الكتاب: تأويل مشكل القرآن المؤلف: أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (المتوفى: 276هـ) المحقق: إبراهيم شمس الدين الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- تأويل مشكل القرآن الدِّينَوري، ابن قتيبة الكتاب: تأويل مشكل القرآن المؤلف: أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (المتوفى: 276هـ) المحقق: إبراهيم شمس الدين الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] تقديم تاويل مشكل القران بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحبه الكرام المنتجبين. وبعد، يقول الله تعالى في كتابه العزيز: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) [الإسراء: 9] ، ويقول تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً (82) [الإسراء: 82] ، ويقول تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) [الإسراء: 88] ، ويقول تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) [القمر: 17، 22، 32، 40] . للقرآن الكريم أكبر شأن في أمر الإسلام والمسلمين، فهو هديهم في شريعتهم، وهو المنار الذي يستضاء به في أساليب البلاغة العربية، بل هو المنبع الصافي الذي ينهلون منه فلسفتهم الروحية والخلقية، وهو بالجملة الموجّه لهم في الحياة والمعاملات وشتى مظاهر الحياة. فلا عجب أن يكون القرآن الكريم موضع عناية المسلمين منذ القدم، فقد تتابعت أنواع التآليف في أحكامه وفي تفسيره وفي بلاغته وفي لغته وفي إعرابه، حتى لقد ازدهرت في الثقافة الإسلامية ضروب من العلوم والفنون حول القرآن الكريم وتحت رايته. هذا كتاب «تأويل مشكل القرآن» للإمام أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، المتوفى سنة 276 هـ. وهو كتاب فريد في بابه ويعتبر من أوائل الكتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 التي بحثت في مشكل القرآن الكريم، والشكوك التي تثار حوله، والمطاعن التي تسدد نحوه. يقول ابن قتيبة: «قد اعترض كتاب الله بالطعن ملحدون، ولغوا فيه وهجروا، واتبعوا ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ بأفهام كليلة، وأبصار عليلة، ونظر مدخول، فحرّفوا الكلام عن مواضعه، وعدلوه عن سبله، ثم قضوا عليه بالتناقض، والاستحالة في اللحن، وفساد النظم، والاختلاف، وأدلوا في ذلك بعلل ربما أمالت الضعيف الغمر، والحدث الغر، واعترضت بالشبه في القلوب، وقدحت بالشكوك في الصدور ... فأحببت أن أنضح عن كتاب الله، وأرمي من ورائه بالحجج النيرة، والبراهين البينة، وأكشف للناس ما يلبسون، فألّفت هذا الكتاب جامعا لتأويل مشكل القرآن، مستنبطا ذلك من التفسير بزيادة في الشرح والإيضاح، وحاملا ما أعلم فيه مقالا لإمام مطلع على لغات العرب، لأري المعاند موضع المجاز، وطريق الإمكان، من غير أن أحكم فيه برأي، أو أقضي عليه بتأويل، ولم يجز لي أن أنص بالإسناد إلى من له أصل التفسير، إذ كنت لم أقتصر على وحي القوم حتى كشفته. وعلى إيمائهم حتى أوضحته، وزدت في الألفاظ ونقصت، وقدّمت وأخّرت، وضربت لذلك الأمثال والأشكال، حتى يستوي في فهمه السامعون» . أما عملنا في هذا الكتاب فهو: أولا: وضع ترجمة وافية للمؤلف. ثانيا: حرصنا بقدر الطاقة على تنقية النص من الأخطاء المطبعية. ثالثا: شرحنا في حواشي الكتاب ما في متنه من غريب اللغة أو صعب المتناول منها، وذلك استنادا إلى المعاجم اللغوية المشهورة. رابعا: وضعنا في حواشي الكتاب تعريفا وافيا- مع ذكر المراجع- لجميع الأعلام، وما أهملناه من ذلك إما معروف مشهور، ولم نجد ضرورة لنافل القول فيه، وإما لم نهتد إليه فيما بين أيدينا من المصادر والمراجع. وقد أشرنا إلى ذلك أيضا. خامسا: خرّجنا جميع الأحاديث النبوية والآثار تخريجا وافيا، وضبطنا نص الحديث استنادا إلى كتب الحديث المعتبرة. سادسا: خرّجنا جميع الشواهد الشعرية في مظانها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 سابعا: خرّجنا جميع الأمثال في مظانها. ثامنا: خرّجنا جميع الآيات القرآنية الكريمة على المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم. وأخيرا، نرجو أن يكون عملنا هذا خالصا لوجهه تعالى، ولله الكمال وحده، وهو ولي التوفيق. إبراهيم شمس الدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 ترجمة ابن قتيبة الدينوري «1» هو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة بن مسلم، المروزي الدينوري، أصله من أسرة فارسية كانت تقطن مدينة «مرو» ، ولد سنة 213 هـ. في أواخر خلافة المأمون، ونشأ في بغداد، وتتلمذ على يد عدد كبير من العلماء وأعلام عصره، منهم: 1- أحمد بن سعيد اللحياني. 2- أبو عبد الله، محمد بن سلّام الجمحي البصري، المتوفى سنة 231 هـ. 3- أبو يعقوب، إسحاق بن إبراهيم، المعروف بابن راهويه المتوفى سنة 238 هـ. 4- حرملة بن يحيى التجيبي، المتوفى سنة 243 هـ. 5- القاضي يحيى بن أكتم المتوفى سنة 242 هـ. 6- أبو عبد الله، الحسين بن الحسين بن حرب السلمي المروزي المتوفى سنة 246 هـ. 7- دعبل بن علي الخزاعي، المتوفى سنة 246 هـ. 8- أبو عبد الله، محمد بن محمد بن مرزوق بن بكير بن البهلول الباهلي البصري، المتوفى سنة 248 هـ. 9- أبو إسحاق إبراهيم بن سفيان الزيادي، المتوفى سنة 249 هـ. 10- أبو حاتم، سهل بن محمد السجستاني، المتوفى سنة 248 هـ.   (1) انظر ترجمته في: كشف الظنون 5/ 441، البداية والنهاية 11/ 52- 53، الأعلام للزركلي 4/ 137، الأنساب للسمعاني، التهذيب للأزهري ص 13، مراتب النحويين لأبي الطيب الحلبي ص 137، ميزان الاعتدال للذهبي 2/ 77، لسان الميزان 3/ 358، النجوم الزاهرة 3/ 75، الفهرست لابن النديم، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 392- 463، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي 5/ 102، وفيات الأعيان لابن خلكان 2/ 246. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 11- محمد بن زياد بن عبيد الله الزيادي البصري، المقلب ببؤبؤ، المتوفى سنة 252 هـ. 12- أبو يعقوب، إسحاق بن إبراهيم بن محمد الصواف الباهلي البصري، المتوفى سنة 253 هـ. 13- أبو عثمان الجاحظ، عمرو بن بحر بن محبوب، المتوفى سنة 254 هـ. 14- أبو طالب، زيد بن أخزم الطائي البصري، المتوفى سنة 257 هـ. 15- أبو الفضل، العباس بن الفرج الرياشي، المتوفى سنة 257 هـ. 16- أبو سهل الصفار، عبدة بن عبد الله الخزاعي، المتوفى سنة 258 هـ. وقد تتلمذ على يدي ابن قتيبة عدد كبير من العلماء، منهم: 1- ابنه أحمد، أبو جعفر أحمد بن عبد الله بن مسلم الدينوري، المتوفى سنة 322 هـ. 2- أحمد بن مروان المالكي، المتوفى سنة 298 هـ. 3- أبو بكر محمد بن خلف بن المرزبان، المتوفى سنة 309 هـ. 4- أبو القاسم إبراهيم بن محمد بن أيوب بن بشير الصائغ، المتوفى سنة 313 هـ. 5- أبو محمد، عبيد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عيسى السكري، المتوفى سنة 323 هـ. 6- أبو القاسم، عبيد الله بن أحمد بن عبد الله بن بكير التميمي، المتوفى سنة 334 هـ. 7- الهيثم بن كليب الشامي، المتوفى سنة 335 هـ. 8- قاسم بن أصبغ الأندلسي، المتوفى سنة 340 هـ. 9- عبد الله بن جعفر بن درستويه الفسوي، المتوفى سنة 355 هـ. 10- أبو القاسم، عبيد الله بن محمد بن جعفر بن محمد الأزدي، المتوفى سنة 348 هـ. 11- أبو بكر، أحمد بن الحسين بن إبراهيم الدينوري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 12- أبو العباس محمد بن علي بن أحمد الكرجي، المتوفى سنة 343 هـ. 13- أبو رجاء، محمد بن حامد بن الحارث البغدادي، المتوفى سنة 343 هـ. مؤلفات ابن قتيبة ذكر أصحاب كتب التراجم لابن قتيبة الكثير من المصنفات، وهي: 1- آداب العشرة. 2- آداب القراءة. 3- أدب الكاتب. 4- اختلاف الحديث. 5- استماع الغناء بالألحان. 6- إصلاح غلط أبي عبيدة. 7- إعراب القرآن. 8- تأويل الرؤيا. 9- تأويل مختلف الحديث. 10- تأويل مشكل القرآن (وهو الكتاب الذي بين أيدينا) . 11- تقويم اللسان. 12- تفسير القرآن. 13- جامع الفقه. 14- جامع النحو الكبير. 15- جامع النحو الصغير. 16- الجوابات الحاضرة. 17- حكم الأمثال. 18- خلق الإنسان. 19- دلائل النبوّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 20- ديوان الكتاب. 21- طبقات الشعراء. 22- عيون الأخبار، في الأدب والمحاضرات. 23- عيون الشعر، يحتوي على عشرة كتب. 24- غريب الحديث. 25- غريب القرآن. 26- فرائد الدرر. 27- كتاب آلة الكتابة. 28- كتاب الاختلاف في اللفظ. 29- كتاب الأشربة. 30- كتاب الأنواء. 31- كتاب الحكاية والمحكي. 32- كتاب التسوية بين العرب والعجم. 33- كتاب التفقيه. 34- كتاب الجراثيم. 35- كتاب الخيل. 36- كتاب الرد على المشبهة. 37- كتاب الرد على القائل بخلق القرآن. 38- كتاب صناعة الكتابة. 39- كتاب الشعر والشعراء. 40- كتاب الصيام. 41- كتاب العلم. 42- كتاب فضل العرب والتنبيه على علومها. 43- كتاب القراءات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 44- كتاب المراتب والمناقب من عيون الشعر. 45- كتاب المسائل والأجوبة. 46- كتاب المعارف، في التاريخ. 47- كتاب الميسر والقداح. 48- كتاب الوحش. 49- كتاب الوزراء. 50- مختلف الحديث. 51- مشكلات القرآن. 52- معاني الشعر، يحتوي اثني عشر كتابا، 53- معجزات النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم. توفي ابن قتيبة، فيما يقول تلميذه أبو القاسم إبراهيم الصائغ: أنه أكل هريسة، فأصاب حرارة، ثم صاح صيحة شديدة، ثم أغمي عليه إلى وقت صلاة الظهر، ثم اضطرب ساعة، ثم هدأ، فما زال يتشّهد إلى وقت السحر، ثم مات، وذلك أول ليلة من رجب سنة 276 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 مقدمه المؤلف بسم الله الرّحمن الرّحيم قال عبد الله بن مسلم بن قتيبة: الحمد لله الذي نهج لنا سبل الرّشاد، وهدانا بنور الكتاب، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً [الكهف: 1] بل نزّله قيّما مفصّلا بيّنا لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) [فصلت: 42] وشرّفه، وكرّمه، ورفعه وعظّمه، وسماه روحا ورحمة، وشفاء وهدى، ونورا. وقطع منه بمعجز التّأليف أطماع الكائدين، وأبانه بعجيب النّظم عن حيل المتكلّفين، وجعله متلوّا لا يملّ على طول التّلاوة، ومسموعا لا تمجّه الآذان، وغضّا لا يخلق على كثرة الرد، وعجيبا. لا تنقضي عجائبه، ومفيدا لا تنقطع فوائده، ونسخ به سالف الكتب. وجمع الكثير من معانيه في القليل من لفظه، وذلك معنى قول رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أوتيت جوامع الكلم» «1» . فإن شئت أن تعرف ذلك فتدبر قوله سبحانه: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) [الأعراف: 199] كيف جمع له بهذا الكلام كل خلق عظيم، لأن في (أخذ   (1) أخرجه بهذا اللفظ مسلم في المساجد حديث 7، 8، وأحمد في المسند 2/ 250، 314، 442، 501، وابن كثير في تفسيره 4/ 72، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 7/ 113، وأبو نعيم في دلائل النبوة 1/ 14، وسعيد بن منصور في سننه 2862، وابن أبي شيبة في مصنفه 11/ 480، والمتقي الهندي في كنز العمال 32068، والعجلوني في كشف الخفا 1/ 14، 308. وأخرجه بلفظ: «بعثت بجوامع الكلم ونصرت بالرعب» . البخاري 4/ 65، 9/ 47، 113، ومسلم في المساجد حديث 6، والنسائي في المجتبى 6/ 3، 4، وأحمد في المسند 2/ 264، 455، والشهاب في مسنده 570، 571، والسيوطي في الدر المنثور 4/ 456، وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق 4/ 456، وابن كثير في البداية والنهاية 4/ 102، 6/ 48، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 7/ 113، وابن حجر في فتح الباري 12/ 391، 401، 13/ 247، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار 2/ 365، والتبريزي في مشكاة المصابيح 5749، وأبو عوانة في المسند 1/ 395، وابن عبد البر في التمهيد 5/ 219، والمتقي الهندي في كنز العمال 31899، والقرطبي في تفسيره 10/ 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 العفو) : صلة القاطعين، والصفح عن الظالمين، وإعطاء المانعين. وفي (الأمر بالعرف) : تقوى الله وصلة الأرحام، وصون اللّسان عن الكذب، وغضّ الطّرف عن الحرمات. وإنما سمّي هذا وما أشبهه (عرفا) و (معروفا) ، لأن كل نفس تعرفه، وكل قلب يطمئنّ إليه. وفي (الإعراض عن الجاهلين) : الصبر، والحلم، وتنزيه النفس عن مماراة السّفيه، ومنازعة اللّجوج. وقوله تعالى: إذ ذكر الأرض فقال: أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31) [النازعات: 31] كيف دلّ بشيئين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتا ومتاعا للأنام، من العشب والشجر، والحب والثمر والحطب، والعصف واللّباس، والنّار والملح، لأن النار من العيدان، والملح من الماء. وينبئك أنه أراد ذلك قوله: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33) [النازعات: 33] . وفكّر في قوله تعالى حين ذكر جنات الأرض فقال: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [الرعد: 4] كيف دلّ على نفسه ولطفه، ووحدانيته، وهدّى للحجّة على من ضلّ عنه، لأنه لو كان ظهور الثمرة بالماء والتّربة، لوجب في القياس ألا تختلف الطعوم، ولا يقع التّفاضل في الجنس الواحد، إذا نبت في مغرس واحد، وسقي بماء واحد، ولكنّه صنع اللطيف الخبير. ونحو قوله: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ [الروم: 22] يريد اختلاف، اللّغات، والمناظر، والهيئات. وفي قوله تعالى: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النمل: 88] يريد: أنها تجمع وتسيّر، فهي لكثرتها كأنها جامدة واقفة في رأي العين، وهي تسير سير السحاب. وكل جيش غصّ الفضاء به، لكثرته، وبعد ما بين أطرافه، فقصر عنه البصر- فكأنه في حسبان الناظر واقف وهو يسير. وإلى هذا المعنى ذهب الجعديّ في وصف جيش فقال «1» :   (1) البيت من الطويل، وهو للنابغة الجعدي في ديوانه ص 187، ولسان العرب (صرد) ، وتاج العروس (صرد) والمعاني الكبير ص 891. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 بأرعن مثل الطّود تحسب أنهم ... وقوف لحاج والرّكاب تهملج وفي قوله جلّ ذكره: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ [البقرة: 179] يريد أن سافك الدّم إذا أقيد منه ارتدع من كان يهمّ بالقتل، فكان في القصاص له حياة وهو قتل. وأخذه الشاعر فقال «1» : أبلغ أبا مالك عنّي مغلغلة ... وفي العتاب حياة بين أقوام يريد أنهم إذا تعاتبوا أصلح ما بينهم العتاب فكفّوا عن القتل، فكان في ذلك حياة. وأخذه المتمثّلون فقالوا: «بعض القتل إحياء للجميع» «2» . وقالوا: «القتل أقلّ للقتل» «3» . وتبيّن قوله في وصف خمر أهل الجنة: لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) [الواقعة: 19] كيف نفى عنها بهذين اللفظين جميع عيوب الخمر، وجمع بقوله: (ولا ينزفون) عدم العقل، وذهاب المال، ونفاد الشراب. وقوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) [يونس: 42، 43] كيف دلّ على فضل السّمع على البصر، حين جعل مع الصمم فقدان العقل، ولم يجعل مع العمى إلا فقدان النظر. وقوله: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ [النساء: 145، 146] فدلّ على أن المنافقين شرّ من كفر به، وأولاهم بمقته، وأبعدهم من الإنابة إليه، لأنه شرط عليهم في التوبة: الإصلاح والاعتصام، ولم يشرط ذلك على غيرهم. ثم شرط الإخلاص، لأن النّفاق ذنب القلب، والإخلاص توبة القلب.   (1) البيت من البسيط، وهو لهمام الرقاشي في مقاييس اللغة 4/ 377، والبيان والتبيين 2/ 316، 3/ 202، 4/ 85، والخزانة 3/ 345، ولعصام بن عبيد الزماني في تاج العروس (غلل) ، ولأبي القمقام الأسدي في عيون الأخبار 1/ 91، ولهشام الرقاشي في العقد الفريد 1/ 80، وبلا نسبة في لسان العرب (غلل) . (2) انظر البيان والتبيين 2/ 316، وفيه بلفظ: وقال بعض الحكماء: قتل البعض إحياء للجميع. (3) انظر كتاب الصناعتين، وفيه بلفظ: القتل أنفى للقتل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 ثم قال: فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 146] ولم يقل: فأولئك هم المؤمنون. ثم قال: وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً [النساء: 146] ولم يقل وسوف يؤتيهم الله، بغضا لهم، وإعراضا عنهم، وحيدا بالكلام عن ذكرهم. وقوله في المنافقين: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ [المنافقون: 4] فدلّ على جبنهم، واستشرافهم لكل ناعر، ومرهج على الإسلام وأهله. وأخذه الشاعر- وأنّى له هذا الاختصار- فقال «1» : ولو أنّها عصفورة لحسبتها ... مسوّمة تدعو عبيدا وأزنما يقول: لو طارت عصفورة لحسبتها من جبنك خيلا تدعو هاتين القبيلتين. وقال الآخر «2» : ما زلت تحسب كل شيء بعدهم ... خيلا تكرّ عليكم ورجالا وهذا في القرآن أكثر من أن نستقصيه. وقد قال قوم بقصور العلم وسوء النظر في قوله تعالى: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ [الكهف: 17] : وما في هذا الكلام من الفائدة؟. وما في الشمس إذا مالت بالغداة والعشيّ عن الكهف من الخبر؟. ونحن نقول: وأيّ شيء أولى بأن يكون فائدة من هذا الخبر؟ وأيّ معنى ألطف مما أودع الله هذا الكلام؟. وإنما أراد عز وجل: أن يعرّفنا لطفه للفتية، وحفظه إياهم في المهجع، واختياره لهم أصلح المواضع للرّقود، فأعلمنا أنه بوّأهم كهفا في مقنأة الجبل «3» ، مستقبلا بنات   (1) البيت من الطويل، وهو لجرير في ديوانه ص 323، وشرح شواهد المغني 2/ 662، وله أو للبعيث في حماسة البحتري ص 261، وللعوام بن شوذب الشيباني في العقد الفريد 5/ 195، ولسان العرب (زنم) ، والمعاني الكبير ص 927، ومعجم الشعراء ص 300، والمقاصد النحوية 4/ 467، وبلا نسبة في تذكرة النحاة ص 73، وجمهرة اللغة ص 828، والجنى الداني ص 281، وشرح الأشموني 3/ 603، ومغني اللبيب 1/ 270. (2) البيت من الكامل، وهو لجرير في ديوانه ص 53، وشرح شواهد الشافعية ص 125، والعقد الفريد 3/ 132، وكتاب الحيوان 5/ 240. (3) مقنأة الجبل: الموضع الذي لا تصيبه الشمس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 نعش، فالشمس تزورّ عنه وتستدبره: طالعة، وجارية، وغاربة. ولا تدخل عليهم فتؤذيهم بحرّها وتلفحهم بسمومها، وتغيّر ألوانهم، وتبلي ثيابهم. وأنهم كانوا في فجوة من الكهف- أي متّسع منه- ينالهم فيه نسيم الريح وبردها، وينفي عنهم غمّة الغار وكربه. وليس جهلهم بما في هذه الآية من لطيف المعنى، بأعجب من هذا جهلهم بمعنى قوله: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج: 45] حتى أبدأوا في التعجّب منه وأعادوا، حتى ضربه بعض المجّان لبارد شعره مثلا. وهل شيء أبلغ في العبرة والعظة من هذه الآية؟ لأنه أراد: أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها، أو آذان يسمعون بها، فينظروا إلى آثار قوم أهلكهم الله بالعتوّ، وأبادهم بالمعصية، فيروا من تلك الآثار بيوتا خاوية قد سقطت على عروشها، وبئرا كانت لشرب أهلها قد عطّل رشاؤها، وغار معينها، وقصرا بناه ملكه بالشّيد «1» قد خلا من السّكن، وتداعى بالخراب، فيتعظوا بذلك، ويخافوا من عقوبة الله وبأسه، مثل الذي نزل بهم. ونحوه قوله: فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ [الأحقاف: 25] : ولم يزل الصالحون يعتبرون بمثل هذا، ويذكرونه في خطبهم ومقاماتهم: فكان سليمان صلّى الله عليه وآله وسلّم، إذا مرّ بخراب قال: يا خرب الخربين أين أهلك الأوّلون؟. وقال: أبو بكر رضي الله عنه، في بعض خطبه: أين بانو المدائن ومحصّنوها بالحوائط؟ أين مشيّدو القصور، وعامروها؟ أين جاعلو العجب فيها لمن بعدهم؟ تلك منازلهم خالية، وهذه منازلهم في القبور خاوية، هل تحسّ منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا؟. وهذا الأسود بن يعفر يقول» :   (1) الشّيد، بالكسر: كل ما طلي به الحائط من جص وبلاط. (2) الأبيات من الكامل، وهي للأسود بن يعفر في ديوانه ص 26- 27، والبيت الأول في لسان العرب (برق) ، (حرق) ، وتاج العروس (سند) ، وشرح اختيارات المفضل ص 968، ومعجم البلدان (انقرة) ، والبيت الثاني في لسان العرب (كعب) ، (برق) ، وكتاب العين 1/ 207، وتهذيب اللغة 1/ 325، وتاج العروس (كعب) ، (سند) ، وشرح اختيارات المفضل ص 969، والشعر والشعراء ص 261، والبيت الثالث في لسان العرب (نقر) ، وتاج العروس (نقر) ، وشرح اختيارات المفضل ص 970، والحماسة البصرية 2/ 412، والبيت الرابع في لسان العرب (موم) ، وتاج العروس (موم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ماذا أؤمّل بعد آل محرّق ... تركوا منازلهم وبعد إياد أهل الخورنق والسّدير وبارق ... والقصر ذي الشّرفات من سنداد نزلوا بأنقرة يسيل عليهم ... ماء الفرات يجيء من أطواد أرض تخيّرها لطيب مقيظها ... كعب بن مامة وابن أم دؤاد جرت الرياح على محلّ ديارهم ... فكأنهم كانوا على ميعاد فأرى النعيم وكلّ ما يلهى به ... يوما يصير إلى بلىّ ونفاد وهذه الشّعراء تبكي الديار، وتصف الآثار، وإنما تسمعهم يذكرون دمنا وأوتادا، وأثافيّ ورمادا، فكيف لم يعجبوا من تذكّرهم أهل الديار بمثل هذه الآثار، وعجبوا من ذكر الله، سبحانه أحسن ما يذكر منها وأولاه بالصّفة، وأبلغه في الموعظة؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 باب ذكر العرب وما خصّهم الله به من العارضة والبيان واتّساع المجاز وإنما يعرف فضل القرآن من كثر نظره، واتسع علمه، وفهم مذاهب العرب وافتنانها في الأساليب، وما خصّ الله به لغتها دون جميع اللغات، فإنه ليس في جميع الأمم أمّة أوتيت من العارضة، والبيان، واتساع المجال، ما أوتيته العرب خصّيصى من الله، لما أرهصه في الرسول، وأراده من إقامة الدليل على نبوّته بالكتاب، فجعله علمه، كما جعل علم كل نبي من المرسلين من أشبه الأمور بما في زمانه المبعوث فيه: فكان لموسى فلق البحر، واليد، والعصا، وتفجّر الحجر في التّيه بالماء الرّواء، إلى سائر أعلامه زمن السّحر. وكان لعيسى إحياء الموتى، وخلق الطير من الطين، وإبراء الأكمه والأبرص، إلى سائر أعلامه زمن الطب. وكان لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، الكتاب الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله، لم يأتوا به، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، إلى سائر أعلامه زمن البيان. فالخطيب من العرب، إذا ارتجل كلاما في نكاح، أو حمالة، أو تحضيض، أو صلح، أو ما أشبه ذلك- لم يأت به من واد واحد، بل يفتنّ: فيختصر تارة إرادة التخفيف، ويطيل تارة إرادة الإفهام، ويكرّر تارة إرادة التوكيد، ويخفي بعض معانيه حتى يغمض على أكثر السامعين، ويكشف بعضها حتى يفهمه بعض الأعجميين، ويشير إلى الشيء ويكني عن الشيء. وتكون عنايته بالكلام على حسب الحال، وقدر الحفل، وكثرة الحشد، وجلالة المقام. ثمّ لا يأتي بالكلام كلّه، مهذّبا كلّ التّهذيب، ومصفّى كلّ التّصفية، بل تجده يمزج ويشوب، ليدل بالنّاقص على الوافر، وبالغثّ على السمين. ولو جعله كلّه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 نجرا «1» واحدا، لبخسه بهاءه، وسلبه ماءه. ومثل ذلك الشّهاب من القبس نبرزه للشّعاع، والكوكبان يقترنان، فينقص النّوران، والسّخاب «2» ينظم بالياقوت والمرجان والعقيق والعقيان، ولا يجعل كلّه جنسا واحدا من الرفيع الثّمين، ولا النّفيس المصون. وألفاظ العرب مبنية على ثمانية وعشرين حرفا، وهي أقصى طوق اللّسان. وألفاظ جميع الأمم قاصرة عن ثمانية وعشرين ولست واجدا في شيء من كلامهم حرفا ليس في حرفنا إلا معدولا عن مخرجه شيئا، مثل الحرف المتوسط مخرجي القاف والكاف، والحرف المتوسط مخرجي الفاء والباء. فهذه حال العرب في مباني ألفاظها. ولها الإعراب الذي جعله الله وشيا لكلامها، وحلية لنظامها، وفارقا في بعض الأحوال بين الكلامين المتكافئين، والمعنيين المختلفين كالفاعل والمفعول، لا يفرّق بينهما، إذا تساوت حالاهما في إمكان الفعل أن يكون لكلّ واحد منهما- إلا بالإعراب. ولو أن قائلا قال: هذا قاتل أخي بالتنوين، وقال آخر: هذا قاتل أخي بالإضافة- لدّل التنوين على أنه لم يقتله، ودلّ حذف التنوين على أنه قد قتله. ولو أن قارئا قرأ: فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76) [يس: 76] وترك طريق الابتداء بإنّا، وأعمل القول فيها بالنصب على مذهب من ينصب (أنّ) بالقول كما ينصبها بالظن- لقلب المعنى عن جهته، وأزاله عن طريقته، وجعل النبيّ، عليه السلام، محزونا لقولهم: إنّ الله يعلم ما يسرّون وما يعلنون. وهذا كفر ممن تعمّده، وضرب من اللحن لا تجوز الصلاة به، ولا يجوز للمأموين أن يتجوّزوا فيه. وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لا يقتل قرشي صبرا بعد اليوم» «3» . فيمن رواه «حزما» أوجب ظاهر الكلام للقرشي ألا تقتل إن ارتد، ولا يقتصّ منه إن قتل.   (1) النجر: اللون. (2) السخاب، بالخاء المعجمة: كل قلادة كانت ذات جواهر، أو لم تكن. (3) أخرجه مسلم في الجهاد حديث 88، وأحمد في المسند 3/ 412، 4/ 213، والدارمي 2/ 198، والبيهقي في دلائل النبوة 5/ 79، والحميدي في مسنده 568، وابن أبي عاصم في السنة 2/ 638، وابن أبي شيبة في مصنفه 12/ 173، 14/ 490، والتبريزي في مشكاة المصابيح 5993، والمتقي الهندي في كنز العمال 33804، 33885، 37985. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 ومن رواه «رفعا» انصرف التأويل إلى الخبر عن قريش: أنه لا يرتدّ منها أحد عن الإسلام فيستحقّ القتل. أفما ترى الإعراب كيف فرق بين هذين المعنيين. وقد يفرقون بحركة البناء في الحرف الواحد بين المعنيين. فيقولون: رجل لعنة، إذا كان يلعنه الناس. فإن كان هو الذي يلعن الناس، قالوا: رجل لعنة فحركوا العين بالفتح. ورجل سبّة إذا كان يسبه الناس، فإن كان هو يسبّ الناس قالوا: رجل سببة. وكذلك: هزأة، وهزأة وسخرة، وسخرة وضحكة، وضحكة وخدعة، وخدعة. وقد يفرقون بين المعنيين المتقاربين بتغيير حرف في الكلمة حتى يكون تقارب ما بين اللفظين، كتقارب ما بين المعنيين. كقولهم للماء الملح الذي لا يشرب إلا عند الضرورة: شروب، ولما كان دونه مما قد يتجوّز به: شريب. وكقولهم لما ارفضّ على الثوب من البول إذ كان مثل رؤوس الإبر: نضح، ورشّ الماء عليه يجزىء من الغسل، فإن زاد على ذلك قليلا قيل له: نضخ ولم يجزىء فيه إلا الغسل. وكقولهم للقبض بأطراف الأصابع: قبض وبالكف: قبض وللأكل بأطراف الأسنان: قضم وبالفم: خضم. ولما ارتفع من الأرض: حزن فإن زاد قليلا قيل: حزم. وللذي يجد البرد: خصر فإن كان مع ذلك جوع قيل: خرص. وللنار إذا طفئت: هامدة فإن سكن اللهب وبقي من جمرها شيء قيل: خامدة. وللقائم من الخبل: صائم فإن كان ذلك من حفىّ أو وجى، قيل: صائن. وللعطاء: شكد فإن كان مكافأة قيل: شكم. وللخطأ من غير التعمد: غلط فإن كان في الحساب قيل: غلت. وللضيق في العين: خوص فإن كان ذلك في مؤخّرها قيل: حوص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وقد يكتنف الشيء معان فيشتقّ لكل معنى منها اسم من اسم ذلك الشيء، كاشتقاقهم من البطن للخميص: مبطّن وللعظيم البطن إذا كان خلقة: بطين فإذا كان من كثرة الأكل قيل مبطان وللمنهوم: بطن وللعليل البطن: مبطون. ويقولون: وجدت الضّالة ووجدت في الغضب، ووجدت في الحزن، ووجدت في الاستغناء. ثم يجعلون الاسم الضّالة: وجودا ووجدانا وفي الحزن وجدا وفي الغضب موجدة وفي الاستغناء وجدا. في أشياء كثيرة، ليس لاستقصاء ذكرها في كتابنا هذا، وجه. وللعرب الشّعر الذي أقامه الله تعالى لها مقام الكتاب لغيرها، وجعله لعلومها مستودعا، ولآدابها حافظا، ولأنسابها مقيّدا، ولأخبارها ديوانا لا يرثّ على الدّهر، ولا يبيد على مرّ الزّمان. وحرسه بالوزن، والقوافي، وحسن النّظم، وجودة التخيير- من التدليس والتّغيير، فمن أراد أن يحدث فيه شيئا عسر ذلك عليه، ولم يخف له كما يخفى في الكلام المنثور. وقد تجد الشاعر منهم ربما زال عن سننهم شيئا، فيقولون له: ساندت، وأقويت، وأكفأت، وأوطأت. وإنما خالف في السّناد بين ردفين، أو حرفين قبل ردفين، كقول عمرو بن كلثوم «1» : ألا هبّي بصحنك فاصبحينا ... ولا تبقي خمور الأندرينا وقال في بيت آخر «2» : كأن متونهنّ متون غدر ... تصفّقها الرياح إذا جرينا فالحاء من فأصبحينا (ردف) وهي مكسورة، والراء من جرينا (ردف) وهي مفتوحة.   (1) البيت من الوافر، وهو في ديوان عمرو بن كلثوم ص 64، وخزانة الأدب 3/ 178، وشرح شواهد الشافية ص 251، وشرح شواهد المغني 1/ 119، ولسان العرب (مدر) ، (ندر) ، (صحن) . (2) البيت من الوافر، وهو في ديوان عمرو بن كلثوم ص 85، وجمهرة أشعار العرب 1/ 409، وشرح ديوان امرئ القيس ص 331، وشرح القصائد السبع ص 416، وشرح القصائد العشر ص 357، وشرح المعلقات السبع ص 184، وشرح المعلقات العشر ص 95، ولسان العرب (غرا) ، وفيه: «غرينا» بدل «جرينا» . والبيت بلا نسبة في تاج العروس (سند) ، (غرا) ، وكتاب العين 7/ 229. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وخالف في (الإقواء) بحرف نقصه من شطر البيت الأول، كقول الآخر «1» : جنّت نوار ولات هنّا حنّت ... وبدا الذي كانت نوار أجنّت لمّا رأت ماء السّلا مشروبا ... والفرث يعصر في الإناء أرنّت وكقول حميد بن ثور «2» : إني كبرت وإنّ كلّ كبير ... ممّا يظنّ به يملّ ويفتر وخالف في الإكفاء بأن رفع قافية وخفض أخرى. وخالف في الإبطاء بأن أعاد قافية مرتين. وقال ابن الرّقاع يذكر تنقيحه شعره «3» : وقصيدة قد بتّ أجمع بينها ... حتى أقوّم ميلها وسنادها نظر المثقّف في كعوب قناته ... حتى يقيم ثقافه منآدها وقال ذو الرّمّة «4» : وشعر قد أرقت له غريب ... أجانبه المساند والمحالا هذا قول أبي عبيدة.   (1) البيتان من الكامل، والبيت الأول لشبيب بن جعيل في الدرر 1/ 244، 2/ 119، وشرح شواهد المغني ص 919، والمؤتلف والمختلف ص 84، والمقاصد النحوية 1/ 418، ولحجل بن نضلة في الشعر والشعراء ص 102، ولهما معا في خزانة الأدب 4/ 195، وبلا نسبة في تخليص الشواهد ص 130، وتذكرة النحاة ص 734، والجنى الداني ص 489، وجواهر الأدب ص 249، وخزانة الأدب 5/ 463، وشرح الأشموني 1/ 66، 126، ومغني اللبيب ص 592، وهمع الهوامع 1/ 78، 126. والبيت الثاني لحجل بن نضلة في لسان العرب (سلا) . ويروى صدر البيت في اللسان: لما رأت ماء السّلى مشروبها (2) البيت من الكامل، وهو في ديوان حميد بن ثور ص 85، والشعر والشعراء 1/ 43. (3) البيتان من الكامل، وهما لعدي بن الرقاع في ديوانه ص 38، والشعر والشعراء 1/ 24، والموشح ص 13، والطرائف الأدبية ص 89، وخزانة الأدب 4/ 470، ومعجم الشعراء ص 253، والأغاني 8/ 177، وكتاب الحيوان 3/ 64، والبيان والتبيين 3/ 244، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 1/ 383. (4) البيت من الوافر، وهو في ديوان ذي الرمة ص 1532، ولسان العرب (سند) ، وجمهرة اللغة ص 1124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وبعضهم يجعل الإقواء رفع قافية وجرّ أخرى. وقول أبي عبيدة أجود عندي لأن الإقواء من القوّة، والقوّة: طاقة من الحبل، يقال: ذهبت قوّة من الحبل، إذا ذهبت منه طاقة، وكذلك إذا ذهب جزء من البيت، وهو الذي يسمى المزاحف. فقد ذهبت منه قوة، كما ذهب قوة من الحبل، كما قال ذلك «1» : لما رأت ماء السلا مشروبا فقد ذهب منه شيء، فلو قال: (مشروبة) لكان مستويا. وللعرب المجازات في الكلام، ومعناها: طرق القول ومآخذه. ففيها الاستعارة: والتمثيل، والقلب، والتقديم، والتأخير، والحذف، والتكرار، والإخفاء، والإظهار، والتعريض، والإفصاح، والكناية، والإيضاح، ومخاطبة الواحد مخاطبة الجميع، والجميع خطاب الواحد، والواحد والجميع خطاب الاثنين، والقصد بلفظ الخصوص لمعنى العموم، وبلفظ العموم لمعنى الخصوص مع أشياء كثيرة ستراها في أبواب المجاز إن شاء الله تعالى. وبكل هذه المذاهب نزل القرآن ولذلك لا يقدر أحد من التراجم على أن ينقله إلى شيء من الألسنة، كما نقل الإنجيل عن السّريانية إلى الحبشيّة والرّومية، وترجمت التوراة والزبور، وسائر كتب الله تعالى بالعربية لأن العجم لم تتّسع في المجاز اتّساع العرب. ألا ترى أنك لو أردت أن تنقل قوله تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الأنفال: 58]- لم تستطع أن تأتي بهذه الألفاظ مؤدية عن المعنى الذي أودعته حتى تبسط مجموعها، وتصل مقطوعها وتظهر مستورها، فتقول: إن كان بينك وبين قوم هدنة وعهد، فخفت منهم خيانة ونقضا، فأعلمهم أنك قد نقضت ما شرطت لهم، وآذنهم بالحرب لتكون أنت وهم في العلم بالنّقض على استواء. وكذلك قوله تعالى: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) [الكهف: 11] إن أردت أن تنقله بلفظه، لم يفهمه المنقول إليه، فإن قلت: أنمناهم سنين عددا،   (1) يروى البيت بتمامه: لمّا رأت ماء السّلى مشروبها ... والفرث يعصر في الإناء أرنّت والبيت من الكامل، وهو لحجل بن نضلة في لسان العرب (سلا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 لكنت مترجما للمعنى دون اللفظ. وكذلك قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) [الفرقان: 73] إن ترجمته بمثل لفظه استغلق، وإن قلت: لم يتغافلوا أدّيت المعنى بلفظ آخر. وقد اعترض كتاب الله بالطعن ملحدون ولغوا فيه وهجروا، واتبعوا ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران: 7] بأفهام كليلة، وأبصار عليلة، ونظر مدخول، فحرّفوا الكلام عن مواضعه، وعدلوه عن سبله. ثم قضوا عليه بالتّناقض، والاستحالة، واللّحن، وفساد النّظم، والاختلاف. وأدلوا في ذلك بعلل ربما أمالت الضّعيف الغمر، والحدث الغرّ، واعترضت بالشبه في القلوب، وقدحت بالشكوك في الصدور. ولو كان ما نحلوا إليه على تقريرهم وتأوّلهم- لسبق إلى الطعن به من لم يزل رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم، يحتجّ عليه بالقرآن، ويجعله العلم لنبوّته، والدليل على صدقه، ويتحداه في موطن بعد موطن، على أن يأتي بسورة من مثله. وهم الفصحاء والبلغاء، والخطباء والشعراء، والمخصوصون من بين جميع الأنام بالألسنة الحداد، واللّدد، في الخصام، مع اللّب والنّهى، وأصالة الرّأي. وقد وصفهم الله بذلك في غير موضع من الكتاب، وكانوا مرّة يقولون: هو سحر، ومرة يقولون: هو قول الكهنة، ومرة: أساطير الأولين. ولم يحك الله تعالى عنهم، ولا بلغنا في شيء من الروايات- أنهم جدبوه من الجهة التي جدبه منها الطاعنون. فأحببت أن أنضح عن كتاب الله، وأرمي من ورائه بالحجج النيّرة، والبراهين البيّنة، وأكشف للناس ما يلبسون. فألفت هذا الكتاب، جامعا لتأويل مشكل القرآن، مستنبطا ذلك من التفسير بزيادة في الشرح والإيضاح، وحاملا ما لم أعلم فيه مقالا لإمام مطّلع- على لغات العرب لأري به المعاند موضع المجاز، وطريق الإمكان، من غير أن أحكم فيه برأي، أو أقضي عليه بتأويل. ولم يجز لي أن أنص بالإسناد إلى من له أصل التفسير إذ كنت لم أقتصر على وحي القوم حتى كشفته، وعلى إيمائهم حتى أوضحته، وردت في الألفاظ ونقصت، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وقدّمت وأخرت، وضربت لبعض ذلك الأمثال والأشكال، حتى يستوي في فهمه السامعون. وأسأل الله التجاوز عن الزّلة بحسن النية، فيما دللت عليه، وأجريت إليه، والتوفيق للصواب، وحسن الثواب. الحكاية عن الطاعنين وكان مما بلغنا عنهم: أن يحتجّون بقوله عز وجل: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: 82] وبقوله: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت: 42] . وقالوا: وجدنا الصحابة، رضي الله عنهم، ومن بعدهم، يختلفون في الحرف: فابن عباس يقرأ: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يوسف: 45] وغيره يقرأ: بَعْدَ أُمَّةٍ. و «عائشة» تقرأ: «إذ تلقونه» [النور: 15] وغيرها يقرأ: تَلَقَّوْنَهُ. وأبو بكر الصديق يقرأ وجاءت سكرة الحقّ بالموت والناس يقرؤون: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق: 19] . وقرأ بعض القراء: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وقرأ الناس: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً [يوسف: 31] . وكان ابن مسعود يقرأ: إن كانت إلا زقية واحدة [يس: 29] ويقرأ كالصوف المنفوش [القارعة: 5] . مع أشباه لهذه كثيرة، يخالف فيها مصحفه المصاحف القديمة والحديثة. وكان يحذف من مصحفه أمّ الكتاب ويمحو المعوّذتين ويقول: لم تزيدون في كتاب الله ما ليس فيه؟. و (أبيّ) يقرأ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها [طه: 15] من نفسي فكيف أظهركم عليها. ويزيد في مصحفه افتتاح (دعاء القنوت) إلى قول الداعي: (إن عذابك بالكافرين ملحق) ويعدّه سورتين من القرآن. و (القرّاء) يختلفون: فهذا يرفع ما ينصبه ذاك، وذاك يخفض ما يرفعه هذا. وأنتم تزعمون أن هذا كله كلام رب العالمين، فأيّ شيء بعد هذا الاختلاف تريدون؟ وأي باطل بعد الخطإ واللحن تبتغون؟. وقد رويتم من الطريق الذي ترتضون: روى أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن (عائشة) أنها قالت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 ثلاثة أحرف في كتاب الله هنّ خطأ من الكاتب: قوله: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [طه: 63] . وفي سورة المائدة: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ [المائدة: 69] . وفي سورة النساء: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ [النساء: 162] حدثناه إسحاق بن راهويه. قالوا: ورويتم عن عثمان أنه نظر في المصحف فقال: أرى فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتها. وقالوا: وهل التناقض إلا مثل قوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) [الرحمن: 39] وهو يقول في موضع آخر: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) [الحجر: 92، 93] . ومثل قوله: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) [المرسلات: 35، 36] . ويقول في موضع آخر: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) [الزمر: 31] . ويقول: هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [البقرة: 111] . ومثل قوله: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) [الطور: 25، والصافات: 27] . وهو يقول في موضع آخر: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ [المؤمنون: 101] . ومثل قوله: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) [فصلت: 9] . وقال بعد ذلك: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: 11، 12] فدلت هذه الآية على أنه خلق الأرض قبل السماء. وقال في موضع آخر: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) [النازعات: 27، 28] ثم قال: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) [النازعات: 30] . فدلت هذه الآية على أنه خلق السماء قبل الأرض. ومثل قوله: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) [الغاشية: 6] . وهو يقول في موضع آخر: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 والضريع: نبت، فهل يجوز أن يكون في النار نبات وشجر، والنار تأكلهما؟. ومثل قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) [الأنفال: 33] ، ثم قال على أثر ذلك: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الأنفال: 34] . وقالوا: فأين قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى، من قوله: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [النساء: 3] . وأين قوله: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ، من قوله: ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المائدة: 97] . وأين قوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ، من قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [لقمان: 31] ، أو ليس هذا مما يستوي فيه الصبّار والشّكور وغير الصبّار والشّكور؟. وما معنى قوله: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ [الحديد: 20] ؟ ولم خص الكفار دون المؤمنين؟ أو ليس هذا مما يستوي فيه المؤمنون والكافرون، ولا ينقص إيمان المؤمنين إن أعجبهم؟. وقالوا في قوله عز وجل: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ [هود: 107] : استثناؤه المشيئة من الخلود، يدل على الزوال، وإلا فلا معنى للاستثناء. ثم قال: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود: 108] ، أي غير مقطوع. وقالوا في قوله: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان: 56] : كيف يستثنى موتا كان في الدنيا من مكثهم في الجنة؟ وهل يجوز أن يقال في الكلام: لا أعطيك اليوم درهما إلا ما أعطيتك أمس؟. وقالوا في قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) [مريم: 96] : هل يجوز أن يقال: فلان يجعل لك حبّا، أي يحبك؟. وفي قوله: وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) [النبأ: 9] والسّبات هو: النوم، فكيف يجوز أن يجعل نومنا نوما؟. وفي قوله: وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ [الإنسان: 15، 16] وقوله: لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) [الذاريات: 33] : كيف يكون زجاج من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 فضة؟ وحجارة من طين؟. وقالوا في قوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) [يونس: 94، 95] : هل كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، يشك فيما يأتيه به جبريل؟ وكيف يدعو الشاكين من هو على مثل سبيلهم؟ وكيف يرتاب فيما يأتيه به الروح الأمين، ويأتيه الثّلج واليقين بخبر أهل الكتاب عنه أنه حق، وهم يكذبون ويحرّفون ويقولون على الله ما لا يعلمون؟. وقالوا في قوله: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: 62] : أنتم تزعمون أنه لا شمس هناك ولا ليل، وهذا يدل على أوقات مختلفة، وشمس وفيء، ونهار وليل، لأن البكرة تدل على أول النهار، والعشيّ يدل على آخره، وما كان له أول وآخر فله انصرام، وإذا انصرم عاقبه الليل والنهار. وقالوا في سورة الأنفال، حين ذكرها، ثم وصف المؤمنين فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) [الأنفال: 2- 4] ، ثم قال: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ [الأنفال: 5] : و (كما) تأتي لتشبيه الشيء، ولم يتقدم من الكلام ما يشبّه به إخراج الله إياه. وقالوا في قوله: وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) [الرعد: 40] كيف يكون عليه البلاغ بعد الوفاة؟. وقالوا: في قوله في الرعد: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الرعد: 35] ، أين الشيء الذي جعلت له الجنة مثلا؟ وهل يجوز أن يقال: «مثل الدار التي وعدتك سكناها، يطّرد فيها نهر، وتظلك فيها، شجرة» . ويمسك القائل؟. قالوا: وقال في موضع آخر: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ [الحج: 73] ولم يأت به. وقالوا في قوله تعالى: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الأحزاب: 10] : كيف تبلغ القلب الحلوق، والقلوب إن زال عن موضعه شيئا، مات صاحبه؟. وقالوا في قوله تعالى: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [النحل: 112] : كيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 يذاق اللباس؟ وإنما كان وجه الكلام: فألبسها الله لباس الجوع والخوف. أو غشّاها الله لباس الجوع والخوف. أو فأذاقها الله الجوع والخوف. ويحذف اللباس. وقالوا في قوله: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) [القلم: 16] : ما هذا من العقوبة؟ وفي أي الدّارين يسمه: أفي الدنيا أم في الآخرة؟. فإن كان في الدنيا، فإنه لم يبلغنا أن أحدا من المشركين، وسم على أنفه. وإن كان في النار، فما أعدّ للكافرين فيها من صنوف العذاب، أكثر من الوسم على الأنف. وقالوا: ماذا أراد بإنزال المتشابه في القرآن، من أراد لعباده الهدى والبيان؟. وتعلقوا بكثير منه لطف معناه: لما فيه من المجازات بمضمر لغير مذكور، أو محذوف من الكلام متروك، أو مزيد فيه يوضح معناه حذف الزيادة، أو مقدّم يوضح معناه التأخير، أو مؤخر يوضح معناه التقديم، أو مستعار، أو مقلوب. وتكلموا في الكناية، مثل قوله: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) [المسد: 1] ، ومثل قوله: لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا [الفرقان: 28] . وفي تكرار الكلام في: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) [الكافرون: 1] ، وفي سورة الرحمن. وفي تكرار الأنباء والقصص، من غير زيادة ولا إفادة. وفي مخالفة معنى الكلام مخرجه. وقد ذكرت الحجّة عليهم في جميع ما ذكروا، وغيره مما تركوا، وهو يشبه ما أنكروا، ليكون الكتاب جامعا للفن الذي قصدت له. وأفردت للغريب كتابا، كي لا يطول هذا الكتاب، وليكون مقصورا على معناه، خفيفا على من قرأه إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 باب الرّد عليهم في وجوه القراءات أما ما اعتلوا به في وجوه القراءات من الاختلاف، فإنا نحتج عليهم فيه بقول النبي، صلّى الله عليه وآله وسلّم: «نزل القرآن على سبعة أحرف، كلّها شاف كاف، فاقرؤوا كيف شئتم» «1» . وقد غلط في تأويل هذا الحديث قوم فقالوا: السبعة الأحرف: وعد، ووعيد، وحلال، وحرام، ومواعظ، وأمثال، واحتجاج. وقال آخرون: هي سبع لغات في الكلمة. وقال قوم: حلال، وحرام، وأمر، ونهي، وخبر ما كان قبل، وخبر ما هو كائن بعد، وأمثال. وليس شيء من هذه المذاهب لهذا الحديث بتأويل. ومن قال: فلان يقرأ بحرف أبي عمرو «2» أو بحرف عاصم «3» فإنه لا يريد شيئا   (1) أخرجه بهذا اللفظ أحمد في المسند 2/ 300، 4/ 204، 5/ 16، 6/ 433، 463، والهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 151، 152، 154، والسيوطي في الدر المنثور 2/ 6، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 11/ 26، والربيع بن حبيب في مسنده 1/ 8، وابن أبي شيبة في مصنفه 10/ 516، والألباني في السلسلة الصحيحة 1522. وأخرجه بلفظ: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» ، النسائي في الافتتاح باب 26، وأحمد في المسند 2/ 232، 5/ 114، 391، والهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 150، 152، 153، وابن حجر في المطالب العالية 3489، والبخاري في التاريخ الكبير 7/ 262، وابن كثير في تفسيره 2/ 9، والسيوطي في الدر المنثور 2/ 7، 5/ 346، والشجري في الأمالي 1/ 112، والطبراني في المعجم الكبير 3/ 185، 10/ 125، 130، 182، والهيثمي في موارد الظمآن 1779، 1780، 1781، والتبريزي في مشكاة المصابيح 238، والطحاوي في مشكل الآثار 4/ 172، 182، والسيوطي في جمع الجوامع 4534، 4543، 4544، 4545، 4546، 4547، 4549، والمتقي الهندي في كنز العمال 3083، 3085، 3086، 3093، 3094، 3095، 3096، وأبو نعيم في تاريخ أصفهان 1/ 213، والعجلوني في كشف الخفا 1/ 241، وابن عدي في الكامل في الضعفاء 2/ 679، وابن عبد البر في التمهيد 4/ 278، 8/ 282، 284، 292. (2) أبو عمرو: هو أبو عمرو بن العلاء، زبان بن العلاء بن عمار بن الريان المازني البصري، أكثر القراء السبعة شيوخا، أخذ القراءة عن أنس بن مالك، وحميد بن قيس الأعرج، وسعيد بن جبير، وشيبة بن نصاح، وأبي العالية، وعاصم بن أبي النجود، وعبد الله بن كثير المكي، وعطاء، ومجاهد، وابن محيصن، وغيرهم. وروى عنه كثير، منهم: عبد الله بن المبارك، ويحيى بن المبارك اليزيدي وغيرهما، ولد بمكة سنة 68 هـ، وتوفي سنة 154 هـ. (شذرات الذهب 1/ 237، غاية النهاية 1/ 288) . (3) عاصم: هو عاصم بن بهدلة أبي النجود الأسدي، أبو بكر، أحد القراء السبعة، من التابعين. أخذ القراءة عرضا عن زر بن حبيش، وأبي عبد الرحمن السلمي، وروى عنه شعبة بن عياش وحفص بن سليمان، وخلق لا يحصون، توفي سنة 127 هـ. (غاية النهاية 1/ 346) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 مما ذكروا. وليس يوجد في كتاب الله حرف قرىء على سبعة أوجه- يصح، فيما أعلم. وإنما تأويل قوله، صلّى الله عليه وآله وسلّم: «نزل القرآن على سبعة أحرف» «1» : على سبعة أوجه من اللغات متفرّقة في القرآن، يدلّك على ذلك قول رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم: «فاقرؤوا كيف شئتم» . وقال عمر: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها، وقد كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أقرأنيها، فأتيت به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأخبرته فقال له: اقرأ، فقرأ تلك القراءة، فقال: هكذا أنزلت. ثم قال لي: اقرأ، فقرأت، فقال: هكذا أنزلت. ثم قال: «إنّ هذا القرآن نزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا منه ما تيسّر» . فمن قرأه قراءة عبد الله «2» فقد قرأ بحرفه، ومن قرأ قراءة أبيّ «3» فقد قرأ بحرفه، ومن قرأ قراءة زيد «4» فقد قرأ بحرفه. والحرف يقع على المثال المقطوع من حروف المعجم، وعلى الكلمة الواحدة، ويقع الحرف على الكلمة بأسرها، والخطبة كلها، والقصيدة بكمالها. ألا ترى أنهم يقولون: قال الشاعر كذا في كلمته، يعنون في قصيدته. والله جل   (1) تقدم الحديث مع تخريجه قبل قليل. (2) عبد الله: هو عبد الله بن مسعود، الصحابي الكبير المتوفى بالمدينة سنة 32 هـ، وهو من أصحاب المصاحف الذين كانوا يحتفظون بنسخة خاصة بهم فيها بعض الاختلاف عن النسخة التي أثرها موحّده الخليفة الثالث عثمان بن عفان وأمر بتعميمها وتوزيعها على الأمصار بعد إتلاف سواها. وأشهر أصحاب المصاحف: أبيّ بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري، والمقداد بن عمرو، وعلي بن أبي طالب (انظر الأعلام 4/ 137، والفهرست ص 39، 40، 41) . (3) أبي: هو أبي بن كعب بن قيس بن عبيد، من بني النجار، من الخزرج، صحابي أنصاري، كان قبل الإسلام حبرا من أحبار اليهود، توفي سنة 21 هـ (الأعلام 1/ 82) . (4) زيد: هو زيد بن ثابت الأنصاري الخزرجي، أبو خارجة من كبار الصحابة، كان كاتب الوحي، هاجر مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو ابن إحدى عشر سنة، وكان أحد الذين جمعوا القرآن في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكان عمر يستخلفه على المدينة إذا سافر، توفي سنة 45 هـ (الأعلام 3/ 57) . [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وعز يقول: وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ [التوبة: 74] ، وقال: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى [الفتح: 26] ، وقال: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) [الصافات: 171، 173] . وقال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ [الحج: 11] ، أراد سبحانه وتعالى: من الناس من يعبد الله على الخير يصيبه من تثمير المال، وعافية البدن، وإعطاء السّؤل، فهو مطمئن ما دام ذلك له. وإن امتحنه الله تعالى باللّأواء في عيشه، والضّراء في بدنه وماله، كفر به. فهذا عبد الله على وجه واحد، ومعنى متحد، ومذهب واحد، وهو معنى الحرف. ولو عبد الله على الشكر للنعمة، والصبر للمصيبة، والرّضا بالقضاء- لم يكن عبده على حرف. وقد تدبّرت وجوه الخلاف في القراءات فوجدتها سبعة أوجه : أولها: الاختلاف في إعراب الكلمة، أو في حركة بنائها بما لا يزيلها عن صورتها في الكتاب ولا يغيّر معناها نحو قوله تعالى: هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [هود: 78] وأطهر لكم وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ: 17] وهل يجازى إلّا الكفور، وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [النساء: 37] وبالبخل، فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [البقرة: 280] وميسرة. والوجه الثاني: أن يكون الاختلاف في إعراب الكلمة وحركات بنائها بما يغيّر معناها، ولا يزيلها عن صورتها في الكتاب، نحو قوله تعالى: رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا [سبأ: 19] وربّنا باعد بين أسفارنا، وإِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ [النور: 15] وتلقونه، وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يوسف: 45] وبعد أمة. والوجه الثالث: أن يكون الاختلاف في حروف الكلمة دون إعرابها، بما يغيّر معناها ولا يزيل صورتها، نحو قوله: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها [البقرة: 259] وننشرها، ونحو قوله: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ [سبأ: 23] وفرّغ. والوجه الرابع: أن يكون الاختلاف في الكلمة بما يغيّر صورتها في الكتاب، ولا يغيّر معناها، نحو قوله: «إن كانت إلّا زقية» وصَيْحَةً [يس: 29] و «كالصّوف المنفوش» ووَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) [القارعة: 5] . والوجه الخامس أن يكون الاختلاف في الكلمة بما يزيل صورتها ومعناها نحو قوله: «وطلع منضود» في موضع وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) [الواقعة: 29] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 والوجه السادس: أن يكون الاختلاف بالتقديم والتأخير. نحو قوله: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق: 19] ، وفي موضع آخر: «وجاءت سكرة الحقّ بالموت» . والوجه السابع: أن يكون الاختلاف بالزيادة والنقصان، نحو قوله تعالى: «وما عملت أيديهم» ، وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ [يس: 35] ، ونحو قوله: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [لقمان: 26] وإن الغني الحميد. وقرأ بعض السلف: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً [ص: 23] أنثى، وإِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها [طه: 15] من نفسي فكيف أظهركم عليها. فأما زيادة دعاء القنوت في مصحف أبيّ، ونقصان أمّ الكتاب والمعوّذتين من مصحف عبد الله، فليس من هذه الوجوه، وسنخبر بالسبب فيه، إن شاء الله. وكل هذه الحروف كلام الله تعالى نزل به الروح الأمين على رسوله عليه السلام وذلك أنه كان يعارضه في كل شهر من شهور رمضان بما اجتمع عنده من القرآن فيحدث الله إليه من ذلك ما يشاء، وينسخ ما يشاء، وييسّر على عباده ما يشاء. فكان من تيسيره: أن أمره بأن يقرىء كل قوم بلغتهم وما جرت عليه عادتهم: فالهذليّ يقرأ «عتّى حين» يريد حَتَّى حِينٍ [المؤمنون: 54] ، لأنه هكذا يلفظ بها ويستعملها. والأسديّ يقرأ: تعلمون وتعلم وتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران: 106] وأَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ [يس: 60] . والتّميميّ يهمز. والقرشيّ لا يهمز. والآخر يقرأ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ [البقرة: 11] وَغِيضَ الْماءُ [هود: 44] بإشمام الضم مع الكسر، وهذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا [يوسف: 65] بإشمام الكسر مع الضم وما لَكَ لا تَأْمَنَّا [يوسف: 11] بإشمام الضم مع الإدغام، وهذا ما لا يطوع به كل لسان. ولو أن كل فريق من هؤلاء، أمر أن يزول عن لغته، وما جرى عليه اعتياده طفلا وناشئا وكهلا- لاشتد ذلك عليه، وعظمت المحنة فيه، ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للّسان، وقطع للعادة. فأراد الله، برحمته ولطفه، أن يجعل لهم متّسعا في اللغات، ومتصرّفا في الحركات، كتيسيره عليهم في الدّين حين أجاز لهم على لسان رسوله، صلّى الله عليه وآله وسلّم، أن يأخذوا باختلاف العلماء من صحابته في فرائضهم وأحكامهم، وصلاتهم وصيامهم، وزكاتهم وحجّهم، وطلاقهم وعتقهم، وسائر أمور دينهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 فإن قال قائل: هذا جائز في الألفاظ المختلفة إذا كان المعنى واحدا، فهل يجوز أيضا إذا اختلفت المعاني؟. قيل له: الاختلاف نوعان: اختلاف تغاير، واختلاف تضادّ. فاختلاف التّضاد لا يجوز، ولست واجده بحمد الله في شيء من القرآن إلا في الأمر والنهي من الناسخ والمنسوخ. (واختلاف التغاير جائز) ، وذلك مثل قوله: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يوسف: 45] أي بعد حين، وبَعْدَ أُمَّةٍ أي بعد نسيان له، والمعنيان جميعا وإن اختلفا صحيحان، لأنه ذكر أمر يوسف بعد حين وبعد نسيان له، فأنزل الله على لسان نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم، بالمعنيين جميعا في غرضين. وكقوله: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ [النور: 15] أي تقبلونه وتقولونه، و (تلقونه) من الولق، وهو الكذب، والمعنيان جميعا وإن اختلفا صحيحان، لأنهم قبلوه وقالوه، وهو كذب، فأنزل الله على نبيه بالمعنيين جميعا في غرضين. وكقوله: رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا [سبأ: 19] على طريق الدعاء والمسألة، و «ربّنا باعد بين أسفارنا» على جهة الخير، والمعنيان وإن اختلفا صحيحان، لأن أهل سبأ سألوا الله أن يفرّقهم في البلاد فقالوا: رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا فلما فرقهم الله في البلاد أيادي سبأ، وباعد بين أسفارهم، قالوا: ربّنا باعد بين أسفارنا وأجابنا إلى ما سألنا، فحكى الله سبحانه عنهم بالمعنيين في غرضين. وكذلك قوله: لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الإسراء: 102] ولَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ لأن فرعون قال لموسى إن آياتك التي أتيت بها سحر. فقال موسى مرّة: لقد علمت ما هي سحر ولكنها بصائر، وقال مرّة: لقد علمت أنت أيضا ما هي سحر، وما هي إلا بصائر. فأنزل الله المعنيين جميعا. وقوله: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً [يوسف: 31] وهو الطعام، و (أعتدت لهن متكا) وهو الأترج، ويقال: الزّماورد، فدلت هذه القراءة على معنى ذلك الطعام، وأنزل الله بالمعنيين جميعا. وكذلك ننشرها و «ننشزها» [البقرة: 259] ، لأن الإنشار: الإحياء، والإنشاز هو: التحريك للنقل، والحياة حركة، فلا فرق بينهما. وكذلك: فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ [سبأ: 23] و (فرّغ) ، لأن فرّغ: خفف عنها الفزع، وفرّغ: فرّغ عنها الفزع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وكل ما في القرآن من تقديم أو تأخير، أو زيادة أو نقصان- فعلى مثل هذه السبيل. فإن قال قائل: فهل يجوز لنا أن نقرأ بجميع هذه الوجوه؟. قيل له: كل ما كان منها موافقا لمصحفنا غير خارج من رسم كتابه- جاز لنا أن نقرأ به. وليس لنا ذلك فيما خالفه، لأن المتقدمين من الصحابة والتابعين، قرؤوا بلغاتهم، وجروا على عادتهم، وخلّوا أنفسهم وسوم طبائعهم، فكان ذلك جائزا لهم، ولقوم من القرّاء بعدهم مأمونين على التنزيل، عارفين بالتأويل، فأما نحن معشر المتكلفين، فقد جمعنا الله بحسن اختيار السلف لنا على مصحف هو آخر العرض، وليس لنا أن نعدوه، كما كان لهم أن يفسّروه، وليس لنا أن نفسّره. ولو جاز لنا أن نقرأه بخلاف ما ثبت في مصحفنا، لجاز أن نكتبه على الاختلاف والزيادة والنقصان والتقديم والتأخير، وهناك يقع ما كرهه لنا الأئمة الموفّقون، رحمة الله عليهم. وأما نقصان مصحف عبد الله بحذفه (أمّ الكتاب) و (المعوّذتين) ، وزيادة أبيّ بسورتي القنوت- فإنا لا نقول: إن عبد الله وو أبيّا أصابا وأخطأ المهاجرون والأنصار، ولكنّ (عبد الله) ذهب فيما يرى أهل النظر إلى أن (المعوذتين) كانتا كالعوذة والرّقية وغيرها، وكان يرى رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم، يعوّذ بهما الحسن والحسين وغيرهما «1» ، كما كان يعوّذ بأعوذ بكلمات الله التّامة «2» ، وغير ذلك، فظنّ أنهما ليستا من القرآن، وأقام على ظنّه ومخالفة الصحابة جميعا كما أقام على التّطبيق. وأقام غيره على الفتيا بالمتعة، والصّرف ورأى آخر أكل البرد وهو صائم. ورآى آخر أكل السّحور بعد طلوع الفجر الثاني. في أشباه لهذا كثيرة. وإلى نحو هذا ذهب أبيّ في (دعاء القنوت) ، لأنه رأى رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم، يدعو به   (1) أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء باب 10، وأبو داود في السنة باب 20، والترمذي في الطب باب 18، وابن ماجه في الطب باب 36، وأحمد في المسند 1/ 270. (2) روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء باب 10، ومسلم في الذكر حديث 54، 55، وأبو داود في الطب باب 19، والترمذي في الدعوات باب 40، 90، 112، وابن ماجه في الطب باب 35، 36، والدارمي في الاستئذان باب 48، ومالك في الشعر حديث 11، والاستئذان باب 34، وأحمد في المسند 2/ 181، 290، 375، 3/ 419، 448، 4/ 57، 5/ 430، 6/ 6، 377، 378، 409. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 في الصلاة دعاء دائما، فظن أنه من القرآن، وأقام على ظنه، ومخالفة الصحابة. وأما فاتحة الكتاب فإني أشك فيما روي عن عبد الله من تركه إثباتها في مصحفه، فإن كان هذا محفوظا فليس يجوز لمسلم أن يظنّ به الجهل بأنها من القرآن، وكيف يظنّ به ذلك وهو من أشد الصحابة عناية بالقرآن، وأحد الستة الذين الذين انتهى إليهم العلم، و (النبيّ) صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «من أحبّ أن يقرأ القرآن غضّا. كما أنزل فليقرأه قراءة ابن أمّ عبد» «1» . وعمر يقول فيه: كنيف ملىء علما «2» . وهو مع هذا متقدّم الإسلام بدريّ لم يزل يسمع رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم يؤمّ بها، وقال: «لا صلاة إلا بسورة الحمد» «3» وهي السبع المثاني، وأم الكتاب، أي أعظمه، وأقدم ما نزل منه كما سميت مكة أم القرى لأنها أقدمها، قال الله عز وجل: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً [آل عمران: 96] . ولكنه ذهب، فيما يظنّ أهل النظر، إلى القرآن إنما كتب وجمع بين اللوحين مخافة الشك والنسيان، والزيادة والنقصان، ورأى ذلك لا يجوز على سورة الحمد لقصرها ولأنها تثنى في كل صلاة وكل ركعة، ولأنه لا يجوز لأحد من المسلمين ترك تعلّمها وحفظها، كما يجوز ترك تعلم غيرها وحفظه، إذ كانت لا صلاة إلا بها. فلما أمن عليها العلّة التي من أجلها كتب المصحف، ترك كتابتها وهو يعلم أنها من القرآن.   (1) أخرجه ابن ماجه 138، وأحمد في المسند 1/ 445، 4/ 279، والحاكم في المستدرك 2/ 227، 3/ 318، وابن أبي شيبة في المصنف 10/ 521، والطبراني في المعجم الكبير 9/ 62، 79، وأبو حنيفة في المسند 134، والهيثمي في مجمع الزوائد 9/ 288، والمتقي الهندي في كنز العمال 3077، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 4/ 298، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار 1/ 281، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 5/ 193. (2) أخرجه الحاكم في المستدرك 3/ 318. (3) روي الحديث بلفظ: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين 3/ 47، 48، وابن حجر في فتح الباري 2/ 252، وأبو عوانة في مسنده 2/ 125، وأبو نعيم في حلية الأولياء 7/ 124، وابن عدي في الكامل في الضعفاء 4/ 1437. وروي الحديث بلفظ: «لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب» أخرجه أحمد في المسند 2/ 428، والدارقطني في سننه 1/ 321، والزيلعي في نصب الراية 22147، 22148، والمتقي الهندي في كنز العمال 19695، وابن حجر في فتح الباري 2/ 242، والعقيلي في الضعفاء 1/ 190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ولو أن رجلا كتب في المصحف سورا وترك سورا لم يكتبها، لم نر عليه في ذلك وكفا «1» إن شاء الله تعالى. باب ما ادّعي على القرآن من اللحن وأما ما تعلقوا به من حديث عائشة رضي الله عنها في غلط الكاتب، وحديث عثمان رضي الله عنه: أرى فيه لحنا- فقد تكلم النحويون في هذه الحروف، واعتلوا لكل حرف منها، واستشهدوا الشعر: فقالوا: في قوله سبحانه: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [طه: 63] وهي لغة بلحرث بن كعب يقولون: مررت برجلان، وقبضت منه درهمان، وجلست بين يداه، وركبت علاه. وأنشدوا «2» : تزوّد منّا بين أذناه ضربة ... دعته إلى هابي التّراب عقيم أي موضع كثير التراب لا ينبت. وأنشدوا «3» : أيّ قلوص راكب تراها ... طاروا علاهنّ فطر علاها   (1) الوكف: الإثم والعيب. (2) يروى صدر البيت بلفظ: تزوّد منّا بين أذناه طعنة والبيت من الطويل، وهو لهوبر الحارثي في لسان العرب (صرع) ، (شظى) ، (هبا) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 707، وخزانة الأدب 7/ 453، والدرر 1/ 116، وسر صناعة الإعراب 2/ 704، وشرح شذور الذهب ص 61، وشرح المفصّل 3/ 128، 133، والصاحبي في فقه اللغة ص 49، وهمع الهوامع 1/ 40. (3) يروى الشطر الأول من الرجز: أي قلوص راكب تراها ... ناجية وناجيا أباها والرجز بلا نسبة في تاج العروس (قلص) ، (نجا) ، ولسان العرب (علا) ، (نجا) ، ويروى أيضا بلفظ: أي قلوص راكب تراها ... فاشدد بمثني حقب حقواها وهو بلا نسبة في لسان العرب (علا) ، وتاج العروس (قلص) ، ويروى الشطر الثاني بلفظ: نادية وناديا أباها ... طاروا علاهنّ فطر علاها والرجز لرؤبة في ديوانه ص 168، وله أو لأبي النجم أو لبعض أهل اليمن في المقاصد النحوية 1/ 133، ولبعض أهل اليمن في خزانة الأدب 7/ 133، 115، وشرح شواهد المغني 1/ 128، وبلا نسبة في لسان العرب (طير) ، (علا) ، (نجا) ، وخزانة الأدب 4/ 105، والخصائص 2/ 269، وشرح شواهد الشافية ص 355، وشرح المفصّل 3/ 34، 129، وتاج العروس (قلص) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 على أن القراء قد اختلفوا في قراءة هذا الحرف: فقرأه أبو عمرو بن العلاء «1» ، وعيسى بن عمر «2» : «إنّ هذين لساحران» وذهبا إلى أنه غلط من الكاتب كما قالت عائشة. وكان عاصم الجحدريّ «3» يكتب هذه الأحرف الثلاثة في مصحفه على مثالها في الإمام، فإذا قرأها، قرأ: «إنّ هذين لساحران» ، وقرأ المقيمون الصلاة [النساء: 162] ، وقرأ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ [الحج: 17] . وكان يقرأ أيضا في سورة البقرة: والصابرون فى البأساء والضراء [البقرة: 177] ويكتبها: الصابرين. وإنما فرق بين القراءة والكتاب لقول عثمان رحمة الله: أرى فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتها فأقامه بلسانه، وترك الرسم على حاله. وكان الحجاج «4» وكّل عاصما «5» وناجية بن رمح وعليّ بن أصمع بتتبّع المصاحف، وأمرهم أن يقطعوا كل مصحف وجدوه مخالفا لمصحف عثمان، ويعطوا صاحبه ستين درهما. خبّرني بذلك أبو حاتم «6» عن الأصمعي «7» قال: وفي ذلك يقول الشاعر:   (1) أبو عمرو بن العلاء: هو زبان بن العلاء بن عمار بن الريان المازني البصري، تقدمت ترجمته قبل قليل. (2) عيسى بن عمر: هو أبو عمرو عيسى بن عمر الثقفي النحوي البصري، مولى خالد بن الوليد، توفي سنة 149 هـ، صنّف «الإكمال في النحو» ، «جامع في النحو» . (كشف الظنون 5/ 805) . (3) عاصم الجحدري: هو عاصم بن أبي الصباح، أبو المجشر الجحدري، البصري، المقرئ المفسر، قرأ على الحسن البصري، توفي سنة 128. (لسان الميزان 3/ 220) . (4) الحجاج: هو أبو محمد الحجاج بن يوسف بن الحكم بن قيس الثقفي، ولّاه عبد الملك بن مروان العراق، وكان له في القتل وسفك الدماء غرائب لم يسمع بمثلها، بنى مدينة واسط، وتوفي سنة 95 هـ. (انظر أخباره في مروج الذهب 3/ 151- 191، والكامل في اللغة 1/ 158، 224، 2/ 262، 268، 288، ووفيات الأعيان 3/ 29- 54، والأعلام 2/ 168) . (5) عاصم: هو عاصم الجحدري. تقدمت ترجمته. (6) أبو حاتم: هو أبو حاتم السجستاني البصري. سهل بن محمد بن عثمان بن يزيد الجشمي الإمام. توفي سنة 250 هـ. وقيل: سنة 248 هـ، له العديد من التصانيف، منها: «إعراب القرآن» ، «كتاب الإدغام» ، «كتاب الأضداد» في اللغة، «كتاب الفصاحة» ، «كتاب القراءات» ، «كتاب المذكر والمؤنث» ، «كتاب المقصور والممدود» ، «ما يلحن به العامة» وغيرها الكثير (كشف الظنون 5/ 411) . [ ..... ] (7) الأصمعي: هو عبد الملك بن قريب (بالتصغير) ابن عبد الملك بن علي بن أصمع الأصمعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وإلا رسوم الدّار قفرا كأنّها ... كتاب محاه الباهليّ بن أصمعا وقرأ بعضهم: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [طه: 63] اعتبارا بقراءة أبيّ لأنها في مصحفه: «إن ذان إلا ساحران» وفي مصحف عبد الله: (وأسرّوا النّجوى أن هذان ساحران) منصوبة بالألف يجعل إِنْ هذانِ تبيينا للنجوى. وقالوا في قوله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ [المائدة: 69] رفع (الصابئين) لأنه ردّ على موضع إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وموضعه رفع، لأن (إنّ) مبتدأة وليست تحدث في الكلام معنى كما تحدث أخواتها. ألا ترى أنك تقول: زيد قائم، ثم تقول: إن زيدا قائم، ولا يكون بين الكلامين فرق في المعنى. وتقول: زيد قائم، ثم تقول: ليت زيدا قائم، فتحدث في الكلام معنى الشك. وتقول: زيد قائم، ثم تقول: ليت زيدا قائم، فتحدث في الكلام معنى التمني، ويدلّك على ذلك قولهم: إن عبد الله قائم وزيد، فترفع زيدا، كأنك قلت: عبد الله قائم وزيد، وتقول: لعل عبد الله قائم وزيدا، فتنصب مع (لعلّ) وترفع مع (إن) لما أحدثته (لعلّ) من معنى الشك في الكلام، ولأنّ (إنّ) لم تحدث شيئا. وكان الكسائي «1» يجيز: أن عبد الله وزيد قائمان، وإنّ عبد الله وزيد قائم. والبصريون يجيزونه، ويحكون: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب: 56] وينشدون «2» :   الباهلي، الإمام أبو سعيد البصري، الأديب اللغوي، ولد سنة 123 هـ، وتوفي بالبصرة سنة 215 هـ، له العديد من التصانيف منها: «أصول الكلام» ، «الأضداد في اللغة» ، «كتاب الأراجيز» ، «كتاب الاشتقاق، «كتاب الألفاظ» ، «كتاب غريب الحديث والقرآن» ، «كتاب غريب الحديث والكلام الوحشي» ، «كتاب اللغات» ، «كتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه» ، «كتاب معاني الشعر» ، «كتاب المقصور والممدود» ، «كتاب الهمزة وتحقيقها» وغيرها الكثير (كشف الظنون 5/ 623- 624) . (1) الكسائي: هو علي بن حمزة بن عبد الله بن عثمان، مولى بني أسد، أبو الحسن المعروف بالكسائي، ثم البغدادي الكوفي، أحد أئمة النحو، توفي سنة 189 هـ بالري، صنّف من الكتب: «اختلاف العدد» ، «أشعار المعاياة وطرائقها» ، «قصص الأنبياء» ، «كتاب الحروف» ، «كتاب العدد» ، «كتاب القراءات» ، «كتاب المصادر» ، «كتاب النوادر الأصغر» ، «كتاب النوادر الأكبر» ، «كتاب النوادر الأوسط» ، «كتاب الهاءات المكنى في القرآن» ، «كتاب الهجاء» ، «مختصر في النحو» ، «معاني القرآن» ، «مقطوع القرآن وموصوله» . (كشف الظنون 5/ 668) . (2) البيت من الطويل، وهو لضابىء بن الحارث البرجمي في الأصمعيات ص 184، والإنصاف ص 94، وتخليص الشواهد ص 385، وخزانة الأدب 9/ 326، 10/ 312، 313، 320، والدرر 6/ 182، وشرح أبيات سيبويه 1/ 369، وشرح التصريح 1/ 228، وشرح شواهد المغني ص 867، وشرح المفصل 8/ 86، والشعر والشعراء ص 358، والكتاب 1/ 75، ولسان العرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإنّي وقيّار بها لغريب وقالوا في نصب (المقيمين) بأقاويل: قال بعضهم: أراد بما أنزل إليك وإلى المقيمين. وقال بعضهم: وما أنزل من قبلك ومن قبل المقيمين، وكان الكسائي يرده إلى قوله: يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [البقرة: 4] أي: ويؤمنون بالمقيمين، واعتبره بقوله في موضع آخر: يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ أي بالمؤمنين. وقال بعضهم: هو نصب على المدح. قال أبو عبيدة «1» : هو نصب على تطاول الكلام بالنّسق، وأنشد للخرنق بنت هفّان «2» : لا يبعدن قومي الذين هم ... سمّ العداة وآفة الجزر النازلين بكلّ معترك ... والطيّبون معاقد الأزر ومما يشبه هذه الحروف- ولم يذكروه- قوله في سورة البقرة: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ [البقرة: 177] . والقرّاء جميعا على نصب الصابرين إلا عاصما الجحدري فإنه كان يرفع الحرف إذا قرأه، وينصبه إذا كتبه، للعلّة التي تقدم ذكرها. واعتل أصحاب النحو للحرف، فقال بعضهم: هو نصب على المدح، والعرب تنصب على المدح والذم، كأنهم ينوون إفراد الممدوح بمدح مجدّد غير متبع لأوّل   (قير) ، ومعاهد التنصيص 1/ 186، والمقاصد النحوية 2/ 318، ونوادر أبي زيد ص 20، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 103، وأوضح المسالك 1/ 358، ورصف المباني ص 267، وسر صناعة الإعراب ص 372، وشرح الأشموني 1/ 144، ومجالس ثعلب ص 316، 598، وهمع الهوامع 2/ 144. (1) أبو عبيدة: هو الحافظ أبو عبيدة معمر بن المثنى التميمي البصري المنشأ، بغدادي الدار والوفاة، الفقيه اللغوي الأخباري، ولد سنة 110 هـ، وتوفي سنة 203 هـ، له العشرات من المصنفات، منها: «إعراب القرآن» ، «مجاز القرآن» ، «الجمع والتثنية» ، «غريب الحديث» ، «غريب القرآن» ، «كتاب الأضداد» في اللغة، «كتاب الشعر والشعراء» ، «كتاب اللغات» ، «كتاب المجاز» ، «معاني القرآن» ، وغيرها الكثير (كشف الظنون 6/ 466- 467) . (2) البيتان من الكامل، وهما في ديوان الخرنق بنت بدر بن هفان ص 43، والأشباه والنظائر 6/ 231، وأمالي المرتضى 1/ 205، والإنصاف 2/ 468، وأوضح المسالك 3/ 314، والحماسة البصرية 1/ 227، وخزانة الأدب 5/ 41، 42، 44، والدرر 6/ 14، وسمط اللآلي ص 548، وشرح أبيات سيبويه 2/ 16، وشرح التصريح 2/ 116، والكتاب 1/ 202، 2/ 57، 58، 64، ولسان العرب (نضر) ، والمحتسب 2/ 198، والمقاصد النحوية 3/ 602، 4/ 72، وأساس البلاغة (أزر) ، والبيتان بلا نسبة في رصف المباني ص 416، وشرح الأشموني 2/ 399. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 الكلام، كذلك قال الفرّاء «1» . وقال بعضهم: أراد: وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السّبيل والسائلين والصابرين في البأساء والضّرّاء. وهذا وجه حسن، لأنّ البأساء: الفقر، ومنه قول الله عز وجل: وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ [الحج: 28] . والضّرّاء: البلاء في البدن، من الزّمانة والعلّة. فكأنه قال: وآتى المال على حبّه السائلين الطّوّافين، والصابرين على الفقر والضرّ الذين لا يسألون ولا يشكون، وجعل الموفين وسطا بين المعطين نسقا على من آمن بالله. ومن ذلك قوله في سورة الأنبياء: وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء: 88] كتبت في المصاحف بنون واحدة، وقرأها القرّاء جميعا ننجي بنونين إلا عاصم بن أبي النّجود «2» فإنه كان يقرؤها بنون واحدة، ويخالف القرّاء جميعا، ويرسل الياء فيها على مثال (فعل) . فأما من قرأها بنونين، وخالف الكتاب، فإنه اعتل بأن النون تخفى عند الجيم، فأسقطها كاتب المصحف لخفائها، ونيّته إثباتها. واعتلّ بعض النحويين لعاصم فقالوا: أضمر المصدر، كأنه قال: نجّي النجاء المؤمنين، كما تقول: ضرب الضرب زيدا، ثم تضمر الضّرب، فتقول: ضرب زيدا. وكان أبو عبيد «3» يختار في هذا الحرف مذهب عاصم كراهية أن يخالف الكتاب،   (1) الفراء: هو الحافظ أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الديلمي الكوفي اللغوي، المغربي البغدادي، المعروف بالفراء، المتوفى بطريق مكة سنة 207 هـ، له من الكتب: «آلة الكتابة» ، «الجمع والتثنية» ، «حدود الإعراب» في أصول العربية، «كتاب البهي» ، «كتاب الفاخر» ، «كتاب فعل وأفعل» ، «كتاب اللغات» ، «كتاب المذكر والمؤنث» ، «كتاب المقصور والممدود» ، «كتاب الوقف والابتداء» ، «كتاب النوادر» ، «مصادر القرآن» ، «معاني القرآن» . (كشف الظنون 6/ 514) . (2) عاصم بن أبي النجود، تقدمت ترجمته. (3) أبو عبيد: هو القاسم بن سلام الأزدي، أبو عبيد البغدادي الأديب الفقيه اللغوي، ولد سنة 154 هـ، وتوفي بمكة سنة 224 هـ. من تصانيفه: «أدب القاضي» على مذهب الشافعي، «الأمثال السائرة» ، «عدد آي القرآن» ، «غريب الحديث» ، «غريب القرآن» ، «غريب المصنف» ، «فضائل القرآن» ، «كتاب الأحداث» ، «كتاب الأموال» ، «كتاب الأيمان والنذور» ، «كتاب الحجر والتفليس» ، «كتاب الحيض» ، «كتاب الشعراء» ، «كتاب الطهارة» ، «كتاب القراءات» ، «كتاب المذكر والمؤنث» ، «كتاب المقصور والممدود» ، «كتاب النسب» ، «معاني القرآن» ، «ناسخ القرآن ومنسوخة» . (كشف الظنون 5/ 825) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 ويستشهد عليه حرفا في سورة الجاثية، كان يقرأ به أبو جعفر المدني «1» ، وهو قوله: لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [الجاثية: 14] أي ليجزى الجزاء قوما. وأنشدني بعض النحويين «2» : ولو ولدت فقيرة جرو كلب ... لسبّ بذلك الجرو الكلابا ومن ذلك: فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون: 10] أكثر القرّاء يقرؤون فأصدق أكن بغير واو. واعتلّ بعض النحويين في ذلك بأنها محمولة على موضع فأصّدّق، لو لم يكن فيه الفاء، وموضعه جزم، وأنشد «3» : فأبلوني بليّتكم لعلّي ... أصالحكم وأستدرج نويّا فجزم وأستدرج، وحمله على موضع أصالحكم لو لم يكن قبلها: لعلّي كأنه قال: فأبلوني بليتكم أصالحكم وأستدرج. وكان أبو عمرو بن العلاء «4» يقرأ: فأصدق وأكون بالنصب، ويذهب إلى أن الكاتب أسقط الواو، كما تسقط حروف المد واللين في (كلمون) وأشباه ذلك. وليست تخلو هذه الحروف من أن تكون على مذهب من مذاهب أهل الإعراب فيها، أو أن تكون غلطا من الكاتب، كما ذكرت عائشة رضي الله عنها. فإن كانت على مذاهب النحويين فليس هاهنا لحن بحمد الله. وإن كانت خطأ في الكتاب، فليس على رسوله، صلّى الله عليه وآله وسلّم، جناية الكاتب في الخط. ولو كان هذا عيبا يرجع على القرآن، لرجع عليه كل خطأ وقع في كتابة المصحف من طريق التّهجّي:   (1) أبو جعفر المدني: هو يزيد بن القعقاع الإمام، عرض القرآن على مولاه أبي جعفر المخزومي المدني أحد العشرة، تابعي مشهور القدر، انتهت إليه رئاسة الإقراء بالمدينة. توفي سنة 130 هـ (غاية النهاية 2/ 382، الإعلام 9/ 241، الإصابة 2/ 349) . (2) البيت من الطويل، وهو لجرير في خزانة الأدب 1/ 337، والدرر 2/ 292، وليس في ديوانه، وهو بلا نسبة في الخصائص 1/ 397، وشرح المفصل 7/ 75، وهمع الهوامع 1/ 162، ويروى: «ولو ولدت قفيرة» ، بدل: «ولو ولدت فقيرة» . (3) البيت من الوافر، وهو لأبي دؤاد الإيادي في ديوانه ص 350، والخصائص 1/ 176، 2/ 341، وسر صناعة الإعراب 2/ 701، وشرح شواهد المغني 2/ 839، وللهذلي في مغني اللبيب 2/ 477، وبلا نسبة في لسان العرب (علل) . (4) أبو عمرو بن العلاء: تقدمت ترجمته. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 فقد كتب في الإمام: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ بحذف ألف التثنية. وكذلك ألف التثنية تحذف في هجاء هذا المصحف في كل مكان، مثل: قال رجلن وفَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما [المائدة: 107] وكتبت كتّاب المصحف: الصلاة والزكوة والحيوة، بالواو، واتّبعناهم في هذه الحروف خاصة على التّيمّن بهم، ونحن لا نكتب: (القطاة والقناة والفلاة) إلا بالألف، ولا فرق بين تلك الحروف وبين هذه. وكتبوا (الربو) بالواو، وكتبوا: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا [المعارج: 36] فمال بلام منفردة. وكتبوا: وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [الأنعام: 34] بالياء أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الشورى: 51] بالياء في الحرفين جميعا، كأنهما مضافان، ولا ياء فيهما، إنما هي مكسورة. وكتبوا: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ [القلم: 41] وفَقالَ الضُّعَفاءُ [إبراهيم: 21] بواو، ولا ألف قبلها. وكتبوا: أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا [هود: 77] بواو بعد الألف، وفي موضع آخر ما نَشاءُ [الإسراء: 18، والحج: 5] بغير واو، ولا فرق بينهما. وكتبوا: أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ [النمل: 31] بزيادة ألف. وكذلك وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ [التوبة: 47] بزيادة ألف بعد لام ألف. وهذا أكثر في المصحف من أن نستقصيه. وكذلك لحن اللاحنين من القرّاء المتأخرين، لا يجعل حجّة على الكتاب. وقد كان الناس قديما يقرؤون بلغاتهم كما أعلمتك. ثم خلف قوم بعد قوم من أهل الأمصار وأبناء العجم ليس لهم طبع اللغة، ولا علم التكلّف، فهفوا في كثير من الحروف وزلّوا وقرؤوا بالشاذ وأخلّوا. منهم رجل ستر الله عليه عند العوام بالصلاح، وقرّبه من القلوب بالدين. لم أر فيمن تتبعت وجوه قراءته أكثر تخليطا، ولا أشد اضطرابا منه، لأنه يستعمل في الحرف ما يدعه في نظيره، ثم يؤصّل أصلا ويخالف إلى غيره لغير ما علّة. ويختار في كثير من الحروف ما لا مخرج له إلا على طلب الحيلة الضعيفة. هذا إلى نبذه في قراءته مذاهب العرب وأهل الحجاز، فإفراطه في المد والهمزة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 والإشباع، وإفحاشه في الإضجاع والإدغام، وحمله المتعلمين على المركب الصعب، وتعسيره على الأمة ما يسره الله، وتضييقه ما فسحه. ومن العجب أنه يقرىء الناس بهذه المذاهب، ويكره الصلاة بها! ففي أي موضع تستعمل هذه القراءة إن كانت الصلاة لا تجوز بها؟! وكان ابن عيينة «1» يرى لمن قرأ في صلاته بحرفه، أو ائتم بقراءته: أن يعيد، ووافقه على ذلك كثير من خيار المسلمين منهم بشر بن الحارث «2» وأحمد بن حنبل. وقد شغف بقراءته عوامّ الناس وسوقهم، وليس ذلك إلا لما يرونه من مشقتها وصعوبتها، وطول اختلاف المتعلم إلى المقرئ فيها، فإذا رأوه قد اختلف في أمّ الكتاب عشرا، وفي مائة آية شهرا، وفي السبع الطّول حولا، ورأوه عند قراءته مائل الشّدقين، دارّ الوريدين، راشح الجبينين- توهّموا أن ذلك لفضيلة في القراءة وحذق بها. وليس هكذا كانت قراءة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا خيار السلف ولا التابعين، ولا القرّاء العالمين، بل كانت قراءتهم سهلة رسلة. وهكذا نختار لقراء القرآن في أورادهم ومحاربهم. فإما الغلام الرّيّض والمستأنف للتعلّم، فنختار له أن يؤخذ بالتحقيق عليه، من غير إفحاش في مدّ أو همز أو إدغام، لأن في ذلك تذليلا للّسان، وإطلاقا من الحبسة، وحلّا للعقدة. وما أقلّ من سلم من هذه الطبقة في حرفه من الغلط والوهم: فقد قرأ بعض المتقدمين: ما تلوته عليكم ولا أدرأتكم به [يونس: 16] فهمز، وإنما هو من دربت بكذا وكذا. وقرأ: وما تنزلت به الشياطون [الشعراء: 210] توهم أنه جمع بالواو والنون. وقرأ آخر: فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ [الأعراف: 150] بفتح التاء، وكسر الميم، ونصب الأعداء. وإنما هو من: أشمت الله العدوّ فهو يشمته، ولا يقال: شمت الله العدوّ.   (1) ابن عيينة: هو أبو محمد سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون الهلالي، الإمام العالم الزاهد الورع، ولد بالكوفة سنة 107 هـ، وسكن مكة وقدم بغداد، وتوفي بمكة سنة 198 هـ. (تاريخ بغداد 9/ 174- 184، وفيات الأعيان 2/ 391- 393) . (2) بشر بن الحارث: هو بشر الحافي، توفي سنة 227 هـ. (انظر تاريخ بغداد 7/ 68- 80، ووفيات الأعيان 1/ 248- 251) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وقال: الأعمش «1» قرأت عند إبراهيم «2» وطلحة بن مصرّف «3» : قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) [الشعراء: 25] ، فقال: إبراهيم ما تزال تأتينا بحرف أشنع! إنما هو (لمن حوله) واستشهد طلحة فقال مثل قوله. قال الأعمش: فقلت لهما: لحنتما، لا أقاعدكما اليوم. وقرأ يحيى بن وثّاب «4» : وإن تلوا أو تعرضوا [النساء: 135] من الولاية. ولا وجه للولاية هاهنا، إنما هي تلووا- بواوين- من ليّك في الشهادة وميلك إلى أحد الخصمين عن الآخر. قال الله عز وجل: يلون ألسنتهم بالكتاب [آل عمران: 78] واتبعه على هذه القراءة الأعمش وحمزة «5» . وقرأ الأعمش: وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ [إبراهيم: 22] بكسر الياء، كأنه ظن أن الباء تخفض الحرف كله، واتّبعه على ذلك (حمزة) . وقرأ حمزة: وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر: 43] فجزم الحرف الأوّل، والجزم لا يدخل الأسماء، وأعرب الآخر وهو مثله. وقرأ نافع «6» : فَبِمَ تُبَشِّرُونَ [الحجر: 54] بكسر النون. ولو أريد بها الوجه الذي ذهب إليه، لكانت (فبم تبشّرونني) بنونين، لأنها في موضع رفع.   (1) الأعمش: هو سليمان بن مهران الأعمش، أبو محمد الأسدي الكوفي، ولد سنة 60 هـ، وتوفي سنة 148 هـ (غاية النهاية في طبقات القراء 1/ 315) . (2) إبراهيم: هو إبراهيم بن يزيد، أبو عمران النخعي الكوفي، توفي سنة 96 هـ. (3) طلحة بن مصرف: هو طلحة بن عمرو بن كعب، أبو عبد الله الهمداني الكوفي، تابعي، توفي سنة 112 هـ، (غاية النهاية في طبقات القراء 2/ 343) . (4) يحيى بن وثاب: هو يحيى بن وثاب الأسدي، الكوفي، تابعي ثقة، توفي سنة 103 هـ. (المعارف لابن قتيبة ص 330) . (5) حمزة: هو حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل الكوفي الزيات، أحد القراء السبعة، وإليه صارت إمامة الإقراء بعد عاصم والأعمش. ولد سنة 80 هـ، وتوفي في خلافة المنصور سنة 156 هـ. (غاية النهاية في طبقات القراء 1/ 261، شذرات الذهب 1/ 240، معرفة القراء 1/ 93، تقريب التهذيب 1/ 199) . (6) نافع: هو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم، أبو رويم، ويقال: أبو نعيم، ويقال: أبو الحسن، وقيل: أبو عبد الله، وقيل: أبو عبد الرحمن الليثي، مولاهم، وهو مولى جعونة بن شعوب الليثي حليف حمزة بن عبد المطلب. أحد القراء السبعة. (غاية النهاية في طبقات القراء 2/ 330، شذرات الذهب 1/ 270، تقريب التهذيب 2/ 295، الأعلام 8/ 317) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وقرأ حمزة. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) [الأنفال: 59] بالياء. ولو أريد بها الوجه الذي ذهب إليه لكانت (ولا يحسبنّ الّذين كفروا أنهم سبقوا، إنهم لا يعجزون) . وهذا يكثر. ولم يكن القصد في هذا الكتاب له، وستراه كله في كتابنا المؤلف في وجوه القراءات إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 باب التناقض والاختلاف قال أبو محمد: عبد الله بن مسلم بن قتيبة: فأما ما نخلوه من التناقض في مثل قوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) [الرحمن: 39] . وهو يقول في موضع آخر: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) [الحجر: 92، 93] . فالجواب في ذلك: أن يوم القيامة يكون كما قال الله تعالى: مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج: 4] ، ففي مثل هذا اليوم يسألون وفيه لا يسألون، لأنهم حين يعرضون يوقفون على الذنوب ويحاسبون، فإذا انتهت المسألة ووجبت الحجة: انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ [الرحمن: 37] وانقطع الكلام، وذهب الخصام، واسودّت وجوه قوم، وابيضت وجوه آخرين، وعرف الفريقان بسيماهم، وتطايرت الصحف من الأيدي: فآخذ ذات اليمين إلى الجنة، وآخذ ذات الشمال إلى النار. وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) [الرحمن: 39] قال: هو موطن لا يسألون فيه. ومثله: وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص: 78] . وقوله: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ [ق: 28] وقوله: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) [المرسلات: 35، 36] ، وهو يقول في موضع آخر: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) [الزمر: 31] ويقول: هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [البقرة: 111، والنمل: 64] . والجواب عن هذا كله نحو جوابنا الأول، لأنهم يختصمون ويدعي المظلومون على الظالمين، ففي تلك الحال يختصمون، فإذا وقع القصاص وثبت الحكم قيل لهم: لا تختصموا ولا تنطقوا، ولا تعتذروا، فليس ذلك بمغن عنكم ولا نافع لكم، فيخسؤون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 روى عبد الرزّاق «1» عن معمر «2» ، عن قتادة «3» : أن رجلا جاء إلى عكرمة «4» فقال: أرأيت قول الله تعالى: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ، وقوله: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ فقال: إنها مواقف، فأما موقف منها: فتكلموا واختصموا، ثم ختم الله على أفواههم فتكلّمت أيديهم وأرجلهم، فحينئذ لا يتكلمون. وقوله: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) [الطور: 25] ، وهو يقول في موضع آخر: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ [المؤمنون: 101] ، فإنه إذا نفخ في الصور نفخة واحدة، تقطّعت الأرحام، وبطلت الأنساب، وشغلوا بأنفسهم عن التّسآل وفَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزمر: 68] . فإذا نفخ فيه أخرى: قاموا ينظرون وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) [الصافات: 27] وقالوا: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس: 52] . وهو معنى قول ابن عباس. وقوله: قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) [فصلت: 9، 11] فدلّت هذه الآيات على أنه خلق الأرض قبل السماء. وقال في موضع آخر: أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات: 27، 30] . فدلّت هذه الآية على أنه خلق السماء قبل الأرض. وليس على كتاب الله تحريف الجاهلين، وغلط المتأوّلين. وإنما كان يجد الطاعن   (1) عبد الرزاق: هو أبو بكر عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري، مولاهم الصغاني، المحدث اليمني، من رواة البخاري، ولد سنة 120 هـ، وتوفي سنة 211 هـ، من تصانيفه: «تزكية الأرواح عن مواقع الفلاح» ، «تفسير القرآن» ، «الجامع الكبير في الحديث» ، «كتاب السنن في الفقه» ، «كتاب المغازي» . (كشف الظنون 5/ 566) . (2) معمر: هو معمر بن المثنى، أبو عبيدة، تقدمت ترجمته. (3) قتادة: هو قتادة بن دعامة بن عرنين (بفتح العين وتشديد الراء) بن عمرو بن ربيعة السدوسي، أبو الخطاب البصري التابعي، ولد سنة 60 هـ، وتوفي سنة 117 هـ. صنّف «تفسير القرآن» . (كشف الظنون 5/ 834) . (4) عكرمة: هو الحافظ أبو عبد الله، عكرمة بن عبد الله، بربري الأصل، مولى ابن عباس، من كبار التابعين توفي سنة 105 هـ، له «تفسير القرآن» . (كشف الظنون 5/ 666) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 متعلّقا ومقالا لو قال: والأرض بعد ذلك خلقها أو ابتدأها أو أنشأها، وإنما قال: دَحاها فابتدأ الخلق للأرض على ما في الآي الأول في يومين، ثم خلق السموات وكانت دخانا في يومين، ثم دحا بعد ذلك الأرض، أي بسطها ومدّها، وكانت ربوة مجتمعة، وأرساها بالجبال، وأنبت فيها النبات في يومين، فتلك ستة أيام سواء للسائلين، وهو معنى قول ابن عباس. وقال مجاهد «1» : بعد ذلك في هذا الموضع، بمعنى (مع ذلك) ، و (مع) و (بعد) في كلام العرب سواء. وقوله: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) [الغاشية: 6] ، وهو يقول في موضع آخر: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) [الحاقة: 35، 36] ، فإن النار دركات، والجنة درجات، وعلى قدر الذنوب والحسنات تقع العقوبات والمثوبات، فمن أهل النار من طعامه الزّقّوم، ومنهم من طعامه غسلين، ومنهم من شرابه الحميم، ومنهم من شرابه الصّديد. والضّريع: نبت يكون بالحجاز، يقال لرطبه: الشّبرق، لا يسمن ولا يشبع، قال امرؤ القيس «2» : فأتبعتهم طرفي وقد حال دونهم ... غوارب رمل ذي ألاء وشبرق والعرب تصفه بذلك. وغسلين: فعلين من غسلت، كأنه الغسالة، قال بعض المفسرين: هو ما يسيل من أجساد المعذّبين. وهذا نحو قوله: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ [إبراهيم: 50] وسرابيلهم من قطر آن قراءة عكرمة ومن تابعه. والقطر: النّحاس. والآن: الذي قد بلغ منتهى حرّه. كأن قوما يسربلون هذا،   (1) مجاهد: هو مجاهد بن جبير المخزومي، أبو الحجاج المقري المكي، مولى عبد الله بن السائب، وقيل: مولى السائب بن أبي السائب، فقيه محدّث تابعي ثقة. توفي بمكة سنة 102 هـ، وقيل: 103 هـ، وقيل: 104 هـ. صنّف «تفسير القرآن» . (أسماء التابعين 1/ 363، كشف الظنون 6/ 4) . (2) البيت من الطويل، وهو في ديوان امرئ القيس ص 169، ولسان العرب (شبرق) ، والبيت بلا نسبة في رصف المباني ص 51. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وقوما يسربلون هذا، ويلبسون هذا تارة، وهذا تارة. وأما قولهم: (كيف يكون في النار نبت وشجر، والنار تأكلهما؟) فإنه لم يرد فيما يرى أهل النظر- والله أعلم- أن الضريع بعينه ينبت في النار، ولا أنهم يأكلونه. والضريع من أقوات الأنعام لا من أقوات الناس، وإذا وقعت فيه الإبل لم تشبع وهلكت هزلا. قال الهذليّ يذكر إبلا وسوء مرعاها «1» : وحبسن في هزم الضريع فكلّها ... حدباء دامية اليدين حرود فأراد أن هؤلاء قوم يقتاتون ما لا يشبعهم، وضرب الضريع لهم مثلا. أو يعذّبون بالجوع كما يعذب من قوته الضريع. وكان ما أراد الله بهذا معلوما عندهم مفهوما، ولو لم يكن كذلك لأنكروه كما أنكروا قوله: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) [الصافات: 64، 65] وقالوا: كيف تكون في النار شجرة والنار تأكل الشجر؟ فأنزل الله: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ [الإسراء: 60] ، يعني بالرؤيا: ما رآه ليلة أسري به وأخبر عنه، فارتد لذلك قوم، وزاد الله في بصائر قوم. وأراد بالشجرة الملعونة: شجرة الزّقّوم. فهذا وجه. وقد يكون الضريع وشجرة الزّقّوم: نبتين من النار، أو من جوهر لا تأكله النار. وكذلك سلاسل النار وأغلالها، وأنكالها وعقاربها وحيّاتها- لو كانت على ما نعلم، لم تبق على النار، وإنما دلّنا الله سبحانه على الغائب عنده بالحاضر عندنا، فالأسماء متفقة للدلالة، والمعاني مختلفة. وما في الجنة من شجرها وثمرها وفرشها، وجميع آلاتها- على مثل ذلك. قال ابن عباس: نخل الجنة، جذوعها من زمرّد أخضر، وكربها من ذهب أحمر، وسعفها كسوة لأهل الجنة، منها مقطّعاتهم وحللهم وتمرها أمثال القلال والدّلاء، أشدّ   (1) يروى عجز البيت بلفظ: حدباء بادية الضلوع حرود والبيت من الكامل، وهو لقيس بن عيزارة الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص 598، ولسان العرب (ضرع) ، (هزم) وأساس البلاغة (حرد) ، وتاج العروس (ضرع) ، (هزم) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 3/ 396، وديوان الأدب 1/ 414، والمخصص 10/ 201. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وألين من الزبد، ليس له عجم. وقوله: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، [الأنفال: 33] ثم قال على إثر ذلك: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ [الأنفال: 34] فإن النّضر بن الحارث قال: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال: 32] يريد أهلكنا ومحمدا ومن معه عامة. فأنزل الله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، [الأنفال: 33] أي وفيهم قوم يستغفرون، يعني المسلمين. يدلّك على ذلك قول الله تبارك وتعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) [الأنفال: 33] ، ثم قال: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ خاصة وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ [الأنفال: 34] يعني المسلمين، فعذّبهم الله بالسيف بعد خروج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عنهم، وفي ذلك نزلت: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) ، [المعارج: 1] أي دعا داع بعذاب واقع، يعني النضر بن الحارث لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) [المعارج: 2] يقول: هو للكافرين خاصة دون المؤمنين، وهو معنى قول ابن عباس. وقال (مجاهد) في قوله: وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ: علم أن في أصلابهم من سيستغفر. وأما قولهم: أين قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى من قوله: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: 3] ، فهل شيء أشبه بشيء أليق به من أحد الكلامين بالآخر؟!. والمعنى: أن الله تعالى قصر الرجال على أربع نسوة وحرّم عليهم أن ينكحوا أكثر منهن، لأنه لو أباح لهم أن ينكحوا من الحرائر ما أباح من ملك اليمن لم يستطيعوا العدل عليهن بالتّسوية بينهن، فقال لنا: فكما تخافون ألا تعدلوا بين اليتامى إذا كفلتموهم، فخافوا أيضا ألا تعدلوا بين النساء إذا نكحتموهن، فانكحوا اثنتين وثلاثا وأربعا، ولا تتجاوزوا ذلك فتعجزوا عن العدل. ثم قال: فإن خفتم أيضا ألا تعدلوا بين الثلاث والأربع، فانكحوا واحدة، أو اقتصروا على ما ملكت أيمانكم من الإماء، ذلك أدنى ألا تعولوا، أي لا تجوروا وتميلوا. وقال ابن عباس: قصر الرجال على أربع من أجل اليتامى. يقول: لما كان النساء مكفولات بمنزلة اليتامى، وكان العدل على اليتامى شديدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 على كافلهم- قصر الرجال على ما بين الواحدة إلى الأربع من النساء، ولم يطلق لهم ما فوق ذلك، لئلا يميلوا. وقولهم: أين قوله: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ من قوله: ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المائدة: 97] ؟. وتأويل هذا: أن أهل الجاهلية كانوا يتغاورون ويسفكون الدماء بغير حقها، ويأخذون الأموال بغير حلّها، ويخيفون السّبل، ويطلب الرجل منهم الثأر فيقتل غير قاتله، ويصيب غير الجاني عليه، ولا يبالي من كان بعد أن يراه كفأ لوليّه ويسمّيه: الثأر المنيم، وربما قتل أحدهم حميمه بحميمه. قال ابن مضرّس وقتل خاله بأخيه «1» : بكت جزعا أمّي رميلة أن رأت ... دما من أخيها بالمهنّد باقيا فقلت لها: لا تجزعي إنّ طارقا ... خليلي الذي كان الخليل المصافيا وما كنت لو أعطيت ألفي نجيبة ... وأولادها لغوا وستين راعيا لأقبلها من طارق دون أن أرى ... دما من بني حصن على السيف جاريا وما كان في عوف قتيل علمته ... ليوفيني من طارق غير خاليا وربما أسرف في القتل فقتل بالواحد ثلاثة وأربعة وأكثر. وقال الشاعر «2» : هم قتلوا منكم بظنّة واحد ... ثمانية ثم استمرّوا فأرتعوا يقول: إنهم اتهموكم بقتل رجل منهم، فقتلوا منكم ثمانية به. فجعل الله الكعبة البيت الحرام وما حولها من الحرم، والشهر الحرام، والهدي، والقلائد- قواما للناس. أي أمنا لهم، فكان الرجل إذا خاف على نفسه لجأ إلى الحرم فأمن. يقول الله جل وعز: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67] .   (1) الأبيات من الطويل، وهي لتوبة بن المضرس العبسي في كتاب الوحشيات ص 82. (2) البيت من الطويل، وهو بلا نسبة في المعاني الكبير لابن قتيبة ص 1021. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وإذا دخل الشهر الحرام تقسّمتهم الرّحل، وتوزّعتهم النّخع، وانبسطوا في متاجرهم، وأمنوا على أموالهم وأنفسهم. وإذا أهدى الرجل منهم هديا، أو قلّد بعيره من لحاء شجر الحرم- أمن كيف تصرّف وحيث سلك. ولو ترك الناس على جاهليتهم وتغاورهم في كل موضع وكل شهر- لفسدت الأرض، وفني الناس، وتقطّعت السّبل، وبطلت المتاجر. ففعل الله ذلك لعلمه بما فيه من صلاح شؤونهم، وليعلموا كما علم ما فيه من الخير لهم- أنه يعلم أيضا ما في السّموات وما في الأرض من مصالح العباد ومرافقهم، وأنه بكل شيء عليم. وقولهم: وأين قوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ من قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [لقمان: 31] . ولم يرد الله في هذا الموضع معنى الصبر والشكر خاصة، وإنما أراد: إن في ذلك لآيات لكل مؤمن. والصبر والشكر أفضل ما في المؤمن من خلال الخير، فذكره الله عز وجل في هذا الموضع بأفضل صفاته. وقال في موضع آخر: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) [الحجر: 77] . وفي موضع آخر: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 69] ولِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل: 67] وإِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ [الرعد: 19] يعني المؤمنين. ومثله قوله تعالى في قصة سبإ: وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [سبأ: 19] . وهذا كما تقول: أن في ذلك لآية لكل موحّد مصلّ، ولكلّ فاصل تقيّ. وإنما تريد المسلمين. وقوله: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ [الحديد: 20] فإنما يريد بالكفار هاهنا: الزّرّاع، واحدهم كافر. وإنما سمّي كافرا لأنه إذا ألقى البذر في الأرض كفره، أي غطّاه، وكل شيء، غطّيته فقد كفرته، ومنه قيل: تكفّر فلان في السّلاح: إذا تغطّى. ومنه قيل للّيل كافر، لأنه يستر بظلمته كل شيء. ومنه قول الشاعر «1» : يعلو طريقة متنها متواترا ... في ليلة كفر النّجوم غمامها   (1) يروى صدر البيت بلفظ: يعلو طريقة متنها متواتر والبيت من الكامل، وهو للبيد في ديوانه ص 309، وجمهرة اللغة ص 787، وكتاب الجيم 3/ 168، وبلا نسبة في المخصص 12/ 238. