبدا.. وقد اضطرب المفسرون فى تأويل هذه الآية، وفى تأويل القيد الوارد عليها فى هذا الشرط: «إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى» ، وبدا لهم من ذلك أن النبىّ لا يذكّر إلا فى حال يكون فيها للذكرى نفع، فإن لم يكن فيها نفع، فلا تذكير!! والنبىّ مطلوب منه أن يذكّر دائما نفعت الذكرى أو لم تنفع.. فكيف يتفق الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1532 هذا الدوام، مع هذا القيد، وهو التذكير فى حال النفع وحده؟ وقد ذهب المفسرون مذاهب شتى فى حل هذا الإشكال، وخرجوه على وجوه قلّبت فيها مذاهب النحو، واللغة، على جميع وجوهها، دون أن يحصلوا من ذلك على طائل، نستريح له ونطمئن إليه.. وقد رأيت كيف كانت نظرتنا إلى الآية.. فلعلك تجد فيها ما تطمئن إليه وتستريح له.. قوله تعالى: «سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى» .. هو إشارة إلى أن الذكرى على أية حال نافعة، وأنه سيذكر بها من يخشى الله سبحانه وتعالى.. وأنه لن تخلو الإنسانية ممن يخشى الله ويتقيه، ويفتح قلبه للهدى المرسل فى آياته.. قوله تعالى: «وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى» .. وهذا هو الوجه الآخر من الذكرى، وهو الوجه الذي لا يكون فيه منها نفع للأشقياء الذين غلبت عليهم شقوتهم، فحرموا التهدى إلى الهدى.. ووصف النار بأنها الكبرى- إشارة إلى أنها ليست كنار الدنيا مع شدة ضرامها، وقسوة حرارتها، وإنما هى نار تأكل نار الدنيا، فى شدة ضرامها، وقسوة حرارتها. وقوله تعالى: «ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى» - إشارة إلى أن الأشقياء الذين الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1533 يلقون فى هذه النار، سيخلدون فيها، وهو خلود فى عذاب شديد- وقانا الله شره- وأن الحياة فى هذا العذاب ليست حياة يجد فيها الحي طعما للحياة، وليست موتا يستريح فيه من هذه الحياة.. فلا هو فى الأحياء، ولا فى الأموات، إنه فى حياة متلبسة بالموت، وفى موت ملبس بالحياة: «وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ» وهذا أقسى ألوان الحياة وأشدها.. قوله تعالى: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى» .. الذين لا تنفعهم الذكرى، هم الأشقياء الذين غلبت عليهم شقوتهم فلم تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق.. فكان مصيرهم النار، لا يموتون فيها ولا يحيون.. ذلك، على حين قد أفلح من تزكى، أي تطهر من أوضار الكفر والضلال، فآمن بالله، وذكر اسم ربه، وأقام الصلاة. وقوله تعالى: «وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى» - إشارة إلى أن الصلاة مرتبة على ذكر الله، فمن لم يذكر الله سبحانه، ويستحضر جلاله وعظمته فيما يذكر من أسمائه وصفاته- لا يخشع قلبه لله، ولا يصلّى له.. وفى ذكر الصلاة على أنها الأثر المترتب على ذكر الله- إشارة إلى أن الصلاة، بما فيها من ولاء، وخشوع، وركوع، وسجود، هى أكمل الوسائل وأعظم القربات التي يتقرب بها العبد إلى ربه، ومن هنا كانت رأس العبادات.. وملاك الطاعات.. وهى شريعة كل نبى، ودعوة كل رسول إلى قومه، بعد الإيمان بالله.. فيقول سبحانه عن إسماعيل: «وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا» (55: مريم) ويقول سبحانه على لسان عيسى: «وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا» (31: مريم) . وفى ذكر الله سبحانه وتعالى بالربوبية من بين أسمائه الكريمة كلها- الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1534 إشارة إلى أن الذي يذكر الإنسان اسمه، هو مرييه، ومنشئه، والمنعم عليه بالإيجاد، والخلق على هذه الصورة السوية. قوله تعالى: «بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى» . هو إضراب عن هذا الخبر: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى» - حيث لم يستجب له معظم الناس، ولم يدخل فيه أكثرهم، إذ قد آثروا الحياة الدنيا على الآخرة، وشغلوا بها عن ذكر الله، وإقامة الصلاة على تمامها وكمالها، فى إخلاص، وخشوع، وإخلاء القلب لها من هموم الحياة وشواغلها.. فإن الصلاة إذا لم تستوف أركانها، ولم يدخل فيها المصلى بعد ذكر الله، واستحضار جلاله وعظمته- كانت مجرد حركات، يخشع لها قلب، ولا تنتعش بها روح!! إنها إن لم تكن نفاقا مع الناس، كانت نفاقا مع الإنسان ونفسه واختيانا من الإنسان للأمانة التي اؤتمن عليها، ليؤديها إلى روحه، وقلبه، غذاء وضياء! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى وصف المنافقين: «وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا» (142: النساء) . وهؤلاء الذين قصروا فى ذكر الله، وفى الصلاة القائمة على ذكر الله، قد بخسوا أنفسهم، لأنهم آثروا الفانية على الباقية، اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، «وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى» . قوله تعالى: «إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى» . الإشارة هنا إلى ما تحدثت به الآيات السابقة، من أن من آثر الحياة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1535 الدنيا، واستغواه غيّها وضلالها، فإن النار مأواه، وأن من ذكر اسم ربه فصلى، فإنه من أهل الفوز والفلاح- فهذا الذي تحدثت به الآيات هو من الحقائق الكبرى الخالدة، التي حملتها كتب الأنبياء السابقين، ومنهم إبراهيم وموسى.. وفى اختيار إبراهيم وموسى من بين الأنبياء والرسل، إشارة إلى أن إبراهيم هو أبو الأنبياء، وشريعته من الشرائع الأولى، وعلى امتدادها جاءت شريعة موسى، ثم شريعة الإسلام.. (88) سورة الغاشية نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة الذاريات.. عدد آياتها: ست وعشرون آية. عدد كلماتها: اثنتان وتسعون كلمة. عدد حروفها: ثلاثمائة وواحد وثمانون حرفا. مناسبتها لما قبلها ختمت سورة «الأعلى» بالحديث عن الآخرة، وعن أنها الحياة الخالدة الباقية، التي تستحق أن يعمل الإنسان لها، ويؤثرها على الدنيا، إيثار الحقّ على الباطل، والعظيم على الحقير، والباقي على الفاني.. ولكن حب الدنيا قد غلب على أكثر الناس، فصرفوا همهم كله إلى الدنيا، ولم يعطوا الحياة الآخرة شيئا من وجودهم، فجاءوا إلى يوم القيامة، مفلسين معدمين، ليس فى أيديهم زاد لها، بل كل ما يحملون هو أوزار وآثام، وضلالات.. فكان الحديث الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1536 عن الغاشية، وهى القيامة، وعن أهوالها، تذكيرا للناس بها، وتنبيها لهم إلى ما يلقى المجرمون فيها من عذاب ونكال.. بسم الله الرحمن الرّحيم الآيات: (1- 16) [سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 16] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) التفسير: قوله تعالى: «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ؟» سؤال، يراد به تشويق المسئول إلى المسئول عنه، وإثارة الرغبة عنده فى التطلع إليه، والبحث عن جواب له. وما يكاد المسئول يبحث فى خاطره عن جواب هذا السؤال، حتى يرد عليه الجواب من خارج، فيلتقى مع ما تردد فى خاطره من أجوبة عليه.. فإذا كان «م 97 التفسير القرآنى ج 30» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1537 ما وقع فى خاطره صحيحا، التقى مع هذا الجواب الوارد عليه التقاء متمكنا، وعانقه عناق الغائب المنتظر، وإلا أخذ الجواب الصحيح، وأقامه مقام مالم يصح من خواطره، وتصوراته.. والغاشية: ما يغشى الناس فى هذا اليوم، من أهوال، وما يطلع عليهم فيه من شدائد.. وأصله من الغشي، وهو السطو والهجوم.. «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ، عامِلَةٌ ناصِبَةٌ» . هذا هو مطلع حديث الغاشية، وهذا هو الجواب على السؤال عنها.. إن ما تحدّث به الغاشية عن نفسها ليس كلاما، وإنما هو أفعال وأحداث.. ومن أحداثها، تلك الوجوه الخاشعة.. وخشوعها هو خشوع ذلة، وضراعة، ومهانة، وليس خشوع تقوى وتوقير وإجلال.. فللذل خشوع انكسار، وامتهان، تموت معه العواطف، والمشاعر، كما يقول تعالى فى أصحاب النار: «وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ» . وفى قوله تعالى: «عامِلَةٌ ناصِبَةٌ» - إشارة إلى هذا الرهق الذي غشى تلك الوجوه الخاشعة، لأن أصحابها فى نصب دائم، وعمل مضن لا ينقطع، من موقفهم موقف المساءلة، والحساب، وعرض مخازيهم عليهم، إلى وضع الأغلال فى أعناقهم، إلى سحبهم على وجوههم فى جهنم، إلى صرخات الويل والثبور التي تملأ الآفاق من حولهم، فكل هذا وكثير غيره من الأهوال، تنطبع على وجوههم آثاره، قتاما وعبوسا، ورهقا.. وقوله تعالى: «تَصْلى ناراً حامِيَةً. تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ» . هو صفة لهذه الوجوه، وما يرد عليها من مساءات.. إنها «تَصْلى ناراً الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1538 حامِيَةً» أي تعذب بنار حامية.. وفى وصف النار بأنها حامية، إشارة إلى أنها نار ذات صفة خاصة، على خلاف المعهود من نار الدنيا.. فكل نار، حامية، وهذا الوصف الوارد على النار، يعطى وصفا جديدا لها. وهذه الوجوه أيضا، تسقى من ماء حار، يغلى فى البطون كغلى الحميم. وإسناد هذه الأفعال إلى الوجوه، لأن الوجوه، هى عنوان الذات الإنسانية، وهى وحدها التي تحدّث عن ذات الإنسان، وتدل عليه.. فالناس يتشابهون أجسادا، ولكن الذي يفرق بين إنسان وإنسان هو الوجه الذي يجعل لكل إنسان صورته التي يعرف بها بين الناس.. إن الوجه هو الذات الإنسانية بكل مشخصاتها ومقوماتها، ولهذا كان له هذا الشأن فى موقف الحساب والجزاء، وما يلقى الإنسان هناك من نعيم أو عذاب، إن كل صور العذاب والآلام تنطبع عليه.. قوله تعالى: َيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ» .. عدل هنا عن الحديث إلى الوجوه، واتّجه به إلى أصحابها، لأن الطعام لا يساق إلى الوجوه وإنما يساق إلى البطون، ثم تنطبع آثاره على الوجوه.. وفى هذا ما يعطى كل جزء من أجزاء الجسد نصيبه من هذا العذاب. فالعذاب الذي يقع على جزء من الجسد، يشيع فى الجسد كله، فإذا كان كل جزء من الجسد واقعا تحت لون من ألوان العذاب يتناسب مع طبيعته، كان ذلك أنكى وآلم، حيث يتحول الإنسان تحت وطأة هذا العذاب إلى طاقات كثيرة متعددة، يصبّ فيها العذاب الذي يحتوى كل ذرة فيها، ولعل هذا من بعض ما يشير إليه قوله تعالى: «يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ» (69: الفرقات) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1539 والضريع، كما يدل عليه لفظه، طعام غثّ ردىء، لا تتولد عنه إلا الضراعة، والذلة، والمهانة.. وقد اختلف المفسّرون فى معنى «الضريع» والفصيلة الذي ينتمى إليه من فصائل النبات.. وقال كل ذى رأى برأيه فيه، وتكاف له التأويل والتخريج.. والرأى- والله أعلم- أنه من طعام أهل النار، لا يعرف له شبيه فى الحياة الدنيا، ولهذا وصفه الله سبحانه بأنه «لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ» أي أنه لا تتقبله الأجسام، ولا تتفاعل معه، كما أنه لا يشبع جوع الجياع.. ولو كان معروفا عند العرب، لما وصف هذا الوصف الكاشف!. قوله تعالى: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ لِسَعْيِها راضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً» .. وهذا من حديث الغاشية أيضا.. فإذا كان من معارض يومها، وجوه خاشعة، عاملة، ناصبة- فإن من معارضها، كذلك، وجوه ناعمة، لسعيها راضية، فى جنة عالية.. والوجوه الناعمة، هى التي ترى عليها نضرة النعيم، وبشاشة الرضوان، فترقرق على صفحتها وضاءة البشاشة، ويجرى فى أديمها رونق البهاء، والصفا.. ولم تعطف هذه الوجوه على ما قبلها، مع أنها من حديث الغاشية، ليكون ذلك عزلا لها عن تلك الوجوه المنكرة، العاملة، الناصبة، التي تصلى نارا حامية.. فهذه وجوه، وتلك وجوه، ولا جامعة بينهما، إذ فريق فى الجنة وفريق فى السعير.. وقوله تعالى: «لسيعها راضية» .. أي راضية لأجل سعيها الذي قدمته بين يديها.. فاللام هنا للتعليل.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1540 وقوله تعالى: «فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ» حال من ضمير الوجوه فى قوله تعالى: «راضية» .. والجنة العالية: أي عالية القدر، عظيمة الشأن.. وقوله تعالى: «لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً» صفة لهذه الجنة العالية، التي علا مقامها وارتفع قدرها عن أن يطوف بها طائف من الهذر أو اللغو.. واللاغية: الكلمة التي لا يعتد بها، لإسفافها وسقوطها.. وقوله تعالى: «فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ» .. وحيث كان الماء كانت الحياة، وكان الخصب، والخير، وكانت البهجة والمسرة.. قوله تعالى: «فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ» .. هو عرض لما فى هذه الجنة العالية من ألوان النعيم.. ففيها سرر مرفوعة، أي عالية القدر، وأكواب موضوعة، أي معدة للشاربين، وفيها «نَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ» أي وسائد، قد صفّ بعضها إلى جانب بعض، ليتكىء عليها الجالسون على هذا النعيم.. واحدتها نمرقة.. وفى هذه الجنة «زرابى مبثوثة» أي بسط متناثرة على أرض هذه الجنة، كأنها النجوم.. الآيات: (17- 26) [سورة الغاشية (88) : الآيات 17 الى 26] أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26) الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1541 التفسير: قوله تعالى: «أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ» .. هو إلفات لهؤلاء المشركين المكذبين بالغاشية، إلى قدرة الله سبحانه وتعالى، تلك القدرة القادرة على أن تعيدهم إلى الحياة بعد الموت، وأن تردّهم إلى الله سبحانه، للحساب والجزاء.. وفى إلفاتهم إلى الإبل، وإلى ضخامتها، وقوتها، وما أودع الخالق فيها من قوى قادرة على حمل الأثقال، والمشي فى الرمال، وإلى الصبر على الجوع والعطش- كل هذا يكشف عن صانع عظيم، عليم، حكيم، خلق فسوى، وقدر فهدى.. ولأن أول ما يلفت النظر إلى الإبل، هو قاماتها العالية، ورقابها المرفوعة، فقد ناسب ذلك أن يلفتوا إلى السماء، وإلى هذا العلو الشاهق الذي لا حدود له.. «وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ» .. كذلك ناسب أيضا أن يلفتوا إلى الجبال، وقد مدت رقابها فوق الأرض كأنها رقاب الإبل، أو أسنمتها.. «وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ» .. ثم إن الشأن ليس فى رفع الشيء وعلوه، فما رفع الشيء إلا لحكمة، كما أنه ما خفض شىء إلا لحكمة.. فهذه الأرض المبسوطة الممدودة، لو كانت كلها أسنمة كأسنمة الإبل، أو رقابا كرقابها، لما أمكن الانتفاع بها، والسير فيها.. فهى مع ارتفاع بعض أجزائها، قد انبسط الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1542 بعض أجزائها الأخرى، لتكون مهادا للناس، وبساطا ممدودا.. وبهذا تذلّل لهم وتستجيب لحركتهم عليها.. «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ» (15: الملك) . وقوله تعالى: «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» . هو دعوة إلى النبي الكريم أن يعرض هذه الآيات التي تحدثت عن قدرة الله سبحانه، وعن حكمته، ليكون فيها تذكرة لمن يتذكر، وعبرة لمن يعتبر.. فوظيفة النبىّ، هى التذكير بالله، وإلفات العقول والقلوب إلى قدرته، وعلمه، وحكمته، وإلى ماله سبحانه من نعم سابغة على عباده.. وقوله تعالى: «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» أي لست أيها النبي بمتسلط على الناس، تقهرهم بسلطان قوى، وبقوة قاهرة، على أن يؤمنوا بالله، ويستجيبوا لما تدعوهم إليه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ» (45: ق) . وفى هذا إطلاق للإنسان، وتحرير لذاته وشخصيته من أي سلطان، إلا سلطان عقله وضميره، وفى هذا تكريم للإنسان، واعتراف بمكانه فى الوجود، وأنه لا وصاية عليه من أحد حتى الأنبياء والرسل.. إنهم ليسوا أوصياء عليه، وإنما هم هداة يرفعون لعينيه مشاعل الهدى فى طريق حياته، فإن شاء سار فى الطريق الذي يكشف عنه هذا النور، وإن شاء أخذ الطريق الذي اختاره له عقله، وارتضاه ضميره.. ولو كان كفرا وضلالا، فتلك مشيئته التي شاءها لنفسه!. قوله تعالى: «إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ» .. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1543 إلا هنا استثناء من عموم الأحوال التي تدخل فى السيطرة الواقع عليها النفي.. أي لست مسيطرا على الناس إلا فى حال واحدة، وهى حال من تولى وكفر، فإنه فى هذه الحال واقع تحت سلطان العذاب الذي أنذرته به.. وهذا العذاب فى يد الله، يعذب به هؤلاء الذين تولوا وكفروا.. فالسلطان الواقع على الإنسان هنا، هو سلطان الله سبحانه، وليس الرسول إلا منذرا بهذا السلطان، محذرا منه.. والعذاب الأكبر، هو عذاب يوم القيامة.. ووصف العذاب بهذه الصفة التي تحصر غاية العذاب وصوره كلها فيه- لأن كل ما عرفه الناس فى الدنيا من عذاب، هو عذاب دون هذا العذاب قدرا وأثرا.. فهو العذاب الأكبر كبرا مطلقا، لا حدود له. وقوله تعالى: «إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ» .. أي أن هؤلاء الذين تولوا وكفروا، ولا يفلتون من هذا الذي أنذروا به- إنهم سيعودون إلى الله، وسيحاسبون على ما اجترحوا من آثام.. وليس وراء هذا الحساب إلا العذاب الأليم.. العذاب الأكبر! وأنهم إذا كانوا قد خرجوا من سلطان النبىّ، فإنهم لن يخرجوا من سلطان الله الذي يلقاهم بهذا العذاب.. والإياب الرجوع إلى المكان الذي خرج منه الإنسان.. كالمسافر يئوب من سفره.. وفى هذا إشارة إلى أن البعث هو عودة إلى الحياة التي فارقها الإنسان فى رحلته التي بدأت بالموت.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى..» (8: العلق) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1544 (89) سورة الفجر نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة الليل عدد آياتها: ثلاثون آية.. عدد كلماتها: مائة وسبع وعشرون كلمة.. عدد حروفها: خمسمائة وتسعة وتسعون حرفا.. مناسبتها لما قبلها هذه السورة، هى امتداد لعرض آيات من قدرة الله سبحانه وتعالى، وما أخذ به المكذبين بالحياة الآخرة، الذين لم يؤمنوا بالله، ولم يصدقوا بما جاءهم على يد رسل الله من آيات مبصرة.. بسم الله الرحمن الرّحيم الآيات: (1- 14) [سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1545 التفسير: [الليالى العشر.. ما تأويلها] قوله تعالى: «وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ» ؟ هذه خمسة أقسام، أقسم الله سبحانه وتعالى بها، مفتتحا بها هذه السورة الكريمة.. وهى: الفجر، والليالى العشر، والشفع، والوتر، والليل.. والفجر، معروف فى اللغة، ودلالته محددة لا اختلاف عليها.. وهو أول مطلع النهار، فى جلد الليل الأسود.. أما الشفع، فهو الزوج من كل شىء.. فالاثنان فى العدد شفع، والاثنان من الناس، أو الأنعام، أو الشجر، شفع.. وذلك على خلاف الوتر، الذي يدل على واحد فرد، لم يشفع بواحد آخر من جنسه.. ولكن ما دلالة: «ليال عشر» .. إنها إذا أخذت على إطلاقها، صحّ أن يقال إنها أي ليال عشر مقتطعة من ليالى الزمن على امتداده، فهى إذن ليست ليال على صفة خاصة، ولهذا جاءت منكّرة، ومع هذا فقد كثرت فيها أقوال المفسرين، فقيل هى الليالى العشر الأولى من ذى الحجة، وقيل هى العشر الأواخر من رمضان، التي بدىء بنزول القرآن فيها، والتي فيها ليلة القدر، وقيل هى عشر ليالى موسى التي كانت من الليالى الأربعين التي واعده الله سبحانه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1546 وتعالى فيها، كما يقول تبارك اسمه: «وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ» (142: الأعراف) .. وقيل، وقيل كثير غير هذا.. وكذلك كانت المقولات فى الشفع، والوتر.. فقيل إن الشفع صلاة الصبح، والوتر صلاة المغرب، وقيل إن الشفع هو الخلق، وما فيه من تزاوج بين المخلوقات، كالذكر والأنثى، والليل والنهار، والأرض، والسماء، والخير والشر.. ونحوها.. والوتر، هو الخالق سبحانه وتعالى، لأنه جل شأنه الواحد، المتفرد بالوحدانية.. ولم يخل من هذا الاختلاف إلا «الليل» فهو الذي أجراه المفسرون على إطلاقه.. حتى «الفجر» الذي قلنا إن دلالته محدودة فى اللغة، لم يسلم من هذا الخلاف، فالذين قالوا إن الليالى العشر، هى العشر الأواخر من ذى الحجة- قالوا إن الفجر هو فجر الليلة العاشرة التي تمّ فيها مناسك الحج، وتنحر مع فجرها الأضحيات. وتقطيع الوحدة الزمنية مع هذه الأوقات التي أقسم الله سبحانه وتعالى بها، يجعل الجمع بينها خلوا من المناسبة التي تجمع بينها، وتؤلف منها كيانا متسقا متلاحما، الأمر الذي لا يفوت النظم القرآنى، فى أىّ موضع يجتمع فيه شىء إلى شىء، سواء أكان هذا الجمع على سبيل التوافق أو التضاد. ولعل خير موقف نأخذه عند النظر فى هذه الأقسام، للخروج من هذا التضارب فى دلالاتها، هو أن نقف بها عند مدلولها اللفظي، مطلقا من كل قيد. فالفجر، هو الفجر.. أي فجر يكون! الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1547 والليالي العشر: هى ليال عشر، من أي ليالى الزمن كله على امتداده. والشفع والوتر، هو العدد الزوجى، أو الفردى، من الليالى. والليل، هو أي ليل يقابل النهار، من أي يوم من أيام الزمن. وفى هذا نجد أن المقسم به هنا هو الزمن، فى وحدات زمنية منه، هى: الفجر، والليل، وعشر ليال من هذا الليل. أما الشفع والوتر، وإن لم يكن من المتعيّن أن المعدود بهما قطع من الزمن، فإن السياق الذي جاءا فيه، يقضى بأن يكون المعدود- زوجا أو فردا- قطعا من الزمن، وأقرب هذه القطع أن تكون من الليالى، شفعا أو وترا.. إذ سبقهما قوله تعالى: «وليال عشر» وهى عدد شفع، وتلاهما قوله تعالى: «وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ» وهو عدد وتر! ويكون القسم بالليالي العشر جملة، ثم القسم بها ليلتين ليلتين، وليلة ليلة. فإذا ذهبنا- وهذا من التكلف الذي لا بأس به- إذا ذهبنا نلتمس الحكمة فى القسم بهذه القطع من الزمن، دون غيرها: فإنا نقول- والله أعلم- إن القسم بالفجر إشارة إلى تفجر النور من أحشاء هذا الظلام الموحش، الذي يطبق على الوجود ويلفه فى رداء ثقيل، أشبه بالأكفان التي يلف فيها الموتى.. إنه إشارة إلى بعث جديد للحياة، ودعوة مجددة للأحياء أن يكتحلوا بهذا النور، وأن يأخذوا مواقفهم فيه على طريق العمل. والليالى العشر، هى الليالى العشر الأولى من أول كل شهر قمرى، وهى الليالى العشر فى وسطه، ثم هى الليالى الأخيرة منه، فهى عشر فى أول الشهر القمري، وعشر فى وسطه، وعشر فى آخره. ويكاد يكون سلطان القمر فى العشر الليالى الأولى من الشهر، وفى العشر الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1548 الأواخر منه- يكاد يكون سلطانه على حدّ سواء فيهما، من حيث غلبة الظلام عليه.. أما عشر الليالى المتوسطة بين العشر الأولى والأخيرة، فهى التي يكون سلطان القمر فيها غالبا على ظلام الليل. وعلى هذا يكون الشفع، هو العشر الليالى الأولى، والعشر الأخيرة من كل شهر قمرى. باعتبارهما وحدتين زمنيتين متماثلتين. وأما الوتر، فهو العشر الليالى المتوسطة من الشهر، باعتبارها وحدة زمنية واحدة! ومن هذا يكون القسم بالليالي العشر، واقعا على الليالى كلها، فى امتداد الزمن، ولكن مع دعوة إلى مراقبة الزمن، وملاحظة التغيرات التي تجرى على الليل.. ليلة ليلة.. فالليل يلبس فى كل ليلة ثوبا جديدا مع القمر على مدى ثلاثين ليلة.. ثم يعود فيبدأ دورته من جديد معه، من هلال إلى بدر، إلى محاق.. وقوله تعالى: «وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ» - هو إطلاق لليل من هذا القيد الذي شدّه إلى القمر ودورته معه.. فهو ليل مطلق، يسرى فى غلالته السوداء، مع القمر فى كل منزل من منازله منه.. فهو فى كل حال، ليل يسرى، وببسط سلطانه على الكائنات، وأنه لا يوقف مسيرة الليل إلا الفجر.. وفى التعبير عن حركة الليل بالسّرى: «إذا يسر» إشارة إلى أنه يتحرك فى مسيرته والأحياء نيام لا يشعرون به، كما يتحرك الذين يسيرون فيه دون أن يشعر بهم أحد.. فالأقسام- كما ترى- هى أقسام بوحدات من الزمن، وفى هذه الوحدات، يبدو الزمن كائنا حيّا، يعايش الناس، ويشاركهم تقلبهم فى الحياة، وفى هذا ما يبعث على النظر، والتدبر، والتفكر، مما يكشف عن قدرة الخالق وعظمته، وحكمته. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1549 وبهذه المراقبة للزمن، والالتفات الواعي إلى حركته، يعرف الإنسان قيمة الزمن- ويحرص على الانتفاع بكل لحظة تمر منه. وقوله تعالى: «هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ» الحجر: العقل، وسمى العقل حجرا، لأنه يحجر صاحبه ويحميه من الضلال والضياع، ومنه الحجر على السفيه، صيانة لما له، من تصرفاته الحمقاء.. ومنه سميت الحجرة، لأنها تحجر من يداخلها، وتحميه من الحر، والبرد، ومن أيدى اللصوص، ونظرات المتلصصين.. والاستفهام هنا دعوة إلى أصحاب العقول أن ينظروا فى هذه الأقسام التي تمجد من شأن الزمن، وتجعل من كل قطعة منه آية من آيات القدرة الإلهية، لا يراها إلا أصحاب العقول، ولا يدرك سر القسم بها إلا أولو البصائر والأبصار وفى دعوة العقول إلى النظر والملاحظة لسير الزمن وحركاته بالليل، إشارة إلى أن الليل هو الوقت الذي تهدأ فيه النفس، وتسكن الجوارح، فيجد العقل فيه فرصته للانطلاق، والقدرة على التأمل، والتفكير.. كما أن أكثر الناس يغفلون عن الليل، ولا يرونه إلا قبرا يحتوى أجسامهم، فلا يكون لهم وجود فيه، ولا يكون لعقولهم تعامل معه، فى حين أنه يمثل جزءا كبيرا من حياتهم يعادل نصف هذه الحياة.. وإنه لخسران عظيم للإنسان أن يدع هذا النصف من عمره يذهب هباء، فكيف بمن يخسر عمره كلّه؟ وقوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1550 الاستفهام هنا تقريرى، تهديدى.. أي انظر كيف فعل ربك بعباد.. وكذلك يفعل ربك بالطاغين والمتجبرين. وعاد، قبيلة قديمة من العرب البائدة، وكانت ديارهم بالأحقاف، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ» (21. الأحقاف) وإرم، هى موطن عاد، وهى بدل من كلمة «عاد» أي ألم تر كيف فعل ربك بأرم ذات العماد، التي عمرتها قبيلة عاد، وأعملت فيها قوتها الجسدية، وجلبت لها كل ما قدرت عليه من مل، ومتاع.. فكانت كما وصفها الله سبحانه: «لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ» أي لم يكن لها مثيل فيما جاورها من بلاد.. وكان النبي الذي أرسله الله إليهم، هو «هود» عليه السلام، وقد دعاهم إلى الله، وترفق بهم، وذكّرهم بآلاء الله عليهم، وإحسانه إليهم، فلم يزدهم ذلك إلا عنادا، وضلالا.. وفيما كان يقول «هود» لهم، ما جاء فى قوله تعالى: «وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (69: الأعراف) وقد أهلكهم الله بريح صرصر عاتية، كما يقول سبحانه: «وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ، سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً، فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ، فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ» (6- 8: الحاقة) وسمى بناء المدينة وإقامتها على هذه الصورة العجيبة من القوة، والضخامة، والإحكام- سمى هذا خلقا، لأنها من عمل مخلوقات لله، وكل ما يعمل فيه الناس، هو من خلق الله، كما يقول سبحانه: «وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ» (96: الصافات) ومناسبة قصة عاد وثمود وفرعون، لما قبلها، هى أنها تعرض قضية من الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1551 القضايا التي تستحق من العقل أن يناقشها، وان يستحضر وجوده كله لها، وذلك بعد أن استدعى هذا الاستدعاء القوى الذي شدّ إليه بالقسم، لينظر فى الزمن، وما تلد آناته ولحظاته من عجائب. والقضية التي يدعى إليها العقل هنا، هى سنة من سنة الله سبحانه وتعالى، فيما يأخذ به أهل الزيغ والضلال، من بأساء وضراء فى الدنيا، وما أعد لهم فى الآخرة من عذاب السعير.. وفى عاد وثمود وفرعون، يتمثل وجه كريه من وجوه الكفر والضلال، والعتوّ.. وقد أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، فاقتلعهم من جذورهم، وقطع نسلهم، وأتى على ما بنوا، وشيدوا. وقوله تعالى: «وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ» معطوف على قوله تعالى: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ» وكيف فعل ربك بثمود؟ وثمود، هم قوم صالح عليه السلام، وهم من العرب البائدة، وديارهم بالحجر بين الشام والعراق، وقد مر بها النبي، صلى الله عليه وسلم- فى غزوة تبوك فسجّى ثوبه على وجهه، وأمر أصحابه أن يمروا بها مسرعين، وقال: «لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا وأنتم باكون، خوفا أن يصيبكم مثل ما أصابهم» وقوله تعالى: «جابوا الصخر» أي قطعوه، وشقوه كما يشق الجيب، وهو فتحة الثوب التي يلبس منها.. ومعنى ذلك أنهم نحتوا الصخر فى الوادي الذي يسكنون فيه، وجعلوا بيوتهم منحوتة فى كيان الصخر، فكانت الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1552 أشبه بحصون.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ» (149: الشعراء) قوله تعالى: «وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ» معطوف على «وثمود» .. والأوتاد جمع وتد، وهى تلك الأهرامات العظيمة التي أقامها فراعين مصر، فكانت أشبه بالجبال، التي هى أوتاد الأرض، كما يقول سبحانه: «أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً. وَالْجِبالَ أَوْتاداً» (6، 7: النبأ) وقوله تعالى: «الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ» «الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ» هو وصف لعاد، وثمود، وفرعون.. فهم جميعا من الطغاة الباغين، الذين استبدوا بالبلاد، وبالعباد، فأشاعوا الفساد حيث كانوا، ولهذا أخذهم الله جميعا بالعذاب فصّبه صبّا عليهم. والسوط: أصله من ساط الشيء يسوطه، أي خلطه بغيره، لأن السوط يختلط بالجلد، حين يضرب به.. وسوط العذب، هو خليط من ألوان العذاب، وقد أخذ الله سبحانه كلّ جماعة من أهل الضلال بلون من ألوان الهلاك كما يقول سبحانه: «فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا» (40: العنكبوت) (م 98 التفسير القرآنى- ج 30) الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1553 وإذ قد جمع الله سبحانه وتعالى بين عاد، وثمود، وفرعون، فى سياق قصة واحدة- فكان من إعجاز النظم القرآنى أن يجمع عذابهم، وما أخذ به كل فريق منهم، فى إناء واحد، وأن يصبّه عليهم جميعا، فإذا وقع بهم، أخذ كل فريق لون العذاب المسلّط عليه! وقوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ» المرصاد: المكان العالي، الذي يقوم فيه الراصد، ليرقب ما يجرى هنا وهناك. وفى هذا إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى رقيب على أعمال الناس، يرى كل ما يعملون، وسيحاسبهم على ما عملوا، دون أن يقلت أحد منهم، لأن الله سبحانه متمكن منهم، بهذا العلو الذي لا يدانى.. الآيات: (15- 30) [سورة الفجر (89) : الآيات 15 الى 30] فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1554 التفسير: قوله تعالى: «فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ» الفاء هنا للتفصيل والإفصاح عما أجمله قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ» فكونه سبحانه وتعالى بالمرصاد، يرقب العباد، ويرى ما يعملون من خير أو شر- يقتضى أن هناك أعمالا مرصودة مسجلة على الناس، وأن الناس بحسب أعمالهم وإيمانهم بالله، وتصور هم لجلاله وعظمته وحكمته- ليسوا على حال واحدة، بل هم أحوال شتى وأنماط مختلفة، ترجع جميعها إلى أمرين: الشكر، أو الكفر. ولما كان المال، هو محكّ الإنسان، الذي يختبر به دينه وخلقه- فقد وضع الله سبحانه الإنسان فى امتحان إزاء المال، منحا ومنعا، وإعطاء وحرمانا.. فماذا كان موقف الإنسان فى هذين الحالين؟. إنه موقف مختلف، كما يتيّن ذلك من آيات الله. «فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ» ففى الحال التي يفيض الله سبحانه وتعالى فيها المال على الإنسان، ويسوق إليه الكثير منه، لا يرى أن ذلك ابتلاء واختبار، كما يرى ذلك عباد الله المتقون، وكما يقول سبحانه على لسان سليمان عليه السلام: «هذا مِنْ فَضْلِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1555 رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ» ؟ (40: النمل) - بل إنه يرى أن ذلك الإحسان المسوق إليه من عند الله، هو حقّ اقتضاه من الله سبحانه، لما يرى فى نفسه من ميزات استحق بها هذا الإحسان دون الناس، فيقول كما يقول أهل الزيغ والضلال، فيما أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله: «وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى» (50: فصلت) . فالإنسان ضعيف أمام سلطان المال، وتسلطه عليه، فإذا لم يحضّ نفسه على مراقبة الله، وإذا لم يقم على نفسه وازعا يزعه من غلبة الهوى، استبدت به شهوة المال، وصرفته عن الله، وأرته الحياة الآخرة سرابا خادعا، لا ينبغى له أن يدع هذا الحاضر الذي بين يديه، ويتعلق بهذا السراب الخادع الذي لا يدرى ما وراءه!! والإنسان هنا، هو مطلق الإنسان، إلا من عصم الله، وهم قليل.. وفى قوله تعالى: «ابْتَلاهُ رَبُّهُ» إشارة إلى أن هذا المال المسوق إلى الإنسان، وتلك النعم التي ملأ الله بها يديه، هو ابتلاء وامتحان له من الله، يكشف به عن شكره أو كفره، وأن ذلك ليس لميزة امتاز بها على الناس، فكما يبتلى الله أولياءه بالمال، يبتلى أعداءه به أيضا، فيعطى كلّا من الأولياء والأعداء ما يشاء.. أما الأولياء فيحمدون، ويشكرون، وأما الأعداء فيزدادون كفرا وعنادا.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ» (35: الأنبياء) الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1556 وفى قوله تعالى: «فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ» - إشارة إلى أن الابتلاء بالإعطاء والمنح، هو- عند من يعرف قدره، ويحسن استقباله- فضل وإكرام من الله، وإنه لجدير بالعاقل ألا ينزع عن نفسه هذا الثوب الذي كساه الله إياه، ويلبس نفسه لباس الشقاء والبلاء.. فالذين أنعم الله عليهم من عباده المكرمين بالملك والجاه والمال والسلطان- يرون فضل الله عليهم، وإحسانه إليهم، فلا يكون همّهم إلا إفراغ جهدهم كله فى القيام بواجب الشكر لله، والحمد لله، أن أكرمهم بهذا العطاء، وعافاهم من المنع والحرمان. وفى هذا يقول سليمان عليه السلام: «يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ» (16: النمل) . إنه يهتف من أعماقه، محدّثا بنعمة الله عليه، داعيا الناس أن يشهدوا عليه، وهو بين يدى نعم الله السوابغ عليه، وأنه إذا لم يقم فى مقام الشاكرين لله، فليعدّوه جاحدا، بل وليخرجوا عن سلطانه الذي مكن الله سبحانه وتعالى به على الناس.. ويقول سليمان فى موضع آخر، وقد رأى عرش ملكة سبأ ما ثلا بين يديه: «هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ؟ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ» (40: النمل) . هكذا النفوس الكريمة الطيبة، تستقبل الإحسان بالإحسان، وتتلقىّ الخير بالخير.. بل إنها لتضيق بالإحسان، وتراه حملا ثقيلا عليها، إذا هى وجدت ضعفا عن القيام بشكره.. يقول الشاعر مخاطبا أحد ممدوحيه الذين أضعفوا عطاياهم له، وأضفوا إحسانهم عليه.. يقول: لا تسدينّ إلىّ عارفة ... حتى أقوم بشكر ما سلفا أنت الذي جللتنى مننا ... أوهت قوى ظهرى فقد ضعفا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1557 وهذا وإن كان شعرا، وكان للخيال منه مكان- فإنه يقوم على أصل أصيل من مشاعر الفطرة الإنسانية السليمة، التي لم يفسدها الهوى، ولم يغلبها الطبع الحيواني المتوحش الكامن فى الإنسان.. فالمال نعمة من نعم الله، وإحسان من إحسانه، وإنه لمن الغبن لمن أنعم الله به عليه، بفضله وإحسانه، أن يشترى به عداوة الله، وأن يفتح به إلى جهنم بابا من أبوابها!! فالمال نعمة، يمكن أن ينال بها العاقل طيبات الحياة الدنيا، وحسن ثواب الآخرة.. ولكنه حين يقع ليد الأغبياء المغرورين، يكون عليهم وبالا، وشقاء، فى الدنيا والآخرة جميعا.. وفى «قارون» شاهد عبرة وعظة! وقوله تعالى: «وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ» .. قدر عليه رزقه: أي ضيّقه عليه، ولم يوسع له فيه، بالنسبة لما يراه فى غيره من الناس.. وفى هذه الحال يحاجّ هذا الإنسان الغافل الكفور- يحاجّ ربّه، ويلقاه متسخطا متبرما، متّهما خالقه بأنه لم يعرف قدره، ولم يؤد له ما هو جدبر به، وأنه ليس أقلّ من فلان، وفلان، من أصحاب الغنى والثراء!! وهذا ضلال مود بأهله، ومورد إياهم موارد التهلكة.. فالامتحان بالفقر، والضيق، والشدة، كالامتحان بالغنى، والثراء والنعم. فإذا كان الامتحان بالغنى يضع الإنسان أمام شهوات عارمة، وأهواء غالبة، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1558 تحتاج لقهرها إلى رصيد عظيم من العزم، وقوة الإرادة- فإن الامتحان بالفقر والشدة، يضع الإنسان أمام عدوّ يريد أن نزعزع إيمانه، ويغتال صبره لحكم ربه، ورضاه بما قضى الله فيه. قوله تعالى: «كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ، وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا، وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا» . هو رد على ما يقوم فى نفوس كثير من الناس من تلك المفاهيم الخاطئة فيما يبتليهم الله سبحانه وتعالى به، من غنى أو فقر، فليست التوسعة فى الرزق، بالتي تعطى العبد حجة بأنه من المكرمين عند الله، وليس التضييق فى الرزق، بالذي يدلّ على إهانة الله سبحانه لمن قدر عليه رزقه.. إن هذا وذاك، امتحان وابتلاء، وليس كما يظن الجاهلون بأن الله إنما يرزق الناس فى الدنيا بحسب مكانتهم عنده، فيوسّع على أوليائه، ويضيّق على أعدائه، وأن هؤلاء الذين أفقرهم الله، لو كانوا من المكرمين عنده لما ضيق عليهم فى الرزق، ولما وضعهم بموضع الحاجة إلى الأغنياء، وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى فى فضح منطقهم الفاسد، إذ يقول سبحانه على لسانهم: «أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ» ؟ (47: يس) .. وكلا.. فإن هذا منطق ضالّ، ورأى فاسد سقيم!! ولقد أحالهم هذا الفهم الضال إلى حيوانات، لا تعرف غير ما تملأ به بطنها من طعام، فلقد جفّت فيهم عواطف الإنسانية، وانتزعت من قلوبهم مشاعر الرحمة.. فلم يكرموا اليتيم، كما أكرمهم الله، ولم يحسنوا إلى الفقير، كما أحسن الله إليهم. بل اغتالوا حق اليتيم، ولم يمدّوا أيديهم بإحسان إلى مسكين، وأكلوا ما يرثون الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1559 أكلا جامعا، غير مستبقين شيئا لما افترض الله سبحانه وتعالى عليهم فى هذا الميراث الذي جاءهم من غير كدّو لا عمل، فهو ليس لهم وحدهم، وإنما هو أشبه بلقطة يلتقطونها من عرض الطريق، وأن من حق من يحضرهم وهم يمدون أيديهم إلى هذا المال أن ينال نصيبا منه، إذا كان من أهل العوز والحاجة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً» (8: النساء) .. والمراد بالقسمة هنا قسمة الميراث.. والمراد برزق أولى القربى واليتامى والمساكين من هذا الميراث- هو إعطاؤهم نصيبا منه، غير مقدّر بقدر محدود، وإنما هو فضل وإحسان.. ولقد أنكروا هذا الحق، وأكلوا الميراث كله!! وفى قوله تعالى: «أَكْلًا لَمًّا» إشارة إلى أنهم أكلوا ما لهم من حق فى هذا الميراث، مع مالذوى القربى واليتامى والمساكين من حق فيه، وجمعوا هذا إلى ذاك، وأكلوه جميعه. وقوله تعالى: «كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ، يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي» . كلا، هو ردّ على موقف هؤلاء الذين لا يكرمون اليتيم، ولا يتحاضّون على طعام المسكين، ويأكلون التراث أكلا لمّا، ويحبون المال حبّا جمّا.. إن ذلك ليس هو طريق الفلاح والنجاة، بل هو طريق الخسران، والهلاك، وإن ذلك ليبدو لهم جليّا وضحا «إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا» أي إذا جاء يوم القيامة، وتبدلت معالم هذه الحياة الدنيا، وذهب كل ما جمعوا فيها، وما أقاموا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1560 من دور وقصور.. وفى التعبير عن يوم القامة، بدكّ الأرض «دكا دكا» - إشارة الى أن ما بين أيديهم من متاع الحياة الدنيا سيتحول إلى حطام وأنقاض، فيكون بعضا من هذه الأرض التي لا يبقى على وجهها شىء، مخلّفا وراءه الويل لهم، والحساب العسير على ما أكلوا من حقوق، وما ضيعوا من واجبات. وقوله تعالى: «وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا» - أي جاء أمر الله وسلطانه ونصبت موازين الحساب، ووقف الملائكة فى المحشر جندا حراسا، ينفذون أمر الله، ويسوقون أهل الضلال إلى النار، وأهل الإيمان إلى الجنة.. «ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ» (103: هود) وقوله تعالى: «وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ» - برزت جهنم لأهلها، فهذا هو يومها، ويوم المنذرين بها، المعذبين فيها.. «وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى» (36: النازعات) وقوله تعالى: «يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى» - أي فى هذا اليوم يعقل الإنسان كل شىء، ويعلم عن يقين ما فاته علمه فى الدنيا من حق.. ولكن لا ننفعه الذكرى، ولا يفيده العلم، فقد طويت صحف الأعمال، ولا سبيل إلى تدارك ما فات! وقوله تعالى: «يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي» إنه الندم الذي يملأ القلب حسرة وكمدا، وإنه النظر اليائس المتحسر إلى سقاء الماء وقد أربق كل ما فيه، فى وسط صحراء ليس فيها قطرة ماء!! وفى قوله «لحياتى» - إشارة إلى أن هذه الحياة- حياة الآخرة- هى حياة الإنسان حقا، وأن الحياة الدنيا ليست إلا معبرا إلى هذه الحياة.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1561 قوله تعالى: «فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ. وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ» - أي فى هذا اليوم لا يشهد الناس عذابا كهذا العذاب الذي يعذب الله به أهل الضلال، ولا قيدا محكما وثيقا كهذا القيد الذي يقيدهم الله به، فلا يجدون سبيلا للإفلات والهرب! والضمير فى عذابه، يرجع إلى الله، ومثله الضمير فى وثاقه. وقوله تعالى: «يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً» هذا النداء الكريم، الذي يدعو به الله سبحانه وتعالى أهل ودّه، من وسط هذا البلاء الخالق، المحيط بالناس يوم القيامة- هو قارب النجاة، الذي يخفّ مسرعا إلى تلك السفينة الغارقة فى هذا البحر اللّجى، فيحمل هؤلاء الذين أكرمهم الله بفضله وإحسانه، فنجاهم من شر هذا اليوم، ولقاهم نضرة وسرورا.. إن هذا النداء الذي يجىء على فجاءة وسط هذا البلاء، لهو أوقع أثرا، وأبلغ فى إدخال المسرة على النفس، من أن يجىء مسبوقا بمقدمات تشير إليه، وتبشّر به.. والنفس المطمئنة، هى النفس المؤمنة، التي لا يستبد بها القلق فى أي حال من أحوالها، فى السراء أو الضراء، إنها فى حال واحدة أبدا من الرضا بما قسم الله لها..، فهى فى السراء شاكرة، حامدة، وفى الضراء صابرة راضية، فلا الغنى يطغيها، ويخرج بها عن طريق الاستقامة، ولا الفقر يسخطها، ويعدل بها عن الاطمئنان إلى قضاء الله فيها، وحكمه عليها.. إنها نفس مطمئنة ثابتة، على حال واحدة فى إيمانها بالله، ورضاها بما قسم لها.. وهذا الاطمئنان وذلك الرضا، لا يجد هما إلا المؤمنون بالله، المتوكلون عليه، المفوضون أمورهم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1562 إليه.. فالاطمئنان الذي تصيبه بعض النفوس، ويكون صفة غالبة عليها، هو ثمرة الإيمان الوثيق بالله، القائم على أصول ثابتة من المعرفة بالله سبحانه وتعالى، وما له جل شأنه من سلطان مطلق متمكن، قائم على كل ذرة فى هذا الوجود، وأنه لا يقع فى هذا الوجود شىء إلا بتقديره سبحانه، وبمقتضى حكمته وعلمه، وعدله. وقد نودى الإنسان هنا بنفسه ولم يناد بذاته، لأن النفس هى جوهره السماوي، وهى التي كانت موطن الإيمان والاطمئنان.. وهى لهذا استحقت أن ترجع إلى ربها، وأن تنزل منازل رضوانه، إذ لم تغرق فى تراب الأرض، ولم تضع معالمها فيه، كما ضاعت نفوس الضالين والغاوين.. وقوله تعالى: «راضِيَةً مَرْضِيَّةً» أي راضية بما أرضاها الله سبحانه به من فضله، مرضيّا عنها من ربها.. فالكلمتان حالان من أحوال النفس، وقد دعيت من ربها إلى الرجوع إليه.. إنها ترجع إلى ربها، وقد رضيت بما لقيها به ربّها من إكرام وإحسان، وقد رضى ربها عنها بما قدمت من أعمال طيبة.. فالله سبحانه وتعالى يرضى ويرضى، يرضى عن عباده المحسنين، ويرضيهم بإحسانه، كما يقول سبحانه: «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً» .. وفى الجمع بين صفة الرضا للنفس، والرضا من الله عنها- إشارة الى أن هذا الرضا الذي تجده النفس هو رضا دائم متصل، لأنه مستمد من رضا الله عنها، وأنه ليس مجرد شعور يطرقها، أو خاطر يطوف بها، ثم يذهب هذا الشعور، ويغيب هذا الخاطر، مع موجات الخواطر، والمشاعر التي تموج فى كيان الإنسان..!! كلا إنه رضا لا ينقطع أبدا.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1563 وقوله تعالى: «فَادْخُلِي فِي عِبادِي. وَادْخُلِي جَنَّتِي» - هو دعوة إلى هذه النفس المطمئنة، بعد أن عادت إلى ربها، أن تأخذ مكانها بين عباده الذين أضافهم سبحانه وتعالى إليه، وجعلهم فى مقام كرمه وإحسانه، وأدخلهم جنته التي أعدها لهم، فلتأخذ هى مكانها معهم من تلك الجنة، ولتنعم بما ينعم به عباد الله المكرمون، من نعيم لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر.. جعلنا الله منهم، وألحقنا بهم، إنه أهل التقوى وأهل المغفرة (90) سورة البلد نزولها: مكية.. بإجماع.. نزلت بعد سورة «ق» . عدد آياتها: عشرون آية. عدد كلماتها: اثنتان وثمانون. كلمة. عدد حروفها: ثلاثمائة وواحد وخمسون حرفا. مناسبتها لما قبلها الإنسان الذي ابتلاه الله فأكرمه ونعمه، فلم يحمد الله، ولم يشكر له فضله وإحسانه، والإنسان الذي قدر الله عليه رزقه، فساء ظنّه بالله، وغيّر موقفه منه- هذا الإنسان- فى حاليه اللذين عرضتهما سورة «الفجر» - يرى فى أوضح صورة فى إنسان هذا البلد، وهو مكة، البلد الحرام الذي رفع الله قدره، وجعله حرما آمنا، يجبى إليه ثمرات كل شىء، وجعله موضعا الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1564 لأول بيت يعبد فيه على هذه الأرض- هذا الإنسان الذي يعيش فى هذا البلد الأمين، كان جديرا به أن يكون أعرف الناس بربه، وأرضاهم لحكمه، ولكنه لم يرع حرمة هذا البلد، فلم يكرم اليتيم، ولم يحض على طعام المسكين، وأكل التراث أكلا لما، وأحب المال حبا جمّا، أعماه عن طريق الحق، وأضله عن سبيل الرشاد.. فهل هو بعد هذه النّذر عائد إلى ربه، داخل فى عباده؟ ذلك ما ستكشف عنه الأيام منه، مع دعوة الحق التي يحملها رسول الله إليه.. فالمناسبة بين السورتين قريبة دانية. بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 20) [سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 20] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1565 التفسير [لا أقسم بهذا البلد.. ما تأويله؟] قوله تعالى: «لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ» قلنا- فى غير موضع- إن القسم المنفي فيما ورد فى القرآن الكريم، هو تعريض بالقسم، وتلويح به، دون إبقاعه، إذ كان الأمر الواقع فى حيزّ القسم، أوضح وأظهر من أن يقسم عليه، توكيدا، أو تقريرا.. ونفى القسم هنا هو لعلة فى المقسم به، لا بالمقسم عليه، كما سنرى.. والبلد، هو البلد الحرام، مكة المكرمة، وقد أقسم الله به فى غير هذا الموضع، فى قوله تعالى: «وَالتِّينِ. وَالزَّيْتُونِ، وَطُورِ سِينِينَ، وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ» . وقوله تعالى: «وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ» الواو هنا للحال، والجملة حال من فاعل لا أقسم، وهو الله سبحانه وتعالى.. أي لا أقسم بهذا البلد فى تلك الحال التي أنت حلّ به، فالضمير «أنت» خطاب للنبى صلوات الله وسلامه عليه. والحلّ: الحلال، المستباح.. والمراد بالحلّ، هنا هو النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- وأنّ المشركين لم يرعوا فيه حرمة القرابة، ولا حرمة البلد الحرام الذي يأوى إليه، بل أباحوا سبّه وشتمه، وأطلقوا ألسنتهم بكل قالة سوء فيه، بل وتجاوزوا هذا إلى التعرض له بالأذى المادي، حتى لكادوا يرجمونه.. وهنا ندرك بعض السر فى نفى القسم بالبلد الحرام.. لقد جعله المشركون بلدا غير حرام، وغيّروا صفته التي له، حتى لقد صار هذا البلد غير أهل لأن الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1566 يقسم به من الله سبحانه، لأن القسم من الله هو تشريف وتكريم لما يقسم به سبحانه، وإن الله سبحانه لن يقسم بهذا البلد ما دام النبي- صلوات الله وسلامه عليه- لا ترعى له حرمة فى البلد الحرام.. فإن حرمة هذا البلد من حرمة النبي، وأنه إنما أقيم من أول وجود للمجتمع الإنسانى، ليستقبل دين الله وقد كمل، وليكون مطلعا لخاتم المرسلين وقد ظهر. وفى نفى القسم بالبلد الحرام، تجريم للمشركين، وتشنيع على جنايتهم الغليظة التي اقترفوها فى حق رسول الله، وفى حق البلد الأمين، وأن تلك الجناية الشنعاء قد امتدت آثارها إلى البلد الحرام، فسلبته حرمته، وأن الله سبحانه وتعالى رافع عنه هذه الحرمة، حتى ينتقم لنبيه الكريم من هؤلاء المجرمين، ويردّ إليه اعتباره من التوقير والتكريم فى رحاب البلد الحرام. وعندئذ تعود للبلد حرمته!! وإنا لنذهب إلى أبعد من هذا، فنقول إن رفع الحرمة عن البلد الحرام قد ظلّ معلقا هكذا إلى أن خرج منه النبي- صلوات الله وسلامه عليه- مهاجرا ثم عاد إليه فاتحا فى السنة الثامنة من الهجرة، وأنه قد أبيح له من هذا البلد يوم الفتح، ما كان حراما، فأمر صلوات الله وسلامه عليه بقتل بعض المشركين، وهم متعلقون بأستار الكعبة، يومئذ، وهم ابن خطل، وميّس بن صبابة، وغير هم وفى هذا يقول الرسول الكريم عن هذا البلد يوم الفتح: «إن الله حرم مكة، يوم خلق السماوات والأرض، فهى حرام إلى أن تقوم الساعة، فلم تحل لأحد قبلى، ولا تحل لأحد من بعدي، ولم تحل لى إلا ساعة من نهار» وإنه ما إن يقرغ النبي- صلوات الله وسلامه عليه- من حساب هؤلاء المتاكيد الذين أمر بقتلهم فى المسجد الحرام، بالبلد الحرام، حتى تعود للبلد الحرام حرمته ويطّهر من الشرك والرجس، ومن الأصنام وعبّاد الأصنام. هذا، ولا يفهم مما قلناه: من أن البلد الحرام، قد رفعت عنه حرمته منذ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1567 أحل المشركون من النبي ما أحلّوا- لا يفهم من هذا، أن ذلك بالذي ينقص من قدر هذا البلد، أو يجور على شىء من مكانته، وعلو مقامه.. فهو هو على ما شرفه الله به، ورفع قدره، ولكن رفع الحرمة عن هذا البلد، هو عقاب لهؤلاء المشركين الذين آواهم هذا البلد، وجعله حرما لهم.. فلما استباحوا حرمته، باستباحة حرمة النبي، عرّاهم الله من هذه الخلية الكريمة التي خلعها عليهم البلد الحرام..! ولهذا أقسم الله سبحانه بهذا البلد الذي أبيحت حرمته من المشركين، ووصفه بالبلد الأمين فى قوله تعالى: «وَالتِّينِ، وَالزَّيْتُونِ، وَطُورِ سِينِينَ، وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ» . قوله تعالى: «وَوالِدٍ وَما وَلَدَ» - معطوف على قوله تعالى: «لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ» .. والمراد بالوالد وما ولد- والله أعلم- هو هذا التوالد الذي يقع بين الناس.. فكل والد، هو مولود، وكل مولود، سيكون والدا، وبهذا، يتصل النسل، وتكثرا المخلوقات، وتعمر الأرض.. وفى عملية التوالد، تتجلى قدرة الخالق جل وعلا، وعلى مسرح هذه العملية مراد فسيح للدراسة، والتأمل، والبحث، وجامعة علم غرير للعلماء والدارسين، ومعلم من معالم الهدى واليقين للمؤمنين والمتوسمين.. وفى نفس القسم بالوالد، وما ولد (وهو الإنسان) - إشارة إلى أن الإنسان الذي كرمه الله سبحانه وتعالى، ورفع قدره على كثير من المخلوقات، كما رفع قدر هذا البلد الأمين على سائر البلدان- هذا الإنسان، قد خلع هذا الثوب الكريم الذي ألبسه الله إياه، وتخّلى عن المعاني الإنسانية الشريفة التي الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1568 أودعها الخالق جل وعلا فيه، فأحلّ حرمات الله، واعتدى على حدوده، وبهذا لم يصبح أهلا لأن يقسم الله به، وأن يعرضه فى معرض التشريف والتكريم. «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» (4- 6: التين) ومن هنا ندرك بعض السر فى نفى القسم بالوالد وما ولد.. فإن الله سبحانه أقسم بكثير من مخلوقاته، من سماء وأرض، وما فى السماء، من شمس وقمر، ونجوم، وما فى الأرض من تين وزيتون، وخيل عادية، ورياح عاصفة، وغير هذا، مما أقسم الله سبحانه وتعالى به، من عوالم الجماد، والنبات، والحيوان. فهذه المخلوقات قائمة على ما خلقها الله سبحانه وتعالى عليه، لم تخرج عن طبيعتها، ولم تحد عن طريقها المرسوم لها، على خلاف الإنسان، الذي غير وبدل، وانحرف عن سواء السبيل.. وأما حين أقسم الله سبحانه وتعالى بالإنسان، فإنما أقسم به فى فطرته التي أودعها الله سبحانه فيه، تلك الفطرة التي جعلها الله تعالى أمانة بين يدى الإنسان، فلم يرعها، ولم يحفظها. وفى هذا يقول سبحانه: «وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها» .. فهذه النفس، هى الفطرة التي فطر الله الناس عليها «فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» .. والصورة الكاملة للإنسانية، التي احتفظت بهذه الفطرة، وزكتها التزكية المطلوبة لها، هو رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- وقد ألبسه الله سبحانه الشرف كله، وتوجه بتاج العظمة على المخلوقات جميعها، إذ أقسم به الحق جل وعلا، مضافا إلى ذاته الكريمة، فقال تعالى: م 99- التفسير القرآنى ج 30 الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1569 «فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ» (92- 93: الحجر) .. وقد وزنه الله سبحانه وتعالى بهذا القسم، فرجح ميزانه ميزان السموات والأرض، إذ أقسم بهما الحق جل وعلا مضافين إلى ذاته العلية فى قوله جل شأنه: «فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ» (23: الذاريات) .. ولكن شتان بين قسم الله سبحانه وتعالى بذاته مضيقا إليها الرسول الكريم، فى مقام الخطاب، وبين قسمه سبحانه بالسماء والأرض، مضافتين إلى ذاته- جل وعلا- فى مقام الغيبة..! فصلوات الله وسلامه عليك يا رسول الله، صلاة تنال بها شفاعتك يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. قوله تعالى: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ» .. هو جواب للقسم المطوىّ، فى كيان القسم المنفي.. والإنسان هو ثمرة من ثمرات التوالد بين الأحياء، سواء فى هذا، الوالد، والولد.. والكبد: المعاناة والشدة.. والظرف: «فى» هو المحتوى الذي يضم الإنسان، وما يلاقى فيه من كبد.. فحياة الإنسان- كل إنسان- فى هذه الدنيا، هى شدائد، ومعاناة. فما يسلم إنسان أبدا من هموم الحياة وآلامها، النفسية، أو الجسدية، فكم يفقد الإنسان من صديق وحبيب؟ وكم يتداعى على جسده من أمراض وعلل؟ وكم؟ وكم؟ مما يطرق الناس من أحداث على مر الأيام، وكر الليالى؟ فالشباب يذبل الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1570 ويولّى، والقوة تتبدد وتصبح وهنا وضعفا، وهذا الجسد الذي ملأ الدنيا حياة وحركة سيعصف به الموت يوما، ويلقى به فى باطن الأرض، جثة هامدة متعفنة، لا تلبث أن تصير ترابا!. فالإنسان وحده من بين المخلوقات- فيما نعلم- هو الذي تستبدّ به هذه المخاوف، وتطرقه هذه التصورات، على خلاف سائرا لأحياء التي تقطع مسيرتها فى الحياة، فى غير قلق أو إزعاج من المستقبل الذي ينتظرها.. إنها لا تنظر إليه، ولا تتصوره، ولا تعيش فيه قبل أن يصبح واقعا.. أما الإنسان، فإنه يعيش فى المستقبل أكثر مما يعيش فى الواقع، حتى إنه ليرى بعين الغيب فى يوم مولده، ما هو مقبل عليه من آلام ومكابدات فى مستقبل حياته.. يقول ابن الرومي. لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد وإلّا فما يبكيه منها، وإنها ... لأرحب مما كان فيه وأرغد هذا هو الإنسان، وتلك هى مسيرته فى الحياة، فلا يفترنّ جاهل بقوته، ولا يركننّ مغرور إلى ما بين يديه من مال وسلطان.. فكل زائل وقبض الريح! .. قوله تعالى: «أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ» ؟ هو إلفات لهذا المغرور بقوته، المعتزّ بسلطانه وجاهه، المفتون بنفسه، المتشامخ بذاته، حتى ليحسب أن أحدا لن يقدر عليه، ولن يسلبه شيئا مما معه.. إنه أضعف من أن يثبت لنخسة من نخسات الحياة، كما يقول سبحانه: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1571 «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً» (54: الروم) ويقول سبحانه: «وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً» (28: النساء) وإن بعوضة تلسعه لتحرق جسده بالحمى، وإن جرثومة تتدسس إلى كيانه لتهدّ بنيانه، وتقوض أركانه!! ثم ما قوة هذا الإنسان؟ أهو أقوى من خالقه الذي خلقه من نطفة ثم سواه رجلا؟ فما أضعف الإنسان، وما أخف وزنه، إذا كان معياره قائما مع هذا الجسد، دون أن يكون لروحه حساب، أو لنفسه اعتبار! وقوله تعالى: «يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً» هكذا يقول الإنسان مباهيا مفاخرا بما أنفق من مال.. واللبد: الكثير، الذي جمع بعضه إلى بعض، فكان أكداسا مكدسة.. وفيم أهلك هذا السفيه المغرور هذا المال الكثير؟ أفي ابتناء محمدة، أو اكتساب مكرمة؟ أو إغاثة ملهوف؟ أو إطعام جائع؟ كلّا.. إنه لا يعرف وجها من هذه الوجوه ولا تنضح يده لها بدرهم، من هذا المال الكثير الذي أهلكه.. إنه أهلكه فى مباذله، وفى استرضاء شهواته، وإشباع نزواته.. ولهذا فهو مال هالك، ومهلك لمن أنفقه وهذا بعض السرّ فى قوله تعالى: «أهلكت» الذي يدل على أن هذا المال ذهب فى طريق الضياع والفساد. وقوله تعالى: «أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ؟» أي أيحسب هذا السفيه المفتون، أن عين الله لا تراه، ولا تكشف عن هذه الوجوه المنكرة التي يهلك فيها هذا المال اللبد؟ وكلّا، فإنه محاسب على هذا المال الذي أهلكه فى وجوه الضلال، والبغي والعدوان.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1572 قوله تعالى: «أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ، وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ؟» هو تعقيب على موقف هذا الجهول المفتون، الذي ظن أن قدرته لا تغلب، وأن ماله لا ينفد، وأنه لا يحاسب على ما يفعل، ولا يراجع فيما يقول، وأنه عند نفسه أكبر من أن يحاسب، وأعظم من أن يراجع!! وإذا سلّم لهذا الغبىّ الجهول، أن جاهه وسلطانه من كسب يده، وأن المال الذي ينفق منه بغير حساب على شهواته وأهوائه، هو من ثمرة عمله- إذا سلّم له بهذا، فهل يجرؤ على أن يدّعى- ولو تجرد من كل حياء- أنه هو الذي أوجد وجوده، وأودع فيه هذه القوى التي يعمل بها؟ أيجرؤ على أن يقول إنه هو الذي خلق هاتين العينين اللتين ببصر بهما، أو هو الذي خلق جهاز النطق الذي ينطق به، من لسان وشفتين؟ فإذا كان لا يملك تلك القوى المودعة فيه، فهل يملك ما تحصّله له تلك القوى من جاه، ومال، وسلطان؟ إنه يستطيع- ولو جدلا وسفها- أن يقول مشيرا إلى نفسه: هذا مالى قد جمعته، وهذا جاهى وسلطانى قد أقمته ولكن لا يستطيع أبدا أن يقول ها هو ذا أنا الذي أو جدته!! [وهديناه النجدين. ما تأويله] ؟ قوله تعالى «وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ» النجد: ما ارتفع من الأرض، أشبه بالنّهد البارز على الصدر، وجمعه نجود، وبه سمى الصّقع المعروف من بلاد العرب، بنجد، لأنه عال بارز على ما حوله من الأماكن، مثل تهامة وغيرها.. والنجدان هنا، هما جانبا الخير والشر فى الإنسان.. وسميا نجدين لأنهما أمران بارزان بين ما يتقلب فيه الإنسان من أمور. فالخير واضح الملامح، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1573 بيّن السّمات، وكذلك الشر، أمره ظاهر لا يخفى،.. ولن يخطىء أحد التفرقة بين ما هو خير وما هو شر، كما لا يخطىء أحد التفرقة بين النور والظلام، والنهار والليل، والحلو والمر.. اللهم إلا من فسد عقله، واختل تفكيره، فيرى الأمور على غير وجهها، تماما، كمن تعطلت حاسة من حواسه، من سمع أو بصر، أو شم، أو ذوق، فلا يميز بين المسموعات أو المبصرات، أو المشمومات أو المذوقات.. وهذا ما يشير إليه الرسول الكريم بقوله: «إن الحلال بين وإنّ الحرام بيّن.. وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس» . والإنسان السوىّ، يعرف الخير والشر، والهدى والضلال، والنافع والضار، ويهتدى إلى ذلك بنفسه، كما يتهدّى الحيوان إلى مسالكه فى الحياة، وإلى ما يحفظ وجوده بين الأحياء.. ومن هنا كانت دعوة الإسلام- كما كانت دعوة الشرائع السماوية كلها- هى الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر.. والمعروف هو ما عرف الناس بفطرتهم أنه ملائم لهم، فاتجهوا إليه، وتجاوبوا معه، وأخذوا وأعطوا به.. والمنكر، ما أنكره الناس بفطرتهم، واستوحشوه، ونفروا منه، ونأوا بأنفسهم عنه.. ومن هنا أيضا كان الإجماع فى الشريعة الإسلامية أصلا من أصول هذه الشريعة، يقوم إلى جانب أصليها: الكتاب والسنة.. وليس الإجماع فى حقيقته إلا توارد العقول وتلاقى الفطر على أمر ليس فى كتاب الله ولا فى سنة رسوله نصّ فيه.. وهذا يعنى أن الرأى العام حكم يقضى بين الناس، وفيصل فيما لم يجدوا له حكما فى الكتاب أو السنة.. وأكثر من هذا، فإن أحكام الكتاب والسنة، إنما هى موزونة بميزان الفطرة السليمة، والعقل الصحيح، أو قل إن أحكام الكتاب والسنة ضابطة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1574 لمسيرة الفطرة السليمة، والعقل الصحيح. ومن هنا لا تجد النفوس السويّة حرجا، ولا ضيقا، فى التزامها حدود الشريعة والوفاء بها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (78: الحج) فمعنى قوله تعالى: «وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ» أي عرّفناه وجهى الخير والشر، وأعطيناه الميزان الذي يزنهما به، ويضع كلّا منهما موضعه الذي هو له.. وكما يشير النجدان إلى أن كلّا من الخير والشر بالمكان البارز الذي لا يخفى وجهه ولا تخطىء الأنظار الاستدلال عليه- كذلك يشيران إلى أن الاتجاه إلى أي منهما، وأخذ الطريق إليه، هو مرتقى صعب، يحتاج إلى جهد ومعاناة! فالذى يتجه إلى الخير، ويحمل نفسه على معايشته، إنما يغالب أهواء جامحة، ويدافع شهوات معربدة.. وفى الحديث: «حفّت الجنة بالمكاره» .. ولهذا كان الصبر من عدّة المؤمنين، ومن زادهم على طريق الحق والخير.. فمن لم يرزق الصبر، لم يقو على السير فى طريق الهدى والإيمان.. «إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ، وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» (2- 3: العصر) .. «وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» (35: فصلت) والشرّ، وإن بدا فى ظاهر الأمر أنه أخفّ محملا، وأيسر سبيلا، لأن مسيرته متجهة مع أهواء النفس، مندفعة مع تيار الشهوات- إلا أنه فى واقع الأمر على خلاف الظاهر، فليس محمل الشر خفيفا، ولا طريقه سهلا معبّدا.. فما أكثر المزالق والعثرات التي يلقاها الأشرار فى طريقهم، وما أكثر الآلام التي تتولد من اقتراف الآثام، وإشباع الشهوات.. وإن اللذة العارضة لشهوة من الشهوات، أو إثم من الآثام، لتعقبها دائما آلام مبرّحة، وأوجاع قاتلة، إن لم يكن ذلك فى يومها، ففى غد قريب أو بعيد.. فما أكثر العلل الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1575 الجسدية التي تخلّفها الآثام، وما أكثر العلل والأوجاع التي يرثها أولئك الذين يزرعون الشر، ويستكثرون منه! هذا، وللإنسان- كل إنسان، حتى أكثر الناس جرأة على الشر ومقارفة له- لحظات يصحو فيها من غفلته، ويفيق فيها من سكرته، ويتنبه من ذهوله، وعندها يجد بين يديه هذا الحصاد المشئوم، الذي تنبعث منه روائح كريهة عفنة، حتى لتكاد تخنق أنفاسه، وتزهق روحه! وكم لأهل الضلال، ومقتر فى الآثام من ساعات، يحترقون فيها بنار الندم والحسرة، ويتقلبون فيها على جحيم التقريع واللوم، ولكن بعد فوات الأوان، وإفلات الفرصة.. وأىّ عزاء يعزّى به نفسه رجل كأبى نواس مثلا، حين يذهب شبابه، وتموت نوازعه وشهواته، ثم يتلفت فيجد بين يديه أشباح آثامه وفجوره، تتراقص من حوله، بوجوهها الكالحة، وأنيابها المكثرة، ومخالبها الحادة، وكأنها الحيات تطل من أجحارها، وتهجم عليه من كل جانب؟ ولقد نهزت مع الغواة بدلوهم ... وأسمت سرح اللهو حيث أساموا وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه ... فإذا عصارة كل ذاك أثام! هكذا يلقى أبو نواس نفسه فى صحوة الموت، وقد بلغت الروح الحلقوم!! وأي حسرة وأي ألم فاضت بهما نفس رجل كالحجاج، وقد قام على منبر سلطانه فى العراق، يرمى الناس بالصواعق من كلماته، فتنخلع منها القلوب، وتضطرب النفوس، ويشهر سيفه بيد هذا السلطان المطلق، ويقول: «إنى لأرى رؤسا قد أينعت وحان قطافها، وإنى لصاحبها، وكأنى أنظر إلى الدماء بين العمائم وللحى..» ثم ينفذ هذا الوعيد، فيقطع رءوسا بريئة، وبريق الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1576 دماء طاهرة.. ثم تختم صفحته الملطخة بالدماء، بدم «سعيد بن جبير» بقية السلف الصالح، والنبتة الكريمة الباقية من رياض التابعين؟ والذين شهدوا الحجاج وهو على فراش الموت، يعانى سكراته، وينظر نظرات الفزع والرعب إلى ماضيه الذي حضر كلّه بين يديه- الذين شهدوا الحجاج وهو فى تلك الحال، فاضت نفوسهم أسّى عليه، ورحمة به، حتى أولئك الذين كانوا أشد الناس بغضا له، واستعجالا ليومه هذا! فكم يساوى سلطان الحجاج، وجبروته، وما أرضى به نفسه من هذا السلطان، وذلك الجبروت- كم يساوى كل هذا من آلام ساعة من ساعاته الأخيرة، وهو يرى حصاد هذا السلطان، وثمر هذا الجبروت؟ هذا حساب الإنسان مع نفسه، فكيفّ حسابه مع الله، إذا كان قد أخذ طريقا غير طريق الله؟. وقوله تعالى: «فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ» العقبة، هى الطريق الوعر فى الجبل، تحف بسالكها المخاوف والمهالك.. والاقتحام، هو الإقدام من المرء على الأمر فى قوة وعزم، دون مبالاة بما يعترضه من صعاب.. والمخاطب باقتحام العقبة هنا، هو هذا الإنسان الذي هداه الله النجدين، وعرّفه- بما أودع فيه من عقل، وما غرس فيه من فطرة- التهدّى إلى طريق الخير أو الشر، ثم لم يقتحم العقبة إلى موارد الخير، ومواقع الإحسان، وآثر أن يأخذ طريق الشر، ويتقحّم عقبته تحت غواشى ضلاله، وغمرة شهواته.. ومطوة نزواته.. وقوله تعالى. «وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ» سؤال يثير العقل، ويحرك الفكر، نحو هذا المجهول الذي يسأل عنه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1577 وقوله تعالى: «فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ» : المسغبة: المجاعة، والمتربة: التراب، ويراد بها الفقر الشديد، كأن المتصف بها لا يملك غير التراب! هذه هى العقبة التي كانت موضوع السؤال: «وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ» ؟ إنها عقبة، تقوم بين يدى من يريد اجتيازها إلى مواقع الخير- عقبات: منها: «فك رقبة» أي عتق رقبة، وفكها وإطلاقها من أسر العبودية، والرق، وتحريرها من البهيمية التي اغتالت معالم الإنسانية فيها.. إن الإنسان- مطلق الإنسان- له حرمته عند الله، وإن الاستخفاف بهذه الحرمة عدوان على حمى الله.. ولهذا كان من أعظم القربات عند الله سبحانه وتعالى، هو رد اعتبار هذا الإنسان، وتصحيح وجوده بين الناس.. إنه خليفة الله فى الأرض! ومن العقبات التي يقتحمها من يأخذ طريقه إلى الله: «إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ» أي بذل الطعام فى المجاعات، وفى أيام الجدب والقحط، للجياع والمحرومين.. وأولى هؤلاء الجياع بالإطعام، الأيتام الفقراء، لضعفهم، وعجزهم عن الكسب.. وأحق الأيتام بهذا الإحسان، ذوو القربى، إذ كان للقرابة حق يجب أن يرعى، فمن قصّر فى حق ذوى قرابته، فهو مع غير هم أكثر ضنّا، وأشد تقصيرا.. والمسكين الفقير، هو أشبه باليتيم، فى ضعفه، وقلة حيلته، وإطعامه- حين لا يجد الطعام- أولى من غيره! وفرق بين الفقير، والمسكين.. فقد يكون المسكين فقيرا، وقد يكون الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1578 الفقير غير مسكين.. والمسكين هو الذليل، المهين.. سواء أكان فقيرا أم غير فقير، ومن هنا لم يكن فى المؤمنين مسكين. إذ لا يجتمع الإيمان، وذلة المسكين ومهانته.. وعلى هذا يكون المسكين، هو الّذي، الذي يعيش فى دار الإسلام، ويكون من حقه على المسلمين إذا كان فقيرا أن تسدّ مفاقره، وأن يكون له نصيب من البر والإحسان. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ... » أما الفقير على إطلاقه، فهو من كان من المؤمنين، ولا مال معه، وهذا الفقر لن يلبسه لباس المسكنة أبدا.. وكيف، وهو العزيز بإيمانه، القوى بالثقة فى ربه؟ وسميت هذه الأمور عقبة، لأن الذي يتخطاها، إنما يغالب نوازع نفسه، من الأثرة، وحب المال، وإنه ليس من السهل على الإنسان أن ينزع من نفسه الأنانية والأثرة، وحبّ المال، وإن ذلك ليحتاج إلى معاناة وجهاد ومغالبة، حتى يقهر المرء هذه القوى التي تحول بينه وبين البذل والسخاء.. وقوله تعالى: «ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ» .. إشارة إلى أن هذه الأعمال المبرورة، لا ينزلها منازل القبول من الله إلا الإيمان بالله. فإذا فعلها المرء غير مؤمن بالله، وغير راغب فى ثوابه، طامع فى حسن المثوبة منه- لم يكن لها عند الله وزن.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً» (23: الفرقان) وقوله سبحانه: «أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» (105: الكهف) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1579 وقوله تعالى: «وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ» - إشارة إلى أن الإيمان- مجرد الإيمان- لا يمكّن المرء من اقتحام هذه العقبة، وإن كان يدعو إلى اقتحامها، ويشدّ البصر نحوها.. إذ لا بد من أن يقوم مع الإيمان، دعوة موجّهة إلى الصبر، وإلى الرحمة، وأن يتزود المرء بزاد عتيد منها. والتواصي بالصبر والمرحمة، هو إلحاح المرء على نفسه بالدعوة إليهما، والتمسك بهما، فإذا جزع فى مواجهة مال يخرج من يده، حمل نفسه على الصبر على ما تكره، واستدعى من مشاعره دواعى الحنان والرحمة.. فذلك مما يعينه على مغالبة أهوائه، وقهر شحّه وبخله.. ثم لا يقف المرء عند هذا، بل ينبغى أن يكون هو داعية إلى الصبر وإلى الرحمة، يبشر بهما فى الناس، ويدعو إليهما فى كل مجتمع، فذلك من شأنه أن يترك آثاره فيه، إلى جانب ما يتركه من إشاعة هذا المعروف بين الناس.. قوله تعالى: «أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ» .. أي أن هؤلاء الذين آمنوا، وتواصوا بالصبر، وتواصوا بالمرحمة، وتخطوا هذه العقبة، ففكوا الرقاب، وأطعموا الجياع من الأيتام والمساكين- هؤلاء «أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ» أي أصحاب اليمين، والفوز، والفلاح، وأنهم من أهل اليمين، الذين وعدهم الله جنات النعيم.. قوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ» .. أي والذين لم يؤمنوا بالله، ولم يقتحموا العقبة، سيأخذون الجانب الآخر الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1580 المقابل لأصحاب الميمنة، وهو جانب الشؤم، والبلاء.. حيث نار جهنم، يصلونها وبئس المصير.. قوله تعالى: «عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ» .. أي هذا هو المساق الذي يساق إليه أصحاب المشئمة، حيث تشتمل عليهم النار، وتغلق عليهم أبوابها، فلا مهرب، ولا إفلات لهم منها.. (91) سورة الشمس نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة «القدر» .. عدد آياتها: خمس عشرة آية.. عدد كلماتها: أربع وخمسون كلمة.. عدد حروفها: مائتان وأربعون حرفا.. مناسبتها لما قبلها أشارت سورة «البلد» إلى الإنسان، وإلى ما أودع الله سبحانه وتعالى فيه من قوى تميز بين الخير والشر، إذ يقول سبحانه: «وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ» .. وفى سورة «الشمس» بيان شارح للنجدين، إذ يقول سبحانه: «وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها» ثم أشارت الآيات بعد هذا إلى موقف الإنسان من هذين النجدين، إذ يقول جل شأنه: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» .. فالمناسبة بين السورتين ظاهرة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1581 بسم الله الرحمن الرّحيم الآيات: (1- 15) [سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4) وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) وَلا يَخافُ عُقْباها (15) التفسير: قوله تعالى: (وَالشَّمْسِ وَضُحاها..) هذه أقسام عدّتها أحد عشر قسما، أقسم الله سبحانه وتعالى بها، مفتتحا السورة الكريمة.. الشمس، وضحى الشمس، والقمر، والنهار، والليل، والسماء، وبناؤها، والأرض، وبسطها. ثم النفس، وما ركّب فيها.. وفى هذه الأقسام نرى ستة منها متزاوجة، متقابلة.. فالشمس يقابلها القمر، والنهار يقابله الليل، والسماء تقابلها الأرض.. ثم نرى الشمس، والنهار، والسماء، يقابلها على التوالي: القمر، والليل، والأرض.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1582 وإذ نبحث عن مقابل للنفس، لا نجد هذا المقابل، الذي يستدعيه سياق النظم فى ظاهره.. فإذا أمعنا النظر قليلا، نجد أن النفس تضمّ فى كيانها شيئين متقابلين، هما: الفجور والتقوى، أو إن شئت فقل، الشمس والقمر، أو النهار والليل، أو السماء والأرض.. ففى كيان النفس، نور وظلام، ونهار وليل، وعلوّ وسفل. فإذا تعمقنا النظر، وجدنا الشمس تمثل العقل، والقمر يمثل الضمير، الذي تستضىء بصيرته من العقل، كما يستمد القمر نوره من الشمس.. وللعقل شروق وغروب. فإذا اتجه إلى الحق أسفر عن وجهه وكان نهارا مبصرا، يتحرك الإنسان فيه على هدى وبصيرة.. وإذا اتجه إلى الباطل غربت شمسه، وأطبق ليله، وعمّيت على صاحبه السبل، ودرست معالمها.. ثم إذا أخذ الإنسان طريق الحق اتجه صعدا نحو معالم النور، فكان أقرب إلى عالم السماء منه إلى عالم الأرض.. أما إذا ركب مركب الضلال، فإنه يهبط منحدرا حتى تغوص أقدامه فى التراب، وقد يتدلّى حتى يكون حشرة من حشرات الأرض، أو دودة من ديدانها.. وننظر فى أجزاء هذه الصورة التي رسمتها الآيات القرآنية للإنسان من داخل نفسه كما تحدثت عنها آيات الكتاب الكريم.. «وَالشَّمْسِ وَضُحاها» .. الواو هنا للقسم، وما بعدها من واوات هى حرف عطف، تعطف هذه الأقسام بعضها على بعض.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1583 هكذا يكون الإنسان حين مولده.. إنه أشبه بالشمس فى إشراقه ووضاءته.. إنه الإنسان فى أحسن تقويم، كما خلقه الخالق جل وعلا، قبل أن تنعقد فى سمائه سحب الضلالات، وتهبّ عليه أعاصير الحياة محملة بالغثاء والتراب. «وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها..» هو الإنسان الذي خيمت عليه موروثات الآباء والأجداد فى بيئة الكفر والضلال، فلعبت بعقله، وحجبت شمس فكره، ثم بقي معه بعد ذلك شىء من شعاع العقل، يجده مندسّا فى ضميره، مختزنا فى فطرته.. فيقف فى مفترق الطريق بين الهدى والضلال، بين أن يرجع إلى عقله، ويحتكم إلى رأيه، أو ينساق مع هواه، ويتّبع ما كان عليه آباؤه «وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها» .. فإذا غلب الرأى على الهوى، وأخذ الإنسان طريق الحق، عاد إلى العقل سلطانه، وتجلت فى الإنسان آيات شمسة، فأضاءت كل شىء حوله.. «وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها» .. وأما إذا غلب الهوى على الرأى، وأخذ الإنسان طريق الباطل، فقد غربت شمس العقل، وعميت بصيرة الإنسان، واشتمل عليه ليل دامس، لا نجم فى سمائه ولا قمر.. «وَالسَّماءِ وَما بَناها» والإنسان الذي أمسك بعقله، واستجاب لسلطانه، هو- كما قلنا- إلى عالم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1584 السماء أقرب منه إلى عالم الأرض.. إنه الإنسان الذي خلقه الله فى أحسن تقويم.. «وَالْأَرْضِ وَما طَحاها» هو الإنسان الذي زهد فى عقله، وأسلم زمامه لهواه، فكان بعضا من هذه الأرض.. إنه الإنسان الذي ردّه الله أسفل سافلين.. «وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها» هى النفس الإنسانية على إطلاقها.. إنها مستعدة الهدى والضلال، فاردة قلاعها إلى جهتى الخير والشر.. هكذا صاغها الخالق جل وعلا، من النور والظلام، من نفحات السماء، ومن تراب الأرض. «فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها» أي آتاها الله سبحانه وتعالى القدرة على الاتجاه نحو اليمين أو الشمال، نحو الخير أو الشر، نحو الإيمان أو الكفر.. هكذا يرى الإنسان القدرة من نفسه على التحرك فى هذين الاتجاهين.. «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها» .. هو الواقع عليه هذه الأقسام، فهو جوابها.. إن السعيد من الناس، من زكّى نفسه وطهرها فحلصها من تراب الأرض، وأطلق روحه من أسر المادة، فحلّقت به فى عالم الحق والنور. وإن الشقي من دسّى نفسه، أي أخفاها، وغطّى عليها بكثافة المادة وظلامها، وعاش حبيسا داخل هذه القوقعة التي نسجها حول نفسه، لا يرى، ولا يسمع، ولا يتحرك. و «ما» فى قوله تعالى: «وَالسَّماءِ (وَما) بَناها، وَالْأَرْضِ (وَما) طَحاها وَنَفْسٍ (وَما) سَوَّاها» م 100- التفسير القرآنى ج 30 الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1585 هى «ما» المصدرية، أي والشمس، وبنائها، والأرض وبسطها، والنفس وتسوية خلقها.. فقوله تعالى: «وَما بَناها» أي وما بنى السماء، وأقامها من غير عمد.. وهو ما أودع الله سبحانه وتعالى فيها من قوى ممسكة بها، ضابطة لنظامها، حافظة لوجودها.. وقوله تعالى: «وَما طَحاها» أي وما طحا الأرض، أي بسطها، وأمسك بها أن تميد.. وهو النظام الذي يمسك كيانها ويحفظ وجودها.. وقوله تعالى: «وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها» أي وما سوى خلقها، وأمدها بالقوى العالمة فيها.. فالقسم هنا، قسم بالشيء، والصفة التي قام عليها.. وهذا يعنى مزيدا من التشريف والتكريم للشىء المقسم به إذ كان فى ذاته أهلا للقسم، ثم كانت صفاته أهلا للقسم أيضا. وقوله تعالى: «كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها» . هو عرض للمواجهة الضالة التي اتجه إليها أهل الضلال، مؤثرين إياها على طريق الحق والهدى.. إنهم لم يزكّوا أنفسهم، ولم يرتفعوا بالجانب الطيب المشرق منها، بل آثروا جانب الفجور، وأفردوا قلوع سفينتهم فى اتجاه ريحه العاصفة. «ثمود» ، هم قوم صالح عليه السلام، دعاهم نبيهم إلى الإيمان بالله فبهتوه، وكذبوه.. «قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ» (62: هود) وقد توعدهم نبيهم بالعذاب، وأنذرهم به، ووضع بين أيديهم آية من الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1586 آيات الله، هى الناقة، وجعل وقوع العذاب الذي أنذروا به رهنا بأن يتعرضوا لتلك الناقة بسوء: «وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ، فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ» (64- 65 هود) وقوله تعالى: «بطغواها» أي بسيب طغواها، أي بطغيانها، ومجاوزتها الحد فى العدوان على حرمات الله- كان تكذيبها برسول الله وبآيات الله.. وقوله تعالى: «إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها» أي ولقد بلغت ثمود غاية الطغيان والعدوان، حين «انبعث أشقاها» أي اندفع هذا الشقي من أبنائها فى جنون صارخ، نحو الناقة، يريد عقرها، فلم يقف فى طريقه أحد، ولم ينصح له ناصح، بل تركوه يمضى إلى حيث سوّلت له نفسه، عقر الناقة، فعقرها، فعمهم البلاء، جميعا، وكان صاحبهم هذا أشقى هؤلاء الأشقياء الذين تركوه، ولم يأخذوا على يده.. قوله تعالى: «فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها» أي حين رأى صالح ما يريد هذا الشقي بالناقة من سوء، حذّر القوم من أن يرتكبوا هذه الحماقة المهلكة.. فقال لهم: «ناقة الله» أي احذروا ناقة الله، وإياكم أن تمسوها بسوء، أو تعرضوا لها يوم شربها، وأن تمنعوها السّقيا فى يومها المرسوم لها.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1587 وقوله تعالى: «فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها» .. أي أنهم لم يستمعوا نصح صالح لهم، ولم يصدقوا ما أنذرهم به، ولم يأخذوا على يد هذا الشقي، بل تركوه حتى عقر الناقة! وقوله تعالى: «فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ» أي أخذهم الله جميعا بالعذاب، فلم يبق منهم باقية بسبب هذا الجرم الغليظ الذي كان منهم.. والدمدمة: الإهلاك لجماعى، الذي لا يبقى ولا يذر.. وقوله تعالى: «فسواها» أي أطبق عليهم الأرض، فلم يبق لهم ولا لديارهم أثر عليها، بل سويت الدور بالأرض، كأن لم يكن عليها شىء.. والضمير وهو «ها» فى قوله تعالى «فسواها» يعود إلى الأرض، التي يشير إليها قوله تعالى: «فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ» لأن الدمدمة، أي التسوية مما يفعل بالأرض، لا بالناس. وقوله تعالى: «وَلا يَخافُ عُقْباها» .. أي أن الله سبحانه فعل بهم ما فعل، واقتلعهم من الأرض اقتلاعا، دون أن يحول بينه وبين ما فعل بهم حائل، أو يحاسبه محاسب.. إنه فعل ذلك بعدله وقوته، وسلطانه، الذي لا معقب عليه.. وذكر الخوف هنا تمثيل، يراد منه الإشارة إلى هذا التدمير الشامل، المتمكن، فإن الذي يخاف عاقبة أمر لا تتسلط عليه يده تسلطا كاملا، بل يحول بينه وبين تصرفه المطلق فيه، خوف الحساب والجزاء، ممن يحاسبه ويجازيه.. وتعالى الله سبحانه عن ذلك علوا كبيرا.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1588 (92) سورة الليل نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة «الأعلى» . عدد آياتها: إحدى وعشرون آية. عدد كلماتها: إحدى وسبعون كلمة. عدد حروفها: ثلاثمائة وعشرة أحرف مناسبتها لما قبلها ختمت سورة «الشمس» بهذا العذاب الذي أوقعه الله سبحانه بثمود، فغشيهم العذاب واشتمل عليهم، ولفّهم برداء أسود كئيب.. وبدئت سورة «الليل» بالقسم بالليل إذا يغشى، فكان ظلام هذا الليل كفنا آخر لثمود، يصحبهم فى قبورهم التي ابتلعنهم، ويقيم عليهم راية سوداء تحوّم عليهم، كما تحوّم الغربان على الجيف!! بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 21) [سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 21] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21) الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1589 التفسير: قوله تعالى: «وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى» قسم بالليل حين يغشى ظلامه الكائنات، ويغطّى سواده وجه الأرض.. وبدء السورة بهذا القسم- كما قلنا- هو أشبه براية سوداء تحوّم على مواطن ثمود، التي دمدم الله عليها، كما تحوم الغربان على الرمم.. ثم إنه من جهة أخرى، يمثل الجانب الأعظم من جانبى الإنسانية، جانبى الكفر والإيمان، والضلال، والهدى، والظلام والنور.. فأغلب الناس على ضلال، وقليل منهم المهتدون، كما يقول سبحانه: «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» (103: يوسف) وفى التعبير بفعل المستقبل «يغشى» عن ظلام الليل- إشارة إلى أن الظلام عارض دخيل، يعرض للنور الذي هو أصل الوجود، كما يعرض الضلال للفطرة الإنسانية التي خلقها الله تعالى صافية لا شية فيها. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1590 وقوله تعالى: «وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى» معطوف على قوله تعالى: «وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى» .. وهو قسم بالنهار إذا ظهر، وتجلّى على الوجود ضوءه.. وفى تقديم الليل على النهار، إشارة إلى هذا الظلام الذي كان منعقدا فى أفق الحياة الإنسانية حين كانت ثمود تتحرك بطغيانها على الأرض، فلما دمدم الله عليهم الأرض، ورمى فى أحشائها بهذا الظلام- عاد إلى الحياة صفاؤها، وطلع نهارها!! وقوله تعالى: «وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى» : معطوف على قوله تعالى: «وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى» و «ما» هنا مصدرية.. أي وخلق الذكر والأنثى، وما أودع الخالق فى كلّ منهما من آيات علمه، وحكمته، ورحمته.. والذكر والأنثى، هو مطلق كل ذكر، وكل أنثى، فى عالم المخلوقات.. والذكر والأنثى تتم دورة الحياة وتعاقب الأجيال، كما بالليل والنهار يتولد الزمن، وبتكاثر نسله من الليالى والأيام! وقوله تعالى: «إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى» هو جواب القسم، وهو المقسم عليه.. والسعى: العمل فى كل وجه من وجوه الحياة.. «وشتّى» أي شتيت مختلف الوجوه، متغاير الألوان.. فلكل إنسان وجهته التي هو مولّيها، وطريقه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1591 الذي يسلكه، وهيهات أن يتطابق إنسان وإنسان تطابقا تاما، حتى ولو أخذا وجها واحدا، ودانا بدين واحد.. ففى الناس المؤمن والكافر، وفى الناس المنافق الذي يجمع بين الكفر ولإيمان.. والمؤمنون، درجات، ومنازل، والكافرون، أنماط وصور، والمنافقون وجوه وأشكال.. واختلاف سعى الناس، أمر بدهىّ، يراه كل إنسان: المؤمنون والكافرون، والمحسنون والمسيئون جميعا.. فكل ذى عينين يشهد أن الناس طرائق قدد، وإلّا لاجتمعوا على عقيدة واحدة، ومذهب واحد، واتجاه واحد، فيما يأخذون أو يدعون من أمور.. هذه بديهة لا تحتاج إلى توكيد- فلم جاءت الآيات القرآنية مؤكدة لها بهذا القسم؟ والجواب على هذا، هو أن التوكيد بالقسم وإن وقع على المقسم عليه، وهو اختلاف سعى الناس- إلا أن المنظور إليه هو ما وراء هذا الاختلاف فى المسعى، وهو أن هناك محسنين ومسيئين.. وهذا أمر يدعو العاقل إلى أن ينظر إلى نفسه وأن يفتش عن مكانه فى المحسنين أو المسيئين، إذ كل إنسان عند نفسه أنه محسن، وحتى المحسن حقيقة، يقدر أن إحسانه مطلق لا تقع منه إساءة، وهذا غير واقع، فالمحسن ليس سعيه كله قائما على ميزان الإحسان، بل إن سعيه مختلف، فيه الحسن، وفيه السيّء، فلا ينبغى أن يسوّى حساب أعماله بينه وبين نفسه على ميزان الإحسان دائما.. بل يجب أن ينظر فى كل عمل، ويعرضه على ميزان الحق، والعدل، والخير، فإن اطمأن إليه، ورضى عنه، أمضاء، وإلا عدل عنه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1592 قوله تعالى: «فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى» . والناس فى عمومهم، يدخلون تحت وصفين عامّين: مؤمنون وكافرون، أو محسنون ومسيئون.. فأما من أعطى، أي أنفق فى سبيل الله، وفى وجوه الخير والإحسان، متّقيا بذلك ربّه، خائفا عذابه، طامعا فى ثوابه «وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى» أي مؤمنا بما للعمل الطيب من قدر، معتقدا أنه العمل الأفضل والأحسن، لا أن يكون ما يصدر منه من أعمال الخير تلقائيا، وعفوا، لا تشده إليه إرادة صادقة، أو قصد محسوب حسابه، مقدرة آثاره.. وهذا يعنى أن الأعمال إنما تحكمها النيات الباعثة لها، الداعية إليها.. أما العمل الذي لا تنعقد عليه نية، ولا ينطلق من إرادة، فإنه سهم طائش، ورمية من غير رام.. وهذا ما يشير إليه الرسول الكريم بقوله: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرى ما نوى» .. وفى إطلاق الفعل «أعطى» من قيد الشيء المعطى- إشارة إلى أمرين: أولهما: أن ما يعطى لا بد أن يكون شيئا طيبا نافعا لأن الإعطاء يقابله الأخذ، والإعطاء والأخذ لايتّمان إلا برغبة متبادلة بين المعطى والآخذ.. والآخذ لا يأخذ إلا ما ينفعه ويرضيه.. والأمر الآخر الذي يشير إليه إطلاق الفعل، هو أنه لا حدود للإعطاء، قلّة أو كثرة، كما يقول سبحانه: «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» .. (91: التوبة) وقوله تعالى: «فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى» أي أن من أخذ طريق الحق، وشدّ عزمه عليه، وصرف همه نحوه، يسّر الله له طريقه، وأعانه على المضي فيه، لأنه طريق الله، ومن كان على طريق الله، لم يحرم عونه، وتوفيقه.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1593 وقوله تعالى: «وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى» . وعلى عكس هذا من يبخل بماله، ويضنّ ببذله فى سبيل الله، وفى وجوه الخير، ومن وراء هذا البخل تكذيب بالإحسان، وبخس لقدره، واعتقاد بعدم جدواه- من يفعل هذا، فهو على طريق الضلال، يرصده عليه شيطان يغريه ويغويه، ويدفع به دفعا على هذا الطريق.. وهذا يعنى أن الله سبحانه وتعالى ييسّر لكل إنسان طريقه الذي يضع قدمه عليه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (39: الأنعام) أي من يشأ الله إضلاله، أخلى بينه وبين نفسه، على طريق الضلال، وقيض له شيطانا، فهو له قرين، ورفيق، على هذا الطريق كما يقول سبحانه: «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» (36: الزخرف) .. ومن يشأ الله هدايته أقام وجهه على طريق الهدى، وزوده بالزاد الطيب الذي يعينه على مواصلة السير فيه.. وفى هذا يقول الرسول الكريم: «اعملوا فكلّ ميسر لما خلق له..» والعسرى: ضد اليسرى.. وهى من العسر، والتعقيد، بخلاف اليسرى فإنها من اليسر والسهولة.. وسميت طريق الضلال «عسرى» لأنها طريق مظلم، لا معلم من معالم الهدى فيه، وإن صاحبه ليظل يخبط فى ظلام، ويتردّى فى معاثر حتى يرد مورد الهالكين.. أما طريق الهدى، فهى طريق واضحة المعالم، لا يضل سالكها أبدا.. «أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (22: الملك) الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1594 وقوله تعالى: «وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى» أي أن الذي يخل بماله، وضمن بالإنفاق منه فى وجوه الخير، لن ينفعه هذا المال الذي أمسكه، ولن يجد منه عونا، إذا هو تردّى فى هاوية الجحيم!. والتردي: الهوىّ والسقوط من عل. وقوله تعالى: «إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى» أي إن علينا أن نبين للإنسان طريق الهدى، ونكشف له عنه، بما أودعنا فيه من عقل، وما بعثنا إليه من رسل، وما أنزلنا من كتب.. فهذه كلها أنوار كاشفة تكشف للإنسان عن وجه الحق والخير، وعن وجوه الضلال والشر.. ثم إن للإنسان أن يختار الطريق الذي يسلكه.. فالهدى، غير الهداية.. ولهذا جاء النظم القرآنى: «إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى» ولو جاء هكذا: «إن علينا للهدآية» لكان على الله أن يهدى الناس جميعا، وأن يكون ذلك على سبيل القهر والإلزام، وهذا مالم يقع فى حكمة الله، ولم يكن من تدبيره سبحانه وتعالى.. بل جعل الله للإنسان كسبا يكسبه بإرادته، وعملا بعمله باختياره، حتى يحقق وجوده كإنسان، ويثبت ذاتيته كخليفة الله على الأرض.. وبهذا يستأهل الثواب والعقاب!، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها» (13: السجدة) .. وهذا لا يتعارض مع مالله سبحانه من مشيئة مطلقة غالبة.. ولكنّ مشيئة الله تدور فى فلكها مشيئة الإنسان، التي بها يقضى فى أموره، ويأخذ الطريق الذي يختاره ويرضاه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1595 فالإنسان- فيما يرى نفسه- مطلق المشيئة، وإن كان مقيدا، حرّ الإرادة، وإن كان مجبرا.. وقوله تعالى: «وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى» .. للمفسرون مجمعون على أن الآخرة، هى الحياة الآخرة، وأن الأولى هى الحياة الدنيا.. والرأى عندنا- والله أعلم- أن الآخرة والأولى، هما اليسرى والعسرى، اللتان أشار إليهما سبحانه وتعالى فى الآيات السابقة.. وفى ذلك إشارة إلى أن اختيار الإنسان لليسرى أو العسرى، وإن بدا أنه اختيار مطلق، هو مقيد بمشيئة الله، محكوم بإرادته، إذ كلّ مردّه إلى الله، فى واقع الأمر، وكلّ صائر إلى حكمه، وما قضى به فى عباده: «وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» (29: التكوير) .. ربّ العالمين «مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» (39: الأنعام) .. وقوله تعالى: «فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى» .. وهذا مما أشار إليه سبحانه وتعالى فى قوله: «إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى» .. ومن هذا الهدى ما أنذر الله به عباده، على يد رسله، من عذاب أليم فى الآخرة، لمن رأى الضلال، وسلك مسالكه، ورأى الهدى، فحاد عنه، وصرف نفسه عن طريقه.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1596 وقوله تعالى: «وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى» .. والسلامة من هذا البلاء، والنجاة من ذلك العذاب، إنما هى لمن اتقى الله، وخاف عذابه، وأنفق المال طالبا زكاة نفسه، وتطهيرها، مبتغيا بذلك وجه ربه الأعلى، المالك كلّ شىء، القائم على كل شىء، لا يريد بما أنفق جزاء ولا شكورا من أحد من عباد الله.. فمن فعل ذلك ابتغاء وجه الله، أرضاه لله وأقرّ عينه بما عمل.. إنه أرضى ربه، فكان حقّا على الله أن يرضيه.. وفى لفظ «الأشقى» و «الأتقى» ما يفيد المبالغة فى كل من الشّقوة والتقوى، وفى هذا ما يدعو الشقي إلى التخفف مما يزيد فى شقوته، حتى لا يزداد بذلك عذابه، كما يدعو التقىّ أن يزداد فى تقواه ما استطاع، حتى يزداد بذلك بعدا من النار، وقربا من الجنة.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1597 (93) سورة الضحى نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة الفجر.. عدد آياتها: إحدى عشرة آية.. عدد كلماتها: أربعون كلمة.. عدد حروفها: مائة واثنان وسبعون حرفا.. مناسبتها لما قبلها أقسم سبحانه فى سورة «الليل» ، بالليل إذا يغشى، وبالنهار إذا تجلى.. وبدأ بالقسم بالليل، ثم أعقبه بالقسم بالنهار.. وهنا يقسم الله سبحانه بالنهار أولا «والضحى» ثم بالليل ثانيا.. «ولليل إذا سجى» وبهذا يتوازن الليل والنهار، فيقدّم أحدهما فى موضع ويقدم الآخر فى موضع، ولكل من التقديم والتأخير فى الموضعين مناسبته.. وقد أشرنا من قبل إلى المناسبة فى تقديم الليل على النهار فى سورة الليل، وسترى هنا المناسبة فى تقديم النهار على الليل.. بسم الله الرحمن الرّحيم الآيات: (1- 11) [سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1598 التفسير: قوله تعالى: «وَالضُّحى. وَاللَّيْلِ إِذا سَجى. ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى» الضحى، أول النهار وشبابه، حيث تعلو الشمس على أفقها الشرقي، فتبسط ضوءها على الوجود.. «وَاللَّيْلِ إِذا سَجى» .. سجا الليل، يسجو، سجوّا، وسجوّا، أي سكن، وهدأ، حيث تسكن فيه حركة الحياة، كما يسكن موج البحر، وينطوى صخبه وهديره، وهذا يعنى الدخول فى الليل إلى حدّ استوائه، كالدخول فى النهار إلى وقت الضحى، حيث يسفر وجه النهار على تمامه وكماله.. قيل إن هذه السورة نزلت بعد فترة انقطع فيها الوحى عن النبي صلى الله عليه وسلم، حتى لقد اتخذ المشركون من ذلك مادة للسخرية من النبي، وأن ربّه- الذي يقول إنه يوحى إليه بما يحدثهم به- قد قلاه، أي هجره، كرها له وبغضا!! وفى القسم بالضحى، إشارة إلى مطلع شمس النبوة، وأن مطلعها لا يمكن أن يقف عند حد الضحى الذي بلغته فى مسيرتها، بل لا بد أن تبلغ مداها، وأن تتم دورتها.. فالشمس فى مسيرتها، لا يمسكها شىء إذا طلعت. وفى القسم بالليل بعد الضحى، وإلى سجوّ هذا الليل وسكونه- إشارة أخرى إلى أن فترة انقطاع الوحى، ليست إلا فترة هدوء، واستجمام يجمع فيها النبي نفسه، ويلمّ فيها خواطره، بعد هذا النور الغامر الذي بهره، وهز أعماق نفسه.. وإن بعد هذا الليل الهادئ الوادع نهارا، مشرقا وضيئا.. فهكذا يجرى نظام السكون، على ما أقامه الصانع الحكيم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1599 يقول الأستاذ الإمام محمد عبده: «وليس فى نسق السورة ما يشير إلى أن المشركين أو غير هم بغرض من الخطاب.. ومن أين كان للمشركين أن يعلموا فترة الوحى، فيقولوا أو يطعنوا، ولكن ذلك كان شوق النبي- صلى الله عليه وسلم إلى مثل ما رأى وما فهم عن الله، وما ذاق من حلاوة الاتصال بوحيه.. وكل شوق يصحبه قلق، وكل قلق يشوبه خوف» .. وهذا ما نقول به، ونرضى عنه.. وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل، لم لا يداوم الاتصال به ويكثر من الوحى إليه، فنزل قوله تعالى: «وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ..» (64: مريم) وقوله تعالى: «ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى» هو المقسم عليه، وهو أن الله سبحانه لم يودع النبي، وداعا لا لقاء بعده، بل إن الله معه، فى كل لحظة من لحظات حياته، ومع كل نفس من أنفاس صدره. وأن انقطاع الوحى فى تلك الفترة لم يكن عن قلى وهجر من الله سبحانه وتعالى له، فهو الحبيب إلى ربه، المجتبى إليه من خلقه.. وفى توكيد الخبر بالقسم، مزيد من فضل الله ورحمته، للنبى الكريم، ورفع لمنزلة النبىّ عند ربّه، حتى لينزل منزلة الحبيب من حبيبه. وقوله تعالى: . «وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى» الآخرة، خاتمة أمر النبي مع النبوة، والأولى، مبدأ أمره معها.. أي أن آخرة أمر النبي مع رسالته، خير من أولها.. فإذا بدأت رسالته بهذا العناء المتصل، الذي واجهه من عناد قومه، ومن تأتيهم عليه، وتكذيبهم له، وملا حقته هو والمؤمنون معه بالأذى، والضر، وبالحرب والقتال- فإن خاتمة هذه الرسالة ستكون نصرا مؤزّرا له، وفتحا عظيما الدعوة، وخزيا وإذ لا لا للضالين المعاندين.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1600 قوله تعالى: «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى» أي ولسوف يلقاك ربك بالعطايا والمنن، حتى تقر عينك، وينشرح صدرك، وذلك بما ينزل عليك من آيات ربك، وبما يحقق لدعوتك من نصر وتمكين. وقوله تعالى: «أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى، وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى» هذا من بعض ما أعطى الله النبي، فيما مضى، ولسوف يعطيه أكثر وأكثر فيما يستقبل من الحياة.. فإذا نظر النبي إلى نفسه، من مولده إلى يومه هذا الذي لقيته فيه تلك الآيات- وجد أنه ولد يتيما، فكفله الله، وأنزله من جده عبد المطلب، وعمه أبى طالب، منزلة أعز الأبناء وأحبهم إلى آبائهم.. ثم إذا نظر مرة ثانية إلى شبابه، وجد أنه كان قلق النفس، منزعج الضمير، مما كان يرى من الحياة الضالة التي يعيش فيها قومه، ولم يكن يدرى كيف يجد لنفسه سكنا، ولقلبه اطمئنانا وسط هذا الجوّ الخانق، فهداه الله إلى الخلوة إلى نفسه فى غار حراء، والابتعاد عن قومه، والانقطاع إلى ربه متحنّثا متعبدا، متأملا متفكرا.. وقد ظل هذا شأنه إلى أن جاءه وحي السماء، فسكب السكينة فى قلبه، والطمأنينة فى نفسه.. إنه صلوات الله وسلامه عليه، كان يرى أن ما عليه قومه ليس مما يدين به عاقل، أو تستقيم به حياة العقلاء، ولم يكن يدرى- صلوات الله وسلامه عليه- كيف م 101 التفسير القرآنى ج 30 الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1601 يغير من مسيرتهم الضالة، ولا كيف يقيم هو نفسه هو على شريعة يبشّر بها فى الناس، كما يقول سبحانه: «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ..» (52: الشورى) ثم إذا أعاد النبي النظر إلى نفسه مرة ثالثة، وجد أنه كان فقيرا عائلا، أي كثير العيال، فأغناه الله، وسدّ حاجة عياله، من مال زوجه، وأم أبنائه، السيدة خديجة رضى الله عنها.. وفى هذا ما يشير إلى فضل السيدة خديجة، وإلى أنها نعمة من نعم الله على النبي.. هذا كله يراه النبي- صلوات الله وسلامه عليه- من نفسه، ماضيا، وحاضرا.. قوله تعالى: «فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ» .. هو تعقيب على هذا الإحسان الذي أفاضه الله وما سيفيضه على نبيه، وأن من حق هذا الإحسان أن يقابل بالحمد والشكران لله رب العالمين.. وقد صرف الله سبحانه وتعالى هذا الحمد، وذلك الشكران إلى الضعفاء، والمحتاجين من عباده، فيكون حمده وشكره، بالإحسان إليهم، والرعاية لهم.. فلا نهر لليتيم، ولا كسر لخاطره، ولا ترك لمرارة اليتم تنعقد فى فمه.. وإن أولى الناس برعاية اليتيم، وجبر خاطره، من عرف اليتم، ثم كفله الله.. وإنه لا نهر أي لا زجر للسائل، وهو من يقف موقف من يسأل، عما هو محتاج إليه، من طعام يسد به جوعه، أو علم يغذى به عقله، أو هدى يعرف به طريق الخلاص لروحه.. فإن السائل ضعيف أمام المسئول، ومن حقه على القوى أن يتلطف معه، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1602 ويرفق به.. إنه أشبه بالضالّ الذي لا يعرف الطريق، والمسئول هو موضع أمله، ومعقد رجائه، فى أن يخرجه من هذا الضلال، وأن يقيمه على الطريق المستقيم.. وأولى الناس بهذا من عرف الحيرة، ونشد وجه الهداية، فأصابها وقدرها قدرها.. وقوله تعالى: «وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ» . نعمة الله هنا، هو القرآن الكريم، وهو من أجلّ وأعظم ما أنعم الله به على النبي، وهو نعمة عامة شاملة، وإنه لمطلوب من النبي أن ينفق منها على الناس، وأن يسعهم جميعا فيها.. فهى نعمة سابغة، لا تنفد على الإنفاق. فليحدّث النبي الناس بها، وليكثر من هذا التحديث بها، والإنفاق منها: «فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى» (9: الأعلى) .. «فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ» (45: ق) .. «فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ» (21: الغاشية) .. فهذا التحديث بالقرآن، هو التذكير به، وفى التذكير به هدى ورحمة للناس، حيث يجدون فى آياته شفاء الصدور، وجلاء البصائر، وروح النفوس. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1603 (94) سورة الشرح وتسمى سورة الانشراح نزولها: نزلت بمكة بعد سورة «الضحى» عدد آياتها: ثمان آيات عدد كلماتها: ست وعشرون كلمة. عدد حروفها: مائة وخمسون حرفا. مناسبتها لما قبلها هذه السورة متمة لسورة «الضحى» قبلها، فكلتاهما عرض لما أنعم الله به على النبي، وتذكير له بهذه النعم، وتوجيه له إلى ما ينبغى أن يؤديه لها من حقّ عليه.. وهكذا شأن كل نعمة ينعم الله بها على الإنسان، لا تتم إلا بالشكر للمنعم، وبالإنفاق منها على كل ذى حاجة إليها. بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 8) [سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1604 التفسير: «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ» الاستفهام هنا تقريرى، يفيد توكيد الخبر الواقع عليه الاستفهام.. فهو خبر، ولذلك عطف عليه الخبر وهو قوله تعالى بعد ذلك: «وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ» .. أي «شرحنا لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك» وشرح الصدر، هو إخلاؤه من وساوس الحيرة والقلق، وإجلاء خواطر الهمّ، والغم التي تعشش فيه.. وبهذا يتسع لبلابل الفرح والبهجة أن تصدح فى جنباته، وأن تغرد على أفنانه.. وإنه ليس كالهمّ قبضا للصدور، وخنقا للأنفاس، وإظلاما للمشاعر، وتجميدا للعواطف.. إن المهموم المكروب، مكظوم الصدر، مبهور الأنفاس.. على عكس الخلىّ من الهموم، المعافى من الآلام.. إن صدره منبسط يستقبل أنسام الحياة فيرتوى بها، وينتعش بأندائها العطرة، ثم يحسو منها كما يحسو الطير من جداول الربيع، تسيل من عيون الجبال! هذا هو ما نفهم من قوله تعالى: «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ» أما ما يروى من أخبار شرح صدر الرسول الكريم، بما يشبه العملية الجراحية، على يد ملكين كريمين يقال إن الله سبحانه بعثهما لهذه المهمة، فشقّا صدر النبي، وفتحا قلبه، وغسلاه، وملآه حكمة وعلما، فهذا مما ينبغى مجاوزته، وعدم الوقوف طويلا عنده، إذ ليس هذا القلب الصنوبري من اللحم والدم، هو مستودع العلم والحكمة، وعلى فرض أنه هو مستودع العلم والحكمة، فإنه ما كانت قدرة الله تعالى بالتي تعالج هذا الأمر مع النبي على هذا الأسلوب الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1605 الذي توصل العلم الحديث إلى ما هو خير منه.. ولا ندرى كيف تحمل كتب التفسير والحديث مثل هذه الأخبار، التي إذا وزنت بميزان العقل لم يكن لها وزن فى معابير الحقيقة والواقع، الأمر الذي إذا وقف عليه غير الراسخين فى العلم، أشاع الشك عندهم فى حقائق هذا الدين كلها، وغطى دخان مثل هذه المقولات الساذجة الملفقة على حقائقه، وحجب الرؤية الصحيحة عن كثير من الأبصار!! إن الأمر يحتاج إلى نظرة فاحصة من علماء المسلمين جميعا، وإلى كلمة سواء بينهم فى هذه المرويات المتهافتة، التي تضاف إلى الصفوة المختارة من صحابة رسول الله، والذين اتخذ الوضّاع والمنافقون من مكانتهم فى نفوس المسلمين، مدخلا يدخلون به عليهم، ويروّجون عندهم هذا الزور من القول، معزوّا إلى كبار صحابة رسول الله، وإلى أعلام الإسلام، ومصابيح هداه!! وفى القرآن الكريم أكثر من آية تدل على أن شرح الصدر، هو تفتّحه للحياة، وإقباله على معالجة أمورها، فى رضا، وشوق، وإقبال.. وفى هذا يقول الله تعالى: «أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ» (22: الزمر) ويقول سبحانه: «فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ» (125: الأنعام) وعلى لسان موسى عليه السلام، يقول الله تعالى: «رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي» (25- 27: طه) وشرح الصدر فى هذه المواضع كلها، هو بمعنى استجابته للخير الذي يدعى إليه، وتقبله له، واتساعه للكثير منه.. وضيقه، هو عدم تقبله للخير، واختناقه به، كما يختنق الصدر بالروائح الخبيثة المنكرة! فلم إذن يكون شرح الله سبحانه وتعالى لصدر رسول الله على هذه الصورة التي تشبه الملهاة، أو المأساة؟ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1606 وأكثر من هذا، فإن قوله تعالى: «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ» يقابله فى آية أخرى قوله تعالى: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ» (97: الحجر) فهل كان ضيق الصدر بعملية جراحية كعملية شرحه؟ إن هذا من ذاك سواء بسواء! وعلى أىّ، فإنه إذا صحت هذه المرويات عن شق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه ينبغى ألا تحمل على محاملها المادية الظاهرة، بل ينبغى أن يلتمس لها وجه من التأويل تقبل عليه. وقوله تعالى: «وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ. الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ.» الوزر: الحمل الثقيل، من الهموم، ونحوها.. ونقض الظهر: هو نوءه بالحمل الثقيل، وانحناؤه تحته.. وهنا سؤال: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يحمل أثقالا على ظهره، أم أنها أثقال المعاناة النفسية التي كان يعانيها من عناد قومه، وخلافهم عليه؟ وإذا كان الله سبحانه، قد شرح صدر النبي هذا الشرح المادي الذي شق به صدره، وفتح به قلبه- فهل فعل سبحانه مثل هذا بظهره، فشدّ أعصابه، وقوّى فقاره؟ أليس هذا من ذاك؟ وقوله تعالى: «وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ» أي أجرينا ذكرك الحسن على الألسنة، وجعلنا لك ذكرا عاليا باقيا على الزمن.. فما آمن مؤمن بالله إلا جعل الإيمان بنبوّتك من تمام إيمانه بالله، وإنه لا يؤمن بالله من لم يؤمن بأنك رسول الله، يقرن ذكرك بذكر الله. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1607 فأىّ ذكر أعظم من هذا الذكر؟ وأي قدر مثل هذا القدر لبشر غيرك؟ وإنا إذ ننظر فى قوله تعالى فى سورة: «الضحى» : «أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى؟ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى؟ وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى؟» ثم ننظر فى قوله تعالى فى سورة «الانشراح» : «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ؟ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ؟» : إذ ننظر فى هذه الآيات وتلك معا، نجد تطابقا فى المعنى، وتقريرا له.. فهذا اليتيم الفقير، يؤويه الله سبحانه، ويرفع ذكره فى العالمين، ويجرى الحديث الطيب عنه على كل لسان، أبد الدهر.. والعهد باليتم والفقر، أن يقيما الإنسان فى أدنى درجة فى سلم المجتمع الإنسانى، حيث يلّفه الخمول والضياع، من مولده إلى مماته.. وهذا الضال الذي استبدّت به الحيرة، ورهقه البحث عن طريق الخلاص والنجاة، قد هداه الله، وجعله مصباح هدى للعالمين، فوضع بذلك عن كاهله هذا العبء الثقيل الذي كان ينوء به، من حيرته فى أمره وأمر الظلام المنعقد على قومه.. والعهد بالحائرين أن تعلق بهم الحيرة، وأن تترك بصماتها الواضحة عليهم، حتى بعد شفائهم مما كان قد ألمّ بهم من حيرة وقلق. وهذا الفقير المعيل، وكان حسبه أن يجد الغنى الذي يسد مفاقره، ويشبع جوعه وجوع عياله- قد أغناه الله، وكفل له ولعياله لقمة العيش.. ثم لم يقف غناه عند هذا، بل شرح الله صدره، وأودع فيه مالا تتسع له كنوز الدنيا كلها، بما نزل عليه من آيات ربه، وبما أراه ربه من مقامه عنده، وبما بارك عليه فى أسرته التي تضم كل مسلم ومسلمة فى مشارق الأرض ومغاربها، يمدّها على الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1608 الزمن بهذا الغذاء الذي لا ينفد أبد الدهر، من ثمرات الإيمان، وزاد التقوى.. فأى شرح للصدر، وأي غبطة ورضا ومسرة تعمر جوانبه، أكثر من هذا وأعظم، وأبقى؟ قوله تعالى: «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً» . العسر: الضيق، والشدة.. واليسر: السعة والرخاء.. وهكذا كان تدبير الله سبحانه وتعالى مع النبي الكريم، بدأ أمره بالعسر والضيق، ثم كانت عاقبة أمره إلى اليسر والسعة، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى» ، وإنما الأمور بخواتيمها.. فما أجمل العافية بعد المرض، وما أطيب الصحة بعد الاعتلال، وما أهنأ الشبع بعد الجوع، والرىّ بعد الظمأ!! وهكذا فى كل ما يسوء ويسر.. إذا جاءت المسرة بعد السوء، عظم وقعها، وجمل أثرها، وعفّى على كل أثر للمساءة والمضرة: كأن الفتى لم يعر يوما إذا اكتسى ... ولم يك صعلوكا إذا ما تمولا! وعكس هذا صحيح.. فإنه ما أثقل المرض بعد العافية، والاعتلال بعد الصحة، وما أقسى الجوع بعد الشبع، والظمأ بعد الري.. وهكذا فى كل مساءة تعقب المسرة، حيث يذهب بها كل شىء كان جميلا طيبا، ثم لا يبقى إلا وجهها الكريه البغيض، يؤلم، وبورق، ويعضنى.. كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر فالذين يمشون فى أول حياتهم على الشوك، ويغسلون أجسادهم بعرق الكفاح والصبر، يجنون أطيب الثمرات، ويضعون أقدامهم على مواقع العزة والمجادة، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1609 ويتحلّون بحلل الكرامة والفخار.. أما الذين يستقبلون الحياة مستنيمين فى ظلها، متجنبين الخواض فى غمراتها، متخففين من حمل أعبائها وأثقالها، فهيهات أن تسلمهم الحياة آخر الأمر إلى غير المهانة والضياع.. تريدين إدراك المعالي رخيصة ... ولا بد دون الشهد من إبر النحل! وهكذا الشأن فيما بين الدنيا والآخرة.. فمن حمل نفسه على المكروه فى الدنيا، نزل منازل النعيم والرضوان فى الآخرة.. ومن وضع فمه فى ثدى الدنيا يرضع منها حتى يضع قدمه على طريق الآخرة- انقطع به مورد فطامه هناك، وكان من الهالكين.. وفى تكرار الآية، بدون حرف عطف، توكيد للخبر الذي ساقته، وتقرير للحكم الذي قضت به.. «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً» . يقول المفسّرون والبلاغيّون: إن المعرفة إذا كررت كانت هى هى، وأن النكرة إذا كررت كان اللفظ الثاني غير الأول.. وهنا يقولون: إن كلمة «العسر» - وهى معرفة- هى عسر واحد بعينه فى الموضعين، وأما كلمة «يسر» - وهى نكرة- فإنها يسر بعينه فى كل موضع، ومن هنا قالوا «لن يغلب عسر يسرين» - يعنون بذلك أن العسر دائما يواجهه يسران، وأنهما لا بد أن يقهراه ويغلباه، ويأتون على هذا بحديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لن يغلب عسر يسرين» . هذا وجه يراه العلماء فى هذا التكرار.. ووجه آخر، نراه نحن- والله أعلم- وهو هذه المعيّة «مع» ، التي تحمل مع كل عسر يسرا مصاحبا له، مندسّا فى كيانه.. «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً» - أي إن العسر- أىّ عسر- لا يلقى الإنسان إلا ومن محامله اليسر، الذي يعمل على مقاومته، ومصارعته حتى يقهره آخر الأمر، ويتركه صريعا، ليأخذ اليسر الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1610 مكانه، متمكنا، لا ينازعه عسر! هكذا الشدائد تتولّد منها دائما مواليد الخير، وتستنبت فى أرضها أطيب الثمرات، وأكرمها، وأهنؤها.. وهناك سؤال: إذا كان مع العسر يسر، فهل العكس صحيح، وهو أن يكون مع اليسر عسر؟ وكلا.. فإن العسر رحمة من رحمة الله.. إنه من موارد الحق، والخير.. وما كان كذلك كان صفوا من كل كدر، خالصا من كل سوء.. فاليسر لا يحمل فى كيانه أبدا شيئا ما يكدره.. إنه من العالم العلوي، أشبه بماء المطر، لا يخالطه شىء من الملح.. أما العسر فهو أشبه بالماء الملح، يحمل فى كيانه الماء العذب.. اليسر جوهر، والعسر عرض! ومن هنا نجد مع كل عسر يسرا، ولا نجد مع كل يسر عسرا.. ومن هنا أيضا بلد العسر يسرا، ولا يلد اليسر إلا يسرا. ومفهوم العسر واليسر هنا، هو المفهوم العالم المطلق لهما، لا المفهوم الذي يوزن بميزان شخصى، ويقوم على اعتبار فردى.. وهذا المفهوم المطلق- للعسر واليسر- إذا أمعنا النظر فيه، نجد أنه لا عسر أصلا، وأنه لا يدخل فى نظام الوجود العام، الذي ينتظم الموجودات كلها، ويجعل منها جميعا نغما متسق الألحان.. «ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ» .. (3: الملك) وقوله تعالى: «فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ. وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ» . هو تعقيب على قوله تعالى: «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً» أي أنه إذا كان من شأن العسر أن يصحبه يسر، ومن شأن النّصب والتعب أن تعقبمها الراحة والرضا، فجدير بك أيها النبي- كما هو جدير بكل إنسان- الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1611 أنك إذا فرغت من أي موقع من مواقع الكفاح، والجهاد، فلا تركن إلى الراحة، بل افتح جبهة جديدة للكفاح والجهاد، فإنه بقدر ما يمتد بك هذا الطريق الشاق العسر، بقدر ما تحصل من خير، وبقدر ما تبلغ من علو شأن ورفعة قدر.. وقوله تعالى: «وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ» - إشارة إلى أن هذا الجهاد والكفاح، وما تحتمل فيه النفس من نصب وتعب- إنما يعطى هذا الثمر الطيب، إذا كان متجهه إلى الله، وكانت غايته مرضاة الله، والرغبة فيما عنده.. أما النصب والتعب فيما لا يراد به وجه الله، والدار الآخرة، فهو عناء، وبلاء. إن النصب والتعب فى مغارس الحق والخير، يزكو نباته، ويطيب ثمره، ويكثر خيره، وأما النصب والتعب فى أودية التيه والضلال، فذلك ما لا ينبت- إن كان له نبات- إلا الشوك والحسك. (95) سورة التين نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة «البروج» . عدد آياتها: ثمانى آيات. عدد كلماتها: أربع وثلاثون كلمة. عدد حروفها: مائة وخمسون حرفا. مناسبتها لما قبلها ختمت سورة «الانشراح» بالدعوة إلى الكد والنصب، فى الحياة الدنيا، ليبنى الإنسان بذلك دار مقامه فى الآخرة، ويعمرها بما يساق إليه فيها من نعيم الله ورضوانه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1612 وبدئت سورة «التين» بهذه الأقسام من الله سبحانه وتعالى، لتقرير حقيقة الإنسان وتذكيره بوجوده، وأن الله سبحانه خلقه فى أحسن تقويم، وأودع فيه القوى التي تمكّن له من الاحتفاظ بهذه الصورة الكريمة، وأن يبلغ أعلى المنازل عند الله، ولكن ميل الإنسان إلى حب العاجلة، قد أغراه باقتطاف الذات الدانية له من دنياه، دون أن يلتفت إلى الآخرة، أو يعمل لها، فردّ إلى أسفل سافلين.. وقليل هم أولئك الذين عرفوا قدر أنفسهم، فعلوا بها عن هذا الأفق الضيق، ونظروا إلى ماوراء هذه الدنيا. بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 8) [سورة التين (95) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) التفسير: قوله تعالى: «وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ. وَطُورِ سِينِينَ. وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ» اختلف فى معنى التين والزيتون، وكثرت مقولات المفسرين فيهما، ويرون عن ابن عباس أنه قال فيها: «هو تينكم الذي تأكلون، وزيتونكم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1613 الذي تعصرون منه الزيت، قال تعالى: «وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ» (40: المؤمنون) . ويروى عن أبى ذرّ أنه أهدى إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم سل من تين، فقال: «كلوا» وأكل منه، ثم قال: «لو قلت: إنّ فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه، لأن فاكهة الجنة بلا عجم «1» ، فكلوها فإنها تقطع البواسير وتنفع من النّقرس» .. وقيل التين المسجد الحرام، والزيتون المسجد الأقصى، وقيل: هما جبلان بالشام.. وقيل كثير غير هذا. ويرجّح القرطبي أنهما التين والزيتون على الحقيقة، وقال: «لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا بدليل» !. ولكن إذا أخذنا بالقول بأن التين والزيتون هما هاتان الثمرتان- لا نجد جامعة بين التين والزيتون، وبين طور سينين والبلد الأمين.. وعادة القرآن أنه لا يجمع بين الأقسام إلا إذا كانت بينها علاقة تشابه أو تضادّ، وهنا لا نجد علاقة واضحة بين هاتين الفاكهتين، وبين طور سينين والبلد الأمين، اللهم إلا إذا قلنا: إن طور سيناء ينبت فيه التين والزيتون، ويطيب ثمره، فتكون العلاقة بينهما علاقة نسبة إلى المكان، ويقوّى هذه النسبة أن القرآن الكريم أشار فى موضع آخر إلى منبت شجرة الزيتون، وأن طور سيناء هو أطيب منبت لها، إذ يقول سبحانه: «وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ» . (20: المؤمنون) وقيل: إن التين والزيتون فاكهتان، ولكن لم يقسم بهما هنا لفوائدهما، بل لما يذكّران به من الحوادث العظيمة التي لها آثارها الباقية   (1) أي بلا نوى . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1614 وذلك أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يذكّرنا بأربعة فصول من كتاب الإنسان الطويل، من أول نشأته إلى مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. فالتين، إشارة إلى عهد الإنسان الأول، فإن آدم- كما تقول التوراة- كان يستظل فى الجنة بشجر التين، وعند ما بدت له ولزوجه سوءاتهما طفقا يخصفان عليهما من ورق التين.. فهذا أول فصل من فصول حياة الإنسان.. والزيتون، إشارة إلى الفصل الثاني، وهو عهد نوح، وذلك أنه بعد أن فسد البشر، وأهلك الله من أهلك بالطوفان، ونجّى نوحا ومن معه فى السفينة، واستقرت السفينة على اليابسة- نظر نوح- كما تقول التوراة- إلى ما حوله، فرأى الحياة لا تزال تغطى وجه الأرض، فأرسل حمامة تأتى له بدليل على انحسار المياه عن وجه الأرض، فجاءت إليه وفى فمها وريقات من شجر الزيتون، فعرف أن المياه بدأت تظهر على وجه الأرض من جديد! أما طور سينين، فهو إشارة إلى الفصل الثالث من حياة الإنسان، وهو ظهور الشريعة الموسوية، وقد كانت تلك الشريعة دعوة لكثير من أنبياء الله ورسوله إلى عهد المسيح عليه السلام، الذي كان خاتمة هذه الشريعة. وأما البلد الأمين- وهو مكة- فقد كان مطلع الرسالة الخاتمة لما شرع الله للناس، وبها يختم الفصل الأخير من حياة الإنسان على هذه الأرض.. وهذه كلها أقوال متقاربة، يمكن أن يؤخذ بأيّ منها، أو بها جميعها. [مسيرة الإنسان.. إلى أمام، أم وراء؟] وقوله تعالى: «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1615 إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» . هو جواب القسم، وهو المقسم عليه، لتوكيده، وتقريره بالقسم. وفى توكيد هذا الخبر، وهو خلق الإنسان فى أحسن تقويم- إشارة إلى كثير ممن تشهد عليهم أفعالهم بأنهم ينكرون خلقهم القويم هذا، ولا يعرفون قدره فينزلون إلى مرتبة الحيوان، ويسلمون قياد وجودهم إلى شهواتهم البهيمية، غير ملتفتين إلى ما أودع الخالق فيهم من عقل حمل أمانة أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها، فضيع الإنسان هذه الأمانة، ولا كها فى فمه كما تلوك البهيمة العشب.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ» .. فلقد ردّ الإنسان بهذه الغفلة عن وجوده الحقيقي، إلى الوراء، منكّسا فى خلقه، حتى بلغ أدنى مراتب الحيوانية، وصار وراء الحيوان الأعجم الذي تسيره طبيعته التي ركبت فيه، على خلاف هذا الإنسان الذي غيّر فطرته، وانتقل من عالم الإنسان إلى عالم الحيوان، فلم يصبح حيوانا، ولم يعد إنسانا! يقول الأستاذ الإمام محمد عبده عن الإنسان وخلقه فى أحسن تقويم، ورده إلى أسفل سافلين: «وما أشبهه- أي الإنسان- فى حاله الأولى- بثمرة التين، تؤكل كلها، لا يرمى منها شىء.. والإنسان- أي فى حاله الأولى- كان صلاحا كله، لم يشذّ عن الجماعة منه فرد، تلك كانت أيام القناعة بما تيسر له من العيش، وشدة الإحساس بحاجة كل فرد إلى الآخر فى تحصيله، وفى دفع العوادي عن النفس.. تنّبهت الشهوات بعد ذلك وتخالفت الرغبات، فنبت الحسد والحقد، وتبعه التقاطع، واستشرى الفساد بالأنفس، حتى صارت الأمانة عند بعض الحيوان، أفضل منها عند الإنسان، فانحطت بذلك نفسه عن مقامها الذي كان لها بمقتضى الفطرة، وقد كان ذلك- ولا يزال- حال أكثر الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1616 الناس. فهذا قوله: «ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ» ! ونظرة الأستاذ الإمام هنا، قائمة على أن الإنسان فى حال التذاجة والبدائية كان خيرا منه فى حال الحضارة والمدينة، أو بمعنى آخر، أنه كان فى حياة الغابة بين الحيوان، لا يتكلف لحياته أكثر ممّا يتكلّف الحيوان، حيث يأكل مما يأكل الحيوان، ويسكن فى كهوف، وأجحار كما يسكن الحيوان- كان فى هذه الحياة خيرا منه فى حياة المدن، وما ولّد له عقله فيها من قوّى سخّر بها الطبيعة، واستخرج منها كنوزها المودعة فى كيانها، وأمسك بمفاتح أسرارها، فاستضاء بالكهرباء، واتخذ الهواء مركبا له، بل وصعّد فى السماء حتى وضع قدميه على القمر، وهو بسبيل أن يضع أقدامه على الكواكب الأخرى!! ولو صحّ هذا الذي يقوله الأستاذ الإمام، لكان معناه أن الحياة الإنسانية تسير إلى الوراء، وهذا ما لا تسير عليه الحياة، ولا ما تقتضيه سنّة التطور فى الكائن الحىّ نفسه.. فالإنسان بدأ من طين، ثم صار خلقا سويّا، فى أطوار ينتقل فيها من أسفل إلى أعلى.. من التراب، ثم النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة.. ثم.. ثم.. إلى أن يكون طفلا، ثم غلاما، ثم شابّا، ثم رجلا.. كذلك الشأن فى عالم النبات.. البذرة، ثم النّبتة، ثم الشجرة، ثم الدّوحة العظيمة.. وهكذا.. حتى فى عالم الجماد. وإنه لأولى من هذا أن تكون هذه النظرة مقصورة على الأفراد فى أنواعها، لا على الأنواع فى أفرادها، بمعنى أن الأفراد تدور فى فلك محدود يكون لها فيه شروق وغروب، وصعود وهبوط، وازدهار وذبول، ونضج وعطب.. أما الأنواع- مع ما يقع فى أفرادها من تحول وتبدّل- فهى سائرة إلى الأمام أبدا، متطورة إلى ما هو أحسن وأكمل.. وشاهد (م 102- التفسير القرآنى ج 30) الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1617 هذا الشرائع السماوية نفسها، فما كملت شريعة السماء إلا فى الشريعة الإسلامية، التي التقت مع الإنسان بعد هذه الدورات الطويلة الممتدة من مسيرة الحياة الإنسانية- فهذا هو معيار الإنسان، ووزنه الذي يوزن به! ودورة الإنسان هذه على هذه الأرض هى دورة جزيئة فى فلك الوجود، إذا غربت شمسه على هذه الأرض، طلعت من جديد فى عالم آخر، هو عالم الخلود!. أما قوله تعالى: «ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ» - فهذا حكم على الإنسان فى أفراده، لا فى نوعه، فالإنسان- كفرد- يولد- فى أىّ زمن من أزمان الحياة الإنسانية «فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» بما أودع الخالق فيه من عقل مبصر، وفطرة سليمة، ثم إن كثيرا من الناس يطفئون نور عقولهم بأيديهم، ويغتالون فطرتهم بشهواتهم، فيفسدون وجودهم الإنسانىّ ويردّون إلى عالم الحيوان، وقليل منهم يحتفظون بوجودهم الإنسانىّ- عقلا وفطرة- فيكونون شاهدا قائما على أن الإنسان- فى كل زمن هو خليفة الله فى هذه الأرض، وهو سيّد ما عليها من مخلوقات، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» .. فهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، هم الإنسان، وهؤلاء هم الإنسان الذي يتناول من ربّه أجره الإنسان كاملا فى الدنيا والآخرة، وإنه لأجر يتكافأ مع هذا الخلق العظيم الذي خلق عليه فى أحسن تقويم، لا يناله غيره من عالم الأحياء.. إنه أجر مقدّر بقدره محسوب بشرف خلقه.. أما من نزلوا عن هذا القدر وتخلّوا عن هذا الشرف، فلهم الأجر الذي هم أهله: «يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» وهل للأنعام إلا أن تسمّن، وتذبح، ثم تكون وقودا للبطون الجائعة؟. إن الوجود فى تطور، وفى نماء، وهذا بعض ما يشير إليه قوله تعالى: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1618 «يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ» .. (1: فاطر) .. وإن نظرة فى تاريخ الإنسانية لترينا أن الإنسان فى أول ظهوره على هذا الكوكب الأرضى، كان أقرب إلى الحيوان منه إلى الإنسان، يسكن الغابات والكهوف، ويعيش عاريا أو شبه عار، لا يستره إلا ورق الشجر أو نحوه، كما لا تزال شواهد من هذا قائمة فى البيئات المتخلّفة، كما فى الزنوج، والهنود الحمر.. فهذا الإنسان البدائى كان- ولا يزال- محكوما يغرائزه الحيوانية.. أما هذا الإنسان الذي شهد عهد النبوّات، فهو وليد حياة متطورة، قطع الإنسان مسيرتها فى مئات الألوف من السنين، حتى أصبح أهلا لأن يخاطب من السماء، وأن تناط به التكاليف الشرعية، وأن يكون محلّا للحساب، والثواب، والعقاب. والنظرة التي ينظر بها إلى الإنسان على أن أمسه خير من يومه، ويومه خير من غده، وأنه سائر فى طريق يتدلّى به سلّما سلّما من السماء إلى الأرض- هذه النظرة خاطئة من وجوه: فأولا: أنها نظرة محصورة فى الوجود الذاتي للإنسان.. فالإنسان فى نظرته إلى نفسه يرى أن واقعه الذي يعيش فيه، غير محقّق لرضاه عنه، أيّا كان هذا الوجود، وأيّا كان حظّه مما لم يظفر به غيره.. إنه يتطلع دائما إلى ما هو أفضل.. وثانيا: وتأسيسا على هذا، أن عدم رضا الإنسان عن واقعه، وتطلعه إلى المستقبل الذي لا يجد فيه ما يرضيه- هذا التطلع- يشرف به على عالم مجهول، لا يدرى ما سيطلع عليه منه، فلا يجد إلا الماضي الذي يعيش فى ذكرياته، وإنه حين ينظر إلى هذا الماضي لا يذكر منه إلّا ما كان موضع مسرّته ورضاه.. أما ما يسوءه منه فإنه يختفى من حياته، ولهذا كان الحنين إلى الماضي رغبة منبعثة من صدور كل إنسان. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1619 وثالثا: وتأسيسا على هذا أيضا- كان هذا الإحساس الذي يجده الإنسان دائما من تقديس الماضي وتمجيده، وأنه بقدر ما يبعد الزمن فى أغوار الماضي، بقدر تعدّد ما يلبس من أثواب التقديس والتمجيد. فالحياة بخير، والإنسانية فى طريقها من الأرض إلى السماء، وليست فى هبوط من السماء إلى الأرض!! قوله تعالى: «فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ» . الدّين هنا، هو ما يدين به الإنسان لخالقه الذي خلقه فى أحسن تقويم، وهو الاحتفاظ بهذه المنزلة العالية التي له فى عالم المخلوقات، بما له من عقل مبصر، ونظرة سليمة. والمراد بالتكذيب، هو إنكار هذا العقل، وعدم الإصغاء إليه. والتخلّي عن هذه الفطرة، وتعطيل وظيفتها. والاستفهام إنكارى، بكشف عن حال أولئك الذين خرجوا عن إنسانيتهم تلك، وتحوّلوا إلى دنيا الحيوان، بلا عقل، ولا قلب!! وقوله تعالى: «أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ» هو إنكار بعد إنكار، لمن زهدوا فيما أودع الخالق فيهم من آياته، فردّوها، وعرّوا أنفسهم منها، كأنهم لا يرضون بما زيّنهم الله به، وكأنهم يرون أن ما صنع الله بهم ليس على التمام والكمال، فهم يزهدون فيه، ويطلبون لأنفسهم ما هو أحكم وأكمل!! فالتكذيب بالدين لا يكون من إنسان عاقل رشيد، وإنما يكون ممن سفه نفسه وجهل قدره! الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1620 (96) سورة العلق نزولها: مكية.. أول ما نزل من القرآن الكريم. عدد آياتها: تسع عشرة آية. عدد كلماتها: اثنتان وتسعون كلمة. عدد حروفها: مائتان وثمانون حرفا. مناسبتها لما قبلها كانت سورة «التين» مواجهة للإنسان فى خلقه القويم، الجليل، الذي خلقه الله عليه، وأن هذا الإنسان إذا استطاع أن يحتفظ بهذا الخلق الكريم، كان فى أعلى عليين.. أما إذا لم يحسن سياسة هذا الخلق، ولم يحسن تدبيره فإنه يهوى إلى أسفل سافلين. وتبدا سورة «العلق» بهذه الواجهة مع الإنسان فى أعلى منازله، وأكرم وأشرف صورة له، وهو رسول الله «محمد» صلوات الله وسلامه عليه، مدعوّا من ربه إلى أكمل كمالات الإنسان، وأكرم ما يتناسب مع كماله وشرفه، وهو القراءة، التي هى مجلى العقل، ومنارة هديه ورشده. وبهذا تكون المناسبة جامعة بين السورتين، ختاما، وبدءا. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1621 بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 19) [سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 19] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) التفسير: قوله تعالى: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» . يكاد إجماع العلماء والمفسرين ينعقد على أن هذه الآيات الخمس، هى أول ما نزل من القرآن الكريم، وأول ما استفتحت به الرسالة المحمدية. وقد نزل بها جبريل على النبىّ وهو يتعبد فى غار حراء، وقد فجئه الوحى بقوله الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1622 تعالى: «اقرأ» . ففى الصحيحين عن السيدة عائشة، رضى الله عنها، قالت: «أول ما بدىء به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الوحى الرؤيا الصادقة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبّب إليه الخلاء فكان يخلوا بغار حار، يتحنث فيه الليالى ذوات العدد، قبل أن يرجع إلى أهله، ويتزود لمثل ذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى فجئه الحق، وهو فى غار حراء، فجاء الملك، فقال: «اقرأ» فقال: «ما أنا بقارئ» قال فأخذنى فغطّنى «1» حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى، فقال: «اقرأ» فقلت ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى، فقال: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» . هذه هى الآيات الخمس الأولى، التي استفتح بها كتاب الله الذي نزل على النبىّ.. والنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- أمّى، لا يقرأ، وأمره بالقراءة، إنما هو قراءة من هذا الكتاب السماوي، الذي يقرأ منه جبريل، فيقرىء النبىّ منه.. فهى قراءة متابعد لقارىء السماء، جبريل، من كتاب الله. وقوله الملك لنبى: «اقرأ» هو دعوة إلى قراءة من كتاب، والنبي صلوات الله وسلامه عليه، لا يقرأ، ثم إنه ليس هناك كتاب يقرؤه لو كان قارئا.. ولهذا كان ردّ النبي: «ما أنا بقاري» ! .. وقد تكرر هذا الموقف بين   (1) صمنى إليه ضما شديدا. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1623 جبريل، وبين النبي ثلاث مرات: «اقرأ» .. «ما أنا بقاري!» أي لا أعرف القراءة.. وفى هذا تنويه بشأن القراءة. وأنها السبيل إلى المعرفة والعلم.. ثم إن الأمية، وإن كانت حائلة بين المرء وبين أن يقرأ فى كتاب، فإنها لا تحول بينه وبين العلم والمعرفة، فهناك كتاب الوجود، الذي يقرأ الإنسان آياته بالنظر المتأمل فيه، والبصيرة النافذة إلى أسراره، وعجائبه.. ثم هناك التلقي عن أهل العلم، ممن يقرءون ويدرسون.. فليكن الإنسان قارئا أبدا، على أي حال من أحواله، قارئا بنفسه، أو قارئا متابعا لغيره. أما أمية النبي الكريم، فهى أمية مباركة، قد فتحت عليه خزائن علم الله، إذ بعث الله سبحانه وتعالى إليه رسولا من عنده يقرأ عليه كتاب الله، ويملا قلبه هدى ونورا منه.. ولهذا كان النبي قارئا، فقرأ حين أقرأه جبريل: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» . وقوله تعالى: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ» أي اقرأ بأمر ربك، أي أن جبريل يقول: هذا الأمر الذي آمرك به ليس بأمرى، وإنما هو بأمر ربك، الذي يدعوك إلى أن تقرأ ما أفرئك إياه، من كتاب ربك.. وهذا مثل قوله تعالى: «وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ» (27: الكهف) . وقوله تعالى: «فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ» (18: القيامة) . وقوله تعالى: «الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ» - هو بيان لقدرة الله سبحانه وتعالى، وأنه هو الخالق وحده لا شريك له، وأنه هو الذي بقدرته الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1624 خلق الإنسان، هذا الخلق السوىّ «من علق» أي من دم لزج، متجمد. فالذى خلق الإنسان من هذا العلق، وسوّاه على هذا الخلق، لا يقف به عند هذا الحد، بل هو سبحانه، بالغ به منازل الكمال، بما يفتح له من أبواب العلم والمعرفة.. وقوله تعالى: «اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ» أي خذ ما أعطاك ربك من علم، وما دعاك إليه من معرفة، فإن ربك كريم واسع العطاء، لا ينفد عطاؤه. فقوله تعالى: «وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ» - جملة خبرية، تقع موقع الحال من فاعل «اقرأ» وهو النبي صلى الله عليه وسلم، أي اقرأ مستيقنا أن ربك هو الأكرم.. أي ذو الفضل العظيم، والكرم الذي لا حدود له.. وفى تعريف طرفى الجملة الخبرية، ما يفيد القصر، أي قصر صفة الكرم على الله وحده.. وقوله تعالى: «الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» .. أي ومن كرمه سبحانه أنه جعل من القلم الذي هو قطعة جامدة من الحطب، أو الخشب، أداة للعلم والمعرفة، ففتح به على الإنسان أبواب العلوم والمعارف، وجعل من ثماره هذه الكتب التي حفظت ثمار العقول، فكانت ميراثا للعلماء، يرثها الخلف عن السلف، وينميها ويثمرها العلماء جيلا بعد جيل.. وبهذا تعلم الإنسان ما لم يكن يعلم، وبعلمه هذا المستفاد من سلفه، فتح أبوابا جديدة من العلم يتلقاها عنه من بعده، ويفعل فعله، بما يفتح من أبواب جديدة للعلم.. وهكذا تتسع معارف الإنسان، ويزداد علمه على مدى الأجيال.. وهذا يعنى أن الإنسانية متطورة، وسائرة نحو الأمام، بما تتوارث أجيالها من ثمار العقول، التي يتركها السلف للخلف، جيلا بعد جيل.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1625 وهكذا يذهب الناس، كأجساد، وتبقى غراس عقولهم، وثمار أفكارهم. وقوله تعالى: «كَلَّا. إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى» . هو رد على سؤال وارد على قوله تعالى: «عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» .. ومع أن هذه الآية وما بعدها، قد نزلت بعد خمس الآيات التي افتتحت بها السورة بزمن ممتد، إلا أن المناسبة جامعة بينها وبين ما قبلها، وهذا هو السر فى سردها فى سياقها.. فقد قلنا: إن قوله تعالى: «كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى» - هو رد على سؤال وارد على قوله تعالى: «عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» .. والسؤال هو: هل أدّى الإنسان حق هذه النعمة التي أنعمها الله عليه؟ وهل كان له من علمه هذا الذي تعلمه، نفع له، وللناس معه؟ والجواب على هذا: «كلّا» .. فإن هذا العلم الذي فتح على الناس وجوه المنافع، وملأ أيديهم من ثمرات الحياة، بمامكن لهم به من الأرض، وما سخر لهم من قوى الطبيعة- هذا العلم، قد فتنهم سلطانه، وأغرى بعضهم ببعض، فاتخذوا منه سلاحا للبغى والعدوان، والتسلط والقهر.. وبهذا طغى الإنسان، وتجبر وظلم، حين رأى نفسه بمنقطع عن الناس، مستغنيا عنهم بجاهه وسلطانه.. وهذا مما لا يعيب العلم، ولا ينقص من قدره.. فإنه وإن يكن استحدث به الإنسان كثيرا من أدوات الإهلاك والتدمير، فلقد استنبط منه ما لا يحصى من النعم الجليلة التي كشفت للإنسان عن فضل الله وإحسانه على الناس، كما أقام من آيات الله شواهد ناطقة تشهد بجلاله، وعظمته، وحكمته، وتضع الناس وجها لوجه أمام أسرار هذا الكون، وما تنطوى عليه تلك الأسرار من سعة علم الله، وعظمة جلاله وقدرته.. وفرق كبير بين الإنسان البدائى، وبين رجل العلم فى العصر الحديث، فى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1626 موقفهما إزاء الوجود، وفى نظرتهما إلى عظمة الله وقدرته.. فالبدائى ينظر إلى عوالم الوجود بنظر شارد تائه، لا يبعد كثيرا عن نظر بعض الحيوانات أمام مشرق الشمس أو مغربها.. أما رجل العصر الحديث فإنه ينفذ بنظره إلى أعماق بعيدة فى الموجودات، حيث يطلع على أسرار لانهاية لها، يروعه جلالها، ويبهره نظامها وإحكامها.. وشتان بين الإنسان البدائى الذي خاف الطبيعة وظواهرها، فعبدها، وتخاضع بين يديها، وبين الرجل العصرى، الذي أمسك بزمام الطبيعة، وسخرها لخدمته، ونظر إليها نظرة السيد المالك لها.. ثم كان عليه بعد هذا أن يبحث عن السيد المالك له هو، ولهذا الوجود كلّه.. وهو لا بد مستدل بعقله على خالق هذا الوجود وسيده، وذلك هو الإيمان الذي لا زيغ معه ولا ضلال.. ولعل هذا يفسر لنا كثرة الأنبياء والرسل فى الأزمان السالفة.. ثم قلّتهم شيئا فشيئا كلما تقدم الزمن، وتقدم معه العقل الإنسانى، الذي يقوم مقام الرسول فى الدعوة إلى الله، والهداية إليه.، ثم انقطاع الرسل والأنبياء بخاتم سيد الرسل ونبى الأنبياء، محمد رسول الله، بعد أن بلغت الإنسانية رشدها.. وقوله تعالى: «إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى» . هو تهديد لهذا الإنسان الذي جحد نعمة الله عليه، واتخذ منها أسلحة يحارب بها الفضيلة، ويقطع بها ما أمر الله به أن يوصل.. إن هذا الإنسان راجع إلى ربه يوما، وسيلقى جزاء بغيه وعدوانه.. وقوله تعالى: «أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى» .. وهذه صورة لهذا الإنسان الذي طغى، حين رأى نفسه ذاقوة وسلطان.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1627 إنه لا يؤمن بالله، ولا يقف موقف الأولياء منه، بل إنه ليحارب المؤمنين بالله، ويحول بينهم وبين أداء ما لله سبحانه وتعالى عليهم من حق.. فجرم هذا الطاغية جرم مضاعف.. فلا هو يؤمن بالله، ولا يؤدى حق ربه عليه، ولا يدع المؤمنين يؤدّون حق ربهم عليهم.. والاستفهام هنا تعجب من الأمر المستفهم عنه، وتشنيع على فاعله، ودعوة الناس إلى ضبطه وهو قائم على هذا المنكر، متلبس به!! وفى جعل فاصلة الآية الفعل: «ينهى» وفى قطع الفعل «ينهى» عن معموله، وهو «عبدا إذا صلى» - فى هذا تشنيع على طغيان هذا الطاغية فإذا.. استمع مستمع إلى قوله تعالى: «أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى» - وقع فى تفكيره لأول وهلة، أن هذا الإنسان إنما ينهى عن منكر، لأن هذا هو شأن ما ينهى عنه.. فإذا فاجأه الخبر بأن ما ينهى عنه هذا الآثم، إنما هو الصلاة والولاء لله رب العالمين اشتد إنكاره له، وتضاعفت جريمته عنده.. والنهى هنا بمعنى المنع، لأن الذي يملك النهى عن فعل الشيء، يملك منع المنهىّ عن فعله، إذ النهى فى حقيقته لا يكون إلا من ذى سلطان متمكن ممن ينهاه، ويقدر على منعه مما نهاه عنه. وفى قوله تعالى: «عبدا» - إشارة إلى أن هذا المنهي عن الصلاة، هو فى مقام العبودية والولاء لربه.. فهو عبد، ولكنه سيد الأسياد جميعا فى هذه الدنيا، إذ كان عبد الله رب العالمين.. وقوله تعالى: «أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى. أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى؟» «أرأيت» هنا، استفهام إنكارى، بمعنى ماذا ترى من حال هذا الأثيم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1628 الذي ينهى عبدا عن الصلاة، ويحول بينه وبينها؟ ثم أرأيت لو أنه كان فى موقف آخر غير هذا الموقف، فكان قائما على طريق الهدى، مؤمنا بربه، مواليا له، آمرا بالبر والتقوى بدلا من نهيه عن البر والتقوى؟ فاىّ حاليه كان خيرا له وأهدى سبيلا؟ أحال الضلال، والعمى، والصد عن سبيل الله، أم حال الاستقامة والهدى والدعوة إلى الله؟ وشتان بين الظلام والنور، والشر والخير، والكفر والإيمان! وقوله تعالى: «أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى» . أي ثم ماذا ترى من حال هذا الضال، وقد أبى أن يكون على الهدى أو يأمر بالتقوى، بل كذب بآيات الله، وتولى معرضا عمن دعاه إلى الله، ورفع لعينيه مصابيح الهدى؟ فأى إنسان هذا؟ وبأى نظر ينظر، وبأى عقل يفكر ويميز بين الخير والشر؟ «أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى» ؟ أسفه نفسه حتى أنكر أن لهذا الوجود إلها قائما عليه، يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور؟ ألا يخاف بأس الله؟ ألا يخشى عقابه؟ وقوله تعالى: «كَلَّا.. لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ» . هو ردّ على هذا السؤال فى قوله تعالى: «أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى» . وكلا، إنه لا يعلم بأن الله مطلع على كل شىء، ولو كان يعلم هذا علما مستيقنا لخاف ربه وخشى بأسه، ولكن ضلاله أعمى قلبه، وأظلم بصيرته، فلم يرى جلال الله، ولم يشهد عظمته، ولم يخش بأسه! وقوله تعالى: «لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ» هو وعيد وتهديد لهذا الضال الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1629 إن لم ينزع عن ضلاله، ويرعو عن غيه، ويثوب إلى رشده، ويؤمن بربه، ويستقم على الهدى- لنسفعن بناصيته، أي لنجرنّه من رأسه جرّا إلى جهنم كما يقول سبحانه: «يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ» .. وفى هذا امتهان أي امتهان، وإذلال أي إذلال لهذا المتشامخ بأنفه، المتطاول برأسه! وقوله تعالى: «ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ» أي هى رأس فارغة من كل خير، حشوها الكذب والضلال، ونبتها الخطيئة والإثم، فكانت النار أولى بها، حطبا ووقودا. وقوله تعالى: «فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ» . أي ها نحن أولاء آخذون بناصية هذا العتلّ الأثيم إلى جهنم كما يؤخذ برأس الكبش من قرونه، فليهتف بناديه أي أهل النادي الذي يأخذ مجلسه بينهم، ويدير أحاديث الإثم والضلال عليهم.. أما نحن فسندعو الزبانية الذين يأخذون بناصيته إلى جهنم.. فهل من أصحابه من يخفّ له، ويسعى إلى تخليصه من يد الزبانية؟ هيهات هيهات.. لقد علقت أيديهم به، ولن يفلت حتى يلقى به فى جهنم، مع جماعة السوء الذين انضوى إليهم، واعتزّ بهم.. وقوله تعالى: «كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ» .. هو رد على قوله تعالى: «أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى» أي لا تسمع لنهى هذا الغوى، ولا تخش بأسه.. إنه مأخوذ بناصيته إلى جهنم بيد الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1630 الزبانية.. وإذن فاسجد لربك واقترب منه بهذا السّجود.. كما يقول الرسول الكريم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» . والزبانية، جمع زبنيه، أو زبنى.. وأصله من الزّبن، وهو الدفع.. يقال زبنه، أي دفعه ليزيله عن موضعه.. وهم ملائكة العذاب الموكلون بأهل النار يدعّونهم إلى جهنم دعّا.. قيل إن هذه الآيات نزلت فى أبى جهل، وقد كان يعترض النبىّ فى الصلاة، ويترصد له، ويتهدده كلما ألمّ بالبيت الحرام.. وقد جاء فى الخبر أن أبا جهل قال: لئن رأيت محمد يصلى عند الكعبة لأطأن عنقه.. فجاءه من يقول له: إن محمدا يصلى فى الكعبة، فاتجه إليه يريد أن يفعل فعلته، فما كاد يقارب النبىّ حتى رأى فحلا هائجا يريد أن ينقض عليه، فولّى مذعورا مبهورا.. فلما رأى القوم منه ذلك، سألوه ما به.. فقص عليهم ما رأى.. ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال: «لو فعل لأخذته الملائكة» !! والخطاب مع هذا عام، لكل من هو أهل للخطاب. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1631 (97) سورة القدر نزولها: مكية، وقيل مدنية.. نزلت بعد سورة «عبس» . عدد آياتها: خمس آيات. عدد كلماتها: ثلاثون كلمة. عدد حروفها: مائة واثنا عشر حرفا. مناسبتها لما قبلها ختمت سورة «العلق» بقوله تعالى: «كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ» وجاءت بعد ذلك سورة القدر، وفيها تنويه بشأن هذا القرآن الذي أنزل على النبي، والذي هداه ربه، وملأ قلبه إيمانا ويقينا بعظمته وجلاله.. وبهذا الإيمان الوثيق يتجه النبي إلى ربه لا يخشى وعيدا، ولا يرهب تهديدا.. بسم الله الرحمن الرّحيم الآيات: (1- 5) [سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1632 التفسير: قوله تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» .. الضمير فى «أنزلناه» يعود إلى القرآن الكريم، وهو وإن لم يجر له ذكر سابق فى السورة، إلا أنه مذكور بما له من إشعاع يملأ الوجود.. فإذا نزل شىء من عند الله، فهو هذا القرآن، أو فيض من فيض هذا القرآن.. وليلة القدر، هى الليلة المباركة، التي أشار إليها سبحانه وتعالى بقوله: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» (3- 6: الدخان) . وهى ليلة من ليالى رمضان، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» . (185: البقرة) ومعنى «أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» أي ابتدأنا إنزاله فى ليلة القدر، وهى الليلة التي افتتح فيها الوحى، واتصل فيها جبريل بالنبي، قائلا له: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ» . وقد اختلف فى أي ليلة من ليالى رمضان ليلة القدر، وأصح الأقوال أنها فى العشر الأواخر من رمضان.. واختلف كذلك أي ليلة هى فى الليالى العشر، وأصح الأقوال كذلك أنها فى الليالى الفردية، أي فى الليلة الحادية والعشرين، أو الثالثة والعشرين، أو الخامسة والعشرين أو السابعة والعشرين أو التاسعة والعشرين.. وأصح الأقوال هنا أنها الليلة السابعة والعشرون، أي الليلة السابعة من العشر الأواخر من رمضان.. وهذا ما يروى عن ابن عباس من أنه «م 103 التفسير القرآنى ج 30» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1633 قال: «هى سابعة تمضى أو سابعة تبقى من العشر الأواخر من رمضان، وقد سئل فى هذا فقال: نظرت فى كتاب الله فرأيت أن الله سبحانه قد جعل خلق الإنسان فى سبع، فقال تعالى: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً، فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً. ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ» (12- 14: المؤمنون) ورأيت أن الله سبحانه وتعالى جعل رزقه فى سبع، فقال تعالى: َأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ» (27- 32: عبس) ورأيت أن الله خلق سبع سموات، وسبع أرضين، وسبعة أيام» .. هذا وقد استظهر بعضهم أنها الليلة السابعة والعشرون، وذلك بأن عدد كلمات السورة من أولها إلى قوله تعالى: «هى» سبع وعشرون كلمة.. وهذا يعنى أن كل كلمة تعدل ليلة من ليالى رمضان، حتى إذا كانت ليلة القدر جاءت الإشارة إليها بقوله تعالى: «هى» أي هى هنا عند الكلمة السابعة والعشرين، أو الليلة السابعة والعشرين.. وفى محاولة تحديد هذه الليلة تكلف، لا تدعو إليه الحاجة، فهى ليلة من ليالى رمضان، وكفى، ولو أراد سبحانه وتعالى بيانها لبينها، وإنما أراد سبحانه إشاعتها فى ليالى الشهر المبارك كله، ليجتهد المؤمنون فى إحياء ليالى الشهر جميعه! .. وسميت ليلة «القدر» بهذا الاسم، لأنها ذات شأن عظيم، وقدر جليل، لأنها الليلة التي نزل فيها القرآن، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1634 إنها الليلة التي توزن فيها أقدار الناس حسب قربهم وبعدهم من كتاب الله، ويفرق فيها بين المحقّين والمبطلين.. وقد أشار إليها الله سبحانه وتعالى فى سورة أخرى بقوله: «فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» أي يبين فيها حكم الله فيما هو حلال أو حرام، وحق أو باطل، وهدى أو ضلال، وذلك بما نزل فيها من آيات الله.. وقوله تعالى: «وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ» ؟ تنويه بشأن هذه الليلة، وتفخيم لقدرها، وأنها ليلة لا يدرى أحد كنه، عظمتها، ولا حدود قدرها.. قوله تعالى: «لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» . اختلف فى تحديد المفاضلة بين هذه الليلة وبين الألف شهر.. وقد تواردت على هذا مقولات وأخبار شتى.. ونقول- والله أعلم- إنه ليس المراد من ذكر الألف شهر وزن هذه الليلة بهذا العدد من الأيام والليالى والسنين، وأنها ترجح عليها فى ميزانها، وإنما المراد هو تفخيم هذه الليلة وتعظيمها، وأن ذكر هذا العدد ليس إلا دلالة على عظم شأنها، إذ كان عدد الألف هو أقصى ما تعرفه العرب من عقود العدد. عشرة، ومائة، وألف، ومضاعفاتها. وإذن فهى ليلة لا حدود لفضلها، ولا عدل لها من أيام الزمن ولياليه، وإن بلغت ما بلغت عدّا. وقدر هذه الليلة، إنما هو- كما قلنا- فى أنها كانت الظرف الذي نزل فيه القرآن، والوعاء الذي حمل هذه الرحمة العامة إلى الإنسانية كلها.. إنها الليلة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1635 الولد التي بزغت فيها شمس الهدى، على حين أنه قد تمضى مئات وألوف من الليالى عقيما لا تلد شيئا ينتفع به، ولا تطلع على الناس ببارقة من خير يتلقونه منها:.. إن شأن هذه الليلة فى الليالى، شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الإنسانية.. إنه- صلوات الله وسلامه عليه- واحد الإنسانية، ومجدها وشرفها، وهى واحدة ليالى الزمن، ومجده، وشرفه.. فكان التقاؤها بالنبي على رأس الأربعين من عمره- وقد توجه ربه بتاج النبوة- كان، التقاء جمع بين الزمن مختصرا فى ليلة، وبين الإنسانية مختصرة فى إنسان، هو رسول الله.. وكان ذلك قدرا مقدورا من الله العزيز الحكيم. وقوله تعالى: «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ» أي يتنزل فيها جبريل عليه السلام، الذي هو مختص بتبليغ الوحى، والاتصال بالنبيّ.. أما الملائكة الذين يحفون به، فهم وفد الله معه لحمل هذه الرحمة إلى رسول الله، وإلى عباد الله.. وهم إنما يتنزلون بأمر الله كما يقول سبحانه: «وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ» (64: مريم) فجبريل لم يكن ينزل وحده بالوحى، وإنما كان ينزل فى كوكبة عظيمة من الملائكة تشريفا وتكريما، لما يحمل إلى رسول الله من آيات الله.. يقول الأستاذ الإمام محمد عبده: «وإنما عبر بالمضارع فى قوله تعالى: «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ» وقوله: «فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» - مع أن المعنى ماض، لأن الحديث عن مبدإ نزول الوحى- لوجهين: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1636 الأول: لاستحضار الماضي، ولعظمته على نحو ما فى قوله تعالى: «وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ» (214: البقرة) .. فإن المضارع بعد الماضي يزيد الأمر تصويرا.. والثاني: لأن مبدأ النزول كان فيها، ولكن بقية الكتاب، وما فيه من تفصيل الأوامر والأحكام- كان فيما بعد.. فكأنه يشير إلى أن ما ابتدأ فيها يستمر فى مستقبل الزمان، حتى يكمل الدين» !! وقوله تعالى: «من كل أمر» أي تتنزل الملائكة حاملة من كل أمر من أوامر الله، ومن أحكامه، ما يأذن الله لها به، كما تقضى بذلك حكمته.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» (4- 5: الدخان) . وقوله تعالى: «سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ» . أي أنها ليلة ولد فيها الأمن والسلام.. من بدئها إلى ختامها.. فهى ليلة القرآن.. والقرآن من مبدئه إلى ختامه سلام وأمن كلّه، ورسالة القرآن هى «الإسلام» الذي هو السلام، والنجاة، لمن طلب السلامة والنجاة.! الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1637 (98) سورة البيّنة نزولها: مدنية- وقيل مكية- نزلت بعد سورة الطلاق عدد آياتها: ثمانى آيات. عدد كلماتها: أربع وسبعون كلمة. عدد حروفها: ثلاثمائة وتسعة وتسعون حرفا. مناسبتها لما قبلها كانت سورة «القدر» التي سبقت هذه السورة تنويها بالليلة المباركة التي نزل فيها القرآن الكريم، فنالت بشرف نزوله فيها هذا القدر العظيم الذي ارتفعت به على الليالى جميعا.. فالتنويه بليلة القدر هو- فى الواقع- تنويه بالقرآن الكريم، وأن الاتصال به يكسب الشرف ويعلى القدر للأزمان والأمكنة والأشخاص. وسورة «البيّنة» تحدّث عن هذا القرآن، وعن رسول الله الحامل لهذا القرآن، وموقف الكافرين من أهل الكتاب والمشركين، من القرآن، والرسول الداعي إلى الله بالقرآن.. ومن هنا كان الجمع بين السورتين قائما على هذا الترابط القوىّ، الذي يجعل منهما وحدة واحدة. بسم الله الرحمن الرّحيم الآيات: (1- 8) [سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1638 التفسير: قوله تعالى: «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً» . «من» فى قوله تعالى: «مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» بيانية، وفيها معنى التبعيض أيضا، إذ ليس كلّ أهل الكتاب كافرين، بل هم كما يقول الله تعالى: «مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ» (110: آل عمران) . فالمراد بالذين كفروا هنا ليس الكافرين على إطلاقهم، وإنما هم الكافرون من أهل الكتاب- اليهود والنصارى- وهم بعض من أهل الكتاب، أو معظم أهل الكتاب. والمشركون، هم مشركو العرب، وعلى رأسهم مشركو قريش. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1639 ومعنى الانفكاك فى قوله تعالى: «منفكّين» هو حلّ تلك الرابطة الوثيقة التي جمعت بينهم جميعا على الكفر والضلال. فالذين كفروا من أهل الكتاب والمشركون، على سواء فى الضلال، وفى البعد عن مواقع الحق.. فهم وإن اختلفوا دينا ومعتقدا، وجنسا وموطنا- على سواء فى الضلال وفساد المعتقد، وهم لهذا كيان واحد، وقبيل واحد، ينتسبون إلى أب واحد، هو الكفر والضلال. أما الكافرون من أهل الكتاب، فقد كان كفرهم بما غيّروا، وبدّلوا من شرع الله، وبما تأوّلوا من كتب الله التي بين أيديهم، فحرّفوا الكلم عن مواضعه، وقالوا عن الله سبحانه ما لم يقله. وأما المشركون، فقد اغتال جهلهم وضلالهم كل معانى الحق، التي تركها فيهم أنبياؤهم الأولون، كهود، وصالح، وإبراهيم، وإسماعيل، عليهم السلام.. فانتهى بهم الأمر إلى الشرك بالله، وعبادة الأصنام من دون الله. ومجمل معنى الآية الكريمة: أن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركون لن تنحلّ منهم هذه الرابطة الوثيقة التي جمعت بينهم على الكفر والضلال، حتى تأتيهم البينة.. فإذا أتتهم البينة تقطع ما بينهم، وانحلت وحدتهم، وأخذ كلّ الطريق الذي يختاره.. و «البينة» هى ما أشار إليها قوله تعالى: «رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً» فالرسول صلوات الله وسلامه عليه- هو «البينة» ، أي البيان المبين، الذي يبين طريق الحقّ بما يتلو من آيات الله على الناس.. وفى جعل الرسول هو البينة- مع أن البينة هى آيات الله- إشارة إلى أن الرسول الكريم، هو فى ذاته بينة، وهو آية من آيات الله، فى كماله، وأدبه، وعظمة خلقه، حتى لقد كان كثير من المشركين يلقون النبي لأول مرة فيؤمنون الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1640 به، قبل أن يستمعوا إلى آيات الله منه، وقبل أن يشهدوا وجه الإعجاز فيها.. وأنه ليكفى أن يقول لهم إنه رسول الله، فيقرءون آيات الصدق فى وجهه وفى وقع كلماته على آذانهم.. وقد آمن المؤمنون الأولون، ولم يكن قد نزل من القرآن قدر يعرفون منه أحكام الدين، ومبادئه، وأخلاقياته.. بل إن إيمانهم كان استجابة لما دعاهم إليه رسول الله، لأنه لا يدعو- كما عرفوه وخبروه- إلا إلى خير وحق. والصحف المطهرة، هى آيات القرآن الكريم، التي يتلوها الرسول الكريم، كما أوحاها إليه ربه، وكما تلقاها من رسول الوحى، على ما هى عليه فى صحف اللوح المحفوظ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ، فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ، فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرامٍ بَرَرَةٍ» (11- 16: عبس) . وطهارة هذه الصحف، هو نقاء آياتها، وصفاؤها، من كل سوء.. فهى حق خالص، وكمال مطلق.. «إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» . (42: فصلت) . وقوله تعالى: «فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ» . والكتب القيمة التي فى هذه الصحف، هى الكتب التي نزلت على أنبياء الله ورسله، كصحف إبراهيم وموسى.. كما يقول سبحانه: «إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى» (18- 19: الأعلى) . فالقرآن الكريم جمع ما تفرق فيما أنزل الله من كتب على أنبيائه، فكان به تمام دين الله، الذي هو الإسلام، كما يقول سبحانه: «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ» (19: آل عمران) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1641 وكون الصحف تحوى فى كيانها الكتب، مع أن العكس هو الصحيح، كما هو فى معهودنا، إشارة إلى أن صحف القرآن، هى بالنسبة إلى الكتب السماوية السابقة، كتب.. وأن الصحيفة، أو مجموعة الصحف منه تعادل كتابا من تلك الكتب إذ جمعت فى كلماتها المعجزة ما تفرق فى هذه الكتب. وفى هذا ما يدل على قدر هذا القرآن العظيم، وأنه كان لهذا جديرا أن ينزل فى ليلة القدر، التي هى ليلة الزمن كله، كما أن هذا الكتاب هو شرع الله كله. وقوله تعالى: «وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ» . الخطاب هنا إلى أهل الكتاب جميعا، لا إلى الذين كفروا منهم.. فأهل الكتاب جميعا، هم فى هذا المقام فى مواجهة البينة.. وقد اختلف موقفهم منها، فمنهم من آمن، ومنهم من كفر.. وهنا تفرق أمرهم، وأخلى الذين آمنوا منهم مكانهم فيهم.. والسؤال هنا: ألم يكن أهل الكتاب متفرقين قبل أن يأتيهم رسول الله، ويدعوهم إلى الإيمان بالله؟ ألم يكن منهم مؤمنون وكافرون، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ..» ؟. ألم يكن هذا الإخبار عنهم بهذا الوصف، قبل أن تأتيهم البينة؟ فما تأويل هذا؟ نقول- والله أعلم- إن أهل الكتاب، وإن كان فيهم المؤمنون الذين استقاموا على شريعة الله، كما جاء هم بها أنبياؤهم، غير متبعين ما دخل عليهم من تبديل وتحريف- إلا أن هؤلاء المؤمنين، هم فى مواجهة الشريعة الإسلامية الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1642 غير مؤمنين، إذا لم يصلوا إيمانهم هذا، بالإيمان بدين الله (الإسلام) الذي كمل به الدين.. فالمؤمنون حقّا من أهل الكتاب، لا يجدون فى الإيمان بالإسلام حجازا يحجز بينهم وبينه، إذ كان دينهم بعضا من هذا الدين، وبعض الشيء ينجذب إلى كله، ولا يأخذ طريقا غير طريقه! فأهل الكتاب جميعا- المؤمنون منهم والكافرون- على سواء فى مواجهة الدين الإسلامى، كلّهم مدعوون إلى الإيمان به، فمن لم يؤمن به فهو كافر. وأهل الكتاب، إذ دعوا إلى الإيمان بدين الله، تفرقوا، فآمن قليل منهم، وكفر كثير.. وهذا ما يشير إليه سبحانه وتعالى فى قوله: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ» (121: البقرة) وبقوله سبحانه: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ، وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ» (52- 53: القصص) . وأما المشركون، فقد انفكوا، وانفصلوا عن الكافرين من أهل الكتاب، بعد أن جاءتهم البينة إذ أنهم آمنوا بالله، ودخلوا فى دين الله جميعا، بعد أن تلبثوا على طريق العناد والضلال! وقوله تعالى: «وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» . أي أن أهل الكتاب الذين دعوا إلى الإيمان بشريعة الإسلام، لم يدعوا إلى أمر لا يعرفونه، ولم يؤمروا بأمر لم تأمرهم به شريعتهم التي هم بها يؤمنون.. إنهم ما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين، لا يعبدون إلها غيره «حنفاء» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1643 أي مائلين عن أي طريق غير طريق الله.. وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. فهذا هو شرع الله، وتلك أحكام شريعته لكل المؤمنين بشرائع السماء.. إنها جميعا تقوم على هذه الأصول الثابتة: وأولها الإيمان بالله وحده، إيمانا خالصا من كل شرك، مبرأ من كل ما لا يجعل لله سبحانه وتعالى التفرد بالخلق والأمر. ثم إقام الصلاة، التي هى مظهر الولاء لله، وآية الخضوع لجلاله وعظمته.. ثم إيتاء الزكاة، التي هى أثر من آثار الإيمان بالله، الذي من شأنه أن يقيم المؤمنين بالله على التوادّ والتراحم، والتعاطف فيما بينهم، كما يقيمهم الولاء لله، والخضوع لجلاله وعظمته، كيانا واحدا فى محراب الصلاة له.. وإذا كان هذا هو ما تدعو إليه الشرائع السماوية جميعا، وإذا كان هذا ما تدعو إليه شريعة الإسلام- فإن الذي يفرق بين هذه الشرائع وبين شريعة الإسلام، هو جائر عن طريق الحق، معتد على حدود الله.. إذ كانت شرائع الله كلها- سابقها ولا حقها- حرم الله وحدوده التي حدها لعباده: «وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» .. ولهذا كانت دعوة الإسلام قائمة على الإيمان بشرائع الله كلها، وبرسل الله كلهم: «قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ. لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» (136: البقرة) قوله تعالى: «وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» .. أي الدين القيم، أي المستقيم، أو دين الملة أو الأمة المستقيمة على الحق القائمة بالقسط- فكل من خرج على هذا الدين فهو على غير دين الله، كما يقول الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1644 سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ» (159: الأنعام) ومن معانى «الدّين» هنا، دين الله، وهو الإسلام.. والقيّمة: مذكّر القيّم، بمعنى المستقيم، كما يقول تعالى: «ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ» (36: التوبة) . قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ» .. هو مواجهة للذين ظلّوا على كفرهم من أهل الكتاب، والذين أقاموا على شركهم من المشركين بعد أن جاءتهم البينة.. فهؤلاء وأولئك جميعا سيلقون فى نار جهنم خالدين فيها.. وهؤلاء وأولئك هم شر البرية، أي شر الخلق.. لأنهم لم يؤمنوا وقد جاءتهم البينة، التي جمعت البنيان كله، واشتملت على الهدى جميعه، فكانت آياتها قائمة بين الناس، يلقونها فى كل لحظة، ويديرون عقولهم وقلوبهم إليها فى كل زمان ومكان، ولم تكن آياتها آيات عارضة، تلقاها حواسّ من يشهدونها ساعة من نهار، ثم نزول فلا ترى أبد الدهر، كما رأى الراءون من آيات موسى، وعيسى عليهما السلام.. وإنما هى آيات تعايش الإنسان، وتصحبه ما شاء أن تصحبه وتعيش معه.. والحق حين تتضح آياته هذا الوضوح المشرق، وحين يتجلّى وجهه هذا التجلي المبين، يكون منكره، والحائد عنه، أشدّ الناس ضلالا، وأكثرهم عنادا، وأبعدهم عن الخير، وأقربهم إلى الشر.. «أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ» .. وقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1645 أي الذين آمنوا بهذا الدّين وعملوا الصالحات، أولئك هم خير الخلق جميعا، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ» ، إذ ألبسهم إيمانهم بالله، وأعمالهم الصالحة فى ظل هذا الإيمان- لباس التقوى، فكانوا هم عباد الله، وكانوا أهل ودّه، ولهذا كان جزاؤهم عند ربهم هذا الجزاء الكريم: «جنات عدن» أي جنات خلود واستقرار، تجرى من تحتها الأنهار، خالدين فيها أبدا، لا يتحولون عنها.. «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ» فأدخلهم فى جنّاته، وأفاض عليهم من نعيمه. «وَرَضُوا عَنْهُ» أي رضوا عن ربّهم، وحمدوه، وشكروا له هذا النعيم الذي هم فيه.. وذلك النعيم والرضوان، إنما هو لمن خشى ربّه، واتقاه، وخاف مقامه. هذا، ويلاحظ هنا أمران: أولهما: أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات قد جاء الحديث عنهم مطلقا من غير قيد الإضافة إلى أهل الكتاب، أو المشركين، فلم يجىء النظم القرآنى هكذا: «إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات من أهل الكتاب والمشركين» .. كما جاء فى الآية السابقة: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ» - وذلك لأن الذين يؤمنون بالله ويعملون الصالحات فى جميع الأحوال والأزمان داخلون فى ساحة المؤمنين بشريعة الإسلام.. سواء أكان هذا الإيمان عن دعوة رسول وكتاب، أو عن دعوة العقل، وإلهام الفطرة، فالمؤمن بالله حيث كان، وحيث كان مصدر إيمانه، هو لا حق بهؤلاء المؤمنين، وهو ملاق هذا الجزاء الذي يجزى به المؤمنون.. أما حصر الكافرين هنا فى الذين كفروا من أهل الكتاب، والذين كفروا من المشركين، بعد أن جاءتهم البينة- فهو تشنيع على هذا الوجه الكريه الغليظ من وجوه الكفر، فى مواجهة هذا الصبح المشرق، الذي الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1646 لا ينكره إلا مكابر، ولا يكفر به إلا من ختم الله على قلبه وسمعه، وجعل على بصره غشاوة، ومن هنا كانوا شرّ البريّة على الإطلاق، كما كان المؤمنون بشريعة الإسلام خير البرية على الإطلاق كذلك. وثانى الأمرين: هو أن وعيد الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين بالخلود فى النّار- لم يقيّد بلفظ التأبيد «أبدا» بل جاء مطلقا هكذا: «خالِدِينَ فِيها» على حين جاء وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالخلود فى الجنة مؤبدا.. هكذا «خالِدِينَ فِيها أَبَداً» . فما تأويل هذا؟ نقول- والله أعلم- إن تأبيد الخلود فى الجنة، هو أمر عام لكل من أكرمه الله بدخول الجنة، وأخذ مكانه فيها، ونزل منزله منها.. فإنه لا يتحول أبدا عن هذا المنزل، وإن كان ثمة تحول فهو إلى منزل آخر فى الجنة، أعلى من منزله الذي هو فيه.. فخلود أهل الجنة فى الجنة، خلود مؤبد لكل من دخلها.. أما أهل النار.. فإن كثيرا ممن يدخلها من عصاة المؤمنين، لا يخلدون فيها، بل يتحولون عنها إلى الجنة، بعد أن ينالوا جزاءهم من العذاب فى النار، وأما الذين يخلدون فى النار فهم أهل الكفر، وحسبهم من العذاب أن يكون خالدا، أي طويلا ممتدّا إلى ما شاء الله.. فمعنى الخلود هنا هو امتداد الزمن وطوله، كما يفهم من قوله تعالى: «يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ» أي يخلده، ويمد له فى عمره زمنا طويلا.. ثم إن هؤلاء الخالدين فى النار، هم بعد ذلك إلى مشيئة الله، فى تأييد هذا الخلود أو توقيته، وهذا ما يفهم من قوله تعالى فى أصحاب النار: «فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ، خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ» وقوله تعالى بعد ذلك فى أصحاب الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1647 الجنة: «وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ» (106- 108: هود) . ففى جانب المخلدين فى النار جاء قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ» مؤذنا بأن لله سبحانه وتعالى فعلا آخر فى أهل النار غير هذا الخلود، بعد أن يستوفوه.. ولا ندرى ما هو.. غير أن رحمة الله التي وسعت كل شىء لا تقصر عن أن تنال هؤلاء الخالدين فى النار ببعض آثارها.. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. أما فى جانب المخلدين فى الجنة، فقد جاء قوله تعالى: «عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ» مؤذنا بأن هذا العطاء الذي أعطوه فى الجنة، لن ينقطع أبدا.. والله أعلم. (99) سورة الزلزلة نزولها: مدنية.. نزلت بعد سورة «النساء» عدد آياتها: ثمانى آيات.. عدد كلماتها: خمس وثلاثون.. عدد حروفها: مائة وتسعة عشر حرفا.. مناسبتها لما قبلها ختمت سورة «البينة» قبل هذه السورة بما يلقى الكافرون، من عذاب، خالدين فى النار، وبما يلقى المؤمنون، من نعيم، خالدين فيه خلودا مؤبدا فى الجنة.. وجاءت سورة الزلزلة محدثة بهذا اليوم الذي يجزى فيه كل من الكافرين والمؤمنين هذا الجزاء الذي يستحقه كل فريق منهم، فكان عرض هذا اليوم، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1648 وإخراج الناس فيه من قبور هم للحساب والجزاء- كان عرض هذا اليوم منظورا إليه من خلال صورتى النار والجنة اللتين تحدث عنهما السورة السابقة- كان أبعث المرهبة منه، والخشية من لقائه. بسم الله الرحمن الرّحيم الآيات: (1- 8) [سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) التفسير: قوله تعالى: «إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها؟» هذا من إرهاصات يوم البعث والنشور، حيث تزلزل الأرض وتضطرب، وهذا الزلزال الذي سيقع لها يوم البعث، هو زلزال خاص بهذا اليوم، ولهذا أضيف إليها فى قوله تعالى «زلزالها» وكأنه هو الزلزال الوحيد الذي تزلزله، م 104- التفسير القرآنى ج 30 الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1649 «إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ» (1: الحج) . أما ما يحدث من زلزال للأرض فيما قبل هذا الزلزال، فلا حساب له، إذا نظر له من خلال هذا هذا الزلزال العظيم.. وفى هذا اليوم تخرج الأرض أثقالها، أي ما حملت فى بطنها من أموات، فكأنها تلدهم من جديد، كما تلد الأم أبناءها، بعد أن يتم حملها، وتثقل به بطنها.. كما يقول سبحانه: «فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ» (189: الأعراف) .. وقوله تعالى: «وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها» ؟ هو سؤال عجب ودهش، يسأله الإنسان نفسه بعد أن تلفظه الأرض من بطنها، وتلقى به على ظهرها.. إنه ينكر هذا الذي حدث.. لقد كان فى بطن الأرض، فماذا أخرجه منها؟ وماذا يراد به؟ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا» ؟ (51- 52 يس) . وقوله تعالى: «يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها. بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها» - هو جواب الشرط «إذا» فى قوله تعالى: «إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها» أي فى هذا اليوم، يوم البعث والنشور، الذي تزلزل فيه الأرض- تحدث الأرض «أخبارها» أي تظهر الأرض أخبارها التي كانت مكنونة فى صدرها.. وفى التعبير عن إظهار أخبارها بالتحديث- إشارة إلى أن أحداثها التي يراها الناس يومئذ، هى أبلغ حديث، وأظهر بيان، فهو شواهد ناطقة بلسان الحال، أبلغ من لسان المقال.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1650 وفى التعبير عن خبء الأرض، وما تخرجه من بطنها بلفظ الأخبار- إشارة أخرى إلى أن هذه الأسرار المضمرة التي كانت مخبوءة فى صدر الأرض، قد أعلنت وأصبحت أخبارا يعلمها الناس جميعا.. وهذا ما يشير إليه الرسول الكريم بقوله، وقد سئل صلوات الله وسلامه عليه عن معنى قوله تعالى: «يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها» .. فقال: «أتدرون ما أخبارها» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها.. تقول عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا..» وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: «يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها» أي تنشر أخبارها، وتظهر أسرارها، وتخرج خبأها.. «إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها، وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها» .. فالضمير «ها» الذي يعود إلى الأرض فى «زلزالها» و «أثقالها» و «ما لها» و «أخبارها» يشير إلى أمور خاصة بالأرض فى هذا اليوم، يوم ينفخ فى الصور، للبعث والنشور.. فللأرض فى هذا اليوم زلزالها الذي ينتظرها، ولها أثقالها التي تخرجها، ولها هذا التساؤل الذي يتساءله الناس عنها، ولها حديثها الذي تحدثه للناس، وعن الناس، فى هذا اليوم الموعود. وليس هذا الذي رآه الناس من أحداث الأرض يومئذ هو من تلقاء نفسها، وإنما ذلك بما أوحى به إليها ربّها، وما أمرها الله به، فامتثلت له، وأمضته كما أمر الله.. وفى قوله تعالى: «أوحى لها» - إشارة إلى أنها بمجرد الإشارة إليها من الله، خضعت لمشيئة الله.. فلم تكن فى خضوعها لربها محتاجة لأن يردّد عليها القول، أو يؤكد لها الأمر.. بل هو مجرد اللمح والإشارة.. وهذا هو شأن الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1651 الخاضع المطيع، الذي لا إرادة له مع من يأمره.. إنه لا يحتاج إلى أمر صريح مؤكد، بل تغنى الإشارة عن العبارة.. فالوحى هنا، هو التلميح، دون التصريح، والإشارة دون العبارة.. وهذا من معنى قوله تعالى: «وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ، وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ» أي حق ووجب عليها الامتثال والطاعة. قوله تعالى: «يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ» . أي فى هذا اليوم، يوم البعث، يصدر الناس، أي يجىء الناس، صادرين من قبورهم «أشتاتا» أي أفرادا، متفرقين، كأنهم جراد منتشر، إلى حيث يردون على المحشر فى موقف الحساب.. فللناس فى هذا اليوم صدور، وورود.. صدور من القبور، وورود إلى المحشر. وقوله تعالى: «لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ» هو تعليل لهذا الصدور، أي وذلك ليروا أعمالهم التي عملوها فى الدنيا. «يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ» . وقوله تعالى: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» . أي فمن يعمل فى هذه الدنيا مثقال ذرة من خير، يره خيرا فى الآخرة، ومن يعمل فى دنياه مثقال ذرة من شر، يره شرا يوم القيامة.. فليس المراد برؤية الأعمال تجرد الرؤية، وإنما المراد هو ماوراء هذه الأعمال من جزاء.. فالعمل الطيب إذا رآه صاحبه سرّ به، ورأى فى وجهه البشير الذي يحمل إليه رحمة الله ورضوانه فى هذا اليوم العظيم.. والعمل السيء إذا رآه صاحبه حاضرا بين يديه فى مقام الحساب، ساءه ذلك، وملأ نفسه حسرة وغما، إذ كان هو الشاهد الذي يشهد بتأثيمه وتجريمه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1652 ومثقال الذرة: وزنها. والذرة: هباءة من غبار، لا ترى إلا فى ضوء الشمس المتسلل من كوّة فى مكان مظلم.. وعن ابن عباس: الذرّ ما يلتصق بيدك إذا مست التراب. (100) سورة العاديات نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة العصر. عدد آياتها: إحدى عشرة آية.. عدد كلماتها: أربعون كلمة.. عدد حروفها: مائة وستون حرفا مناسبتها لما قبلها الزلزلة التي تزلزلها الأرض يوم البعث، وإخراج الأرض أثقالها وما فى جوفها من الموتى، وصدور الناس أشتاتا من القبور إلى موقف الحشر، والمواجهة هناك بين الكافرين والمؤمنين- كل هذا تمثله صورة واقعة فى الحياة، نجدها حين تقوم حالة حرب بين الناس، فتزلزل الأرض تحت أقدام الجيوش الزاحفة نحو ساحة القتال، بما يركبون من خيل، وما يحملون من عدد القتال، وهم يصدرون من بيوتهم فى سرعة الرياح العاصفة إلى لقاء العدو، لا يمسكهم شىء عن الانطلاق حتى يبلغوا ساحة الحرب.. قوم إذا الشرّ أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زرافات ووحدانا هكذا يوم الحرب.. إنه من يوم القيامة قريب فى أهواله، وشدائده، وما يلقى الناس منه، من هول وشدة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1653 ففى ميدان الحرب، حساب وجزاء، وربح وخسران، وهول وفزع، يشمل المحاربين جميعا. فالحرب، وميدانها فى الدنيا، هى أقرب شىء يمثّل به المحشر، والحساب، والجزاء فى الآخرة.. ولهذا جاءت سورة العاديات تالية سورة الزلزلة، لهذه المشابه التي بينهما. بسم الله الرحمن الرّحيم الآيات: (1- 11) [سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) التفسير: قوله تعالى: «وَالْعادِياتِ ضَبْحاً. فَالْمُورِياتِ قَدْحاً. فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً..» العاديات: جمع عادية، وهى الخيل تعدو فى خفّة، وسرعة، كما يعدو خفيف الوحش. والضبح: ما يخرج من صدور الخيل من أصوات وهى تعدو، أشبه بأنفاس الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1654 الإنسان وهو يلهث أثناء الجري.. وسمى ضبحا حكاية لصوت الخيل الذي يشبه صوت هذا اللفظ عند النطق به «ضبح» . والمقسم به هنا، هو الخيل، فى حال عدوها، حاملة فرسانها إلى ميدان القتال.. فهى تعدو ضابحة، وهى فى عدوها تورى نارا تنقدح من احتكاك حوافرها بالحجارة التي تعدو عليها.. وفى هذا ما يشير إلى أنها تسير تحت جنح الظلام بفرسانها حتى لا تراها عين العدوّ، وحتى لا ينذر بها هذا العدوّ، ويأخذ حذره من المفاجأة حين تطلع عليه على غير انتظار، ولهذا يظهر هذا الشرر الذي ينقدح من احتكاك حوافرها بالصوّان.. كما يقول الشاعر فى وصف سيوف الأبطال فى الحرب: تقدّ السلوقىّ المضاعف نسجه ... وتوقد بالصّفاح نار الحباحب «1» فإذا بلغت الخيل المكان الذي تشرف به على عدوّها، أمسكت عن السير، حتى تهجم عليه وتبغته على حين غفلة منه، مع مطلع الصبح، قبل أن يدبّ دبيب الحياة فى الأحياء. فهذه ثلاثة أقسام بالحيل فى مسيرتها نحو الحرب.. فأقسم بها سبحانه، وهى فى أول طريقها إلى القتال، ثم أقسم بها، وهى تكيد العدو، فتسير إليه ليلا، وتستخفى نهارا، ثم أقسم بها، وهى تلقى العدوّ بغتة مع أول النهار. وفى هذا تعظيم لمسيرة هذه الخيل فى كل حال من أحوالها، وإنها لجدير بها أن تكون خيل المؤمنين، التي تسير هذه المسيرة المباركة للجهاد فى سبيل الله،   (1) السلوقي: الدرع السابغة، نسبة إلى سلوق، بلدة باليمن. الصفاح: الحجارة، والحباحب. قيل إنه نوع من الحشرات إذا طار بالليل وتلامست أجنحته بعضها ببعض، ندّ عن ضوء أشبه بالشرر. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1655 وإن هذا التدبير لجدير أن يكون من تدبير المؤمنين فى لقاء العدوّ، فيلقون عدوّهم بالعدد، والعدد، وبالتدبير والمكيدة. وبهذا يكتب لهم الغلب، ويتحقق لهم النصر. قوله تعالى: «ضَبْحاً، وقَدْحاً، وصُبْحاً» منصوبة على الحال من العاديات.. بمعنى ضابحة، وقادحة، ومصبحة العدوّ.. قوله تعالى: «فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً» . هو إلفات إلى موقف الخيل، وقد دخلت ميدان القتال، إنها تثير فيه النقع، أي الغبار بحركاتها، وتنقّل فرسانها عليها، بين كرّ وفرّ، ومحاورة ومداورة، انتهازا للفرصة التي تمكّن من العدو، وتصيبه فى مقاتله. والضمير فى «به» يعود إلى ميدان القتال المفهوم من مسيرة هذه الخيل العادية.. إنها الخيل تعدو إلى جهاد فى سبيل الله، وليست الخيل التي تعدو للصيد واللهو، ونحو هذا. قوله تعالى: «فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً» .. إشارة إلى أنها وإن جاءت فرادى، وهى متجهة إلى ميدان القتال، فإنها لا تشتبك مع العدوّ فى الحرب إلا مجتمعة، حيث يضرب المغيرون عليها عدوّهم بيد مجتمعة قوية متمكنة. وفى قوله تعالى: «فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً» إشارة أخرى إلى أنّ هذه الخيل إنما تدخل المعمعة بفرسانها، وتهجم على قلب العدوّ، وتدخل فى كيانه، لا أنها تخطف الخطفة من بعد، دون أن تلتحم بالعدوّ، وتختلط به، وفى العطف بالفاء فى قوله تعالى: «فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً» - فى هذا ما يشعر بأن هذين الفعلين من أفعال الخيل العاديات، وأنهما داخلان فى حيّز القسم بها، والتقدير: والعاديات ضبحا، فالموريات قدحا، فالمغيرات صبحا، فالمثيرات به نقعا، فالمتوسطات به جمعا. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1656 وكل هذا الذي يشير إليه القرآن الكريم، هو تخطيط للحرب، ولما ينبغى أن يكون من تدبير جيش المسلمين فى لقاء العدوّ.. فهو درس بليغ فى الحرب، يأتى عرضا، فيكون أثره أبلغ وأوقع من الدرس المباشر، الذي يواجه الإنسان مواجهة الأستاذ لتلميذه.. فلقد جاء العرض للخيل، وفرسانها، وأفعالهم فى الحرب، والمسلمون محصورون فى مكة، واقعون تحت قبضة المشركين، لا يدور فى تفكيرهم أبدا أنهم سيكونون يوما هم فرسان هذه الخيل، وهم جنود الله، تعدو بهم هذه العاديات إلى الجهاد فى سبيل الله، فيمكن الله لدينه بهم فى الأرض، ويقيم بهم دولة الإسلام!. يقول الأستاذ الإمام محمد عبده، معلقا على هذا الدرس الذي يلقّنه القرآن الكريم لأتباعه فى الإعداد للحرب، والتمكن من وسائلها: «أفليس من أعجب العجب أن ترى أمما- وخير من هذا أن يقال أمّة، لأن المسلمين أمة لا أمم- هذا كتابها، قد أهملت شأن الخيل والفروسية، إلى أن صار يشار إلى راكبها بينهم بالهزء والسخرية، وأخذت كرام الخير تهجر بلادهم إلى بلاد أخرى؟. «أليس من أغرب ما يستغرب أن أناسا يزعمون أن هذا الكتاب كتابهم، يكون طلاب العلوم الدينية منهم أشدّ الناس رهبة من ركوب الخيل، وأبعدهم عن صفات الرجولة، حتى وقع من أحد أساتذتهم المشار إليه بالبنان، عند ما كنت أكلّمه فى منافع بعض العلوم وفوائدها فى علم الدين- أن قال لى: «إذا كان كل ما يفيد فى الدين نعلّمه لطلبة العلم، كان علينا إذن أن نعلمهم ركوب الخيل؟! «يقول هذا ليفحمنى، وتقوم له الحجة علىّ، كأنّ تعليم ركوب الخيل مما لا يليق ولا ينبغى لطلبة العلم، وهم يقولون: إن العلماء ورثة الأنبياء.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1657 فهل هذه الأعمال، وهذه العقائد تتفق مع الإيمان بهذا الكتاب؟ أنصف واحكم» !. والحق ما قال الإمام، فإن فرسان الحرب فى الإسلام، كانوا أئمة المسلمين، والقمم العالية فيهم، وحسبنا أن نذكر هنا على بن أبى طالب، وحمزة بن عبد المطلب، وخالد بن الوليد، وعبيدة بن الجراح، وطلحة والزبير، وسعد ابن أبى وقاص، وغيرهم وغير هم كثير كثير! ولو أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم شهدوا عصر الدبابات، والطائرات، والصواريخ، لكانوا أساتذة هذا الميدان، إبداعا واستعمالا، ولكانت الأمم التي تملك الصواريخ اليوم أمما متخلفة، بالنسبة إليهم.. ذلك أن نفوسهم أشرقت بنور الحق، وقلوبهم امتلأت بقوة الإيمان وعزته، فعظمت نفوسهم، واتسعت آمالهم، وأبت عليهم نفوسهم العالية، وهممهم العظيمة أن يسبقها سابق فيما يكسب العزة والسيادة، والمجادة.. فإذا صغرت النفوس، وضعفت الهمم، رضيت بالدّون، واستغنت بالتافة الحقير من الأمور.. فليس بالمؤمن من صغرت نفسه، وضؤل شخصه، وأمسك من دنياه بقبض الريح منها.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ» .. وإنه لا عزة مع الضعف، ولا إيمان بغير القوة والعزة.. القوة فى المادة والروح جميعا. وقوله تعالى: «إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ. وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ. وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ» . هو جواب القسم بالعاديات.. والكنود: الجاحد لنعمة ربه، المنكر لإحسانه إليه..! الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1658 وهذا شأن كثير من الناس، بل هو شأن معظم الناس، ولهذا جاء الحكم مطلقا، إذ ليس فى الناس إلا قلة قليلة هى التي تعرف فضل الله عليها، وإحسانه إليها، ومع هذا فإنها لن تبلغ مهما اجتهدت، ما ينبغى لله سبحانه من حمد وشكر.. وإلى هذا يشير قوله تعالى: «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» (13: سبأ) وفى قوله تعالى: «وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ» - استدعاء للإنسان أن يستحضر وجوده، وأن يحاسب نفسه، وسيرى- إن كان على علم وحق- أنه مقصر فى حق الله، جاحد لفضله عليه.. وأن حبه الشديد لتحصيل المال، والاستكثار منه، هو آفته التي تنسيه فضل الله عليه، فيغمط حقوق الله، ويعمى عن وجوه الإنفاق فى سبيل الله.. وفى التعبير عن المال بلفظ الخير- إشارة إلى أنه خير فى ذاته، ولكنه قد يتحول فى أيدى كثير من الناس إلى شر مستطير يحرق أهله!! وقوله تعالى: «أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ» . أي أفلا يعلم هذا الإنسان الكنود، وهو يحاسب نفسه، أنّه إذا بعثر ما فى القبور، وخرج الموتى من قبورهم إلى المحشر، «وحصّل» أي جمع ما فى صدورهم من خفايا أعمالهم، ورأوه عيانا بين أيديهم- أفلا يعلم ما يكون عليه حاله يومئذ، وما ينزل به من عذاب الله؟. وفى حذف مفعول الفعل «يعلم» .. استدعاء للعقل أن يبحث عن هذا المفعول، وأن يستدلّ عليه، وفى هذا ما يدعوه إلى إعمال فكره، فيجد العبرة والعظة.. أي أفلا يعلم ما يكون فى هذا اليوم؟ إنه لو علم لكان له مزدجر عن غيّه وضلاله. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1659 وقوله تعالى: «إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ» . هو تعقيب على هذا السؤال: «أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ» .. أي فإذا لم يكن يعلم ماذا يكون فى هذا اليوم، فليذكر هذه الحقيقة المطلقة، التي ينادى بها فى الوجود كله، وهى حقيقة ثابتة: «إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ» .. إذا علم هذه الحقيقة، وآمن بها، علم ماذا يكون عليه حاله يومئذ.. إن ربه الذي يعلم كل شىء، قد علم ما كان منه فى الدنيا، وأنه محاسبه على ما عمل.. وليس الظرف فى قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ» قيد لعلم الله وحصره فى هذا اليوم، بل إن علم الله بما يعمل الناس، هو علم دائم متصل، ولكن علمه فى هذا اليوم بأعمال الناس، يقتضى محاسبتهم عليها، وجزاءهم بما عملوا.. فهذا يوم الجزاء لعمل كل عامل.. (101) سورة القارعة نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة «قريش» . عدد آياتها: إحدى عشرة آية. عدد كلماتها: ست وثلاثون كلمة. عدد حروفها: مائة وخمسون حرفا. مناسبتها لما قبلها ختمت سورة «العاديات» بقوله تعالى: «أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ» .. وفيها دعوة إلى الناس الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1660 أن يحاسبوا أنفسهم فى الدنيا، قبل يوم الحساب والجزاء فى الآخرة.. وجاءت سورة القارعة تقرع الناس بهذا اليوم، يوم الجزاء، وتدعوهم إلى الحساب والجزاء، بعد أن أخذوا الفرصة الممكّنة لهم من حساب أنفسهم، وإعدادها لهذا اليوم.. بسم الله الرحمن الرّحيم الآيات: (1- 11) [سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11) التفسير قوله تعالى: «الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ» . القارعة: هى يوم القيامة، لأنها تقرع القلوب بهولها، كأنها المقرعة التي تقع على الرأس بضربة مفاجئة.. فهى كالحاقة، والصاخة، والطامة، والغاشية.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1661 والاستفهام عنها هنا، هو تهويل لها، وليومها، وأنها مما لا تحيط العقول بكنهها.. وقوله تعالى: «يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ. وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ» .. هو خبر عن القارعة، أي هى يوم يكون الناس كالفراش المبثوث، وتكون الجبال كالعهن المنفوش.. أي فى هذا اليوم يكون الناس كالفراش المنتشر، فى انطلاقهم إلى الحشر، وفى حومهم حول النار كما يحوم الفراش.. وتكون الجبال فى هذا اليوم كالصوف المنفوش، أي الذي تفككت شعيراته بعضها عن بعض.. وقد عرضنا لهذا فى مبحث خاص «1» وقوله تعالى: «فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ» - المراد بثقل الموازين هنا هو اعتبار الأعمال، وإقامة وزن لها، حتى إذا وزنت كان لها رجحان على غيرها من الأعمال التي لا قدر لها ولا وزن، كما يقول سبحانه وتعالى عن أعمال الكافرين: «أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» (105: الكهف) لأن أعمالهم لا قيمة لها ولا قدر..، لأنها لم تقم فى ظل الإيمان بالله. فأصحاب الأعمال الحسنة التي رجحت بها موازينهم وارتفعت بها أقدارهم على الناس يومئذ، هم فى عيشة راضية، حيث ينعمون فى جنات عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين..   (1) انظر صفحة 549 الكتاب الرابع عشر من التفسير القرآنى. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1662 وفى وصف المعيشة بأنها راضية، مع أن الرضا إنما يكون لمن يعيشون فيها- فى هذا إشارة إلى أنها راضية فى ذاتها، بحيث تبدو وكأنها كائن حىّ قد اجتمع له كل ما يرضيه.. فهذه المعيشة قد اجتمع لها كل أسباب الرضوان لجميع الناس على اختلاف مطالبهم.. وقد عرضنا لهذا فى تفسير سورة «الحاقة» . قوله تعالى: «وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ. فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ. وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ. نارٌ حامِيَةٌ» وهؤلاء هم الكافرون الذين حبطت أعمالهم، فلم يكن لهم ولا لأعمالهم وزن- هؤلاء أمّهم. التي تضمهم إليهم، وتحنو عليهم، هى هاوية، حيث تهوى بأصحابها إلى قرار الجحيم.. إنها نار حامية، تأكل أهلها كما تأكل النار الحطب.. وفى جميع الموازين، إشارة إلى أن كل عمل من أعمال الإنسان له ميزانه الذي يوزن به، حسب قدره، وقيمة.. أما الميزان الذي توزن به الأعمال، فهذا مما استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه، ولا ينبغى لنا أن نتكلف له تصورا، وحسبنا أن نؤمن بأن هناك ميزانا توزن به الأعمال، وتتبين به قيمة كل عمل، صغر أو كبر.. أما هيئة هذا الميزان وكيفيته، وكيف توزن الأعمال به- فهذا مما يتولاه الله عنا، ولا شأن لنا به.. إنه سبحانه يحاسب، ويقضى، ويحكم، وهو أحكم الحاكمين. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1663 (102) سورة التكاثر نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة «الكوثر» .. عدد آياتها: ثمانى آيات.. عدد كلماتها: ثمان وعشرون كلمة.. عدد حروفها: مائة وعشرون حرفا.. مناسبتها لما قبلها الحديث فى هذه السورة، متصل بما قبلها من الحديث عن القيامة، وعما يذهل الناس عنها، ويشغلهم عن الإعداد لها.. وهو المال والتكاثر منه. بسم الله الرحمن الرّحيم الآيات (8- 1) [سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) التفسير: قوله تعالى: «أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ. حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ» .. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1664 أي أيها الناس، قد شغلكم التكاثر فى الأموال والمتاع، فقطعتم حياتكم فى جمع المال وكنزه، وفى تحصيل الجاه والسلطان، دون أن تلفتوا إلى ما يجمّل العقل، ويغذى الروح، ويكمل النفس.. «حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ» أي نزلتم فى قبوركم، وإنها ليست دار مقام لكم، وإنما هى إلمامة تلمّون بها، أشبه بالزائر يطرق مكانا، ثم يرحل عنه. وهكذا أنتم فى هذه القبور التي ستضمكم يوما.. إنها زورة، ثم تحوّلون عنها إلى الحياة الآخرة.. إنها منزل على الطريق إلى البعث، والحساب والجزاء.. فالخطاب هنا عام للناس جميعا، والمؤمنون منهم أولى بهذا الخطاب من غيرهم، إذ كان يرجى منهم أن ينتفعوا به، وأن ينظروا إلى أنفسهم نظرا مجدّدا على ضوئه. وقوله تعالى: «كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ» . وكلا، فليس هذا هو الموقف السليم الذي ينبغى أن يقفه الإنسان فى الحياة، وليس هو الطريق القويم الذي يحق له أن يسلكه.. فإن جمع المال للتلهى به، وإشباع شهوات النفس منه، وإرضاء غرورها بالتعالي والتشامخ على الناس، لا لكسب محمدة، أو قضاء حق لله أو للناس- هو ضلال ووبال.. وستعلمون حقيقة هذا لو أنكم نظرتم نظرا عاقلا مستبصرا، ثم كلا.. إنكم لم تحسنوا النظر، ولم تمعنوا الفكر، فما زال علمكم بما أنتم عليه من ضلال، علما لا يحرك شعورا، ولا يثير خاطرا، ولا ينزع بكم إلى أخذ اتجاه غير اتجاهكم.. فأعيدوا النظر، وجددوا البحث فى حالكم تلك، وسوف تعلمون.. وكلا.. فهذا العلم الجديد الذي علمتموه لا يعدّ علما، فما زلتم فى شك وريب من البعث والحساب م 105- التفسير القرآنى ج 30 الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1665 والجزاء، ولو كان علما عن يقين، لتغير حالكم، ولما كان هذا موقفكم فى الحياة.. فلو كنتم تعلمون علم اليقين «لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ» ، وأنتم فى هذه الدنيا، ولعلتم أن العذاب هو جزاء أهل الضلال، وأن العاقل ليرى جهنم فى الدنيا وكأنها ماثلة بين عينيه، فيتوقاها بالإيمان بالله، والعمل الصالح، ويخاف مقام ربه، ويخشى لقاءه بما يجنى من منكرات.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ» (18: فاطر) . وقوله تعالى: «ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ» أي لرأيتم الجحيم فى الدنيا رؤية علمية يدلكم عليها العقل، فكأنها ماثلة بين أعينكم.. ثم إنكم بعد ذلك: «لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ» أي رؤية بصرية، واقعية، حيث يشهدها كل من فى المحشر، ويراها رأى العين، كما يقول سبحانه: «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها» (71: مريم) وكما يقول جل شأنه: «وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى» (36: النازعات) وتوكيد جواب «لو» هنا لتحقق وقوعه مستقبلا.. وذلك لأن «لو» حرف يمتنع جوابها لامتناع شرطها.. وذلك محقق فى الماضي، لأن الشرط لم يقع، فامتنع لذلك وقوع الجواب.. فإذا جاء الشرط والجواب مضارعين، كان الحكم معلقا، فقد يقع الشرط فيقع تبعا لذلك الجواب، وقد لا يقع الشرط فلا يقع الجواب.. تقول لو جاء الضيف لأكرمته.. وهذا يعنى أن الضيف لم يجىء وبالتالى لم يقع إكرامه.. وتقول لو يجىء الضيف لأكرمنّه.. فالضيف لم يجىء بعد، وقد يجىء، فإذا جاء لم يكن بدّ من إكرامه.. والتوكيد للفعل هنا واجب، لأنه حلّ محل الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1666 فعل غلب أن يكون ممتنعا وقوعه، وهو جواب لو الماضي الذي يجىء أكثر ما يجىء فعلا ماضيا، فلزم توكيد الجواب هنا، ليقطع كل احتمال لامتناع وقوعه. وقوله تعالى: «ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ» . أي ثم إذ ترون الجحيم فى المحشر، تحاسبون على ما أنعم الله به عليكم من نعم، وأجلّها العقل، والرسول، والقرآن.. فمن رعى هذه النعم، وأدى واجب الشكر عليها، نجا من هذه النار، ونزل منازل المؤمنين فى الجنة، ومن كفر يهذه النعم، حرم نعيم الجنة، وألقى به فى عذاب الجحيم. (103) سورة العصر نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة الانشراح. عدد آياتها: ثلاث آيات. عدد كلماتها: أربع عشرة كلمة. عدد حروفها: ثمانية وستون حرفا. مناسبتها لما قبلها الإنسان الذي ألهاه التكاثر بالأموال، والتفاخر بالجاه والسلطان، دون أن يتزود للآخرة بزاد الإيمان والتقوى، هو هذا الإنسان الخاسر.. وأي خسران أكثر من أنه اشترى الدنيا بالآخرة؟ وهذا ما جاءت سورة العصر لتقرره.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1667 بسم الله الرحمن الرّحيم الآيات: (1- 3) [سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) التفسير: قوله تعالى: «وَالْعَصْرِ» . هو قسم بهذا الوقت من أوقات الزمن، وهو الساعات الأخيرة من النهار.. وقد أقسم الله سبحانه وتعالى بأجزاء من الزمن، كالفجر، والضحى، والليل، والنهار.. وفى القسم «بالعصر» تنويه بشأن هذا الوقت من الزمن، الذي تبدأ فيه الأحياء تجمع نفسها، وتعود إلى مأواها بما حصّلت وجمعت فى سعيها فى الحياة.. وإنه لجدير بالعاقل أن يحاسب نفسه على ما عمل فى يومه هذا، وما حصل فيه من خير، وما اقترف فيه من إثم.. إنه وقت محاسبة ومراجعة لأعمال اليوم، وتصحيح للأخطاء التي وقع فيها، فلا يستأنفها فى غده.. ولهذا كانت صلاة العصر هى الصلاة الوسطى- على ما جاءت به الأخبار الصحيحة، وقرره معظم أهل العلم- تلك الصلاة التي نوه الله سبحانه وتعالى بها، فقال تعالى: «حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى» (238: البقرة) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1668 وقوله تعالى: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ» . هو المقسم عليه، وهو جواب القسم.. والإنسان فى خسر، أي فى ضلال، لأنه لم يعرف قدره، ولم يرتفع بإنسانيته إلى المقام الذي أهّله الله سبحانه وتعالى له.. فلقد خلق الله سبحانه الإنسان فى أحسن تقويم، ولكن الإنسان لم يلتفت إلى هذا الخلق، ولم يقدره قدره، ولم يأخذ الطريق الذي يدعو إليه العقل، بل انقاد لشهواته، واستخف بإنسانيته، وتحول إلى عالم البهيمة، يأكل ويتمتع كما تأكل الأنعام.. ذلك هو شأن الإنسان فى معظم أفراده وأحواله.. وقليل هم أولئك الذين عرفوا قدر إنسانيتهم، وما أودع الله سبحانه وتعالى فيهم من قوى قادرة على أن ترتفع بهم إلى الملأ الأعلى، لو أنهم أحسنوا استعمالها، وهؤلاء هم الذين استثناهم الله سبحانه وتعالى بقوله: «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» . فهؤلاء هم الإنسان الكريم عند الله، الذي يلقاه ربه بالرضا والرضوان.. إنهم هم الذين آمنوا بالله، وعرفوا ما لله سبحانه وتعالى، من كمال وجلال.. فاستمسكوا بالحق، وهو الإيمان، وما يدعو إليه، وما ينهى عنه.. ثم تواصوا به فيما بينهم، فنصح بعضهم لبعض بالاستقامة عليه، والتمسك به، وفى هذا ما يقوّى من جبهة الحق، ويكثّر من أتباعه. وفى قوله تعالى: «وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» - إشارة إلى أن طريق الإيمان، والاستقامة على شريعته ليس أمرا هينا، فإن ذلك إنما يحتاج إلى معاناة وصبر على مغالبة الشهوات، وقهر دواعى الأهواء، ووساوس الشيطان.. فطريق الحق طريق محفوف بالمكاره، والصبر هو زاد الذين يسلكون طريقه، ويبلغون به غايات الفوز والفلاح.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1669 (104) سورة الهمزة نزولها: نزلت بمكة.. بعد سورة القيامة. عدد آياتها: تسع آيات. عدد كلماتها: ثلاث وثلاثون كلمة. عدد حروفها: مائة وثلاثون حرفا. مناسبتها لما قبلها فى سورة العصر أقسم الحقّ جلّ وعلا «بالعصر» على أن الإنسان فى خسر، مستثنيا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر. وفى هذه السورة (سورة الهمزة) عرض للإنسان الخاسر، ومن أبن كان خسرانه، وإلى أين يكون مصيره. بسم الله الرحمن الرّحيم الآيات: (1- 9) [سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1670 التفسير: قوله تعالى: «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ» . «الهمزة» هو الذي يهمز الناس، أي يؤذبهم بقوارص الكلم جهرة، فيخدش حياءهم، ويمتهن كرامتهم، ليزداد هو علوّا وتطاولا على الناس، ولتخفّ موازينهم إزاء ميزانه، فلا يرتفع أمامه رأس، ولا يشمخ أنف. و «اللمزة» هو الذي ينقص من أقدار ذوى الأقدار، فى غير مواجهتهم، إذ كان لا يستطيع أن يلقاهم وجها لوجه. فيشيع الفاحشة فيهم، ويذيع قالة السوء عنهم. فالهمز واللّمز غايتهما واحدة، وهى الحطّ من أقدار الناس، ومحاولة إنزالهم منازل الدّون فى الحياة.. وإن كان الهمز بأسلوب العلانية، واللمز بأسلوب السرّ والخفاء.. ومن كان من شأنه الهمز كان من شأنه اللمز كذلك، والعكس صحيح.. إذ هما ينبعان من طبيعة واحدة. وقوله تعالى: «الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ» هو من أوصاف هذا الهمزة اللّمزة، الذي توعّده الله سبحانه وتعالى بالويل والعذاب.. فأكثر الناس همزا ولمزا للناس، هو الذي يحرص على جمع المال، ويجعل هذا الجمع كلّ همّه فى الدنيا.. وإنه لكى ينفسح له طريق الجمع، ويخلو له ميدان الكسب، يحارب الناس بكل سلاح، فلا يدع فى الميدان الذي يعمل فيه إنسانا إلا طعنه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1671 الطعنات القاتلة متى أمكنته الفرصة فيه.. بالهمز حينا، وباللمز أحيانا. ثم إنه من جهة أخرى- إذ يجمع ما يجمع من مال- حريص على أن يدفع عن هذا المال كل عادية يراها بأوهامه وظنونه، فهو لشدة حرصه على ما جمع، يحسب أن كل الناس لصوص يريدون أن يسرقوه، أو قطاع طرق يتربصون به.. وهو لهذا يرمى الناس بكل سلاح، ويطعنهم بكل ما يقع ليده.. وكأنهم متلبسون بسرقة ماله الذي جمع!! ثم هو من جهة ثالثة، حريص على أن يقيم له من هذا المال الذي جمعه، سلطانا على الناس، لا بما ينفق عليهم منه فى وجوه الخير، ولا بما يمدّ به يده إليهم من معروف، بل بما يرى الناس من غناه وكثرة أمواله.. وهو لهذا يعمل على إعلاء نفسه بهدم غيره، والحطّ من منزلته.. وهذا هو الإنسان فى أسوأ أحواله، وأخسّ منازله.. إنه لا يسمو بذاتيته، ولا يرتفع بسعيه فى وجوه الخير والفلاح، بل إنه يرتفع على حطام الناس، ويعلو على جثث ضحاياه، الذين يريق دمهم بهمزه ولمزه. وهذا هو السرّ- والله أعلم- فى الجمع هنا بين الهمزة، اللّمزة، وجامع المال ومكتنزه. فالهمز واللمز، وإن كان طبيعة غالبة فى الناس من أغنياء وفقراء، إلّا أنه عند الذين همّهم كلّه هو المال، يعدّ سلاحا من الأسلحة العاملة لهم فى جمع المال، وفى حراسته، وفى التمكين لهم من التسلط على الناس به. وعدّد المال: جمع بعضه إلى بعض فى صفوف مترصّة، وفى صنوف متعددة، كل صنف منها يأخذ مكانا خاصّا به، فهذا ذهب، وذاك فضة، وذا جواهر ولآلىء، وتلك أنعام وزروع، ورياض، وهذه دور وقصور، وأثاث ورياش، إلى غير ذلك مما يعدّ من عالم المال، ويحسب بحسابه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1672 وقوله تعالى: «يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ» جملة حالية تكشف عن ظنون هذا الإنسان وأوهامه، وهو أنه على ظنّ من أن هذا المال الذي جمعه، سيخلّده، ويمدّ له فى الحياة، وأنه بقدر ما يستكثر من المال بقدر ما يكون له من بقاء فى هذه الدنيا.. هكذا شأن الحريصين على المال، الذين اتجه همهم كلّه إلى جمعه.. إنهم لا يذكرون الموت أبدا، ولا يغشون مكانا يذكّرهم به، ولا يستمعون إلى حديث يذكر فيه.. إن الموت عندهم هو عدوّ قد قتلوه بأمانيّهم الباطلة، وأراحوا أنفسهم منه، فما لهم والحديث عنه؟ وما لهم وما يذكّرهم به؟ وقوله تعالى: «كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ» . أي كلّا، إنه فى وهم خادع، وفى ضلال مبين، إذ يحسب أن المال يخلّد صاحبه ويمدّ له فى العمر.. وكلا إنه سيموت، وسيبعث، وسينبذ أي يرمى فى الحطمة، أي جهنّم، التي تحطمه حطما، وتدقّه دقّا، وتهشمه هشما.. ونبذ الشيء: طرحه فى غير مبالاة، هوانا له واستخفافا به.. كما تنبذ النواة من النمرة بعد أن تؤكل. وقوله تعالى: «وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ؟ نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ» . استفهام عن الحطمة، يلفت النظر إليها، ويدير العقل للبحث عن حقيقتها.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1673 وجواب يجيب عن هذا السؤال، ليكشف عن حقيقة هذه الحطمة، ليلتقى مع ما وقع فى النفس من تصورات لها، فتزداد حقيقتها وضوحا وبيانا. إنها نار الله الموقدة.. قد أوقدها الله فكانت نار لله، وليست من تلك النار التي يوقدها الناس!. وقوله تعالى: «الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ» . أي أنها نار ذات شأن عجيب، ليس فى نار الدنيا شىء من صفاتها وآثارها.. إنها تطلع على الأفئدة، أي أنها لا تتسلط على الأجسام وحسب، بل إنها تتسلط كذلك على المشاعر والوجدانات، فتشتعل بها المشاعر، ونحترق بها الوجدانات.. وقد يكون فى هذا ما يشير- والله أعلم- إلى أن عذاب أهل النار نفسىّ، أكثر منه مادىّ. وقد قيل إن معنى الاطلاع على الأفئدة، هو أن هذه النار العجيبة تعرف أهلها، وكأنّها اطلعت على سرائرهم، وما عملوا من منكرات، فتدعوهم إليها، وتمسك بهم، وتشتمل عليهم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعى» (17- 18 المعارج) وقوله سبحانه: «إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً» (12: الفرقان) . قوله تعالى: «إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ. فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ» . أي أن هذه النار مؤصدة، أي مغلقة على أهلها، مطبقة عليهم، لا يجدون لهم فيها منفذا إلى العالم الخارجي.. أما هم، فهم مشدودون إلى عمد ممددة، قد شدت أغلالهم إليها.. فهم بهذه القيود فى سجن، داخل هذا السجن! الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1674 وقد قلنا فى غير موضع إن هذه الأوصاف التي توصف بها أدوات العذاب، فى النار، وتلك الأوصاف التي توصف بها ألوان النعيم فى الجنة، هى مما فتمثله فى الدنيا، ونرى مشابه منه كما نطق به القرآن الكريم، أما كنه هذه الأشياء وحقيقتها، فلا يعلمها إلا الله، سبحانه، وعلينا أن نصدق بها كما وردت، دون أن نبحث عن صفاتها، وحدودها (105) سورة الفيل نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة «الكافرون» . عدد آياتها: خمس آيات. عدد كلماتها: ثلاث وعشرون كلمة. عدد حروفها: ثلاثة وتسعون حرفا. مناسبتها لما قبلها فى سورة «الهمزة» عرض لمن جمع المال، واتخذ منه سلاحا يغمز به الناس، ويهمزهم، ويمزق أديمهم، ويزبل وجودهم الإنسانى بين الناس.. وسورة «الفيل» تعرض لجماعة من تلك الجماعات، التي اجتمع ليدها قوة من تلك القوى المخيفة، هى الفيل، الذي يشبه قوة المال فى طغيانه، حين يجتمع ليد إنسان جهول غشوم، طاغية، فيتسلط على الناس، كما يتسلط صاحب الفيل على صاحب الحمار، أو الحصان، مثلا.. فكان عاقبة صاحب هذا الفيل الهلاك والدمار، كما كان عاقبة صاحب هذا المال، الذلّ والخزي، والخسران.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1675 بسم الله الرحمن الرّحيم الآيات: (1- 5) [سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) التفسير: فيما يحدث به التاريخ، وتتوارد عليه الأخبار الصحيحة، تلك الحادثة التي تسمى حادثة الفيل، والتي أرخ بها العرب الجاهليون، كما كانوا يؤرخون بالأحداث العظيمة، التي تقع لهم فى مسيرة حياتهم.. فاتخذوا عام الفيل مبدأ لمرحلة من مراحل التاريخ عندهم.. وحادثة الفيل- كما تروى كتب التاريخ والسير- كانت عام ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم.. وأن مسرحها كان مكة، البلد الحرام، وأن مقصدها كان هدم الكعبة والبيت الحرام! قيل إن قائدا حبشيا اسمه «أبرهة» ، كان قد غلب على اليمن، ثم رأى تعظيم العرب للكعبة، وإقبالهم عليها، وتمسحهم بها، فأراد أن يجعل وجهة العرب إليه، فبنى بنيّة، أراد بها أن يحج العرب إليها، وأن ينصرفوا عن الكعبة.. فلما لم يجد منهم استجابة لدعوته، ولا التفاتا إلى بنيته، قرر أن يهدم الكعبة، ويزيل معالمها، حتى لا يكون للعرب متجه إليها، فيخلو بذلك وجههم لهذه البنية التي بناها.. فسار يجيش كثيف، يتقدمه فيل عظيم، كان الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1676 عدة له من عدد الحرب التي يرهب بها أعداءه.. فلما سمعت قريش بمقدم أبرهة بهذا الفيل الذي يتهددهم به، فزعت، وهالها الأمر.. قالوا: ونزل أبرهة بجيشه وفيله بمكان اسمه «المغلّس» على مشارف مكة، وحط رحاله هناك، استعدادا لدخول مكة، وهدم الكعبة.. ثم إنه استدعى إليه صاحب كلمة قريش يومئذ، وكان عبد المطلب بن هاشم، جدّ النبي.. فجاء إليه، فكلمه أبرهة فيما جاء له، وأنه لا يريد شرا بالناس، وإنما جاء ليهدم الكعبة، فإن أخلت قريش بينه وبين الكعبة لم يعرض لهم بسوء، وإلا فقد عرفوا ما سوف ينزل بهم من بلاء!! فقال له «عبد المطلب» : دونك وما تشاء.. ولكن ردّ إلينا ما احتواه جيشك من أموالنا.. وكان جيش أبرهة قد ساق كل ما صادفه فى طريقه من إبل وشاء، وعبيد، مما كان على مواقع المراعى لقريش.. فقال أبرهة: أحدثك فى شأن الكعبة، وتحدثنى عن الإبل والشاء؟ أترى هذه الأنعام أكرم عندكم وأغلى من هذا البيت الذي تعظمونه؟ فقال «عبد المطلب» هذه الأنعام لنا، أما البيت فله ربّ يحميه!! قالوا: ودعا عبد المطلب قريشا إلى أن يخرجوا من مكة إلى شعابها، وجبالها، وأن يدعوا أبرهة والبيت الحرام.. وفى صبيحة اليوم الذي تأهب فيه أبرهة لدخول البلد الحرام، فشا فى جيشه الجدري، فهلك الجيش جميعه. قالوا، وكان ذلك أول عهد العرب بهذا الداء، الذي لم تعرفه من قبل.. وقالوا: إن هذا الداء كان يهرى جسد من يلمّ به، حيث يتناثر لحمه، ويتساقط، قطعا قطعا، كما تتساقط الرمم المتعفنة.. وهكذا قضى على الجيش كله، ولم تبق منه إلا تلك الأشلاء الممزقة، المتناثرة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1677 والقرآن الكريم، لا يشير إلى هذا الداء- داء الجدري- الذي يقال إنه هو الذي هلك به أبرهة وجيشه، وإنما يتحدث عن طير أبابيل، رمت القوم بحجارة من سجيل، فجعلتهم كعصف مأكول، كما يقول سبحانه: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ» وهو استفهام تقريرى تنطق به الحال المشاهدة.. والتضليل: الضياع، والخيبة، والبوار.. وقوله تعالى: «وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ» .. الأبابيل: الجماعات، والأسراب التي يتبع بعضها بعضا.. وقوله تعالى: «تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ..» . أي أن هذه الأسراب من الطير كانت ترمى القوم بحجارة من سجيل.. وهذه الحجارة لا يدرى حقيقتها إلا الله سبحانه وتعالى، والأوصاف التي يصفها بها المفسرون والمحدّثون لا ينبغى الوقوف عندها.. وهل يسأل عن عصا موسى وكيف كانت تنقلب حية؟ وعن يد عيسى وكيف كانت تبرئ الأكمه والأبرص، وعن كلمته، وكيف كانت تحيى الموتى؟ .. إنها آيات من عند الله، وآيات الله، وإن لبست فى الظاهر صورا حسية، فإن فى كيانها أسرارا لا يعلمها إلا علام الغيوب.. وهذه الطير، هى طير، والذي كانت تحمله وترمى يه القوم، هو حجارة من سجيل.. أما جنس هذا الطير، وصفته، وأما الأحجار وصفتها فذلك ما لا يعلمه إلا الله، والبحث عنه رجم بالغيب.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1678 هذا، ويطلق الطير على كل ما طار بجناحين، سواء أكان بعوضا، أم ذبابا، أم نسورا، وعقبانا.. والسجيل: الحجارة الصلدة، وأصل السجيل، الطين المطبوخ. والعصف: الكمّ الذي يضم الحب فى كيانه، كحب القمح، والشعير، ونحوه.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ» . والعصف المأكول: أي الذي أكل منه الحب، وبقي هذا القشر الرقيق الذي كان يغلّقه.. ولا شك أن هذا الذي أخذ الله سبحانه وتعالى به هذا الطاغية الذي جاء ليهدم بيت الله، هو آية من الآيات الدالة على ما لهذا البيت عند الله من حرمة، وأنه بيته على هذه الأرض، الذي كان أول بيت وضع للناس، وسيكون آخر بيت يبقى على وجه الأرض.. وأنه لا يزول حتى تزول معالم الحياة من هذا العالم.. ثم إن وقوع هذه الآية مع مطلع ميلاد النبي، هو آية من آيات الله، على ما لرسول الله عند ربه من مقام كريم، فلا ينزل سوء ببلد هو فيه.. إنه صلوات الله وسلامه عليه- رحمة حيث كان.. رحمة للناس، وبركة على المكان والزمان.. فرحم الله قومه، وأكرمهم من أجله، فلم ينزل به ما نزل بالأقوام الضالين الذين عصوا رسلهم، بل عافاهم الله سبحانه من هذا البلاء وأخذ بهم إلى طريق الهدى والإيمان. وكذلك فعل سبحانه بالبلد الحرام، مطلع نبوته، ومبدأ رسالته، فحماها من كل سوء، ودفع عنها كل مكروه.. فى ماضيها، وحاضرها ومستقبلها، وستبقى هكذا إلى يوم الدين، البيت المعمور، الذي تتجه إليه أبدا قلوب الأمة الإسلامية ووجوهها. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1679 (106) سورة قريش نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة التين.. عدد آياتها: أربع آيات.. عدد كلماتها: تسع عشرة كلمة.. عدد حروفها: ثلاثة وسبعون حرفا.. مناسبتها لما قبلها أشارت سورة «الفيل» إلى هذه المنّة العظيمة التي امتن بها الله سبحانه وتعالى على «قريش» إذ دفع عن بلدهم الحرام، وعن بيته الحرام هذا المكروه، وردّ عنهم هذا البلاء، وأخذ المعتدى على حرمة هذا البيت أخذ عزيز مقتدر.. وبهذا وجدت قريش فى هذا البلد أمنها، ووجدت فى جوار البيت الحرام حماها، وصار لها فى قلوب العرب مكانة عالية، وقدر عظيم، لا يستطيع أحد أن يحدّث نفسه بسوء ينال به أحدا من أهل هذا البلد الحرام، وقد رأى ما صنع الله بمن أراد به أو بأهله سوءا.. وجاءت سورة «قريش» بعد هذا، وكأنها تعقيب على حادثة الفيل، ونتيجة لازمة من نتائج هذه الحادثة.. ولهذا وصل كثير من العلماء هذه السورة بسورة الفيل، وجعل اللام فى قوله تعالى: «لِإِيلافِ قُرَيْشٍ» لام تعليل، متعلقا بقوله تعالى «فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ» .. أي جعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش.. كما سنرى ذلك بعد.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1680 بسم الله الرحمن الرّحيم الآيات: (1- 4) [سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) التفسير: الإيلاف: من التأليف، والجمع، فى تجانس وألفة، ومودة.. فقوله تعالى: «لِإِيلافِ قُرَيْشٍ» أي لأجل أن تألف قريش رحلة الشتاء والصيف، ولكى تعتاد تنظيم حياتها على هاتين الرحلتين- كان هذا الذي صنعه الله بهذا العدوّ صاحب الفيل، الذي جاء يبغى إزعاجهم عن البلد الحرام، ونزع ما فى القلوب من مكانة لهم، وتعظيم لشأنهم، باعتبارهم سدنة البيت الحرام الذي كانت تعظمه العرب، وتعظم ساكنيه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» (25: الحج) . وقوله تعالى: «إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ» .. هو بدل من قوله تعالى: «لِإِيلافِ قُرَيْشٍ» .. أي لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف، كان هذا الذي فعلناه بهذا العدو المغير الذي جاء يزعج أهل هذا البلد الآمن.. فكانوا فى رحلتيهم التجاربتين، فى الشتاء والصيف، فى أمن وسلام، لا يعرض لهم أحد «م 106 التفسير القرآنى ج 30» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1681 بسوء، فحيث نزلوا وجدوا الألفة والمودة من كل من يلقاهم، ويعرف أنهم أهل هذا البلد الحرام.. فقوله تعالى: «رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ» مفعول به للمصدر «إيلافهم» . وقد كان لقريش رحلتان للتجارة.. رحلة فى الشتاء، إلى اليمين، ورحلة فى الصيف، إلى الشام.. والذي يعرف الحياة الجاهلية، وما كان يعرض للمسافرين فى طرقها وشعابها من أخطار، وما يترصدهم على طريقهم من المغيرين وقطاع الطرق، يدرك قيمة هذا الأمن الذي كان يصحب قريشا فى قوافلها المتجهة إلى اليمن أو الشام، محملة بالأمتعة، والبضائع، دون أن يعرض لها أحد.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ» (67: العنكبوت) ولهذا جاء قوله تعالى: «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ» - جاء تعقيبا على هذه النعمة العظيمة التي أنعمها الله على قريش، وجعل من حقّ شكرها أن يعبدوا رب هذا البيت، فهو- سبحانه- الذي حفظه لهم مما كان يراد به من سوء، وحفظ عليهم أمنهم وسلامتهم فيه.. فلقد أطعمهم الله سبحانه من جوع، بما فتح لهم من طرق آمنة يغدون فيها ويروحون بتجاراتهم، وألبسهم لباس الأمن حيث كانوا، داخل هذا البلد الحرام أو خارجه.. وإنه لا أجلّ من نعمة الأمن بجده الإنسان وسط غابة، تزأر فيها الأسود، وتعوى الذئاب! وفى إضافة البيت إلى الله سبحانه وتعالى، تشريف لهذا البيت، ورفع لقدره وتنوبه به.. فالله سبحانه وتعالى، هو رب هذا البيت، ورب كلّ شىء فى هذا الوجود، ولكن إضافة هذا البيت وحده إلى ربوبيته سبحانه وتعالى، تجعل لهذا البيت الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1682 شأنا غير شأن عوالم المخلوقات كلّها.. فهل يعرف المشركون قدر هذا البيت؟ وهل يحفظون حرمته، ويرعونها حق رعايتها؟ وقد أشرنا من قبل- فى تفسير سورة القدر- إلى أن الله سبحانه وتعالى لم يضف إلى ذاته سبحانه فى مقام القسم- من عالم البشر غير النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذه الإضافة، تضع النبي- صلوات الله وسلامه عليه- فى كفة، وعالم المخلوقات كلها فى كفة، وأن كفته ترجح كفة المخلوقات جميعها، فى سمائها وأرضها، وما فى سمائها وأرضها. ونقول هنا، إن الله سبحانه لم يضف إلى ذاته الكريمة- فى مقام الربوبية- بيتا، غير هذا البيت الحرام..َبَّ هذَا الْبَيْتِ» .. وهذا يعنى أن هذا البيت، يرجح فى ميزانه بيوت الله جميعها. (107) سورة الماعون نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة التكاثر. عدد آياتها: سبع آيات.. عدد كلماتها: خمس وعشرون كلمة.. عدد حروفها: مائة وخمسة وعشرون حرفا.. مناسبتها لما قبلها جاء فى سورة «قريش» تنويه عظيم بشأن الشّبع من الجوع، والأمن من الخوف، حيث لا حياة بغير طعام، ولا طعم لحياة بغير أمن! وجاءت سورة «الماعون» لتضرب- والحديد ساخن- كما يقولون- على أوتار هذه القلوب الجافية، ولتهزّ تلك المشاعر الجامدة، التي عرفت طعم الشّبع بعد الجوع، وذاقت هناءة الأمن بعد الخوف، حتى تندّ بالمعروف، وتسخو بالخير، قبل أن تنسى لذعة الجوع، ورعدة الخوف. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1683 بسم الله الرحمن الرّحيم الآيات: (1- 7) [سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) التفسير: «أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ؟» . خطاب للنبى، صلوات الله وسلامه عليه، ولكل من هو أهل للخطاب، ولتلقّى العبرة والعظة منه.. والاستفهام هنا يراد به إلفات الأنظار والعقول إلى هذا الإنسان الذي يكذب بالدين.. إنه إنسان عجيب، لا ينبغى لعاقل أن يفوته النظر إلى هذا الكائن العجيب وتلك الظاهرة النادرة! ففيه عبرة لمن يعتبر، وفيه ملهاة لمن يريد أن يتلّهى.. والدين: هو الدينونة، أي الحساب والجزاء فى الحياة الآخرة.. والذين يكذبون بالدينونة، والبعث، والحساب، والجنة، والنار، لا يؤمنون بالله، وإن آمنوا به فهم لا يوقرونه، ولا يعرفون قدره. ومن هنا فهم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1684 لا يعلمون حسابا للقاء الله، ولا يقدّمون شيئا لليوم الآخر، فإنّ من خلت نفسه من شعور الثواب أو العقاب من الجهة التي يتعامل معها، فإنه لا يلقاها إلا فى تراخ وفتور، وعدم مبالاة. وقوله تعالى: «فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ» . الفاء واقعة فى جواب شرط مقدر، يدل عليه الاستفهام فى قوله تعالى: «أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ» ؟ أي إذا لم تكن رأيته، فها هو ذا، فانظر إليه، وشاهد أحواله، فهو ذلك الذي يدعّ اليتيم.. والإشارة مشاربها إلى هذا الذي يكذب بالدين.. إنه ذلك الذي «يَدُعُّ الْيَتِيمَ» أي يقهره، ويذله، وينزع عنه لباس الأمن والطمأنينة إذا وقع ليده، وعاش فى ظله.. إن اليتيم ضعيف، عاجز، أشبه بالطير المقصوص الجناح، يحتاج إلى اللطف، والرعاية، والحنان.. فإذا وقع ليد إنسان قد خلا قلبه من الرحمة، وجفت عواطفه من الحنان والعطف- كان أشبه بفرخ الطير وقع تحت مخالب نسر كاسر، فيموت فزعا وخوفا، قبل أن يموت تمزيقا ونهشا.. وقوله تعالى: «وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ» . أي لا يدعو إلى إطعام المسكين، ولا يجعل من رسالته فى الناس إطعام الجياع.. فإن من لا يحمل همّ الجياع، ولا يدعو الناس إلى إطعامهم، لا يجد من نفسه الدافع الذي يدفعه إلى إطعامهم من ذات يده.. ذلك أن الذي يعرف عنه فى الناس أنه يحضّ على هذه المكرمة وينادى بها فيهم- يستحى أن يدعو إلى فعل ولا يفعله.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1685 وإنك لن تجد بخيلا أبدا يدعو إلى الإحسان، لأن كلمة الإحسان تفزعه، حتى لو نطق بها زورا ويهتانا.. فإذا دعا داع إلى الإحسان كان معنى هذا أنه يمكن أن يكون فى المحسنين يوما ما.. وهذا هو السرّ فى احتفاء القرآن الكريم بالحضّ على فعل المكارم، فمن حضّ على مكرمة، وجعلها دعوة له، كان قمينا بأن يكون من أهلها عملا، بعد أن كان من دعاتها قولا.. وإذا جاز لإنسان أن يدعّ اليتيم، ويزعج أمنه، أو يضن على جائع بلقمة يتبلغ بها- وهو غير جائز، ولا مقبول على أي حال- فإنه لا يجوز ولا يقبل أن يكون ذلك من أحد من قريش، الذين أطعمهم الله من جوع، وآمنهم من خوف، من بين العرب جميعا.. إنهم يشهدون ذلك فى كل لحظة من لحظات حياتهم: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ» (67: العنكبوت) . وقوله تعالى: «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ» . مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أن الصلاة فى حقيقتها نور يضىء ظلام القلوب، ويجلّى غشاوة النفوس، لأنها أوثق الصلات التي تصل العبد بربه، وتقرّبه منه، وتعرضه لنفحات الرحمة، فتشيع فى كيانه الحب والحنان، حيث يضفيهما على عباد الله، وخاصة الضعفاء والفقراء، الذين وصّى الله سبحانه وتعالى يهم الأقوياء والأغنياء، واسترعاهم إياهم. والصلاة لاتثمر هذا الثمر الطيب، ولا تؤتى هذا الأكل الكريم، إلا إذا كانت خالصة لله، يشهد فيها المصلّى جلال خالقه، وعظمة ربه.. وذلك الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1686 لا يكون حتى تصدق النية، وتخلص الرغبة، ويعظم اليقين فى لقاء الله، والثقة فى أنّ من يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره. والذين يسهون عن الصلاة، أي يغفلون عنها، ولا يشغلون أنفسهم بها، وبانتظار أوقاتها ليهيئوا أنفسهم لها، ويعدوها للقاء الله فى محرابها- هؤلاء ليسوا مصلين فى الحقيقة، وإن ركعوا، وسجدوا، لأن صلاتهم تلك إنما تقع عفوا، وتجىء حسب ما اتفق، كأن يكونوا فى جماعة، وقد أذّن المؤذن للصلاة، فيمنعهم الحياء، أو الخوف من قالة السوء فيهم أن تصلى الجماعة ولا يصلون، أو أنهم يصلون فى الأوقات التي لا يشغلهم فيها شىء، ولو كان تافها. أما إذا شغلهم عمل، أو لهو، فلا يذكرون الصلاة، ولا يؤثرونها على ما بين أيديهم من عمل، أو لهو، حتى لكأن الصلاة نافلة من نوافل الحياة، لا قدر لها ولا وزن! فهذا هو السهو، وهؤلاء هم الساهون عن الصلاة الذين توعدهم الله سبحانه وتعالى بالويل، لأنهم يراءون الناس، وينافقونهم أو ينافقون أنفسهم بها، وهم لهذا لا ينتفعون بالصلاة، فلا يأتمرون منها بمعروف، ولا ينتهون بها عن منكر.. وقوله تعالى: «وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ» . الماعون: من العون، وهو ما يجد فيه الإنسان عونا على ما يلمّ به من حاجة وعوز.. والمراد بالماعون هنا الزكاة، لأنها أوسع الأبواب، وأجداها فى إسداء العون، للفقير، والمسكين، وابن السبيل.. فالويل إنما يتجه الوعيد به هنا، إلى الذين لا يقيمون الصلاة على وجهها، ولا يؤدّون الزكاة على تمامها وكمالها، طيبة بها أنفسهم، منشرحة بها صدورهم.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1687 فهم يمنعون الزكاة ما استطاعوا منعها، ويؤدونها إذا قام عليهم سلطان قاهر، يرصد أموالهم، ويستخرج منها زكاتهم، كما يستخرج رجال الأمن المال المسروق من جيب السارق!! وفى قوله تعالى: «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ» - وفى جعل هاتين الكلمتين آية ذات دلالة مستقلة، مستوفية أركان الجملة المفيدة من مبتدأ وخبر- فى هذا إعجاز من إعجاز البلاغة القرآنية، حيث تهزّ هاتين الكلمتين أقطار النفس، وتستثير دواعى الفكر، حين يجد المرء نفسه بين يدى هذه الحقيقة الغريبة المذهلة: «ويل للمصلين» !! وكيف يكون الويل للمصلين، والصلاة عماد الدين، وركنه المتين، وعليها يقوم بناؤه، وبها تشتد أركانه، وتثبت دعائمة؟ أهذا ممكن أن يكون؟ ويجىء الجواب نعم! وكيف؟ إنها صلاة الساهين عنها، المستخفين بها، الذين يأتونها رياء ونفاقا.. وإن الذين لا يؤدون الصلاة أصلا، ممن يؤمنون بالله، لهم أحسن حالا، من هؤلاء المصلين المرائين، لأن الذين لا يؤدونها أصلا، لم يتعاملوا بالصلاة بعد، ولم يزنوها بهذا الميزان البخس، ولو أنهم صلّوا فقد يقيمونها على ميزان يعرف قدرها، ويبين عن جلالها، وعظمة شأنها.. أما الذي يصلى ساهيا عن الصلاة متغافلا عنها، مستخفّا بها- فقد بان قدر الصلاة عنده ووزنها فى مشاعره.. وهو قدر هزبل، ووزن لا وزن له، ومن هنا كان جزاؤه هذا الوعيد بالويل والعذاب الشديد.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1688 (108) سورة الكوثر نزولها: مكية نزلت بعد سورة العاديات عدد آياتها: ثلاث آيات عدد كلماتها: عشر كلمات عدد حروفها: اثنان وأربعون حرفا مناسبتها لما قبلها فى سورة «الماعون» ، توعد الله الذين لا يقيمون الصلاة، ولا يؤدّون الزكاة لأنهم مكذبون بالدين، غير مؤمنين بالبعث والحساب، والجزاء- توعد الله سبحانه هؤلاء، بالويل والهلاك، والعذاب الشديد فى نار جهنم.. وفى مقابل هذا، جاءت سورة الكوثر تزفّ إلى سيد المؤمنين بالله واليوم الآخر، هذا العطاء الجزيل، وذلك الفضل الكبير من ربه.. ومن هذا العطاء، وذلك الفضل، ينال كلّ مؤمن ومؤمنة نصيبه من فضل الله، وعطائه على قدر ما عمل.. بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 3) [سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1689 التفسير: الكوثر: مبالغة فى الكثرة، والمراد بالكثرة هنا، الكثرة فى العطاء من الخير والإحسان، والخطاب هنا للنبى صلوات الله وسلامه عليه. والمراد بهذا الخبر هو التنويه بمقام النبىّ الكريم عند ربه جلّ وعلا، وبرضاه عنه، ذلك الرضا الذي لا حدود له، والذي تملأ القطرة منه وجوه الوجود، بشاشة، ومسرّة، وإسعادا.. وفى إطلاق لفظ الكوثر، دون قيده بنوع، أو قدر- إشارة إلى تناوله كل ما هو خير، وبلوغه إلى ما لا يعرف له نهاية أو حدّ، كما أنه إشارة أخرى إلى أنه خير، وخير مطلق، مصفّى من كل شائبة، خالص من كل كدر.. ذلك أنه عطاء، والعطاء لا يكون إلا مما هو خير، وإحسان، فكيف إذا كان عطاء من يد الله سبحانه وتعالى؟ .. إن صفة هذا العطاء هى من صفات المعطى جلّ وعلا.. فلا تسل بعد هذا ما يكون هذا العطاء! «هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ» .. وإنه لحسب المؤمن إذا دعا ربه أن يقول: «اللهم أعطنى، ولا تحرمنى» .. فإذا الله دعاءه، فليسعد السعادة كلها بما أعطى من عطاء ربه! فاللهم أعطنا ولا تحرمنا، واللهم استجب لنا ولا تردنا، فأنت خير من أعطى، وأكرم من سئل.. ولعلك تسأل: وماذا أعطى النبي الكريم؟. لقد أعطى الله سبحانه وتعالى النبي الكريم خير ما أعطى عبدا من عباده.. وحسبه أنه خاتم النبيين، وحسبه القرآن الذي كمل به دين الله، وتمت به شريعته، وحسبه الدعوة التي قام عليها، وبلغ بها غايتها، وأقام بها دين الله فى الأرض، وغرس مغارسه فى مشارقها ومغاربها.. وحسبه أن رفع الله الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1690 تعالى ذكره فى العالمين إلى يوم الدين. وحسبه أن أسرى به مولاه إلى السموات العلا، واستضافه فى الملأ الأعلى، وأراه من آيات ربه الكبرى.. «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ، وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ» .. «أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى، وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى» .. «وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً» (113: النساء) .. «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى» .. هذا بعض ما أعطى الله سبحانه نبيّه الكريم، وإنّ عطية واحدة من هذه العطايا لنملأ الدنيا كلها خيرا وبركة، وتسع الناس جميعا سعادة ورضا! وهذا هو ميزان الرسول الكريم عند ربه، دون الناس جميعا.. وإنه ميزان ليرجح كل ما أعطى الناس من جزيل عطايا الله سبحانه وتعالى ومننه.. فكل ما أعطى الناس بعد هذا، أو قبل هذا، من مال وبنين، ومن علم ومعرفة، ومن هدى ونور، وكل ما أصابوا من خير مادى أو معنوى- هو من بعض هذا الذي أعطى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.. فما أعظم هذا الغنى وما أطيبه، وما أبقاه وأخلده.. «وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى» (131: طه) وهل يلتفت رسول الله بعد هذا إلى ما عند الناس مما رزقهم الله من مال وبنين؟ وهل يرى شيئا من حطام الدّنيا يجرى مع هذا الذي أعطاه الله، ويأخذ له مكانا فيه؟ وهل تشتهى نفس بين يديها مائدة حافلة بطيب الطعام، وصنوف المآكل، إلى فتات فى مزبلة يتداعى عليها الذباب؟ وقوله تعالى: «فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ» . الفاء هنا للسببية، والتعقيب على هذه البشرى المسعدة التي شرح سبحانه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1691 وتعالى بها صدر النبي الكريم، وملأ قلبه بها سعادة ورضا.. وإذن فليشكر ربّه، وليسبح بحمده، عرفانا بهذا العطاء الجزيل، وتقديرا لقدره.. والصلاة، هى أفضل القربات إلى الله، وأعظم وسائل الزّلفى إليه، والولاء له.. واللام فى قوله تعالى: «لربك» لام الملكية، أي صل الصلاة لله وحده، واجعلها خالصة له سبحانه، لا يدخل عليها شىء من الغفلة، أو الاشتغال بغير الله.. وقوله تعالى: «وانحر» أي أطعم الفقراء والمساكين.. فهذا من الزكاة التي هى أخت الصلاة.. وقد اختلف المفسرون فى هذه الصلاة: أهي صلاة عيد الأضحى، أم هى الصلاة على إطلاقها.. وكذلك اختلفوا فى النحر، وهل هو ما ينحر من الأضاحى، يوم عيد النحر، بعد الصلاة، أم هو النحر إطلاقا؟ والأولى عندنا أن تكون الصلاة مطلقة، لا يراد بها صلاة عيد الأضحى، بل المراد بالأمر بها المداومة عليها ولو كانت صلاة عيد الأضحى، لخفّ فى مقابلها وزن هذا العطاء الجزيل الذي أعطاه الله نبيه، فى قوله تعالى: «إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ» .. فصلاة عيد الأضحى ركعتان لا غير فى كل عام.. ثم إن صلاة العيد هذه ليست فرضا، وإنما هى سنة!! فهل هاتان الركعتان تتوازنان مع هذا العطاء الجزيل، وهل يقومان بواجب الشكر عليه؟ فالمراد بالصلاة إذن هى الصلاة مطلقة فى فرائضها، وسننها.. ونوافلها.. وهى صلاة تكاد تكون مستغرقة معظم الأيام والليالى مدى العمر.. وهذا ما يمكن أن يكون فى مقام الحمد والشكر على ما أعطى النبي الكريم من ربه، هذا العطاء الجليل الكثير، الذي لا حدود له.. وعلى هذا، فالقول بأن المراد بالنحر، هو نحر الأضحية بعد صلاة العيد، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1692 قول متهافت، وأولى منه أن يراد به مطلق النحر، وأن يراد بمطلق النحر، إطعام الفقراء والمساكين، وأن يراد بإطعام الفقراء والمساكين الزكاة، إذ كان من بعضها ما يطعم منه الفقراء والمساكين.. وعبّر عن إطعامهم بما ينحر من ذبائح، لأن ذلك خير ما يطعمونه إذ كان اللحم هو الطعام الذي يتشهاه الفقراء والمحرمون، ولا يجدون سبيلا إليه، وإن وجدوا السبيل إلى لقمة العيش!! وقوله تعالى: «إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ» . الشانئ: هو المبغض، والمعادى، والمتجنب لمن يبغضه ويعاديه.. والأبتر: المنقطع عن كل خير، المحروم من كل ما فيه غناء ونقع.. وشانىء النبىّ، هو المكذّب له، الكافر بما يدعو إليه من الإيمان بالله، واليوم الآخر، والعمل الصالح الذي يرضى الله، ويقرّب العبد من رحمته، فيخلص بهذا من عذاب الآخرة، وينجو من أهوالها وشدائدها.. وشانىء النبي، محروم من كل خير، منقطع عن موارد الهدى والنور، فهو إلى ضياع وهلاك، وإلى عذاب جهنم خالدا فيها أبدا.. إن شانىء النبي ومبغضه مصروف عن الإيمان بالله، واليوم الآخر.. وحسبه بهذا هلاكا وضياعا، وحرمانا من كل خير.. هذا هو حظ شانىء النبي ومبغضه، فى كل زمان ومكان.. إنه البعد عن كل خير، والحرمان من كل طيّب، ثم العذاب الأليم فى نار جهنم.. والروايات التي تحدّث عن أن هذه السورة نزلت فى العاص بن وائل، أو عقبة بن أبى معيط، أو أبى جهل، أو أبى لهب، وأنهم كانوا يعيّرون النبي صلى الله عليه وسلم بموت ولديه، القاسم، وعبد الله، وأنه لا نسل له غير هما من الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1693 الذكور، وأن عقبه قد بتر وانقطع- هذه الروايات إن دلت على شىء، فإنما تدل على أن نزول هذه السورة الكريمة، كان فى هذا الوقت الذي تتحدث به قريش بهذا الحديث المنكر، وأن ذلك كان مناسبة جاءت فى وقتها، لا أن هذا الحديث كان سببا باعثا لنزولها، إذ كانت محامل السورة أعظم قدرا، وأكبر شأنا، من أن تلتقى مع هذا الحديث عن الولد، وحفظ النسل به، وإن كان ذلك مما تعنزّ به قريش، وتحرص عليه. (109) سورة الكافرون نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة الماعون.. عدد آياتها: ست آيات.. عدد كلماتها: ثمان وعشرون كلمة.. عدد حروفها: أربعة وتسعون حرفا.. مناسبتها لما قبلها الكوثر الذي أعطاه الله سبحانه وتعالى النبىّ صلوات الله وسلامه عليه- كان فى مقابله البتر والحرمان من كل خير لمن يشنأ هذا النبي، الذي وضع الله سبحانه وتعالى، الخير كله فى يده.. وهذا مجمل ما تحدثت عنه سورة «الكوثر» وفى سورة «الكافرون» التي تأتى بعد هذه السورة، موقف بين النبي- صلوات الله وسلامه عليه- وما أعطاه الله سبحانه من خير كثير، يفيض من النبع الأعظم، وهو الإيمان بالله- وبين المشركين الذين عزلوا أنفسهم عن هذا الخير، وحرموا أن ينالوا شيئا منه.. وفى هذا الموقف يعلن النبي عن هذا الخير الذي من الله به عليه، وأنه ممسك به، مقيم عليه، لا يصرفه عنه شىء من هذه الدنيا.. فهو لا يعبد غير الله سبحانه وتعالى، ولا يتحول عن عبادته أبدا، ولا ينظر إلى شىء وراءه من مال وبنين!! الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1694 بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 6) [سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) التفسير: كان مما يلقى به المشركون النبىّ لصرفه عن دعوته- أن يجمعوا له مالا، إن كان يريد مالا، حتى يكون أكثرهم مالا، وأوسعهم غنى، أو يقيموه رئيسا عليهم، إن كان يطمع فى الرياسة، أو يزوجوه أجمل بناتهم، وأكرمهم نسبا، إن كان يرغب فى ذلك.. فلما لم يلقوا من النبي الكريم إلا تساميا عن هذه المطالب الرخيصة، وإلا إعراضا عنها، وأنه لا يتحول عن الدّين الذي يدعو إليه، ولو وضعوا الشمس فى يمينه، والقمر فى يساره! - لمّا لم يجدوا استجابة من النبىّ فى ترك دعوته، جاءوه يعرضون عليه أن يخلطوا دينهم بدينه، وأن يجمعوا بينهما، فيعبدون هم ما يعبده النبىّ إلى جانب ما يعبدون ويعبد هو ما يعبد المشركون إلى جانب معبوده الذي يعبده فإن كان الذي جاء به خيرا مما معهم شاركوه فيه، وأخذوا حظهم منه، وإن كان الذي هم عليه خيرا مما جاء به شاركهم فيه، وأخذ حظه منه.. وبهذا تنقطع أسباب الشقاق، والعداوة، بينهم وبينه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ» (64: الزمر) .. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1695 وهذا من ضلال القوم وسفه أحلامهم، وسوء معتقدهم.. فإن الحق كلّ لا يتجزأ، ولا يتبعّض.. فإما أن يكون ما يعبدون حقا، وإذن فإنّ خلطه بشىء دخيل عليه يغيّر من صورته، ويفسد حقيقته، فلا يكون حقا، ولا يكون باطلا، وإنما هو حق وباطل معا.. وإما أن يكون باطلا، وإذن فلم يمسكون به، ويحرصون عليه؟ .. وإن فى تفريطهم فى معتقدهم على هذا الوجه لدليلا على أنه معتقد فاسد، وأنهم هم أنفسهم لا يجدون فيه ما يقيمهم منه على يقين به، واطمئنان إليه، وأنه من السهل الميسور عندهم أن يبيعوه بالثمن البخس لأول عارض يعرض لهم. فالمخاطبون من قريش هنا هم الكافرون الذين حكم عليهم بالكفر حكما مؤبّدا، وأنهم لن يؤمنوا أبدا، ولهذا أخذوا هذا الوضع فى سورة خاصة بهم.. قوله تعالى: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ» .. الكافرون هنا، هم المشركون من قريش.. وقوله تعالى: «لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ» أي أنا لا أعبد المعبودات التي تعبدونها. إن لى معبودا لا أعبد سواه.. وقوله تعالى: «وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ» أي وأنتم لا تعبدون الإله الذي أعبده أنا.. إن لكم آلهة تعبدونها، غير الإله الذي أعبده.. فهناك إذن اختلاف بعيد بينى وبينكم، فى ذات المعبود الذي أعبده، وذوات المعبودات التي تعبدونها. هذا هو حالى وحالكم الآن.. وهذا هو الحكم فيما أعبد، وفيما تعبدون.. وتلك حقيقة لا خلاف بيننا عليها.. أنا لا أعبد الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1696 معبوداتكم، وأنتم لا تعبدون معبودى.. وقوله تعالى: «وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ» .. هو تعقيب على هذا الحكم العام المطلق، وينبنى عليه: أننى لا أنا عابد ما عبدتم، فى أي حال من أحوالى، لا حاضرا ولا مستقبلا.. ولا أنتم عابدون فى المستقبل الإله الذي أعبده.. فأنا على ما أنا عليه من عبادة الإله الذي أعبده، لا أتحول عن عبادته، وأنتم على ما أنتم عليه من عبادة ما تعبدون من معبودات لا تتحولون عن عبادتها.. وهذا يعنى أن الذين خوطبوا بهذا الخطاب من المشركين، لم يدخلوا فى الإسلام، ولم يؤمنوا بالله، بل ماتوا على شركهم.. وهذا ما يفهم من قوله تعالى: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» ففى وصف المشركين بالكفر إشارة إلى أنهم من الذين استبدّ بهم العناد، وركبهم الضلال، فانتقلوا- بدعوة النبىّ لهم إلى الإيمان بالله- انتقلوا من الشرك إلى الكفر الصريح.. يقول الطّبرسى فى تفسيره: يريد (أي بالكافرين) قوما معينين، لأن الألف واللام للعهد.. والقرآن الكريم، حين يلقى رءوس المشركين، ومن غلبت عليه الشّقوة منهم ممن لا يدخلون فى دين الله أبدا- كان يخاطبهم بوصف الكافرين لا المشركين، ومن ذلك قوله تعالى: «إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً. فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً» (15- 17 الطارق) .. ويقول سبحانه فى أحد رءوس هؤلاء المشركين: «أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا» (77- 79 مريم) .. (م 107 التفسير القرآنى- ج 30) الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1697 فهؤلاء المخاطبون بوصف الكفر من المشركين، قد ماتوا على الكفر، وسيلقون جزاء الكافرين فى الآخرة.. إنهم قبل دعوتهم إلى الإسلام كانوا مشركين، فلما لم يستجيبوا لهذه الدعوة انتقلوا من الشرك إلى الكفر.. وكذلك أهل الكتاب، كانوا قبل دعوة النبىّ لهم ضلّالا، فلما دعاهم وأبوا أن يؤمنوا، صاروا كفارا. وقوله تعالى: «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ» . هو فصل الخطاب، ومقطع الأمر فيما بين النبىّ، وهؤلاء الكافرين.. إن لهم دينهم الذي يدينون به ويحاسبون عليه، وهو له دينه الذي يدين به، ويلقى ربه عليه. «وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ» (41: يونس) . (110) سورة النصر نزولها: مدنية.. اختلف فى ترتيب نزولها، والرأى عندنا أنها نزلت قبل فتح مكة عدد آياتها: ثلاث آيات عدد كلماتها: ست وعشرون كلمة عدد حروفها: أربعة وسبعون حرفا مناسبتها لما قبلها آذن النبي- صلوات الله وسلامه عليه- المشركين فى سورة «الكافرون» التي سبقت هذه السورة- آذانهم بكلمة الفصل بينه وبينهم «لَكُمْ دِينُكُمْ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1698 وَلِيَ دِينِ» .. ووراء هذه الكلمة الحاسمة القاطعة، التي أخذ بها النبي طريقه إلى ربه ومعبوده، واتخذ بها المشركون طريقهم إلى آلهتهم ومعبوداتهم- وراء هذه الكلمة تشخص الأبصار إلى مسيرة كلّ من النبي والمشركين الذين أخذوا طريقا غير طريقه، لترى ماذا ينتهى إليه الطريق بكل منهما.. وتختفى عن الأبصار طريق أهل الشرك، وتبتلعهم رمال العواصف الهابّة عليهم من صحراء ضلالهم.. أما الطريق الذي أخذه النبي صلوات الله وسلامه عليه، فها هو ذا النصر العظيم يلقاه عليه، وها هو ذا الفتح المبين ترفرف أعلامه بين يديه، وها هو ذا دين الله الذي يدعو إليه، قد فتحت أبوابه، ودخل الناس فيه أفواجا.. بسم الله الرحمن الرحيم الآيات: (1- 3) [سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3) التفسير: قوله تعالى: «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً» . إذا ظرف، شرطىّ، لما يستقبل من الزمان.. وهذا يعنى أن ما بعدها الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1699 لم يتحقق بعد، وهو إذا كان وعدا من الله سبحانه وتعالى، فإن تحققه أمر لا شك فيه، وهو واقع موقع اليقين من المؤمنين قبل أن يتحقق. ونصر الله والفتح، هو نصر دين الله، بنصر النبي والمؤمنين على المشركين، ومن اجتمعوا معهم على حرب النبىّ والمؤمنين، والوقوف فى وجه دين الله، الذي يدعو إليه رسول الله.. والفتح، هو فتح مكة، التي كان مشركوها هم القوة المحركة لكل عدوان على النبىّ والمؤمنين.. فإذا فتحت كان فتحها هو النصر المبين، والفتح العظيم.. وهذا يعنى أن هذه السورة، نزلت قبل فتح مكة، فكانت من أنباء الغيب، ومن البشريات التي بشر بها النبي والمسلمون، فى وسط هذا الصراع الدائر بينه وبين المشركين.. وتكاد الأخبار التي يرويها المفسرون- تجمع على أن هذه السورة كانت من أواخر ما نزل من القرآن، وأنها نزلت بعد سورة الفتح، وقبيل وفاة النبي صلوات الله وسلامه عليه بأيام، قيل عنها فى أكثر الروايات إنها كانت ثمانين يوما!! وهذا ما نخالفهم فيه. فالقرآن الكريم صريح فى أن قوله تعالى: «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً» هو وعد، يتحقق فى زمن مستقبل.. فهذا ما ينطق به صريح النظم القرآنى.. ولن يعدل بنا شىء عن الأخذ بمنطوق الآية الكريمة. ولهذا فإنا نقول- فى ثقة واطمئنان، وفى قطع ويقين: إن هذه السورة نزلت قبل فتح مكة، وفى أشد مواقف النبي حرجا وضيقا، وهو فى مواجهة أهل الشرك والضلال- فكانت مددا من أمداد السماء، وزادا من عند الله، يتزود به النبي وأصحابه، فيما امتحنوا به فى أنفسهم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1700 وأموالهم.. إنها طاقة من النور السماوي، فى وسط هذا الظلام الكثيف، يرى المؤمنون على ضوئها وجه المستقبل المشرق، الذي وعدهم الله فيه بالنصر، والفتح! وقوله تعالى: «فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً» . والتسبيح أولا، لأنه المطلوب فى مقام الشكر، على هذه النعمة العظيمة، بالنصر والفتح.. ثم الاستغفار ثانيا، مما وقع من تقصير فى حق الله على مسيرة الجهاد، حتى جاء يوم النصر، والفتح.. فعلى مسيرة الجهاد، وفى أوقات الشدة والضيق، وفى مواقع الهزيمة، وفقد الأحباب والأعزاء، تتغير مواقف المجاهدين، وتحوم حول مشاعرهم خواطر تهز إيمانهم، على درجات مختلفة، حسب ما فى النفوس من إيمان، وما فى القلوب من يقين.. فالنفس البشرية- أيا كانت من وثاقة الإيمان بالله- تعرض لها فى الشدائد والمحن، عوارض، من الخواطر، والتصورات، لا ترضاها لدينها، وإيمانها بربها فى ساعة اليسر، وفى أوقات السلام والأمن.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا» (110: يوسف) وقوله تعالى عن النبي وأصحابه: «وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ: مَتى نَصْرُ اللَّهِ؟» (214: البقرة) ويقول سبحانه عن المؤمنين فى غزوة الأحزاب: «إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا» (10: الأحزاب) - وقد صرح المنافقون والذين فى قلوبهم مرض من المؤمنين- صرحوا عن ظنونهم بالله يومئذ، فقالوا ما ذكره الله تعالى عنهم من قولهم: «ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً» (12: الأحزاب) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1701 فدعوة النبي إلى الاستغفار، هى دعوة له، وللمؤمنين معه- من باب أولى- إلى لقاء الله تعالى تائبين مستغفرين، بعد أن يتم الله عليهم نعمة النصر والفتح، ويبلغ بهم منزل السلامة والأمن.. وإنه ليس فى هذا الاستغفار إلا مراجعة لما وقع فى النفوس من ظنون بالله عند بعض المؤمنين، أو ضجر من الصبر على البلاء عند بعض آخر، أو شعور بشىء من الأسى والحزن عند فريق ثالث.. وهكذا وذلك فى مسيرتهم على طريق الضرّ والأذى، إلى أن لقيهم نصر الله والفتح. وقوله تعالى: «إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً» أي كثير التوبة على عباده، واسع المغفرة لذنوبهم.. وفى المبالغة فى التوبة دلالة على كثرتها، والدلالة على كثرتها، دلالة على كثرة ذنوب العباد، وما وقع لهم فى مسيرتهم على الجهاد، مما ينبغى أن يتطهر منه المجاهدون، وأن يصفّو حسابهم معه بالتوبة والاستغفار، بعد أن رأوا ما رأوا من قدرة الله، ومن إحسانه وفضله عليهم.. وهذا مثل قوله تعالى: «لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» (117: التوبة) (111) سورة المسد نزولها: نزلت بمكة.. بعد الفاتحة.. عدد آياتها: خمس آيات.. عدد كلماتها: ثلاث وعشرون كلمة.. عدد حروفها: سبعة وسبعون حرفا.. مناسبتها لما قبلها كانت سورة «النصر» - كما قلنا- مددا من أمداد السماء، تحمل بين يديها هذه البشريات المسعدة للنبىّ وللمؤمنين، وتريهم رأى العين عزّة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1702 الإسلام، وغلبته، وتخلع عليهم حلل النصر، وتعقد على جبينهم إكليل الفوز والظفر. وتحت سنابك خيل الإسلام المعقود بنواصيها النصر، والتي هى على وعد من الله به- حطام هذا الطاغية العنيد الذي يمثّل ضلال المشركين كلّهم، ويجمع فى كيانه وحده، سفههم، وعنادهم، وما كادوا به للنبىّ والمؤمنين.. إنه أبو لهب.. وامرأته حمالة الحطب.. [سورة اللهب.. ونظمها] بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 5) [سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) التفسير: «أبو لهب» - كما أشرنا من قبل، كان أبرز معلم من معالم الجاهلية، التي واجهتها الدعوة الإسلامية، بما كان عليه هذا الجهول من طيش طاغ، وضلال مبين.. ومع أنه كان عمّ النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مما تقضى به التقاليد العربية الجاهلية الانتصار للقريب، ظالما أو مظلوما، كما كان ذلك شأنهم- الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1703 فإن هذا الشقي كان من أسفه السفهاء على النبي، وأشدهم عدوانا عليه، وأكثرهم أذى له، حتى إنه- وعلى غير تقاليد الجاهلية- يدخل معه امرأته فى هذه العداوة، ويجرها جرّا إلى تلك المعركة التي يخوضها ضد النبىّ، ولهذا كان لرجل الوحيد من قريش الذي ذكره القرآن باسمه، وأعلن فى العالمين عداوته لله، وغضب الله عليه، ووقوع بأسه وعذابه به، وذلك ليكون لعنة على كل لسان إلى يوم الدين، لا يذكر اسمه إلا ذكر مدموغا باللعنة، مرجوما بالشماتة والازدراء، تتبعه امرأته مشدودة إليه بحبل من مسد، كما كانت مشدودة إليه فى الدنيا بحبل عداوتهما للنبى، وحسدهما له.. وقوله تعالى: «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ» . التب: القطع للشىء.. وهو كالبت.. ولفظه يدل على القطع والحسم، ويحكى الصوت الذي يحدث عند فصل الشيء عن الشيء.. والمفسرون مجمعون على أن هذا دعاء على أبى لهب من الله سبحانه وتعالى، بقطع يديه، أي قطع القوى العاملة فيه، الممكّنة له من الشر والعدوان، وهما يداه اللتان يبطش بهما، إذ كان اليد دائما هى مظهر آثار الإنسان، بها يأخذ، وبها يعطى.. فإذا ذهبت اليد اليمنى، قامت اليسرى مقامها، فإذا ذهبت اليدان أصبح الإنسان معطل الحركة، عاجزا عن أن يحصّل خيرا، أو يتناول خيرا، أشبه بالطائر الذي فقد جناحيه، إنه هالك لا محالة، ولهذا جاء بعد ذلك قوله تعالى: «وتب» أي هلك هو، بعد أن قطعت يداه.. والرأى عندنا- والله أعلم- أن هذا الخبر على حقيقته، وأنه خبر مطلق، لم يخرج عن حقيقته إلى الدعاء.. فأبو لهب قد وقع عليه الهلاك فعلا، وحل به البلاء منذ اتخذ من النبي، ومن الدعوة الإسلامية، هذا الموقف الأثيم الضال.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1704 لقد ركب الطريق الذي لا نجاة لسالكه، ولا سلامة لسائر فيه، وكذلك امرأته التي ركبت معه هذا الطريق، وعلقت فيه حبالها بحباله.. والإخبار بالماضي عما لم يقع بعد، إشارة تحقق وقوعه، وأنه وإن لم يقع فهو فى حكم الواقع، إذ تقدمته أسبابه، وقامت علله، التي تدفع به دفعا إلى الواقع المحتوم.. وفى هذا الخبر إلفات للأنظار إلى هذا الطاغية الأثيم، وهو يلبس رداء الهلاك والضياع، على حين لا يزال شبحا يتحرك بين الناس.. إنه أشبه بالمحكوم عليه بالموت، ينتظر ساعة التنفيذ فيه!! وقوله تعالى: «ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ» . هو تعقيب على هذا الخبر، فقد هلك أبو لهب، ونزل به ما نزل من هوان وخسران، دون أن ينفعه هذا المال الذي جمعه، واعتز به، ولا هؤلاء الأبناء الذين اشتد ظهره بهم.. لقد تخلى عنه ماله وولده جميعا، وتركوه لمصيره الذي هو صائر إليه.. إنه فى قيد الهلاك وهو بين أيديهم.. فهل يستطيع أحد أن يمد يده إلى نجاته؟ إنه بين مخالب عقاب محلق به فى السماء.. إن سقط من بين مخالبه هلك، وإن مضى به هلك!! وما كسبه أبو لهب، هو أولاده، لأن الولد من كسب أبيه، ومن تثميره، كما يقول النابغة الذبياني. مهلا فداء لك الأقوام كلّهم ... وما أثمر من مال ومن ولد قيل إن أبا لهب قد أصيب بداء يسمى العدسة- ولعله الطاعون- وكانت العرب تخشى هذا الداء، وتتحاشى المصاب به، وكان ذلك بعد غزوة بدر ببضعة أيام، فلما مات بدائه هذا، لم يقترب أحد من أبنائه لمواراته فى التراب، خوفا من الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1705 هذا الداء، بل ألقوا عليه الحجارة من بعيد حتى أخفوا جثته، وكأنهم يرجمونه، ويشيعونه بهذه الرجوم، وهم يذرفون الدمع الحزين عليه!! وقوله تعالى: «سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ» .. هذا وعيد من الله سبحانه وتعالى لما سيلقى أبو لهب فى الآخرة، بعد أن عرف مصيره فى الدنيا، وأن كل ما كان يكيد به للنبى، قد ردت سهامه إليه، فرأى بعينيه فى الدنيا، كيف حلت الهزيمة بقريش يوم بدر، وكيف قتل صناديدها، وأسر زعماؤها.. وفى وصف النار بأنها ذات لهب، إشارة إلى شؤم هذا الاسم الذي تسمى به، أو الكنية التي تكنّى بها «أبو لهب» .. فقد ولد، وهو يلبس هذا الثوب الناري، الذي جعل منه وقودا يشتعل، ويتلهب، وكأنه شارة من شارات جهنم ذات اللهب التي يلقاها فى الآخرة، ويصلى جحيمها.. إنه من لهب، وإلى اللهب.. وقوله تعالى: «وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ» .. معطوف على فاعل «سيصلى» أي سيصلى هو نارا ذات لهب، وستصلى امرأته معه هذا النار، ذات اللهب.. وقوله تعالى: «حَمَّالَةَ الْحَطَبِ» منصوب على الذّم، بفعل محذوف قصد به التخصيص للصفة الغالبة عليها، وتقديره: أعنى، أو أقصد.. حمالة الحطب. و «حَمَّالَةَ الْحَطَبِ» أي حمالة الفتنة، التي تؤجج بها نار العداوة، وتسعى بها بين الناس، لتثير النفوس على النبي، وتهيج عداوة المشركين له.. فقد كانت الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1706 امرأة أبى لهب- واسمها أم جميل بنت حرب، أخت أبى سفيان- كانت أشدّ نساء قريش عداوة للنبى، وسلاطة لسان، وسوء قالة فيه، كما كان ذلك شأن زوجها أبى لهب من بين مشركى قريش كلهم.. وهكذا تتآلف النفوس الخبيثة، وتنزاوج، وتتوافق، وتتجاذب! وقيل حمالة الحطب: أي حمالة الذنوب، التي أشبه بالحطب الذي يتخذ وقودا، والذي يتعرض لأية شرارة تعلق به فتأنى على كل ما اتصل من أثاث وغيره، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ» (31: الأنعام) . وانظر إلى الإعجاز القرآنى فى وصف امرأة أبى لهب، وسعيها بالفتنة، وإغراء الصدور على النبي- بأنها حمالة الحطب.. فهذا الحطب الذي تحمله، مع مجاورته للهب الذي هو كيان زوجها كله، لا بد أن يشتعل يوما، وقد كان.. فأصبح الرجل وزوجه وقودا لنار جهنم.. وانظر مرة أخرى إلى هذا الإعجاز فى التفرقة بين «أبى لهب» وحمالة الحطب.. إنه هو الذي أوقد فيها هذه النار، بما تطاير من شرره إلى هذا الحطب الذي تحمله، وهو الذي أوقع بها هذا البلاء.. إنها كانت تحمل حطبا، وحسب.. وهذا الحطب- وإن كان من وقود النار- إلا أنه قد يسلم منها، لو لم يخالطها، ويعلق بها.. وأما وقد خالطها «أبو لهب» فلا بد أن تشتعل، وتحترق! وقوله تعالى: «فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ» . الجيد: العنق، والجيد من محاسن المرأة، وسمى جيدا من الجودة، وفيه تضع المرأة أجمل ما تنزين به من حلى وجواهر.. والمسد: الليف، أو ما يشبهه، مما تتخذ منه الحبال.. وفى تعليق هذا الحبل فى جيد أم جميل، تصوير بليغ معجز لشناعة هذه المرأة، وفى تشويه خلقها.. فما أبشع «جيد» امرأة كان من شأنه أن يتحلى الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1707 بعقد من كريم الجواهر، يشدّ إليه حبل من ليف.. إنه إهانة لعزيز، وإذلال لكريم.. وإن الإهانة للعزيز، والإذلال للكريم، لأقتل للنفس، وأنكى للقلب، من إهانة المهين، وإذلال الذليل! فكلمة «جيد» هنا مقصودة لذاتها، إنه يراد بها ما لا يراد بلفظ رقبة، أو عنق.. إنها تنزل امرأة من عقائل قريش، ومن بيوتاتها المعدودة فيها، لتلقى بها فى عرض الطريق، وهى تحمل على ظهرها حزم الحطب، وتشدها إلى جيدها بحبل من ليف!! ولهذا فزعت المرأة، وولولت حين سمعت هذا الوصف الذي وصفها القرآن الكريم به، فخرجت- كما يقول الرواة- فى جنون مسعور، تستعدى قريشا على النبي الذي هجاها- كما تزعم- هذا الهجاء الفاضح، وعرضها عارية على الملأ! وحق للمرأة أن تفزع وأن نجنّ، فلقد كانت هذه الصورة التي رسمها القرآن لها، وعرضها هذا العرض المذل المهين لها، حديث قريش- نسائها ورجالها- ومادة تندرها، ومعابثها، زمنا طويلا.. وأكثر من هذا.. فإن النظم الذي جاءت عليه السورة الكريمة، قد جاء فى صورة تغرى بأن تكون أغنية يتغنى بها الولدان، ويحدو بها الركبان، ويتناشد بها الرعاة.. إنها تصلح أن تكون- فى نظمها- غناء، أو نشيدا، أو حداء.. ولا نحسب إلا أنها كانت، بعد أيام قليلة من نزولها، نشيدا مرددا فى طرقات مكة، على ألسنة الصبيان، وفى البوادي على أفواه الرعاة، والحداة، وأنها قد أخذت صورا وأشكالا من الأوزان، والأنغام، التي تولدت من نظمها العجيب المعجز.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1708 أنظر.. ألا يمكن أن تنشد هكذا: تبت يدا أبى لهب/ وتبّا ما أغنى عنه ماله/ وما كسبا سيصلى نارا/ ذات لهب وامرأته/ حمالة الحطب فى جيدها/ حبل من مسد ثم ألا يمكن أن تكون صوت حداء.. هكذا.. تبت يدا أبى لهب وتب ... ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب ... وامرأته حمالة الحطب فى جيدها حبل من مسد؟ ثم ألا يمكن أن تكون نشيد رعاة.. هكذا: تبّت يدا/ أبى لهب/ وتب ما أغنى عنه/ ماله/ وما كسب سيصلى/ نارا/ ذات لهب وامرأته/ حمالة/ الحطب فى جيدها/ حبل/ من مسد؟ وهكذا، يمكن أن تتوالد منها الصور، وتتعدد! وفى الإخبار عن أبى لهب وامرأته بأنهم من أهل النار، وفى مواجهتهم بهذا الخبر، ثم موتهم بعد هذا على الكفر- فى هذا إعجاز من إعجاز القرآن، الذي ساق أبا لهب وامرأته إلى النار وهما حيان يرزقان.. ولو أن أبا لهب آمن بالله- ولو حتى عن نفاق- لأقام حجة قاطعة على كذب النبي، وافتراء ما جاء الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1709 به، لأن النار التي توعدها الله إنما هى لكفره، فلو أعلن الإيمان لما كان لهذا الوعيد حجة عليه، بل كان حجة على القرآن بأنه مفترى. ولكن أنّى يكون هذا، وقد قضى الله بعذابه فى جهنم، ونزل القرآن بالخبر القاطع بهذا؟ إنها كلمة واحدة كانت تخرج من فم أبى لهب أو امرأته، بإعلان إسلامهما، فيقضى بها على محمد ودعوته.. وهذه معجزة متحدية من معجزات القرآن، الذي أمسك لسان الرجل والمرأة عن أن ينطقا بهذه الكلمة، بكلمة الإسلام، فى أوضح صورة، وأكملها وأصرحها، كما جاءت بها سورة «الإخلاص» . وتلك شهادة قائمة على الدهر، بأن هذا القرآن كلام الله، وأنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. (112) سورة الإخلاص «وتسمى سورة التوحيد» نزولها: نزلت بمكة.. بعد الناس. عدد آياتها: أربع آيات. عدد كلماتها: إحدى عشرة كلمة. عدد حروفها: سبعة وأربعون حرفا. مناسبتها لما قبلها كانت عداوة أبى لهب وزوجه للنبىّ، ممثلة فى عداوتهما لدعوة التوحيد التي كانت عنوان رسالة النبىّ، صلوات الله وسلامه عليه، وكلمته الأولى إلى قومه.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1710 وقد ساقت هذه الكلمة أبا لهب وزوجه، ومن تبعهما فى جحود هذه الكلمة، والتنكر لها- ساقتهم إلى هذا البلاء الذي لقياه فى الدنيا، وإلى هذا العذاب الأليم فى جهنم المرصودة لهما فى الآخرة.. وسورة «الإخلاص» وما تحمل من إقرار بإخلاص وحدانية الله من كل شرك- هى مركب النجاة لمن أراد أن ينجو بنفسه من هذا البلاء، وأن يخرج من تلك السفينة الغارقة التي ركبها أبو لهب وزوجه، ومن اتخذ سبيله معهما من مشركى قريش ومشركاتها.. وها هوذ النبي الكريم، يؤذّن فى القوم، بسورة الإخلاص، ومركب الخلاص. بسم الله الرحمن الرّحيم الآيات: (1- 4) [سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) التفسير: قوله تعالى: «قُلْ» أمر من الله سبحانه وتعالى للنبى بالقول، قولا مطلقا.. وماذا يقول؟. يقول «هُوَ» ! ومن هو هذا الطلق أيضا، الذي لا تحدّه حدود، ولا تقيده قيود؟ - «اللَّهُ أَحَدٌ» !. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1711 ولفظ الجلالة- «الله» - من الألوهة، وهو اسم الذات، الجامع لأسماء الله تعالى وصفاته كلّها.. و «أحد» صفة لله سبحانه، بمعنى الأحد معرفا بأل، لأنه فى مقابل: «اللَّهُ الصَّمَدُ» فأحد، وأن كان نكرة لفظا، هو معرفة دلالة ومعنى، لأنه إذ قيل «أحد» لم ينصرف الذهن إلى غيره، فإذا قيل «أحد» كان معناه الأحد، الذي ليس وراءه ثان أو ثالث، أو رابع.. فاستغنى بهذا عن التعريف، لأن التعريف إنما يراد به الدلالة على المعرّف دون أفراد جنسه المشاركة له، فإذا انحصر الجنس كله فى فرد واحد، لم يكن ثمة داعية إلى تعريفه، إذ كان أعرف من أن يعرّف. فالله، هو الأحد، الذي لا يشاركه فى هذا الوصف موصوف.. فالأحدية هى الصفة التي لا يشارك الله سبحانه فيها أحد، كما أن «الله» هو اسم الذات الذي لا يسمّى به أحد سواه. والأحديّة هى الصفة التي تناسب الألوهة، وهى الصفة التي تناسب كل صفة من صفات الله سبحانه.. فالله- سبحانه- واحد فى ذاته، واحد فى صفاته.. فالكريم، هو الله وحده، والرحيم هو الله وحده، والرحمن هو الله وحده، والغفور هو الله وحده، والشّكور هو الله وحده، والعليم هو الله وحده.. وهكذا، كل صفة من صفات الكمال، قد تفردّ بها الله- سبحانه- وحده، لا ينازعه فيها أحد.. وفى وصف الله سبحانه وتعالى بأحد، دون واحد، تحقيق لمعنى التفرّد، لأن الأحد لا يتعدد، على حين أن الواحد يتعدد، باثنين، وثلاثة، وأربعة، إلى ما لا نهاية من الأعداد.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1712 يقول الإمام «الطبرسي» فى تفسيره [مجمع البيان فى تفسير القرآن] : «قيل إنما قال «أحد» ولم يقل «واحد» لأن الواحد يدخل فى الحساب، ويضمّ إليه آخر.. وأما الأحد فهو الذي لا يتجزأ، ولا ينقسم فى ذاته، ولا فى معنى صفاته، ويجوز أن يجعل للواحد ثان، ولا يجوز أن يجعل للأحد ثان.. لأن الأحد يستوعب جنسه، بخلاف الواحد.. ألا ترى أنك لو قلت فلان لا يقاومه واحد، جاز أن يقاومه اثنان، وإذا قلت: لا يقاومه أحد لم يجز أن يقاومه اثنان، ولا أكثر.. فهو أبلغ..» ويقول الطبرسي: قال الإمام الباقر: «الله» : معناه المعبود الذي أله الخلق عن إدراك ماهيته، والإحاطة بكيفيته، وتقول العرب: أله الرجل إذا تحيّر فى الشيء فلم يحط به علما، ودله، إذا فزع..» فمعنى قوله «الله أحد» أي المعبود الذي يأله الخلق عن إدراكه، والإحاطة بكيفيته.. وهو فرد بألوهيته، متعال عن صفات خلقه.. وقوله تعالى: «اللَّهُ الصَّمَدُ» .. اختلف فى معنى الصمد، وكل ما قيل فى معناه يرجع إلى تمجيد الله سبحانه وتعظيمه، وتفرده بالخلق والأمر.. وفى تعريف طرفى الجملة، إفادة لمعنى الحصر، أي حصر الصمدية فى الله سبحانه وتعالى وحده.. قيل إن أهل البصرة، كتبوا إلى الإمام الحسين، رضى الله عنه يسألون عن معنى «الصمد» ، فكتب إليهم بقول: (م 108- التفسير القرآنى ج 30) الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1713 «أما بعد، فلا تخوضوا فى القرآن، ولا تجادلوا فيه، ولا تكلّموا فيه بغير علم، فقد سمعت جدّى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قال فى القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» وإن الله قد فسر سبحانه الصمد، فقال: «لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» .. وقوله تعالى: «لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ» . أي أنه سبحانه منزه عن أن يكون له ولد، لأن الولد يدلّ على والد، والوالد هو مولود لوالد. وهكذا فى سلسلة لا تنتهى. ثم إن الولد يماثل الوالد، وقد يفوقه، ويربى عليه، فى قوته، وعلمه.. يقول الإمام الطبرسي فى معنى «لم يلد» : أي لم يخرج منه شىء كثيف، كالولد، ولا سائر الأشياء الكثيفة التي تخرج من المخلوقين، ولا شىء لطيف كالنّفس، ولا تنبعث منه البدوات، كالسّنة والنوم، والخطرة والغم، والحزن والبهجة، والضحك والبكاء، والخوف والرجاء، والرغبة والسآمة، والجوع والشّبع، تعالى أن يخرج منه شىء، وأن يتولد منه شىء.. كثيف أو لطيف» . وفى قوله تعالى: «وَلَمْ يُولَدْ» يقول الطبرسي أيضا: «أي ولم يتولد هو من شىء، ولم يخرج من شىء، كما تخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها، كالشىء من الشيء، والدابة، والنبات من النبات، والماء من الينابيع، والثمار من الأشجار.. ولا كما تخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها، كالبصر من العين، والسمع من الأذن، والشم من الأنف، والذوق من الفم، والكلام من اللسان، والمعرفة والتمييز من القلب، والنار من الحجر.. لا، بل هو الله «الصمد» الذي لا من شىء، ولا فى شىء، ولا على شىء.. مبدع الأشياء وخالقها، ومنشىء الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1714 الأشياء بقدرته.. فذلكم الله الصمد الذي لم يلد ولم يولد، عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ..» ويروى أن الإمام عليا- كرم الله وجهه- سئل عن تفسير هذه السورة، فقال: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» بلا تأويل عدد.. «الصمد» بلا تبعيض بدد.. «لم يلد» فيكون موروثا هالكا «ولم يولد» فيكون إلها مشاركا «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» من خلقه. وقوله تعالى: «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» . كفء الشيء: عديله، ومماثله، قيمة، ووزنا، وقدرا. فالله سبحانه وتعالى، متعال عن الشبيه، والنظير، والكفء والمثيل.. وهذا ما ينفى عن الله سبحانه وتعالى أن يلد، وأن يولد، لأن التوالد إنما يكون بين الأشباه والنظائر، وإذ قد انتفى عن أن يكون لله سبحانه شبيه أو نظير، فقد انتفى عنه أن يكون والدا، وأن يكون مولودا.. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1715 (113) سورة الفلق نزولها: مكية، وفى بعض الأقوال أنها مدنية.. عدد آياتها: خمس آيات. عدد كلماتها: ثلاث وعشرون كلمة. عدد حروفها: أربعة وسبعون حرفا. مناسبتها لما قبلها تقرر فى سورة «الإخلاص» ما ينبغى أن يكون عليه مفهوم المخلوقين للخالق سبحانه وتعالى، من تفرده بالألوهية، وتنزيهه أن يكون والدا أو مولودا، وعن أن تكون له نسبة إلى المخلوقات، إلا نسبة الدلالة على قدرته وحكمته، وعلمه، وأنها جميعها مفتقرة إليه فى وجودها، وفى بقائها، وأنه سبحانه لا مثيل له، ولا شبيه، ولا كفء ولا ندّ.. هذا ما أمر الله سبحانه النبي أن يؤمن به أولا، ثم أن يؤذن به فى الناس.. ثم جاءت بعد هذا سورتا المعوذتين، «الفلق» و «الناس» تقرران هذه الحقيقة، وتؤكدانها فى مجال التطبيق العملي لآثارها، وذلك بدعوة النبىّ والناس جميعا أن يعوذوا بربهم، وأن يستظلوا بحمى ربوبيته من كل ما يسوءهم، أو ما يتوقع أن يعرض له بسوء، فذلك هو الإيمان بالله سبحانه، والإقرار بسلطانه القائم على هذا الوجود، وأنه وحده الذي تتجه الوجوه كلها إليه فى السراء والضراء.. فهو سبحانه القادر على كل شىء، وهو سبحانه الذي بيده مقاليد كل شىء.. أما المخلوقون فهم جميعا على سواء فى الحاجة إلى الله، وفى الافتقار إليه، غنيهم وفقيرهم، قويهم وضعيفهم: «يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1716 إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» .. وقد صدّرت سورة الإخلاص، والمعوذتين بعدها، بقوله تعالى: «قل» وهذا الأمر بالقول داخل فى مقول القول الذي يقوله النبي، ويقوله كل من يتأسّون به، فمطلوب من النبي، ومن المؤمنين أن يقولوا: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.. قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ.. قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» .. فهذا الأمر بالقول، هو قرآن متعبد به، وهو يعنى أن القرآن كلمات الله، وأنه لا تبديل لكلمات الله، وأن هذه الكلمات قد انطبعت فى قلب النبىّ صلوات الله وسلامه عليه، فهو يقرؤها من كتاب قلبه كما أنزلت عليه، دون تبديل فيها.. فإذا قيل له- صلوات الله وسلامه عليه: «قُلْ سُبْحانَ رَبِّي» .. قال: «قُلْ سُبْحانَ رَبِّي» .. وإذا قيل له «قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ» قال: «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ» وإذا قيل له: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ» ؟ قال: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ..» وهكذا. وقد عرضنا هذا الموضوع فى مبحث خاص، عند تفسير سورة «الجن» . بسم الله الرحمن الرحيم الآيات: (1- 5) [سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5) الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1717 التفسير: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ... ) . الفلق: جميع الخلق، لأن كل مخلوق يتولد من غيره، وينفلق عنه، كما تنفلق الحبّة عن الشجرة، والكمّ عن الزّهرة، والزّهرة عن الثمرة، والرّحم عن الجنين.. وهكذا مما نعلم من المخلوقات.. ومنه قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى» وقوله تعالى: «فالِقُ الْإِصْباحِ» لأن الإصباح يخرج من أحشاء الظلام، كما يخرج الجنين من رحم الأمّ. والاستعاذة: التعوذ، واللّجأ إلى من يستعاذ به طلبا للحماية، ودفعا للسوء، والمكروه. والغاسق: اللّيل وظلامه المائج فيه.. والغسق ظلمة الليل.. وأصل الغسق، السّيلان، والتدفق، يقال غسقت القرحة إذا جرى صديدها وتدفق، ومنه «الغسّاق» وهو صديد أهل النار. والوقوب، والوقب: الدخول، ومنه النّقرة، لأنه يدخل فيها غيرها من الأشياء، والغاسق إذا وقب، أي الليل إذا هجم، ودخل على النهار فأجلاه عن مكانه. والنفاثات: من النّفث، وهو النّفخ بالفم فى الشيء.. وهو جمع نفّاثة مبالغة فى النّفث، أي كثير النّفث، مثل علّامة، وفهّامة.. ويجوز أن يكون جمع مؤنث.. والعقد: جمع عقدة، وهى ما يعقد بها على الشيء، لربطه، وإحكامه، ومنه اليمين المنعقدة، وهى التي تقع عن نية وقصد، ومنه عقد البيع الذي يتم بين المتبايعين، وعقدة النكاح التي تتمّ بين الزوجين. وقوله تعالى: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1718 الخطاب للنبىّ صلى الله عليه وسلم، ولكل متابع له، مستجيب لدعوته.. أي اجعل- أيها النبىّ- عيادك، ولجأك متعلّقا بربّ المخلوقات، مقصورا عليه وحده. والعياذ، إنما يكون من الشرور، والمكاره، التي يلقاها الإنسان على طريق حياته، وهى تتوارد على الإنسان من المخلوقات، سواء أكانت من عالم الأحياء أو غير الأحياء،، وسواء أكانت منظورة، معلومة، أو خفية مجهولة.. ولهذا جاء قوله تعالى: «مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ» . فهذا هو المستعاذ بالله من شرّه، وهو المخلوقات على إطلاقها. والمخلوقات كلها لله سبحانه، وهى من صنعة يده، وهو وحده سبحانه القادر على دفع شرّها، وردّ بأسها، سواء أكانت من قوى الطبيعة، أو من الحيوان أو الإنسان.. وليست المخلوقات شرّا. وإنما هى خير فى ذاتها، وفى نظام الوجود العام، الذي يأخذ فيه كل مخلوق مكانه من بنائه، ولو أخلى مكانه لاختلّ نظام الوجود واضطربت مسيرته. ومن جهة نظر الإنسان إلى المخلوقات، فإنه ليس كل المخلوقات شرّا، بل إن معظمها هو خير، يعيش فيه، وبنعم به، وحتى ما يراه هو من بعض المخلوقات شرّا خالصا، ليس بالشرّ الخالص، وأنه لو أنعم النظر فيه لوجد بعض الخير قائما إلى جانب هذا الشر.. فالمخلوقات خيرها كثير، وشرها بالإضافة إلى الإنسان فى ذاته، قليل. فالمستعاذ منه هو هذا الشر القليل إلى جانب الخير الكثير، والمراد الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1719 بالاستعاذة من هذا الشر، هو أن يلقى الإنسان المخلوقات فى خيرها الخالص، دون شرها، الذي يستعيذ بالله منه. وقد يكون للإنسان، أو الحيوان حيلة فى دفع بعض الشرّ، فليحتل حيلته، وليبذل وسعه، ولكن هذا لا يمنع الإنسان العاقل من أن يجعل معاذه هو الله سبحانه، كما أن معاذه بالله، لا يحمله على تعطيل ملكانه وقواه، فنلك وسائل أودعها الخالق جلّ وعلا فيه، وهى داخلة فى الاستعاذة بالله، واللّجأ إليه.. فما يملكه الإنسان من قدرات على دفع ما يدفع به من شرور، ومكاره، هى أسلحة من عند الله سلّحه بها، فلا يعظلها، وليذكر فضل المنعم بها عليه، فإنها عند المؤمن استعاذة بالله. وليس الشرّ المستعاذ بالله منه، هو شرّ فى ذاته، لأن الله سبحانه ما خلق شرّا، وإنما هو شرّ إضافىّ، أو نسبىّ، وذلك بالإضافة إلى من وقع عليه، والذي يعدّه شرّا بالنسبة له هو، ولكنه فى النظام العام للوجود، هو خير مطلق، كما قلنا. وأما الشر المستعاذ به، فهو شر يقع من احتكاك الموجودات بعضها ببعض، أشبه بالشرر المتطاير من احتكاك الزناد بالصّوان، بل هو أشبه بآلام المخاض لميلاد حياة متجددة فى الحياة! فالإنسان فى ذاته يشعر بآلام المرض، والجوع، ويجد لذعة الحرمان والفقر، ومرارة فقد الأحباب والأعزاء، وخيبة الآمال، وضياع الفرص- إلى غير ذلك مما يساء به الإنسان، ويألم منه، ويعده شرا مقيسا بمقياس ذاته. مضبوطا على تلقيات مشاعره له، وإحساسه به.. وهذا كله غير منكور، ومن حقّ الإنسان أن يلجأ إلى حمى ربه، وأن يستعيذ به، وأن يطلب منه اللطف والعافية.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1720 والمستعيذ بالله اللّاجئ إلى حماه، عن إيمان وثيق، وعن معرفة تامة، بما لله سبحانه وتعالى، من علم، وحكمة، وقدرة، وسلطان- يجد نفسه دائما فى هذا الحمى العزيز الذي لا ينال، وتحت ظل هذا السلطان القوى الذي لا يغلب، وأن هذه الشرور التي استعاذ بربه منها، قد انصرفت عنه جملة، أو خفّت وطأتها، وذلك حين يعيد النظر فى هذه الشرور على ضوء هذه المشاعر الجديدة التي لقى بها ربه، وفوض إليه فهيا أمره- فيرى كثيرا من هذه الشرور أوهاما وتخيلات، كما يرى كثير منها أقرب إلى الخير منها إلى الشر، ثم ما كان منها شرّا خالصا- فى تقديره- يصبح فى ظل التفويض لله، والتسليم لحكمه، مستساغ الطعم، خفيف الحمل، لما يرى من حسن المثوبة عند الله، على ما أصابه، وصبر عليه، محتسبا عند الله أجره «1» .. قوله تعالى: «وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ» . فى لآية السابقة كانت الاستعاذة بالله، استعاذة عامة من جميع الشرور التي ترد على الإنسان من المخلوقات كلها.. وفى قوله تعالى: «وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ» - وما بعدها من الآيات إلى آخر السورة، استعاذة من شرور بعض المخلوقات، البادي شرها.. فالليل حين يهجم على الكائنات، ويحتوى الإنسان، يثير فيه كثيرا من المخاوف، التي تطل عليه من وراء هذا العالم المجهول، المحجب بهذا الستار   (1) وقد عرضنا لهذا الموضوع فى مبحث خاص من كتابنا: «قضية الألوهية» - لجزء الثاني، وفيه تفصيل لهذا الإجمال. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1721 الكثيف من الظلام.. من عدوّ متربص، أو حيوان مفترس، أو حشرة سامة، ونحو هذا.. وفى الليل، وفى وحشة الظلام، والسكون، والوحدة- تطرق الإنسان همومه ووساوسه، وتتوارد عليه آلامه وأشجانه، فيبيت مؤرقا يئن تحت وطأة هذه الهموم، وتلك الوساوس.. ومن هنا كثرت مناجاة الناس لليل، وشكايتهم له، وبثهم إياه ما توارد عليهم فيه من هموم، وما طرقهم من غائبات الذكريات الموجعة.. يقول امرؤ القيس: وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علىّ بأنواع الهموم ليبتلى ويقول النابغة الذبياني: كلينى لهمّ يا أميمة ناصب ... وليل أقاسيه بطيء الكواكب تطاول حتى قلت ليس بمنقض ... وليس الذي يرعى النجوم بآيب فالليل، هو الليل، بوحشته، وتوارد الهموم على صدور الناس فيه، ولن يتغير هذا الوجه من الليل، ولن يتحول إلى نهار بما أطلع الإنسان فيه من شموس وأقمار، من مولدات الكهرباء.. إن لظلامه سلطانا، يتسلل من هذه الثياب المصطنعة من النور، إلى داخل الإنسان، فيجتم على صدره، وينسكب فى مشاعره. وقوله تعالى: «وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ» .. النفث فى العقد: هو السعى بين الناس بالوشاية والنميمة، فتنحل بذلك عقد الإخاء، والمودة بينهم.. وأصل النفث فى الشيء النفخ فيه.. ومنه يقال للحية نفثت سمومها أي الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1722 ألقت بها من فمها فى جسد الضحية التي وقعت لها.. وهذه استعاذة بالله من شر جزئى، من شرور المخلوقات، وهو الشر الذي الذي ينجم من مثيرى الفتن والفلاقل، ومن مهيجى النفوس وإيقاد نار العداوة بين الناس، فتنحلّ بذلك روابط الإخاء بينهم، وتنفك عقد التواصل والتراحم بين المتواصلين والمتراحمين.. وإن أكثر ما يقع بين الناس من شر، وما يقوم بينهم من صراع، هو من حصاد هؤلاء النفاثين فى العقد، من الرجال والنفاثات فيها من النساء، ابتغاء الفتنة، وتمزيق الوحدة، وتشتيت الشمل.. وإذ كانت الكلمة هنا هى الأداة العاملة فى هذا المجال، فى إيغار الصدور، وإثارة النفوس، وبلبلة المشاعر، وتعكير صفو العواطف، بالحديث الكاذب والقلة المفتراة، والشائعة المضللة- فقد نصح الله سبحانه وتعالى لنا، بالاستفادة من شر تلك الأفواه الآثمة التي تنفث سمومها فى العقد الموثّقة بيننا وبين أهلنا، وأصدقائنا، أبناء مجتمعنا الذي نعيش فيه.. والنصيحة هنا ذات شقين: أن نأخذ حذرنا من هؤلاء الساعين بالنميمة، المتنقلين بين الناس بالفتنة، فنحذرهم كما نحذر الحيات والأفاعى، ونعوذ بالله من شرهم، ونستعين به سبحانه على ردّ كيدهم، ودفع أذاهم، والله سبحانه وتعالى يقول: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ» (6: الحجرات) .. ومن جهة أخرى، نحذر من أنفسنا أن توردنا هذا المورد، وأن تدفع بنا إلى هذا الطريق الذي يلبسنا ثوب الشر الذي يستعاذ بالله منه.. وفى الاستعاذة بالله من النفاثات، استعاذة ضمنية أيضا من النفاثين، إذ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1723 كانت النساء فى هذا المجال أكثر من الرجال عددا، وأثرا، وإذ كان غالبا وراء كل رجل يثير فتنة، امرأة تغريه بها، وتدفع به إليها، وحسبنا أن نذكر هنا امرأة أبى لهب حمالة الحطب، والعهد بها قريب.. وقيل النفاثات: النفوس الخبيثة، والأرواح الفاسدة. سواء تعلقت بالرجال أو بالنساء.. هذا، وفى هذا التعبير عن إفساد ما بين الناس من روابط، بكلمة «النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ» - إعجاز من إعجاز النظم القرآنى.. والذي يتأمل هذا اللفظ المعجز يجد: أولا: أن كلمة النّفث تشير إلى هذا الشبه بين فم هذا الذي يسعى بين الناس بالكلمة الآثمة الفاجرة، وبين الحية التي تنفث سمومها فتصيب بها من الناس مقتلا.. وثانيا: أن هذا النفث المنطلق من فم هذا الإنسان، يصدر عن صدر ملىء بالعداوة والبغضاء للناس جميعا.. أشبه بتلك العداوة المتوارثة بين الحية والناس. وثالثا: أن كلمة «العقد» وهى الروابط القائمة بين الناس، هى حياة لهم أشبه بتلك الحياة السارية فى أبدانهم، وأن حلها يفسد هذه الحياة، كما يفسد حياتهم نفث الأفاعى فيهم.. ورابعا: ان النفث فى العقد المادية، من حبال ونحوها، من شأنه أن يلين من صلابتها، وأن يعين على حلها، وكذلك الشأن فى العقد المعنوية، من روابط الأخوة والمودة بين الناس، فإن النفث فيها بالنميمة موهن لها، وممهد لحلّها.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1724 وقوله تعالى: «وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ» والحسد، فى الأعمّ الأغلب هو الدافع إلى كل عداوة، الموقد لكل فتنة، المغرى بالكذب والافتراء على الناس، لحلّ عقد الوئام والوفاق بينهم، ولنزع هذه البسمة التي تعلو الشفاه بين المتحابّين، ولإطفاء إشراقة البشاشة والرضا التي تفيض من وجوه أهل النعمة والرضا.. فالحسد- وهو ما يجده الحاسد فى قلبه ضيق وحسرة، حين يرى فى يد أحد خيرا ليس فى يده، ثم لا يهدأ له بال، ولا تستريح له نفس، حتى يغرب وجه هذا الخير- هو داء يغتال كل معانى الإنسانية فى الإنسان، فيصبح عداوة متحركة فى الناس، ترميهم برجوم من العداوة والبغضاء، وتنفث فيهم سموم الحقد والضغينة، حتى يميت أو يموت. كالنار تأكل نفسها ... إن لم تجد ما تأكله.. والحسد- وليس غيره- هو الذي أغرى أهل الكتاب- وخاصة اليهود- بهذا الموقف الضال الآثم، من رسالة رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- وكتمانهم الحق عن علم بأنه رسول الله، وأنه الذي يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل، كما يقول سبحانه وتعالى فيهم: «يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (71: آل عمران) ويقول سبحانه وتعالى عنهم: «الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (146: البقرة) ويقول جل شأنه فيهم أيضا: «وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1725 إِيمانِكُمْ كُفَّاراً، حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ» (109: البقرة) . وفى نار الحسد التي تأججت فى صدور اليهود، ذابت كلّ معالم الحق الذي كان معهم من أمر النبي، فكفروا به، واتخذوا طريق الضلال مركبا إلى عذاب الجحيم.. والحسد- وليس غيره- هو الذي أغرق مشركى قريش فى الضلال، وأغراهم بهذا الموقف اللئيم الآئم الذي وقفوه من النبي، حتى كان عمه أبو لهب هو وامرأته من أشدّ الناس حسدا له، وتصديا لدعوته، وتشنيعا عليه، وكان من مقولات المشركين ما ذكره الله عنهم من قولهم: «أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا» ؟ (25: القمر) .. «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» (31: الزخرف) «أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ؟ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ» (24: القمر) وقوله تعالى: «إِذا حَسَدَ» - هو قيد للاستعاذة بالله من الشر الذي ينقدح من صدر الحاسد، فتشتعل ناره، وتعلق بمن حسده.. أما الحسد الساكن، الذي لم ينضبح بعد، ولم يتحرك من صدر صاحبه، ولم يبلغ من القوة بحيث يأخذ صورة عملية، أبعد من دائرة الخواطر والمشاعر- أما هذا الحسد، فهو طبيعة غالبة فى الناس، قلّ أن يسلم منه قلب، أو تخلو منه نفس.. فما أكثر ما يمد الإنسان بصره إلى ما عند الناس، مما ليس فى يده، من مال، أو علم، أو صحة، أو شباب، أو جمال، أو بنين، أو نحو هذا، مما ترغب فيه النفوس، وتتداعى عليه الآمال، وما أكثر ما تتولد مشاعر الحسد من المحروم إلى حيث مواطن هذه المحبّبات إلى النفوس، ثم يجد من دينه، أو عقله، أو مروءته ما يردّه عن موقف الحسد، ثم لا تلبث هذه المشاعر أن الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1726 تزول وتختفى.. فهذا الحسد الذي لا يجد من صاحبه قلبا مفتوحا له، أو نفسا راضية عنه، هو حسد قد تولى صاحبه دفعه عن الناس، وأطفأ ناره قبل أن تمتد إلى أحد، ومن هنا لم يكن وراءه شر يستعاذ به منه.. هذا، وقد تكرر لفظ «شر» أربع مرات، مضافا فى كل مرة إلى جهة خاصة غير الجهات الثلاث، وذلك لأن الشر الناجم من كل جهة منها مختلف عن غيرها.. [النبي.. وحديث السحر] هذا ما يفهم من منطوق آيات الله فى قوله تعالى: «وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ» .. وهو فهم يتفق مع سياق السورة، ومع سورة الإخلاص التي سبقتها، وسورة الناس التي جاءت بعدها، والتي كان من ثلاثتها خاتمة كتاب الله على ترتيبه فى المصحف، الذي رتبت سورة بتوقيف من الله تعالى، على ما وقع فى يقيننا. ولكن بعض المفسرين قد ذهب فى فهم هاتين الآيتين فهما آخر، إذ زعم أن سورتى الفلق، والناس نزلتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسترقى بهما من السحر الذي أصابه، والذي كان قد صنعه به رجل يهودى، يدعى لبيد بن الأعصم.. وقد استند هؤلاء المفسرون فى هذا على ما جاء فى صحيحى البخاري ومسلم وغيرهما من كتب الحديث، من حديث هذا السحر الذي يقال إنه أصاب رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. روى البخاري، عن هشام بن عروة بن الزبير، عن أبيه.، عن عائشة- رضى الله عنها- قالت: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1727 «سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجل من بنى زريق، يقال له لبيد بن الأعصم، حتى كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يخيّل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله.. حتى إذا كان ذات يوم، أو ذات ليلة، وهو عندى، دعا الله، ودعاه، ثم قال: يا عائشة.. أشعرت أن الله أفتانى فيما أستفتيه فيه؟ أتانى رجلان، فجلس أحدهما عند رأسى، والآخر عند رجلى، ثم قال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال: مطبوب! قال من طبّه؟ قال لبيد بن الأعصم اليهودي، من بنى زريق! قال فى أي شىء؟ قال فى مشط ومشاطة، وجفّ طلع تخلة ذكر! «1» قال: فأين هو؟ قال فى بئر ذروان! .. فأتاها رسول الله صلى الله عليه فى ناس من أصحابه، فنظر إليها، وعليها نخل، ثم رجع إلى عائشة، فقال: والله لكأن ماءها نقاعة الحنّاء، وكأنّ رءوس، نخلها الشياطين» قلت يا رسول الله أفأخرجته؟ قال: لا.. أما أنا فقد عافانى الله وشفانى، وخشيت أن أثير على الناس منه شرا.. فأمر بها- أي البئر- فدفنت» . أي ردمت هذا حديث يرويه البخاري عن السيدة عائشة. ويروى البخاري، أيضا عن هشام بن عروة بن الزبير، عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، سحر حتى كان يرى أنه يأتى النساء ولا يأتيهن- وهذا أشدّ ما يكون من السحر، إذا كان كذا- فقال يا عائشة: أعلمت أن الله أفتانى فيما أستفتيه فيه؟ أتانى رجلان، فقعد أحدهما عند رأسى، والآخر عند رجلى فقال الذي عند رأسى للآخر: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب، قال: ومن طبه؟   (1) المطبوب: الذي يطلب له من يطبه، أي يعالجه.. والمشط: ما يمشط به الشعر.. والمشاطة: الشعر الذي يسقط من الرأس عند مشطه.. والجف: الغلاف الذي يحتوى طلع النخلة عند ظهوره (الجراب) . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1728 قال لبيد بن الأعصم، رجل من بنى زريق، حليف ليهود، كان منافقا. قال: وفيم؟ قال فى مشط ومشاطة؟ قال: وأين؟ قال: فى جفّ طلعة ذكر، تحت راعوفة «1» فى بئر ذى أروان.. قالت: فأنى النبي- صلى الله عليه وسلم- البئر حتى استخرجه، فقال هذه البئر التي أريتها، وكأن ماءها نقاعة الحنّاء، وكأن نحلها رءوس الشياطين..» وفى حديث ثالث يرويه البخاري عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضى الله، عنها.. قالت: «سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنه ليخيّل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات يوم وهو عندى، دعا الله ودعاه، ثم قال: «أشعرت يا عائشة أن الله قد أفنانى فيما أستفتيه فيه؟» قلت: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: «جاءنى رجلان.. فجلس أحدهما عند رأسى، والآخر عند رجلى، ثم قال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال مطبوب؟ قال: ومن طبّه؟ قال لبيد بن الأعصم اليهودي من بنى زريق! قال: فى ماذا؟ قال: فى مشط ومشاطة وجف لطلعة ذكر. قال فأين هو؟ قال: فى بئر ذى أروان «2» . قالت: فذهب النبي صلى الله عليه وسلم فى ناس من أصحابه إلى البئر، فنظر إليها، وعليها نخل ثم رجع إلى عائشة، فقال: والله لكأن ماءها نقّاعة الحنّاء «3» ، ولكأن نخلها رءوس الشياطين.. قلت: يا رسول الله، أفأخرجته؟ قال: لا.. أمّا أنا فقد عافانى الله، وشفانى، وخشيت أن أثير على الناس منه شرّا.. وأمر بها فدفنت» .   (1) الراعوفة: الحجر الذي يغطى به البئر. (2) بئر ذى أروان: عين فى بستان بنى زريق بالمدينة. (3) نقاعة الحناء: نقيعها، والحناء: صبغ معروف. [ ..... ] م 109 التفسير القرآنى ج 30 الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1729 هذا ما رواه البخاري من حديث السّحر، ومثله ما رواه مسلم- والروايات الثلاث للحديث متقاربة اللفظ والمعنى.. وهى تشير إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقع تحت تأثير السّحر من رجل يهودىّ، وأن هذا التأثير قد بلغ به حدّا يخيّل إليه فيه أنه يفعل الشيء وما فعله، وأنه يأتى النساء ولا يأتيهن. وفى مسند الإمام أحمد عن إبراهيم بن خالد عن معمر عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر يرى أنه يأتى النساء ولا يأتى، فأتاه ملكان فجلس أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه.. الحديث» وفى تفسير الثعلبي عن ابن عباس وعائشة رضى الله عنهما، أن غلاما من اليهود كان يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدبّت «1» إليه اليهود، فلم يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدّة من أسنان مشطه، فأعطاها اليهود فسحروه فيها، وكان الذي تولّى ذلك رجل منهم يقال له ابن أعصم، ثم دسّها فى بئر لبنى زريق، يقال له ذروان، فمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتثر شعر رأسه، ولبث ستة أشهر، يرى أنه يأتى النساء ولا يأتيهن، وجعل يذوى، ولا يدرى ما عراه، فبينما هو نائم أتاه ملكان، فجلس أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رأسه للذى عند رجليه: ما بال الرجل؟ قال: طبّ، قال: وما طبّ، قال: سحر، قال: ومن سحره؟ قال لبيد بن الأعصم اليهودي! قال: وبم طبّه؟ قال: بمشط ومشاطة.. قال: وأين هو؟ قال: فى جفّ طلعة ذكر، تحت راعوفة فى بئر ذروان.. فانتبه النبىّ صلى الله عليه وسلم   (1) دبت إليه: أي سعت إليه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1730 مذعورا، وقال يا عائشة: أما شعرت أن الله أخبرنى بدائى؟ ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّا والزبير وعمار بن ياسر، فنزحوا ماء البئر كأنه نقاعة الحنّاء، ثم رفعوا الصخرة، وأخرجوا الجفّ، فإذا فيه مشاطة رأسه، وأسنان من مشطه، وإذا فيه وتر معقود فيه اثنتا عشرة عقدة، مغروزة بالإبر، فأنزل الله تعالى السورتين (أي المعوذتين) فجعل كلما قرأ آية انحلّت عقدة، ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفّة حين انحلّت العقدة الأخيرة، فقام كأنما أنشط من عقال، ونام ليس به بأس..» والذي ينظر فى هذه الأحاديث، وتلك الأخبار يتردّد كثيرا فى قبولها، أو الوقوف عندها، إذ كانت تضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الموضع الذي يجور على كماله، وينتقص من عصمته.. وقد كان ذلك مثار بحث وخلاف بين العلماء، فردّ كثير منهم هذه الأحاديث وأبى أن يقبلها، جاعلا عصمة النبىّ فوق كل اعتبار، رافعا مقام النبوّة فوق كلّ مقام.. على حين نجد كثيرا من العلماء، قد انبرى للدفاع عن كتب السنة الصحاح، وما ورد فيها من أحاديث، محاولا سدّ باب الطعن فيها، بتخريج مثل هذه الأحاديث على وجه يمكن قبولها عليه، ولو ركب فى هذا مركب التعسّف فى التأويل والتخريج.. والانتصار للسنّة، ولكتب الصحاح الحاملة لها، أمر يحرص عليه كلّ مسلم، ويلتقى عنده المسلمون جميعا بلا خلاف.. ولكن حين يكون الموقف كهذا الذي نحن بين يديه، تختلف وجهات النظر، ويكون فى المسلمين من يؤثر الجمع بين قبول الحديث وبين الجهة التي يتعلق بها هذا الحديث، محاولا تعليل ذلك وتبريره، على حين يكون فى المسلمين من يؤثر مقام النبوّة وتنزيهها عن عوارض النقص، على كل خبر يساق، أو حديث يروى.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1731 وممن ردّ حديث السّحر، والأخبار المتصلة، به من المفسّرين، الإمام الطبرسي، فنراه يقول تعقيبا على هذا الحديث المروىّ عن السيدة عائشة- رضى الله عنها-: «وهذا لا يجوز، لأن من وصف بأنه مسحور، فكأنه قد خبل عقله، وقد أبى الله سبحانه وتعالى ذلك فى قوله تعالى: «إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا» (47- 48: الإسراء) . «ولكن الذي يمكن أن يكون- هو أن «اليهودىّ» أو بناته، قد اجتهدوا فى ذلك فلم يقدروا عليه، وأطلع الله نبيّه صلى الله عليه وسلم على ما فعلوه من التمويه، حتى استخرج، وكان ذلك دلالة على صدقه.. «ثم كيف يجوز أن يكون المرض من فعلهم، ولو قدروا على ذلك لقتلوه- أي النبىّ- وقتلوا كثيرا من المؤمنين» ؟. وهذا الذي يتلمّسه الإمام الطبرسي لقبول الخبر بقوله: «ولكن الذي يمكن أن يكون- هو أن اليهودىّ أو بناته اجتهدوا فى ذلك فلم يقدروا عليه، وأطلع الله نبيّه على ما فعلوه من التمويه، حتى استخرج، وكان بذلك دلالة على صدقه..» .. نقول هذا القول لا تقوم منه حجة على صحة الحديث وقبوله، وذلك: أولا: أن الخبر المروي يقول: إن لبيد بن الأعصم هو الذي سحر النبي صل الله عليه وسلم، ولم يجر لبناته ذكر فى الحديث على تعدد الروايات التي روى بها.. والخبر وحدة واحدة، فإما أن يقبل كله، أو يردّ كله.. وثانيا: إذا كان ما فعله لبيد هذا، هو من قبيل التمويه.. فما الحكمة فى أن الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1732 يطلع الله نبيه عليه؟ ولم يحرص النبي على استخراجه من البئر إذا لم يكن له أثر؟ وأي دلالة على صدق النبي فى استخراج شىء لا أثر له فى واقع الحياة؟ ويقول الإمام محمد عبده، تعقيبا على حديث السحر: «وقد قال كثير من المقلدين الذين لا يعقلون ما هى النبوة، ولا ما يجب لها: «إن الخبر بتأثير السحر فى النفس الشريفة- يقصدون نفس النبي- قد صحّ، فيلزم الاعتقاد به.. وعدم التصديق به من بدع المبتدعين، لأنه ضرب من ضروب السحر، وقد جاء القرآن بصحة السحر» !. ويعلق الإمام محمد عبده على هذه المقولة بقوله: «فانظر كيف ينقلب الدين الصحيح، والحق الصريح فى نظر المقلد- بدعة؟ نعوذ بالله! «يحتج بالقرآن على ثبوت السحر «1» ، ويعرض عن القرآن فى نفيه السحر عنه صلى الله عليه وسلم، وعدّه من افتراء المشركين «2» عليه ويؤول القرآن فى هذا، ولا يؤول فى تلك، مع أن الذي قصده المشركون ظاهر، لأنهم كانوا يقولون: إن الشيطان يلابسه- عليه السلام- وملابسة الشيطان تعرف بالسحر عندهم، وضرب من ضروبه، وهو بعينه أثر السحر الذي نسب إلى لبيد بن الأعصم.. فإنه- أي السحر الذي سحره بن الأعصم- قد خالط عقله (أي عقل النبي) وإدراكه فى زعمهم..   (1) أي بما جاء فى سورة البقرة، عن الملكين اللذين يعلمان الناس السحر. (2) وهو ما رد الله به على المشركين قولهم: «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» فرماهم الله سبحانه بقوله: «انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1733 ثم يقول الإمام محمد عبده: «والذي يجب اعتقاده أن القرآن مقطوع به، وأنه كتاب الله بالتواتر عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يجب الاعتقاد بما يثبته، وعدم الاعتقاد بما ينفيه. «وقد جاء- أي القرآن- بنفي السحر عنه، عليه السلام، حيث نسب القول بإثبات حصول السحر له، إلى المشركين أعدائه، ووبخهم على زعمهم هذا.. فإذن ليس هو بمسحور قطعا. «وأما الحديث- على فرض صحته- فهو آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها فى باب العقائد.. وعصمة النبي من تأثير السحر فى عقله، عقيدة من العقائد، لا يؤخذ فى نفيها عنه إلا باليقين، ولا يجوز أن يؤخذ فيها بالظن والمظنون.. ثم يقول الإمام.. «على أن الحديث الذي يصل إلينا عن طريق الآحاد، إنما يحصّل الظنّ عند من صحّ عنده.. أما من قامت له الأدلة على أنه غير صحيح، فلا تقوم به عليه حجة.. ثم يقول الإمام: «وعلى أي حال، فلنا، بل علينا أن نفوض الأمر فى الحديث، ولا نحكّمه فى عقيدتنا، ونأخذ بنص الكتاب، وبدليل العقل.. فإنه إذا خولط النبي فى عقله- كما زعموا- جاز عليه أن يظن أنه بلّغ شيئا وهو لم يبلغه، أو أن شيئا نزل عليه وهو لم ينزل عليه.. والأمر ظاهر لا يحتاج إلى بيان..» والإمامان الجليلان- الطبرسي، ومحمد عبده- يقفان هذا الموقف من حديث السحر، وبين يديهما هذه المقولات الكثيرة التي تنتصر لهذا الحديث وتدفع يد المعارضين له، بل وترميهم بالكفر، والإلحاد.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1734 يقول القاضي عياض فى كتابه: «الشفا، بتعريف حقوق المصطفى» فى التعليق على حديث السحر: «اعلم وفقنا الله وإياك أن هذا الحديث صحيح متفق عليه، وقد طعنت فيه الملحدة، وتندّرت به، لسخف عقولها، وتلبيسها على أمثالها إلى التشكيك فى الشرع، وقد نزه الله الشرع والنبىّ، عما يدخل فى أمره لبسا. وإنما السحر مرض من الأمراض، وعارض من العلل، يجوز عليه- أي على النبي- كأنواع الأمراض، مما لا ينكر، ولا يقدح فى نبوته.. «وأما ما ورد من أنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولا يفعله، فليس فى هذا ما يدخل عليه داخلة فى شىء من تبليغه أو شريعته، أو يقدح فى صدقه، لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هذا فيما طروّه عليه فى أمر دنياه التي لم يبعث بسببها، ولا فضّل من أجلها، وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر، فغير بعيد أن يخيل له من أمورها ما لا حقيقة له، ثم ينجلى عنه كما كان!! ثم يقول القاضي عياض: «فقد استبان لك من مضمون هذه الروايات، أنه إنما تسلط على ظاهره، وجوارحه، لا على قلبه، واعتقاده وعقله، وأنه إنما أثّر فى بصره، وحبسه عن وطء نسائه وطعامه، وأضعف جسمه وأمرضه.. ويكون معنى قوله: «يخيل إليه أنه أنى أهله ولا يأتيهن» أي يظهر له من نشاطه، ومتقدم عادته القدرة على النساء، فإذا دنا منهن أصابته أخذة السحر فلم يقدر على إتيانهن، كما يعترى من أخذ وامترض.» وينقل الآلوسى فى تفسيره روح المعاني عن الإمام المازري قوله تعليقا على هذا الحديث: «قد أنكر هذا الحديث المبتدعة، من حيث أنه يحطّ منصب النبوة ويشكك فيها، وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1735 «وأجيب، بأن الحديث صحيح، وهو غير مراغم للنص «1» ، ولا يلزم عليه حطّ منصب النبوة والتشكيك فيها، لأن الكفار أرادوا بقولهم «مسحور» أنه مجنون، وحاشاه.. ولو سلّم إرادة ظاهره، فهو من قبيل هذه القصة، أو مرادهم أن السحر أثّر فيه، وأن ما يأتيه من الوحى، من تخيلات السحر، وهو كذب أيضا، لأن الله تعالى، عصمه فيما يتعلق بالرسالة، وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث عليه الصلاة والسلام بسببها، وهى مما يعرض للبشر، فغير بعيد أن يخيل إليه من ذلك ما لا حقيقة له.. وقد قيل إنه كان يخيل إليه أنه وطىء زوجاته وليس بواطىء.. وقد يخيل لإنسان مثل هذا فى المنام، فلا يبعد تخيله فى اليقظة» . وهذا- كما ترى- دفاع متهافت، فإن التسلط على البدن والجوارح، من شأنه أن يجوز على التفكير، وأن يفسد الرؤية الصحيحة للأمور، كما حدث ذلك فيما دخل على النبي، وعلى تصوراته، كما يقول الحديث!! وأما ابن قيم الجوزية، فيعلق على حديث السحر بقوله: «هذا الحديث ثابت عند أهل العلم بالحديث، متلقّى منهم بالقبول.. لا يختلفون فى صحته، وقد اعتاص على كثير من أهل الكلام وغير هم، وأنكروه أشد الإنكار، وقابلوه بالتكذيب، وصنف فيه بعضهم مصنفا منفردا، حمل فيه على هشام- ابن عروة بن الزبير- راوى الحديث عن السيدة   (1) مراغم أي مخالف، والمراد بالنص: النص القرآنى فى نفى السحر عن الرسول فى رده سبحانه وتعالى على الكافرين قولهم فى الرسول: «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1736 عائشة- وكان غاية من أحسن القول فيه (أي فى هشام) ، أن قال: «غلط، واشتبه عليه الأمر» ولم يكن من هذا شىء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يسحر، فإنه- أي لو سحر- يكون تصديقا لقول الكفار: «إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً» قالوا- أي الذين يردون هذا الحديث-: وهذا كما قال فرعون: «وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً» وكما قال قوم صالح له: «إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ» « (153: الشعراء) وكما قال قوم شعيب له: «إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ» (185: الشعراء) «قالوا- أي الذين يردّون هذا الحديث: «فالأنبياء لا يجوز عليهم أن يسحروا، فإن ذلك ينافى حماية الله لهم، وعصمتهم من الشياطين» . ثم يقول ابن القيم: «وهذا الذي قاله هؤلاء، مردود عند أهل العلم.. فإن هشاما من أوثق الناس وأعلمهم، ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بما يوجب ردّ حديثه.. «فما للمتكلمين وما لهذا الشأن؟ وقد رواه غير هشام عن عائشة.. وقد اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيح هذا الحديث، ولم يتكلم فيه أحد من أهل الحديث بكلمة واحدة..؟ ويقول ابن القيم: «والسحر الذي أصابه (صلوات الله وسلامه عليه) كان مرضا عارضا، شفاه الله منه. ولا نقص فى ذلك ولا عيب بوجه ما، فإن المرض يجوز على الأنبياء، وكذلك الإغماء، فقد أغمى عليه صلى الله عليه وسلم فى مرضه، ووقع حين انفكت قدمه، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1737 وجحش شقّه «1» ، وهذا من البلاء، الذي يزيده الله به رفعة فى درجاته، ونيل كرامته.. وأشد الناس بلاء الأنبياء، فابتلوا من أممهم بما ابتلوا به، من القتل والضرب، والشتم، والحبس.. فليس ببدع أن يبتلى النبي صلى الله عليه وسلم من بعض أعدائه بنوع من السحر، كما ابتلى بالذي رماه فشجّه، وابتلى بالذي ألقى عليه السلام السّلا «2» وهو ساجد، وغير ذلك، فلا نقص عليهم- أي الأنبياء- ولا عار فى ذلك، بل هذا من كمالهم وعلو درجاتهم عند الله ثم يقول: «وأما قولكم: إن سحر الأنبياء ينافى حماية الله لهم.. فإنه سبحانه كما يحميهم ويصونهم، ويحفظهم ويتولاهم، فإنه يبتليهم بما شاء من أذى الكفار، ليستوجبوا كمال كرامته، وليتأسّى بهم من بعدهم من أممهم وخلفائهم إذا أوذوا من الناس فرأوا ماجرى على الرسل والأنبياء- صبروا وتأسوا بهم، ولتمتلئ صاع الكفار، فيستوجبوا ما أعد لهم من النكال العاجل، والعقوبة الآجلة، فيمحقهم الله بسبب بغيهم وعدوانهم، فيعجل تطهير الأرض منهم.. فهذا من بعض حكمته تعالى فى ابتلاء أنبيائه ورسله، بإيذائهم من أقوامهم، وله الحكمة البالغة، والنعمة السابغة، لا إله غيره، ولا رب سواه» . وهذا- كما ترى- دفاع متهافت أيضا، فإن ما يبتلى الله سبحانه أنبياءه به من صنوف الابتلاء من أقوامهم، إنما هو فى عناد هؤلاء الأقوام، وفى ضلالهم وتأبيهم على قبول الخير، وهذا ما لا يمسّ الأنبياء شىء منه.. وأما ما عرض للرسول   (1) جحش شقه: أي انخدش جنبه، وذلك فى غزوة أحد، حين أحاط المشركون بالنبي. (2) السلا: ما يخرج من بطن الناقة ونحوها مع الولد عند ولادته. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1738 من إغماء ونحوه، فقد كان أمرا عارضا لا يتجاوز لحظة من عمر يوم أو ليلة.. أما أن يمتد هذا المعارض ستة أشهر أو سنة، فهذا ما يقطع النبىّ عن رسالته، ويعزله من مقام النبوة. ويقول ابن حزم فى كتابه المحلّى تعقيبا على حديث السحر: «فهذا خبر صحيح.. وقد عرّف الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم من سحره، فلم يقتله» !! ومن عجب أن عالما فقيها مجتهدا، واسع الأفق كابن القيم، وأن عالما كبيرا عرف بنفاذ البصيرة، واحترام العقل كابن حزم- من عجب أن يكون هذا موقف هذين العالمين الجليلين من حديث السحر، يغلب عليهما فيه ما تواردت عليه مقولات العلماء، من قبوله، والاحتجاج إليه.. ولا أدلّ على ذلك من أن ابن القيم يتحدث فى موقف آخر عن السحر، فيقول- فيما ينقله عنه ابن حجر فى شرح هذا الحديث من البخاري- يقول: «قال ابن القيم: من أنفع الأدوية وأقوى ما يوجد من النشرة- أي استخراج السحر، وإبطال عمله- مقاومة السحر- الذي هو من تأثيرات الأرواح الخبيثة- بالأدوية الإلهية، من الذّكر والدعاء، لا يخل به «1» - كان ذلك من أعظم الأسباب المانعة من إصابة السحر له.. قال (أي ابن القيم) : «وسلطان تأثير السحر، هو فى القلوب الضعيفة، ولهذا غالب ما يؤثّر، فى النساء، والصبيان والجهال، لأن الأرواح الخبيثة، إنما تنشط على أرواح من تلقاه مستعدة لما يناسبها» هذا ما يقرره ابن القيم هنا من تمكن الأرواح الخبيثة، التي يقع من آثارها   (1) أي لا ينقطع عنه. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1739 ما يسعى السحر، حسب رأيه.. وهو يرى أن هذه الأرواح الخبيثة لا سلطان لها إلا على الأرواح النازلة، الضعيفة، كأرواح الصبيان والجهال.. فكيف يقبل- مع هذا- قول، بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم- قد سحر؟ وكيف يكون هذا قولا لابن القيم نفسه؟ ينزل هذا بالنبيّ وبمقامه العظيم إلى مستوى الصبيان والجهال؟ ويردّ ابن حجر على ما نقله- ملخصا- من قول ابن القيم، فيقول: «ويعكّر عليه- أي يؤخذ على قوله هذا- حديث الباب (أي الباب الذي ورد فيه حديث السحر) . وجواز السحر على النبي صلى الله عليه وسلم- مع عظيم مقامه، وصدق توجهه، وملازمة ورده (أي ذكر الله) ثم يقول ابن حجر: «ولكن يمكن الانفصال عن ذلك- أي الرد على قول ابن القيم- بأن الذي ذكره محمول على الغالب، وإنما وقع به صلى الله عليه وسلم- لبيان تجويز ذلك» .. هذا هو جانب من موقف المنكرين لهذا الحديث، والمدافعين عنه. وهناك كثير من العلماء، آثروا العافية، وأعفوا أنفسهم من أن يكونوا طرفا فى هذه القضية، وهؤلاء هم جماعة من أئمة المفسرين، لم يشاؤا أن يعرضوا لحديث السحر، عند تفسير هم لسورة «الفلق» بل نظروا فى قوله تعالى: «وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ» - نظروا فيه نظرا مجانبا لحديث السحر، فلم يشيروا إلى هذا الحديث من قريب أو بعيد، مع أن هذا هو موضعه الذي يشار إليه فيه.. وهذا يعنى أنهم فى موقف توقّف إزاء هذا الحديث، وأنهم يميلون إلى ردّه، أكثر من ميلهم إلى قبوله.. ومن هؤلاء الأئمة المفسرين الذين وقفوا هذا الموقف من حديث السحر: الزمخشري، والطبري، والقرطبي، والنّسفى.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1740 هناك إذن ثلاثة مواقف للعلماء من هذا الحديث، حديث السحر.. موقف من يردّه، ويأبى التسليم به، تنزيها لمقام النبوة، وتأكيدا لعصمة النبي.. وموقف من ينصر هذا الحديث، ويحاول تخريجه على ما يحفظ للنبوة مقامها، ويبقى على النبي عصمته.. وموقف من تجنب الخوض فى هذه المعركة، مهاجما أو مدافعا، فلم يعرض لهذا الحديث بإشارة من قريب أو من بعيد.. وإنى إذ أسأل نفسى أىّ موقف من هذه المواقف أنحاز إليه، وآخذ مكانى فيه، ما دمت قد أقحمت نفسى فى زمرة العلماء الدارسين لكتاب الله- لأجدنى محمولا حملا لا شعوريا على التوقف فى هذا الحديث، ثم على تركه وعدم الأخذ به.. وذلك لأمور: أولهما: أنه ليس حديثا يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- يريد به أمرا من أوامر الدين، أو نهيا من نواهيه، أو يبغى به نصحا أو إرشادا مما يتصل بالشريعة وأحكامها وآدابها.. فهذا الحديث- إن صح- لا يعدو أن يكون خبرا عن حال من أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، الخاصة به، والتي لا يطلع عليها غير خاصة أهله كالسيدة عائشة رضى الله عنها.. فهذا الحديث- إن صح- لم يرد إلا عن السيدة عائشة، وهذا يعنى أن هذا العارض الذي عرض للنبى- صلوات الله وسلامه عليه- لم يكن له أي أثر خارج بيت الرسول، وخارج صلته بالسيدة عائشة بالذات، والتي قيل إن رسول الله حبس عنها ستة أشهر، وفى بعض الروايات سنة.. ولو كان هذا العارض الذي عرض للنبىّ ذا أثر فى غير هذه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1741 الدائرة الضيقة المحدودة، لا شهر أمره، ولكان حدثا من الأحداث التي يهتز لها كيان المجتمع الإسلامى كله، بل ولطارت أنباؤه خارج الجزيرة العربية، ولكان حديثا جاريا على ألسنة المسلمين وأعداء المسلمين فى كل مكان، ولعاش فى أجيال الأمة المسلمين زمنا ممتدا، لا ينقطع الحديث عنه.. أما أن يكون حديث آحاد، لا يمسك به إلا آل الزبير عن السيدة عائشة، فهذا ما لا يتسع منطق الحياة لقبوله، إلا أن يكون مما يتصل بالعلاقة الزوجية بين النبي، وبين السيدة عائشة وحدها..، فلا تطلع عليه إلّا هى ومن كان قريبا منها كأبناء أختها صفية، من زوجها الزبير بن العوام. وثانيها: أن القرآن الكريم يقول للنبى الكريم: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» .. وهذا وعد من الله سبحانه وتعالى بحفظ النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- مما يكيد له به أعداؤه، سواء أكان ذلك فيما يتصل بجسده، أو عقله، أو مشاعره.. فالله سبحانه قد تولى حراسة النبي حراسة مطلقة، بحيث لا يخلص إليه من الناس أذى، أو يصل إليه منهم سوء.. ولهذا قال النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- حين تلقى هذه الآية- قال لمن كان يتولى حراسته من أصحابه تطوعا: «يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمنى الله عزّ وجلّ» فهل يعقل بعد هذا، أن يتولى الله سبحانه وتعالى حراسة النبي، وأن يخبره بهذا، ثم لا يدفع عنه هذا الكيد الذي يقال إن لبيد بن الأعصم كاده له، وأصابه به فى أقتل مقاتله، وهو عقله؟ .. وكم امتدت هذه البلوى؟ لقد قيل إنها ستة أشهر، وقيل سنة كاملة!! .. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1742 وماذا يبقى من النبي- بل من أي إنسان- إذا أصيب فى عقله، واختلط فى تفكيره، حتى ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وهو لا يفعله، ويأتى أزواجه وهو لا يأتيهن؟ أما كان من الجائز، بل من الواقع الذي لا يمكن توقيه- أن يحدث النبي- وحاشاه- فى شرع الله حدثا، فيقول- وهو لا يدرى- ما يحسبه المؤمنون المتلقون عنه- أنه قرآن أو سنة، وهو ليس بقرآن ولا سنة، فيأخذون به ويقيمون دينهم عليه؟ أم ترى أن المسلمين- وقد عرفوا ما بالنبي- عزلوه عن النبوة خلال تلك المدة، فلم يسمعوا ما يقول، ولم يقبلوه منه؟ وكيف والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» ؟ (7: الحشر) أمسلمون بلا نبىّ، والنبي فيهم؟ أم نبى ولا مسلمون، والمسلمون ألوف، وألوف بين يديه..؟ وثالثها: المعروف المؤكد من سيرة الرسول أنه كان إمام المسلمين فى الصلوات الخمس، فى الحضر، وفى السفر- فهل كان النبىّ خلال هذا العارض الذي عرض له- وقد امتدّ أشهرا- هل كان يقيم للمسلمين صلاتهم دون أن يختلط عليه أمر الصلاة، فى أقوالها، وأفعالها؟ وكيف كان يمكن أن يتحقق من أنه جالس، أو قائم، أو راكع، أو ساجد.. وهو فى حال يحيّل إليه فيها أنه يفعل الشيء ولا يفعله؟ لقد كان الرسول صلوات الله عليه حريصا على أن يقيم للمسلمين صلاتهم حتى فى مرض موته، فكان يتحامل على نفسه، ويمضى إلى المسجد- لا تكاد تحمله قدماه- مستندا من جانبيه على صاحبين من صحابته، حتى ثقل عليه المرض فى اليومين الأخيرين من حياته فى هذه الدنيا، فأمر أبا بكر بأن يصلّى بالناس.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1743 وإذن فالمقطوع به، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقطعه عارض أبدا عن الصلاة بأصحابه غير عارض مرض الموت فى يوميه الأخيرين.. وإذن فأين، ومتى، كان هذا العارض الذي دخل على النبىّ من السّحر، والذي أدار تفكيره، وقلب موازين الأمور بين يديه؟ وهل كان هذا العارض، ولم يشهد المسلمون أثرا له فى أقوال النبىّ وأفعاله فى الصلاة؟ ولم إذن يأخذ هذا الوصف؟ ولم إذن يكون له فى حياة النبىّ ذكر؟. فإذا قلنا إن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- لم يسحر، ولم يمسسه سوء، فى جسده، أو عقله، قام بين أيدينا أكثر من شاهد يصدّق هذا القول ويؤكده.. فأولا: عصمة النبوّة، تلك العصمة التي لا تتحقق إلا بالسلامة المطلقة فى العقل أولا، وفى الجسد ثانيا. وثانيا: ما وعد الله به نبيّه الكريم فى قوله سبحانه: «وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» . وثالثا: الواقع المحسوس الذي قامت عليه حياة الرسول فى أصحابه، وأنه كان يقيم لهم صلاتهم، فى الحضر والسفر، فى السلم والحرب، لم يتخلف عن هذا يوما واحدا، أو فريضة واحدة، إلا فى اليومين الأخيرين من حياته.. هذا ما ينبغى أن يتقرر ويتأكد، وما يجب أن نقيم عليه إيماننا بالله، وبرسول الله.. هذا وقد يلقانا من يقول: كيف تتصدى لخبر ورد فى البخاري، وفى مسلم وفى كتب السنة الصحاح؟ وكيف تشك فيه وتتردد فى قبوله؟ إن ذلك إن سلّم لك به كان معناه إهدار السنة، ووضع مصادرها الموثّقة موضع الاتهام!! ونقول: كلا: إننا نحترم كتب السنة، وننزل أصحابها من نفوسنا منزلة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1744 الإعزاز والإجلال، ونكبر جهادهم المبرور فى جمع السنّة المطهرة وحفظها.. ولكن هذه قضية، ورفع مقام هذه الكتب فوق مقام القرآن الكريم، وإنزاله على حكمها، مما يخالف صريح محكم آياته- قضية أخرى.. ولقد صحّ منا العزم، ونحن نكتب هذه السطور الأخيرة من تفسير كتاب الله، أن نلتقى بكتب السنّة فى دراسة، نرجو أن يوفقنا الله فيها، وأن يعيننا عليها، وأن يسدد خطانا على طريق الحق إلى سنة رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، التي هى وحي من عند الله، وبيان شارح لكتاب الله.. «رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ..» (114) سورة الناس نزولها: مدنية، وقيل مكية.. نزلت بعد سورة الفلق.. عدد آياتها: ست آيات.. عدد كلماتها: عشرون كلمة. عدد حروفها: تسعة وسبعون حرفا.. مناسبتها لما قبلها هى امتداد لسورة «الفلق» قبلها، ومتممة لما يستعاذ بالله منه.. و «المعوذتان» أشبه بسورة واحدة، ولهذا فقد جمعهما اسم واحد: «المعوذتان» . (م 110 التفسير القرآنى- ج 30 الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1745 بسم الله الرّحمن الرّحيم الآيات: (1- 6) [سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) التفسير: كان العياذ فى سورة «الفلق» بربّ «الفلق» ، أي رب المخلوقات جميعها.. وهنا فى سورة الناس، يأتى الأمر بالاستعاذة، بربّ الناس، من الناس، وهم بعض ما خلق الله سبحانه وتعالى. وقد وصف الله سبحانه وتعالى فى هذه السورة، بثلاث صفات: أنه سبحانه «رب الناس» أي مربيهم، والقائم عليهم بعد خلقهم.. وأنه جلّ شأنه: «مَلِكِ النَّاسِ» أي مالك أمرهم، وباسط سلطانه عليهم، وأنه سبحانه «إِلهِ النَّاسِ» أي سيدهم، وهم عبيده، يتصرف فيهم كيف يشاء، بماله من سلطان عليهم.. وقد يقال: إن صفة الألوهية يقوم لها السلطان المطلق على المألوهين من غير داعية إلى ربوبية، أو ملك.. فما داعية ذكر الربوبية والملك هنا؟ والجواب- والله أعلم- أن ذكر الربوبية بيان لفضل الله وإحسانه على عباده، وأنه لم يملكهم إلا وقد خلع عليهم خلع الربوبية، فرباهم، ونشّأهم، الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1746 وأمدّهم بكل ما هم فى حاجة إليه.. فملكهم بإحسانه وفضله، قبل أن يملكهم بجبروته وقهره.. وفى ذكر الملك، إشارة إلى أن الله سبحانه إنما يربّى ما يملك، ويتصرف فيما هو له.. فإذا قامت الألوهية على الناس بعد هذا بسلطانها، لم يكن هذا السلطان سلطان قهر وجبريّة، وإنما هو سلطان فضل وإحسان، سلطان المالك فيما ملك. وقد جاءت هذه الصفات الثلاث لله سبحانه على هذا الترتيب: الربوبية فالملك، فالألوهية، لتكشف عما لله سبحانه فى الناس من سلطان متمكن، قائم على العدل والإحسان.. فهو سبحانه المربّى والمنشئ لهم.. وقد يربّى المربّى، وينشّىء المنشئ ولا يملك ما ربّاه ونشّأه.. ولكن الله سبحانه، هو المربى، وهو المالك لما يربى.. ثم إنه قد يربى المربى، ويملك ما يرّبيه، ولكن لا يقوم له سلطان متمكن على ما يربيه ويملكه، فقد يخرج عن يده لسبب أو لآخر.. ولكن الله سبحانه هو المربى والمالك لما يربى، والإله القائم بسلطانه المطلق على ما ربّى وما ملك! وفى تخصيص الناس بالاستعاذة منهم، وفى جعل هذا فى سورة خاصة بهم تسمى سورة «الناس» - فى هذا إشارة إلى أن الناس، من بين المخلوقات التي يعرفونها، هم الذين يفعلون الشر، بما ركب فيهم من إرادة عاملة، قادرة على أن تتجه نحو الخير، أو الشر.. فكل مخلوق- فيما يرى الإنسان ويعلم- قائم على فطرة، لا يتحول عنها، ولا يأخذ طريقا غير طريقها الذي أقامها الله سبحانه وتعالى عليه. ومن هنا، ترى جميع المخلوقات، التي تعايشنا على هذه الأرض تحكمها طبيعة واحدة، فى كل جنس من أجناسها، أو نوع من أنواعها الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1747 فأفراد الجنس الواحد، أو النوع الواحد، كلها على طريق سواء، فى حياتها، لا يختلف فرد عن فرد، ولا تشذّ جماعة عن جماعة، فى أي مكان وأي زمان.. فالنملة الواحدة، هى النمل جميعه، والنحلة الواحدة، هى النحل كله، والغراب الواحد، هو الغربان جميعها، والذئب الواحد، هو الذئاب كلها.. وهكذا، كل فرد فى جنسه، يحمل تاريخ الجنس كله، لا تحتاج فى التعرف على هذا الجنس إلى أكثر من التعرف على فرد منه.. فى أي مكان وفى أي زمان. ومن هنا كان من الممكن رصد الشرور الناجمة من بعض الحيوان، والعمل على توقّيها، وأخذ الحذر منها.. فإنه إذا عرف الشرّ أمكن توقّيه، وسدّ المنافذ التي ينفذ منها.. وليس كذلك الإنسان.. فكل إنسان عالم وحده، له وجوده الذاتي، وله عقله، وإدراكه، وتصوراته، ومنازعه، وخيره، وشرّه.. وهيهات أن يلتقى إنسان مع إنسان لقاء مطابقا فى جميع الوجوه، ظاهرا وباطنا.. ولهذا فإنه لا يمكن رصد شرور الناس، بل إنه لا يمكن رصد شرّ إنسان واحد، ولا رسم الحدود التي يقف عندها.. ومن هنا كانت الاستعاذة من الناس، على هذا الوجه الخاص، لأن الشرور التي تقع منهم، بل من أىّ واحد منهم، كثيرة لا تحصى، متعددة متنوعة، لا تحصر.. ولعل هذا هو بعض السر فى تكرار لفظ «الناس» ثلاث مرات فى مطلع السورة، فهم ليسوا ناسا وحسب، بل هم ناس، وناس، وناس.. إنهم فى مجموعهم، أخيار، وأشرار، وخليط من أخيار وأشرار.. وهم فى أفرادهم: خير، وشر، وخليط من الخير والشر.. فالإنسان يحسن، ويسىء، ويقف موقفا بين الإساءة والإحسان. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1748 قوله تعالى: «مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ» هو بيان للمستعاذ منه، برب الناس، ملك الناس، إله الناس.. والوسواس الخناس: هو ما يطرق الإنسان من وساوس وظنون، مما تسوّل له به نفسه، من منكرات، وما يزين له به إخوان السوء، وما يغريه به أهل الضلال من مفاسد، وآثام.. وتسمية هذه الطوارق المنكرة، وتلك الواردات المضلّة، بالوسواس، لأنها تدخل على الإنسان فى مسارّة ومخافتة، وتلقاه من وراء عقله، وفى غفلة من ضميره.. إنها توسوس له، وتهمس فى صدره، دون أن يحضرها عقله، أو تشهدها حواسه.. وهذا واضح إذا كان هذا الوسواس من ذات الإنسان نفسه، ومن نزغات شيطانه. أما إذا كان هذا الوسواس من شيطان من شياطين الإنس، فإن الوسوسة تكون بينه وبين من يوسوس له، بمعزل عن أعين الناس، وعن أسماعهم، حتى لا يروا ولا يسمعوا هذا السوء الذي يوسوس به، ولا هذا المنكر الذي يدعو إليه.. وهكذا المنكرات والآثام، لا يدعى إليها علانية، كما لا يأتيها مقترفوها علانية.. إنها لا تتمشّى إلا فى الظلام، ولا يلتقى بها أصحابها المتعاملون بها- من داعين بها ومدعوين إليها- إلا فى تلصص ومسارقة.. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1749 وفى وصف الوسواس «بالخناس» إشارة إلى أنه يخنس، أي يغيب شخصه ويتلاشى وجوده، وهو يؤدى مهمته بما يوسوس به، فلا يرى المستمع له ظلا لشخصه، ولا يحسّ وجودا لذاته، وإنما الذي يتمثل له فى تلك الحال هو شخوص ما يوسوس له به، ووجوه ما يدعو إليه.. فالموسوس- لكى يؤدى دوره على أتمّ وجه- ينبغى أن يغيب شخصه، وأن يختفى وجوده، حتى يخلى المكان لما يوسوس به، فلا يشغل الموسوس إليه بشىء عنه، ولا يتمشى فى صدره شىء غير تلك الوسوسة.. وفى قوله تعالى: «الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ» وفى جعل الوسوسة فى الصدور، مع أنها تكون فى الآذان- إشارة إلى أن هذه الوسوسة إنما تتدسس إلى الصدور، دون أن تشعر بها الآذان، وأنها لا تحدث أثرها السيّء إلا إذا أخذت مكانها من الصدور، أي القلوب، ووقعت منها موقعا.. على خلاف الآذان، فإن كثيرا من وساوس السوء تطرقها، ثم لا تجد لها من أصحابها أذنا صاغية، فتسقط ميتة، وتدرج فى أكفان الريح! وقوله تعالى: «مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ» «من» هنا بيانية، تكشف عن وجه الوسواس الخناس، وهو أنه إما أن يكون إنسانا، أو شيطانا.. من عالم الإنس، أو عالم الجن.. والوسواس الخناس- كما قلنا- كائن لا يكاد يرى شخصه، حين يوسوس، حيث يتدسس إلى من يوسوس إليه خفية، ويدخل عليه من حيث لا يشعر.. ولهذا جمع الله سبحانه وتعالى بين الوسواس من عالم الإنس، والوسواس من عالم الجن.. فالإنسان الذي يوسوس للناس بالسوء، ويغريهم به. هو شيطان، فى خفاء شخصه، وفى عداوته للإنسان، وفيما يحمل إليه الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1750 من شر، وإن على الإنسان أن يحذر هذا الوسواس من الناس كما يحذر الشيطان.. وعبّر عن الشيطان هنا بلفظ الجن، للدلالة على خفائه، وعدم إمكان وقوع العين عليه، وإن كان له لمة يعرفها المؤمن، ونخسة يشعر بها، ويعلم أنها من وارداته.. وعالم الجن، أو الشيطان، وإن يكن غير منظور لنا، فإن علينا الإيمان به، وأنه يعيش معنا على هذه الأرض، ويرانا من حيث لا تراه، كما يقول تعالى عن الشيطان: «إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ» (27: الأعراف) وهذا العالم غير المرئي، هو عدوّ لنا، متربص بنا، أشبه بجراثيم الأمراض التي لا ترى بالعين المجردة، وإن كان يمكن رؤيتها بأجهزة خاصة، كما يمكن أن يرى الشيطان لكثير من المؤمنين بعين البصيرة لا الإبصار، فلنحذر هذا العدو الراصد، كما نحذر الوباء، كما يقول سبحانه: «إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا» (6: فاطر) وإنه ليس علينا أن نبحث عن كنه الشيطان، ولا عن حياته الخاصة فى عالمه، ولا عن طعامه، شرابه، ونزاوجه، وتوالده.. وإنما الذي علينا أن نعلمه، هو أنه عدوّ غير مرئىّ لنا، وأنه يتدسس إلى مشاعرنا، ومدركاتنا، وعواطفنا، ويحاول جاهدا أن يؤثر فيها، وأن يخرج بها عن جادّة الحق والخير، إلى طريق الغواية والضلال، فيزين لنا الشر، فنراه خيرا، والضلال، فتراه هدى! والشيطان، ليس هو النفس الأمارة بالسوء، كما يرى ذلك بعض الناس، وإنما هو كائن له وجوده المستقل خارج العالم الإنسانى، وله حياته الخاصة، شأنه فى هذا شأن الكائنات والعوالم غير المرئية التي تعيش معنا، كالجراثيم، والهواء، بل والإنسان الذي يلبس ثوب الوسواس.. فإنه شيطان غير مرئى. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1751 وهو- أي الشيطان- مخاطب خطابا مستقلا من الله سبحانه وتعالى، كما هو شأن الإنسان، وهو محاسب، ومجازى على ما يعمل، وفى هذا يقول الله تعالى: «وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ، وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً.. إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ» (64- 65 الإسراء) ويقول سبحانه: «وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً» 112: الأنعام) .. ويقول جل شأنه: «وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً» (6: الجن) .. وقد سخر الله بعض الجن لسليمان- عليه السلام- كما سخر له الريح.. فقال تعالى: «وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ» (82 الأنبياء) وقال سبحانه: «يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ» (13: سبأ) . فالشيطان أو الجن، عالم غير منظور، يقابل عالم الإنسان المنظور، وبين العالمين احتكاك أشبه بالاحتكاك الذي يقع بين الإنسان والإنسان، وفى احتكاك الإنسان بالإنسان يتولد خير وشر.. أما احتكاك الشيطان بالإنسان، فلا يتولد منه إلا شر محض.. كما يتولد الشر من احتكاك الإنسان بالإنسان فى مجال العداوة والبغضاء.. وليس بين الشيطان والإنسان إلا عداوة دائمة متصلة، وليس يرد على الإنسان من الشيطان إلا السوء الخالص، والشر الصريح، كما يقول سبحانه.. «إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا.. إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ» . (6: فاطر) فاللهم احفظنا من وساوس النفس وأهوائها، ومن كيد الشيطان وزغانه، واجعل لنا من لدنك وليّا، واجعل لنا من لدنك نصيرا، حتى نستقيم على الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1752 طريقك القويم، ونبلغ بعونك وتوفيقك ما يرضيك عنّا، ويدخلنا فى عبادك الصالحين فى الدنيا والآخرة.. «رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» .. «رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً» وصلّ اللهم وسلم على محمد، نبيك ورسولك، الرحمة المهداة، والنور المبين، الذي اهتدينا به، وبما تلاه علينا من كتابك الكريم، وعلى آله، وصحبه، ومن اهتدى بهديه، وسلك سبيله. وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، فاتحة بدء، وحسن ختام. هذا، وكان غاية هذه الرحلة المباركة فى رياض كتاب الله، وفى صحبته، تلك الصحبة المسعدة المتصلة مع آياته، آية آية، ومع كلماته، كلمة كلمة، حتى استوفت القرآن الكريم كله- كان ذلك صباح يوم الخميس المبارك، لتسعة عشر يوما خلت من جمادى الأولى سنة تسعين وثلاثمائة وألف، من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الموافق لليوم الثالث والعشرين من شهر يوليو سنة ألف وتسعمائة وسبعين ميلادية.. وعلى زاد هذه الرحلة المباركة، نعيش ما بقي لنا من أجل، ومن جنى ثمارها الطيبة المباركة، نعطى مما فى وسعنا، وننفق مما فى أيدينا.. نبتغى بذلك وجه الله، وحسن المثوبة، وكريم الشفاعة من كتاب الله، ومن رسول الله، فهما وسيلتي إلى الله، أرجو بهما خير الدنيا، وحسن ثواب الآخرة: «وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ» كما أسأله- سبحانه- أن يبارك لى فى زوجى التي هيأت لى أسباب التوفر على هذا العمل، وكانت لى رفيق سفر فى هذه الهجرة المباركة إلى كتاب الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1753 الله.. فجزاها الله عنّى خيرا، وأقرّ عينها وعينى بوحيدتنا «هناء» وبارك لنا فيها، وتولّاها برعايته وتوفيقه، وجعلها من أحبابه وأهل ودّه، فى الدنيا والآخرة. إنه سميع مجيب. هذا، وقد كنا على نية أن نلحق بخاتمة هذا التفسير، تعريفا بالمؤلف، يتناول حياته، وثقافته، وظروف الحياة التي تلبست به وهو بين يدى هذا التفسير، وأحداث عصره التي أثّرت فيه.. فذلك- فى رأينا- مما يرفع لعينى الدارس لهذا التفسير صورة للمؤلف، توثق الصلة به، وتجعل حديثه إليه بظهر الغيب، حديث مشاهدة ومشافهة، وبهذا يتسع بينهما مجال المحاورة والمجادلة، وتكثر فى طريقهما مواقف المراجعة والحساب، الأمر الذي من شأنه أن يبعث نشاط الدارس، ويستثير ملكاته، ويشعره دائما أنه فى مواجهة من يحاسبه ويراجعه، ويحصى عليه غفلاته، وشرود خواطره، كما يحاسب هو المؤلّف ويراجعه، ويأخذ عليه غفلاته وهفواته! نعم، كنت على هذه النية، حتى إذا كتب القلم آخر كلمات فى تفسير سورة الناس، وأردته على أن يمضى معى فيما انتويته من كتابة التعريف بالمؤلف، أبى إلا جماحا وشرودا، وبدا لى أن يد القدر تمسك بالقلم عن أن يمضى لما قصدت إليه، وأن من الخير أن يخرج هذا التفسير خالصا من كل ما ليس من صميمه!! لهذا عوّلت على أن يكون التعريف بالمؤلف، وما اتصل به فى عصره من أشخاص وأحداث- فى كتاب خاص، يلحق به ما يسفر عنه ظهور هذا التفسير وتداوله فى محيط العلماء والدارسين، وما لهم فيه من آراء.. فإلى لقاء مع المؤلف فى هذا الملحق.. إن شاء الله. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1754 [كلمة شكر] على أنه لا يفوتنى هنا أن أسبق هذا الكتاب المرتقب، فأبادر بتقديم خالص الشكر للسادة العلماء فى آفاق العالم الإسلامى، الذين استقبلوا هذا التفسير بكثير من الحمد والرضا، سواء منهم من تابع الاطلاع، والدراسة، والتعقيب، على كل جزء تم طبعه من هذا التفسير، أو من أقام رأيه فيه على أول جزء ظهر منه، مقدّرا أن مبادئ الأمور تدل على خواتيمها، وأن مطالع الزهر، ينبىء عن وجوه الثمر.. وسواء من هؤلاء السادة العلماء من كان ثناؤه خالصا، ومن جاء حديثه موجّها ناصحا.. فلهؤلاء وهؤلاء جميعا أوجّه عظيم الشكر ومزيد الحمد. وإنى لأذكر هنا بالحمد والثناء ما لقى هذا التفسير وصاحبه من أسرة مجلة «قافلة الزيت» بالمملكة العربية السعودية من احتفاء وتنويه.. فمنذ صدر الكتاب الأول من «التفسير القرآنى» والمجلة ترصد حركاته، وتعلن عن مولد كل جديد منه.. حتى إذا كاد يكتمل ويبلغ الغاية تفضلت أسرة المجلة بتقديم هدية كتابية ثمينة طىّ رسالة رقيقة من رئيس تحريرها الأستاذ الجليل «منصور مدنى» فكان ذلك خير جزاء معجل فى الدنيا لهذا الجهد الذي بذلته ابتغاء وجه الله، والذي أرجو أن يكون لكل من ساعد فى هذا الجهد، بقول أو عمل، جزاؤه من واسع فضل الله، وعظيم إحسانه، فإنه لا يشكر الله، من لا يشكر الناس.. فجزى الله أسرة مجلة «قافلة الزيت» عنّى خيرا، وأجزل المثوبة لمديرها العام الأستاذ الكبير «مصطفى حسن الخان» ومديرها المسئول الأستاذ الفاضل «على حسن قناديلى» ورئيس تحريرها الأستاذ النبيل «منصور مدنى» ومحررها المساعد الأستاذ الفاضل «عونى أبو كشك» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1755 أما الأستاذ- محمد محمود الخضرى- صاحب- دار الفكر العربي، وناشر هذا التفسير، والذي وقف إلى جانبى بكل ما يملك من جهد، وواصل المسيرة معى خطوة خطوة، من بدء هذه الهجرة إلى كتاب الله حتى نهايتها- غير ضنين بجهد أو مال فى سبيل تحقيق هذه الرسالة، ابتغاء خدمة كتاب الله، وتيسير آياته للذكر، وتعميم النفع به- فهو قسيمى فيما نرجو من حسن المثوبة، وكريم العطاء من رب العالمين، فجزاه الله خيرا، وبارك عليه فى ولده، وأهله، وماله، ورعى الله هذه الدار العربية الإسلامية، ورعى العاملين بها، السادة: فهمى حامد على مدير الدار، وأمين محمد محمود الخضرى، وبدوي بدوي مصطفى.. والأين العزيز محمد عبد الغنى السيد، الذي شارك مع أخى وزميلى الأستاذ الجليل سيد طلبه القصّاص، فى عملية المراجعة والتصحيح أثناء عملية الطبع،. وكان لهما فضل كبير فى تجنب كثير من الأخطاء. فلقد كان هؤلاء جميعا يتعبدون لله فى محراب العمل معى، لإخراج هذا التفسير، ودفع العوائق التي تعترض سبيله، أو تعوّق مسيرته. هذا، ومن توفيق الله، ومن تيسيره لهذا العمل، أن تتولى طبعه وإخراجه مطبعة «السنة المحمدية» التي أسسها العالم الحافظ الإمام المجتهد، محيى السنة، المرحوم «الشيخ محمد حامد الفقى» . فقد أقام هذه المطبعة على أساس من تقوى الله ورضوانه، فطابت فيها مغارسه من رجال، وأعمال، حتى لقد خرجت هذه المطبعة عن أن تكون عملا تجاريّا، إلى دار عبادة، ومحراب صلاة.. ولهذا تجدنى إذ أذكر صاحب هذه المطبعة، وأدعو له بالرحمة والرضوان، أذكر أبناءه وتلاميذه الذين ربّاهم فيها على يديه، ونشّأهم على الأمانة والتقوى، وعلى رأسهم ابنه الفاضل الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1756 الأستاذ محمد الطيب، وتلميذه الوفى البار الحاج أحمد إبراهيم القائم على إدارة المطبعة، وتصريف شئونها، فى مراقبة الله، وإخلاص فى العمل، وحفيده محمد سيد احمد، ومريدوه: الشيخ محمد محمد نصر الدين، وعبد الرازق محمد الكاشف، وجميع عمال المطبعة، الذين حملوا الأمانة، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه. ولو أنى ذهبت أذكر جميع الذين لهم فضل المشاركة والمعاونة فى هذا الكتاب لا تسع مجال القول، وجاوز الحدّ الذي عزمت على التزامه، والوقوف عنده فى المقام. فشكرا شكرا، لكل من شارك فى هذا التفسير من قريب أو بعيد، فى سرّ أو علن. «وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ.. وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى.. «سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» . القاهرة فى/ 27 رمضان 1390 هـ يو الخميس/ 26 نوفمبر 1970 م أحمد إبراهيم رئيس مطبعة السنة المحمدية الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1757 فهرس الموضوعات (جزء.. عمّ) الموضوع/ الصفحة. الليالى العشر.. ما تأويلها؟ / 1546. وهديناه النجدين.. ما تأويله؟ / 1573. مسيرة الإنسان، إلى أمام أم وراء؟ / 1615. سورة الهب، ونظمها/ 1703. النبىّ.. وحديث السّحر!! / 1727 الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1758 تصويب الأخطاء نعتذر عن بعض الأخطاء التي وقعت فى هذا التفسير، على الرغم من اجتهادنا فى تجنبها وتوقىّ الوقوع فيها. ولكن كيف لا نخطىء ونحن بشر؟ إن الخطأ منّا شهادة ناطقة على أن الكمال لله وحده، وأن العصمة لأنبيائه ورسله، وقد وقع معظم هذه الأخطاء فى الكتب الأربعة الأولى، قبل أن تتمهد الطريق بين المؤلف وللطبعة.. والمرجو أن يتفضل القارئ مشكورا فيجرى بالقلم هذه التصويبات: الكتاب الأول الصفحة/ السطر/ الخطأ/ الصواب 20/ 9/ الطاغوت/ الطاغوت 63/ 11/ ولقد خلقنا/ لقد خلقنا 83/ 19/ والمساكين وابن السبيل وقولوا/ والمساكين وقولوا 137/ 1/ ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل/ ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة 146/ 14/ وهو ربنا وربكم ونحن له مخلصون/ وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون 171/ 7/ أرأيت من اتخذ/ أفرأيت من اتخذ 173/ 18/ أمواتا/ أموات 185/ 7/ وأن الله شديد العقاب/ وأن الله شديد العذاب 188/ 5/ ما وجدنا عليه/ ما ألفينا عليه 202/ 10/ ولتكبروا الله مع/ ولتكبروا الله على 232/ 7/ فإن الله سريع الحساب/ فإن الله شديد العقاب 243/ 15/ آياته/ الآيات 247/ 11/ آياته/ الآيات 305/ 14/ وقالوا لنبى لهم/ إذ قالوا لنبىّ لهم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1759 الكتاب الثاني الصفحة/ السطر/ الخطأ/ الصواب 386/ 13/ والله بكل شىء عليم/ والله بما تعملون عليم 435/ 4/ إذ قالت رب/ إذ قالت امرأة عمران رب 475/ 15/ فاما الذين آمنوا/ وأما الذين آمنوا 538/ 4/ إن تطيعوا الذين/ إن تطيعوا فريقا من الذين 587/ 7/ أولئك يؤتونه/ أولئك يؤتون 612/ 6/ الآخرة/ الآخرة 615/ 19/ لكيلا تأسوا/ لكيلا تحزنوا 623/ 18/ مما تعملون خبير/ بما تعملون بصير 629/ 9/ فليتوكل المؤمنين/ فليتوكل المؤمنون 642/ 4/ لم يلحقوا به/ لم يلحقوا بهم 651/ 4/ حتى يميز الله الخبيث/ حتى يميز الخبيث 654/ 8/ من بين يديه خلفه/ من بين يديه ومن خلفه الكتاب الثالث 773/ 16/ والذين يحتنبون/ الذين يجتنبون 837/ 14/ هم الغالبون/ هم المفلحون 877/ 15/ وكان الله غفورا رحيما/ وكان الله عفوا غفورا 936/ 11/ جامع الكافرين والمنافقين/ جامع المنافقين والكافرين 938/ 18/ جامع الكافرين والمنافقين/ جامع المنافقين والكافرين 955/ 10/ سميعا بصيرا/ سميعا عليما 963/ 7/ طبع الله عليها فلا/ طبع الله عليها بكفرهم فلا 1061/ 6/ المسيح عيسى بن مريم/ المسيح ابن مريم 1143/ 17/ وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا/ وعمل صالحا فلا خوف عليهم الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1760 الكتاب الرابع الصفحة/ السطر/ الخطأ/ الصواب 15/ 14/ ومن قتل خطأ/ ومن قتل مؤمنا خطأ 29/ 10/ إلا ذكيتم/ إلا ما ذكيتم 68/ 10/ إنا إذن من الآثمين/ إنا إذا من لمن الآثمين 74/ 6/ إذا أيدتك/ إذ أيدتك 216/ 6/ قل إن الهدى هدى الله/ قل إن هدى الله هو الهدى 218/ 8/ والشهادة الحكيم الخبير/ والشهادة وهو الحكيم الخبير 247/ 18/ قد فصلنا الآية/ قد فصلنا الآيات. الكتاب الخامس 589/ 18/ واعلموا أن الله مع المتقين/ واعملوا أن الله شديد العقاب 823/ 8/ قل هو أذن خير لكم/ قل أذن خير لكم 823/ 10/ قل هو أذن خير لكم/ قل أذن خير لكم هذا، وهناك بعض أخطاء لا يخفى وجه الصواب فيها على فطنة القارئ. م 111- التفسير القرآنى ج 30 الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1761 فهرس الموضوعات، والمباحث، والقضايا التي عالجها هذا التفسير الكتاب الأول (المجلد الأول) الموضوع/ الصفحة/ السورة الجن.. الشيطان.. إبليس/ 54/ «البقرة» آدم.. مادة خلقه.. وجنته/ 59/ «البقرة» النسخ.. معناه، ومتعلقه/ 120 «البقرة» النفقة للمتوفىّ عنها زوجها/ 288 «البقرة» الطلاق.. وحكمه/ 295/ «البقرة» الكتاب الثاني الربا.. أنواعه.. أحكامه/ 363/ «البقرة» الدّين.. توثيقه.. والإشهاد عليه/ 377/ «البقرة» المحكم والمتشابه فى القرآن/ 398/ آل عمران كلام المسيح فى المهد.. على أية صورة وقع؟ / 449/ «آل عمران الخير فى خير أمة أخرجت للناس/ 546/ «آل عمران المسلمون واليهود.. فى مسيرة الحياة/ 553/ «آل عمران تعدد الزوجات.. حكمته، وضوابطه/ 689/ «النساء الكتاب الثالث زواج المتعة.. والرأى فيه/ 741/ «النساء الصلاة.. وشارب الخمر/ 793/ «النساء القتل الخطأ.. والقتل العمد/ 861/ «النساء القرآن.. والمسيح المصلوب/ 868/ «النساء الوسيلة.. والتوسل بأصحاب القبور/ 1085/ «المائدة الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1762 الموضوع/ الصفحة/ السورة الكتاب الرابع (المجلد الثاني) الخمر.. مادتها.. حكم شاربها/ 22/ «المائدة المسيح الإله.. والمسيح الإنسان/ 87/ «المائدة مشيئة الله ومشيئة العباد/ 263/ «الأنعام الكتاب الخامس رسالة الإسلام.. ونسخها للرسالات السابقة/ 495/ «الأعراف الحرب والسلام.. فى الإسلام/ 652/ «الأنفال المسلم.. وكم حسابه فى ميدان القتال؟ / 666/ «الأنفال الإسلام.. دين المستقبل/ 740/ «التوبة التكافل الاجتماعى.. فى الإسلام/ 806/ «التوبة الكتاب السادس الجزاء الدنيوي.. وجزاء الآخرة/ 937/ «يونس الإنسان، وما ينزل من السماء/ 987/ «يونس السمع والبصر، ومكانهما فى الإنسان/ 999/ «يونس العلم، وأسلوب تحصيله/ 1075/ «يونس الناس.. وهذا الاختلاف فى حظوظ الحياة/ 1214/ «هود يوسف، والفتنة المتحدية/ 1251/ «هود (الكتاب السابع) المجلد الثالث لمحة من القضاء والقدر/ 21/ «يوسف قميص يوسف.. ما هو/ 43/ «يوسف الحق والباطل.. دولة ودولة/ 93/ «الرعد ذكر الله.. واطمئنان القلوب به/ 110/ «الرعد الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1763 الموضوع/ الصفحة/ السورة الكلمة الطيبة.. والكلمة الخبيثة/ 170/ إبراهيم إبليس.. ومن له سلطان عليهم/ 234/ الحجر القرآن الكريم.. والحقائق الكونية/ 341/ النحل مع النسخ.. مرة أخرى/ 361/ النحل الكتاب الثامن وقفة مع الإسراء والمعراج/ 412/ الإسراء الحقيقة المحمدية.. وما يقال فيها/ 434/ الإسراء بنو إسرائيل ووعد الآخرة/ 442/ الإسراء العرب وقتل الأبناء ووأد البنات/ 478/ الإسراء الشجرة الملعونة فى القرآن.. ما هى؟ / 512/ الإسراء أصحاب الكهف.. من هم؟ / 585/ الكهف القضاء والقدر/ 672/ الكهف قصة موسى والعبد الصالح/ 640/ الكهف ذو القرنين.. من هو وما شأنه؟ / 696/ الكهف يأجوج ومأجوج.. من هم؟ / 706/ الكهف جهنم.. وهل يردها الناس جميعا؟ / 756/ مريم الكتاب التاسع الخير والشر/ 874/ الأنبياء أولياء الله، وما يبتلون به/ 932/ الأنبياء الحياة، وخالق الحياة/ 975/ الحج مناسك الحج.. ومشاهد القيامة/ 1014/ الحج الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1764 الموضوع/ الصفحة/ السورة الغرانقة العلى.. وقصتها ومن أين جاءت؟ / 1061/ الحج الجلد والرجم.. وجريمة الزنا/ 1201/ النور الكتاب العاشر (المجلد الرابع) الماء والماء.. والناس والناس/ 43/ الفرقان التكرار.. والقصص القرآنى/ 96/ الشعراء كلمات الله.. وكيف تلقاها النبي؟ / 156/ الشعراء الشعر.. ونظرة الإسلام إليه/ 195/ الشعراء سليمان.. والملة.. والهدهد/ 224/ النمل الدابة التي تكلّم الناس.. ما هى؟ / 288/ النمل موسى.. والقتيل الذي قتله/ 327/ القصص الكتاب الحادي عشر من انباء الغيب/ 475/ الروم الليل وما وسق/ 499/ الروم فتنة الترتيب النزولى للقرآن/ 632/ الأحزاب المرأة والرجل فى بيت النبوة/ 688/ سبأ زينب.. وزواج النبي منها/ 715/ صبأ الأمانة التي حملها الإنسان.. ما هى؟ / 761/ سبأ الرسول.. وعموم الرسالة الإسلامية/ 812/ سبأ الإيحاء النفسي.. وأسلوب الدعوة/ 871/ فاطر القرية، والمرسلون إليها/ 913/ يس الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1765 الموضوع/ الصفحة/ السورة الكتاب الثاني عشر داود، ما خطيئته؟ / 1065/ ص سليمان والشمس.. والجسد الملقى على الكرسي/ 1079/ ص بين النفس.. والروح.. والجسد/ 1161/ الزمر مؤمن آل فرعون.. أنبيّ هو؟ / 1225/ غافر الكتاب الثالث عشر (المجلد الخامس) قل لا أسألكم عليه أجرا.. ما تأويله؟ / 44/ الشورى الشورى فى الإسلام.. منهجا وتطبيقا/ 67/ الشورى مفهوم جديد للحروف فى أوائل السور/ 89/ الشورى بيعة العقبة وليلة الجن/ 290/ الأحقاف الحرب والسلام فى الإسلام/ 311/ محمد النبىّ.. وما ذنبه الذي يستغفر له؟ / 341/ محمد الجهاد.. والحرب النفسية/ 378/ محمد الكتاب الرابع عشر هذا الانقلاب فى عوالم الوجود يوم القيامة، ما تأويله؟ / 545/ الطور البعث، وعلى أية صورة يقع؟ / 549/ الطور المعراج، وما يقال فيه/ 594/ النجم سورة الرحمن.. ونظمها/ 650/ الرحمن الأقسام المنفية فى القرآن، ودلالتها/ 732/ الواقعة المسيحية رأفة ورحمة.. ثم ماذا؟ / 792/ الحديد الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1766 الموضوع/ الصفحة/ السورة الحروف التي يقال بزيادتها.. ما تأويلها؟ / 802/ الحديد القرآن، وما يتجلى على الوجود منه/ 879/ الحشر المسيح، وتبشيره بالنبي/ 922/ الصف «فاتقوا الله ما استطعتم.. ما تأويله؟ / 992/ التغابن الكتاب الخامس عشر (تبارك) الموت، والحياة/ 1046/ الملك بين أصحاب الجنة، ومشركى قريش/ 1090/ القلم النبي.. وصاحب الحوت/ 1114/ القلم الإسلام، وشهوة الجنس/ 1181/ المعارج مخاطبات القرآن.. ما سر حكايتها كما هى؟ / 1312/ القيامة وحي القرآن.. ووحي السنة/ 1319/ القيامة الكتاب الخامس عشر (عم) الليالى العشر.. ما تأويلها؟ / 1546/ الفجر وهديناه النجدين.. ما تأويله؟ / 1573/ البلد مسيرة الإنسان، إلى أمام أم وراء؟ / 1615/ العصر سورة اللهب، ونظمها/ 1703/ اللهب النبي.. وحديث السحر/ 1727/ الفلق «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا، رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ» . «وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» . الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1767 للمؤلف فى العقيدة- قضية الألوهية.. جزءان. - القضاء والقدر. - المسيح فى القرآن والتوراة والإنجيل. - نشأة التصوف. - التعريف بالإسلام. فى الشريعة- إعجاز القرآن.. جزءان. - التفسير القرآنى للقرآن.. خمسة عشر جزءا. - النبىّ محمد صلى الله عليه وسلم. - القصص القرآنى. - السياسة المالية فى الإسلام. - فى طريق الإسلام. - من الحقل الإسلامى. - الخلافة والإمامة. - الدعاء المستجاب. فى السّير. عمر بن الخطاب. على بن أبى طالب. محمد بن عبد الوهاب (الدعوة الوهابية) فى الأدب الأدب الصوفي فى مفهوم جديد الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1768