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 أي غطاها. وهذا مثل قوله تعالى: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح: 29] . وأما قوله: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ [هود: 107] ، فإن للعرب في معنى (الأبد) ألفاظا يستعملونها في كلامهم، يقولون: لا أفعل ذلك ما اختلف الليل والنهار، وما طمى البحر، أي ارتفع، وما أقام الجبل، وما دامت السموات والأرض، في أشباه لهذا كثيرة، يريدون لا أفعله أبدا، لأن هذه المعاني عندهم لا تتغير عن أحوالها أبدا، فخاطبهم الله بما يستعملونه فقال: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أي مقدار دوامهما، وذلك مدة العالم. وللسماء وللأرض وقت يتغيّران فيه عن هيئتهما، يقول الله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ [إبراهيم: 48] ، ويقول: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء: 104] . أراد أنهم خالدون فيها مدة العالم، سوى ما شاء الله أن يزيدهم من الخلود على مدة العالم. ثم قال: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود: 108] أي غير مقطوع. و (إلّا) في هذا الموضع بمعنى (سوى) ومثله من الكلام: لأسكننّ في هذه الدار حولا إلا ما شئت. تريد سوى ما شئت أن أزيد على الحول. هذا وجه. وفيه (قول آخر) ، وهو: أن يجعل دوام السماء والأرض بمعنى الأبد، على ما تعرف العرب وتستعمل، وإن كانتا قد تتغيّران، وتستثنى المشيئة من دوامهما، لأن أهل الجنة وأهل النار قد كانوا في وقت من أوقات دوام السماء والأرض في الدنيا لا في الجنة، فكأنه قال: خالدين في الجنة وخالدين في النار دوام السماء والأرض، إلا ما شاء ربك من تعميرهم في الدنيا قبل ذلك. وفيه (وجه ثالث) : وهو أن يكون الاستثناء من الخلود مكث أهل الذنوب من المسلمين في النار حتى تلحقهم رحمة الله، وشفاعة رسوله، فيخرجوا منها إلى الجنة. فكأنه قال سبحانه: خالدين في النار ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك من إخراج المذنبين من المسلمين إلى الجنة، وخالدين في الجنة ما دامت السموات والأرض، إلا ما شاء ربك من إدخال المذنبين النار مدة من المدد، ثم يصيرون إلى الجنة. وأما قوله: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان: 56] ، فإن (إلّا) في هذا الموضع أيضا بمعنى (سوى) . ومثله: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء: 22] يريد سوى ما سلف في الجاهلية قبل النهي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وإنما استثنى الموتة الأولى وهي في الدنيا، لأن السّعداء حين يموتون يصيرون بما شاء الله من لطفه وقدرته، إلى أسباب من أسباب الجنة، ويتفاضلون أيضا في تلك الأسباب على قدر منازلهم عند الله: فمنهم من يلقّى بالرّوح والرّيحان، ومنهم من يفتح له باب إلى الجنة، ومنهم الشهداء أرواحهم في حواصل طير خضر تعلق في الجنة. أي تأكل، قال الشاعر «1» : إن تدن من فنن الألاءة تعلق وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين يطير مع الملائكة في الجنة. والله يقول: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) [آل عمران: 169] . أفما ترى أنهم عندنا موتى وهم في الجنة متّصلون بأسبابها؟ فكيف لا يجوز أن يستثنى من مكثهم فيها الموتة الأولى؟. وأما قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) [مريم: 96] ، فإنه ليس على تأوّلهم، وإنما أراد أنه يجعل لهم في قلوب العباد محبّة. فأنت ترى المخلص المجتهد محبّبا إلى البرّ والفاجر، مهيبا مذكورا بالجميل. ونحوه قول الله سبحانه في قصة موسى صلّى الله عليه وسلّم: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه: 39] ، ولم يرد في هذا الموضع أني أحببتك، وإن كان يحبه، وإنما أراد أنه حبّبه إلى القلوب، وقرّبه من النفوس، فكان ذلك سببا لنجاته من فرعون، حتى استحياه في السّنة التي كان يقتل فيها الولدان. وأما قوله: وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) [النبأ: 9] ، فليس السّبات هاهنا: النوم، فيكون معناه: وجعلنا نومكم نوما. ولكن السّبات الراحة: أي جعلنا النوم راحة لأبدانكم. ومنه قيل: يوم السبت، لأن الخلق اجتمع في يوم الجمعة، وكان الفراغ منه يوم السبت، فقيل لبني إسرائيل: استريحوا في هذا اليوم، ولا تعملوا شيئا، فسمّي يوم السبت، أي يوم الراحة. وأصل السبت: التّمدّد، ومن تمدّد استراح. ومنه قيل: رجل مسبوت، ويقال: سبتت المرأة شعرها: إذا نقضته من العقص وأرسلته. قال أبو وجزة السّعدي «2» :   (1) صدر البيت: أو فوق طاوية الحشى رمليّة والبيت من الكامل، وهو للكميت في تاج العروس (علق) ، وليس في ديوانه. (2) البيت من الطويل، وهو بلا نسبة في أمالي المرتضى 2/ 15، وتفسير البحر المحيط 8/ 409. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وإن سبّتته مال جثلا كأنّه ... سدى وأثلاث من نواسج خثعما ثم قد يسمى النوم سباتا، لأنه بالتمدّد يكون. ومثل هذا كثير، وستراه في (باب المجاز) إن شاء الله. وأما قوله: وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ [الإنسان: 15، 16] ، فقد أعلمتك أن كل ما في الجنة من آلتها وسررها وفرشها وأكوابها- مخالف لما في الدنيا من صنعة العباد، وإنما دلّنا الله بما أراناه من هذا الحاضر على ما عنده من الغائب. وقال ابن عباس: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء. والأكواب: كيزان لا عرى لها، وهي في الدنيا قد تكون من فضة، وتكون من قوارير. فأعلمنا أن هناك أكوابا لها بياض الفضّة وصفاء القوارير، وهذا على التشبيه، أراد قوارير كأنها من فضة، كما تقول: أتانا بشراب من نور، أي كأنه نور. وقال قتادة في قول الله عز وجل: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) [الرحمن: 58] أي لهنّ صفاء الياقوت وبياض المرجان. وأما قوله: حِجارَةً مِنْ طِينٍ [الذاريات: 33] ، فإن ابن عباس، رضي الله عنه، ذكر أنها آجرّ. والآجرّ: حجارة الطين، لأنه في صلابة الحجارة. وقرأت في التّوراة بعد ذكر أنساب ولد نوح صلّى الله عليه وسلّم: أنهم تفرّقوا في كل أرض، وكانت الأرض لسانا واحدا، فلما ارتحلوا من المشرق وجدوا بقعة في الأرض اسمها (سعير) فحلّوا بها، ثم جعل الرجل منهم يقول لصاحبه: هلمّ فلنلبّن لبنا فنحرّقه بالنار فيكون اللّبن حجارة، ونبني مجدلا «1» رأسه في السماء. وذكر بعض من رأى هذه الحجارة أنها حمر مختّمة. وقال آخرون: مخطّطة، وذلك تسويمها، ولهذا ذهب قوم في تفسير (سجّيل) إلى سنك وكل. أي حجر وطين. وأما قوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ [يونس: 94] ، فإن المخاطبة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والمراد غيره من الشّكاك، لأن القرآن نزل عليه بمذاهب العرب كلّها، وهم قد يخاطبون الرجل بالشيء ويريدون غيره. والجواب عن هذا مستقصى في (باب الكناية والتعريض) فكرهت إعادته في هذا الموضع.   (1) المجدل: القصر المشرق، لوثاقة بنائه، وجمعه: مجادل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وأما قوله: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: 62] ، فإن الناس يختلفون في مطاعمهم: فمنهم من يأكل الوجبة، ومنهم من عادته الغداء والعشاء، ومنهم من يزيد عليهما، ومنهم من يأكل متى وجد لغير وقت ولا عدد. فأعدل هذه الأحوال للطّاعم وأنفعها، وأبعدها من البشم «1» والطّوى «2» على العموم- الغداء والعشاء. والعرب تكره الوجبة، وتستحبّ العشاء، وتقول: ترك العشاء مهرمة، وترك العشاء يذهب بلحم الكاذة «3» . وقد بيّنت معناهم في هذا القول في كتاب (غريب الحديث) . ونحن لا نعرف دهرا لا يختلف له وقت، ولا يرى فيه ظلام ولا شمس، فأراد الله جل وعز أن يعرّفنا من حيث نفهم ونعلم، أحوال أهل الجنة في مأكلهم، واعتدال أوقات مطاعمهم، فضرب لنا البكرة والعشيّ مثلا، إذ كانا يدلّان على العشاء والغداء. وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، أنه قال: كانت العرب إذا أصاب أحدهم الغداء والعشاء أعجبه ذلك. فأخبرهم الله تبارك وتعالى أن لهم في الجنة هذه الحال التي تعجبهم في الدنيا. وأما قوله: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر: 46] ، فإنه لم يرد أن ذلك يكون في الآخرة، وإنما أراد أنهم يعرضون عليها بعد مماتهم في القبور. وهذا شاهد من كتاب الله لعذاب القبر، يدلّك على ذلك قوله: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ، [غافر: 46] فهم في البرزخ يعرضون على النار غدوّا وعشيّا، وفي القيامة يدخلون أشد العذاب. وأما قوله: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الرعد: 35] ، ولم يأت بالشيء الذي جعل له الجنة مثلا- فإن أصل المثل ما ذهبوا إليه من معنى المثل، تقول: هذا مثل الشيء ومثله، كما تقول: هذا شبه الشيء وشبهه. ثم قد يصير المثل بمعنى الشيء وصفته، وكذلك المثال والتّمثال، يقال للمرأة الرّائقة: كأنها مثال، وكأنها تمثال، أي صورة، كما يقال: كأنها دمية، أي صورة، وإنما هي مثل، وقد مثّلت لك كذا، أي صوّرته ووصفته. فأراد الله بقوله: مَثَلُ الْجَنَّةِ، أي صورتها وصفتها.   (1) البشم: التخمة. (2) الطوى: الجوع. (3) الكاذة: لحم مؤخر الفخذين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وروي أن عليّا رحمه الله كان يقرأ: مثال الجنة أو أمثال الجنة ، وهو بمنزلة مثل، إلا أنه أوضح وأقرب في أفهام الناس إلى المعنى الذي تأوّلناه في مثل. ونحوه قوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ، ثم قال: ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ [الفتح: 29] أي ذلك وصفهم، لأنه لم يضرب لهم مثلا في أوّل الكلام، فيقول: ذلِكَ مَثَلُهُمْ وإنما وصفهم وحلّاهم، ثم قال: ذلِكَ مَثَلُهُمْ أي وصفهم. وقوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ، ثم قال: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الحج: 73] ، ولم يأت بالمثل، لأن في الكلام معناه، كأنه قال: يا أيها الناس، مثلكم مثل من عبد آلهة اجتمعت لأن تخلق ذبابا لم تقدر عليه، وسلبها الذباب شيئا فلم تستنقذه منه. ومثل هذا في القرآن وكلام العرب أشياء قد اقتصصناها في (أبواب المجاز) . وأما قوله: وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) [الرعد: 40] . فإنه لم يرد أن عليك البلاغ بعد الوفاة كما ظنّوا، وإنما أراد: إن أريناك بعض الذي نعدهم في حياتك، أو توفيناك قبل أن نريك ذلك- فليس عليك إلا أن تبلّغ، وعلينا أن نجازي. ومثل هذا: رجل بعثته واليا وقلت له: سر إلى بلد كذا فادعهم، فإن استجابوا لك فأحسن فيهم السيرة، وابسط المعدلة، وإن عصوك فعظهم وحذّرهم عقاب المعصية، فإن أقاموا على الغواية أعلمتني ليأتيهم النّكير. فصار إليهم فمانعوه، ووعظهم فخالفوه، وأقام حينا مستبطئا ما أوعدتهم به، فقلت: إن أريناك ما وعدناهم من العقوبة أو عزلناك قبل أن نريك ذلك- فليس لك أن تستبطئنا، إنما عليك التّبليغ والعظة، وعلينا الجزاء والمكافأة. وأما قوله: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ [النحل: 112] . وقوله: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الأحزاب: 10] . وقوله: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ [الأنفال: 5] . وقوله: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) [القلم: 16] . فقد ذكرنا الجواب عن ذلك في (باب المجاز) ، وكرهنا إعادته في هذا الموضع وستراه هناك كافيا، إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 باب المتشابه وأما قولهم: ماذا أراد بإنزال المتشابه في القرآن، من أراد بالقرآن لعباده الهدى والتّبيان؟. - فالجواب عنه: أن القرآن نزل بألفاظ العرب ومعانيها، ومذاهبها في الإيجاز والاختصار، والإطالة والتوكيد، والإشارة إلى الشيء، وإغماض بعض المعاني حتى لا يظهر عليه إلا اللّقن «1» ، وإظهار بعضها، وضرب الأمثال لما خفي. ولو كان القرآن كله ظاهرا مكشوفا حتى يستوي في معرفته العالم والجاهل، لبطل التفاضل بين الناس، وسقطت المحنة، وماتت الخواطر. ومع الحاجة تقع الفكرة والحيلة، ومع الكفاية يقع العجز والبلادة. وقالوا: عيب الغنى أنه يورث البله، وفضيلة الفقر أنه يبعث الحيلة. وقال: أكثم بن صيفيّ: ما يسرّني أني مكفيّ كلّ أمر الدنيا. قيل له: ولم؟ قال: أكره عادة العجز. وكل باب من أبواب العلم: من الفقه والحساب والفرائض والنحو، فمنه ما يجلّ، ومنه ما يدقّ، ليرتقي المتعلم فيه رتبة بعد رتبة، حتى يبلغ منتهاه، ويدرك أقصاه ولتكون للعالم فضيلة النظر، وحسن الاستخراج، ولتقع المثوبة من الله على حسن العناية. ولو كان كل فن من العلوم شيئا واحدا: لم يكن عالم ولا متعلم، ولا خفيّ ولا جليّ لأن فضائل الأشياء تعرف بأضدادها، فالخير يعرف بالشر، والنفع بالضرّ، والحلو بالمر، والقليل بالكثير، والصغير بالكبير، والباطن بالظاهر. وعلى هذا المثال كلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكلام صحابته والتابعين، وأشعار الشعراء، وكلام الخطباء- ليس منه شيء إلا وقد يأتي فيه المعنى اللطيف الذي يتخيّر فيه   (1) اللّقن: السريع الفهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 العالم المتقدّم، ويقرّ بالقصور عنه النّقّاب المبرّز. قال رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم: «تجدون الناس كإبل مائة ليس فيها راحلة» «1» . وقال: «لا تستضيئوا بنار المشركين» «2» . وقال: «إنّ ممّا ينبت الرّبيع ما يقتل حبطا أو يلمّ» «3» . وقال للضحّاك بن سفيان حين بعثه إلى قومه: «إذا أتيتهم فاربض في دارهم ظبيا» «4» . وقال: «الكاسيات العاريات لا يدخلن الجنة» «5» . وكتب في كتاب صلح: «وإن بيننا وبينكم عيبة مكفوفة» «6» . وقال: «أجد نفس ربّكم من قبل اليمن» «7» .   (1) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة حديث 232، وأحمد في المسند 2/ 88. (2) أخرجه النسائي في الزينة 2/ 290، وأحمد في المسند 3/ 99، والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 27، والسيوطي في الدر المنثور 2/ 66، والمتقي الهندي في كنز العمال 43759، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 10/ 278، والبخاري في التاريخ الكبير 1/ 455، 4/ 16. (3) أخرجه أحمد في المسند 3/ 91، والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 198، وابن حجر في فتح الباري 11/ 248، والسيوطي في الدر المنثور 6/ 8. [ ..... ] (4) رواه ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث 2/ 184، وقال: أي أقم في دارهم آمنا لا تبرح، كأنك ظبي في كناسة قد أمن حيث لا يرى أنسيا. وقيل: المعنى أنه أمره أن يأتيهم كالمتوحّش، لأنه بين ظهراني الكفرة، فمتى رابه منهم ريب نفر عنهم شاردا كما ينفر الظبي. (5) روي الحديث بتمامه بلفظ: عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وريحها يوجد من مسيرة خمسمائة سنة» . أخرجه مسلم في اللباس حديث 125، والجنة حديث 52، ومالك في اللباس حديث 7، وأحمد في المسند 2/ 356، 440. (6) أخرجه أبو داود في الجهاد باب 156، وأحمد في المسند 4/ 325، ورواه ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث 3/ 327، وقال: أي بينهم صدر نقيّ من الخداع، مطويّ على الوفاء بالصلح، والمكفوفة: المشرجة المشدودة. وقيل: أراد أن بينهم موادعة ومكافّة عن الحرب، تجريان مجرى المودة التي تكون بين المتصافين الذين يثق بعضهم إلى بعض. (7) أخرجه أحمد في المسند 2/ 541، وابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث 5/ 93، بلفظ: «إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن» ، وفي رواية: «أجد نفس ربكم» ، قيل: عنى به الأنصار، لأن الله نفّس بهم الكرب عن المؤمنين، وهما يمانون، لأنهم من الأزد، وهو مستعار من نفس الهواء الذي يردّه التنفس إلى الجوف فيبرد من حرارته ويعدّلها، أو من نفس الريح الذي يتنسمه فيستروح إليه، أو من نفس الروضة، وهو طيب روائحها، فيتفرج به عنه. يقال: أنت في نفس من أمرك، واعمل وأنت في نفس من عمرك: أي في سعة وفسحة، قبل الهرم والمرض ونحوهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وقال أبو بكر الصديق: نحن حفنة من حفنات الله «1» . وقال عمر بن الخطاب للعريف الذي أتاه بالمنبوذ: عسى الغوير أبؤسا «2» . وقال عليّ بن أبي طالب: من يطل هن أبيه ينتطق به «3» . وحدّثت عن الأصمعي أنه قال: أعياني أن أعلم معنى قول عمر: أيما رجل بايع عن غير مشاورة، فلا يؤمّر واحد منهما تغرّة أن يقتلا «4» . وقال المازنيّ «5» : سألت الأخفش «6» عن حرف رواه سيبويه «7» عن الخليل «8» في   (1) رواه ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث 1/ 409، أراد: إنا على كثرتنا يوم القيامة قليل عند الله كالحفنة، وهي ملء الكف. (2) أخرجه البخاري في الشهادات باب 16، ورواه ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث 1/ 90. وأبؤس: جمع بأس. والغوير: ماء الكلب، وهو مثل، أول من تكلم به الزبّاء، ومعنى الحديث: عسى أن تكون جئت بأمر عليك فيه تهمة وشدّة. (3) رواه ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث 1/ 85، بلفظ: «من يطل أير أبيه ينتطق به» ، هذا مثل ضربه: أي من كثرت إخوته اشتد ظهره بهم وعزّ. (4) رواه ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث 1/ 191، بلفظ: «فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا» أي خوفا أن يقتلا. (5) المازني: هو أبو عثمان بكر بن محمد بن عدي بن حبيب بن عثمان المازني البصري النحوي، توفي سنة 249 هـ، من تصانيفه: «تفسير كتاب سيبويه» في النحو، «الديباج على خليل من كتاب أبي عبيدة» ، «علل النحو» ، «كتاب الألف واللام» ، «كتاب التصريف» ، «كتاب العروض» ، «كتاب القوافي» ، «كتاب ما يلحن فيه العامة» . (كشف الظنون 5/ 234) . (6) الأخفش: هو سعيد بن مسعدة المجاشعي، أبو الحسن البصري الفقيه النحوي، المعروف بالأخفش الأوسط، توفي سنة 221 هـ، من تصانيفه: «كتاب الأربعة» ، «كتاب الاشتقاق» ، «كتاب الأصوات» ، «كتاب الأوسط» ، «كتاب العروض» ، «كتاب القوافي» ، «كتاب المسائل الصغير» ، «كتاب المسائل الكبير» ، «كتاب المقاييس» ، «كتاب الوقف التام» ، «معاني الشعر» ، «معاني القرآن» . (كشف الظنون 5/ 388) . (7) سيبويه: هو أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر، الملقب بسيبويه، مولى بني الحارث بن كعب، سكن البصرة. وتوفي بمدينة ساوة سنة 177 هـ. له كتاب في النحو مشهور. (كشف الظنون 5/ 802) . (8) الخليل: هو الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي، أبو عبد الرحمن البصري العروضي النحوي اللغوي، ولد سنة 100 هـ، وتوفي سنة 170 هـ. من تصانيفه: «فائت العين في اللغة» ، «كتاب الإيقاع» ، «كتاب الشواهد» ، «كتاب العروض» ، «كتاب العين» في النحو واللغة، «كتاب النغم» ، «كتاب النقط والشكل» . (كشف الظنون 5/ 350) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 (باب من الابتداء يضمر فيه ما بني على الابتداء) وهو قوله: ما أغفله عنك شيئا، أي دع الشّكّ: ما معناه؟. قال الأخفش: أنا مذ ولدت أسأل عن هذا. وقال المازنيّ: سألت الأصمعي «1» وأبا زيد «2» ، وأبا مالك «3» عنه، فقالوا: ما ندري ما هو. والعرب تقول: (حور في محارة) «4» . و (جري المذكّيات غلاب) «5» . و (عيل ما هو عائله) «6» . و (إنّه لشرّاب بأنقع) «7» . و (عاط بغير أنواط) «8» . و (إلّا ده فلا ده) «9» . و (النّفاض يقطّر الجلب) «10» .   (1) الأصمعي: هو عبد الملك بن قريب. تقدمت ترجمته. (2) أبو زيد: هو سعيد بن أوس بن ثابت بن زيد بن قيس بن زيد الأنصاري الحنفي، أبو زيد البصري اللغوي، توفي سنة 215 هـ. له العديد من المصنفات، منها: «تخفيف الهمز الواحد» ، «غريب الأسماء» ، «قراءة أبي عمرو» ، «كتاب الأمثال» ، «كتاب تحقيق الهمز» ، «كتاب الجمع والتنبيه» ، «كتاب اللامات» ، «كتاب اللغات» ، «كتاب المصادر» ، «كتاب المنطق في اللغة» ، «لغات القرآن» . (كشف الظنون 5/ 387- 388) . [ ..... ] (3) أبو مالك: لعله أبو مالك عمرو بن كركرة الأعرابي النسب والبصري المذهب، له «كتاب خلق الإنسان» ، «كتاب الخيل» . (كشف الظنون 5/ 802) . (4) المثل في جمهرة الأمثال ص 89، ومجمع الأمثال 1/ 204، وانظر لسان العرب (حور) . (5) المثل في جمهرة الأمثال ص 78، ومجمع الأمثال 1/ 166، وانظر لسان العرب (ذكي) . (6) المثل في جمهرة الأمثال ص 138، ومجمع الأمثال 1/ 483، وانظر لسان العرب (عيل) . (7) المثل في جمهرة الأمثال ص 122، ومجمع الأمثال 1/ 374، وانظر لسان العرب (نقع) . (8) المثل في جمهرة الأمثال ص 141، ومجمع الأمثال 1/ 484، وانظر لسان العرب (عطو) . (9) المثل في جمهرة الأمثال ص 23، ومجمع الأمثال 1/ 36، وانظر لسان العرب (دهو) . (10) المثل في جمهرة الأمثال ص 126، ومجمع الأمثال 2/ 200، وانظر لسان العرب (نفض) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 و (به داء ظبي) «1» . و (أراك بشر ما أحار مشفر) «2» . و (أفلت فلان بجريعة الذّقن) «3» . و (غبار ذيل المرأة الفاجرة يورث السّلّ) «4» . و (هو كبارح الأرويّ) «5» . و (عبد وخلى في يديه) «6» . و (رمّدت الضأن فربّق ربّق، ورمّدت المعزى فرنّق رنّق) «7» . و (أفواهها مجاسّها) «8» . و (نجارها نارها) «9» . في أشباه لهذا كثيرة، لولا العلماء المنقّبون في البلاد، المنقّرون عن الخبء، الناظرون للخلوف، الطالبون أعقاب الأحاديث، ولسان الصّدق في الباقين- لطال علينا أن نطلع على خفيّاتها، أو نظهر مستورها. وإن آثرت أن تعرف معانيها التمستها في كتابنا المؤلف في (تفسير غريب الحديث) فإنك واجدها أو أكثرها هناك، إن شاء الله تعالى. وحدثني أبو حاتم «10» ، عن الأصمعي أنه قال: سألت عيسى بن عمر «11» عن قول أمية بن أبي الصّلت «12» :   (1) المثل في جمهرة الأمثال ص 57، وانظر لسان العرب (ظبي) . (2) المثل في جمهرة الأمثال ص 19، ومجمع الأمثال 2/ 302، وانظر لسان العرب (شفر) . (3) المثل في مجمع الأمثال 2/ 16، وانظر لسان العرب (جرع) . (4) المثل في لسان العرب (فجر) . (5) المثل في مجمع الأمثال 1/ 71، وانظر لسان العرب (برح) . (6) المثل في مجمع الأمثال 1/ 466، وانظر لسان العرب (خلى) . [ ..... ] (7) المثل في مجمع الأمثال 1/ 305، وانظر لسان العرب (رمد) ، (ربق) ، (رنق) . (8) المثل في لسان العرب (جسس) . (9) المثل في لسان العرب (نجر) . (10) أبو حاتم: هو أبو حاتم السجستاني، تقدمت ترجمته. (11) عيسى بن عمر: تقدمت ترجمته. (12) يروى صدر البيت بلفظ: والأرض صيّرها الإله طروقة والبيت من الكامل، وهو في ديوان أمية بن أبي الصلت ص 23، ولسان العرب (سفد) ، وتاج العروس (سفد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 والأرض نوّخها الإله طروقة ... للماء حتّى كلّ زند مسفد فقال: لا أعرفه، وقد سألت عنه فلم أجد من يعرفه. فهذا الأصمعي، وعيسى بن عمر، ومن سأله عيسى من أهل اللّغة، لم يعرفوا هذا البيت، وفسّره من دونهم فقال: معناه: أن الله جعل الأرض كالأنثى للماء، وجل الماء كالذكر للأرض، فإذا مطرت أنبتت. ثم قال: وهكذا كل شيء حتى الزّنود، فإن على الزّندين ذكر، والأسفل أنثى، والنار لهما كالولد. و (مسفد) بمعنى: منكح. تقول: سفد الذكر الأنثى، والله أسفده، كما تقول: نكح والله أنكحه. ومثل هذا قول ذي الرّمة «1» . وسقط كعين الدّيك عاورت صحبتي ... أباها وهيّأنا لموقعها وكرا مشهّرة لا تمكن الفحل أمّها ... إذا هي لم تمسك بأطرافها قسرا أراد بالسّقط: النار، وأراد بالأب: الزّند الأعلى، وبالأمّ: الزند الأسفل. وحدثني أبو حاتم عن الأصمعي أيضا، عن عيسى بن عمر، أنه قال: لا أدري ما معنى قول أميّة بن أبي الصّلت الثّقفي، ولا رأيت أحدا يحسنه «2» : عسل ما ومثله عشر ما ... عائل ما وعالت البيقورا هكذا رواه عسل ما وإنما هو: سلع ما.   (1) البيتان من الطويل، وهما في ديوان ذي الرمة ص 1426، والبيت الأول في لسان العرب (عور) ، وتهذيب اللغة 3/ 165، وتاج العروس (عور) ، (سقط) ، والبيت بلا نسبة في كتاب العين 5/ 71، والمخصص 17/ 21. (2) يروى صدر البيت بلفظ: سلع ما ومثله عشر ما والبيت من الخفيف، وهو في ديوان أمية بن أبي الصلت ص 36، والأزهية ص 81، والأشباه والنظائر 6/ 101، وشرح شواهد المغني 1/ 305، 2/ 726، ولسان العرب (علا) ، والبيت بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 322، ولسان العرب (بقر) ، (سلع) ، (عول) ، ومغني اللبيب 1/ 314. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 ومعنى البيت: أنهم كانوا يستمطرون بالسّلع والعشر، وهما ضربان من الشجر، فيعقدونهما في أذناب البقر، ويضرمون فيهما النار. وقوله: (وعالت البيقورا) يعني: سنة الجدب أثقلت البقر بما حمّلت من الشجر والنار فيها والعائل: الفقير. والدليل على أنّ الرّواية (سلع ما) قول الآخر «1» : أجاعل أنت بيقورا مسلّمة ... ذريعة لك بين الله والمطر وحدثني أيضا أبو حاتم، عن الأصمعي، أنه قال في بيت امرئ القيس «2» : نطعنهم سلكى ومخلوجة ... كرّك لأمين على نابل ذهب من يحسن هذا الكلام. وقال مثل ذلك في بيت الحارث بن حلّزة «3» : زعموا أنّ كلّ من ضرب العي ... ر موال لنا وأنّا الولاء وفسّره الأصمعيّ فقال: أراد نطعنهم طعنة سلكى، أي مستوية، ومخلوجة: عادلة ذات اليمين وذات الشمال، كما تردّ سهمين على صاحب سهام قد دفعهما إليك لتنظر   (1) يروى صدر البيت بلفظ: أجاعل أنت بيقورا مسلّعة والبيت من البسيط، وهو للورل الطائي في لسان العرب (بقر) ، (سلع) ، والتنبيه والإيضاح 2/ 87، وتاج العروس (بقر) ، (سلع) ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 2/ 99، ومجمل اللغة 1/ 282، وديوان الأدب 2/ 61. (2) يروى عجز البيت بلفظ: لفتك لأمين على نابل والبيت من السريع، وهو في ديوان امرئ القيس ص 257، ولسان العرب (خلج) ، (سلك) ، (نبل) ، (لأم) ، وتهذيب اللغة 7/ 57، 10/ 62، 15/ 361، 400، وجمهرة اللغة ص 406، ومقاييس اللغة 2/ 206، 5/ 227، وتاج العروس (خلج) ، (سلك) ، (لأم) ، وديوان الأدب 2/ 6، وكتاب الجيم 3/ 219، وكتاب العين 4/ 160، 5/ 311، والبيت بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 444، والمخصص 6/ 57، 15/ 192. (3) البيت من الخفيف، وهو في ديوان الحارث بن حلزة ص 23، ولسان العرب (عير) ، ومقاييس اللغة 4/ 192، وديوان الأدب 3/ 302، وتهذيب اللغة 3/ 167، والحيوان 5/ 175، والخصائص 3/ 166، والزاهر 2/ 144، وشرح القصائد السبع ص 449، وشرح القصائد العشر ص 379، وفصل المقال ص 30، والمعاني الكبير 2/ 855، ومعجم البلدان (عير) ، ومعجم ما استعجم 3/ 984، وتاج العروس (عير) ، والبيت بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 777، والمخصص 1/ 94، 15/ 134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 إليهما، وإذا أنت ألقيتهما إليه: لم يقعا جميعا مستويين على جهة واحدة، ولكن أحدهما يعوجّ، ويستوي الآخر. فشبّه جهتي الطعنتين، بجهتي هذين السهمين. وقال الزّيادي «1» : كان زيد بن كثوة العنبريّ يقول: الناس يغلطون في لفظ هذا البيت ومعناه، وإنما هو: كرّ كلامين على نابل. أي: نطعن طعنتين متواليتين لا نفصل بينهما، كما تقول للرامي: ارم ارم، فهذان كلامان لا فصل بينهما، شبّه بهما الطعنتين في موالاته بينهما. وكان يستحسن هذا المعنى. وأما (العير) فقد اختلفوا فيه: فكان بعضهم يجعله الوتد، سمّاه عيرا لنتوئه مثل عير نصل السّهم، وهو الناتئ وسطه. يريد: أن كل من ضرب خباء من أهل العمد، فضرب له وتدا- رمونا بذنبه. وقال بعضهم: هو كليب وائل، والعير: سيّد القوم، سمّي بذلك لأنّ العير أكبر الوحش، ولذلك قال رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، لأبي سفيان: «كلّ الصّيد في جوف العير» «2» . وقال آخر: العير جبل بالمدينة، ومنه: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرّم ما بين عير إلى ثور «3» . يرد كلّ من ضرب إلى ذلك الموضع وبلغه. وقال آخر: هو الحمار نفسه، يريد أنفسهم يضيفون إلينا ذنوب كلّ من ساق حمارا. ومعنى هذا كله: أنهم يلزموننا بذنوب الناس جميعا، ويجعلوننا أولياءهم. وقال الأصمعي: لا أدري ما معنى قول رؤبة «4» : يغمسن من غمسنه في الأهيغ ثم قال بعده: يوهم أنّ ثمّ ماء. وقال ابن الأعرابي «5» : يقال: فلان منغمس في الأهيغين، يراد: الأكل والنّكاح.   (1) الزيادي: هو أبو حسان الحسن بن عثمان بن حماد بن حسان بن عبد الرحمن بن يزيد الزيادي القاضي الحنفي المحدث، المتوفى سنة 272 هـ، من تصانيفه: «ألقاب الشعراء» ، «طبقات الشعراء» ، «كتاب الآباء والأمهات» ، «كتاب معاني عروة بن الزبير» . قال ياقوت في طبقات الأدباء: مات الزيادي سنة 242 هـ. (كشف الظنون 5/ 268) . (2) روي الحديث بلفظ: «كل الصيد في جوف الفرا» . أخرجه الفتي في تذكرة الموضوعات 168، والعجلوني في كشف الخفا 2/ 177. (3) رواه ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث 3/ 328. [ ..... ] (4) الرجز في ديوان رؤبة ص 97، ولسان العرب (هيغ) ، وتهذيب اللغة 6/ 340، والرجز بلا نسبة في مقاييس اللغة 6/ 25. (5) ابن الأعرابي: هو محمد بن زياد الكوفي البغدادي المعروف بابن الأعرابي، أبو عبد الله اللغوي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 ونحو منه: ذهب منه الأطيبان، يراد: الأكل والنكاح. وقال أيضا: لا أدري ما معنى قول رؤبة في صفة الثور «1» : كأنه حامل جنب أخذعا وقال ابن الأعرابي: أراد: كأنه ضرب بالسيف ضربة فتعلّقت جنبه وهو حاملها، وذلك لميله من بغيه على أحد جانبيه. والخذع: الميل. ومثل هذا كثير، وفيما ذكرنا منه ما أقنع ودلّ على ما أردناه، إن شاء الله تعالى. ولسنا ممن يزعم: أنّ المتشابه في القرآن لا يعلمه الراسخون في العلم. وهذا غلط من متأوّليه على اللّغة والمعنى. ولم ينزل الله شيئا من القرآن إلا لينفع به عباده، ويدلّ به على معنى أراده. فلو كان المتشابه لا يعلمه غيره للزمنا للطّاعن مقال، وتعلّق علينا بعلّة. وهل يجوز لأحد أن يقول: إن رسول، الله صلّى الله عليه وسلّم، لم يكن يعرف المتشابه؟!. وإذا جاز أن يعرفه مع قول الله تعالى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران: 7] جاز أن يعرفه الرّبّانيون من صحابته، فقد علّم عليّا التفسير. ودعا لابن عباس فقال: «اللهم علّمه التأويل، وفقّهه في الدين» «2» . وروى عبد الرّزّاق «3» ، عن إسرائيل» ، عن سماك بن حرب «5» ، عن عكرمة،   المتوفى سنة 231، له من المصنفات: «تاريخ القبائل» ، «كتاب الألفاظ» ، «كتاب الأنواء» ، «كتاب تفسير الأمثال» ، «كتاب الخيل» ، «كتاب الذياب» ، «كتاب صفة الزرع» ، «كتاب كرامات الأولياء» ، «كتاب معاني الشعر» ، «كتاب النبات» ، «كتاب النوادر» وغيرها. (كشف الظنون 6/ 12) . (1) يليه: من بغيه والرفق حتى أكنعا والرجز في ديوان رؤبة ص 91، وتاج العروس (خذع) ، وتهذيب اللغة 1/ 161، والرجز بلا نسبة في لسان العرب (خدع) ، وكتاب العين 1/ 204، وهو للعجاج في لسان العرب (كنع) ، وتاج العروس (كنع) ، وتهذيب اللغة 1/ 319، وليس في ديوانه. (2) أخرجه الحاكم في المستدرك 3/ 536، والطبراني في المعجم الكبير 10/ 293، وابن كثير في البداية والنهاية 8/ 296. (3) عبد الرزاق: تقدمت ترجمته. (4) إسرائيل: هو إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، أبو يوسف الكوفي، محدث ثقة، ولد سنة 100 هـ، وتوفي سنة 162 هـ، (تهذيب التهذيب 1/ 269) . (5) سماك بن حرب: من كبار تابعي أهل الكوفة. توفي سنة 123 هـ. (تهذيب التهذيب 4/ 233- 234) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 عن ابن عباس أنه قال: كلّ القرآن أعلم إلا أربعا: غسلين، وحنانا، والأوّاه، والرّقيم. وكان هذا من قول ابن عباس في وقت، ثمّ علم ذلك بعد. حدثني محمد بن عبد العزيز، عن موسى بن مسعود، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: تعلمونه وتقولون: آمنا به. ولو لم يكن للراسخين في العلم حظ في المتشابه إلا أن يقولوا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا [آل عمران: 7]- لم يكن للراسخين فضل على المتعلمين، بل على جهلة المسلمين، لأنهم جميعا يقولون: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا. وبعد: فإنّا لم نر المفسرين توقّفوا عن شيء من القرآن فقالوا: هذا متشابه لا يعلمه إلا الله، بل أمرّوه كلّه على التفسير، حتى فسروا (الحروف المقطّعة) في أوائل السّور، مثل: الر، وحم، وطه، وأشباه ذلك. وسترى ذلك في الحروف المشكلة، إن شاء الله. فإن قال قائل: كيف يجوز في اللغة أن يعلمه الراسخون في العلم، والله تعالى يقول: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، [آل عمران: 7] وأنت إذا أشركت الراسخين في العلم انقطعوا عن (يقولون) ، وليست هاهنا واو نسق توجب للراسخين فعلين. وهذا مذهب كثير من النحويين في هذه الآية، ومن جهته غلط قوم من المتأوّلين؟. قلنا له: إن (يقولون) هاهنا في معنى الحال، كأنه قال: الرّاسخون في العلم قائلين: آمنا به. ومثله في الكلام: لا يأتيك إلا عبد الله، وزيد يقول: أنا مسرور بزيارتك. يريد: لا يأتيك إلا عبد الله وزيد قائلا: أنا مسرور بزيارتك. ومثله لابن مفرّغ الحميريّ يرثي رجلا في قصيدة أولها «1» : أصرمت حبلك من أمامه ... من بعد أيّام برامه والرّيح تبكي شجوها ... والبرق يلمع في غمامه أراد: والبرق لا معا في غمامة تبكي شجوه أيضا، ولو لم يكن البرق يشرك الرّيح في البكاء، لم يكن لذكره البرق ولمعه معنى.   (1) البيتان من مجزوء الكامل، وهما في ديوان ابن مفرغ ص 208، والبيت الثاني في لسان العرب (درك) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وأصل (التّشابه) : أن يشبه اللفظ اللفظ في الظاهر، والمعنيان مختلفان. قال الله جل وعز في وصف ثمر الجنة: وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً [البقرة: 25] ، أي متّفق المناظر، مختلف الطّعوم. وقال: تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة: 118] أي يشبه بعضها بعضا في الكفر والقسوة. ومنه يقال: اشتبه عليّ الأمر، إذا أشبه غيره فلم تكد تفرّق بينهما، وشبّهت عليّ: إذا لبّست الحقّ بالباطل، ومنه قيل لأصحاب المخاريق أصحاب الشّبه، لأنهم يشبّهون الباطل بالحق. ثم قد يقال لكلّ ما غمض ودقّ متشابه، وإن لم تقع الحيرة فيه من جهة الشّبه بغيره، ألا ترى أنه قد قيل للحروف المقطّعة في أوائل السّور: متشابه، وليس الشك فيها، والوقوف عندها لمشاكلتها غيرها، والتباسها بها. ومثل المتشابه (المشكل) . وسمي مشكلا: لأنه أشكل، أي دخل في شكل غيره فأشبهه وشاكله. ثم قد يقال لما غمض- وإن لم يكن غموضه من هذه الجهة-: مشكل. وقد بيّنت ما غمض من معناه لا لتباسه بغيره، واستتار المعاني المختلفة تحت لفظه، وتفسير (المشكل) الذي ادّعي على القرآن فساد النّظم فيه. وقدّمت قبل ذلك (أبواب المجاز) : إذ كان أكثر غلط المتأوّلين من جهته. وأرجو أن يكون في ذلك ما شفي مرض القلوب، وهدى من الحيرة، إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 باب القول في المجاز وأما (المجاز) فمن جهته غلط كثير من الناس في التأويل، وتشعّبت بهم الطرق، واختلفت النّحل: فالنصارى تذهب في قول المسيح عليه السّلام في الإنجيل: (أدعوا أبي، وأذهب إلى أبي) وأشباه هذا، إلى أبوّة الولادة. ولو كان المسيح قال هذا في نفسه خاصة دون غيره، ما جاز لهم أن يتأوّلوه هذا التأويل في الله- تبارك وتعالى عما يقولون علوا كبيرا- مع سعة المجاز، فكيف وهو يقوله في كثير من المواضع لغيره؟ كقوله حين فتح فاه بالوحي: إذا تصدّقت فلا تعلم شمالك بما فعلت يمينك، فإنّ أباك الذي يرى الخفيّات يجزيك به علانية، وإذا صلّيتم فقولوا: يا أبانا الذي في السماء ليتقدّس اسمك، وإذا صمت فاغسل وجهك وادهن رأسك لئلا يعلم بذلك غير أبيك. وقد قرؤوا في (الزّبور) أن الله تبارك وتعالى قال لداود عليه السّلام: سيولد لك غلام يسمّى لي ابنا وأسمّى له أبا. وفي (التّوراة) أنه قال ليعقوب عليه السلام: أنت بكري. وتأويل هذا أنه في رحمته وبرّه وعطفه على عباده الصالحين، كالأب الرحيم لولده. وكذلك قال المسيح للماء: (هذا أبي) ، وللخبز: (هذا أمي) ، لأنّ قوام الأبدان بهما، وبقاء الروح عليهما، فهما كالأبوين اللّذين منهما النّشأة، وبحضانتهما النّماء. وكانت العرب تسمّي الأرض أمّا، لأنها مبتدأ الخلق، وإليها مرجعهم، ومنها أقواتهم، وفيها كفايتهم. وقال أميّة بن أبي الصّلت «1» :   (1) البيت من الكامل، وهو في ديوان أمية بن أبي الصلت ص 23، والمخصص 13/ 180، والحيوان 5/ 437، وتفسير القرطبي 1/ 112، والبيت بلا نسبة في المذكر والمؤنّث للأنباري ص 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 والأرض معقلنا وكانت أمّنا ... فيها مقابرنا وفيها نولد وقال يذكرها «1» : منها خلقنا وكانت أمّنا خلقت ... ونحن أبناؤها لو أننا شكر هي القرار فما نبغي بها بدلا ... ما أرحم الأرض إلا أنّنا كفر وقال الله تعالى في الكافر: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) [القارعة: 9] لمّا كانت الأمّ كافلة الولد وغاذيته، ومأواه ومربّيته، وكانت النار للكافر كذلك- جعلها أمّه. وقال في أزواج النبي، صلّى الله عليه وسلم: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب: 6] ، أي: كأمهاتهم في الحرمات. وفي (التوراة) (إنّ الله برّك اليوم السابع وطهّره، من أجل أنه استراح فيه من خليقته التي خلق) . وأصل الاستراحة: أن تكون في معاناة شيء ينصبك ويتعبك، فتستريح. ثم ينتقل ذلك فتصير الاستراحة بمعنى: الفراغ. تقول في الكلام: استرحنا من حاجتك وأمرنا بها. تريد فرغنا، والفراغ، أيضا يكون من الناس بعد شغل. ثم قد ينتقل ذلك فيصير في معنى القصد للشيء، تقول: لئن فرغت لك، أي قصدت قصدك. وقال الله تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) [الرحمن: 31] . والله تبارك وتعالى لا يشغله شأن عن شأن. ومجازه: سنقصد لكم بعد طول التّرك والإمهال. وقال قتادة: قد دنا من الله فراغ لخلقه. يريد: أن الساعة قد أزفت وجاء أشراطها. وتأوّل قوم في قوله تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) [الانفطار: 8] معنى (التناسخ) . ولم يرد الله في هذا الخطاب إنسانا بعينه، وإنما خاطب به جميع الناس كما قال: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً [الانشقاق: 6] كما يقول القائل: يا أيها الرجل، وكلّكم ذلك الرجل. فأراد أنه صوّرهم وعدّلهم، في أيّ صورة شاء ركّبهم: من حسن وقبح، وبياض   (1) البيتان من البسيط، وهما في ديوان أمية بن أبي الصلت ص 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وسواد، وأدمة وحمرة. ونحوه قوله: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ [الروم: 22] . وذهب قوم في قول الله وكلامه: إلى أنه ليس قولا ولا كلاما على الحقيقة، وإنما هو إيجاد للمعاني. وصرفوه في كثير من القرآن إلى المجاز، كقول القائل: قال الحائط فمال، وقل برأسك إليّ، يريد بذلك الميل خاصة، والقول فضل. وقال بعضهم في قوله للملائكة: اسْجُدُوا لِآدَمَ [البقرة: 34] : هو إلهام منه للملائكة، كقوله: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل: 68] أي ألهمها. وكقوله: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ، ما يَشاءُ [الشورى: 51] وذهبوا في الوحي هاهنا: إلى الإلهام. وقالوا في قوله للنساء والأرض: ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] : لم يقل الله ولم يقولا، وكيف يخاطب معدوما؟ وإنما هذا عبارة: لكوّناهما فكانتا. قال الشاعر حكاية عن ناقته «1» : تقول إذا درأت لها وضيني: ... أهذا دينه أبدا وديني أكلّ الدّهر حلّ وارتحال؟ ... أما يبقي عليّ ولا يقيني؟ وهي لم تقل شيئا من هذا، ولكنه رآها في حال من الجهد والكلال، فقضى عليها بأنها لو كانت ممن تقول لقالت مثل الذي ذكر. وكقول الآخر «2» : شكا إليّ جملي طول السّرى   (1) البيتان من الوافر، وهما للمثقب العبدي في ديوانه ص 195، 198، والبيت الأول في لسان العرب (درأ) ، (دين) ، (وضن) ، وتهذيب اللغة 14/ 159، وتاج العروس (درأ) ، (دين) ، (وضن) ، وشرح اختيارات المفضل ص 1263، والبيت بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 688، 913، 1266، ومجمل اللغة 2/ 266، ومقاييس اللغة 2/ 273، والمخصص 17/ 155، وديوان الأدب 3/ 327. ويروى عجز البيت الثاني بلفظ: أما تبقي عليّ ولا تقيني وهو في لسان العرب (حلل) ، وتهذيب اللغة 3/ 436، وشرح اختيارات المفضل ص 1263. (2) يروى الرجز بتمامه: يشكو إليّ جملي طول السّرى ... صبر جميل فكلانا مبتلى والرجز للمبلد بن حرملة في شرح أبيات سيبويه 1/ 317، وبلا نسبة في أمالي المرتضى 1/ 107، وشرح الأشموني 1/ 106، والكتاب 1/ 321، ولسان العرب (شكا) ، وتهذيب اللغة 10/ 299، وتاج العروس (شكا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 والجمل لم يشك، ولكنه خبّر عن كثرة أسفاره، وإتعابه جمله، وقضى على الجمل بأنه لو كان متكلما لا شتكى ما به. وكقول عنترة في فرسه «1» : فازورّ من وقع القنا بلبانه ... وشكا إليّ بعبرة وتحمحم. لما كان الذي أصابه يشتكي مثله ويستعبر منه، جعله مشتكيا مستعبرا، وليس هناك شكوى ولا عبرة. قالوا: ونحو هذا قوله تعالى: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) [ق: 30] وليس يومئذ قول منه لجهنم، ولا قول من جهنم، وإنما هي عبارة عن سعتها. وفي قوله: تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) [المعارج: 17] يريد: أن مصير من أدبر وتولى إليها، فكأنها الداعية لهم، كما قال ذو الرّمة «2» : دعت ميّة الأعداد واستبدلت بها ... خناطيل آجال من العين خذّل والأعداد: المياه، لما انتقلت ميّة إليها ورغبت عن مائها، كانت كأنها دعتها. وكقول الآخر «3» : ولقد هبطت الواديين وواديا ... يدعو الأنيس به الغضيض الأبكم والغضيض الأبكم: الذّباب، يريد: أنه يطنّ فيدل بطنينه على النبات والماء، فكأنه دعاء منه. وقال أبو النجم يذكر نبتا «4» :   (1) البيت من الكامل، وهو في ديوان عنترة ص 126 (طبعة دار الكتب العلمية) . [ ..... ] (2) البيت من الطويل، وهو في ديوان ذي الرمة ص 1455، ولسان العرب (عدد) ، (خنطل) ، وتهذيب اللغة 1/ 88، ومقاييس اللغة 2/ 252، وتاج العروس (عدد) ، (خنطل) ، وكتاب العين 1/ 79، والبيت بلا نسبة في المخصص 8/ 42. (3) البيت من الكامل، وهو بلا نسبة في لسان العرب (عدد) ، وتاج العروس (عدد) ، وكتاب الجيم 3/ 17. (4) الرجز لأبي النجم في لسان العرب (عشب) ، (أسد) ، وتهذيب اللغة 1/ 441، 13/ 43، وتاج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 مستأسدا ذبّانه في غيطل ... يقلن للرّائد: أعشبت انزل ولم يقل الذباب شيئا من هذا، ولكنه دل على نفسه بطنينه، ودل مكانه على المرعى، لأنه لا يجتمع إلا في عشب، فكأنه قال للرائد: هذا عشب فأنزل. وقال آخر يصف ذئبا «1» : يستخبر الرّيح إذا لم يسمع ... بمثل مقراع الصّفا الموقّع يريد: أنه يشتمم ثم يتّبع الرائحة بخطم كأنه الفأس التي يكسر بها الصخر، فجعل تشممه استخبارا. قال أبو محمد: وقد تبين لمن قد عرف اللغة، أن القول يقع فيه المجاز، فيقال: قال الحائط فمال، وقل برأسك إليّ، أي أمله، وقالت الناقة، وقال البعير. ولا يقال في مثل هذا المعنى: تكلم، ولا يعقل الكلام إلا بالنطق بعينه، خلا موضع واحد وهو أن تتبين في شيء من الموات عبرة وموعظة فتقول خبّر وتكلم وذكّر، لأنه دلّك معنى فيه، فكأنه كلمك، وقال الشاعر «2» : وعظتك أجداث صمت ... ونعتك ألسنة خفت وتكلمت عن أوجه ... تبلى وعن صور سبت وأرتك قبرك في القبو ... ر وأنت حيّ لم تمت وقال الكميت يمدح رجلا «3» : أخبرت عن فعاله الأرض واستن ... طق منها اليباب والمعمورا   العروس (عشب) ، (أسد) ، (مرع) ، وكتاب العين 1/ 262، 7/ 286، ومقاييس اللغة 4/ 323، وأساس البلاغة (عشب) ، (أسد) ، والطرائق الأدبية ص 58، ولرؤبة في كتاب العين 1/ 128، وليس في ديوانه. (1) يروى الشطر الأول من الرجز: يستمخر الريح إذا لم يسمع والرجز بلا نسبة في لسان العرب (مخر) ، (قرع) ، وتاج العروس (مخر) ، (قرع) ، وديوان الأدب 1/ 311. (2) الأبيات من المتقارب، وهي لأبي العتاهية في ديوانه ص 52، وعيون الأخبار 2/ 306. (3) البيت من الخفيف، وهو في ديوان الكميت 1/ 203، وأساس البلاغة (يبب) ، والبيت بلا نسبة في مقاييس اللغة 6/ 151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 أراد أنه حفر فيها الأنهار، وغرس الأشجار، وأثّر الآثار، فلما تبيّنت للناظر صارت كأنها مخبرة. وقال عوف بن الخرع يذكر الدار «1» : وقفت بها ما تبين الكلام ... لسائلها القول إلا سرارا يقول: ليست تبين الكلام لمخاطبها، إلا أنّ ظاهر ما يرى دليل على الحال، فكأنه سرار من القول، ولهذا قالت الحكماء: كل صامت ناطق. يريدون أنّ أثر الصنعة فيه يدل على محدثه ومدبّره. ومن هذا قول الله عز وجل: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) [الروم: 35] أي أنزلنا عليهم برهانا يستدلون به، فهو يدلهم. ونبيّن له أيضا أن أفعال المجاز لا تخرج منها المصادر ولا توكّد بالتكرار، فتقول: أراد الحائط أن يسقط، ولا تقول: أراد الحائط أن يسقط إرادة شديدة، وقالت الشجرة فمالت، ولا تقول: قالت الشجرة فمالت قولا شديدا. والله تعالى يقول: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء: 164] فوكّد بالمصدر معنى الكلام، ونفى عنه المجاز. وقال: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) [النحل: 40] فوكّد القول بالتكرار، ووكّد المعنى بإنما. وأما قول من قال منهم: إن قوله للملائكة: اسْجُدُوا لِآدَمَ [البقرة: 34، والأعراف: 11، والإسراء: 61، والكهف: 50، وطه: 116] إلهام، وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الشورى: 51] أي إلهاما- فما ننكر أنّ القول قد يسمى وحيا، والإيماء وحيا، والرمز بالشفتين والحاجبين وحيا، والإلهام وحيا. وكل شيء دللت به فقد أوحيت به، غير أنّ إلهام النّحل تسخيرها لاتخاذ البيوت، وسلوك السّبل والأكل من كل الثمرات. وقال العجّاج وذكر الأرض «2» : وحي لها القرار فاستقرّت أي: سخّرها لأن تستقر، فاستقرت:   (1) البيت من المتقارب، وهو لعوف بن عطية بن الخرع في المفضليات ص 413. (2) يليه: وشدّها بالراسيات الثّبّت والرجز في ديوان العجاج 2/ 408، 409، ولسان العرب (وحي) ، وتهذيب اللغة 5/ 296، 297، وجمهرة اللغة ص 576، وكتاب العين 3/ 320، وتاج العروس (وحي) ، والرجز بلا نسبة في مقاييس اللغة 6/ 93، ومجمل اللغة 4/ 512. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وأما قوله: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ [الشورى: 51] فالوحي الأول: ما أراه الله تعالى الأنبياء في منامهم. والكلام من وراء الحجاب: تكليمه موسى. والكلام بالرسالة: إرساله الروح الأمين بالرّوح من أمره إلى من يشاء من عباده. ولا يقال لمن ألهمه الله: كلّمه الله، لما أعلمتك من الفرق بين (الكلام) (والقول) . ولا يجوز أن يكون قوله للملائكة وإبليس، وطول مراجعته إياه في السّجود، والخروج من الجنة، والنّظرة إلى يوم البعث- إلهاما. هذا ما لا يعقل. وإن كان ذلك تسخيرا فكيف يسخّر لشيء يمتنع منه؟. وأما تأويلهم في قوله جل وعزّ للسّماء والأرض: ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] : إنه عبارة عن تكوينه لهما. وقوله لجهنم: هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق: 30] إنه إخبار عن سعتها- فما يحوج إلى التّعسّف والتماس المخارج بالحيل الضعيفة؟ وما ينفع من وجود ذلك في الآية والآيتين والمعنى والمعنيين- وسائر ما جاء في كتاب الله عزّ وجلّ من هذا الجنس، وفي حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- ممتنع عن مثل هذه التأويلات؟. وما في نطق جهنم ونطق السماء والأرض من العجب؟ والله تبارك وتعالى ينطق الجلود، والأيدي، والأرجل، ويسخّر الجبال والطير، بالتّسبيح. فقال: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) [ص: 19] وقال: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سبأ: 10] أي سبّحن معه. وقال: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً [الإسراء: 44] . وقال في جهنم: تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ [الملك: 8] أي تنقطع غيظا عليهم كما تقول: فلان يكاد ينقدّ غيظا عليك، أي ينشق. وقال: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) [الفرقان: 12] . وروي في الحديث أنها تقول: (قط قط) «1» أي حسبي.   (1) لفظ الحديث بتمامه: عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع ربّ العزّة فيها قدمه، فتقول: قط قط، وعزتك وجلالك، ويزوي بعضها إلى بعض» . أخرجه البخاري في الأيمان 8/ 168، ومسلم في الجنة حديث 37، 38، والترمذي حديث 3272، وأحمد في المسند 3/ 134، 141، 230، 234، والمتقي الهندي في كنز العمال 1171، 1173، 39479، والتبريزي في مشكاة المصابيح 5695، والسيوطي في الدر المنثور 6/ 107، وابن حجر في فتح الباري 8/ 595، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 5/ 127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وهذا سليمان عليه السلام يفهم منطق الطّير وقول النّمل، والنمل من الحكل، والحكل ما لا يسمع له صوت. قال رؤية «1» : لو كنت قد أوتيت علم الحكل ... علم سليمان كلام النّمل وقال العمانيّ يمدح رجلا «2» : ويفهم قول الحكل لو أنّ ذرّة ... تساود أخرى لم يفته سوادها والسّواد: السّرار، جعل قولها سرارا، لأنها لا تصوّت. وهذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، تخبره الذّراع المسمومة «3» ويخبره البعير أنّ أهله يجيعونه ويدئبونه «4» .   (1) الرجز في ديوان رؤبة بن العجاج ص 131، ولسان العرب (حكل) ، (فطحل) ، وتهذيب اللغة 4/ 101، وجمهرة اللغة ص 562، ومجمل اللغة 2/ 94، وتاج العروس (حكل) ، (فطحل) ، والرجز بلا نسبة في المخصص 2/ 122، وديوان الأدب 1/ 158، ومقاييس اللغة 2/ 91. (2) البيت من الطويل، وهو للعثماني في أساس البلاغة (حكل) ، وللعماني في البيان والتبيين 1/ 40، والحيوان 4/ 23، والمعاني الكبير 2/ 636، وبلا نسبة في لسان العرب (حكل) . (3) لفظ الحديث بتمامه: عن جابر بن عبد الله: أن يهودية من أهل خيبر سمّت شاة مصلية ثم أهدتها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذراع فأكل منها، وأكل رهط من أصحابه معه، ثم قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ارفعوا أيديكم» وأرسل إلى اليهودية فدعا بها، فقال لها: «أسممت هذه الشاة؟» قالت: نعم، قال: «فما أردت إلى ذلك؟» قالت: قلت إن كان نبيا فلن يضره، وإن لم يكن نبيا استرحنا منه، فعفا عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يعاقبها. وقد روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة. أنظر: البخاري في الهبة باب 28، ومسلم في السلام حديث 42، وأبو داود في الديات باب 6، وابن ماجة في الطب باب 45، والدارمي في المقدمة باب 11. (4) لفظ الحديث بتمامه: عن عبد الله بن جعفر قال: أردفني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلفه ذات يوم، فأسرّ إليّ حديثا لا أحدّث به أحدا من الناس، وكان أحب ما استتر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحاجته هدفا أو حائش نخل. قال: فدخل حائطا لرجل من الأنصار، فإذا جمل، فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حنّ وذرفت عيناه، فأتاه النبي صلّى الله عليه وسلّم فمسح ذفراه فسكت، فقال: «من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟» فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله. فقال: «أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟ فإنه شكى إليّ أنك تجيعه وتدئبه» . أخرجه أبو داود في الجهاد باب 44، وأحمد في المسند 1/ 204، 205. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 في أشباه لهذا كثيرة. وأنكروا مع هذا (السّحر) إلا من جهة الحيلة. وقالوا: منه رقاة التّميمة يفرّق بها بين المرء وزوجه، والكذب تصرف به القلوب عن المحبة إلى البغضة، وعن البغضة إلى المحبة. وقالوا: منه السّموم يسحر بها فتقطع عن النساء، وتحتّ الشّعر وتغيّر الخلق. والله تعالى يقول: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5) [الفلق: 4، 5] فأعلمنا أنهن ينفثن- والنّفث كالتّفل- كما ينفث الرّاقي في عقد يعقدها. قال الشاعر «1» : يعقّد سحر البابليين طرفها ... مرارا ويسقينا سلافا من الخمر فأراد أن طرفها يذهب بعقولنا كما يذهب السّحر والراح بالعقل. وقد سحر رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، وجعل سحره في بئر ذي أروان، واستخرجه (عليّ) منها، وجعل يحلّه عقدة عقدة، فكلما حل عقدة وجد النبي، صلّى الله عليه وسلّم راحة وخفّا، فلما فرغ من حلّه قام النبي، صلّى الله عليه وسلّم، كأنما أنشط من عقال «2» . وقال الله تعالى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [البقرة: 102] . أفتراهما كانا يعلّمان التّمائم، والكذب وسقي السّموم؟!. وبمثل هذا النظر أنكروا عذاب القبر، ومساءلة الملكين، وحياة الشهداء عند ربهم يرزقون، وأنكروا إصابة العين ونفع الرّقي والعوذ، وعزيف الجنان، وتخبّط الشيطان، وتعوّل الغيلان. فلما رأوا تواطؤ العرب على ذلك، وإكثار الشعراء فيه، كقول: ذي الرّمة «3» :   (1) البيت من الطويل، وهو لذي الرمة في ملحق ديوانه ص 1877، وأساس البلاغة (عقد) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 4/ 89. (2) انظر الحديث عند البخاري في الطب باب 39، وأبو داود في الطب باب 19. (3) البيت من الطويل، وهو في ديوان ذي الرمة ص 296، ولسان العرب (ادلهم) ، والحيوان 6/ 248. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 إذا حثّهنّ الرّكب في مدلهمّة ... أحاديثها مثل اصطخاب الضّرائر وكقول زهير «1» : تسمع للجنّ عازفين بها ... تضبح عن رهبة ثعالبها في أشباه لهذا كثيرة- طلبوا الحيلة فقالوا: علّة ما يسمعون من هذا ويرون- انفراد القوم وتوحّشهم في الفلوات والقفار، ومن انفرد فكّر وتوهّم واستوحش وتخيّل، فرأى ما لا يرى، وسمع ما لا يسمع، كما قال حميد بن ثور «2» : مفزّعة تستحيل الشّخوص ... من الخوف تسمع ما لا ترى وقالوا: ومن أحناش الأرض، وأحناش الطير في المهامة والرمال- ما لا يظهر ولا يصوّت إلا بالليل كالصّدى والضّوع والبوم واليراع، فإذا سمع أحدهم حسيس هامة، أو زقاء بوم، أو رأى لمع يراعة من بعد- وجب قلبه، وقفّ شعره، وذهبت به الظّنون. وقالوا: في النهار ساعات تتغيّر فيها مناظر الأشباح، وتتضاعف أعدادها، وفربما رئي الصغير كبيرا، والكبير صغيرا، والواحد اثنين، وقد يسمع لأصوات الفلا والحرار، مثل الدّويّ، ولذلك قال ذو الرّمة «3» : إذا قال حادينا لتشبيه نبأة ... صه، لم يكن إلا دويّ المسامع وبهذا سمّيت الفلاة: دوّيّة، كأن الدّوّ حكاية ما يسمعون، ثم نسب المكان إليه، قال الأعشى «4» : فوق ديمومة تخيّل بالسّفر ... قفارا إلا من الآجال يريد بقوله: تخيّل بالسفر، أنهم يرونها مرّة على هيئة، ومرة على هيئة، قال كعب ابن زهير «5» : وصرماء مذكار كأنّ دويّها ... بعيد جنان اللّيل مما يخيّل حديث أناسيّ فلمّا سمعته ... إذا ليس فيه ما أبين فأعقل   (1) البيت من المنسرح، وهو في ديوان زهير بن أبي سلمى ص 265. (2) البيت من المتقارب، وهو بلا نسبة في المعاني الكبير 2/ 702. (3) البيت من الطويل، وهو في ديوان ذي الرمة ص 791، وتهذيب اللغة 5/ 349، وجمهرة اللغة ص 145، والبيت بلا نسبة في لسان العرب (صهصه) ، وتاج العروس (صهصه) . (4) البيت من الخفيف، وهو في ديوان الأعشى ص 7، وبلا نسبة في المخصص 8/ 41. (5) البيتان من الطويل، وهما في ديوان كعب بن زهير ص 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 وقال الأخطل يذكر فلاة رأى الصغير فيها كبيرا «1» : ترى الثّعلب الحوليّ فيها كأنّه ... إذا ما علا نشزا حصان مجلّل وقال النابغة «2» : وحلّت بيوتي في يفاع ممنّع ... تخال به راعي الحمولة طائرا هذا رأى الكبير صغيرا لأنه في شرف. وقال ابن أحمر أيضا في تضاعف الأعداد: وازدادت الأشباح أخيلة ... وتعلّل الحرباء بالنّقر وأخشى أن يكون معتقدا هذا والقائل به، يرفّق عن صبوح «3» ، ويسرّ حسوا في ارتغاء «4» . وما على من آمن بالبعث من الممات: أن يؤمن بعذاب البرزخ، وقد خبّر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقوله قاض على الكتاب، وبمسائلة الله يوم القيامة: أن يؤمن بمسائلة الملكين في القبر؟!. وما على من آمن بإنّيّة الشيطان: أن يؤمن بتخبّطه؟ ومن صدّق بخلق الجن والغيلان: أن يصدّق بعزيفها وتغوّلها؟!. وما أخرجه إلى تجهيل العرب قاطبة وتكذيبها: وشاهدها على صدق ما تقول كتاب الله تعالى، ورسوله، وكتب الله المتقدمة، وأنبياؤه، وأمم العجم كلها؟!. قد جعل الله الجن أحد الثّقلين، وخاطبهم في الكتاب كما خاطبنا، وسمّاهم رجالا كما سمّانا فقال: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ [الجن: 6] . وقال في الحور العين: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) [الرحمن: 74] ، فدل على أن الجن تطمث الإنس. وأخبرنا عن طائفة منهم سمعوا القرآن فولّوا إلى قومهم منذرين، وقال:   (1) البيت من الطويل، وهو في ديوان الأخطل ص 7. (2) البيت من الطويل، وهو في ديوان النابغة الذبياني ص 69، وتخليص الشواهد ص 437، وشرح أبيات سيبويه 1/ 30، وشرح المفصل 2/ 54، والكتاب 1/ 368، والبيت بلا نسبة في شرح قطر الندى ص 172، ولسان العرب (حمل) . (3) يرقق عن صبوح: مثل يضرب لمن يجمجم ولا يصرح. انظر لسان العرب (رقق) . (4) يسر حسوا في ارتغاء: مثل يضرب لمن يظهر أمرا وهو يريد غيره. انظر لسان العرب (رغو) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة: 275] ، والمسّ: الجنون، سمّي مسّا، لأنه عن إلمام الشيطان ومسّه، يكون. هذا مع أخبار كثيرة صحاح تؤثر عن الرّسول، صلّى الله عليه وسلّم، وعن السلف في الرّئيّ والنّجيّ. وما ننكر مع هذا الفلوات قد يعرض فيها ما يذكرون، ولكنّ ذلك لا يدفع به حقائق ما يسمعون ويبصرون. ولم تكن العرب طرّا- مع أفهامها وألبابها- لتتواطأ على تخيّل وظنون، ولا كلّها أسمعه الخوف، وأراه الجبن، فهذا أبو البلاد الطّهويّ، وتأبّط شرّا-: وهما من مردة العرب، وشياطين الإنس. - يصفان الغول، ويحلّيانها ويساورانها. وهذا أبو أيوب الأنصاري يأسرها. وهذا عمر رضي الله عنه، يصارع الجنّيّ. وما جاء في هذا أكثر من أن تحيط به. فمن آمن بمحمد، صلّى الله عليه وسلّم، وبأنّ ما جاء به الحقّ، آمن بجميع هذا، وشرح صدره به. ومن أنكره-: لأنه لا يؤمن إلّا بما أوجبه النظر والقياس على ما شاهد ورأى في الموات والحيوان- فماذا بقي على المسلمين؟ وأيّ شيء ترك للملحدين؟. وذهب (أهل القدر) في قول الله عزّ وجل: يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ [النحل: 93، وفاطر: 8] إلى أنه على جهة التسمية والحكم عليهم بالضلالة، ولهم بالهداية. وقال فريق منهم: يضلّهم: ينسبهم إلى الضلالة، ويهديهم: يبيّن لهم ويرشدهم. فخالفوا بين الحكمين، ونحن لا نعرف في اللغة أفعلت الرجل: نسبته. وإنما يقال إذا أردت هذا المعنى: فعّلت: تقول: شجّعت الرجل وجنبّنته وسرّقته وخطّأته، وكفّرته وضلّلته وفسّقته وفجّرته ولحنته. وقرىء: إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ [يوسف: 81] ، وأي نسب إلى السّرق. ولا يقال في شيء من هذا كله: أفعلته، وأنت تريد نسبته إلى ذلك. وقد احتج رجل من النحويين كان يذهب إلى (القدر) - لقول العرب: كذّبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الرجل وأكذبته- بقول الله تعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ [الأنعام: 33] ولا يكذبونك، وذكر أنّ أكذبت وكذّبت جميعا، بمعنى: نسبت إلى الكذب. وليس ذاك كما تأوّل، وإنما معنى أكذبت الرجل: ألفيته كاذبا. وقول الله تبارك وتعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ بالتخفيف أي: لا يجدونك كاذبا فيما جئت به، كما تقول: أبخلت الرجل وأجبنته وأحمقته، أي وجدته جبانا بخيلا أحمق. وقال عمرو بن معد يكرب لبني سليم: قاتلناكم فما أجبنّاكم، وسألناكم فما أبخلناكم، وهجوناكم فما أفحمناكم أي: لم نجدكم جبناء، ولا بخلاء، ولا مفحمين. وقال الكسائي «1» : العرب تقول: أكذبت الرجل: إذا أخبرت أنه رواية للكذب: وكذّبته: إذا أخبرت أنه كاذب. ففرق بين المعنيين. واحتج أيضا لأفعلت في معنى نسبت، بقول ذي الرّمة يصف ربعا «2» : وأسقيه حتّى كاد ممّا أبثّه ... تكلّمني أحجاره وملاعبه وتأوّل في أسقيه معنى أسقّيه من طريق النّسبة. ولا أعلم (له) في هذا حجّة، لأنا نقول: قد أرعى الله هذه الماشية، أي: أنبت لها ما ترعاه، فكذلك تقول: أسقى الله الربع، أي أنزل عليه مطرا يسقيه، وأنا أرعى الماشية، وأسقي الربع، أي أدعو لها بالمرعى، وله بالسّقيا. واحتج آخر ببيت ذكر أنه لطرفة «3» :   (1) الكسائي: هو علي بن حمزة بن عبد الله بن عثمان، مولى بني أسد، أبو الحسن المعروف بالكسائي، ثم البغدادي الكوفي، أحد أئمة النحو، توفي بالري سنة 189 هـ، تقدمت ترجمته الوافية مع ذكر مؤلفاته. (2) قبله: وقفت على ربع لميّة ناقتي ... فما زلت أبكي حوله وأخاطبه والبيتان من الطويل، وهما في ديوان ذي الرمة ص 821، وأدب الكاتب ص 462، والدرر 2/ 155، وشرح أبيات سيبويه 2/ 364، وشرح التصريح 1/ 204، وشرح شافية ابن الحاجب 1/ 91، 92، وشرح شواهد الشافية ص 41، والكتاب 4/ 59، ولسان العرب (سقى) ، (شكا) ، والمقاصد النحوية 2/ 176، والممتع في التصريف ص 187، والبيتان بلا نسبة في أوضح المسالك 1/ 307، وشرح الأشموني 1/ 130، والصاحبي في فقه اللغة ص 226، وهمع الهوامع 1/ 131. [ ..... ] (3) البيت من الطويل، وهو في ديوان طرفة بن العبد ص 157 (طبعة مكس سلغسون) ، ومقاييس اللغة 3/ 181، ولسان العرب (شرر) ، وفيه «ذلكا» بدل «ذلك» ، وتاج العروس (شرر) ، والبيت بلا نسبة في ديوان الأدب 3/ 157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وما زال شربي الرّاح حتّى أشرّني ... صديقي وحتّى ساءني بعض ذلك وتوهّم أن قوله: أشرّني، نسبني إلى الشرّ. وليس ذاك كما تأوّل، وإنما أراد شهرني وأذاع خبري، من قولك: أشررت الأقط وشرّرته، إذا بسطته على شيء ليجف. وقال الشاعر وذكر يوم صفّين «1» : وحتى أشرّت بالأكف المصاحف يريد: شهرت وأظهرت. وروى عبد الله بن محمد بن أسماء، عن جويرية، قال: كنت عند قتادة فسئل عن القدر، فقال: ما زالت العرب تثبت القدر في الجاهلية والإسلام. وحدثني أبو حاتم «2» : سهل بن محمد، عن الأصمعي «3» قال: قلت لدرواس الأعرابيّ: ما جعل بني فلان أشرف من بني فلان؟ قال: الكتاب. يعني (القدر) ، ولم يقل: المكارم والفعال. وكان الأصمعي ينشد من الشعر أبياتا في القدر ذكرتها وغيرها: قال: أنشدني عيسى بن عمر لبدويّ «4» : كلّ شيء حتى أخيك متاع ... وبقدر تفرّق واجتماع وقال المرّار بن سعيد الأسديّ «5» : ومن سابق الأقدار إذ دأبت به ... ومن نائل شيئا إذا لم يقدّر؟   (1) صدر البيت: فما برحوا حتى رأى الله صبرهم والبيت من الطويل، وهو لكعب بن جعيل في لسان العرب (شرر) ، والتنبيه والإيضاح 2/ 139، وديوان الأدب 3/ 157، وجمهرة اللغة ص 736، ولكعب بن جعيل أو للحصين بن حمام المري في تاج العروس (شرر) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 3/ 181، والمخصص 13/ 56، وتهذيب اللغة 11/ 274. (2) أبو حاتم: هو أبو حاتم السجستاني، سهل بن محمد بن عثمان بن يزيد الجشمي الإمام، توفي سنة 250 هـ، وقيل: سنة 248 هـ، تقدمت ترجمته الوافية مع ذكر مؤلفاته. (3) الأصمعي: هو عبد الملك بن قريب، تقدمت ترجمته. (4) البيت من الخفيف، وهو بلا نسبة في لسان العرب (قدر) ، وتاج العروس (قدر) . (5) البيت من الطويل، وهو في ديوان المرار بن سعيد الفقعسي ص 452. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وقال جميل «1» : أقدّر أمرا لست أدري: أناله؟ ... وما يقدر الإنسان؟ فالله قادر وقال ابن الدّمينة «2» : زوروا بنا اليوم سلمى أيّها النّفر ... ونحن لمّا يفرّق بيننا القدر وقال الفرزدق «3» : ندمت ندامة الكسعيّ لمّا ... غدت مني مطلّقة نوار ولو ضنّت بها كفّي ونفسي ... لكان عليّ للقدر الخيار وقال القسّ «4» : قد كنت أعذل في السّفاهة أهلها ... فاعجب لما تأتي به الأيّام فاليوم أعذرهم، وأعلم أنّما ... سبل الغواية والهدى أقسام وقال ابن أحمر حين سقي بطنه «5» : شربنا وداوينا، وما كان ضرّنا ... إذا الله حمّ القدر- ألّا نداويا وقال الشّمّاخ «6» : وإنّي عداني عنكما غير ماقت ... نواران مكتوب عليّ بغاهما أي حاجتان عسيرتان. والنّوار: النّفور. مكتوب عليّ أي مقدور عليّ طلبهما. وقال الأعشى «7» :   (1) البيت من الطويل، وهو في ديوان جميل بن معمر (جميل بثينة) ص 82. (2) البيت من البسيط، وهو في ديوان ابن الدمينة ص 48. (3) البيتان من الوافر، وهما في ديوان الفرزدق 1/ 294. والبيت الأول في لسان العرب (كسع) ، وتاج العروس (كسع) ، وتهذيب اللغة 1/ 299. ويروى صدر البيت الثاني: ولو رضيت يداي بها وضنّت والبيت بهذا اللفظ في الخصائص 1/ 258، والمحتسب 2/ 181، والمقرب 1/ 252. (4) البيتان من الكامل، ولم أجدهما في المصادر والمراجع التي بين يدي. (5) البيت من الطويل، وهو لعبد الله بن أحمر في ديوانه ص 172، والشعر والشعراء 1/ 316، وعيون الأخبار 3/ 274. (6) البيت من الطويل، وهو في ديوان الشماخ ص 88، والمعاني الكبير 2/ 871. (7) يروى البيت بلفظ: في فتية كسيوف الهند قد علموا ... أن هالك كلّ من يحفى وينتعل والبيت من البسيط، وهو للأعشى في ديوانه ص 109، والأزهية ص 64، والإنصاف ص 199، وتخليص الشواهد ص 382، وخزانة الأدب 5/ 426، 8/ 390، 10/ 393، 11/ 353، 354، والدرر 2/ 194، وشرح أبيات سيبويه 2/ 76، والكتاب 2/ 137، 3/ 74، 164، 454، والمحتسب 1/ 308، ومغني اللبيب 1/ 314، والمقاصد النحوية 2/ 287، والمنصف 3/ 129، وبلا نسبة في خزانة الأدب 10/ 391، ورصف المباني ص 115، وشرح المفصل 8/ 71، والمقتضب 3/ 9، وهمع الهوامع 1/ 142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 في فتية كسيوف الهند قد علموا ... أن ليس يدفع عن ذي الحيلة الحيل يعني: هم موقنون بأن ما قدّر وحتم لا يدفع بالحيلة، فهم موطّنون أنفسهم عليه. وقال أبو زبيد «1» : فلا تك كالموقوص عن ظهر رحله ... تردّت به أسبابه وهو ينظر أسبابه: المقادير، تردّت به وهو ينظر لا يقدر أن يدفع ذلك. والموقوص: الذي قد اندقّت عنقه. وقال الراعي «2» : وهنّ يحاذرن الرّدى أن يصيبني ... ومن قبل خلقي خطّ ما كنت لاقيا وكائن ترى من مسعف بمنيّة ... يجنّبها أو معصم ليس ناجيا وقال أفنون التّغلبي «3» : لعمرك ما يدري الفتى كيف يتّقي ... إذا هو لم يجعل له الله واقيا وقال لبيد بن ربيعة العامري «4» : إنّ تقوى ربّنا خير نفل ... وبإذن الله ريثي وعجل من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال، ومن شاء أضل   (1) البيت من الطويل، وهو في ديوان أبي زبيد الطائي ص 64. [ ..... ] (2) البيتان من الطويل، وهما في ديوان الراعي النميري ص 285، والبيت الثاني في لسان العرب (سعف) ، وتاج العروس (سعف) ، وتهذيب اللغة 2/ 111. (3) البيت من الطويل، وهو لأفنون التغلبي في تاج العروس (وقتي) ، ومعجم البلدان (الآلاهة) ، ولسان العرب (أله) ، (وقي) ، والمفضليات ص 261، والشعر والشعراء 1/ 382، والمؤتلف والمختلف ص 151، وكتاب الصناعتين ص 164. (4) البيتان من الرمل، وهما في ديوان لبيد بن ربيعة العامري ص 174، والبيت الأول في لسان العرب (نفل) ، ومقاييس اللغة 2/ 464، وتاج العروس (نفل) ، والبيت الثاني في لسان العرب (ضلل) ، وتهذيب اللغة 11/ 465، وتاج العروس (ضلل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 أفترى لبيدا أراد بقوله: من شاء أضل، أي سمّي ضالا؟ لا لعمر الله ما عرف هذا لبيد ولا وجده في شيء من اللغات. والمعنى في ضلّلت، وأضللت، ويشرح صدره للإسلام، ويجعل صدره ضيّقا حرجا- يمتنع على التأويل المطلوب بالحيلة عند من عرف اللغة. وربما جعلت العرب (الإضلال) في معنى الإبطال والإهلاك، لأنه يؤدّي إلى الهلكة، ومنه قوله تعالى: وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السجدة: 10] ، أي بطلنا ولحقنا بالتراب وصرنا منه. والعرب تقول: ضلّ الماء في اللبن: إذا غلب اللبن عليه فلم يتبيّن. وقال النابغة الذبياني يرثي بعض الملوك «1» : وآب مضلّوه بعين جليّة ... وغودر بالجولان حزم ونائل أي قابروه، سمّاهم مضلّين لأنهم غيّبوه وأفقدوه فأبطلوه. هذا مذهب العرب في (القدر) ، وهو مذهب كل أمة من العجم، وأنّ الله في السماء، ما تركت على الجبلّة والفطرة، ولم تنقل عن ذلك بالمقاييس والتّلبيس. وقد أعلمتك في كتاب (غريب الحديث) أن فريقا منهم يقولون: لا يلزمنا اسم (القدر) من طريق اللغة، لأنه يتأوّل علينا أنا نقول: لا قدر، فكيف ننسب إلى ما نجحد؟. وأن هذا تمويه، وإنما نسبوا إلى (القدر) لأنهم يضيفونه إلى أنفسهم، وغيرهم يجعله لله دون نفسه، ومدّعي الشيء لنفسه أولى بأن ينسب إليه ممن جعله لغيره. وأما الطاعنون على القرآن (بالمجاز) فإنهم زعموا أنه كذب. لأن الجدار لا يريد، والقرية لا تسأل. وهذا من أشنع جهالاتهم، وأدلّها على سوء نظرهم، وقلة أفهامهم. ولو كان المجاز كذبا، وكلّ فعل ينسب إلى غير الحيوان باطلا- كان أكثر كلامنا فاسدا، لأنا نقول: نبت البقل، وطالت الشّجرة، وأينعت الثمرة، وأقام الجبل، ورخص السّعر.   (1) البيت من الطويل، وهو في ديوان النابغة الذبياني ص 121، ولسان العرب (ضلل) ، (جلا) ، وتاج العروس (ضلل) ، (جلا) ، وتهذيب اللغة 11/ 187، 465، وجمهرة اللغة ص 1044، والبيت بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 1077، ومقاييس اللغة 1/ 496، 3/ 356، ومجمل اللغة 3/ 277. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وتقول: كان هذا الفعل منك في وقت كذا وكذا والفعل لم يكن وإنما كوّن. وتقول: كان الله. وكان بمعنى حدث، والله، جل وعز: قبل كل شيء بلا غاية، لم يحدث: فيكون بعد أن لم يكن. والله تعالى يقول: فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ [محمد: 21] وإنما يعزم عليه. ويقول تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [البقرة: 16] وإنما يربح فيها. ويقول: وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ [يوسف: 18] وإنما كذّب به. ولو قلنا للمنكر لقوله: جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ [الكهف: 77] كيف كنت أنت قائلا في جدار رأيته على شفا انهيار: رأيت جدارا ماذا؟ لم يجد بدّا من أن يقول: جدارا يهمّ أن ينقضّ، أو يكاد أن ينقضّ، أو يقارب أن ينقضّ. وأيّا ما قال فقد جعله فاعلا، ولا أحسبه يصل إلى هذا المعنى في شيء من لغات العجم، إلا بمثل هذه الألفاظ. وأنشدني السّجستاني «1» عن أبي عبيدة «2» في مثل قول الله: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ «3» : يريد الرّمح صدر أبي براء ... ويرغب عن دماء بني عقيل وأنشد الفرّاء «4» : إنّ دهرا يلفّ شملي بجمل ... لزمان يهمّ بالإحسان والعرب تقول: بأرض فلان شجر قد صاح. أي طال، لمّا تبيّن الشّجر للنّاظر بطوله، ودلّ على نفسه- جعله كأنه صائح: لأن الصائح يدلّ على نفسه بصوته.   (1) السجستاني: هو أبو حاتم السجستاني، تقدمت ترجمته. (2) أبو عبيدة: هو الحافظ أبو عبيدة معمر بن المثنى التميمي البصري المنشأ، بغدادي الدار والوفاة، الفقيه اللغوي الأخباري، ولد سنة 110 هـ، وتوفي سنة 203 هـ، تقدمت ترجمته الوافية، مع ذكر مؤلفاته. (3) البيت من الوافر، وهو بلا نسبة في لسان العرب (رود) ، وكتاب الصناعتين ص 212، وتفسير الطبري 16/ 186، ومجاز القرآن 1/ 410. (4) يروى صدر البيت بلفظ: إن دهرا يلفّ حبلي بجمل والبيت من الخفيف، وهو لحسان بن ثابت في أساس البلاغة (لفف) ، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في لسان العرب (دهر) ، وتهذيب اللغة 6/ 192، وديوان الأدب 1/ 107، وتاج العروس (دهر) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 ومثل قول العجاج «1» : كالكرم إذ نادى من الكافور ويقال: هذا شجر واعد، إذا نوّر، كأنّه نوّر لمّا وعد أن يثمر. ونبات واعد، إذا أقبل بماء ونضرة. قال سويد بن كراع «2» : رعى غير مذعور بهنّ وراقه ... لماع تهاداه الدّكادك واعد في أشباه لهذا كثيرة، سنذكر ما نحفظ منها في كتابنا هذا مما أتى في كتاب الله، عز وجل، وأمثاله من الشعر، ولغات العرب، وما استعمله الناس في كلامهم. ونبدأ بباب الاستعارة، لأن أكثر المجاز يقع فيه.   (1) قبله: غراء تسبي نظر النظور ... بفاحم يعكف أو منشور كالكرم إذا نادى من الكافور والرجز للعجاج في ديوانه 1/ 338- 339، ولسان العرب (كفر) ، وتاج العروس (كفر) ، وتهذيب اللغة 10/ 201، والمخصص 10/ 216، وجمهرة اللغة ص 786، ولرؤبة في لسان العرب (صيح) ، (عرق) ، وتاج العروس (صيح) ، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في لسان العرب (ندى) ، ومقاييس اللغة 5/ 192، وجمهرة اللغة ص 1061، 1205، وكتاب العين 5/ 358، وتاج العروس (ندا) ، وتهذيب اللغة 14/ 190. (2) البيت من الطويل، وهو لسويد بن كراع في لسان العرب (وعد) ، (لعع) ، وأساس البلاغة (وعد) ، وتهذيب اللغة 3/ 135، وتاج العروس (وعد) ، (لعع) ، وبلا نسبة في المخصص 10/ 183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 باب الاستعارة فالعرب تستعير الكلمة فتضعها مكان الكلمة، إذا كان المسمى بها بسبب من الأخرى، أو مجاورا لها، أو مشاكلا. فيقولون للنبات: نوء لأنه يكون عن النوء عندهم. قال رؤية بن العجاج «1» : وجفّ أنواء السّحاب المرتزق أي جفّ البقل. ويقولون للمطر: سماء، لأنه من السماء ينزل، فيقال: ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم. قال الشاعر «2» : إذا سقط السّماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا ويقولون: ضحكت الأرض: إذا أنبتت، لأنها تبدي عن حسن النبات، وتنفتق عن الزهر، كما يفترّ الضاحك عن الثغر، ولذلك قيل لطلع النخل إذا انفتق عنه كافوره: الضّحك، لأنه يبدو منه للناظر كبياض الثغر. ويقال: ضحكت الطّلعة، ويقال: النّور يضاحك الشمس، لأنه يدور معها.   (1) يروى الرجز بتمامه: وخفّ أنواء الربيع المرتزق ... وخبّ أعراق السفا على القيق والرجز لرؤبة في ديوانه ص 105، ولسان العرب (قيق) وتهذيب اللغة 9/ 372، وتاج العروس (رزق) ، ومقاييس اللغة (2/ 158، 3/ 81، ومجمل اللغة 2/ 161، 4/ 135، وبلا نسبة في لسان العرب (قط) ، وكتاب العين 5/ 238، والمخصص 10/ 129. (2) البيت من الوافر، وهو لمعوّد الحكماء (معاوية بن مالك) في لسان العرب (سما) ، وللفرزدق في تاج العروس (سما) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 3/ 98، والمخصص 7/ 195، 16/ 30، وديوان الأدب 4/ 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وقال الأعشى يذكر روضة «1» : يضاحك الشمس منها كوكب شرق ... مؤزّر بعميم النّبت مكتهل وقال آخر «2» : وضحك المزن بها ثمّ بكى يريد بضحكه انعقاقه «3» بالبرق، وببكائه: المطر. ويقولون: لقيت من فلان عرق القربة، أي شدّة ومشقّة. وأصل هذا أن حامل القربة يتعب في نقلها حتى يعرق جبينه، فاستعير عرقها في موضع الشّدّة. ويقول الناس: لقيت من فلان عرق الجبين، أي شدّة. ومثل هذا في كلام العرب كثير يطول به الكتاب، وسنذكر ما في كتاب الله تعالى منه. فمن الاستعارة في كتاب الله قوله عز وجل: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ [القلم: 42] أي عن شدّة من الأمر، كذلك قال قتادة «4» . وقال ابراهيم «5» : عن أمر عظيم. وأصل هذا أنّ الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى معاناته والجدّ فيه- شمّر عن ساقه، فاستعيرت الساق في موضع الشدة. وقال دريد بن الصّمّة «6» :   (1) البيت من البسيط، وهو في ديوان الأعشى ص 107، ولسان العرب (كوكب) ، (أزر) ، (شرق) ، (كهل) ، (عمم) ، وتهذيب اللغة 1/ 119، 6/ 19، 8/ 316، 10/ 402، ومقاييس اللغة 5/ 125، 144، وأساس البلاغة (ضحك) ، والمخصص 10/ 194، وتاج العروس (ككب) ، (أزر) ، (شرق) ، (كهل) ، والبيت بلا نسبة في كتاب العين 3/ 378، 5/ 433. (2) الرجز لدكين الراجز في أمالي المرتضى 2/ 94، وبلا نسبة في كتاب الصناعتين ص 239، والحيوان 3/ 75. [ ..... ] (3) الانعقاق: الانشقاق. (4) قتادة: هو قتادة بن دعامة بن عرنين بن عمرو بن ربيعة السدوسي، أبو الخطاب البصري التابعي، ولد سنة 60 هـ، وتوفي سنة 117 هـ، صنّف «تفسير القرآن» . (كشف الظنون 5/ 834) . (5) إبراهيم: هو إبراهيم بن يزيد، أبو عمران النخعي الكوفي، توفي سنة 96 هـ. (6) البيت من الطويل، وهو في ديوان دريد بن الصمة ص 66، ولسان العرب (سوق) ، والمخصص 13/ 67، 16/ 37، وتهذيب اللغة 9/ 234، 10/ 488، وشرح ديوان الحماية للمرزوقي ص 818، والكامل ص 497، والأصمعيات ص 113، وجمهرة أشعار العرب ص 118، وديوان المعاني 1/ 56، وكتاب الصناعتين ص 305، والبيت بلا نسبة في لسان العرب (جلل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 كميش الإزار خارج نصف ساقه ... صبور على الجلّاء طلّاع أنجد وقال الهذليّ «1» : وكنت إذا جاري دعا لمضوفة ... أشمّر حتّى ينصف السّاق مئزري ومنه قول الله عز وجل: وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النساء: 49] وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً [النساء: 124] والفتيل: ما يكون في شقّ النّواة. والنّقير: النّقرة في ظهرها. ولم يرد أنهم لا يظلمون ذلك بعينه، وإنما أراد أنهم إذا حوسبوا لم يظلموا في الحساب شيئا ولا مقدار هذين التّافهين الحقيرين. والعرب تقول: ما رزأته زبالا. (والزبال) ما تحمله النّملة بفمها، يريدون ما رزأته شيئا. وقال النابغة الذّبياني «2» : يجمع الجيش ذا الألوف ويغزو ... ثم لا يرزأ العدوّ فتيلا وكذلك قوله عز وجل: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [فاطر: 13] وهو (الفوقة) التي فيها النّواة. يريد ما يملكون شيئا. ومنه قوله عز وجل: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) [الفرقان: 23] أي قصدنا لأعمالهم وعمدنا لها. والأصل أنّ من أراد القدوم إلى موضع عمد له وقصده. والهباء المنثور: ما رأيته في شعاع الشمس الداخل من كوّة البيت. والهباء المنبثّ: ما سطع من سنابك الخيل. وإنما أراد أنّا أبطلناه كما أنّ هذا مبطل لا يلمس ولا ينتفع به. ومنه قوله: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ [إبراهيم: 43] يريد أنها لا تعي خيرا، لأن المكان إذا   (1) البيت من الطويل، وهو لأبي جندب الهذلي في شرح أشعار الهذليين 1/ 358، وشرح شواهد الشافية ص 383، ولسان العرب (جور) ، (ضيق) ، (نصف) ، (كون) ، والمعاني الكبير ص 700، 1119، وبلا نسبة في شرح المفصل 10/ 81، والمحتسب 1/ 214، والممتع في التصريف 2/ 470، والمنصف 1/ 301. (2) البيت من الخفيف، وهو لعبد قيس بن خفاف في الحيوان 4/ 379، والأغاني 11/ 16، وللنابغة الذبياني في ديوانه ص 135 (طبعة دار الكتاب العربي) ، والشعر والشعراء ص 171، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 4/ 472، والمخصص 13/ 254. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 كان خاليا فهو هواء حتى يشغله الشيء. ومثله قوله عز وجل: وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ [الكهف: 21] يريد أطلعنا عليهم. وأصل هذا أنّ من عثر بشيء وهو غافل نظر إليه حتى يعرفه. فاستعير العثار مكان التّبيّن والظهور. ومنه يقول الناس: ما عثرت على فلان بسوء قطّ. أي ما ظهرت على ذلك منه. ومنه قوله عز وجل: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: 32] أراد الخيل، فسمّاها الخير لما فيها من المنافع. قال الرّاجز بعد أن عدّد فضائلها وأسباب الانتفاع بها- «1» : فالخيل والخيرات في قرنين وقال طفيل «2» : وللخيل أيّام فمن يصطبر لها ... ويعرف لها أيّامها الخير تعقب ومنه قوله عز وجل أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [الانعام: 122] . اى كان كافرا فهديناه وجعلنا له ايمانا يهتدى به سبل الخير والنّجاة كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها [الأنعام: 122] أي في الكفر. فاستعار الموت مكان الكفر، والحياة مكان الهداية، والنّور مكان الإيمان. ومنه قوله عز وجل: وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) [الشرح: 2] أي إثمك. وأصل الوزر: ما حمله الإنسان على ظهره. قال الله عز وجل: وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ [طه: 87] أي أحمالا من حليّهم. فشبه الإثم بالحمل، فجعل مكانه، وقال في موضع آخر: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت: 13] يريد آثامهم. ومن ذلك قوله: وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا [البقرة: 235] أي نكاحا، لأن النكاح يكون سرا ولا يظهر، فاستعير له السرّ. قال رؤبة «3» : فعفّ عن أسرارها بعد العسق   (1) الرجز بلا نسبة في كتاب المعاني 1/ 85، 176، وفي المعاني: «في قرينين» بدل: «في قرنين» ، وفي الخزانة 3/ 643: «كالقرينين» بدل: «في قرنين» . (2) البيت من الطويل، وهو في ديوان طفيل الغنوي ص 35، والإنصاف ص 621، وخزانة الأدب 9/ 44، وكتاب الصناعتين ص 277، والمعاني الكبير 1/ 85. (3) الرجز في ديوان رؤبة ص 204، وتهذيب اللغة 12/ 284، ولسان العرب (فرك) وفيه: «الغسق» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 والعسق: الملازمة: ومنه قوله: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [البقرة: 223] أي مزدرع لكم كما تزدرع الأرض. ومنه قوله: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [البقرة: 267] أي تترخّصوا. وأصل هذا أن يصرف المرء بصره عن الشيء ويغمضه، فسمّي الترّخّص إغماضا. ومنه يقول الناس للبائع: أغمض وغمّض. يريدون لا تستقص وكمن كأنّك لم تبصر. ومنه قوله: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ [البقرة: 187] لأنّ المرأة والرجل يتجردان ويجتمعان في ثوب واحد، ويتضامّان فيكون كلّ واحد منهما للآخر بمنزلة اللباس. قال النابغة الجعديّ «1» : إذا ما الضّجيع ثنى جيدها ... تداعت عليه فكانت لباسا ومنه قوله: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) [المدثر: 4] أي طهّر نفسك من الذنوب، فكنى عن الجسم بالثياب، لأنّها تشتمل عليه. قالت ليلى الأخيلية وذكرت إبلا «2» : رموها بأثواب خفاف فلا ترى ... لها شبها إلّا النّعام المنفّرا أي ركبوها فرموها بأنفسهم. وقال آخر «3» :   بدل: «العسق» . (1) يروى عجز البيت بلفظ: تداعت فكانت عليه لباسا والبيت من المتقارب، وهو في ديوان النابغة الجعدي ص 81، ومقاييس اللغة 5/ 230، وتهذيب اللغة 12/ 444، ومجمل اللغة 4/ 262، وتاج العروس (لبس) ، ولسان العرب (لبس) ، والشعر والشعراء ص 302. (2) البيت من الطويل، وهو للشماخ في تهذيب اللغة 15/ 154، وليس في ديوانه، ولليلى الأخيلية في ديوانها ص 70، وأساس البلاغة (ثوب) ، والمعاني الكبير ص 486، وكتاب الصناعتين ص 353، والبيت بلا نسبة في مجمل اللغة 1/ 372، وتاج العروس (ثوب) ، ولسان العرب (ثوب) . (3) الرجز بلا نسبة في تاج العروس (دسم) ، (وذم) ، ولسان العرب (دسم) ، (وذم) ، وتهذيب اللغة 12/ 377، 15/ 29، ومقاييس اللغة 2/ 276، وديوان الأدب 3/ 270، وأساس البلاغة (دسم) ، والمعاني الكبير 1/ 481، ويروى: «جحّا» بتقديم الجيم على الحاء، بدل: «حجّا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 لا همّ إنّ عامر بن جهم ... أو ذم حجّا في ثياب دسم أي هو متدنّس بالذنوب. والعرب تقول: قوم لطاف الأزر. أي خماص البطون، لأنّ الأزر تلاث عليها. ويقولون: فدى لك إزاري. يريدون: بدني، فتضع الإزار موضع النّفس. قال الشاعر «1» : ألا أبلغ أبا حفص رسولا ... فدى لك من أخي ثقة إزاري وقد يكون الإزار في هذا البيت: الأهل. قال الهذليّ «2» : تبرّأ من دمّ القتيل وبزّه ... وقد علقت دمّ القتيل إزارها أي نفسها. ويقولون للعفاف: إزار، لأنّ العفيف كأنّه استتر لمّا عفّ. وقال عديّ بن زيد «3» : أجل أنّ الله قد فضّلكم ... فوق ما أحكي بصلب وإزار فالصّلب: الحسب، سمّاه صلبا لأنّ الحسب: العشيرة. والخلق. من ماء الصّلب. والإزار: العفاف. ويجوز أن يكون سمّى العشيرة صلبا لأنّهم ظهر الرجل، والصّلب في الظّهر.   (1) البيت من الوافر، وهو لبقيلة الأكبر الأشجعي، وكنيته أبو المنهال، في لسان العرب (أزر) ، والمؤتلف والمختلف ص 63، وعجزه في لسان العرب (أزر) ، منسوبا إلى جعدة بن عبد الله السلمي، وبلا نسبة في شرح اختيارات المفضل ص 250، وشرح شواهد الإيضاح ص 162، ولسان العرب (قلص) . [ ..... ] (2) البيت من الطويل، وهو لأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص 77، ولسان العرب (أزر) ، وتاج العروس (أزر) ، والمعاني الكبير ص 483، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 432، ومقاييس اللغة 4/ 127، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 712، والمخصص 4/ 77، 17/ 22. (3) البيت من الرمل، وهو في ديوان عدي بن زيد ص 94، وتهذيب اللغة 11/ 194، وديوان الأدب 1/ 149، وتاج العروس (حكى) . ويروى البيت بلفظ: أجل أن الله قد فضّلكم ... فوق من أحكأ صلبا بإزار والبيت بهذا اللفظ، لعدي بن زيد في ديوانه ص 94، وجمهرة اللغة ص 1051، ولسان العرب (حكأ) ، (صلب) ، (أزر) ، (أجل) ، (حكى) ، وبلا نسبة في مجالس ثعلب 1/ 240. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وقال: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً [الفرقان: 47] : أي سترا وحجابا لأبصاركم. قال ذو الرّمة «1» : ودوّيّة مثل السّماء اعتسفتها ... وقد صبغ اللّيل الحصى بسواد أي لمّا ألبسه الليل سواده وظلمته، كان كأنّه صبغه. وقد يكنون باللباس والثوب عما ستر ووقى، لأنّ اللباس والثوب واقيان ساتران. وقال الشاعر «2» : كثوب ابن بيض وقاهم به ... فسدّ على السّالكين السّبيلا قال الأصمعي: (ابن بيض) رجل نحر بعيرا له على ثنيّة فسدّها فلم يقدر أحد أن يجوز، فضرب به المثل فقيل: سدّ ابن بيض الطريق «3» . وقال غير الأصمعي: (ابن بيض) رجل كانت عليه إتاوة فهرب بها فاتّبعه مطالبه، فلما خشي لحاقه وضع ما يطالبه به على الطريق ومضى، فلما أخذ الإتاوة رجع وقال: «سدّ ابن بيض الطريق» أي منعنا من اتباعه حين وفى بما عليه، فكأنه سدّ الطريق «4» . فكنى الشاعر عن البعير- إن كان التفسير على ما ذكر الأصمعي. أو عن الإتاوة- إن كان التفسير ما ذكر غيره- بالثوب، لأنهما وقيا كما يقي الثوب. وكان بعض المفسرين يقول في قوله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً [الفرقان: 47] أي سكنا، وفي قوله تعالى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ [البقرة: 187] أي سكن لكم. وإنما اعتبر ذلك من قوله: جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [يونس: 67] ومن قوله:   (1) البيت من الطويل، وهو في ديوان ذي الرمة ص 685، وشرح شواهد الإيضاح ص 382، وهو بلا نسبة في شرح شذور الذهب ص 415. (2) البيت من المتقارب، وهو لبشامة بن عمرو في تاج العروس (بيض) ، وشرح اختيارات المفضل ص 293، والمفضليات ص 60، وطبقات الشعراء ص 565، والأغاني 12/ 43، ولبسامة بن حزن (وهذا تحريف) في لسان العرب (بيض) ، وبلا نسبة في تاج العروس (ثوب) . (3) انظر المثل في لسان العرب (بيض) ، وجمهرة الأمثال ص 118، ومجمع الأمثال 1/ 341، وأمثال العرب للمفضل الضبي ص 71- 72. (4) انظر لسان العرب (بيض) ، ومجمع الأمثال 1/ 328. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها [الأعراف: 189] . ومن الاستعارة: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) [آل عمران: 107] يعني جنّته، سمّاها رحمة، لأن دخولهم إيّاها كان برحمته. ومثله قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ [النساء: 175] . وقد توضع (الرحمة) موضع (المطر) لأنه ينزل برحمته. قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الأعراف: 57] يعني المطر. وقال تعالى: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي [الإسراء: 100] يعني مفاتيح رزقه. وقال تعالى: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها [فاطر: 2] أي من رزق. ومن الاستعارة: اللسان يوضع موضع القول، لأنّ القول يكون بها. قال الله، عز وجل، حكاية عن إبراهيم عليه السلام: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) [الشعراء: 84] . أي ذكرا حسنا. وقال الشاعر «1» : إنّي أتتني لسان لا أسرّ بها ... من علو لا عجب منها ولا سخر أي أتاني خبر لا أسرّ به. ومنه الذّكر يوضع موضع الشرف، لأنّ الشّريف يذكر قال الله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: 44] يريد أن القرآن شرف لكم. وقال تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الأنبياء: 10] أي شرفكم. وقال: بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ [المؤمنون: 71] أي أتيناهم بشرفهم. ومنه قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما [الإسراء: 23] أي لا تستثقل شيئا   (1) البيت من البسيط، وهو لأعشى باهلة في إصلاح المنطق ص 26، والأصمعيات ص 88، وأمالي المرتضى 2/ 20، وجمهرة اللغة ص 950، 1309، وخزانة الأدب 6/ 511، وسمط اللآلي ص 75، وشرح المفصل 4/ 90، ولسان العرب (سخر) ، (لسن) ، والمؤتلف والمختلف ص 14، وبلا نسبة في خزانة الأدب 1/ 191، 4/ 156، ولسان العرب (علا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 من أمرهما، وتضق به صدرا، ولا تغلظ لهما. والناس يقولون لما يكرهون ويستثقلون: أفّ له. وأصل هذا نفخك للشيء يسقط عليك من تراب أو رماد وغير ذلك، وللمكان تريد إماطة الشيء عنه لتقعد فيه. فقيل لكل مستثقل: أفّ لك، ولذلك تحرّك بالكسر للحكاية، كما يقولون: غاق غاق، إذا حكوا صوت الغراب. والوجه أن يسكّن هذا، إلا أنه يحرّك لاجتماع الساكنين، فربما نوّن، وربما لم ينوّن، وربما حرّك إلى غير الكسر أيضا. ومنه قوله تعالى: كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ [المائدة: 64] يريد كلما هاجوا شرّا وأجمعوا أمرا ليحاربوا النبي صلّى الله عليه وسلّم- سكّنه الله ووهّن أمرهم. ومنه قوله سبحانه: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف: 157] . الإصر: الثّقل الذي ألزمه الله بني إسرائيل في فرائضهم وأحكامهم، ووضعه عن المسلمين. ولذلك قيل للعهد: إصر. قال تعالى: وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي [آل عمران: 81] أي عهدي، لأن العهد ثقل ومنع من الأمر الذي أخذ له. وَالْأَغْلالَ: تحريم الله عليهم كثيرا مما أطلقه لأمّة محمد، صلّى الله عليه وسلم، وجعله أغلالا لأن التحريم يمنع كما يقبض الغلّ اليد، فاستعير. قال أبو ذؤيب «1» : فليس كعهد الدّار يا أمّ مالك ... ولكن أحاطت بالرّقاب السّلاسل وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل ... سوى العدل شيئا فاستراح العواذل يقول: ليس الأمر كعهدك إذ كنا في الدّار ونحن نتبسّط في كل شيء ولا نتوقّى، ولكن أسلمنا فصرنا من موانع الإسلام في مثل الأغلال المحيطة بالرّقاب القابضة للأيدي. ومن هذا قوله: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا [يس: 8] ، أي قبضنا أيديهم عن الإنفاق في سبيل الله بموانع كالأغلال.   (1) البيتان من الطويل، وهما لأبي خراش الهذلي في ديوان الهذليين القسم الثاني ص 150، وشرح أشعار الهذليين ص 1223، ولسان العرب (عهد) ، والتنبيه والإيضاح 2/ 43، والأغاني 21/ 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 ومن ذلك قوله: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً [البقرة: 138] ، يريد الختان، فسماه صبغة، لأن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في ماء ويقولون: هذا طهرة لهم كالختان للحنفاء، فقال الله تعالى، صِبْغَةَ اللَّهِ أي الزموا صبغة الله لا صبغة النصارى أولادهم، وأراد بها ملة إبراهيم عليه السلام. ومنه قوله: ما لَها مِنْ فَواقٍ [ص: 15] أي ما لها من تنظّر وتمكّث إذا بدأت، ولذلك سمّاها ساعة لأنها تأتي بغتة في ساعة. وأصل الفواق أن تحلب الناقة ثم تترك ساعة حتى يجتمع اللبن ثم تحلب فما بين الحلبتين فواق، فاستعير الفواق في موضع الانتظار. ومنه قوله: فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ [الذاريات: 59] ، أي حظّا ونصيبا. وأصل الذّنوب: الدّلو، وكانوا يستقون الماء، فيكون لهذا ذنوب ولهذا ذنوب، فاستعير في موضع النّصيب، وقال الشاعر «1» : إنّا إذا نازعنا شريب ... لنا ذنوب وله ذنوب والعرب تقول: (أخي وأخوك أيّنا أبطش؟) يريدون: أنا وأنت نضطرع فنطر أيّنا أشدّ؟ فيكنى عن نفسه بأخيه، لأن أخاه كنفسه. وقال العبديّ «2» : أخي وأخوك ببطن النّسير ... ليس به من معدّ عريب ويكنى عن أخيه بنفسه.   (1) يروى الرجز بلفظ: لها ذنوب ولكم ذنوب ... فإن أبيتم فلنا القليب والرجز بلا نسبة في لسان العرب (ذنب) ، وتهذيب اللغة 14/ 439، والمخصص 17/ 18، وكتاب العين 8/ 190، وجمهرة اللغة ص 306، وتاج العروس (ذنب) . (2) يروى البيت بلفظ: فعردة فقفا حبرّ ... ليس به من أهله عريب والبيت بهذا اللفظ من مخلع البسيط، (وفي عجزه خلل بالوزن) ، وهو لعبيد بن الأبرص في ديوانه ص 11، وجمهرة اللغة ص 275، 1164، وجمهرة أشعار العرب ص 461، وأمالي القالي 1/ 250، وسمط اللآلي ص 565، ومعجم البلدان (حبر) ، وتاج العروس (عرد) . والبيت برواية المؤلف لثعلبة بن عمرو العبدي في المفضليات ص 254. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 قال الله تعالى: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: 11] ، أي لا تعيبوا إخوانكم من المسلمين، لأنهم كأنفسكم. وقال: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً [النور: 12] أي بأمثالهم من المسلمين. وبعض المفسّرين يقول في قوله تعالى: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً [النور: 61] ، أي على أهليكم، جعلهم أنفسهم على التّشبيه. وقال: ابن عباس في تفسير ذلك: البيوت: المساجد، إذا دخلتها سلّمت على نفسك وعلى عباد الله الصالحين. وقال تعالى: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ [الأنفال: 24] ، أي إلى الجهاد الذي يحيي دينكم ويعليكم. وقال: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 29] ، أي لا تقتلوا إخوانكم، وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة: 188] ، أي أموال إخوانكم. وإن جعلته بمعنى لا يأكل بعضكم مال بعض، ولا يقتل بعضكم بعضا- فهو أيضا قريب المعنى من الأوّل. وقال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الأعراف: 11] أراد: خلقنا آدم وصوّرناه، فجعل الخلق لهم، إذ كانوا منه. ومنه قوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ، [ق: 37] أي عقل لأن القلب موضع العقل، فكنى عنه به. وقوله: أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا [الطور: 32] ، أي تدلهم عقولهم عليه لأن الحلم يكون من العقل، فكنى عنه به. ومنه قوله: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) [الفجر: 13] لأن التعذيب قد يكون بالسوط. ومنه قوله: وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً [النساء: 157] يعني العلم، لم يتحقّقوه ويستيقنوه. وأصل ذلك أن القتل للشيء يكون عن قهر واستعلاء وغلبة. يقول: فلم يكن علمهم بقتل المسيح علما أحيط به، إنما كان ظنّا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 ومنه قوله سبحانه: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ [الأنعام: 146] أي كلّ ذي مخلب من الطير، وكلّ ذي حافر من الدّواب كذلك قال المفسّرون: وسمّى الحافر ظفرا على الاستعارة، كما قال الآخر وذكر ضيفا طرقه «1» : فما رقد الولدان حتّى رأيته ... على البكر يمريه بساق وحافر فجعل الحافر موضع القدم. وقال آخر «2» : سأمنعها أو سوف أجعل أمرها ... إلى ملك أظلافه لم تشقّق يريد بالأظلاف: قدميه، وإنما الأظلاف للشاء والبقر. والعرب تقول للرجل: (هو غليظ المشافر) تريد الشفتين، والمشافر للإبل. وقال الحطيئة «3» : قروا جارك العيمان لمّا جفوته ... وقلّص عن برد الشّراب مشافره ومنه قوله تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) [الحاقة: 44، 46] . قال ابن عباس: اليمين هاهنا: القوّة. وإنما أقام اليمين مقام القوّة، لأن قوة كل شيء في ميامنه. ولأهل اللغة في هذا مذهب آخر قد جرى الناس على اعتياده: أن كان الله عز وجل أراده في هذا الموضع، وهو قولهم إذا أرادوا عقوبة رجل: خذ بيده وافعل به كذا   (1) البيت من الطويل، وهو لجبيهاء الأسدي في لسان العرب (حفر) ، والتنبيه والإيضاح 2/ 110، وتاج العروس (حفر) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 1313، والمخصص 6/ 134، وكتاب الصناعتين ص 233، والموازنة ص 36، والموشح ص 91. (2) البيت من الطويل، وهو لعقفان بن قيس بن عاصم في لسان العرب (ظلف) ، وسمط اللآلي ص 746، وتاج العروس (ظلف) ، وبلا نسبة في كتاب الصناعتين ص 234، والموازنة ص 36، وجمهرة اللغة ص 1312، وأمالي القالي 2/ 120. (3) يروى صدر البيت بلفظ: سقوا جارك العيمان لما تركته والبيت من الطويل، وهو في ديوان الحطيئة ص 25، وجمهرة اللغة ص 1312، والموشح ص 91، والموازنة ص 36، وكتاب الصناعتين ص 233، والبيت بلا نسبة في المخصص 4/ 136، 12/ 181. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وكذا. وأكثر ما يقول السلطان والحاكم بعد وجوب الحكم: خذ بيده واسفع بيده. ونحوه قول الله: لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ [العلق: 15، 16] أي لنأخذنّ بها، ثم لنقيمنّه ولنذّلنّه إما في الدنيا وإما في الآخرة، كما قال تعالى: فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ [الرحمن: 41] أي يجرّون إلى النار بنواصيهم وأرجلهم. ثم قال: ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) [العلق: 16] وإنما يعني صاحبها. والناس يقولون: هو مشؤوم الناصية. لا يريدونها دون غيرها من البدن. ويقولون: قد مرّ على رأسي كذا. أي مر عليّ. فكأنه تعالى قال: لو كذب علينا في شيء مما يلقيه إليكم عنّا، لأمرنا بالأخذ بيده، ثمّ عاقبناه بقطع الوتين. وإلى هذا المعنى ذهب الحسن فقال في قوله تعالى: لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) [الحاقة: 45] أي بالميامن، ثم عاقبناه بقطع الوتين، وهو: عرق يتعلق به القلب، إذا انقطع مات صاحبه. ولم يرد أنا نقطعه بعينه، فيما يرى أهل النظر، ولكنّه أراد: ولو كذّب علينا لأمتناه أو قتلناه، فكان كمن قطع وتينه. ومثله قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما زالت أكلة خيبر تعادّني، فهذا أوان قطعت أبهري» «1» . والأبهر: عرق يتصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه. فكأنّه قال: فهذا أوان قتلني السّمّ، فكنت كمن انقطع أبهره. ومنه قوله سبحانه: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) [القلم: 16] ذهب بعض المفسّرين فيه: إلى أنّ الله عزّ وجلّ يسم وجهه يوم القيامة بالسّواد. وللعرب في مثل هذا اللفظ مذهب نخبر به، والله أعلم بما أراد. تقول العرب للرجل يسبّ الرجل سبّة قبيحة، أو ينثو عليه فاحشة: وقد وسمه بميسم سوء. يريدون: ألصق به عارا لا يفارقه، كما أنّ السّمة لا تنمحي ولا يعفو أثرها. وقال جرير» :   (1) أخرجه بنحوه البخاري في المغازي باب 83، والدارمي في المقدمة باب 11، وأحمد في المسند 6/ 18، والقاضي عياض في الشفا 1/ 609، والخطابي في إصلاح خطأ المحدثين 33، والقرطبي في تفسيره 5/ 163، والمتقي الهندي في كنز العمال 32189، والذهبي في ميزان الاعتدال 6263، وابن عدي في الكامل في الضعفاء 3/ 1239. [ ..... ] (2) البيت من الطويل، وهو في ديوان جرير ص 443. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 لما وضعت الفرزدق ميسمي ... وعلى البعيث، جدعت أنف الأخطل يريد: أنه وسم الفرزدق وجدع أنف الأخطل بالهجاء، أي أبقى عليه عارا كالجدع والوسم. وقال أيضا «1» : رفع المطيّ بما وسمت مجاشعا ... والزّنبريّ يعوم ذو الإجلال يريد: أن هجاءه قد سارت به المطيّ، وغنّي به في البر والبحر. وقال «2» : وأوقدت ناري بالحديد فأصبحت ... لها وهج يصلي به الله من يصلي شبّه شعره بالنّار، وهجاءه بمواسم الحديد. وقال الكميت بن زيد يذكر قصيدة له «3» : تعلّط أقواما بميسم بارق ... وتقطم أوباشا زنيما ومسندا والعلاط: سمة في العنق. وربما استعاروا للهجاء غير الوسم، كقول الهذليّ «4» :   (1) يروى البيت بلفظ: رفع المطيّ بها وشمت مجاشعا ... كالزنبريّ يقاد بالأجلال والبيت من الكامل، وهو لجرير في ديوانه ص 955 (ورواية عجز البيت فيه كما في المتن) . ولسان العرب (جلل) ، وبلا نسبة في لسان العرب (زنبر) ، وكتاب العين 7/ 286، وتاج العروس (زنبر) . (2) البيت من الطويل، وهو في ديوان جرير ص 462. (3) البيت من الطويل، وهو في ديوان الكميت بن زيد 1/ 164. (4) الأبيات من المتقارب، والبيت الأول لأبي المثلم الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص 306، وتاج العروس (حلأ) ، (حيض) ، (رهط) ، (زها) . ولسان العرب (رهط) ، (زها) ، وللهذلي في تهذيب اللغة 6/ 175، 371، 373، وبلا نسبة في كتاب العين 4/ 20، 74، ومقاييس اللغة 2/ 450، 3/ 29، ومجمل اللغة 2/ 429، 3/ 27، والمخصص 4/ 36. والبيت الثاني لأبي المثلم الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص 307، وتاج العروس (أبأ) ، (حلأ) ، وللمتنخل الهذلي في لسان العرب (جلا) ، وتاج العروس (جلو) ، وللهذلي في جمهرة اللغة ص 1045، وأساس البلاغة (فقح) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 493، وتهذيب اللغة 11/ 176، والمخصص 15/ 122، ومقاييس اللغة 4/ 443. والبيت الثالث لأبي المثلم الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص 307، وتاج العروس (أبأ) ، (خوض) ، وبلا نسبة في كتاب الجيم 2/ 42، وفيه: «المقرض» ، بدل: «بالمخوض» . والبيت الرابع بلا نسبة في كتاب العين 1/ 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 متى ما أشأ غير زهو الملو ... ك أجعلك رهطا على حيّض وأكحلك بالصّاب أو بالجلا ... ففقّح لكحلك أو غمّض وأسعطك في الأنف ماء الآباء ... ممّا يثمّل بالمخوض جهلت سعوطك: حتى ظننت ... بأن قد أرضت، ولم تؤرض والرّهط: جلد تلبسه المرأة أيام الحيض. والصاب: شجر له لبن يحرق العين. والجلا: كحل يحكّ على حجر ثم يكتحل به. والأباء: القصب، وماؤه شرّ المياه. ويقال: الأباء هاهنا: الماء الذي تشرب منه الأروى، فتبول فيه وتدمّنه. ويثمّل: ينقع. وهذه أمثال ضربها لما يهجوه به. وقال آخر «1» : سأكسوكما يا ابني يزيد بن جعثم ... رداءين من قار ومن قطران في أشباه لهذا كثيرة. وهذه الآية «2» نزلت في الوليد بن المغيرة، ولا نعلم أن الله عزّ وجل وصف أحدا وصفه له، ولا بلغ من ذكر عيوبه ما بلغه من ذكرها منه لأنه وصفه بالخلف، والمهانة، والعيب للناس، والمشي بالنّمائم، والبخل، والظلم، والإثم، والجفاء، والدّعوة. فألحق به عارا لا يفارقه في الدنيا ولا في الآخرة، كالوسم على الخرطوم، وأبين ما يكون الوسم في الوجه. ومما يشهد لهذا المذهب، ما رواه سفيان، عن زكريا، عن الشّعبي في قوله تعالى: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) [القلم: 13] أنه قال: العتلّ: الشديد. والزّنيم: الذي له زنمة من الشّرّ يعرف بها، كما تعرف الشاة بالزّنمة. أراد الشّعبي: أنه قد لحقته سبّة من الدّعوة عرف بها كزنمة الشّاة.   (1) البيت من الطويل، وهو بلا نسبة في الشعر والشعراء 1/ 156، والمعاني الكبير 2/ 799، 1175. (2) يشير إلى الآية: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 ومنه قوله: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) [المسد: 4، 5] ، قال ابن عباس: في رواية أبي صالح عنه: الحطب: النّميمة وكانت تنم وتؤرّش بين الناس. ومن هذا قيل: (فلان يحطب عليّ) إذا أغرى به، شبّهوا النّميمة بالحطب، والعداوة والشحناء بالنار، لأنهما يقعان بالنميمة، كما تلتهب النار بالحطب. ويقال: نار الحقد لا تخبو فاستعاروا الحطب في موضع النميمة. وقال الشاعر وذكر امرأة «1» : من البيض لم تصطد على حبل سوأة ... ولم تمش بين الحيّ بالحظر الرّطب أي لم توجد على أمر قبيح، ولم تمش بالنمائم والكذب. والحظر: الشّجر ذو الشّوك يحظر به. وقال آخر «2» : فلسنا كمن تزجى المقالة شطره بقرف العضاه الرّطب والعبل اليبس وقال بعض المتقدمين: كانت تعيّر رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، بالفقر كثيرا، وهي تحتطب على ظهرها بحبل من ليف في عنقها. ولست أدري كيف هذا لأنّ الله عز وجل وصفه بالمال والولد، فقال: ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) [المسد: 2] . وأما المسد، فهو عند كثير من الناس: اللّيف دون غيره. وليس كذلك، إنما المسد: كلّ ما ضفر وفتل من اللّيف وغيره، يقال: مسدت الحبل مسدا إذا فتلته، فهو مسد. كما تقول: نفضت الشّجرة نفضا وخبطتها خبطا. واسم ما يسقط من ثمرها وورقها: نفض وخبط، ومنه قيل: رجل ممسود الخلق، إذا كان مجدولا مفتولا.   (1) يروى البيت بلفظ: من البيض لم تصطد على ظهر لأمة ... ولم تمش بين الحي بالحطب الرطب والبيت من الطويل، وهو بلا نسبة في لسان العرب (حطب) ، (حظر) ، (برعم) ، ومجمع الأمثال 1/ 179، ومقاييس اللغة 2/ 79، وأساس البلاغة (حظر) ، وتهذيب اللغة 4/ 394، 455، وجمهرة اللغة ص 1288، وتاج العروس (حطب) ، (حظر) . (2) البيت من الطويل، ولم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ويدلّك على أن المسد قد يكون من غير الليف، قول الرّاجز «1» : يا مسد الخوص تعوّذ منّي ... إن تك لدنا ليّنا فإنّي ما شئت من أشمط مقسئنّ فجعله هذا من خوص. وقال آخر «2» : ومسد أمرّ من أيانق ... لسن بأنياب ولا حقائق فجعله هذا من جلود الإبل. وأراد الله، تبارك وتعالى، بهذا الحبل السلسلة التي ذكرها، فقال: فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ [الحاقة: 32] . كذلك قال ابن عباس. فيجوز أن يكون سمّاها مسدا، وإن كانت حديدا أو نارا أو ما شاء الله أن تكون، بالضّفر والفتل. ومنه قوله سبحانه: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) [الأنبياء: 17] . قال قتادة والحسن: اللهو: المرأة: وقال ابن عباس: هو الولد. والتفسيران متقاربان، لأن امرأة الرجل لهوه، وولده لهوه ولذلك يقال: امرأة الرجل وولده ريحانتاه. وأصل اللهو: الجماع، فكنّي عنه باللهو، كما كني عنه بالسّرّ، ثم قيل للمرأة لهو لأنها تجامع. قال: امرؤ القيس «3» :   (1) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (مسد) ، (قسن) ، وتاج العروس (مسد) ، (قسن) ، وجمهرة اللغة ص 1089، 1220، وكتاب العين 5/ 79، ومقاييس اللغة 5/ 87، والمخصص 2/ 95، وتهذيب اللغة 8/ 409، 12/ 380. (2) الرجز لعمارة بن طارق في لسان العرب (حقق) ، وتاج العروس (مسد) ، (حقق) ، (نوق) ، ولعثمان بن طارق في لسان العرب (زهق) ، ولعمارة بن طارق أو لعقبة الهجيمي في التنبيه والإيضاح 2/ 53، ولسان العرب (مسد) ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 3/ 380، 12/ 380، وجمهرة اللغة ص 785، ومقاييس اللغة 5/ 323، ومجمل اللغة 4/ 328، وأساس البلاغة (مسد) . (3) البيت من الطويل، وهو في ديوان امرئ القيس ص 28، وجمهرة اللغة ص 121، وبلا نسبة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 ألا زعمت بسباسة اليوم أنّني ... كبرت وأ لا يحسن اللهو أمثالي أي النكاح. ويروى أيضا: (وأ لا يحسن السر أمثالي) «1» : أي النكاح. وتأويل الآية: أن النّصارى لما قالت في المسيح وأمّه ما قالت، قال الله جل وعز: لو أردنا أن نتّخذ لهوا، أي صاحبة وولدا، كما يقولون، لاتخذنا ذلك من لدنّا، أي من عندنا، ولم نتّخذه من عندكم لو كنّا فاعلين ذلك، لأنكم تعلمون أن ولد الرجل وزوجه يكونان عنده وبحضرته لا عند غيره. وقال الله في مثل هذا المعنى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ [الأعراف: 206] ، يعني الملائكة. ومنه قوله سبحانه: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ [النحل: 112] . وأصل الذّواق: بالفم، ثم قد يستعار فيوضع موضع الابتلاء والاختبار، تقول في الكلام: ناظر فلانا وذق ما عنده، أي تعرّف واختبر، واركب الفرس وذقه. قال الشمّاخ في وصف قوس «2» : فذاق فأعطته من اللّين جانبا ... كفى ولها أن تعرق السّهم حاجز يريد: أنه ذاق القوس بالنّزع فيها ليعلم أليّنة هي أم صلبة؟ وقال آخر «3» : وإنّ الله ذاق حلوم قيس ... فلمّا راء خفّتها قلاها   لسان العرب (لها) ، وتاج العروس (لها) . ويروى عجز البيت: كبرت وأن لا يحسن السرّ أمثالي والبيت بهذا اللفظ في ديوان الأدب 3/ 30. (1) انظر الحاشية السابقة. [ ..... ] (2) يروى عجز البيت بلفظ: لها ولها أن يغرق السهم حاجز والبيت من الطويل، وهو في ديوان الشماخ ص 190، وأساس البلاغة (ذوق) ، وتهذيب اللغة 9/ 263، وجمهرة أشعار العرب ص 832، ولسان العرب (ذوق) ، وتاج العروس (ذوق) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 2/ 365، والمخصص 6/ 47. (3) البيت من الوافر، وهو ليزيد بن الصعق في كتاب الحيوان 5/ 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وهذه الآية نزلت في أهل مكة، وكانوا آمنين بها لا يغار عليهم، مطمئنين لا ينتجعون ولا يتنقّلون، فأبدلهم الله بالأمن الخوف من سريا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبعوثه، وبالكفاية الجوع سبع سنين، حتى أكلوا القدّ والعظام. ولباس الجوع والخوف: ما ظهر عليهم من سوء آثارهما بالضّمر والشّحوب ونهكة البدن، وتغيّر الحال، وكسوف البال. وقال في موضع آخر: وَلِباسُ التَّقْوى [الأعراف: 26] ، أي ما ظهر عنه من السّكينة والإخبات والعمل الصالح، وكما تقول: تعرّفت سوء أثر الخوف والجوع على فلان، وذقت بمعنى: تعرفت واللّباس: بمعنى سوء الأثر- كذلك تقول: ذقت لباس الجوع والخوف، وأذاقني الله ذلك. ومنه قوله: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) [المرسلات: 1] يعني الملائكة، يريد: أنها متتابعة يتلو بعضها بعضا بما ترسل به من أمر الله عز وجل. وأصل هذا من عرف الفرس، لأنه سطر مستو بعضه في إثر بعض. فاستعير للقوم يتبع بعضهم بعضا. ومنه يقول الناس: هم إليه عرف واحد، إذا كثروا وتتابعوا في توجّههم إليه. ويقال: أرسلت بالعرف أي بالمعروف. ومنه قوله سبحانه: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف: 182] والاستدراج: أن يدنيهم من بأسه قليلا قليلا من حيث لا يعلمون، ولا يباغتهم ولا يجاهرهم. ومنه يقال: درجت فلانا إلى كذا وكذا، واستدرج فلانا حتى تعرف ما عنده وما صنع. يراد لا تجاهره ولا تهجم عليه بالسؤال، ولكن استخرج ما عنده قليلا قليلا. وأصل هذا من الدّرجة، وذلك أن الراقي فيها النازل منها ينزل مرقاة مرقاة، فاستعير هذا منها. ومنه قوله سبحانه: وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ [التوبة: 67] أي يمسكون عن العطية. وأصل هذا: أن المعطي بيده يمدّها ويبسطها بالعطاء، فقيل لكل من بخل ومنع: قد قبض يده. ومنه قوله: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا [المائدة: 64] أي: ممسكة. ومنه قوله: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ [يونس: 22] : أي دنوا من الهلاك. وأصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 هذا: أن العدوّ إذا أحاط بقوم أو بلد فحاصره فقد دنا أهله من الهلكة. وقال في موضع آخر: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ [الكهف: 42] . ومنه قوله: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) [الدخان: 29] تقول العرب إذا أرادت تعظيم مهلك رجل عظيم الشأن، رفيع المكان، عامّ النفع، كثير الصنائع: أظلمت الشمس له، وكسف القمر لفقده، وبكته الرّيح والبرق والسماء والأرض. يريدون المبالغة في وصف المصيبة به، وأنها قد شملت وعمّت. وليس ذلك بكذب، لأنّهم جميعا متواطئون عليه، والسّامع له يعرف مذهب القائل فيه. وهكذا يفعلون في كل ما أرادوا أن يعظّموه ويستقصوا صفته. ونيّتهم في قولهم: أظلمت الشمس، أي كادت تظلم، وكسف القمر، أي كاد يكسف. ومعنى كاد: همّ أن يفعل ولم يفعل. وربما أظهروا كاد، قال ابن مفرّغ الحميريّ يرثي رجلا «1» : الرّيح تبكي شجوه ... والبرق يلمع في غمامه وقال آخر «2» : الشّمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك، نجوم اللّيل والقمرا أراد: الشمس طالعة تبكي عليك، وليست مع طلوعها كاسفة النجوم والقمر، لأنّها مظلمة، وإنما تكسف بضوئها، فنجوم الليل بادية بالنهار. وهذا كقوله النابغة وذكر يوم حرب «3» :   (1) يروى البيت بلفظ: الريح تبكي شجوها ... والبرق يضحك في الغمامه والبيت من مجزوء الكامل، وهو لابن مفرغ في ديوانه ص 208، ولسان العرب (درك) ، وتفسير البحر المحيط 7/ 36، وأمالي المرتضى 1/ 39، 2/ 96، وشرح شواهد الشافية ص 36، والبيت بلا نسبة في الصاحبي في فقه اللغة ص 201، والأضداد لابن الأنباري ص 372. (2) البيت من البسيط، وهو لجرير في ديوانه ص 736، والأشباه والنظائر 5/ 307، وأمالي المرتضى 1/ 52، وشرح شواهد الشافية ص 26، والعقد الفريد 1/ 96، ولسان العرب (كسف) ، (بكى) ، وبلا نسبة في لسان العرب (شمس) . (3) البيت من البسيط، وهو في ديوان النابغة الذبياني ص 83، وخزانة الأدب 2/ 133، 134، والشعر والشعراء 1/ 125، والبيت بلا نسبة في رصف المباني ص 418، ولسان العرب (روح) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 تبدوا كواكبه والشمس طالعة ... لا النّور نور ولا الإظلام إظلام ونحوه قول طرفة في وصف امرأة «1» : إن تنوّله فقد تمنعه ... وتريه النّجم يجري بالظّهر يقول: تشقّ عليه حتى يظلم نهاره فيرى الكواكب ظهرا. والعامة تقول: أراني فلانّ الكواكب بالنّهار، إذا برّح به. وقال الأعشى «2» : رجعت لما رمت مستحسرا ... ترى للكواكب ظهرا وبيصا أي: رجعت كئيبا حسيرا، قد أظلم عليك نهارك، فأنت ترى الكواكب تعالي النّهار بريقا. وقد اختلف الناس في قول الله عز وجل: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ [الدخان: 29] . فذهب به قوم مذاهب العرب في قولهم: بكته الريح والبرق. كأنه يريد أنّ الله عز وجل حين أهلك فرعون وقومه وغرّقهم وأورث منازلهم وجنّاتهم غيرهم- لم يبك عليهم باك، ولم يجزع جازع، ولم يوجد لهم فقد. وقال آخرون: أراد: فما بكى عليهم أهل السماء ولا أهل الأرض. فأقام السماء والأرض مقام أهلهما، كما قال تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] ، أراد أهل القرية. وقال: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها [محمد: 4] ، أي يضع أهل الحرب السّلاح. وقال ابن عباس: لكل مؤمن باب في السماء يصعد فيه عمله، وينزل منه رزقه، فإذا مات بكى عليه الباب، وبكت عليه آثاره في الأرض ومصلّاه. والكافر لا يصعد له عمل، ولا يبكي له باب في السماء ولا أثره في الأرض. ومن هذا الباب قول الله عز وجل: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ [القلم: 51] يريد أنهم ينظرون إليك بالعداوة نظرا شديدا يكاد يزلقك من شدّته، أي يسقطك.   (1) البيت من الرمل، وهو في ديوان طرفة بن العبد ص 52، وتهذيب اللغة 10/ 403، 15/ 371، ومجمل اللغة 8/ 332، وأساس البلاغة (نول) ، وتاج العروس (نول) ، وفيه: «في الظهر» بدل: «بالظهر» . والبيت بلا نسبة في لسان العرب (نول) . (2) البيت من المتقارب، وهو في ديوان الأعشى ص 255. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ومثله قول الشاعر «1» : يتقارضون إذا التقوا في موطن ... نظرا يزيل مواطىء الأقدام أي ينظر بعضهم إلى بعض نظرا شديدا بالعداوة والبغضاء، يزيل الأقدام عن مواطئها. فتفهّم قول الله عز وجل: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ أي يقاربون أن يفعلوا ذلك، ولم يفعلوا. وتفهّم قول الشاعر: (نظرا يزيل) ولم يقل: يكاد يزيل، لأنه نواها في نفسه. وكذلك قول الله عز وجل: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) [مريم: 90] إعظاما لقولهم. وقوله جل وعز: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ [إبراهيم: 46] . إكبارا لمكرهم. وقرأها بعضهم: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ [إبراهيم: 46] . وأكثر ما في القرآن من مثل هذا فإنه يأتي بكاد، فما لم يأت بكاد ففيه إضمارها، كقوله: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الأحزاب: 10] ، وأي كادت من شدّة الخوف تبلغ الحلوق:. وقد يجوز أن يكون أراد: أنها ترجف من شدّة الفزع وتجف ويتصل وجيفها «2» بالحلوق، فكأنها بلغت الحلوق بالوجيب. وهم يصفون القلوب بالخفقان، والنّزو عند المخافة والذّعر. قال الشاعر في وصف مفازة تنزو من مخافتها قلوب الأدلّاء «3» : كأنّ قلوب أدلّائها ... معلّقة بقرون الظّباء وهذا مثل قوله امرئ القيس «4» :   (1) البيت من الكامل، وهو بلا نسبة في لسان العرب (قرض) ، (زلق) ، وتاج العروس (قرض) ، (زلق) ، وتهذيب اللغة 8/ 342، 432، ومقاييس اللغة 3/ 21، وتفسير غريب القرآن ص 482، وكتاب الصناعتين ص 281، والبيان والتبيين 1/ 11، وتفسير القرطبي 2/ 256، وتفسير البحر المحيط 2/ 317. (2) الوجيف: الاضطراب والخفق. (3) البيت من المتقارب، وهو للمرار الفقعسي في تأويل مختلف الحديث ص 448، والحماسة البصرية 2/ 362، وبلا نسبة في أمالي المرتضى 2/ 9، وأساس البلاغة (عفر) . (4) يروى صدر البيت بلفظ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 ولا مثل يوم في قدار ظللته ... كأنّي وأصحابي على قرن أعفرا أي كأنّا من القلق على قرن ظبي، فنحن لا نستقر ولا نسكن. وكان بعض أهل اللغة يأخذ على الشعراء أشياء من هذا الفنّ، وينسبها فيه إلى الإفراط وتجاوز المقدار. وما أرى ذلك إلا جائزا حسنا على ما بيّنّاه من مذاهبهم.. كقول النابغة في وصف سيوف «1» : تقدّ السّلوقيّ المضاعف نسجه ... وتوقد بالصّفاح نار الحباحب ذكر أنها تقطع الدّروع التي هذه حالها، والفارس حتى تبلغ الأرض فتورى النار إذا أصابت الحجارة. وقول النّمر بن تولب في صفة سيف «2» : تظلّ تحفر عنه إن ضربت به ... بعد الذراعين والسّاقين والهادي يقول: رسب في الأرض بعد أن قطع ما ذكر، واحتاج أن يحفر عنه ليستخرجه من الأرض. ومثله قوله مهلهل «3» : ولولا الرّيح أسمع أهل حجر ... صليل البيض تقرع بالذّكور   ولا مثل يوم في قذاران ظلته والبيت من الطويل، وهو في ديوان امرئ القيس ص 70، ولسان العرب (عفر) ، وتهذيب اللغة 2/ 354، وتاج العروس (عدد) ، وفيه: «عندرا» ، بدل: «أعفرا» ، (عفر) ، (قدر) ، (حمل) ، وأساس البلاغة (عفر) ، والبيت بلا نسبة في مجمل اللغة 3/ 385. (1) البيت من الطويل، وهو في ديوان النابغة الذبياني ص 46، ولسان العرب (حجب) ، (صفح) ، (سلق) ، ومقاييس اللغة 2/ 28، 3/ 293، والتنبيه والإيضاح 1/ 58، ومجمل اللغة 2/ 28، وكتاب العين 5/ 77، وتهذيب اللغة 4/ 257، 8/ 404، وجمهرة اللغة ص 174، وبلا نسبة في كتاب العين 3/ 12، وجمهرة اللغة ص 851، وتاج العروس (حبب) ، (صفح) ، (سلق) . (2) البيت من البسيط، وهو للنمر بن تولب في الشعر والشعراء 1/ 270، والوساطة ص 435، ونقد الشعر ص 18، والعمدة 2/ 58، وكتاب الصناعتين ص 283، والموشح ص 78، والأغاني 19/ 162، وإعجاز القرآن ص 77، وديوان المعاني 2/ 51. [ ..... ] (3) البيت من الوافر، وهو للمهلهل في أمالي القالي 2/ 134، وأمالي اليزيدي ص 12، والكامل 1/ 350، والعمدة 2/ 59، والعقد الفريد 5/ 20، والوساطة ص 435، والشعر والشعراء 1/ 256، والحيوان 6/ 418، والأغاني 4/ 147، ومعجم الشعراء ص 331، والبيان والتبيين 1/ 124، والموشح ص 74، ونقد الشعر ص 84، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي 1/ 185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وقال قيس بن الخطيم يصف طعنة «1» : ملكت بها كفّي فأنهرت فتقها ... يرى قائم من دونها ما وراءها وقال أيضا «2» : لو أنّك تلقي حنظلا فوق بيضنا ... تدحرج عن ذي سامة المتقارب يقول: تراصّ القوم في القتال حتى لو أن ملقيا ألقى على بيضهم حنظلا لجرى عليها كما يجري على الأرض ولم يسقط لشدّة تراصفهم. و (عن) بمعنى (على) . وذو سامه: بيضه المذهب. والسّام: عروق الذّهب. وقول عنترة «3» : وأنا المنيّة في المواطن كلها ... والطّعن منّي سابق الآجال وقال بشار «4» : إذا ما غضبنا غضبة مضريّة ... هتكنا حجاب الشّمس أو قطرت دما وقال طريح الثقفي «5» : لو قلت للسّيل: دع طريقك وال ... موج عليه بالهضب يعتلج   (1) البيت من الطويل، وهو في ديوان قيس بن الخطيم ص 46، وديوان الأدب 2/ 301، وتهذيب اللغة 6/ 277، 10/ 271، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 184، وشرح ديوان الحماسة للخطيب التبريزي 1/ 95، ولباب الأدب ص 184، والأغاني 3/ 5، وتاج العروس (نهر) ، (ملك) ، والمعاني الكبير ص 978، 983، 1062، 1080، ولسان العرب (نهر) ، (ملك) ، والبيت بلا نسبة في المخصص 3/ 133، 4/ 19، 6/ 89، 10/ 30، 17/ 157. (2) البيت من الطويل، وهو لقيس بن الخطيم في ديوانه ص 86، وأدب الكاتب ص 513، ولسان العرب (سوم) ، وبلا نسبة في الاشتقاق ص 109، ومجالس ثعلب ص 184. (3) البيت من الكامل، وهو في ديوان عنترة ص 106 (طبعة دار الكتب العلمية) ، والوساطة ص 434. (4) البيت من الطويل، وهو لبشار بن برد في ديوانه 4/ 163، والأغاني 3/ 156، والعمدة ص 253، والمختار من شعر بشار ص 163، والأزمنة والأمكنة 2/ 35، والشعر والشعراء 2/ 736، والموشح ص 248، والحيوان 6/ 112، وللغنوي في لسان العرب (حجب) ، وتهذيب اللغة 4/ 163، وللقحيف بن عمير العقيلي في لسان العرب (غشم) ، وتاج العروس (حجب) ، ويروى: «أو مطرت دما» ، بدل: «أو قطرت دما» . (5) البيتان من المنسرح، وهما لطريح بن إسماعيل الثقفي في ديوانه ص 406، ولسان العرب (ولج) ، والشعر والشعراء 2/ 660، والأغاني 4/ 80، 81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 لارتدّ أوساخ أو لكان له ... في سائر الأرض عنك منعرج وقال ابن ميّادة «1» : ولو أنّ قيسا قيس عيلان أقسمت ... على الشّمس لم تطلع عليك حجابها وقال الطرمّاح «2» : ولو أنّ حرقوصا على ظهر قملة ... يكرّ على صفّي تميم لولّت وقال آخر بذكر حديث امرأة «3» : حديث لو أنّ اللّحم يصلى بحرّه ... غريضا أتى أصحابه وهو منضج وقال أبو النجم يذكر سيلا «4» : كأنّ فوق الأكم من غثائه ... قطائف الشّام على عبائه والشّيح يهديه إلى طحمائه يقول: صار الجبل والسهل واحدا، وصار الغثاء على رؤوس الأكم. والطّحماء: شجر ينبت في الجبال. والشّيح ينبت في السّهول، فأراد أنّه حمل نبت السهل إلى الجبل. وقال وذكر ظليما يعدو ويطير «5» : هاو تضلّ الطّير في خوائه والخواء: ما بين قوائمه وبطنه، وبين الأرض إذا عدا وطار. يريد أن الطير يطير بينه وبين الأرض حتى يضلّ. وقد يروى «6» :   (1) البيت من الطويل، وهو لابن ميادة في ديوانه ص 78، والأغاني 2/ 117. (2) البيت من الطويل، وهو في ديوان الطرماح ص 132- 133، والمعاني الكبير 2/ 680، والشعر والشعراء 2/ 568، وكتاب الصناعتين ص 284، وحماسة ابن الشجري ص 126، وكتاب الحيوان 6/ 454. (3) البيت من الطويل، وهو لجران العود في عيون الأخبار 4/ 82، وليس في ديوانه، ولأم الضحاك المحاربية في أمالي القالي 2/ 76، وزهر الآداب 4/ 88. (4) الرجز في كتاب الحيوان 3/ 389، ورواية الشطر الأخير فيه: والشيخ تهديه إلى طحمائه. (5) انظر الحاشية السابقة. (6) ويروى الرجز أيضا بلفظ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 تضلّ الرّيح في خوائه وقال الكميت وذكر الرّياح «1» : ترامى بكذّان الإكام ومروها ... ترامي ولدان الأصارم بالخشل أراد أن الرياح ترامى بالحجارة الكبار، كما يترامى الصّبيان بنوى المقل. وقال آخر «2» : زعمت غدانة أنّ فيها سيّدا ... ضخما يوازنه جناح الجندب يرويه ما يروي الذّباب فيتتشي ... سكرا وتشبعه كراع الأرنب هذه الأبيات التي ذكرناها ومثلها في الشعر كثير. والعرب تقول: له الطّمّ والرّمّ، إذا أرادوا تكثير ماله. والطمّ: البحر، والرّم: الثرى. وهذا لا يملكه إلا الله تعالى. ويقولون: (فلان دون نائله العيّوق) ويقولون: (له الضّحّ والرّيح) يريدون ما طلعت عليه الشمس، وجرت عليه الرّيح. ويقولون: (فلان يثير الكلاب عن مرابضها) يريدون أنه لشرهه ولؤمه- يثيرها عن مواضعها، يطلب تحتها شيئا فاضلا من طعمها ليأكله. وهذا ما لا يفعله بشر. وقال الشاعر «3» : تركوا جارهم يأكله ... ضبع الوادي ويرميه الشّجر والشجر لا يرمي أحدا.   يبدو خواء الأرض من خوائه وهو لأبي النجم العجلي في لسان العرب (خوا) ، وتهذيب اللغة 7/ 616، وأساس البلاغة (خوي) وتاج العروس (سلع) ، (خوي) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 232، 363، 1057. (1) البيت من الطويل، وهو في ديوان الكميت 2/ 97، وفيه: «بالخشل» بسكون اللام، بدل: «بالخشل» بكسر اللام. ولسان العرب (كذذ) ، وتاج العروس (كذذ) . [ ..... ] (2) يروى عجز البيت الأول بلفظ: ضخما يواريه جناح جندب والبيتان من الكامل، وهما للأبيرد الرياحي في ديوانه ص 273، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 3/ 10، والأغاني 13/ 142، والحيوان 6/ 351، وثمار القلوب ص 325. (3) البيت من الرمل، وهو بلا نسبة في كتاب الحيوان 6/ 561. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وهذا كله على المبالغة في الوصف، وينوون في جميعه يكاد يفعل، وكلهم يعلم المراد به. وقال آخر «1» : إذا رأيت أنجما من الأسد ... جبهته أو الخراة والكتد بال سهيل في الفضيخ ففسد ... وطاب ألبان اللّقاح فبرد وهذا وقت يذهب فيه الفضيخ، لأنّه يكون من البسر، والبسر يصير عند طلوع هذه الأنجم رطبا، فلما كان فساده عن طلوع سهيل، وكان الشراب يفسد بأن يبال فيه- جعل سهيلا كأنه بال فيه لمّا أفسده وقت طلوعه. وقال دكين «2» : وقد تعاللت ذميل العنس ... بالسّوط في ديمومة كالتّرس إذ عرّج الليل بروح الشمس فجعل الشمس روحا عرّج بها الليل. والأصل في هذا كله: أن كلّ حيوان يموت تقبض روحه، فلما أبطل الليل الشمس جعله كأنه قبض لها روحا. وقال ذو الرّمّة يصف إبلا في مسيرها «3» : إذا اغتبطت نجما فغار تسخّرت ... علالة نجم آخر الليل طالع يقول: تهتدي بكوكب طلع أوّل الليل، حتى إذا غاب اهتدت بكوكب آخر طالع في السّحر، ولم يردها، وإنما أراد ركبانها فجعلها تغتبق النّجم، وتتسحّر بالنّجم.   (1) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (خرت) ، (فضخ) ، (كتد) ، (بول) ، (جبه) ، وتهذيب اللغة 6/ 66، وتاج العروس (خرت) ، (فضخ) ، (كتد) ، (جبه) . (2) الشطران الأولان من الرجز لمنظور بن مرثد في مقاييس اللغة 4/ 13، وبلا نسبة في تاج العروس (علل) ، وأساس البلاغة (علل) ، وديوان الأدب 3/ 190، ولسان العرب (علل) . ويروى الشطر الثالث مع شطر آخر بلفظ: في أفق ورد كلون الورسي ... وعرّج الليل بروج الشمس والرجز لمنظور بن مرثد الأسدي في المؤتلف والمختلف ص 104، ولدكين بن رجاء الفقيمي في الحيوان 3/ 74، وله أو لأبي محمد الفقعسي في الحيوان 3/ 363، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 4/ 304، وكتاب الجيم 1/ 263، 2/ 324. (3) البيت من الطويل، وهو في ديوان ذي الرمة ص 371، وفيه: «إذا اغتبقت» بدل: «إذا اغتبطت» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وقال مزرّد «1» : ولو أنّ شيخا ذا بنين كأنّما ... على رأسه من شامل الشّيب قونس تبيّت فيه العنكبوت بناتها ... نواشىء حتّى شبن أو هنّ عنّس وإنما أراد طول مكث العناكب في رأسه، فجعلهنّ قد شبن وعنّسن. وأصل هذا: أنّ المرأة إذا طال مكثها في بيت أبيها لا تزوّج عنّست وشابت، فاستعار الشيب والتّعنيس مثلا لطول مكث العناكب. وقال المسيّب بن علس «2» : دعا شجر الأرض داعيهم ... لينصره السّدر والأثأب أراد أنه دعا عليهم الخلق يستنصرهم، فضرب الشجر مثلا لكثرة الناس والعوام تقول: جاءنا بالشّوك والشجر. إذا جاء في جيش عظيم. ومنه قوله سبحانه: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً [يوسف: 31] أي طعاما، يقال: اتّكأنا عند فلان، أي طعمنا. وقال جميل «3» : فظللنا بنعمة واتّكأنا ... وشربنا الحلال من قلله والأصل: أن من دعوته ليطعم أعددت له التكأة للمقام والطمأنينة فسمّى الطعام متّكئا على الاستعارة. ومنه قوله تعالى: ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها [هود: 56] أي يقهرها ويذلّها بالملك والسّلطان. وأصل هذا: أن من أخذت بناصيته فقد قهرته وأذللته، ومنه قيل في الدعاء: ناصيتي بيدك. أي أنت مالك لي وقاهر. ومنه قوله عز وجل: إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً [آل عمران: 75] أي مواظبا بالاقتضاء والمطالبة. وأصله أن المطالب بالشيء يقوم فيه ويتصرّف، والتارك له يقعد عنه.   (1) البيتان من الطويل، وهما لمزرد بن ضرار في كتاب الحيوان 5/ 219، والمعاني الكبير ص 625. (2) البيت من المتقارب، وهو في ديوان المسيب بن علس ص 602، والعمدة 1/ 280. (3) البيت من الخفيف، وهو لجميل بن معمر (جميل بثينة) في ديوانه ص 189، ولسان العرب (قلل) ، وأساس البلاغة (قلل) ، (وكأ) ، والأغاني 8/ 94، وخزانة الأدب 2/ 24، وشرح شواهد المغني 1/ 366، والمعاني الكبير ص 457، وتاج العروس (قلل) ، وبلا نسبة في الأزمنة والأمكنة للمرزوقي 1/ 305. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 قال الأعشى «1» : يقوم على الوغم في قومه ... فيعفو إذا شاء أو ينتقم أي يطالب بالذّحل «2» ولا يقعد عنه. وقال: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ [آل عمران: 113] أي عاملة غير تاركة. وقال: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الرعد: 33] أي آخذ لها بما كسبت. ومنه قوله تعالى حكاية عن المنافقين: وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ [التوبة: 61] أي يقبل كلّ ما بلغه. والأصل: أن الأذن هي السامعة، فقيل لكل من صدّق بكلّ خبر يسمعه: أذن، ومنه يقال: آذنتك بالأمر فأذنت، كما تقول: أعلمتك فعلمت، إنما هو أوقعته في أذنك. يقول الله عزّ وجلّ: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة: 279] أي اعلموا، ومن قرأها (فآذنوا) أراد فأعلموا. ومنه ما قالت الشعراء «3» : آذنتنا ببينها أسماء ومنه الأذان إنما هو إعلام الناس وقت الصلاة. وقوله: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة: 3] أي إعلام. وكان المنافقون يقولون: إن محمدا أذن فقولوا ما شئتم، فإنا متى أتيناه فاعتذرنا إليه صدّقّنا. فأنزل الله تبارك وتعالى: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ [التوبة: 61] أي كان الأمر   (1) البيت من المتقارب، وهو في ديوان الأعشى ص 89، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 6/ 127. (2) الذّحل: الثأر، أو طلب المكافأة بجناية جنيت عليه من قتل أو جرح أو نحو ذلك. (3) عجزه: ربّ ثاو يملّ منه الثواء والبيت من الخفيف، وهو للحارث بن حلزة في ديوانه ص 19، والأغاني 11/ 36، وإنباه الرواة 3/ 94، وتخليص الشواهد ص 472، وخزانة الأدب 3/ 181، 182، 415، وزهر الآداب 1/ 561، وشرح شواهد الشافية ص 244، وشرح القصائد السبع ص 432، 433، وشرح القصائد العشر ص 370، وشرح المعلقات السبع ص 216، وشرح المعلقات العشر ص 119، والشعر والشعراء 1/ 203، وطبقات فحول الشعراء 1/ 151، والعقد الفريد 5/ 270، والعمدة 1/ 114، ولسان العرب (أذن) ، (قفا) ، (قوا) ، ومعاهد التنصيص 1/ 310، والمقاصد النحوية 2/ 445، وبلا نسبة في الخصائص 1/ 341، وشرح شافية ابن الحاجب 2/ 317. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 كما تذكرون، ولكنه إنّما يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 61] أي يصدّق الله ويصدّق المؤمنين، لا أنتم، (والباء) و (اللام) زائدتان. ومنه قوله: فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ [الأحزاب: 23] أي قتل والنّحب: النّذر. وأصل هذا: أنّ رجالا من أصحاب رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، نذروا إن لقوا العدوّ ليصدقنّ القتال أو ليقتلنّ، هذا أو نحوه، فقتلوا، فقيل لمن قتل: قضى نحبه. واستعير النّحب مكان الأجل، لأن الأجل وقع بالنّحب وكان النّحب له سببا. ومنه قيل للعطية: المنّ، لأنّ من أعطى فقد منّ. قال الله تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) [المدثر: 6] أي لا تعط لتأخذ أكثر مما أعطيت. وقال: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ [ص: 39] ، أي فأعط أو أمسك. وقوله: بِغَيْرِ حِسابٍ [ص: 39] مردود إلى قوله: هذا عَطاؤُنا بغير حساب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 باب المقلوب ومن المقلوب: أن يوصف الشيء بضدّ صفته للتطيّر والتفاؤل، كقولهم للّديغ: سليم، تطيّرا من السّقم، وتفاؤلا بالسّلامة. وللعطشان: ناهل أي سينهل. يعنون: يروى. وللفلاة: مفازة. أي منجاة، وهي مهلكة. وللمبالغة في الوصف، كقولهم للشمس: جونة، لشدّة ضوئها. وللغراب: أعور، لحدّة بصره. وللاستهزاء، كقولهم للحبشيّ: أبو البيضاء. وللأبيض: أبو الجون. ومن هذا قول قوم شعيب: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود: 87] . كما تقول للرجل تستجهله: يا عاقل، وتستخفه: يا حليم. قال الشاعر «1» : فقلت لسيّدنا: يا حلي ... م إنّك لم تأس أسوا رفيقا قال قتادة: ومن الاستهزاء قول الله تعالى: فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) [الأنبياء: 12، 13] . وفي قول عبيد بن الأبرص لكندة- طرف من هذا المعنى «2» : هلا سألت جموع كن ... دة يوم ولّوا: أين أينا؟ يستهزىء بهم حين انهزموا، يريد أين تذهبون؟ ارجعوا.   (1) يروى البيت بلفظ: قلت لسيدنا يا حكي ... م إنّك لم تأس أسوا رفيقا والبيت من المتقارب، وهو لشتيم بن خويلد في لسان العرب (خفق) ، وكتاب الحيوان 3/ 82، 5/ 517، وبلا نسبة في كتاب الأضداد ص 325، والصاحبي في فقه اللغة ص 214. (2) البيت من مجزوء الكامل، وهو في ديوان عبيد بن الأبرص ص 142، ومختارات ابن الشجري 2/ 39، والشعر والشعراء 1/ 224، والأغاني 19/ 85، وبلا نسبة في كتاب الصناعتين ص 144، وإعجاز القرآن ص 94، ومعاني القرآن للفراء 1/ 177. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وأما قول الله سبحانه: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) [الدخان: 49] . فبعض الناس يذهب به هذا المذهب، أي أنت الذليل المهان. وبعضهم يريد: أنت العزيز الكريم عند نفسك. وهو معنى تفسير ابن عباس لأن أبا جهل قال: ما بين جبليها أعزّ مني ولا أكرم، فقيل له: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) [الدخان: 49] . ومن ذلك أن يسمّى المتضادّان باسم واحد، والأصل واحد. فيقال للصبح: صريم، ولليل: صريم. قال الله سبحانه: فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) [القلم: 20] ، أي سوداء كالليل، لأنّ الليل ينصرم عن النّهار، والنهار ينصرم عن الليل. وللظّلمة: سدفة. وللضوء: سدفة. وأصل السّدفة: السّترة، فكأن الظلام إذا أقبل ستر للضّوء، والضوء إذا أقبل ستر للظلام. وللمستغيث: صارخ. وللمغيث: صارخ، لأن المستغيث يصرخ في استغاثته، والمغيث يصرخ في إجابته. ولليقين: ظنّ، لأنّ في الظن طرفا من اليقين. قال الله عز وجل: قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ [البقرة: 249] ، أي يستيقنون. وكذلك: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) [الحاقة: 20] ، وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها [الكهف: 53] ، وإِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ [البقرة: 230] ، هذا كلّه في معنى (اليقين) . قال دريد بن الصّمة «1» : فقلت لهم: ظنّوا بألفي مدجّح ... سراتهم في الفارسيّ المسرّد أي تيقنوا بإتيانهم إيّاكم. وكذلك جعلوا (عسى) شكّا ويقينا، (ولعلّ) شكّا ويقينا. كقوله: فِجاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [الأنبياء: 31] ، أي ليهتدوا.   (1) البيت من الطويل، وهو في ديوان دريد بن الصمة ص 47، ولسان العرب (ظنن) ، والأصمعيات ص 112، وجمهرة أشعار العرب ص 117، وما اتفق لفظه واختلف معناه للمبرد ص 9، والأضداد لابن الأنباري ص 12، والأغاني 9/ 4، وتفسير الطبري 1/ 256، وتفسير البحر المحيط 1/ 185، وشرح ديوان الحماسة للتبريزي 2/ 305، والبيت بلا نسبة في تفسير الطبري 25/ 83، وتفسير البحر المحيط 2/ 88، وأسرار العربية ص 156، وشرح المفصل 7/ 81، والمحتسب 2/ 342، ومجالس ثعلب ص 199. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وللمشتري: شار، وللبائع: شار، لأنّ كلّ واحد منهما اشترى. وكذلك قولهم لكل واحد منهما: (بائع) لأنه باع وأخذ عوضا مما دفع، فهو (شار) و (بائع) . قال الله عز وجل: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ [يوسف: 20] ، أي باعوه. وقال: وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ [البقرة: 102] . وقال ابن مفرّغ «1» : وشريت بردا ليتني ... من بعد برد كنت هامه (وبرد) : غلام كان له فباعه وندم على بيعه. و (وراء) تكون بمعنى (خلف) وبمعنى (قدّام) . ومنها المواراة والتّواري. فكلّ ما غاب عن عينك فهو وراء، كان قدّامك أو خلفك. قال الله عز وجل: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الكهف: 79] ، أي أمامهم. وقال: مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ [الجاثية: 10] ، أي أمامهم. وقال: وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم: 17] . وقالوا للكبير: (جلل) ، وللصغير: (جلل) ، لأنّ الصغير قد يكون كبيرا عند ما هو أصغر منه، والكبير يكون صغيرا عند ما هو أكبر منه، فكلّ واحد منهما صغير كبير. ولهذا جعلت (بعض) بمعنى (كلّ) ، لأنّ الشيء يكون كلّه بعضا لشيء، فهو بعض وكلّ. وقال عز وجل: وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ [الزخرف: 63] (وكلّ) بمعنى (بعض) ، كقوله: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل: 23] ، ويَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ [النحل: 112] ، وقال: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها [الأحقاف: 25] . وجعلت (فوق) بمعنى (دون) في قول الله عز وجل:   (1) البيت من مجزوء الكامل، وهو في ديوان يزيد بن مفرغ ص 213، ولسان العرب (برد) ، (شرى) ، والشعر والشعراء 1/ 321، والأغاني 17/ 55، ومجاز القرآن 1/ 48، 304، وأمالي المرتضى 2/ 95- 96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها [البقرة: 26] ، أي فما دونها، لأن (فوق) قد تكون (دون) عند ما هو فوقها، و (دون) قد تكون (فوق) عند ما هو دونها. و (خشيت) بمعنى: (علمت) . قال عز وجل: فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً [الكهف: 80] ، أي علمنا. وفي قراءة أبيّ: فخاف ربك. ومثله: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ [البقرة: 229] . وقوله: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً [البقرة: 182] ، أي علم. وقوله: وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ [الأنعام: 51] ، لأنّ في الخشية والمخافة طرفا من العلم. و (رجوت) بمعنى: (خفت) . قال الله سبحانه: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) [نوح: 13] ، أي: لا تخافون لله عظمته، لأن الرّاجي ليس بمستيقن، ومعه طرف من المخافة. قال الهذلي «1» : إذا لسعته النّحل لم يرج لسعها ... وحالفها في بيت نوب عوامل أي: لم يخفها. و (يئست) بمعنى: (علمت) من قول الله تعالى: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً [الرعد: 31] ، لأنّ في علمك الشيء وتيقّنك له يأسك من غيره. قال لبيد «2» :   (1) البيت من الطويل، وهو لأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص 144، وتهذيب اللغة 11/ 182، والمخصص 8/ 178، 17/ 11، وتاج العروس (نوب) ، (حلف) ، وكتاب الجيم 2/ 41، وأساس البلاغة (نوب) ، ومجاز القرآن 2/ 73، والخزانة 2/ 492، وما اتفق لفظه واختلف معناه للمبرد ص 7، والأضداد لابن الأنباري ص 9، والأضداد لابن السكيت ص 179، والمقصور والممدود لابن ولاد ص 45، وإصلاح المنطق ص 142، وتفسير الطبري 25/ 83، ومجمع البيان 1/ 313، والمخصص 8/ 178، ومقاييس اللغة 2/ 495. (2) البيت من الكامل، وهو للبيد في ديوانه ص 311، ولسان العرب (قفل) ، (عصم) ، (دجن) ، وتهذيب اللغة 2/ 57، ومقاييس اللغة 4/ 333، وديوان الأدب 2/ 180، وكتاب الجيم 2/ 339، وتاج العروس (قفل) ، (عصم) ، (دجن) ، (منن) ، وبلا نسبة في لسان العرب (منن) ، والمخصص 8/ 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 حتّى إذا يئس الرّماة فأرسلوا ... غضفا دواجن قافلا أعصامها أي: علموا ما ظهر لهم فيئسوا من غيره. وقال آخر «1» : أقول لهم بالشّعب إذ يأسرونني ... : ألم تيئسوا أنّي ابن فارس زهدم أي: ألم تعلموا. ومن المقلوب: أن يقدّم ما يوضّحه التأخير، ويؤخّر ما يوضحه التقديم. كقول الله تعالى: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ [إبراهيم: 47] ، أي مخلف رسله وعده، لأنّ الإخلاف قد يقع بالوعد كما يقع بالرّسل، فتقول: أخلفت الوعد، وأخلفت الرّسل، وكذلك قوله سبحانه: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ (77) [الشعراء: 77] أي: فإنّي عدوّ لهم، لأنّ كل من عاديته عاداك. وكذلك قوله: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) [النجم: 8] أي: تدلى فدنا، لأنّه تدلّى للدّنوّ، ودنا بالتّدلّي. ومنه قوله سبحانه: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) [القيامة: 14] أي: بل على الإنسان من نفسه بصيرة. يريد شهادة جوارحه عليه، لأنها منه، فأقامه مقامها. قال الشاعر «2» : ترى الثّور فيها مدخل الظلّ رأسه ... وسائره باد إلى الشمس أجمع أراد (مدخل رأسه الظلّ) فقلب، لأن الظلّ التبس برأسه فصار كل واحد منهما داخلا في صاحبه. والعرب تقول: (اعرض النّاقة على الحوض) تريد: اعرض الحوض على الناقة، لأنك إذا أوردتها الحوض: اعترضت بكل واحد صاحبه.   (1) البيت من الطويل، وهو لسحيم بن وثيل اليربوعي في لسان العرب (يسر) ، (يأس) ، (زهدم) ، والتنبيه والإيضاح 2/ 310، وتهذيب اللغة 13/ 60، 142، وتاج العروس (يسر) ، (يئس) ، (زهدم) ، (لزم) ، وديوان الأدب 4/ 216، وأساس البلاغة (يئس) ، والبرهان 1/ 100، ومجاز القرآن 1/ 332، وتفسير الطبري 13/ 103، والبيت بلا نسبة في مقاييس اللغة 6/ 154، وديوان الأدب 3/ 258، والمخصص 13/ 20، والمعاني الكبير 2/ 1148، والميسر والقداح ص 33. (2) البيت من الطويل، وهو بلا نسبة في أمالي المرتضى 1/ 216، وخزانة الأدب 4/ 335، والدرر 6/ 37، والكتاب 1/ 181، وهمع الهوامع 2/ 132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وقال الحطيئة «1» : فلما خشيت الهون والعير ممسك ... على رغمه ما أمسك الحبل حافره وكان الوجه أن يقول: (ما أمسك حافره الحبل) فقلب، لأنّ ما أمسكته فقد أمسكك، والحافر ممسك للحبل لا يفارقه ما دام به مربوطا، والحبل ممسك للحافر. وقال الأخطل «2» : على العيارات هدّاجون قد بلغت ... نجران أو بلغت سوآتهم هجر وكان الوجه أن يقول: (سوآتهم- بالرفع- نجران وهجر) فقلب، لأن ما بلغته فقد بلغك. قال الله تعالى: وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ [آل عمران: 40] أي بلغته. وقال آخر «3» : قد سالم الحيات منه القدما ... الأفعوان والشجاع الشّجعما (فنصب) الأفعوان والشجاع، وكان الوجه أن يرفعهما، لأن ما حالفته فقد حالفك، فهما فاعلان ومفعولان. وقال الشمّاخ يذكر أباه «4» : منه ولدت ولم يؤشب به حسبي ... لمّا، كما عصب العلباء بالعود وكان الوجه أن يقول: (كما عصب العود بالعلباء) فقلب، لأنك قد تقول: عصبت العباء على العود، كما تقول: عصبت العود بالعلباء.   (1) البيت من الطويل، وهو في ديوان الحطيئة ص 10، وتفسير الطبري 14/ 84. (2) البيت من الطويل، وهو في ديوان الأخطل ص 110، وما اتفق لفظه واختلف معناه للمبرد ص 38، ولسان العرب (حفر) ، وأمالي ابن الشجري 1/ 330، والوساطة ص 482، وشرح شواهد المغني ص 328، والبيت بلا نسبة في أمالي المرتضى 2/ 116. (3) الرجز لمساور بن هند العبسي في لسان العرب (ضمز) ، (ضرزم) ، ولمساور بن هند العبسي أو لأبي حيان الفقعسي في التنبيه والإيضاح 2/ 244، وللدبيري أو لعبيد بن علس في تاج العروس (خرزم) ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 1/ 331، 3/ 311، وجمهرة اللغة ص 1139، والمخصص 16/ 106، وتاج العروس (شجعم) . (4) البيت من البسيط وهو في ديوان الشماخ بن ضرار ص 120، والأزهية ص 198، والمعاني الكبير 1/ 553، والوساطة ص 482، والبيت بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 367، والمنصف 3/ 81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 وقال ذو الرّمّة «1» : وتكسو المجنّ الرّخو خصرا كأنه ... إهان ذوى عن صفرة فهو أخلق وكان الوجه أن يقول: (وتكسو الخصر مجنا) فقلب، لأنّ كسوت يقع على الثوب، وعلى الخصر، وعلى القميص ولابسه، تقول: كسوت الثوب عبد الله، وكسوت عبد الله الثوب. وقال أبو النّجم «2» : قبل دنوّ الأفق من جوزائه وكان الوجه أن يقول: (قبل دنوّ الجوزاء من الأفق) فقلب، لأن كل شيء دنا منك فقد دنوت منه. وقال الرّاعي يصف ثورا «3» : فصبّحته كلاب الغوث يوسدها ... مستوضحون يرون العين كالأثر وكان الوجه أن يقول: (يرون الأثر كالعين) لعلمهم بالصيد وآثاره فقلب، لأنهم إذا رأوا الأثر كالعين، فقد رأوا العين كالأثر. وقال النابغة «4» : وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي ... على وعل في ذي المطارة عاقل وكان الوجه أن يقول: (حتى ما تزيد مخافة وعل على مخافتي) فقلب، لأن المخافتين استوتا.   (1) يروى صدر البيت بلفظ: وتكسو الوشاح الرّخو خصرا كأنّه والبيت من الطويل، وهو في ديوان ذي الرمة ص 463، وبلا نسبة في المخصص 4/ 98. (2) الرجز لأبي النجم في أمالي المرتضى 1/ 156، وسر الفصاحة ص 108، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 1/ 115. (3) البيت من الطويل، وهو للراعي النميري في المعاني الكبير 2/ 742، وأمالي المرتضى 1/ 156. (4) البيت من الطويل، وهو في ديوان النابغة الذبياني ص 144، وأمالي المرتضى 1/ 202، ومعجم ما استعجم ص 1026، وأمالي ابن الشجري 1/ 191، ومجمع البيان 1/ 262، 255، ومجاز القرآن 1/ 65، وما اتفق لفظه واختلف معناه للمبرد ص 32، والبيت بلا نسبة في أمالي المرتضى 1/ 216، والإنصاف 1/ 372، ولسان العرب (خوف) ، ومجالس ثعلب ص 618، والمقتضب 3/ 231، ومعاني القرآن للفراء 1/ 99، والأضداد ص 328. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وقال رؤبة بن العجّاج «1» : ومهمه مغبرّة أرجاؤه ... كأنّ لون أرضه سماؤه وكان الوجه أن يقول: (كأن لون سمائه من غبرتها لون أرضه) فقلب، لأن اللونين استويا. وقال الآخر «2» : وصار الجمر مثل ترابها أي صار ترابها مثل الجمر. وقال عز وجل: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء: 37] أي خلق العجل من الإنسان، يعني العجلة. كذلك قال أبو عبيدة. ومن المقلوب ما قلب على الغلط: كقول خداش بن زهير «3» : وتركب خيل لا هوادة بينها ... وتعصى الرّماح بالضّياطرة الحمر   (1) يروى الشطر الأول من الرجز بلفظ: وبلد مغبرة أرجاؤه والرجز لرؤبة بن العجاج في ديوانه ص 3، والأشباه والنظائر 2/ 296، وخزانة الأدب 6/ 458، وشرح التصريح 2/ 339، وشرح شواهد المغني 2/ 971، ولسان العرب (عمى) ، ومعاهد التنصيص 1/ 178، ومغني اللبيب 2/ 695، والمقاصد النحوية 4/ 557، وتاج العروس (كبر) ، (عمى) ، وبلا نسبة في أمالي المرتضى 1/ 216، والإنصاف 1/ 377، وأوضح المسالك 4/ 342، وجواهر الأدب ص 164، وسر صناعة الإعراب 2/ 636، 637، وشرح شذور الذهب ص 414، وشرح المفصل 2/ 118، والصاحبي في فقه اللغة ص 202. [ ..... ] (2) يروى البيت بتمامه: حتى إذا ما أوقدت ... فالجمر مثل ترابها والبيت من المتقارب، وهو في ديوان الأعشى ص 178. (3) يروى صدر البيت بلفظ: ونركب خيلا لا هوادة بينها والبيت من الطويل، وهو لخداش بن زهير في الأضداد ص 153، وأمالي المرتضى 1/ 466، ولسان العرب (ضطر) ، وجمهرة أشعار العرب ص 108، والكامل 1/ 274، وسر الفصاحة ص 106، ومجاز القرآن 2/ 110، والأضداد للسجستاني ص 153، وبلا نسبة في تفسير الطبري 20/ 69، والأضداد لابن الأنباري ص 85، والصاحبي في فقه اللغة ص 203، وسر صناعة الإعراب 1/ 323. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 أي: (تعصي الضياطرة بالرّماح) وهذا ما لا يقع فيه التّأويل، لأن الرماح لا تعصى بالضّياطرة وإنما يعصى الرجال بها، أي يطعنون. ومنه قول الآخر «1» : أسلمته في دمشق كما ... أسلمت وحشيّة وهقا أراد: (كما أسلم وحشية وهق) فقلب على الغلط. وقال آخر «2» : كانت فريضة ما تقول كما ... كان الزّناء فريضة الرجم أراد (كما كان الرجم فريضة الزنى) . وكان بعض أصحاب اللغة يذهب في قول الله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً [البقرة: 171] إلى مثل هذا في القلب، ويقول: وقع التشبيه بالراعي في ظاهر الكلام، والمعنى للمنعوق به وهو الغنم. وكذلك قوله سبحانه: ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [القصص: 76] أي: تنهض بها وهي مثقلة. وقال آخر في قوله سبحانه: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) [العاديات: 8] أي: وإن حبّه للخير لشديد. وفي قوله سبحانه: وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً [الفرقان: 74] أي: اجعل المتّقين لنا إماما في الخير. وهذا ما لا يجوز لأحد أن يحكم به على كتاب الله عزّ وجلّ لو لم يجد له مذهبا، لأنّ الشعراء تقلب اللفظ، وتزيل الكلام على الغلط، أو على طريق الضرورة للقافية، أو لاستقامة وزن البيت.   (1) يروى صدر البيت بلفظ: أسلموها في دمشق كما والبيت من المديد، وهو لعبيد الله بن قيس الرقيات في ديوانه ص 128، والأضداد لابن الأنباري ص 86، والوساطة ص 482، وبلا نسبة في المحتسب 2/ 118. (2) البيت من الكامل، وهو للنابغة الجعدي في ديوانه ص 35، ولسان العرب (زنى) ، وبلا نسبة في معاني القرآن للفراء 1/ 99، 311، وأمالي المرتضى 1/ 155، وسر الفصاحة ص 106، والصاحبي في فقه اللغة ص 172، ومجاز القرآن 1/ 378، وخزانة الأدب 4/ 32، والإنصاف 1/ 373. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 فمن ذلك قول لبيد «1» : نحن بنو أمّ البنين الأربعة قال ابن الكلبي: هم خمسة، فجعلهم للقافية أربعة. وقال آخر يصف إبلا «2» : صبّحن من كاظمة الخصّ الخرب ... يحملن عبّاس بن عبد المطّلب أراد: (عبد الله بن عباس) فذكر أباه مكانه. وقال الصّلتان «3» : أرى الخطفي بذّ الفرزدق شعره ... ولكنّ خيرا من كليب مجاشع أراد: «أرى جريرا بذ الفرزدق شعره» فلم يمكنه فذكر جدّه. وقال ذو الرّمة «4» : عشيّة فرّ الحارثيّون بعد ما ... قضى نحبه في ملتقى القوم هوبر قال ابن الكلبي: هو (يزيد بن هوبر) فاضطرّ. وقال (أوس) «5» :   (1) الشطر الثاني من الرجز: ونحن خير عامر بن صعصعه والرجز للبيد في ديوانه ص 341، والأغاني 15/ 295، وأمالي المرتضى 1/ 191، وخزانة الأدب 9/ 551، وسمط اللآلي ص 191، وشرح أبيات سيبويه 1/ 514، وشرح شواهد المغني 1/ 161، والكتاب 2/ 235، ولسان العرب (خضع) ، والمقاصد النحوية 2/ 68، وتاج العروس (خضع) ، وجمهرة اللغة ص 112، 353، والعمدة 1/ 27، والخزانة 4/ 171، والحيوان 5/ 173، وبلا نسبة في مجالس ثعلب 2/ 442، 449، وجمهرة اللغة ص 192. (2) يروى الشطر الأول من الرجز بلفظ: صبّحن من كاظمة الحصن الخرب والرجز بلا نسبة في لسان العرب (نطس) ، (وصى) ، وجمهرة اللغة ص 1328، والمزهر للسيوطي 2/ 501. (3) البيت من الطويل، وهو للصلتان العبدي في الشعر والشعراء 1/ 477، وأمالي القالي 2/ 141. (4) البيت من الطويل، وهو لذي الرمة في ديوانه 2/ 647، وخزانة الأدب 4/ 371، والدرر 5/ 37، وشرح المفصل 3/ 23، ولسان العرب (هبر) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 1327، والمقرب 1/ 214، 2/ 205، وهمع الهوامع 2/ 51. (5) البيت من الطويل، وهو لأوس بن حجر في ديوانه ص 111، وخزانة الأدب 4/ 370، 373، 376، وشرح شواهد الشافية ص 116، 117، ولسان العرب (نطس) ، (حذم) ، (إلى) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 838، 1327، والخصائص 2/ 453، وشرح المفصل 3/ 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 فهل لكم فيها إليّ فإنّني ... طبيب بما أعيا النّطاسيّ حذيما أراد: (ابن حذيم) وهو طبيب كان في الجاهلية: وقال ابن ميّادة وذكر بعيرا «1» : كأنّ حيث تلتقي منه المحل ... من جانبيه وعلين ووعل أراد: وعلين من كل جانب، فلم يمكنه فقال: ووعل. وقال أبو النجم «2» : ظلّت وورد صادق من بالها ... وظلّ يوفي الأكم ابن خالها أراد: فحلها: فجعله ابن خالها. وقال آخر «3» : مثل النصارى قتلوا المسيح أراد: اليهود: وقال آخر «4» : ومحور أخلص من ماء اليلب واليلب: سيور تجعل تحت البيض، فتوهّمه حديدا.   (1) يروى الرجز بتمامه: ثلاثة أشرفن في طود عتل ... كأنّ حيث تلتقي منه المحل من قطريه وعلان ووعل والرجز لابن ميادة في ديوانه ص 218، ولسان العرب (رفل) ، وبلا نسبة في لسان العرب (عتل) ، (محل) ، وكتاب الجيم 2/ 310، وتاج العروس (محل) . (2) يروى الرجز بلفظ: وظل يوفي الأجمد ابن خالها ... مستبطئا للشمس في إقبالها والرجز لأبي النجم في المخصص 13/ 201. (3) الرجز بلا نسبة في المعاني الكبير 2/ 879، ولسان العرب (مسح) ، وتهذيب اللغة 4/ 347، وكتاب العين 3/ 156. (4) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (يلب) ، وتهذيب اللغة 15/ 386، وكتاب العين 8/ 341، ومقاييس اللغة 6/ 158، ومجمل اللغة 4/ 566. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وقال رؤبة «1» : أو فضّة أو ذهب كبريت وقال أبو النجم «2» : كلمعة البرق ببرق خلّبه أراد: بخلّب برقه، فقلب. وقال آخر «3» : إنّ الكريم وأبيك يعتمل ... إن لم يجد يوما على من يتّكل أراد: إن لم يجد يوما من يتكل عليه. في أشباه لهذا كثيرة يطول باستقصائها الكتاب. والله تعالى لا يغلط ولا يضطرّ، وإنما أراد: ومثل الذين كفروا ومثلنا في وعظهم كمثل الناعق بما لا يسمع، فاقتصر على قوله: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا [البقرة: 171] ، وحذف ومثلنا، لأنّ الكلام يدل عليه. ومثل هذا كثير في الاختصار. وقال الفراء «4» : أراد: ومثل واعظ الذين كفروا، فحذف، كما قال: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها [يوسف: 82] ، أي: أهلها.   (1) قبله: هل ينفعني كذب سختيت والرجز لرؤبة بن العجاج في ديوانه ص 26، ولسان العرب (سخت) ، (كبرت) ، (كبر) ، وتهذيب اللغة 7/ 161، 10/ 435، وتاج العروس (سخت) ، (كبرت) ، وجمهرة اللغة ص 1190، وكتاب العين 4/ 194، 5/ 430، وديوان الأدب 2/ 75، وللعجاج في ديوانه 2/ 189- 190، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 1111، ومجمل اللغة 4/ 237، والمخصص 3/ 88. [ ..... ] (2) الرجز لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي. (3) يليهما: فيكتسي من بعدها ويكتحل والرجز بلا نسبة في لسان العرب (عمل) ، والأشباه والنظائر 1/ 292، والجنى الداني ص 478، وخزانة الأدب 10/ 146، والخصائص 2/ 305، والدرر 4/ 108، وشرح أبيات سيبويه 2/ 205، وشرح الأشموني 2/ 294، وشرح التصريح 2/ 15، وشرح شواهد المغني ص 419، والكتاب 3/ 81، والمحتسب 1/ 281، وهمع الهوامع 2/ 22، وكتاب العين 2/ 153، ومقاييس اللغة 4/ 145، وديوان الأدب 2/ 416، وأساس البلاغة (عمل) ، (وجد) ، وتاج العروس (عمل) ، (وجد) . (4) الفراء: هو الحافظ أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الديلمي، الكوفي اللغوي، المقري البغدادي، المعروف بالفراء، المتوفى بطريق مكة سنة 207 هـ، تقدمت ترجمته الوافية مع ذكر مؤلفاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وأراد بقوله: ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ [القصص: 76] ، أي: تميلها من ثقلها. قال الفراء أنشدني بعض العرب «1» : حتى إذا ما التأمت مفاصله ... وناء في شقّ الشّمال كاهله يريد: أنه لما أخذ القوس ونزع، مال عليها. قال: ونرى قولهم: (ما ساءك وناءك) ، من هذا. وكان الأصل (أناءك) فألقي الألف لما اتبعه (ساءك) كما قالوا: (هنأني ومرأني) ، فاتبع مرأني هنأني. ولو أفرد لقال: أمرأني. وأراد بقوله: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) [العاديات: 8] ، أي: وإنه لحبّ المال لبخيل، والشدة: البخل هاهنا، يقال: رجل شديد ومتشدّد. وقوله سبحانه: وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً [الفرقان: 74] ، يريد: اجعلنا أئمة في الخير يقتدي بنا المؤمنون، كما قال في موضع آخر: وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا [السجدة: 24] ، أي: قادة، كذلك قال المفسّرون. وروي عن بعض خيار السلف: أنه كان يدعو الله أن يحتمل عنه الحديث، فحمل عنه. وقال بعض المفسرين في قوله: وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً [الفرقان: 74] ، أي: اجعلنا نقتدي بمن قبلنا حتى يقتدي بنا من بعدنا. فهم على هذا التأويل متّبعون ومتّبعون. ومن المقدّم والمؤخّر قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً [الكهف: 1، 2] أراد: أنزل الكتاب قيّما ولم يجعل له عوجا. وقوله: فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ [هود: 71] ، أي: بشرناها بإسحاق فضحكت. وقوله: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها [الشمس: 14] ، أي: فعقروها فكذّبوه بالعقر.   (1) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (نوأ) ، وتهذيب اللغة 15/ 540، ورواية الشطر الأول في اللسان والتهذيب: حتى إذا ما التأمت مواصله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وقد يجوز أن يكون أراد: فكذّبوا قوله: إنها ناقة الله، فعقروها. قال الأعشى «1» : لقد كان في حول ثواء ثويته ... تقضّي لبانات ويسأم سائم أراد: لقد كان في ثواء حول ثويته. وقال ذو الرّمّة يصف الدّار «2» : فأضحت مباديها قفارا رسومها ... كأن لم سوى أهل من الوحش توهل أراد: كأن توهل سوى أهل من الوحش. وقد كان بعض القراءة يقرأ: وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ [الأنعام: 137] ، أي: قتل شركائهم أولادهم. ومن المقدّم والمؤخّر قوله سبحانه: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ [التوبة: 55] . وقال ابن عباس في رواية الكلبي: أراد: ولا تعجبك أموالهم وأولادهم في الدنيا، إنما يريد الله أن يعذّبهم في الآخرة. ومنه قوله سبحانه: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) [طه: 129] ، أي: ولولا كلمة سبقت وأجل مسمّى، لكان العذاب لزاما. ومنه قوله سبحانه: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء: 83] ، أراد: لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا، ولولا فضل الله عليكم ورحمته،   (1) البيت من الطويل، وهو للأعشى في ديوانه ص 127، والأغاني 2/ 206، والرد على النحاة ص 129، وشرح شواهد المغني 2/ 879، والكتاب 3/ 38، ومغني اللبيب 2/ 506، والمقتضب 1/ 27، 2/ 26، 4/ 297، وبلا نسبة في أسرار العربية ص 299، ورصف المباني ص 423، وشرح عمدة الحافظ ص 590، وشرح المفصل 3/ 65. (2) يروى البيت بلفظ: فأضحت مغانيها قفارا رسومها ... كأن لم سوى أهل من الوحش تؤهل والبيت من الطويل، وهو لذي الرمة في ديوانه ص 1465، وخزانة الأدب 9/ 5، والخصائص 2/ 410، والدرر 5/ 63، وشرح شواهد المغني 2/ 678، والمقاصد النحوية 5/ 445، وبلا نسبة في الجنى الداني ص 269، وشرح الأشموني 3/ 576، ومغني اللبيب 1/ 278، وهمع الهوامع 2/ 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 لاتبعتم الشيطان. قال الشاعر «1» : فاوردتها ماء كأنّ جمامه ... من الأجنّ حناء معا وصبيب أي: فأوردتها ماء كأنّ جمامه حنّاء وصبيب معا.   (1) البيت من الطويل، وهو لعلقمة بن عبدة في ديوانه ص 42، ولسان العرب (صبب) ، (أجن) ، وكتاب العين 6/ 183، وديوان الأدب 3/ 73، وشرح اختيارات المفضل ص 1585، وتاج العروس (صبب) ، (أجن) ، وتهذيب اللغة 12/ 122، وبلا نسبة في كتاب العين 7/ 90، ومجمل اللغة 3/ 221، ومقاييس اللغة 3/ 280. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 باب الحذف والاختصار من ذلك: أن تحذف المضاف وتقيم المضاف إليه مقامه وتجعل الفعل له. كقوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها [يوسف: 82] أي سل أهلها. وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة: 93] أي حبّه. والْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [البقرة: 197] أي وقت الحج. وكقوله: إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ-[الإسراء: 75] أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات. وقوله سبحانه: لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ [الحج: 40] فالصلوات لا تهدّم، وإنما أراد بيوت الصلوات. قال المفسرون: الصوامع للصّابئين، والبيع للنّصارى، والصلوات: كنائس اليهود، والمساجد للمسلمين. وقوله: مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [محمد: 13] أي أخرجك أهلها. وقوله: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [سبأ: 33] أي مكركم في الليل والنهار. وقوله: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [التوبة: 19] ؟ أي: أجعلتم صاحب سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، كمن آمن؟! ويكون يريد: أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن بالله وجهاده؟ كما قال: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [البقرة: 177] . قال الهذلي «1» :   (1) البيت من الوافر، وهو للمتنخل الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص 1268، ولسان العرب (حنت) ، وتاج العروس (حنت) ، (غطط) ، (قطط) ، وللهذلي في تهذيب اللغة 7/ 133، ولسان العرب (خرص) ، (قطط) ، وبلا نسبة في لسان العرب (نجد) ، وكتاب الصناعتين ص 136، والمخصص 1/ 66، 10/ 90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 يمشّي بيننا حانوت خمر ... من الخرس الصّراصرة القطاط أراد صاحب حانوت خمر، فأقام الحانوت مقامه. وكذلك قول أبي ذؤيب في صفة الخمر» : توصّل بالرّكبان حينا وتولف ال ... جوار ويغشيها الأمان ربابها اللفظ للخمر والمعنى للخمّار، أي يتوصّل الخمار بالركب ليسير معهم ويأمن بهم. وكذلك قوله «2» : أتوها بربح حاولته فأصبحت ... تكفّت قد حلّت وساغ شرابها يريد: أتوا صاحبها بربح، فأقامها مقامه. وقال كثير يذكر الأظعان «3» : حزيت لي بحزم فيدة تحدى ... كاليهوديّ من نطاة الرّقال أراد كنخل اليهوديّ من خيبر، فأقامه مقامها. ومثله قوله تعالى: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) [العلق: 17] أي: أهله. وقال الشاعر «4» : لهم مجلس صهب السبال أذلّة ... سواسية أحرارها وعبيدها ومن ذلك أن توقع الفعل على شيئين وهو لأحدهما، وتضمر للآخر فعله. كقوله سبحانه: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) [الواقعة: 18] .   (1) البيت من الطويل، وهو لأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص 46، ولسان العرب (ربب) ، (وصل) ، ومقاييس اللغة 2/ 383، والتنبيه والإيضاح 1/ 80، وتاج العروس (ربب) ، (ألف) ، (وصل) ، وتهذيب اللغة 15/ 180، وبلا نسبة في المخصص 3/ 78. (2) البيت من الطويل، وهو لأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص 48، ولسان العرب (كفت) ، وتاج العروس (كفت) . (3) البيت من الخفيف، وهو لكثير عزة في ديوانه ص 396، وشرح المفصل 3/ 25، ولسان العرب (رضب) ، و (رقل) ، (نطا) ، وتاج العروس (رقل) ، (نطا) ، ومعجم البلدان (فيد) ، وصفة جزيرة العرب للهمداني 1/ 226. (4) البيت من الطويل، وهو لذي الرمة في ديوانه ص 1235، ولسان العرب (سوا) ، وأساس البلاغة (جلس) ، وبلا نسبة في لسان العرب (جلس) ، وتاج العروس (جلس) ، (سوا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 ثم قال: وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) [الواقعة: 20، 21] والفاكهة واللحم والحور العين لا يطاف بها، وإنما أراد: ويؤتون بلحم طير. ومثله قوله: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ [يونس: 71] أي: وادعوا شركاءكم، وكذلك هو في مصحف عبد الله. قال الشاعر «1» : تراه كأنّ الله يجدع أنفه ... وعينيه إن مولاه ثاب له وفر أي يجدع أنفه، ويفقأ عينيه. وأنشد الفراء «2» : علفتها تبنا وماء باردا ... حتى شتت همّالة عيناها أي علفتها تبنا، وسقيتها ماء باردا. وقال آخر «3» : إذا ما الغانيات برزن يوما ... وزجّجن الحواجب والعيونا   (1) البيت من الطويل، وهو لخالد بن الطيفان في الحيوان 6/ 40، والمؤتلف والمختلف ص 149، وله أو للزبرقان بن بدر في الأشباه والنظائر 2/ 108، والدرر 6/ 81، والمقاصد النحوية 4/ 171، وبلا نسبة في أمالي المرتضى 2/ 259، 375، والإنصاف 2/ 515، والخصائص 2/ 431، وكتاب الصناعتين ص 181، ولسان العرب (جدع) ، ومجالس ثعلب 2/ 464، وهمع الهوامع 2/ 130. (2) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (زجج) ، (قلد) ، (علف) ، والأشباه والنظائر 2/ 108، 7/ 233، وأمالي المرتضى 2/ 259، والإنصاف 2/ 612، وأوضح المسالك 2/ 245، والخصائص 2/ 431، والدرر 6/ 79، وشرح الأشموني 1/ 226، وشرح التصريح 1/ 346، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 1147، وشرح شذور الذهب ص 312، وشرح شواهد المغني 1/ 58، 2/ 929، وشرح ابن عقيل ص 305، ومغني اللبيب 2/ 632، والمقاصد النحوية 3/ 101، وهمع الهوامع 2/ 130، وتاج العروس (علف) . [ ..... ] (3) البيت من الوافر، وهو للراعي النميري في ديوانه ص 269، والدرر 3/ 158، وشرح شواهد المغني 2/ 775، ولسان العرب (زجج) ، والمقاصد النحوية 3/ 91، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر/ 212، 7/ 233، والإنصاف 2/ 610، وأوضح المسالك 2/ 432، وتذكرة النحاة ص 617، وحاشية يس 1/ 432، والخصائص 2/ 432، والدرر 6/ 80، وشرح الأشموني 1/ 226، وشرح التصريح 1/ 346، وشرح شذور الذهب ص 313، وشرح ابن عقيل ص 504، وشرح عمدة الحافظ ص 635، وكتاب الصناعتين ص 182، ولسان العرب (رغب) ، ومغني اللبيب 1/ 357، وهمع الهوامع 1/ 222، 2/ 130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 والعيون لا تزجّج، وإنما أراد: وزجّجن الحواجب، وكحّلن العيون. وقال الآخر «1» : ورأيت زوجك في الوغى ... متقلّدا سيفا ورمحا أي متقلدا سيفا، وحاملا رمحا. ومن ذلك: أن يأتي بالكلام مبنيّا على أنّ له جوابا، فيحذف الجواب اختصارا لعلم المخاطب به. كقوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً [الرعد: 31] أراد: لكان هذا القرآن، فحذف. وكذلك قوله: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20) [النور: 20] أراد: لعذّبكم فحذف. قال الشاعر «2» : فأقسم لو شيء أتانا رسوله ... سواك، ولكن لم نجد لك مدفعا أي لرددناه. وقال الله عز وجلّ: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) [آل عمران: 113] . فذكر أمّة واحدة ولم يذكر بعدها أخرى. وسواء تأتي للمعادلة بين اثنين فما زاد. وقال: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً [الزمر: 9] ولم يذكر ضدّ هذا، لأن   (1) يروى صدر البيت بلفظ: يا ليت زوجك قد غدا والبيت من مجزوء الكامل، وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 108، 6/ 238، وأمالي المرتضى 1/ 54، والإنصاف 2/ 612، وخزانة الأدب 2/ 231، 3/ 142، 9/ 142، والخصائص 2/ 431، وشرح شواهد الإيضاح ص 182، وشرح المفصل 2/ 50، ولسان العرب (رغب) ، (زجج) ، (مسح) ، (قلد) ، (جدع) ، (جمع) ، (هدى) ، والمقتضب 2/ 51، ومعاني القرآن للفراء 1/ 121، ومجاز القرآن 2/ 68، ومجمع البيان 1/ 111، وتفسير البحر المحيط 2/ 464، 6/ 485، وتفسير الطبري 1/ 47، والكامل 1/ 218، 402. (2) البيت من الطويل، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص 424، وخزانة الأدب 10/ 84، 85، وبلا نسبة في خزانة الأدب 4/ 144، 10/ 117، وشرح المفصل 9/ 7، 94، وكتاب الصناعتين ص 182، ولسان العرب (وحد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 في قوله: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] دليلا على ما أراد. وقال الشاعر «1» : أراك فما أدري أهمّ هممته ... وذو الهمّ قدما خاشع متضائل ولم يأت بالأمر الآخر. وقال أبو ذؤيب «2» : عصيت إليها القلب إنّي لأمره ... سميع، فما أدري أرشد طلابها؟ أراد: أرشد هو أم غيّ؟ فحذف. ومن ذلك: حذف الكلمة والكلمتين. كقوله: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ. [آل عمران: 106] والمعنى فيقال لهم: أكفرتم؟ وقوله: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا [السجدة: 12] والمعنى يقولون: ربنا أبصرنا. وقوله: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا [البقرة: 127] . والمعنى يقولان: ربنا تقبّل منا. وقال ذو الرّمة يصف حميرا «3» : فلمّا لبسن اللّيل أو حين نصّبت ... له من خذا آذانها وهو جانح أراد أو حين أقبل الليل نصّبت. وقال «4» :   (1) البيت من الطويل، وهو بلا نسبة في كتاب الصناعتين ص 137. (2) يروى صدر البيت بلفظ: دعاني إليها القلب لأني لأمره والبيت من الطويل، وهو لأبي ذؤيب الهذلي في تخليص الشواهد ص 140، وخزانة الأدب 11/ 251، والدرر 6/ 102، وشرح أشعار الهذليين 1/ 43، وشرح عمدة الحافظ ص 655، وشرح شواهد المغني ص 26، 142، 2/ 672، ومغني اللبيب ص 13، وبلا نسبة في شرح الأشموني 2/ 371، وهمع الهوامع 2/ 132. (3) البيت من الطويل، وهو لذي الرمة في ديوانه ص 897، وأدب الكاتب ص 214، والخصائص 2/ 365، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 582. (4) البيت بتمامه: لعرفانها والعهد ناء وقد بدا ... لذي نهية أن لا إلى أم سالم والبيت من الطويل، وهو لذي الرمة في ديوانه ص 767، وكتاب الصناعتين ص 137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وقد بدا لذي نهية أن لا إلى أمّ سالم أراد: أن لا سبيل إلى أم سالم. وقال الله عز وجل: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الإسراء: 23] . أي ووصّى بالوالدين. وقال النّمر بن تولب «1» : فإنّ المنبّه من يخشها ... فسوف تصادفه أينما أراد أينما ذهب. وقال الله عز وجل: كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ [إبراهيم: 18] أراد: في يوم عاصف الرّيح، فحذف، لأنّ ذكر الرّيح قد تقدّم، فكان فيه دليل. وقال تعالى: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ [العنكبوت: 22] . أراد: ولا من في السماء بمعجز. وقال تعالى: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ [النمل: 12] . أراد في تسع آيات إلى هذه الآية، أي معها. ثم قال: إِلى فِرْعَوْنَ ولم يقل مرسلا ولا مبعوثا، لأن ذلك معروف. ومثله: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً [الأعراف: 73] . أي: أرسلنا. قال الشاعر «2» : رأتني بحبليها فصدّت مخافة ... وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق أراد مقبلا بحبليها. وقال عز وجل: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ [الإسراء: 7] . أراد:   (1) البيت من المتقارب، وهو للنمر بن تولب في ديوانه ص 378، وأدب الكاتب ص 214، وشرح التصريح 2/ 252، والمعاني الكبير ص 1264، والمقاصد النحوية 1/ 575، ومختارات ابن الشجري 1/ 16، والاقتضاب ص 363، وبلا نسبة في رصف المباني ص 72، 125. (2) يروى البيت بلفظ: رأتني بنسعيها فردّت مخافتي ... إلى الصدر روعاء الفؤاد فروق والبيت من الطويل، وهو لحميد بن ثور في ديوانه ص 35، ولسان العرب (نسع) ، (فرق) ، (با) ، وتهذيب اللغة 15/ 614، وتاج العروس (نسع) ، (فرق) ، وبلا نسبة في لسان العرب (نطح) ، (حبل) ، وتهذيب اللغة 5/ 80، وأساس البلاغة (روع) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 يعثناهم ليسوءوا وجوهكم، فحذفها، لأنه قال قبل: فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا [الإسراء: 5] . فاكتفى بالأول من الثاني، إذ كان يدل عليه. وكذلك قوله: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ [ق: 17] . فاكتفى بذكر الثاني من الأول. وقد يشكل الكلام ويغمض بالاختصار والإضمار. كقوله: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) [فاطر: 8] . والمعنى: أفمن زيّن له سوء عمله فرآه حسنا، ذهبت نفسك حسرة عليه؟! فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء. وكقوله سبحانه: إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) [النمل: 10، 11] لم يقع الاستثناء من المرسلين، وإنما وقع من معنى مضمر في الكلام، كأنه قال: لا يخاف لديّ المرسلون، بل غيرهم الخائف، إلا من ظلم ثم تاب فإنه لا يخاف. وهذا قول الفراء، وهو يبعد: لأن العرب إنما تحذف من الكلام ما يدل عليه ما يظهر، وليس في ظاهر هذا الكلام- على هذا التأويل- دليل على باطنه. قال أبو محمد: والذي عندي فيه، والله أعلم، أنّ موسى عليه السلام، لما خاف الثعبان وولّى ولم يعقّب، قال الله عز وجل: يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ [النمل: 10] وعلم أن موسى مستشعر خيفة أخرى من ذنبه في الرّجل الّذي وكزه فقضى عليه، فقال: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ [النمل: 11] أي توبة وندما، فإنه يخاف، وإني غفور رحيم. وبعض النحويين يحمل (إلّا من ظلم) بمعنى: ولا من ظلم، كقوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [البقرة: 150] . على مذهب من تأول هذا في (إلّا) : كقوله في سورة الأنفال، بعد وصف المؤمنين: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ [الأنفال: 5] . ولم يشبّه قصة المؤمنين بإخراج الله إيّاه، ولكن الكلام مردود إلى معنى في أول السورة ومحمول عليه، وذلك: أن النبي صلّى الله عليه وسلم، رأى يوم بدر قلّة المسلمين وكراهة كثير منهم للقتال، فنفّل كلّ امرئ منهم ما أصاب، وجعل لكل من قتل قتيلا كذا، ولمن أتى بأسير كذا، فكره ذلك قوم فتنازعوا واختلفوا وحاجّوا النبي، صلّى الله عليه وسلم، وجادلوه، فأنزل الله سبحانه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ: يجعلها لمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 يشاء فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ. أي فرّقوها بينكم على السواء وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما بعد إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأنفال: 1] ، ووصف المؤمنين ثم قال: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) [الأنفال: 5] يزيد: أن كراهتهم لما فعلته في الغنائم ككراهتهم للخروج معك، كأنه قال: هذا من كراهيتهم كما أخرجك وإيّاهم ربّك وهم كارهون. ومن تتبع هذا من كلام العرب وأشعارها وجده كثيرا. قال الشاعر «1» : فلا تدفنوني إنّ دفني محرّم ... عليكم، ولكن خامري أمّ عامر يريد: لا تدفنوني ولكن دعوني للتي يقال لها إذا صيدت: خامري أمّ عامر، يعني الضّبع، لتأكلني. وقال عنترة «2» : هل تبلغنّي دارها شدنيّة ... لعنت بمحروم الشّراب مصرّم يريد: دعي عليها بأن يحرم ضرعها أن يدرّ فيه لبن، فاستجيب للداعي، فلم تحمل ولم ترضع. ومثله قول الآخر «3» :   (1) يروى البيت بلفظ: لا تقبروني إن قبري محرم ... عليكم ولكن أبشري أم عامر والبيت من الطويل، وهو للشنفرى في ديوانه ص 48، ولسان العرب (عمر) ، ومقاييس اللغة 2/ 217، وتاج العروس (عمر) ، والأغاني 21/ 205، وأمالي المرتضى 2/ 73، والبرصان والعرجان ص 166، 311، وتمثال الأمثال 1/ 340، وجمهرة الأمثال 2/ 305، والحماسة البصرية 1/ 94، وخزانة الأدب 3/ 347، وديوان المفضليات ص 197، وذيل الأمالي ص 36، وشرح ديوان الحماسة للتبريزي 2/ 24، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي 2/ 487، والشعر والشعراء 1/ 86، والصاحبي في فقه اللغة ص 234، وكتاب الصناعتين ص 183، وتفسير البحر المحيط 2/ 377، ومجمع البيان 1/ 74، والحيوان 6/ 450، والطرائف الأدبية ص 36. (2) البيت من الكامل، وهو في ديوان عنترة ص 199، وخزانة الأدب 5/ 369، ولسان العرب (صرم) ، (لعن) ، وكتاب الجيم 3/ 216، وأساس البلاغة (صرم) ، وشرح القصائد العشر ص 183، وأمالي المرتضى 3/ 158. (3) قبله: تخدي بها كل خنوف فاسج والرجز بلا نسبة في لسان العرب (فسج) ، وتهذيب اللغة 10/ 596. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 ملعونة بعقر أو خادج أي: دعي عليها أن لا تحمل، وإن حملت: أن تلقي ولدها لغير تمام، فإذا لم تحمل الناقة ولم ترضع كان أقوى لها. ومن أمثال العرب: (عسى الغوير أبؤسا) «1» أي: أن يأتينا من قبل الغوير بأس ومكروه. والغوير: ماء، ويقال: هو تصغير غار. ومثله قوله سبحانه: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ [الأعراف: 32] . أي هي للذين آمنوا- يعني في الدنيا- مشتركة، وفي الآخرة خالصة. ومنه قوله: إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ [آل عمران: 175] . أي يخوّفكم بأوليائه، كما قال سبحانه: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ [الكهف: 2] أي لينذركم ببأس شديد. وقوله: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ [طه: 108] أي لا عوج لهم عنه. وقوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً [فاطر: 10] . أي يعلم أنّ العزّة لمن هي. وقوله: ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ [الذاريات: 57] أي ما أريد أن يرزقوا أنفسهم. وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات: 57] أي ما أريد أن يطعموا أحدا من خلقي. وأصل هذا: أن البشر عباد الله وعياله فمن أطعم عيال رجل ورزقهم، فقد رزقه وأطعمه، إذ كان رزقهم عليه. ومنه قوله سبحانه: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ [النمل: 25] أراد: ألا يا هؤلاء اسجدوا لله. وقال الشاعر «2» : يا دار سلمى يا اسلمي ثم اسلمي   (1) انظر المثل في جمهرة أمثال العرب ص 143، ومجمع الأمثال 1/ 477، ولسان العرب (غور) . (2) يليه: بسمسم وعن يمين سمسم والرجز للعجاج في ديوانه 1/ 442، والأشباه والنظائر 2/ 145، والإنصاف 1/ 102، وجمهرة اللغة ص 204، 649، والخصائص 2/ 196، ولسان العرب (سمسم) ، وتاج العروس (سمم) ، ولرؤبة في ملحق ديوانه ص 183، وبلا نسبة في الخصائص 2/ 279، ولسان العرب (علم) . [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 ومن الاختصار: القسم بلا جواب إذا كان في الكلام بعده ما يدلّ على الجواب. كقوله: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا [ق: 1، 3] نبعث. ثم قالوا: ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق: 3] أي: لا يكون. وكذا قوله عز وجل: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) [النازعات: 1، 5] . ثم قال: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) [النازعات: 6] . ولم يأت الجواب لعلم السامع به، إذ كان فيما تأخّر من قوله دليل عليه، كأنّه قال: والنّازعات وكذا وكذا، لتبعثنّ، فقالوا: أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) [النازعات: 11] نبعث؟!. ومن الاختصار قوله: إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ [الرعد: 14] أراد: كباسط كفيه إلى الماء ليقبض عليه فيبلّغه فاه. قال ضابىء «1» : فإنّي وإياكم وشوقا إليكم ... كقابض ماء لم تسقه أنامله و (العرب) تقول لمن تعاطى ما لا يجد منه شيئا: هو كالقابض على الماء. ومنه: أن تحذف (لا) من الكلام والمعنى إثباتها. كقوله سبحانه: تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ [يوسف: 85] أي لا تزال تذكر يوسف. وهي تحذف مع اليمين كثيرا. قال الشاعر «2» :   (1) البيت من الطويل، وهو لضابىء بن الحارث البرجمي في لسان العرب (وسق) ، ومقاييس اللغة 6/ 109، وتاج العروس (وسق) ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 9/ 236، وأساس البلاغة (وسق) . (2) البيت من الطويل، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص 32، وخزانة الأدب 9/ 238، 239، 10/ 43، 44، 45، والخصائص 2/ 284، والدرر 4/ 212، وشرح أبيات سيبويه 1/ 220، وشرح التصريح 1/ 185، وشرح شواهد المغني 1/ 341، وشرح المفصل 7/ 110، 8/ 37، 9/ 104 والكتاب 3/ 504، ولسان العرب (يمن) ، واللمع ص 259، والمقاصد النحوية 2/ 13، وبلا نسبة في أوضح المسالك 1/ 232، وخزانة الأدب 10/ 93، 94، وشرح الأشموني 1/ 110، ومغني اللبيب 2/ 637، والمقتضب 2/ 362، وهمع الهوامع 2/ 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو ضربوا رأسي لديك وأوصالي وقال آخر «1» : فلا وأبي دهماء زالت عزيزة ... على قومها ما فتّل الزّند قادح ومنه قوله: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء: 176] ، أي: لئلا تضلوا. وإِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر: 41] ، أي: لئلا تزولا. وقوله: كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ [الحجرات: 2] ، أي: لا تحبط أعمالكم. ومن الاختصار أن تضمر لغير مذكور. كقوله جل وعز: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: 32] يعني: الشمس، ولم يذكرها قبل ذلك. وقوله: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر: 45] ، يريد: على الأرض. وقال: فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) [العاديات: 4] ، يعني: بالوادي. وقال: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ [القصص: 10] ، أي بموسى: أنه ابنها. وقال: وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها (3) [الشمس: 3] ، يعني: الدنيا أو الأرض. وكذلك قوله: وَلا يَخافُ عُقْباها (15) [الشمس: 15] ، أي: عقبى هذه الفعلة. وقال: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) [القدر: 1] ، يعني: القرآن. فكنى في أوّل السّورة. قال حميد بن ثور في أوّل قصيدة «2» :   (1) روى البيت بلفظ: لعمر أبي الدهماء زالت عزيزة ... على أهلها ما فتل الزند قادح والبيت من الطويل، وهو لتميم بن مقبل في ملحق ديوانه ص 358، وبلا نسبة في تذكرة النحاة ص 287، وخزانة الأدب 9/ 237، 239، 243، 10/ 100، 101، والدرر 6/ 217، وشرح شواهد المغني ص 820، ومغني اللبيب ص 393، والمقرب 1/ 94، وهمع الهوامع 2/ 156. (2) البيت من الطويل، وهو لحميد بن ثور في ديوانه ص 73، ولسان العرب (نضج) ، ومجمل اللغة (نضج) ، وديوان الأدب 2/ 344، وللحطيئة في ملحق ديوانه ص 252، ولسان العرب (نضج) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 3/ 330، ومجمل اللغة 3/ 234. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وصهباء منها كالسّفينة نضّجت ... به الحمل حتّى زاد شهرا عديدها أراد: وصهباء من الإبل. وقال حاتم «1» : أماويّ ما يغني الثّراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر يعني النفس. وقال لبيد «2» : حتى إذا ألقت يدا في كافر ... وأجنّ عورات الثّغور ظلامها يعني الشمس بدأت في المغيب. وقال طرفة «3» : ألا ليتني أفديك منها وأفتدي يعني: من الفلاة. وأنشد الفرّاء «4» : إذا نهي السّفيه جرى إليه ... وخالف، والسّفيه إلى خلاف   (1) البيت من الطويل، وهو لحاتم الطائي في ديوانه ص 199، والأغاني 17/ 295، وجمهرة اللغة ص 1034، 1133، وخزانة الأدب 4/ 212، والدرر 1/ 215، والشعر والشعراء 1/ 252، والصاحبي في فقه اللغة ص 261، ولسان العرب (قرن) ، وأساس البلاغة (حشر) ، وبلا نسبة في لسان العرب (حشرج) ، وهمع الهوامع 1/ 65. (2) البيت من الكامل، وهو للبيد في ديوانه ص 316، ولسان العرب (كفر) ، (يدي) ، وتاج العروس (كفر) ، وكتاب الجيم 3/ 168، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 5/ 191، ومجمل اللغة 4/ 236. (3) صدر البيت: على مثلها أمضي إذا قال صاحبي والبيت من الطويل، وهو لطرفة بن العبد في ديوانه ص 29، والدرر 2/ 269، وبلا نسبة في الإنصاف 1/ 96. (4) البيت من الوافر، وهو لأبي قيس بن الأسلت الأنصاري في إعراب القرآن ص 902، والأشباه والنظائر 5/ 179، وأمالي المرتضى 1/ 203، والإنصاف 1/ 140، وخزانة الأدب 3/ 364، 4/ 226، 227، 228، والخصائص 3/ 49، والدرر 1/ 216، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 244، ومجالس ثعلب ص 75، والمحتسب 1/ 170، 2/ 370، وهمع الهوامع 1/ 65، ومعاني القرآن للفراء 1/ 104، وأمالي ابن الشجري 1/ 273، والعمدة 2/ 263، ومجمع البيان 1 100، وتفسير الطبري 2/ 323، 3/ 128، 4/ 152. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 أراد: جرى إلى السّفه. وقال الله عز وجل في أول سورة الرحمن: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) [الرحمن: 13] ، ولم يذكر قبل ذلك إلا الإنسان، ثم خاطب الجانّ معه لأنّه ذكرهم بعد، وقال: وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) [الرحمن: 15] . قال الفراء: ومثله قول المثقّب العبدي «1» : فما أدري إذا يمّمت أرضا ... أريد الخير: أيّهما يليني؟ أالخير الّذي أنا أبتغيه؟ ... أم الشرّ الّذي هو يبتغيني؟ فكنى عن الشر وقرنه في الكتابة بالخير قبل أن يذكره، ثم أتى به بعد ذلك. ومن ذلك حذف الصفات. كقول الله سبحانه: وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) [المطففين: 3] أي: كالوا لهم أو وزنوا لهم. وقوله: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا [الأعراف: 155] . أي اختار منهم. وقال العجّاج «2» : تحت الذي اختار له الله الشّجر أي اختار له من الشجر: وكقوله: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ [الحج: 41] أي: مكنّا لهم. والعرب تقول: عددتك مائة، أي عددت لك، وأستغفر الله ذنبي. قال الشاعر «3» :   (1) البيتان من الوافر، وهما للمثقب العبدي في ديوانه ص 212، 213، وخزانة الأدب 6/ 37، 11/ 80، وشرح اختيارات المفضل ص 1267، وشرح شواهد الشافية ص 188 (البيت الثاني فقط) ، وشرح شواهد المغني 1/ 191، 192، والشعر والشعراء 1/ 403، ولسان العرب (أنم) ، والبيت الثاني للمثقب العبدي أو لسحيم بن وثيل أو لأبي زبيد الطائي في المقاصد النحوية 1/ 192، والبيت الأول بلا نسبة في تخليص الشواهد 145، وخزانة الأدب 6/ 37. (2) الرجز للعجاج في ديوانه 1/ 8- 10، ولسان العرب (ثبت) (شبر) ، وكتاب العين 8/ 402، وبلا نسبة في لسان العرب (خير) ، وتاج العروس (خير) ، وتهذيب اللغة 7/ 547. (3) البيت من البسيط، وهو بلا نسبة في أدب الكاتب ص 524، والأشباه والنظائر 4/ 16، وأوضح المسالك 2/ 283، وتخليص الشواهد ص 405، وخزانة الأدب 3/ 111، 9/ 124، والدرر 5/ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 أستغفر الله ذنبا لست محصيه ... ربّ العباد إليه الوجه والعمل وشبعت خبزا ولحما، وشربت ورويت ماء ولبنا وتعرّضت معروفك، ونزلتك ونأيتك، وبتّ القوم، وغاليت السلعة، وثويت البصرة وسرقتك مالا، وسعيت القوم، واستجبتك. قال الشاعر «1» : وداع دعا يا من يجيب إلي النّدى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب وقوله جل وعزّ: إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا [الإسراء: 34] . أي: مسؤولا عنه. قال أبو عبيدة: يقال: (لتسألنّ عهدي) أي عن عهدي. ومن الاختصار قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) [النساء: 44] . أراد: يشترون الضلالة بالهدى، فحذف (الهدى) أي يستبدلون هذا بهذا. ومثله: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [البقرة: 16] . ومن الاختصار قوله: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) [البقرة: 108] . أي: أبقينا له ذكرا حسنا في الآخرين، كأنه قال: تركنا عليه ثناء حسنا، فحذف الثناء الحسن لعلم المخاطب بما أراد. ومن الاختصار قوله: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء: 166] . لأنه لما أنزل عليه: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء: 163] قال المشركون: ما نشهد لك بهذا، فمن يشهد لك به؟ فترك ذكر قولهم   186، وشرح أبيات سيبويه 1/ 420، وشرح التصريح 1/ 394، وشرح شذور الذهب ص 479، وشرح المفصل 7/ 63، 8/ 51، والصاحبي في فقه اللغة ص 181، والكتاب 1/ 37، ولسان العرب (غفر) ، والمقاصد النحوية 3/ 226، والمقتضب 2/ 321، وهمع الهوامع 2/ 82، وأمالي المرتضى 3/ 47، ومعاني القرآن للفراء 1/ 233، وتفسير الطبري 1/ 56، 2/ 82، وتفسير البحر المحيط 1/ 361. (1) البيت من الطويل، وهو لكعب بن سعد الغنوي في الأصمعيات ص 96، ولسان العرب (جوب) ، والتنبيه والإيضاح 1/ 55، وجمهرة أشعار العرب ص 705، وتاج العروس (جوب) ، وأمالي القالي 2/ 151، ومجاز القرآن 1/ 27، 2/ 107، والاقتضاب ص 459، وشرح شواهد المغني ص 239، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 11/ 219، وأمالي المرتضى 3/ 60، وتفسير الطبري 1/ 109، وتفسير البحر المحيط 2/ 47، ومجمع البيان 1/ 278. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وأنزل: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ [النساء: 166] . يدلك على هذا أن (لكن) إنما تجيء بعد نفي لشيء فيوجب ذلك الشيء بها. ومن الاختصار قوله: فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ [المائدة: 31] . أراد: فبعث الله غرابا يبحث التراب على غراب ميّت ليواريه، لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ [المائدة: 31] . ومنه قوله: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ [المائدة: 52] أي في مرضاتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 باب تكرار الكلام والزّيادة فيه وأما تكرار الأنباء والقصص، فإنّ الله تبارك وتعالى أنزل القرآن نجوما في ثلاث وعشرين سنة، بفرض بعد فرض: تيسيرا منه على العباد، وتدريجا لهم إلى كمال دينه، ووعظ بعد وعظ: تنبيها لهم من سنة الغفلة، وشحذا لقلوبهم بمتجدّد الموعظة، وناسخ بعد منسوخ: استعبادا له واختبارا لبصائرهم. يقول الله عز وجل: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (32) [الفرقان: 32] . الخطاب للنبي، صلّى الله عليه وسلم، والمراد بالتثبيت هو والمؤمنون. وكان رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، يتخوّل أصحابه بالموعظة مخافة السآمة عليهم «1» ، أي يتعهّدهم بها عند الغفلة ودثور القلوب. ولو أتاهم القرآن نجما واحدا لسبق حدوث الأسباب التي أنزله الله بها، ولثقلت جملة الفرائض على المسلمين، وعلى من أراد الدخول في الدين، ولبطل معنى التنبيه، وفسد معنى النسخ، لأن المنسوخ يعمل به مدة ثم يعمل بناسخه بعده. وكيف يجوز أن ينزل القرآن في وقت واحد: افعلوا كذا ولا تفعلوه؟. ولم يفرض الله على عباده أن يحفظوا القرآن كلّه، ولا أن يختموه في التعلم، وإنما أنزله ليعملوا بمحكمه، ويؤمنوا بمتشابهه، ويأتمروا بأمره. وينتهوا بزجره: ويحفظوا للصلاة مقدار الطاقة، ويقرؤوا فيها الميسور. قال الحسن: نزل القرآن ليعمل به، فاتخذ الناس تلاوته عملا. وكان أصحاب رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، ورضي عنهم- وهم مصابيح الأرض وقادة الأنام ومنتهى العلم- إنما يقرأ الرّجل منهم السورتين، والثلاث، والأربع، والبعض والشّطر   (1) لفظ الحديث: عن عبد الله بن مسعود، قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتخوّلنا بالموعظة مخافة السآمة علينا. أخرجه البخاري في العلم باب 11، 12، ومسلم في المنافقين حديث 82، 83، والترمذي في الأدب باب 72، وأحمد في المسند 1/ 377، 378، 425، 427، 440، 443، 462، 465، 466. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 من القرآن، إلا نفرا منهم وفقهم الله لجمعه، وسهّل عليهم حفظه. قال أنس بن مالك: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا. أي جلّ في عيوننا، وعظم في صدورنا. قال الشّعبي: توفى أبو بكر، وعمر، وعلي، رحمهم الله، ولم يجمعوا القرآن. وقال: لم يختمه أحد من الخلفاء غير عثمان. وروي عن شريك، عن إسماعيل بن أبي خالد أنه قال: سمعت الشّعبي يحلف بالله، عز وجل، لقد دخل عليّ حفرته وما حفظ القرآن. وكانت وفود العرب ترد على رسول الله، صلّى الله عليه وسلم للإسلام، فيقرئهم المسلمون شيئا من القرآن، فيكون ذلك كافيا لهم. وكان يبعث إلى القبائل المتفرّقة بالسّور المختلفة، فلو لم تكن الأنباء والقصص مثنّاة ومكرّرة لوقعت قصّة موسى إلى قوم، وقصة عيسى إلى قوم، وقصة نوح إلى قوم، وقصة لوط إلى قوم. فأراد الله، بلطفه ورحمته، أن يشهر هذه القصص في أطراف الأرض ويلقيها في كل سمع، ويثبتها في كل قلب، ويزيد الحاضرين في الإفهام والتحذير. وليست القصص كالفروض، لأنّ كتب رسول الله، صلّى الله عليه وسلم كانت تنفذ إلى كل قوم بما فرضه الله عليهم من الصلاة، وعددها وأوقاتها، والزّكاة وسنتها، وصوم شهر رمضان، وحجّ البيت. وهذا ما لا تعرف كيفيته من الكتاب، ولم تكن تنفذ بقصة موسى وعيسى ونوح وغيرهم من الأنبياء. وكان هذا في صدر الإسلام قبل إكمال الله الدين، فلما نشره الله عز وجل في كل قطر، وبثّه في آفاق الأرض، وعلم الأكابر الأصاغر، وجمع القرآن بين الدّفّتين-: زال هذا المعنى، واجتمعت الأنباء في كل مصر وعند كل قوم. وأما تكرار الكلام من جنس واحد وبعضه يجزىء عن بعض، كتكراره في: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) [الكافرون: 1] وفي سورة الرحمن بقوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) [الرحمن: 13] فقد أعلمتك أنّ القرآن نزل بلسان القوم، وعلى مذاهبهم. ومن مذاهبهم التكرار: إرادة التوكيد والإفهام، كما أن من مذاهبهم الاختصار: إرادة التخفيف والإيجاز، لأن افتتان المتكلم والخطيب في الفنون، وخروجه عن شيء إلى شيء- أحسن من اقتصاره في المقام على فنّ واحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وقد يقول القائل في كلامه: والله لا أفعله، ثم والله لا أفعله. إذا أراد التوكيد وحسم الأطماع من أن يفعله. كما يقول: والله أفعله، بإضمار (لا) إذا أراد الاختصار. قال الله عز وجل: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) [التكاثر: 3، 4] . وقال: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) [الشرح: 5، 6] . وقال: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) [القيامة: 34، 35] . وقال: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) [الانفطار: 17، 18] كلّ هذا يراد به التأكيد للمعنى الذي كرّر به اللفظ. وقد يقول القائل للرجل: اعجل اعجل، وللرامي: ارم ارم. وقال الشاعر «1» : كم نعمة كانت لكم كم كم وكم وقال الآخر «2» : هلّا سألت جموع كن ... دة يوم ولّوا أين أينا وقال عوف بن الخرع «3» : وكادت فزارة تصلي بنا ... فأولى فزارة أولى فزارا وربما جاءت الصفة فأرادوا توكيدها، واستوحشوا من إعادتها ثانية لأنها كلمة واحد، فغيّروا منها حرفا، ثم أتبعوها الأولى. كقولهم: (عطشان نطشان) كرهوا أن يقولوا: عطشان عطشان، فأبدلو من العين نونا. وكذلك قولهم: (حسن بسن) كرهوا أن يقولوا: حسن حسن، فأبدلوا من الحاء باء. و (شيطن ليطان) في أشباه له كثيرة.   (1) الرجز بلا نسبة في أمالي المرتضى 1/ 84، وكتاب الصناعتين ص 193، والصاحبي في فقه اللغة ص 177. (2) تقدم البيت مع تخريجه، وهو لعبيد بن الأبرص. (3) البيت من المتقارب، وهو في المفضليات ص 416، ومعجم البلدان 3/ 305، والكتاب 1/ 331، والصاحبي في فقه اللغة ص 194، وإعجاز القرآن ص 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 ولا موضع أولى بالتكرار للتوكيد من السبب الذي أنزلت فيه: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) [الكافرون: 1] لأنهم أرادوه على أن يعبد ما يعبدون، ليعبدوا ما يعبد، وأبدؤوا في ذلك وأعادوا، فأراد الله، عزّ وجلّ، حسم أطماعهم وإكذاب ظنونهم، فأبدأ وأعاد في الجواب. وهو معنى قوله: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) [القلم: 9] أي تلين لهم في دينك فيلينون في أديانهم. وفيه وجه آخر، وهو: أن القرآن كان ينزل شيئا بعد شيء وآية بعد آية، حتى لربما نزل الحرفان والثلاثة. قال زيد بن ثابت: كنت أكتب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله. فجاء عبد الله ابن أمّ مكتوم فقال: يا رسول الله إني أحب الجهاد في سبيل الله، ولكن بي من الضرر ما ترى. قال زيد: فثقلت فخذ رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، على فخذي حتى خشيت أن ترضّها، ثم قال: اكتب: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء: 95] . وروى عبد الرّزاق، عن معمر، عن قتادة، عن الحسن أنه قال في قول الله عز وجل: وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا [الفرقان: 32] قال: كان ينزل آية وآيتين وآيات، جوابا لهم عما يسألون وردّا على النبي. وكذلك معنى قوله سبحانه: وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا [الإسراء: 106] شيئا بعد شيء. فكأن المشركين قالوا له: أسلم ببعض آلهتنا حتى نؤمن بإلهك، فأنزل الله: لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) [الكافرون: 2، 3] . يريد إن لم تؤمنوا حتى أفعل ذلك. ثم غبروا مدّة من المدد وقالوا: تعبد آلهتنا يوما أو شهرا أو حولا، ونعبد إلهك يوما أو شهرا أو حولا، فأنزل الله تعالى: وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) [الكافرون: 4، 5] . على شريطة أن تؤمنوا به في وقت وتشركوا به في وقت. قال أبو محمد: وهذا تمثيل أردت أن أريك به موضع الإمكان. وأما تكرار فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) [الرحمن: 13] فإنه عدّد في هذه السورة نعماءه، وأذكر عباده آلاءه، ونبههم على قدرته ولطفه بخلفه، ثم أتبع ذكر كل خلّة وصفها بهذه الآية، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين، ليفهّمهم النّعم ويقرّرهم بها، وهذا كقولك للرجل أجل أحسنت إليه دهرك وتابعت عنده الأيادي، وهو في ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 ينكرك ويكفرك: ألم أبوّئك منزلا وأنت طريد؟ أفتنكر هذا؟ و: ألم أحملك وأنت راجل؟ ألم أحج بك وأنت صرورة؟ أفتنكر هذا؟. ومثل ذلك تكرار فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: 15، 17، 22، 32، 40، 51] في سورة (اقتربت الساعة) أي: هل من معتبر ومتّعظ؟. وأما تكرار المعنى بلفظين مختلفين، فلإشباع المعنى والاتساع في الألفاظ. وذلك كقول القائل: آمرك بالوفاء، وأنهاك عن الغدر. والأمر بالوفاء هو النّهي عن الغدر. و: آمركم بالتّواصل، وأنهاكم عن التّقاطع. والأمر بالتواصل هو النهي عن التّقاطع. وكقوله سبحانه: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) [الرحمن: 68] . والنخل والرّمان من الفاكهة، فأفردهما عن الجملة التي أدخلهما فيها، لفضلهما وحسن موقعهما. وقوله سبحانه: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة: 238] وهي منها، فأفردها بالذّكر ترغيبا فيها، وتشديدا لأمرها، كما تقول: إيتني كل يوم، ويوم الجمعة خاصّة. وقال سبحانه: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ [الزخرف: 80] والنّجوى هو السر. وقد يجوز أن يكون أراد بالسرّ: ما أسرّوه في أنفسهم، وبالنّجوى: ما تسارّوا به. وقال ذو الرّمة «1» : لمياء في شفتيها حوّة لعس ... وفي اللّثات وفي أنيابها شنب واللّعس هو: حوّة، فكرّر لما اختلف اللفظان. ويمكن أن يكون لما ذكر الحوّة، خشي أن يتوهّم السامع سوادا قبيحا، فبيّن أنه لعس، واللعس يستحسن في الشّفاه. وأمّا الزيادة في التوكيد فكقوله سبحانه: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران: 167] لأن الرجل قد يقول بالمجاز: كلمت فلانا، وإنما كان ذلك كتابا أو إشارة على لسان غيره، فأعلمنا أنهم يقولون بألسنتهم.   (1) البيت من البسيط، وهو لذي الرمة في ديوانه ص 32، والخصائص 3/ 291، والدرر 6/ 56، ولسان العرب (شنب) ، (لعس) ، (حوا) ، والمقاصد النحوية 4/ 203، وهمع الهوامع 2/ 126، وبلا نسبة في شرح الأشموني 2/ 438. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وكذلك قوله: يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ [البقرة: 79] لأن الرجل قد يكتب بالمجاز، وغيره الكاتب عنه. ويقول الأمّي: كتبت إليك، وهذا كتابي إليك. وكلّ فعل أمرت به فأنت الفاعل له، وإن وليه غيرك. قال الله عز وجل: في التابوت: تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ [البقرة: 248] . قال ابن عباس رضي الله عنه في رواية أبي صالح عنه: هذا كما تقول: حملت إلى بلد كذا وكذا برّا وقمحا، وإنما تريد أمرت بحمله. فأعلمنا أنهم يكتبونه بأيديهم ويقولون: هو من عند الله. وقد علموا يقينا- إذ كتبوه بأيديهم- أنه ليس من عند الله. وقال تعالى: فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) [الصافات: 93] لأن في اليمين القوة وشدّة البطش، فأخبرنا عن شدة ضربه بها. وقال الشّمّاخ «1» : إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقّاها عرابة باليمين أي أخذها بقوة ونشاط. وقوله سبحانه: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام: 38] . كما تقول رأي عيني وسمع أذني نفسي التي بين جنبيّ. وقوله: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] . كما تقول: نفسي التي بين جنبيّ. وقال: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [البقرة: 196] . أراد توكيد ما أوجبه عليه من الصيام بجمع العددين وذكره مجملا، كما قال الشاعر «2» :   (1) البيت من الوافر، وهو للشماخ في ديوانه ص 336، ولسان العرب (عرب) ، (يمن) ، وتهذيب اللغة 8/ 221، 15/ 523، وجمهرة اللغة ص 319، 994، وتاج العروس (عرب) ، ومقاييس اللغة 6/ 158، والإصابة 4/ 234، والشعر والشعراء 1/ 278، وخزانة الأدب 1/ 453، 2/ 223، وتفسير البحر المحيط 1/ 160، والعمدة 2/ 131، وأمالي القالي 1/ 274، ونقد الشعر ص 25، والبيت بلا نسبة في تفسير الطبري 23/ 32. (2) البيت من الوافر، وهو للفرزدق في ديوانه ص 835، والموشح ص 114، وتفسير البحر المحيط 2/ 79، ومجمع البيان 1/ 291، ولسان العرب (سهم) ، وطبقات الشعراء ص 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 ثلاث واثنتان فهنّ خمس ... وسادسة تميل إلى شمام وقد تزاد (لا) في الكلام والمعنى: طرحها لإباء في الكلام أو جحد. كقول الله عز وجل: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [الأعراف: 12] . أي ما منعك أن تسجد. فزاد في الكلام (لا) لأنه لم يسجد. وقوله سبحانه: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 109] يريد وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون، فزاد (لا) لأنهم لا يؤمنون إذا جاءت. ومن قرأها بكسر إنّ، فإنه يجعل الكلام تاما عند قوله: وَما يُشْعِرُكُمْ ثم يبتدىء فيقول: أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ. وقوله سبحانه: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) [الأنبياء: 95] . يريد أنهم يرجعون، فزاد (لا) : لأنهم لا يرجعون. وقوله سبحانه: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الحديد: 29] . يريد ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون، فزاد (لا) في أول الكلام، لأن في آخر الكلام جحدا. وكذلك قوله أبي النجم «1» : فما ألوم البيض ألا تسخرا أي أن تسخرا، فزاد (لا) في آخر الكلام، للجعد في أوله. وقول العجّاج «2» :   (1) يليه: لما رأين الشمط القنفدرا والرجز لأبي النجم في تاج العروس (قفدر) ، والخصائص 2/ 283، والصاحبي في فقه اللغة ص 138، ومجاز القرآن 1/ 26، وتفسير الطبري 1/ 62، وبلا نسبة في لسان العرب (قفندر) ، وجمهرة اللغة ص 1147، 1185، والمخصص 2/ 175، والأزهية ص 154، والجنى الداني ص 303، والمحتسب 1/ 181، والمقتضب 1/ 47. (2) يليه: بإفكه حتى رأى الصبح جشره والرجز للعجاج في ديوانه ص 20، 22، والأزهية ص 154، والأشباه والنظائر 2/ 164، وخزانة الأدب 4/ 51، 52، 53، وشرح المفصل 8/ 136، وتاج العروس (حور) ، (لا) ، وتهذيب اللغة 5/ 228، 15/ 418، والصاحبي في فقه اللغة ص 138، والجمهرة 2/ 146، 3/ 370، ومجاز القرآن 1/ 25. والأضداد لابن الأنباري ص 186، وبلا نسبة في لسان العرب (حدر) ، (غير) ، (لا) ، وخزانة الأدب 11/ 224، والخصائص 2/ 477، وجمهرة اللغة ص 525، ومجمل اللغة 2/ 120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 في بئر لا حور سرى وما شعر فزاده (لا) في أول الكلام، لأن في آخره جحدا. وأما زيادة (لا) في قوله: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) [القيامة: 1، 2] . وقوله: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) [الانشقاق: 16] . و: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) [البلد: 1]-: فإنها زيدت في الكلام على نية الرّد على المكذبين، كما تقول في الكلام: لا والله ما ذاك كما تقول. لو قلت: والله ما ذاك كما تقول، لكان جائزا، غير أن إدخالك (لا) في الكلام أوّلا، أبلغ في الرّدّ. وكان بعض النحويين يجعلها صلة. ولو جاز هذا لم يكن بين خبر فيه الجحد، وخبر فيه الإقرار- فرق. و (ألا) تزاد في الكلام للتنبيه. كقوله: أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثيابهم [هود: 5] و: أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ [هود: 8] . وقال الشاعر «1» : ألا أيّهذا الرّاجزي أحضر الوغى ... وأن أشهد اللّذّات: هل أنت مخلدي أراد أيّها الزاجري أن أحضر الوغى فزاد (ألا) وحذف (أن) . والباء تزاد في الكلام، والمعنى إلقاؤها. كقوله سبحانه: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون: 20] . وقوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] أي اسم ربك.   (1) البيت من الطويل، وهو لطرفة بن العبد في ديوانه ص 32، والإنصاف 2/ 560، وخزانة الأدب 1/ 119، 8/ 579، والدرر 1/ 74، وسرّ صناعة الإعراب 1/ 285، وشرح شواهد المغني 2/ 800، والكتاب 3/ 99، 100، ولسان العرب (أنن) ، (دنا) ، والمقاصد النحوية 4/ 402، والمقتضب 2/ 85، ومجمع البيان 1/ 149، وبلا نسبة في خزانة الأدب 1/ 463، 8/ 507، 580، 585، والدرر 3/ 33، 9/ 94، ورصف المباني ص 113، وشرح شذور الذهب ص 198، وشرح ابن عقيل ص 597، وشرح المفصل 2/ 7، 4/ 28، 7/ 52، ومجالس ثعلب ص 383، ومغني اللبيب 2/ 383، 641، وهمع الهوامع 2/ 17، وصدر البيت بلا نسبة في الصاحبي في فقه اللغة ص 104، 197. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وعَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الإنسان: 6] أي يشربها. وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم: 25] أي هزّي جذع. وقال فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) [القلم: 5، 6] أي أيكم المفتون. وقال الأعشى «1» : ضمنت برزق عيالنا أرماحنا وقال الآخر «2» : نضرب بالسّيف ونرجو بالفرج وقال امرؤ القيس «3» : هصرت بغصن ذي شماريخ ميّال أي: غصنا.   (1) يروى البيت بتمامه: ضمنت لنا أعجازه أرماحنا ... ملء المراجل والصريح الأجردا والبيت من الكامل، وهو للأعشى في ديوانه ص 34، ولسان العرب (جرد) ، وتهذيب اللغة 10/ 640، وتاج العروس (جرد) . (2) قبله: نحن بنو جعدة أصحاب الفلج والرجز للنابغة الجعدي في ملحق ديوانه ص 216، والخزانة 4/ 59، ومعجم البلدان 6/ 392، وبلا نسبة في لسان العرب (الباء) ، والمخصص 14/ 70، وأدب الكاتب ص 522، والإنصاف 1/ 284، وخزانة الأدب 9/ 520، 521، ورصف المباني ص 143، وشرح شواهد المغني 1/ 332، ومعجم ما استعجم ص 1029، ومغني اللبيب 1/ 108، وتاج العروس (فلج) ، (الباء) ، والاقتضاب ص 458، والجواليقي ص 381، ومجاز القرآن 1/ 194، 2/ 56، 264، وتفسير الطبري 18/ 12. (3) صدر البيت: ولما تنازعنا الحديث وأسمحت والبيت من الطويل، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص 32، ولسان العرب (هصر) ، والتنبيه والإيضاح 2/ 28، وتاج العروس (هصر) ، وكتاب العين 3/ 411، والاقتضاب ص 457- 458، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 6/ 54، والمخصص 14/ 70، 179، وتهذيب اللغة 4/ 346، 6/ 107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وقال أمية بن أبي الصّلت «1» : إذ يسفّون بالدقيق وكانوا ... قبل لا يأكلون شيئا فطيرا وقال: تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة: 1] . وقوله: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ [الحج: 25] . و (من) قد تزاد في الكلام أيضا، كقوله: ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ [الذاريات: 57] أي: ما أريد منهم رزقا. وتقول: ما أتاني من أحد، أي أحد. و (اللام) قد تزاد، كقوله سبحانه: لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف: 154] . و (الكاف) قد تزاد، كقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] . و (على) قد تزاد. قال حميد بن ثور «2» : أبى الله إلا أنّ سرحة مالك ... على كلّ أفنان العضاه تروق أراد: تروق كلّ أفنان. و (عن) تزاد قال تعالى: يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور: 63] . و (إنّ الثقيلة) تزاد كقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) [الكهف: 30] . وكذلك قوله: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [الجمعة: 8] . وقال الشاعر «3» : إنّ الخليفة إنّ الله سربله ... سربال ملك به ترجى الخواتيم و (إن الخفيفة) تزاد، كقول الشاعر «4» :   (1) البيت من الخفيف، وهو في الاقتضاب ص 456. (2) البيت من الطويل، وهو لحميد بن ثور في ديوانه ص 41، وأدب الكاتب ص 523، وأساس البلاغة (روق) ، والجنى الداني ص 479، والدرر 4/ 137، وشرح التصريح 2/ 15، وشرح شواهد المغني 1/ 420، ولسان العرب (سرح) ، ومغني اللبيب 1/ 144، وبلا نسبة في جواهر الأدب ص 377، وخزانة الأدب 2/ 194، 10/ 144، 145، وشرح الأشموني 2/ 294. [ ..... ] (3) البيت من البسيط، وهو لجرير في ديوانه ص 672، وخزانة الأدب 10/ 364- 368، وبلا نسبة في أمالي الزجاجي ص 62، وتذكرة النحاة ص 130، ولسان العرب (ختم) . (4) البيت من الكامل، وهو لدريد بن الصمة في ديوانه ص 34، والأغاني 10/ 22، وإصلاح المنطق ص 127، وشرح شواهد الإيضاح ص 578، وشرح شواهد المغني ص 955، وشرح المفصل 8/ 128، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 188، وجمهرة اللغة ص 374، ومغني اللبيب ص 679. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 ما إن رأيت ولا سمعت به ... كاليوم هانىء أينق جرب وقال عز وجل: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ [الأحقاف: 26] . وقال بعضهم: أراد فيما مكّنّاكم فيه، و (إن) زائدة. وقال بعضهم: هي بمعنى مكّنّاهم فيما لم نمكنكم فيه. و (إذ) قد تزاد، كقوله: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ [البقرة: 30] . وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ [لقمان: 13] . أي: وقال. وقال ابن ميّادة «1» : إذ لا يزال قائل: أبن أبن و (ما) قد تزاد، كقوله: قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) [المؤمنون: 40] وأَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الإسراء: 110] . و (واو النّسق) قد تزاد حتى يكون الكلام كأنه لا جواب له، كقوله: حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها [الزمر: 73] . والمعنى: قال لهم خزنتها. وقوله: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ [يوسف: 15] . وقوله سبحانه: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ [الصافات: 103، 104] . وكقوله: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ [الأنبياء: 96، 97] . وقوله: اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [العنكبوت: 12] أي: لنحمل خطاياكم عنكم. قال امرؤ القيس «2» :   (1) يروى الرجز بتمامه: إمّا يزال قائل ابن أبن ... هوذلة المشآة عن ضرس اللّبن والرجز لابن هرمة في ديوانه ص 216، ولسان العرب (هذل) ، وتاج العروس (هذل) ، ولسالم بن دارة أو لابن ميادة في لسان العرب (لبن) ، ولابن ميادة في ملحق ديوانه ص 260، ولسان العرب (ضرس) ، والتنبيه والإيضاح 2/ 285، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 379، 702، 1174، وكتاب الجيم 1/ 84. (2) يروى عجز البيت بلفظ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 فلما أجزنا ساحة الحيّ وانتحى بنا ... بطن خبت ذي قفاف عقنقل أراد انتحى. وقال آخر «1» : حتّى إذا قملت بطونكم ... ورأيتم أبناءكم شبّوا وقلبتم ظهر المجنّ لنا ... إن اللّئيم العاجز الخبّ أراد: قلبتم. ومما يزاد في الكلام: (الوجه) ، يقول الله عز وجل: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام: 52] . أي: يريدونه بالدعاء. وكُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] أي: إلا هو. وفَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: 115] أي: فثمّ الله. وإِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ [الإنسان: 9] . أي: لله. و (الاسم) يزاد، قال: أبو عبيدة: بِسْمِ اللَّهِ إنما هو بالله، وأنشد للبيد «2» : إلى الحول ثمّ السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر أي: السلام عليكما. وتَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ [الرّحمن: 78] ، أي: تبارك ربّك.   بنا بطن حقف ذي حقاف عقنقل والبيت من الطويل، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص 15، وأدب الكاتب ص 353، والأزهية ص 234، وخزانة الأدب 11/ 43، 44، 45، 47، ولسان العرب (جوز) ، وتاج العروس (عقل) ، والمنصف 3/ 41، وبلا نسبة في رصف المباني ص 425. (1) البيتان من الكامل، وهما للأسود بن يعفر في ديوانه ص 19، وبلا نسبة في الأزهية ص 236، والإنصاف ص 458، وتذكرة النحاة ص 45، والجنى الداني ص 165، وخزانة الأدب 11/ 44، 45، ورصف المباني ص 425، وسرّ صناعة الإعراب ص 646، 647، وشرح عمدة الحافظ ص 649، وشرح المفصل 8/ 94، ولسان العرب (قمل) ، (وا) ، ومجالس ثعلب ص 47، والمعاني الكبير ص 533، والمقتضب 2/ 81. (2) البيت من الطويل، وهو للبيد بن ربيعة في ديوانه ص 214، والأشباه والنظائر 7/ 96، والأغاني 13/ 40، وبغية الوعاة 1/ 429، وخزانة الأدب 4/ 337، 340، 342، والخصائص 3/ 29، والدرر 5/ 15، وشرح المفصل 3/ 14، والعقد الفريد 2/ 78، 3/ 57، ولسان العرب (عذر) ، والمقاصد النحوية 3/ 375، والمنصف 3/ 135، وبلا نسبة في أمالي الزجاجي ص 63، وشرح الأشموني 2/ 307، وشرح عمدة الحافظ ص 507، والمقرب 1/ 213، وهمع الهوامع 2/ 49، 158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 باب الكناية والتّعريض الكناية أنواع، ولها مواضع : فمنها أن تكنى عن اسم الرجل بالأبوّة، لتزيد في الدّلالة عليه إذا أنت راسلته أو كتبت إليه، إذ كانت الأسماء قد تتّفق. أو لتعظّمه في المخاطبة بالكنية، لأنها تدلّ على الحنكة وتخبر عن الاكتهال. وقد ذهب هؤلاء إلى أنّ الكنية كذب ما لم يكن الولد مسمّى بالاسم الذي كني به عن الأب، وتقع للرجل بعد الولادة. وقالوا: إن كانت الكناية للتعظيم فما باله كنى أبا لهب وهو عدوّه، وسمّي محمدا، صلّى الله عليه وسلم، وهو وليّه ونبيّه. والجواب عن هذا: أن العرب كانت ربّما جعلت اسم الرجل كنيته، فكانت الكنية هي الاسم. قال أبو محمد: خبّرني غير واحد عن الأصمعي: أن أبا عمرو بن العلاء، وأبا سفيان بن العلاء أسماؤها كناهما. وربما كان للرجل الاسم والكنية، فغلبت الكنية على الاسم، فلم يعرف إلا بها، كأبي سفيان، وأبي طالب، وأبي ذرّ، وأبي هريرة. ولذلك كانوا يكتبون: علي بن أبو طالب ومعاوية بن أبو سفيان، لأن الكنية بكمالها صارت اسما، وحظّ كلّ حرف الرفع ما لم ينصبه أو يجرّه حرف من الأدوات أو الأفعال. فكأنه حين كنّي قيل: أبو طالب، ثم ترك ذلك كهيئته، وجعل الاسمان واحدا. وقد روي في الحديث أن اسم أبي لهب عبد العزّى، فإن كان هذا صحيحا فكيف يذكره رسول الله بهذا الاسم، وفيه معنى الشرك والكذب، لأن الناس جميعا عبيد الله؟. وقال المفسرون في قول الله عز وجل: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) [الأعراف: 189]-: إن حوّاء لما أثقلت أتاها إبليس في صورة رجل فقال لها: ما هذا الذي في بطنك؟ وذلك أول حملها، فقالت: ما أدري، فقال لها: أرأيت إن دعوت ربي فولدته إنسانا أتسمّينه بي؟ فقالت: نعم. وقالت هي وآدم: لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي: لئن خلقته بشرا مثلنا ولم تجعله بهيمة. فلما ولدته أتاها إبليس ليسألها الوفاء، فقالت: ما اسمك؟ قال: الحارث، فتسمى بغير اسمه، ولو تسمى باسمه لعرفته، فسمته عبد الحارث، فعاش أياما ثم مات، فقال الله تعالى: فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما [الأعراف: 190] ، وإنما جعلا له الشرك بالتسمية لا بالنية والعقد، وانتهى الكلام في قصة آدم وحواء، ثم ذكر من أشرك به بالعقد والنّية من ذرّيتهما، فقال: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الأعراف: 190] ولو كان أراد آدم وحواء لقال: عما يشركان. فهذا يدلّك على العموم. وإن كان اسم أبي لهب كنيته فإنما ذكره بما لا يعرف إلا به، والاسم والكنية علمان يميّزان بين الأعيان والأشخاص، ولا يقعان لعلة في المسمى كما تقع الأوصاف، فبأيّ شيء عرف الرجل، جاز أن تذكره به غير أن تكذب في ذلك. ولو كان من دعا أبا القاسم بأبي القاسم ولا قاسم له، كان كاذبا- لكان من دعا المسمى بكلب وقرد وغراب وذباب- كاذبا، لأنه ليس كما ذكر. وقد طعنت الشّعوبية على العرب بأمثال هذه الأسماء، ونسبوهم إلى سوء الاختيار، وجهلوا معانيهم فيها. وكان القوم يتفاءلون ويتطيّرون، فمن تسمى منهم بالأسماء الحسنى أراد أن يكثر له الفأل بالحسن، ومن تسمّى بقبيح الأسماء أراد صرف الشرّ عن نفسه. وذلك أن العرب كانت إذا خرجت للمغار قالوا: إلى من تقصد؟ فتطيروا من كلب وجعل وقرد ونمر وأسد، وقالوا: ميلوا بنا إلى بني سعد وإلى غنم وما أشبه ذلك. ومن الكناية قول الله عز وجل: يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا (28) [الفرقان: 28] . ذهب هؤلاء وفريق من المتسمّين بالمسلمين إلى أنه رجل بعينه. وقالوا: لم كنى عنه؟ وإنما يكني هذه الكناية من يخاف المباداة، ويحتاج إلى المداجاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وقال آخرون: بل كان هذا الرجل مسمّى في هذا الموضع، فغيّر وكني عنه. وذهبوا إلى أنه عمر، وتأوّلوا الآية فقالوا: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ [الفرقان: 27] يعني أبا بكر رضي الله عنه. يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [الفرقان: 27] يعني محمدا صلّى الله عليه وسلم. يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا (28) يعني عمر رضي الله عنه. لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي [الفرقان: 29] يعني عليا. قال أبو محمد: ونقول في الرد على (أولئك) إذ كان غلطهم من وجهة قد يغلظ في مثلها من رق علمه. فأما هؤلاء ففي قولهم ما أنبأ عن نفسه، ودلّ على جهل متأوّله كيف يكون عليّ رحمة الله عليه، ذكرا؟. وهل قال أحد: إن أبا بكر لم يسلم، ولم يتخذ بإسلامه مع الرسول سبيلا؟. وليس هذا التفسير بنكر من تفسيرهم وما يدّعونه من علم الباطن كادّعائهم في الجبت والطّاغوت أنهما رجلان. وأن الخمر والميسر رجلان آخران. وأن العنكبوت غير العنكبوت والنحل غير النحل. في أشباه كثيرة من سخفهم وجهالاتهم. وقال ابن عباس في تفسير هذه الآية: إنّ عقبة بن أبي معيط صنع طعاما ودعا أشراف أهل مكة، فكان رسول الله، صلّى الله عليه وسلم فيهم، فامتنع من أن يطعم أو يشهد عقبة بشهادة الحقّ، ففعل ذلك، فأتاه أبيّ بن خلف، وكان خليله، فقال: صبأت؟ فقال: لا ولكن دخل عليّ رجل من قريش فاستحييت من أن يخرج من منزلي ولم يطعم. فقال: ما كنت لأرضى حتى تبصق في وجهه وتفعل به وتفعل، ففعل ذلك، فأنزل الله هذه الآية عامة، وهذان الرجلان سبب نزولها. كما أنه قد كانت الآية، والآي، تنزل في القصة تقع: وهي لجماعة الناس. والمفسرون على أن هذه الآية نزلت في هذين الرجلين، وإنما يختلفون في ألفاظ القصة. فأراد الله سبحانه ب الظالم كل ظالم في العالم، وأراد بفلان كل من أطيع بمعصية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 الله وأرضي بإسخاط الله. ولو نزلت هذه الآية على تقديرهم فقال: ويوم يعضّ الظالم- قارون وهامان، وعقبة بن أبي معيط، وأبيّ بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والمغيرة، وفلان وفلان، بالأسماء- على أيديهم يقولون: يا ليتنا لم نتخذ فرعون، ونمرود، وعقبة بن أبي معيط، وأبا جهل، والأسود، وفلانا، وفلانا بالأسماء- لطال هذا وكثر وثقل، ولم يدخل فيه من تأخّر بعد نزول القرآن من هذا الصّنف، وخرج عن مذاهب العرب، بل عن مذاهب الناس جميعا في كلامهم. فكان (فلان) كناية عن جماعة هذه الأسماء. وقد يقول القائل: ما جاءك إلا فلان بن فلان، يريد أشراف الناس المعروفين، والشاعر يقول «1» : في لجّة أمسك فلانا عن فل يريد: أمسك فلانا عن فلان، ولم يرد رجلين بأعيانهما، وإنما أراد أنهم في غمرة الشّر وضحجّته، فالحجزة تقول لهذا: أمسك، ولهذ: كفّ. والظالم دليل على جماعة الظالمين كقوله: يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً [النبأ: 40] يريد جماعة الكافرين. ومن هذا الباب (التعريض) . والعرب تستعمله في كلامها كثيرا، فتبلغ إرادتها بوجه هو ألطف وأحسن من الكشف والتصريح، ويعيبون الرجل إذا كان يكاشف في كل شيء ويقولون «2» :   (1) قبله: إذا عصبت بالعطن المغربل ... تدافع الشيب ولم تقتل والرجز لأبي النجم في جمهرة اللغة ص 407، ولسان العرب (عصب) ، (لجج) ، (خلل) ، (فلن) ، والطرائف الأدبية ص 66، والمنصف 2/ 25، والممتع في التصريف 2/ 640، وخزانة الأدب 2/ 389، والدرر 3/ 37، وسمط اللآلي ص 257، وشرح أبيات سيبويه 1/ 439، وشرح التصريح 2/ 180، وشرح المفصل 5/ 119، وشرح شواهد المغني 1/ 450، والصاحبي في فقه اللغة ص 228، والكتاب 2/ 248، 3/ 452، والمقاصد النحوية 4/ 228، وتهذيب اللغة 2/ 48، وتاج العروس (عصب) ، (خلف) ، ومقاييس اللغة 4/ 447، 5/ 202، ومجمل اللغة 4/ 61، وبلا نسبة في أوضح المسالك 4/ 43، وشرح الأشموني 2/ 460، وشرح ابن عقيل ص 527، وشرح المفصل 1/ 48، والمقتضب 4/ 238، والمقرب 1/ 182، وهمع الهوامع 1/ 177. (2) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (ثلب) ، وتاج العروس (ثلب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 لا يحسن التّعريض إلّا ثلبا وقد جعله الله في خطبة النساء في عدّتهنّ جائزا فقال: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ [البقرة: 235] ولم يجز التصريح. والتعريض في الخطبة: أن يقول الرجل للمرأة: والله إنك لجميلة، ولعل الله أن يرزقك بعلا صالحا، وإن النساء لمن حاجتني، هذا وأشباهه من الكلام. وروى بعض أصحاب اللغة أن قوما من الأعراب خرجوا يمتارون فلما صدروا خالف رجل في بعض الليل إلى عكم «1» صاحبه فأخذ منه برّا وجعله في عكمه، فلما أراد الرحلة قاما يتعاكمان فرأى عكمه يشول وعكم صاحبه يثقل، فأنشأ يقول «2» : عكم تغشّى بعض أعكام القوم ... لم أر عكما سارقا قبل اليوم فخوّن صاحبه بوجه هو ألطف من التصريح. وروي في بعض الحديث: أن رجلا كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، من مغزّى كان فيه «3» : ألا أبلغ أبا حفص رسولا ... فدىّ لك- من أخي ثقة- إزاري قلائصنا هداك الله إنا ... شغلنا عنكم زمن الحصار فما قلص وجدن معقّلات ... قفا سلع بمختلف النّجار يعقّلهنّ جعد شيظميّ ... وبئس معقّل الذّود الظّؤار   (1) العكم: المتاع ما دام فيه المتاع، والعكمان: عدلان يشدان على جانبي الهودج. (2) الرجز لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي. (3) الأبيات من الوافر، والبيت الأول لبقيلة الأكبر الأشجعي، وكنيته أبو المنهال، في لسان العرب (أزر) ، والمؤتلف والمختلف ص 63، وعجزه في لسان العرب (أزر) ، منسوبا إلى جعدة بن عبد الله السلمي، وبلا نسبة في شرح اختيارات المفضل ص 250، وشرح شواهد الإيضاح ص 162، ولسان العرب (قلص) . والبيت الثاني لأبي المنهال الأشجعي في لسان العرب (أزر) ، وتاج العروس (قلص) ، وبلا نسبة في لسان العرب (قلص) . والبيت الثالث بلا نسبة في تهذيب اللغة 8/ 369، والبيت الرابع لبقيلة الأكبر (أبي المنهال) في لسان العرب (أزر) ، (وفيه «الخيار» بدل: «الظؤار» ، وكذلك في مادة (شظم)) ، (ظأر) ، (عقل) ، (شظم) ، وتاج العروس (عقل) ، وبلا نسبة في لسان العرب (قلص) ، وتهذيب اللغة 8/ 369، 14/ 393، وكتاب العين 8/ 168، وتاج العروس (شظم) ، وفيه أنه ورد في حديث عمر بن الخطاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 قال أبو محمد: وقد ذكرت الحديث والتفسير وطريقه في كتاب (غريب الحديث) . وإنما كنى بالقلص- وهي: النّوق الشّوابّ- عن النساء وعرّض برجل يقال له: جعدة كان يخالف إلى المغيّبات من النساء، ففهم عمر، رضي الله عنه ما أراد، وجلد جعدة ونفاه. وقال عنترة «1» : يا شاة ما قنص لمن حلّت له ... حرمت عليّ وليتها لم تحرم يعرّض بجارية، يقول: أيّ صيد أنت لمن حلّ له أن يصيدك، فأمّا أنا فإنّ حرمة الجوار قد حرّمتك عليّ. وقد جاء في القرآن التعريض: فمن ذلك ما خبّر الله سبحانه من نبإ الخصم إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ [ص: 22] . ثم قال: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) [ص: 23] . إنما هو مثل ضربه الله سبحانه له، ونبهه على خطيئته به. وورّى عن النساء بذكر النّعاج، كما كنى الشاعر عن جارية بشاة، وكنى الآخر عن النساء بالقلص. وروى المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله سبحانه، حكاية عن موسى صلّى الله عليه وسلم: لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ [الكهف: 73] : لم ينس ولكنها من معاريض الكلام. أراد ابن عباس أنه لم يقل: إني نسيت فيكون كاذبا، ولكنه قال: لا تؤاخذني بما نسيت، فأوهمه النسيان، ولم ينس ولم يكذب. ولهذا قيل: إن في المعاريض عن الكذب لمندوحة «2» .   (1) البيت من الكامل، وهو لعنترة في ديوانه ص 213، والأزهية ص 79، 103، والأشباه والنظائر 4/ 300، وخزانة الأدب 6/ 130، 132، وشرح شواهد المغني 1/ 481، وشرح المفصل 4/ 12، ولسان العرب (شوه) ، وبلا نسبة في خزانة الأدب 1/ 329. (2) رواه ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث 5/ 35 بلفظ: «إن في المعاريض لمندوحة عن [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 ومنه قول إبراهيم صلّى الله عليه وسلم: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: 89] أي سأسقم، لأن من كتب عليه الموت، فلا بد من أن يسقم. ومنه قوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) [الزمر: 30] أي: ستموت ويموتون. فأوهمهم إبراهيم بمعاريض الكلام أنه سقيم عليل، ولم يكن عليلا سقيما، ولا كاذبا. وكذلك ما روي في الحديث من قوله حين خاف على نفسه وامرأته: (إنها أختي) لأن بني آدم يرجعون إلى أبوين، فهم إخوة، ولأن المؤمنين إخوة، قال الله عز وجل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10] . وكذلك قوله: قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) [الأنبياء: 63] . أراد: بل فعله الكبير، إن كانوا ينطقون فسلوهم، فجعل النطق شرطا للفعل، أي إن كانوا ينطقون فقد فعله، وهو لا يعقل ولا ينطق. وقد روي عن النبي، صلّى الله عليه وسلم: (إنّ إبراهيم كذب ثلاث كذبات ما منها واحدة إلا وهو يماحل بها عن الإسلام) «1» . فسمّاها كذبات، لأنها شاكهت «2» الكذب وضارعته. ولذلك قال بعض أهل السلف لابنه: (يا بني لا تكذبن ولا تشبّهن بالكذب) . فنهاه عن المعاريض، لئلا يجري على اعتيادها، فيتجاوزها إلى الكذب، وأحبّ أن يكون حاجزا من الحلال بينه وبين الحرام. ومن هذا الباب قول الله عز وجل: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] . والمعنى: إنّا لضالّون أو مهتدون، وإنكم أيضا لضالون، أو   الكذب» أي سعة وفسحة، يقال: ندحت الشيء، إذا وسعته، وإنك لفي ندح ومندوحة من كذا: أي سعة، يعني أن في التعريض بالقول من الاتساع ما يغني الرجل عن تعمد الكذب. وانظر أيضا البخاري في الأدب باب 116 (باب المعاريض المندوحة عن الكذب) . (1) رواه ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث 4/ 303، بلفظ: في حديث الشفاعة: إن إبراهيم يقول: لست هناكم، أنا الذي كذبت ثلاث كذبات، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والله ما كذب إلا وهو يماحل بها عن الإسلام» أي يدافع ويجادل، من المحال، بالكسر، وهو الكيد، وقيل: المكر، وقيل: القوة والشدة. وميمه أصلية، ورجل محل: أي ذو كيد. (2) شاكهت: يقال: شاكه الشيء مشاكهة وشكاها: شابهه وشاكله ووافقه وقاربه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 مهتدون، وهو جل وعز يعلم أن رسوله المهتدي وأن مخالفه الضالّ، وهذا كما تقول للرّجل يكذبك ويخالفك: إنّ أحدنا لكاذب. وأنت تعنيه، فكذّبته من وجه هو أحسن من التصريح، كذلك قال الفرّاء. وأما قوله سبحانه: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ [يونس: 94] ففيه تأويلان: أحدهما: أن تكون المخاطبة لرسول الله، صلّى الله عليه وسلم، والمراد غيره من الشّكّاك، لأنّ القرآن نزل عليه بمذاهب العرب كلهم، وهم قد يخاطبون الرّجل بالشيء ويريدون غيره، ولذلك يقول متمثّلهم: «إيّاك أعني واسمعي يا جارة» «1» . ومثله قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) [الأحزاب: 1] . الخطاب للنبي، صلّى الله عليه وسلم، والمراد بالوصية والعظة المؤمنون، يدلك على ذلك أنه قال: وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) [الأحزاب: 2] . ولم يقل بما تعمل خبيرا. ومثل هذه الآية قوله: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) [الزخرف: 45] ، أي سل من أرسلنا إليه من قبلك رسلا من رسلنا، يعني أهل الكتاب، فالخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلم والمراد المشركون. ومثل هذا قول الكميت في مدح رسول الله، صلّى الله عليه وسلم «2» : إلى السّراج المنير أحمد لا ... يعدلني رغبة ولا رهب عنه إلى غيره ولو رفع النّ ... اس إليّ العيون وارتقبوا وقيل: أفرطت، بل قصدت ولو ... عنّفني القائلون أو ثلبوا لجّ بتفضيلك اللّسان ولو ... أكثر فيك اللّجاج واللّجب أنت المصفّى المحض المهذّب في النّس ... بة إن نصّ قومك النّسب   (1) انظر مجمع الأمثال 1/ 50- 51، وجمهرة الأمثال ص 7. (2) الأبيات من المنسرح. وهي في الهاشميات ص 58- 59، وأمالي المرتضى 3/ 166، وشرح شواهد الشافية ص 311، وتفسير الطبري 1/ 383- 384، والعمدة 2/ 135- 136، ومجمع البيان 1/ 182، والموازنة ص 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 فالخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلم، والمراد أهل بيته، فورّى عن ذكرهم به، وأراد بالعائبين واللائمين بني أمية. وليس يجوز أن يكون هذا للنبي، صلّى الله عليه وسلم، لأنه ليس أحد من المسلمين يسوءه مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولا يعنّف قائلا عليه، ومن ذا يساوى به، ويفضّل عليه، حتى يكثر في مدحه الضّجاج واللّجب؟. وإن الشعراء ليمدحون الرجل من أوساط الناس فيفرطون ويفرّطون فيغلون وما يرفع الناس إليهم العيون ولا يرتقبون، فكيف يلام هذا على الاقتصاد في مدح من الإفراط في مدحه غير تفريط، ولكنه أراد أهل بيته. والتأويل الآخر: أن الناس كانوا في عصر النبي صلّى الله عليه وسلم أصنافا: منهم كافر به مكذّب، لا يرى إلا أن ما جاء به الباطل. وآخر: مؤمن به مصدّق يعلم أن ما جاء به الحق. وشاك في الأمر لا يدري كيف هو، فهو يقدّم رجلا ويؤخّر أخرى. فخاطب الله سبحانه هذا الصّنف من الناس فقال: فإن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد صلّى الله عليه وسلم فسل الأكابر من أهل الكتاب والعلماء الذين يقرؤون الكتاب من قبلك، مثل: عبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وتميم الدّاري وأشباههم، ولم يرد المعاندين منهم فيشهدون على صدقه، ويخبرونك بنبوّته، وما قدّمه الله في الكتب من ذكره فقال: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ [الزمر: 2] ، وهو يريد غير النبي، صلّى الله عليه وسلم. كما قال في موضع آخر: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الأنبياء: 10] . وحّد وهو يريد الجمع، كما قال: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) [الانفطار: 6] . ويا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) [الانشقاق: 6] . وقال: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ [الزمر: 8] . ولم يرد في جميع هذا إنسانا بعينه، إنما هو لجماعة الناس. ومثله قول الشاعر «1» :   (1) البيت من المتقارب، ولم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 إذا كنت متّخذا صاحبا ... فلا تصحبنّ فتى دارميّا لم يرد بالخطاب رجلا بعينه، إنما أراد: من كان متّخذا صاحبا فلا يجعله من دارم. وهذا، وإن كان جائزا حسنا، فإنّ المذهب الأول أعجب إليّ، لأنّ الكلام اتصل حتى قال: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس: 99] . وهذا لا يجوز أن يكون إلّا لرسول الله، صلّى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 باب مخالفة ظاهر اللفظ معناه من ذلك الدعاء على جهة الذم لا يراد به الوقوع: كقول الله عز وجل: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) [الذاريات: 10] ، وقُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) [عبس: 17] ، وقاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التوبة: 30] وأشباه ذلك. ومنه قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم، للمرأة: «عقرى حلقى» «1» ، أي عقرها الله، وأصابها بوجع في حلقها. وقد يراد بهذا أيضا التعجب من إصابة الرجل في منطقه، أو في شعره، أو رميه، فيقال: قاتله الله ما أحسن ما قال، وأخزاه الله ما أشعره، ولله درّه ما أحسن ما احتج به. ومن هذا قول امرئ القيس في وصف رام أصاب «2» : فهو لا تنمي رميّته ... ما له لا عدّ من نفره يقول: إذا عدّ نفره- أي قومه- لم يعدّ معهم، كأنه قال: قاتله الله، أماته الله. وكذلك قولهم: هوت أمّه، وهبلته، وثكلته. قال كعب بن سعد الغنوي «3» : هوت أمّه ما يبعث الصّبح غاديا ... وماذا يؤدّي اللّيل حين يؤوب   (1) أخرجه البخاري في الحج باب 34، 145، 151، والطلاق باب 43، والأدب باب 93، ومسلم في الحج حديث 387، والبر حديث 8، وابن ماجه في المناسك باب 83، والدارمي في المناسك باب 73، وأحمد في المسند 6/ 123، 175، 24، 253، 266، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 163، وأبو حنيفة في جامع المسانيد 1/ 502، والبغوي في شرح السنة 5/ 15، وابن حجر في فتح الباري 10/ 550. (2) البيت من المديد، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص 125، ولسان العرب (نفر) ، (نمي) ، وتهذيب اللغة 15/ 518، وتاج العروس (نمي) ، وكتاب العين 8/ 293، وأساس البلاغة (نمي) ، والمعاني الكبير 2/ 786، 836، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 5/ 480. (3) البيت من الطويل، وهو لكعب بن سعد الغنوي في الأصمعيات ص 95، ولسان العرب (أمم) ، (هوا) ، وتهذيب اللغة 15/ 602، 641، وجمهرة اللغة ص 229، وسمط اللآلي ص 773، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 ومن ذلك الجزاء عن الفعل بمثل لفظه والمعنيان مختلفان: نحو قول الله تعالى: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: 14، 15] ، أي يجازيهم جزاء الاستهزاء. وكذلك: سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ [التوبة: 79] ، وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران: 54] ، وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] ، هي من المبتدئ سيئة، ومن الله، جل وعز، جزاء. وقوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة: 194] : فالعدوان الأول: ظلم، والثاني: جزاء، والجزاء لا يكون ظلما، وإن كان لفظه كلفظ الأول. ومنه (قول النبي) صلّى الله عليه وسلم: «اللهم إنّ فلانا هجاني، وهو يعلم أني لست بشاعر، اللهم والعنه عدد ما هجاني، أو مكان ما هجاني» «1» ، أي جازه جزاء الهجاء. وكذلك قوله: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة: 67] . ومنه أن يأتي الكلام على مذهب الاستفهام وهو تقرير: كقوله سبحانه: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة: 116] ، وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) [طه: 17] ، وماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 65] ، قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ [الأنبياء: 42] . ومنه أن يأتي على مذهب الاستفهام وهو تعجب: كقوله: عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) [النبأ: 1، 2] ، كأنه قال: عمّ يتساءلون يا محمد؟ ثم قال: عن النبأ العظيم يتساءلون. وقوله: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) [المرسلات: 12] على التعجب، ثم قال: لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) [المرسلات: 13] أجّلت.   وجمهرة أشعار العرب ص 703، وتاج العروس (أم) ، (هوى) ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة 6/ 492، 14/ 274، والمخصص 12/ 182، ولسان العرب (هبل) . (1) أخرجه ابن أبي حاتم الرازي في علل الحديث 2283، والطحاوي في مشكل الآثار 4/ 300، 324، والجرح والتعديل 23/ 2، 391، والبخاري في التاريخ الكبير 4/ 1، 44، 3/ 2/ 391، والعقيلي في الضعفاء 355، والذهبي في تاريخ الإسلام 4/ 277، والمزي في تهذيب الكمال 446، وميزان الاعتدال 3/ 61/ 317، وتهذيب التهذيب 7/ 165، 8/ 218. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وأن يأتي على مذهب الاستفهام وهو توبيخ: كقوله: أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) [الشعراء: 165] . ومنه أن يأتي الكلام على لفظ الأمر وهو تهديد: كقوله: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت: 40] . وأن يأتي على لفظ الأمر وهو تأديب: كقوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق: 2] ، وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء: 34] . وعلى لفظ الأمر وهو إباحة: كقوله: فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً [النور: 33] ، فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [الجمعة: 10] . وعلى لفظ الأمر وهو فرض: كقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ [البقرة: 282] ، وأَقِيمُوا الصَّلاةَ [الأنعام: 72] ، ووَ آتُوا الزَّكاةَ [البقرة: 43] . ومنه عام يراد به خاص: كقوله سبحانه حكاية عن النبي، صلّى الله عليه وسلم: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام: 163] ، وحكاية عن موسى: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف: 143] ولم يرد كل المسلمين والمؤمنين، لأن الأنبياء قبلهما كانوا مؤمنين ومسلمين، وإنما أراد مؤمني زمانه ومسلميه. وكقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) [آل عمران: 33] ، ولم يصطفهم على، محمد صلّى الله عليه وسلم، ولا أممهم على أمّته، ألا تراه يقول: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110] ، وإنما أراد عالمي أزمنتهم. وكقوله سبحانه: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا [الحجرات: 14] ، وإنما قاله فريق من الأعراب. وقوله: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) [الشعراء: 224] ولم يرد كل الشعراء. ومنه قوله سبحانه: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [آل عمران: 173] ، وإنما قاله نعيم بن مسعود لأصحاب محمد، صلّى الله عليه وسلم إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ، يعني: أبا سفيان، وعيينة بن حصن، ومالك بن عوف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وقوله: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) [الذاريات: 56] ، يريد المؤمنين منهم. يدلك على ذلك قوله في موضع آخر: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [الأعراف: 179] ، أي خلقنا. وقوله: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً [المؤمنون: 51] ، يريد النبي، صلّى الله عليه وسلم، وحده. ومنه جمع يراد به واحد واثنان: كقوله: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور: 2] : واحد واثنان فما فوق. وقال قتادة في قوله تعالى: إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ [التوبة: 66]-: كان رجل من القوم لا يمالئهم على أقاويلهم في النبي صلّى الله عليه وسلم، ويسير مجانبا لهم، فسماه الله طائفة وهو واحد. وكان «قتادة» يقول في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ [الحجرات: 4] : هو رجل واحد ناداه: يا محمد، إنّ مدحي زين، وإنّ شتمي شين. فخرج إليه النبي، صلّى الله عليه وسلم فقال: «ويلك، ذاك الله جل وعز» ونزلت الآية «1» . وقوله سبحانه: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النساء: 11] ، أي أخوان فصاعدا. قوله سبحانه: وَأَلْقَى الْأَلْواحَ [الأعراف: 150] ، جاء في التفسير: أنهما لوحان. وقوله: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التحريم: 4] ، وهما قلبان. وقوله: أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ [النور: 26] ، يعني عائشة وصفوان بن المعطّل. وقال: بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ [النمل: 35] ، وهو واحد، يدلك على ذلك قوله: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ [النمل: 37] . ومنه واحد يراد به جميع: كقوله: هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ [الحجر: 68] ، وقوله: نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ [الشعراء: 16] . وقوله: نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [الحج: 5] .   (1) أخرجه الترمذي في تفسير سورة 49، باب 2، وأحمد في المسند 3/ 488، 6/ 394. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 وقوله: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة: 285] والتفريق لا يكون إلا بين اثنين فصاعدا. وقوله: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) [الحاقة: 47] . والعرب تقول: فلان كثير الدرهم والدينار، يريدون الدراهم والدنانير. وقال الشاعر «1» : هم المولى وإن جنفوا علينا ... وإنّا من لقائهم لزور وقال الله عز وجل: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ [المنافقون: 4] ، أي الأعداء، وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء: 69] ، أي رفقاء. وقال الشاعر «2» : فقلنا: أسلموا إنّا أخوكم ... وقد برئت من الإحن الصّدور ومنه أن تصف الجميع صفة الواحد: نحو قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا [المائدة: 6] . وقوله: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم: 4] . وتقول: قوم عدل. قال زهير «3» : من يشتجر قوم يقل سرواتهم: ... هم بيننا فهم رضا وهم عدل وقال الشاعر «4» :   (1) البيت من الوافر، وهو لعامر الخصفي في لسان العرب (جنف) ، (ولى) ، وتاج العروس (ولي) ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1/ 66، 67. (2) البيت من الوافر، وهو لعباس بن مرداس في ديوانه ص 52، ولسان العرب (أخا) ، والمقتضب 2/ 174، ومجاز القرآن 1/ 79، 131، 2/ 44، 195، ومجمع البيان 1/ 365، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 4/ 285، وتذكرة النحاة ص 144، وجمهرة اللغة ص 1307، وخزانة الأدب 4/ 478، والخصائص 2/ 422. [ ..... ] (3) البيت من الطويل، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 107، والأشباه والنظائر 2/ 385، والأضداد ص 75، والخصائص 2/ 202، وشرح شواهد الإيضاح ص 507، والصاحبي في فقه اللغة ص 213، ولسان العرب (رضي) ، وبلا نسبة في المحتسب 2/ 107. (4) صدر البيت: يا عاذلاتي لا تردن ملامتي والبيت من الكامل، وهو بلا نسبة في الخصائص 3/ 174، وشرح شواهد المغني 2/ 561، ومغني اللبيب 1/ 232، ولسان العرب (عذل) ، وتفسير الطبري 19/ 34، ومجاز القرآن 2/ 245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 إنّ العواذل ليس لي بأمير وقال آخر «1» : المال هدي والنّساء طوالق ومنه أن يوصف الواحد بالجمع: نحو قولهم: برمة أعشار وثوب أهدام وأسمال، ونعل أسماط، أي غير مطبقة. قال الشاعر «2» : جاء الشّتاء وقميصي أخلاق ومنه أن يجتمع شيئان ولأحدهما فعل فيجعل الفعل لهما: كقوله سبحانه: فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما [الكهف: 61] . روي في التفسير: أن النّاسي كان يوشع بن نون ويدلّك قوله لموسى، صلّى الله عليه وسلم: فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ [الكهف: 63] . وقوله: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ [الأنعام: 130] والرسل من الإنس دون الجن. وقوله: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) [الرحمن: 19، 20] ثم قال: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) [الرحمن: 22] . واللؤلؤ والمرجان إنما يخرجان من الماء الملح لا من العذب. وكذلك قوله: وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها [فاطر: 12] . وقد غلط في هذا المعنى أبو ذؤيب الهذليّ ولا أدري أمن جهة هذه الآيات غلط   (1) الشطر من الكامل، وهو بلا نسبة في الصاحبي في فقه اللغة ص 181، 351. (2) يليه: شراذم يعجب منه التوّاق والرجز بلا نسبة في الأزهية ص 30، وجمهرة اللغة ص 619، وخزانة الأدب 1/ 234، والصاحبي في فقه اللغة ص 213، ولسان العرب (توق) ، (خلق) ، (شرذم) ، وتهذيب اللغة 7/ 30، 9/ 256، وتاج العروس (خلق) ، (شرذم) ، وجمهرة اللغة ص 619، وكتاب العين 6/ 302، والاقتضاب ص 12، وتفسير الطبري 14/ 14، 19/ 47، والجمهرة 2/ 240، ومعاني القرآن للفراء 1/ 427. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 أم من غيرها؟ قال يذكر الدّرّة «1» : فجاء بها ما شئت من لطميّة ... يدوم الفرات فوقها ويموج والفرات لا يدوم فوقها وإنما يدوم الأجاج. ومنه أن يجتمع شيئان فيجعل الفعل لأحدهما، أو تنسبه إلى أحدهما وهو لهما: كقوله: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الجمعة: 11] . وقوله: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: 62] . وقوله: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ (45) [البقرة: 45] . وقال: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ [ق: 17] أراد: عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد. وقال الشاعر «2» : إنّ شرخ الشّباب والشّعر ... الأسود ما لم يعاص كان جنونا وقال آخر «3» :   (1) البيت من الطويل، وهو لأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص 134، والمعاني الكبير ص 883، وتاج العروس (فرت) ، (لطم) ، وللهذلي في مقاييس اللغة 2/ 256، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 1328، والمزهر 2/ 502، ويروى عجز البيت بلفظ: تدور البحار فوقها وتموج وهو بهذا اللفظ في شرح أشعار الهذليين ص 134، ولسان العرب (دوم) ، (لطم) ، وتاج العروس (دوم) . (2) البيت من الخفيف، وهو لحسان بن ثابت في ديوانه ص 282، ولسان العرب (شرخ) ، وتهذيب اللغة 7/ 81، وجمهرة اللغة ص 92، 585، وتاج العروس (شرخ) ، وديوان الأدب 1/ 101، وأمالي ابن الشجري 1/ 277، والكامل 2/ 79، ولحسان بن ثابت أو لابنه عبد الرحمن في كتاب الحيوان 3/ 108، وكتاب الصناعتين ص 152، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 3/ 269، والمخصص 1/ 38، وكتاب الحيوان 6/ 244، وكتاب الصناعتين ص 145، ومجاز القرآن 1/ 258، 2/ 161، 3/ 2، والصاحبي في فقه اللغة ص 186، ومجمع البيان 1/ 100، وتفسير البحر المحيط 1/ 185، ومعاني القرآن للفراء 1/ 468. (3) البيت من المنسرح، وهو لقيس بن الخطيم في ملحق ديوانه ص 239، وتخليص الشواهد ص 205، والدرر 5/ 314، والكتاب 1/ 75، والمقاصد النحوية 1/ 557، ولعمرو بن امرئ القيس الخزرجي في الدرر 1/ 147، وشرح أبيات سيبويه 1/ 279، وشرح شواهد الإيضاح ص 128، ولدرهم بن زيد الأنصاري في الإنصاف 1/ 95، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 3/ 100، 6/ 65، 7/ 116، وأمالي ابن الحاجب 2/ 726، وخزانة الأدب 10/ 295، 476، وشرح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف ومنه أن تخاطب الشاهد بشيء ثم تجعل الخطاب له على لفظ الغائب: كقوله عز وجل: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها [يونس: 22] . وقوله: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) [الروم: 39] . وقوله: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 7] ثم قال: أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات: 7] . قال الشاعر «1» : يا دار ميّة بالعلياء فالسّند ... أقوت وطال عليها سالف الأبد وكذلك أيضا تجعل خطاب الغائب للشاهد: كقول الهذليّ «2» : يا ويح نفسي كان جدّة خالد ... وبياض وجهك للتّراب الأعفر ومنه أن يخاطب الرجل بشيء ثم يجعل الخطاب لغيره: كقوله: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ [هود: 14] ، الخطاب للنبي، صلّى الله عليه وسلم، ثم قال للكفار: فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [هود: 14] يدلك على ذلك قوله:   الأشموني 1/ 453، وشرح ابن عقيل ص 125، والصاحبي في فقه اللغة ص 218، ولسان العرب (قعد) ، ومغني اللبيب 2/ 622، والمقتضب 3/ 112، 4/ 73، وهمع الهوامع 2/ 109، وأمالي ابن الشجري 1/ 265، 278، وتفسير البحر المحيط 2/ 323، 3/ 128، ومجمع البيان 1/ 89، 100، ومعاني القرآن للفراء 1/ 434، 445. (1) البيت من البسيط، وهو للنابغة الذبياني في ديوانه ص 14، والأغاني 11/ 27، والدرر 1/ 274، 6/ 326، وشرح أبيات سيبويه 2/ 54، والصاحبي في فقه اللغة ص 215، والكتاب 2/ 321، والمحتسب 1/ 251، والمقاصد النحوية 4/ 315، ولسان العرب (قصد) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك 4/ 92، ورصف المباني ص 452، وشرح الأشموني 2/ 493، وشرح التصريح 1/ 140، ولسان العرب (سند) ، (جرا) ، (يا) . (2) البيت من الكامل، وهو لأبي كبير الهذلي في ديوان الهذليين ص 101، وأمالي ابن الشجري 1/ 102، وتفسير البحر المحيط 1/ 24، ومجمع البيان 1/ 27، والصاحبي في فقه اللغة ص 183، وأمالي المرتضى 4/ 139، وتفسير الطبري 1/ 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [هود: 14] . وقال: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى؟ [طه: 49] . وقال: فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى [طه: 117] . وقال: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) [الفتح: 8] ، ثم قال: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح: 9] . وقال: إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ [النجم: 32] ، يريد أباكم آدم، صلّى الله عليه وسلم. ومنه أن تأمر الواحد والاثنين والثلاثة فما فوق أمرك الاثنين: فتقول: افعلا. قال الله تعالى: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) [ق: 24] ، والخطاب لخزنة جهنم، أو زبانيتها. قال الفراء: والعرب تقول: ويلك ارحلاها وازجراها، وأنشد لبعضهم «1» : فقلت لصاحبي لا تحبسانا ... بنزع أصوله واجتزّ شيحا قال الشاعر «2» : فإن تزجراني يا ابن عفّان أنزجر ... وإن تدعاني أحم عرضا ممنّعا قال الفراء: ونرى أصل ذلك أنّ الرّفقة أدنى ما تكون: ثلاثة نفر، فجرى كلام الواحد على صاحبيه، ألا ترى أنّ الشعراء أكثر شيء قيلا: يا صاحبيّ، ويا خليليّ. وقال غير الفراء: قال النبي، صلّى الله عليه وسلم: «الواحد شيطان والاثنان شيطانان، والثلاثة ركب» «3» .   (1) البيت من الوافر، وهو لمضرس بن ربعي في شرح شواهد الشافية ص 481، وله أو ليزيد بن الطثرية في لسان العرب (جزز) ، والمقاصد النحوية 4/ 591، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 8/ 85، وخزانة الأدب 11/ 17، وسر صناعة الإعراب ص 187، وشرح الأشموني 3/ 874، وشرح شافية ابن الحاجب 3/ 228، وشرح المفصل 10/ 49، والصاحبي في فقه اللغة ص 109، 218، ولسان العرب (جرر) ، والمقرب 2/ 166، والممتع في التصريف 1/ 357. (2) البيت من الطويل، وهو لسويد بن كراع في لسان العرب (جزز) ، والتنبيه والإيضاح 2/ 239، وتاج العروس (جزز) ، وشرح شواهد الشافية ص 484، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 839، والمخصص 2/ 5، والصاحبي في فقه اللغة ص 186، وتفسير الطبري 26/ 103. (3) أخرجه بهذا اللفظ ابن خزيمة في صحيحه 2570، وابن أبي شيبة في مصنفه 12/ 522، والمنذري في الترغيب والترهيب 4/ 71، والمتقي الهندي في كنز العمال 17571، وأخرجه بلفظ: «الراكب شيطان والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب» . مالك في الاستئذان حديث 35، وأبو داود في الجهاد باب 79، وأحمد في المسند 2/ 186، 214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وتوعّد معاوية روح بن زنباع فاعتذر روح فقال معاوية خلّيا عنه «1» : إذا الله سنّى عقد شيء تيسّرا وقوله: سنّى: أي فتح. قالوا: وأدنى ما يكون الآمر والنّاهي بين الأعوان اثنان، فجرى كلامهم على ذلك، ووكّل الله، عز وجل، بكل عبد ملكين، وأمر في الشهادة بشاهدين. ومنه أن يخاطب الواحد بلفظ الجميع: كقوله سبحانه: قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون: 99] ، وأكثر من يخاطب بهذا الملوك، لأنّ من مذاهبهم أن يقولوا: نحن فعلنا. بقوله الواحد منهم يعني نفسه، فخوطبوا بمثل ألفاظهم. يقول الله عز وجل: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف: 3] ، وإِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) [القمر: 49] . ومن هذا قوله عز وجل: عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ [يونس: 83] ، وقوله: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ [هود: 14] ، وقوله: فَأْتُوا بِآبائِنا [الدخان: 36] . ومنه أن يتصل الكلام بما قبله حتى يكون كأنه قول واحد وهو قولان: نحو قوله: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً، ثم قال: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل: 34] ، وليس هذا من قولها، وانقطع الكلام عند قوله: أَذِلَّةً، ثم قال الله تعالى: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ. وقوله: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف: 51] ، هذا قول المرأة، ثم قال يوسف: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يوسف: 52] ، أي ليعلم الملك أني لم أخن العزيز بالغيب. وقوله: يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا، وانقطع الكلام، ثم قالت الملائكة: هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس: 52] .   (1) صدر البيت: فلا تيأسا واستغورا الله إنّه والبيت من الطويل، وهو بلا نسبة في لسان العرب (غور) ، (سنا) ، وتهذيب اللغة 13/ 78، وأساس البلاغة (سنو) ، (غور) ، وتاج العروس (غور) ، (سنا) ، والمعاني الكبير 1/ 74، وأمالي القالي 1/ 235، وتهذيب الألفاظ ص 77. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 قوله حكاية عن ملأ فرعون: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ، هذا قول الملأ، ثم قال فرعون: فَماذا تَأْمُرُونَ [الأعراف: 110] . ومنه أن يأتي الفعل على بنية الماضي وهو دائم، أو مستقبل: كقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110] ، أي أنتم خير أمّة. وقوله: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة: 116] ، أي وإذ يقول الله يوم القيامة. يدلك على ذلك قوله سبحانه: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة: 119] . وقوله: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل: 1] ، يريد يوم القيامة. أي سيأتي قريبا فلا تستعجلوه. وقوله: قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا [مريم: 29] ، أي من هو صبيّ في المهد. وكذلك قوله: وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً [النساء: 134] ، وكذلك قوله: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً [الأحزاب: 27] . إنما هو: الله سميع بصير، والله على كل شيء قدير. وقوله: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ [فاطر: 9] ، أي فنسوقه. في أشباه لهذا كثيرة في القرآن. ومنه أن يجيء المفعول به على لفظ الفاعل: كقوله سبحانه: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ [هود: 43] ، أي لا معصوم من أمره. وقوله: خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) [الطارق: 6] ، أي مدفوق. وقوله: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: 21] ، أي مرضيّ بها. وقوله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً [العنكبوت: 67] ، أي مأمونا فيه. وقوله: وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً [الإسراء: 12] ، أي مبصرا بها. والعرب تقول: ليل نائم، وسرّ كاتم، قال وعلة الجرميّ «1» :   (1) البيت من الطويل، وهو للحارث بن وعلة في شرح اختيارات المفضل 2/ 780، والمفضليات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 ولما رأيت الخيل تترى أثايجا ... علمت بأنّ اليوم أحمس فاجر أي يوم صعب مفجور فيه. وأن يأتي فعيل بمعنى مفعل: نحو قوله: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [البقرة: 117] ، أي مبدعها. وكذلك: عَذابٌ أَلِيمٌ [البقرة: 10] ، أي مؤلم. وقال عمرو بن معديكرب «1» : أمن ريحانة الدّاعي السميع ... يؤرّقني وأصحابي هجوع؟ يريد الداعي المسمع. وفعيل، يراد به فاعل: نحو: حفيظ، وقدير، وسميع، وبصير، وعليم، ومجيد، وبديء الخلق، أي بادئه، من قولك: بدأ الله الخلق. وبصير في هذا المعنى من بصر، وإن لم يستعمل منه فاعل إلا في موضع واحد، وهو قولهم: أريته لمحا باصرا. أي نظرا شديدا باستقصاء وتحديق. ومنه أن يأتي الفاعل على لفظ المفعول به، وهو قليل: كقوله: إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا [مريم: 61] ، أي آتيا.   ص 166، والأزمنة والأمكنة 2/ 308، 3/ 312، ولوعلة الجرمي في المعاني الكبير ص 946، والأصمعيات ص 198، والمعاني الكبير 2/ 946، والعقد الفريد 5/ 231، والأغاني 15/ 77، والنقائض 1/ 155، والخزانة 1/ 199، وبلا نسبة في الإنصاف 1/ 244. (1) البيت من الوافر، وهو لعمرو بن معديكرب في ديوانه ص 140، والأصمعيات ص 172، والأغاني 10/ 4، وخزانة الأدب 8/ 178، 179، 181، 182، 187، 11/ 119، وسمط اللآلي ص 40، والشعر والشعراء 1/ 379، ولسان العرب (سمع) ، والأضداد للسجستاني ص 133، وبلا نسبة في لسان العرب (أنق) ، وتفسير الطبري 1/ 95، وتفسير البحر المحيط 1/ 364، وصدره في الصاحبي في فقه اللغة ص 201، ومجاز القرآن 1/ 282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 باب تأويل الحروف التي ادّعى على القرآن بها الاستحالة وفساد النظم من ذلك (الحروف المقطّعة) . قد اختلف المفسرون في الحروف المقطّعة: فكان بعضهم يجعلها أسماء للسور، تعرف كل سورة بما افتتحت به منها. وكان بعضهم يجعلها أقساما. وكان (بعضهم) يجعلها حروفا مأخوذة من صفات الله تعالى، يجتمع بها في المفتتح الواحد صفات كثيرة، كقول ابن عباس: في كهيعص (1) [مريم: 1] : إنّ (الكاف) من كاف، و (الهاء) من هاد، و (الياء) من حكيم، و (العين) من عليم، و (الصاد) من صادق. وقال الكلبيّ «1» هو: كتاب كاف، هاد، حكيم، عالم، صادق. ولكل مذهب من هذه المذاهب وجه حسن، ونرجو ألا يكون ما أريد بالحروف خارجا منها، إن شاء الله. فإن كانت أسماء للسور، فهي أعلام تدل على ما تدل عليه الأسماء من أعيان الأشياء وتفرق بينها. فإذا قال القائل: قرأت المص أو قرأت ص أو ن- دلّ بذاك على ما قرأ، كما تقول: لقيت محمدا وكلمت عبد الله، فهي تدل بالاسمين على   (1) هناك اثنان يلقبان بالكلبي (أو ابن الكلبي) وهما: محمد بن السائب بن بشر بن عمرو بن الحارث، أبو النصر الكوفي النسابة المعروف بابن الكلبي، منسوب إلى كلب بن وبرة، وهي قبيلة كبيرة من قضاعة، المتوفى بالكوفة سنة 146، له «تفسير القرآن» ، (كشف الظنون 6/ 7) . وابنه أبو المنذر هشام بن أبي النصر محمد بن السائب بن بشر بن عمرو النسابة الكوفي، المعروف بابن الكلبي المتوفى سنة 204 هـ، له العشرات من المصنفات، منها: «آباء النبي صلّى الله عليه وسلم» ، «أسواق العرب» ، «الديباج في أخبار الشعراء» ، «لغات العرب» ، «النسب الكبير» يحتوي كتاب الأنساب، «كتاب التاريخ» ، «كتاب المنافرات» وغيرها الكثير (كشف الظنون 6/ 508- 509) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 العينين، وإن كان قد يقع بعضها مثل «حم» و «الم» لعدة سور- فإنّ الفصل قد يقع بأن تقول: حم السّجدة، والم البقرة، كما يقع الوفاق في الأسماء، فتدل بالإضافات وأسماء الآباء والكنى. وإن كانت أقساما، فيجوز أن يكون الله، عز وجل، أقسم بالحروف المقطّعة كلّها، واقتصر على ذكر بعضها من ذكر جميعها، فقال: «الم» وهو يريد جميع الحروف المقطعة، كما يقول القائل: تعلمت «اب ت ث» وهو لا يريد تعلم هذه الأربعة الأحرف دون غيرها من الثمانية والعشرين، ولكنّه لما طال أن يذكرها كلّها، اجتزأ بذكر بعضها. ولو قال: تعلمت «حاء طاء صاد» لدلّ أيضا على حروف المعجم، كما دلّ بالقول الأول، إلا أن الناس يدلون بأوائل الأشياء عليها فيقولون: قرأت «الحمد لله» يريدون فاتحة الكتاب فيسمونها بأول حرف منها. هذا الأكثر، وربما دلّو بغير الأول أيضا، أنشدّ الفرّاء «1» : لما رأيت أنّها في حطّي ... أخذت منها بقرون شمط يريد (في أبي جاد) فدلّ بحطّي كما دلّ غيره بأبي جاد. وإنما أقسم الله بحروف المعجم، لشرفها وفضلها، ولأنها مباني كتبه المنزلة بالألسنة المختلفة، ومباني أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وأصول كلام الأمم، بها يتعارفون، ويذكرون الله ويوحّدون. وقد أقسم الله في كتابه بالفجر، والطّور، وبالعصر، وبالتّين، والزّيتون- وهما جبلان ينبتان التين والزيتون، يقال لأحدهما: طور زيتا وللآخر: طور تينا، بالسّريانية، من الأرض المقدسة، فسماها بما ينبتان- وأقسم بالقلم، إعظاما لما يسطرون. ووقع القسم بها في أكثر السور على القرآن فقال: الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 1، 2] ، كأنه قال: وحروف المعجم، لهو الكتاب لا ريب فيه. والم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران: 1، 2] ، أي وحروف المعجم لهو الله لا إله إلا هو الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ [آل عمران: 2، 3] . والمص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الأعراف: 1، 2] ، أي وحروف المعجم، لهو   (1) الرجز لأبي القمقام الأسدي في معاني القرآن للفراء 1/ 369، وتهذيب الألفاظ ص 447، وبلا نسبة في لسان العرب (فنك) ، وتهذيب اللغة 10/ 281، وأساس البلاغة (فنك) ، وتاج العروس (فنك) ، وأمالي القالي 2/ 200، ومجمع البيان 1/ 33، وتفسير الطبري 1/ 68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 كتاب أنزل إليك فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ [الأعراف: 2] ، ويس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) [يس: 1، 2] . وص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) [ص: 1] ، وق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) [ق: 1] ، كله أقسام. وإن كان حروفا مأخوذة من صفات الله، فهذا فنّ من اختصار العرب، وقلّما تفعل العرب شيئا في الكلام المتصل الكثير إلا فعلت مثله في الحرف الواحد المنقطع. فكما يستعيرون الكلمة فيضعونها مكان الكلمة لتقارب ما بينهما، أو لأنّ إحداهما سبب للأخرى، فيقولون للمطر: سماء، لأنه من السماء ينزل ويقولون للنبات: ندى، لأنه بالندى ينبت، ويقولون: ما به طرق، أي ما به قوّة، وأصل الطّرق: الشحم، فيستعيرونه مكان القوّة، لأنّ القوّة تكون عنه. كذلك يستعيرون الحرف في الكلمة مكان الحرف فيقولون: «مدهته» بمعنى: (مدحته) ، لأن (الحاء) و (الهاء) يخرجان جميعا من مخرج واحد. ويقولون للقبر: جدث وجدف، ويقولون: ثوم وفوم ومغاثير ومغافير لقرب مخرج (الفاء) من (التاء) . ويقولون: هرقت الماء وأرقته، ولصق ولسق، وسحقت الزعفران وسهكته، وغمار الناس وخمارهم. في أشباه لهذا كثيرة يبدلون فيها الحرف من الحرف، لتقارب ما بينهما. وكما يقلبون الكلام ويقدّمون ما سبيله أن يؤخّر، ويؤخرون ما سبيله أن يقدّم، فيقولون» : كان الزناء فريضة الرجم أي كان الرجم فريضة الزّنى.   (1) يروى البيت بتمامه: كانت فريضة ما تقول كما ... أنّ الزناء فريضة الرجم والبيت من الكامل، وهو للنابغة الجعدي في ديوانه ص 35، ولسان العرب (زنى) ، وبلا نسبة في أمالي المرتضى 1/ 216، والإنصاف 1/ 373، والأضداد للسجستاني ص 152، وتفسير البحر المحيط 6/ 33، ومجمع البيان 1/ 155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 ويقولون «1» : كأنّ لون أرضه سماؤه يريدون: كأن لون سمائه من غبرتها لون أرضه. ويقولون: اعرض الناقة على الحوض، يريدون اعرض الحوض على الناقة. وكذلك يقدمون الحرف في الكلمة وسبيله التأخير، ويؤخرون الحرف وسبيله التقديم، فيقولون: جذب وجبذ، وبئر عميقة ومعيقة، وأحجمت عن الأمر وأجحمت، وبتلت الشيء، أي قطعته وبلّته، وما أطيبه وما أيطبه. ورجل أغرل وأرغل، وأعتقاه الأمر واعتقاء، واعتام واعتمى، في أشباه لهذا كثيرة. وكما يزيدون في الكلام الكلمة والمعنى طرحها، كقول الشاعر «2» : فما ألوم البيض ألا تسخرا يريد: أن تسخر. ويزيدون إذ، واللام، والكاف، والباء، وأشباه لهذا مما ذكرناه في باب المجاز- كذلك يزيدون في الكلمة الحرف، كما قال المفضّل العبدي «3» : وبعضهم على بعض حنيق أي حنق.   (1) قبله: وبلد مغبرّة أرجاؤه والرجز لرؤبة في ديوانه ص 3، والأشباه والنظائر 2/ 296، وخزانة الأدب 6/ 458، وشرح التصريح 2/ 339، وشرح شواهد المغني 2/ 971، ولسان العرب (عمى) ، ومعاهد التنصيص 1/ 178، ومغني اللبيب 2/ 695، والمقاصد النحوية 4/ 557، وتاج العروس (كبد) ، (عمى) ، وبلا نسبة في أمالي المرتضى 1/ 216، والإنصاف 1/ 377، وأوضح المسالك 4/ 342، وجواهر الأدب ص 164، وسر صناعة الإعراب 2/ 636، 637، وشرح شذور الذهب ص 414، وشرح المفصل 2/ 118، والصاحبي في فقه اللغة ص 202. (2) يليه: لما رأين الشمط القفندرا والرجز لأبي النجم في تاج العروس (قفدر) ، والخصائص 2/ 283، وبلا نسبة في لسان العرب (قفندر) ، وجمهرة اللغة ص 1147، 1185، والمخصص 2/ 175، والأزهية ص 154، والجنى الداني ص 303، والمحتسب 1/ 181، والمقتضب 1/ 47. (3) صدر البيت: تلاقينا بغينة ذي طريف والبيت من الوافر، وهو للمفضل النكري في لسان العرب (حنق) ، والأصمعيات ص 200، وبلا نسبة في لسان العرب (حنق) ، (سخن) ، وجمهرة اللغة ص 561، 1081، والمخصص 13/ 126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وقال الآخر «1» : أقول إذ خرّت على الكلكل أراد: الكلكل. وأنشد الفرّاء «2» : إنّ شكلي وإنّ شكلك شتّى ... فالزمي الخصّ واخفضي تبيضضّى فزاد ضادا، في أشباه لهذا كثيرة. وكما يحذفون من الكلام البعض إذا كان فيما أبقوا دليل على ما ألقوا فيقولون: والله أفعل ذاك، يريدون: لا أفعل. ويقولون: أتانا فلان عند مغيب الشمس، أو حين. أي حين كادت تغيب. وقال ذو الرّمة يذكر حميرا «3» : فلمّا لبسن الليل أو حين نصّبت ... له من خذا آذانها وهو جانح أراد: وحين أقبل الليل. وقال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى [الرعد: 31] ، أراد لكان هذا القرآن، فحذف. وكذلك يحذفون من الكلمة الحرف والشّطر والأكثر، ويبقون البعض والشطر والحرف، يوحون به ويومئون. يقولون: «لم يك» ، فيحذفون النون مع حذفهم الواو لاجتماع الساكنين. ويقولون: «لم أبل» يريدون: لم أبال. ويقولون: ولاك افعل كذا، يريدون: ولكن، قال الشاعر «4» :   (1) يليه: يا ناقتا ما جلت من مجال والرجز بلا نسبة في الإنصاف ص 25، والجنى الداني ص 178، ورصف المباني ص 12، وشرح الأشموني 2/ 485، ولسان العرب (كلل) ، والمحتسب 1/ 166، وتهذيب اللغة 15/ 665، وجمهرة اللغة ص 222، وتاج العروس (كلل) ، (باب الألف اللينة) وتفسير الطبري 1/ 70، والصاحبي في فقه اللغة ص 193، والموشح ص 94، وتفسير البحر المحيط 3/ 150. (2) البيت من الخفيف، وهو بلا نسبة في لسان العرب (جدب) ، (بيض) ، (خفض) ، (حوا) ، وديوان الأدب 2/ 166، وتاج العروس (بيض) ، وتفسير الطبري 1/ 70، وأمالي ابن الشجري 17/ 190. (3) البيت من الطويل، وهو في ديوان ذي الرمة ص 897، وأدب الكاتب ص 214، والخصائص 2/ 365، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 582. (4) صدر البيت: فلست بآتيه ولا أستطيعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل ويحذفون في الترخيم، فيقولون: يا صاح، يريدون: يا صاحب، ويا حار، يريدون: يا حارث. وقرأ بعض المتقدمين: وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ [الزخرف: 77] ، أي يا مالك. وقال الله تعالى: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ [النمل: 25] ، أي ألا يا هؤلاء اسجدوا لله. ويقولون: عم صباحا، أي أنعم. وقال الفرّاء في قولهم: سترى: إنما أرادوا: سوف ترى، فحذفوا الواو والفاء. وكذلك أمثالها. كقولك: سيكون كذا، وسيفعل كذا، تأويلها عنده: سوف يكون، وسوف يفعل. وفي قوله: بينا، إنما هو بينما. وقال في الآن: إنما هو أصله الأوان، كما قالوا: الراح والرّياح للخمر، قال لبيد «1» : درس المنا بمتالع فأبان أراد: المنازل، فقطع.   والبيت من الطويل، وهو للنجاشي الحارثي في ديوانه ص 111، والأزهية ص 296، وخزانة الأدب 10/ 418، 419، وشرح أبيات سيبويه 1/ 195، وشرح التصريح 1/ 196، وشرح شواهد المغني 2/ 701، والكتاب 1/ 27، والمصنف 2/ 229، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 2/ 133، 361، والإنصاف 2/ 684، وأوضح المسالك 1/ 671، وتخليص الشواهد ص 269، والجنى الداني ص 592، وخزانة الأدب 5/ 265، ورصف المباني ص 277، 360، وسر صناعة الإعراب 2/ 440، وشرح الأشموني 1/ 136، وشرح المفصل 9/ 142، واللامات ص 159، ولسان العرب (لكن) ، ومغني اللبيب 1/ 291، وهمع الهوامع 2/ 156، وتاج العروس (لكن) . [ ..... ] (1) عجز البيت: فتقادمت بالحبس فالسوبان والبيت من الكامل، وهو للبيد بن ربيعة في ديوانه ص 138، والدرر 6/ 208، وسمط اللآلي ص 13، وشرح التصريح 2/ 180، وشرح شواهد الشافية ص 397، ولسان العرب (تلع) ، (أبن) ، والمقاصد النحوية 4/ 246، وتاج العروس (تلع) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك 4/ 44، وشرح الأشموني 2/ 460، وهمع الهوامع 2/ 156، وكتاب العين 1/ 173. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وقال الطّرمّاح يذكر بقرا «1» : تتّقي الشّمس بمدريّة ... كالحماليج بأيدي التّلام المدريّة: القرون هاهنا. والحماليج: منافيخ الصّاغة شبّه قرونها بها إذا نفخ فيها. والتّلام: أراد التّلاميذ، يعني غلمان الصاغة فقطع. وقال أبو دؤاد «2» : فكأنّما تذكي سنابكها الحبا أراد الحباحب. وقال الآخر «3» : أناس ينال الماء قبل شفاههم ... لهم واردات الغرض شمّ الأرانب أراد: الغرضوف. وقال الآخر «4» :   (1) البيت من المديد، وهو للطرماح في ديوانه ص 399، وتهذيب اللغة 14/ 295، ولسان العرب (تلم) ، والمعاني الكبير ص 764، 791، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 1/ 353، وجمهرة اللغة ص 410، وتاج العروس (تلم) . (2) صدر البيت: يذرين جندل جائر لجنوبها والبيت من الكامل، وهو بلا نسبة في لسان العرب (حبحب) ، وتاج العروس (حبب) ، والصاحبي في فقه اللغة ص 194. (3) يروى صدر البيت بلفظ: كرام ينال الماء قبل شفاههم والبيت من الطويل، وهو بلا نسبة في لسان العرب (غرض) ، وأساس البلاغة (ورد) ، وتهذيب اللغة 8/ 7، وتاج العروس (غرض) . ويروى البيت بلفظ: كرام ينال الماء قبل شفاههم ... لهم عارضات الورد شمّ المناخر والبيت بلا نسبة في لسان العرب (عرض) ، والمخصص 7/ 98. (4) الرجز لأبي النجم في جمهرة اللغة ص 407، ولسان العرب (عصب:) ، (لجج) ، (خلل) ، (فلن) ، والطرائف الأدبية ص 66، والمنصف 2/ 25، والممتع في التصريف 2/ 640، وخزانة الأدب 2/ 389، والدرر 3/ 37، وسمط اللآلي ص 257، وشرح أبيات سيبويه 1/ 439، وشرح التصريح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 في لجّة أمسك فلانا عن فل أراد: عن فلان. وقال الآخر «1» : قواطنا مكّة من ورق الحمي أراد: الحمام. وأنشد الفراء «2» : قلت لها: قفي، فقالت لي: قاف أراد فقالت: قد وقفت، فأومأت بالقاف إلى معنى الوقوف. ولم نزل نسمع على ألسنة الناس: الألف: آلاء. الله، والباء: بهاه الله، والجيم: جمال الله، والميم: مجد الله. فكأنّا إذا قلنا: (حم) دللنا بالحاء على حليم، ودللنا بالميم على مجيد. وهذا تمثيل أردت أن أريك به مكان الإمكان.   2/ 180، وشرح المفصل 5/ 119، وشرح شواهد المغني 1/ 450، والصاحبي في فقه اللغة ص 228، والكتاب 2/ 248، 3/ 452، والمقاصد النحوية 4/ 228، وتهذيب اللغة 2/ 48، وتاج العروس (عصب) ، (فلن) ، ومقاييس اللغة 4/ 447، 5/ 202، ومجمل اللغة 4/ 61، وبلا نسبة في أوضح المسالك 4/ 43، وشرح الأشموني 2/ 460، وشرح ابن عقيل ص 527، وشرح المفصل 1/ 48، والمقتضب 4/ 238، والمقرب 1/ 182، وهمع الهوامع 1/ 77. (1) قبله: وربّ هذا البلد المحرّم ... والقاطنات البيت غير الرّيّم والرجز للعجاج في ديوانه 1/ 453، ولسان العرب (حمم) ، (قطن) ، (منى) ، وشرح ابن عقيل ص 425، والكتاب 1/ 26، 110، وما ينصرف وما لا ينصرف ص 51، والمحتسب 1/ 78، والمقاصد النحوية 3/ 554، 4/ 285، وتهذيب اللغة 15/ 381، وتاج العروس (ألف) ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر 1/ 294، والإنصاف 2/ 519، والخصائص 3/ 135، والدرر 6/ 244، ورصف المباني ص 178، وسر صناعة الإعراب 1/ 721، وشرح التصريح 2/ 189، وشرح الأشموني 2/ 343، 476، وشرح المفصل 6/ 75، وهمع الهوامع 1/ 181، 2/ 157، وتهذيب اللغة 4/ 16، ومقاييس اللغة 1/ 131، والمخصص 17/ 107، وكتاب العين 8/ 336. (2) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (وقف) ، وتهذيب اللغة 15/ 679، وتاج العروس (سين) ، والأغاني 5/ 181، وشرح شواهد الشافية ص 271، والصاحبي في فقه اللغة ص 94، ومجمع البيان 1/ 34، وتفسير البحر المحيط 1/ 35، والعمدة 1/ 280. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وعلى هذا سائر الحروف. ومن ذهب إلى هذا المذهب فلا أراه أراد أيضا إلا القسم بصفات الله، فجمع بالحروف المقطعة معاني كثيرة من صفاته، لا إله إلا هو. وروي أن بعض السلف وأحسبه عليا رحمة الله عليه، قال: الرّحم هو من الرّحمن. وقد كان (قوم من المفسرين) يفسرون بعض هذه الحروف فيقولون: (طه) يا رجل، و (يس) يا إنسان، و (نون) الدّواة. وقال (آخر) : (الحوت) و (حم) : قضي والله ما هو كائن، و (قاف) : جبل محيط بالأرض. و (صاد) - بكسر الدال- من المصاداة وهي المعارضة. وهذا ما لا نعرض فيه، لأنا لا ندري كيف هو ولا من أي شيء أخذ خلا (صاد) وما ذهب إليه فيها. في سورة سبأ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ [سبأ: 20، 21] . تأويله: أن إبليس لما سأل الله تبارك وتعالى النّظرة فأنظره قال: لأغوينّهم ولأضلّنّهم ولأمنّينّهم ولآمرنّهم فليبتّكنّ آذان الأنعام ولآمرنّهم فليغيّرنّ خلق الله ولأتّخذنّ منهم نصيبا مفروضا وليس هو في وقت هذه المقالة مستيقنا أنّ ما قدّره الله فيهم يتمّ، وإنما قاله ظانا، فلما اتبعوه وأطاعوه، صدق ما ظنّه عليهم أي فيهم، ثم قال الله: وما كان تسليطنا إيّاه إلا لنعلم من يؤمن، أي المؤمنين من الشاكين. وعلم الله تعالى نوعان: أحدهما علم ما يكون من إيمان المؤمنين، وكفر الكافرين، وذنوب العاصين، وطاعات المطيعين قبل أن تكون. وهذا علم لا تجب به حجة ولا تقع عليه مثوبة ولا عقوبة. والآخر: علم هذه الأمور ظاهرة موجودة فيحق القول ويقع بوقوعها الجزاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 فأراد جل وعز: ما سلطناه عليهم إلا لنعلم إيمان المؤمنين ظاهرا موجودا، وكفر الكافرين ظاهرا موجودا. وكذلك قوله سبحانه: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) [آل عمران: 142] ، أي يعلم جهاده وصبره موجودا يجب له به الثواب. وقوله سبحانه: قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) [سبأ: 46] . تأويله أنّ المشركين قالوا: إن محمدا مجنون وساحر، وأشباه هذا من خرصهم «1» ، فقال الله جل وعز لنبيه صلّى الله عليه وسلم: قل لهم: اعتبروا أمري بواحدة، وهي أن تنصحوا لأنفسكم، ولا يميل بكم هوىّ عن حق، فتقوموا لله وفي ذاته، مقاما يخلو فيه الرجل منكم بصاحبه فيقول له: هلمّ فلنتصادق، هل رأينا بهذا الرجل جنّة قط أو جرينا عليه كذبا؟ فهذا موضع قيامهم مثنى. ثم ينفرد كل واحد عن صاحبه فيفكّر وينظر ويعتبر. فهذا موضع قيامهم فرادى. فإنّ في ذلك ما دلهم على أنه نذير. وكل من تحير في أمر قد اشتبه عليه واستبهم، أخرجه من الحيرة فيه: أن يسأل ويناظر، ثم يفكّر ويعتبر. في سورة الفرقان أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) [الفرقان: 45، 46] . امتداد الظل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. كذلك قال المفسرون، ويدلك عليه أيضا قوله في وصف الجنة: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) [الواقعة: 30] أي لا شمس فيه، كأنه ما بين هذين الوقتين. وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً أي: مستقرا دائما حتى يكون كظل الجنة الذي لا تنسخه الشمس.   (1) خرص يخرص، بالضم، خرصا وتخرص: أي كذب، ورجل خرّاص: كذّاب. ومنه قوله تعالى: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ أي الكذابون الذين قالوا: محمد شاعر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا يقول: لما طلعت الشمس دلت عليه وعلى معناه. وكلّ الأشياء تعرف بأضدادها، فلولا الشمس ما عرف الظل، ولولا النور ما عرفت الظلمة، ولولا الحق ما عرف الباطل. وهكذا سائر الألوان والطّعوم، قال الله عز وجل: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) [الذاريات: 49] يريد به ضدين: ذكرا وأنثى، وأسود وأبيض، وحلوا وحامضا، وأشباه ذلك. ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً يعني الظّل الممدود بعد غروب الشمس، وذلك أنّ الشمس إذا غربت عاد الظل الممدود، وذلك وقت قبضه. وقوله: قَبْضاً يَسِيراً أي: خفيا، لأن الظل بعد غروب الشمس لا يذهب كلّه دفعة واحدة، ولا يقبل الظلام كلّه جملة، وإنما يقبض الله جلّ وعز ذلك الظل قبضا خفيّا شيئا بعد شيء، ويعقب كلّ جزء منه يقبضه بجزء من سواد الليل حتى يذهب كلّه. فدلّ الله عز وجل بهذا الوصف على قدرته ولطفه في معاقبته بين الشمس والظل والليل، لمصالح عباده وبلاده. وبعضهم يجعل قبض الظل عند نسخ الشمس إياه، ويجعل قوله قَبْضاً يَسِيراً أي: سهلا خفيفا عليه. وهو وجه، غير أن التفسير الأول أجمع للمعاني وأشبه بما أراد. في سورة يس وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) [يس: 38] . قوله: تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها أي: إلى مستقر لها، كما تقول: هو يجري لغايته وإلى غايته. ومستقرّها: أقصى منازلها في الغروب، وذلك لأنها لا تزال تتقدم في كل ليلة حتى تنتهي إلى أبعد مغاربها ثم ترجع، فذلك مستقرها لأنها لا تجاوزه. وقرأ بعض السلف: والشمس تجري لا مستقر لها والمعنى أنها لا تقف، ولا تستقر، ولكنها جارية أبدا. وقوله: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ يريد: أنه ينزل كل ليلة منزلا، ومنازله ثمانية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وعشرون منزلا عندهم، من أول الشهر إلى ثمان وعشرين ليلة منه ثم يستسرّ. وهذه المنازل هي النجوم التي كانت العرب تنسب إليها الأنواء. وأسماؤها عندهم الشّرطان والبطين، والثّريّا، والدّبران، والهقعة، والهنعة، والذّراع، والنّثرة، والطّرف، والجبهة، والزّبرة، والصّرفة، والعوّاء، والسّماك، والغفر، والزّباني، والإكليل، والقلب، والشّولة، والنّعائم، والبلدة، وسعد الذّابح، وسعد بلع، وسعد السّعود، وسعد الأخبية، وفرغ الدّلو المقدّم، وفرغ الدّلو المؤخّر، والرّشا وهو الحوت. وإذا صار القمر في آخر منازله دقّ حتى يعود كالعرجون القديم وهو العذق اليابس. والعرجون إذا يبس دقّ واستقوس حتى صار كالقوس انحناء، فشبّه القمر به ليلة ثمانية وعشرين. ثم قال سبحانه: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ يريد: أنهما يسيران الدّهر دائبين ولا يجتمعان، فسلطان القمر بالليل، وسلطان الشمس بالنهار، ولو أدركت الشمس القمر لذهب ضوءه، وبطل سلطانه، ودخل النهار على الليل. يقول الله جل وعز حين ذكر يوم القيامة: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) [القيامة: 9] وذلك عند إبطال هذا التدبير، ونقض هذا التأليف. وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ يقول: هما يتعاقبان، ولا يسبق أحدهما الآخر: فيفوته ويذهب قبل مجيء صاحبه. وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ أي: يجرون، يعني الشمس والقمر والنجوم. في سورة المرسلات انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) [المرسلات: 29، 33] . هذا يقال في يوم القيامة للمكذبين، وذلك أن الشمس تدنو من رؤوس الخلائق، وليس عليهم يومئذ لباس، ولا لهم كنان، فتلفحهم الشمس وتسفعهم وتأخذ بأنفاسهم، ومدّ ذلك اليوم عليهم وكربه، ثم ينجّي الله برحمته من يشاء إلى ظلّ من ظلّه، فهناك يقولون: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) [الطور: 27] ويقال للمكذبين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) [المرسلات: 29] من عذاب الله سبحانه وعقابه، انطلقوا من ذلك إلى ظل من دخان نار جهنم قد سطع ثم افترق ثلاث فرق، وكذلك شأن الدخان العظيم إذا ارتفع أن يتشعب. فيكونون فيه إلى أن يفرغ من الحساب، كما يكون أولياء الله في ظل عرشه أو حيث شاء من الظل إلى أن يفرغ من الحساب، ثم يؤمر بكل فريق إلى مستقرّه من الجنة أو النار. ثم وصف الظل فقال: لا ظَلِيلٍ أي: لا يظلّكم من حرّ هذا اليوم بل يدنيكم من لهب النار إلى ما هو أشد عليكم من حر الشمس، ولا يغني عنكم من اللهب. وهذا مثل قوله سبحانه: وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) [الواقعة: 43، 44] واليحموم: الدّخان وهو سرادق أهل النار فيما ذكر المفسرون. ثم وصف النار فقال: إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ فمن قرأه بتسكين الصاد، أراد القصر من قصور مياه الأعراب. ومن قرأه القصر شبّهه بأعناق النخل، ويقال: بأصوله إذا قطع. ووقع تشبيه الشّرر بالقصر في مقاديره، ثم شبّهه في لونه بالجمالات الصّفر وهي السود، والعرب تسمى السّود من الإبل صفرا، قال الشاعر «1» : تلك خيلي منها وتلك ركابي ... هنّ صفر أولادها كالزّبيب أي: هنّ سود. وإنما سمّيت السّود من الإبل: صفرا، لأنه يشوب سودها شيء من صفرة، كما قيل لبيض الظباء: أدم، لأن بياضها تعلوه كدرة. والشّرر إذا تطاير فسقط وفيه بقية من لون النار، أشبه شيء بالإبل السّود، لما يشوبها من الصفرة. في سورة الأنعام قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) [الأنعام: 33] .   (1) البيت من الخفيف، وهو للأعشى في ديوانه ص 385، ولسان العرب (خشب) ، (صفر) ، وتهذيب اللغة 12/ 170، وجمهرة اللغة ص 740، وتاج العروس (خشب) ، والخزانة 2/ 464، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 3/ 294، ومجمل اللغة 3/ 231، والمخصص 2/ 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 يريد: أنهم كانوا لا ينسبونك إلى الكذب ولا يعرفونك به، فلما جئتهم بآيات الله، جحدوها، وهم يعلمون أنك صادق. والجحد يكون ممن علم الشيء فأنكره، بقول الله عز وجل: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل: 14] . في سورة النساء وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (9) [النساء: 8، 9] . فيه قولان: أحدهما أن تكون القسمة: الوصية. يقول: إذا حضرها أقرباؤكم الذين لا يرثونكم، والمساكين، واليتامى- فاجعلوا لهم فيها حظا، وألينوا لهم القول. وليخش من حضر الوصية، وهو لو كان له ولد صغار خاف عليهم بعده الضّيعة- أن يأمر الموصي بالإسراف فيما يعطيه اليتامى والمساكين وأقاربه الذين لا يرثون فيكون قد أمره بما لم يكن يفعله لو كان هو الميت. وهو معنى قول سعيد بن جبير وقتادة. قال «قتادة» : إذا حضرت وصية ميت فمره بما كنت آمرا به نفسك، وخف على ورثته ما كنت خائفا على ضعفة أولادك لو تركتهم بعدك. والقول الآخر: أن تكون القسمة: قسمة الورثة الميراث بعد وفاة الرجل. يقول: فإذا حضرها الأقارب واليتامى والمساكين، فارضخوا «1» لهم وعدوهم. ثم استأنف معنى آخر فقال: وليخش من لو ترك ولدا صغارا خاف عليهم الضّيعة، فليحسن إلى من كفله من اليتامى، وليفعل بهم ما يجب أن يفعل بولده من بعده. وهو معنى قول ابن عباس في رواية أبي صالح عنه. في سورة البقرة أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ [البقرة: 266] .   (1) فارضخوا لهم: أي أعطوهم عطية قليلة. والرضخ: العطية القليلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 هذا مثل ضربه الله، تبارك وتعالى، للمنافقين والمرائين بأعمالهم لا يريدونه بشيء منها. يقول: يردون يوم القيامة على أعمال قد محقها الله وأبطلها، ووكلهم في ثوابها إلى من عملوا له، أحوج ما كانوا إلى أعمالهم، فمثلهم كمثل رجل كانت له جنّة فيها من كل الثمرات، وأصابه الكبر فضعف عن الكسب، وله أطفال لا يجدون عليه ولا ينفعونه، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت، ففقدها أحوج ما كان إليها، عند كبر السن، وضعف الحيلة، وكثرة العيال، وطفولة الولد. وهو معنى قول ابن عباس وغيره. وقد ضرب الله لهم قبل هذا مثلا فيه هذا المعنى بعينه، فقال: كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا [البقرة: 264] . يريد سبحانه: أنه محق كسبهم، فلم يقدروا عليه حين حاجتهم إليه، كما أذهب المطر التراب عن الصّفا، ولم يوافق في الصّفا منبتا. ثم ضرب مثلا للمخلصين، فقال: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ [البقرة: 265] أي: تحقيقا من أنفسهم، فقال: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ وأحسن ما تكون الجنان والرّياض: على الرّبا، أَصابَها وابِلٌ وهو: أشدّ المطر، فأضعفت في الحمل، ثم قال: فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ [البقرة: 265] أي: أصابها طلّ، وهو: أضعف المطر. فتلك حالها في النّزل وتضاعف الثمر، لا ينقص بالطّل عن مقدارها بالوابل. في سورة الرعد أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) [الرعد: 17] . هذا مثل ضربه الله للحق والباطل. يقول: الباطل وإن ظهر على الحق في بعض الأحوال وعلاه، فإن الله سيمحقه ويبطله، ويجعل العاقبة للحق وأهله، ومثل ذلك مطر جود، أسال الأودية بقدرها: الكبير على قدره، والصغير على قدره. فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً أي: عاليا على الماء كما يعلو الباطل تارة على الحق، ومن جواهر الأرض التي تدخل الكير ويوقد عليها. يعني الذهب والفضة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 للحلية، والشّبه والحديد للآلة، حيث يعلوها مثل زبد الماء. فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً أي: يلقيه الماء عنه فيتعلّق بأصول الشّجر وبجنبات الوادي، وكذلك خبث الفلزّ يقذفه الكير. فهذا مثل الباطل. وَأَمَّا ما الماء الذي يَنْفَعُ النَّاسَ وينبت المرعى فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ وكذلك الصّفو من الفلزّ يبقى خالصا لا شوب فيه. فهو مثل الحق. في سورة النور قول الله عز وجل: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40) [النور: 35، 40] . هذا مثل ضربه الله لقلب المؤمن، وما أودعه بالإيمان والقرآن من نوره فيه. فبدأ فقال: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أي بنوره يهتدي من في السموات والأرض. ثم قال: مَثَلُ نُورِهِ، يعني في قلب المؤمن. كذلك قال المفسّرون. وكان أبيّ يقرأ: الله نور السموات والأرض مثل نور المؤمن، روى ذلك عبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر الرّازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية. كَمِشْكاةٍ، وهي: الكوّة غير النافذة. فِيها مِصْباحٌ، أي سراج الْمِصْباحُ في قنديل، القنديل كأنه من شدة بياضه وتلألئه، كوكب درّي، يتوقّد ذلك المصباح بزيت من شجرة لا شَرْقِيَّةٍ، أي لا بارزة للشمس كلّ النهار وَلا غَرْبِيَّةٍ لا مستترة في الظلّ كلّ النهار. ولكنها شرقية غربية تصيبها الشمس في بعض النهار، والظلّ في بعض النهار. وإذا كان كذلك فهو أنضر لها، وأجود لحملها، وأكثر لنزلها، وأصفى لدهنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ يسرج به من شدة صفائه. وتم الكلام ثم ابتدأ فقال: نُورٌ عَلى نُورٍ، يعني نور المصباح على نور الزّجاجة والدّهن، يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ ثم قال: هذا المصباح فِي بُيُوتٍ، يعني المساجد. وذكر أهلها فقال: يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ، يريد أن القلوب يوم القيامة تعرف أمره يقينا فتتقلّب عما كانت عليه من الشك والكفر، وأن الأبصار يومئذ ترى ما كانت مغطّاة عنه فتتقلّب عمّا كانت عليه. ونحوه قوله تعالى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) [ق: 22] . ثم ضرب مثلا للكافرين، فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً، أي كالسراب يحسبه العطشان من البعد ماء يرويه حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً. كذلك الكافر يحسب ما قدّم من عمله نافعه، حتى إذا جاءه، أي مات، لم يجد عمله شيئا، لأنّ الله، عزّ وجلّ، قد أبطله بالكفر ومحقه، وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ، أي عند عمله فَوَفَّاهُ حِسابَهُ. ثم ضرب مثلا آخر، فقال: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ، يريد: أنه في حيرة من كفره كهذه الظلمات. وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً في قلبه، فَما لَهُ مِنْ نُورٍ. في سورة سبأ وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54) [سبأ: 51، 54] . كان الحسن- رضي الله عنه- يجعل الفزع يوم القيامة إذا بعثوا من القبور. يقول: ولو ترى يا محمد فزعهم حين لا فوت، أي لا مهرب ولا ملجأ يفوتون به ويلجأون إليه. وهذا نحو قوله: فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ [ص: 3] ، أي نادوا حين لا مهرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ، يعني القبور. وَقالُوا آمَنَّا بِهِ، أي بمحمد، صلى الله عليه. وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ والتناوش: التناول، أي كيف لهم بنيل ما يطلبون من الإيمان في هذا الوقت الذي لا يقال فيه كافر ولا تقبل توبته؟. وقوله: مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ يريد بعد ما بين مكانهم يوم القيامة، وبين المكان الذي تتقبّل فيه الأعمال. وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ، أي بمحمد، صلّى الله عليه وسلم. يقول: كيف ينفعهم الإيمان به في الآخرة وقد كفروا به في الدنيا؟. وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ، أي بالظنّ أن التوبة تنفعهم. مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ، أي بعيد من موضع تقبّل التوبة. وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ من الإيمان. كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ، أي بأشباههم من الأمم الخالية. وكان غير الحسن يجعل الفزع عند نزول بأس الله من الموت أو غيره، ويعتبره بقوله في موضع آخر: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85) [غافر: 84، 85] . في سورة النور لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً [النور: 61] . كان المسلمون في صدر الإسلام حين أمروا بالنصيحة ونهوا عن الخيانة وأنزل عليهم: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة: 188] . أي: لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق- أدقّوا النظر وأفرطوا في التوقّي، وترك بعضهم مؤاكلة بعض: فكان الأعمى لا يؤاكل الناس، لأنه لا يبصر الطعام فيخاف أن يستأثر، ولا يؤاكله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 الناس يخافون لضرره أن يقصر. وكان الأعرج يتوقّى ذلك، لأنه يحتاج لزمانته إلى أن يتفسّح في مجلسه، ويأخذ أكثر من موضعه، ويخاف الناس أن يسبقوه لضعفه. وكان المريض يخاف أن يفسد على الناس طعامهم بأمور قد تعتري مع المرض: من رائحة تتغيّر، أو جرح يبضّ، أو أنف يذنّ، أو بول يسلس، وأشباه ذلك. فأنزل الله تبارك وتعالى: ليس على هؤلاء جناح في مؤاكلة الناس، وهو معنى قول ابن عباس في رواية أبي صالح. وأما عائشة رضي الله عنها، فإنها قالت: كان المسلمون يوعبون «1» مع رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، في المغازي «2» ، ويدفعون مفاتيحهم إلى الضّمنى، وهم الزّمنى، ويقولون لهم: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في منازلنا. فكانوا يتوقّون أن يأكلوا من منازلهم حتى نزلت هذه الآية. وإلى هذا يذهب قوم، منهم الزّهري «3» . ثم قال الله عز وجل: وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أراد: ولا عليكم أنفسكم أن تأكلوا من أموال عيالكم وأزواجكم. وقال بعضهم: أراد: أن تأكلوا من بيوت أولادكم، فنسب بيوت الأولاد إلى الآباء، لأن الأولاد كسبهم، وأموالهم كأموالهم. يدلك على هذا: أن الناس لا يتوقّون أن يأكلوا من بيوتهم، وأن الله سبحانه عدّد القرابات وهم أبعد نسبا من الولد، ولم يذكر الولد. وقال المفسرون في قوله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) [المسد: 1، 2] . أراد: ما أغنى عنه ماله وولده، فجعل الولد كسبا. ثم قال: أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ، أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ يريد إخوتكم   (1) يقال: أوعب القوم: إذا خرجوا كلهم إلى الغزو. (2) رواه ابن الأثير الجزري في النهاية في غريب الحديث 5/ 206، بلفظ: وفي حديث عائشة: كان المسلمون يوعبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. أي يخرجون بأجمعهم في الغزو. (3) الزهري: هو أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري المدني، أحد الأئمة الكبار، وعالم الحجاز والأمصار، تابعي، وردت عنه الرواية في حروف القرآن. قرأ على أنس بن مالك، وعرض عليه نافع، توفي سنة 124 هـ صنف «كتاب المغازي» . (كشف الظنون 6/ 7، غاية النهاية 2/ 262، 263) . [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ، يعني العبيد، لأن السيد يملك منزل عبده. هذا على تأويل ابن عباس. وقال غيره: أو ما خزنتموه لغيركم. يريد الزّمنى الذين كانوا يخزنون للغزاة أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً من منازل هؤلاء إذا دخلتموها، وإن لم يحضروا ولم يعلموا، من غير أن تتزوّدوا وتحملوا، ولا جناح عليكم أن تأكلوا جميعا أو فرادى، وإن اختلفتم: فكان فيكم الزّهيد «1» ، والرّغيب «2» ، والصحيح، والعليل. وهذا من رخصته للقرابات وذوي الأواصر- كرخصته في الغرباء والأباعد لمن دخل حائطا وهو جائع: أن يصيب من ثمره، أو مرّ في سفر بغنم وهو عطشان: أن يشرب من رسلها «3» ، وكما أوجب للمسافر على من مرّ به الضيافة، توسعة منه ولطفا بعباده، ورغبة بهم عن دناءة الأخلاق، وضيق النظر. في سورة الأنعام فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) [الأنعام: 76- 79] . كان العصر الذي بعث الله، عز وجل، فيه إبراهيم، صلّى الله عليه وسلم، عصر نجوم وكهانة، وإنما أمر نمروذ بقتل الولدان في السنة التي ولد فيها إبراهيم، صلّى الله عليه وسلم، لأن المنجمين والكهّان قالوا: إنه يولد في تلك السنة من يدعو إلى غير دينه، ويرغب عن سنّته. وكان القوم يعظّمون النجوم، ويقضون بها على غائب الأمور، ولذلك نظر إبراهيم نظرة في النجوم فقال: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: 89] وكان القوم يريدون الخروج إلى مجمع لهم، فأرادوه على أن يغدو معهم، وأراد كيد أصنامهم خلاف مخرجهم، فنظر نظرة في النجوم، يريد علم النجوم، أي في مقياس من مقاييسها، أو سبب من أسبابها، ولم ينظر إلى النجوم أنفسها. يدلك على ذلك قوله: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) [الصافات: 88]   (1) يقال: رجل زهيد العين: إذا كان يقنعه القليل. (2) يقال: رجل رغيب العين: إذا كان لا يقنعه إلا الكثير. (3) الرّسل: اللبن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 ولم يقل: إلى النجوم. وهذا كما يقال: فلان ينظر في النجوم، إذا كان يعرف حسابها، وفلان ينظر في الفقه والحساب والنحو. وإنما أراد بالنظر فيها: أن يوهمهم أنه يعلم منها ما يعلمون، ويتعرف في الأمور من حيث يتعرفون، وذلك أبلغ في المحال، وألطف في المكيدة فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) [الصافات: 89] أي سأسقم فلا أقدر على الغدوّ معكم. هذا الذي أوهمهم بمعاريض الكلام، ونيّته أنه سقيم غدا لا محالة، لأن من كانت غايته الموت ومصيره إلى الفناء- فسيسقم. ومثله قوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) [الزمر: 30] ولم يكن النبي، صلّى الله عليه وسلم، ميّتا في ذلك الوقت، وإنما أراد: أنك ستموت وسيموتون. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى الزّهرة قالَ هذا رَبِّي يريد: أن يستدرجهم بهذا القول، ويعرّفهم خطأهم، وجهلهم في تعظيمهم شأن النجوم، وقضائهم على الأمور بدلالتها. فأراهم أنه معظّم ما عظّموا، وملتمس الهدى من حيث التمسوا. وكلّ من تابعك على هواك وشابعك على أمرك، كنت به أوثق، وإليه أسكن وأركن. فأنسوا واطمأنوا. فَلَمَّا أَفَلَ أراهم النقص الداخل على النجم بالأفول، لأنه ليس ينبغي لإله أن يزول ولا أن يغيب، ف قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ واعتبر مثل ذلك في الشمس والقمر، حتى تبين للقوم ما أراد، من غير جهة العناد والمبادأة بالتّنقص والعيب. ثم قال: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وما فيها من نجم وقمر وشمس وَالْأَرْضَ وما فيها من بحر وجبل وحجر وصنم وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ومثل هذا: الحواريّ حين ورد على قوم يعبدون (بدّا) «1» لهم فأظهر تعظيمه وترفيله «2» ، وأراهم الاجتهاد في دينهم، فأكرموه وفضّلوه وائتمنوه، وصدروا في كثير من الأمور عن رأيه. إلى أن دهمهم عدوّ لهم خافه الملك على مملكته، فشاور الحواريّ في أمره، فقال: الرأي أن ندعو إلهنا- يعني البدّ- حتى يكشف ما قد أظلّنا، فإنا لمثل هذا اليوم كنّا نرشّحه. فاستكفّوا حوله «3» يتضرّعون إليه ويجأرون، وأمر عدوّهم يستفحل، وشوكته تشتد يوما بعد يوم. فلما تبين لهم من هذه الجهة أن (بدّهم) لا ينفع ولا يدفع، ولا يبصر ولا يسمع، قال: هاهنا إله آخر، أدعوه فيستجيب،   (1) البدّ: الصنم الذي يعبد، لا أصل له في اللغة، فارسي معرب، والجمع: البددة، بفتح الباء والدال. (2) الترفيل: التسويد والتعظيم، ورفلت الرجل: إذا عظمته وملّكته. (3) استكفّوا حوله: يقال: استكف القوم حول الشيء: أي أحاطوا به ينظرون إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وأستجيره فيجير، فهلموا فلندعه. فدعوا الله جميعا فصرف عنهم ما كانوا يحاذرون، وأسلموا. ومن الناس من يذهب إلى أن إبراهيم صلّى الله عليه وسلم، كان في تلك الحال على ضلال وحيرة. وكيف يتوهّم ذلك على من عصمه الله وطهّره في مستقرّه ومستودعه؟ والله سبحانه يقول: إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) [الصافات: 84] . أي: لم يشرك به قط، كذلك قال المفسرون، أو من قال منهم. ويقول في صدر الآية: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) [الأنعام: 75] ثم قال على أثر ذلك: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ [الأنعام: 76] . فروي: أنه رأى في الملكوت عبدا على فاحشة فدعا الله عليه، ثم رأى آخر على فاحشة فدعا الله عليه، فقال له الله: (يا إبراهيم اكفف دعوتك عن عبادي، فإن عبدي بين خلال ثلاث: إما أن أخرج منه ذرّية طيّبة، أو يتوب فأغفر له، أو النار من ورائه) . أفترى الله أراه الملكوت ليوقن، فلما أيقن رأى كوكبا فقال: هذا ربي على الحقيقة والاعتقاد؟!. في سورة الأنعام ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: 143، 144] . أراد: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ [الأنعام: 141] ، وأنشأ لكم وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً يعني: كبارا وصغارا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ [الأنعام: 142] ، أي: لا تقفوا أثره فيما يحرّم عليكم مما لم يحرّمه الله، ويحلّه لكم مما حرّمه الله عليكم. ثم قال: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ، أي: كلوا مما رزقكم الله ثمانية أزواج. وإن شئت جعلته منصوبا بالرّدّ إلى الحمولة الفرش تبيينا لها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 والثمانية الأزواج: الضأن، والمعز، والإبل، والبقر. وإنما جعلها ثمانية وهي أربعة، لأنه أراد: ذكرا وأنثى من كل صنف، فالذكر زوج، والأنثى زوج، والزوج يقع على الواحد والاثنين. ألا ترى أنك تقول للرجل: زوج، وهو واحد، وللمرأة: زوج، وهي واحدة؟ قال الله تعالى: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) [النجم: 45] . وكانوا يقولون: ما في بطون الأنعام حلال لذكورنا ونسائنا، إن كان الجنين ذكرا، ومحرّم على إناثنا إن كان أنثى. ويحرّمون على الرجال والنساء الوصيلة وأخاها، ويزعمون أن الله حرّم ذلك عليهم. فقال الله سبحانه: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [المائدة: 103] . وقال يقايسهم في تحريم ما حرّموا: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ من الضأن والمعز حَرَّمَ الله عليكم أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ؟، فإن كان التحريم من جهة الذكرين: فكل ذكر حرام عليكم، وإن كان التحريم من جهة الأنثيين: فكل أنثى حرام عليكم، أَمِ حرّم عليكم أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ من الأجنّة؟. فإن كان التحريم من جهة الاشتمال، فالأرحام تشتمل على الذكور، وتشتمل على الإناث، وتشتمل على الذكور والإناث، فكل جنين حرام. أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا أي حين أمر الله بهذا فتكونون على يقين؟ أم تفترونه عليه وتختلقونه؟ توبيخ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: 144] . في سورة التين لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) [التين: 4، 8] . يريد: عدّلنا خلقه، وقوّمناه أحسن تعديل وتقويم. ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ، والسّافلون: هم الضعفاء والزّمنى الأطفال، ومن لا يستطيع حيلة، ولا يجد سبيلا. وتقول: سفل يسفل فهو سافل، وهم سافلون. كما تقول: علا يعلو فهو عال وهم عالون. وهو مثل قوله سبحانه: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ [النحل: 70] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 وأراد: أنّ الهرم يخرف ويهتز وينقص خلقه، ويضعف بصره وسمعه، وتقلّ حيلته، ويعجز عن عمل الصالحات، فيكون أسفل من هؤلاء جميعا. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الشعراء: 227] في وقت القوّة والقدرة، فإنّهم في حال الكبر غير منقوصين، لأنّا نعلم أنا لو لم نسلبهم القدرة والقوّة لم يكونوا ينقطعون عن عمل الصّالحات، فنحن نجري لهم أجر ذلك ولا نمنّه، أي لا نقطعه ولا ننقصه. وهو معنى قول المفسرين. ومثله قوله سبحانه: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) [العصر: 2] ، والخسر: النقصان إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) [العصر: 3] فإنهم غير منقوصين. ونحوه قول رسول الله، صلّى الله عليه وسلم: «يقول الله للكرام الكاتبين: إذا مرض عبدي فاكتبوا له ما كان يعمل في صحته، حتى أعاقبه أو أقبضه» «1» . ثم قال: فَما يُكَذِّبُكَ أيها الإنسان بِالدِّينِ؟ أي: بمجازاتي إيّاك بعملك وأنا أحكم الحاكمين؟ في سورة والشمس وضحاها قوله سبحانه: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) [الشمس: 7، 10] . أقسم بالنفس وخلقه لها ثم قال: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها، أي: فهّمها أعمال البر وأعمال الفجور، حتى عرف ذلك الجاهل والعاقل، ثم قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها يريد أفلح من زكى نفسه، أي: أنماها وأعلاها بالطاعة والبرّ والصّدقة واصطناع المعروف. وأصل التزكية: الزّيادة، ومنه يقال: زكا الزرع يزكوا: إذا كثر ريعه، وزكت النّفقة: إذا بورك فيها، ومنه زكاة الرّجل عن ماله، لأنها تثمّر ماله وتنمّيه. وتزكية القاضي للشّاهد منه، لأنه يرفعه بالتّعديل والذّكر الجميل. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها، أي: نقصها وأخفاها بترك عمل البرّ، وبركوب المعاصي. والفاجر أبدا خفيّ المكان، زمر المروءة، غامض الشّخص، ناكس الرأس.   (1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 3/ 231، والسيوطي في الدر المنثور 6/ 104، والمتقي الهندي في كنز العمال 6671. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 ودسّاها: من دسّست، فقلبت إحدى السيّنات ياء، كما يقال: لبّبت، والأصل لبّيت، و: قصّيت أظفاري، وأصله قصصت. ومثله كثير. فكأنّ النّطف «1» بارتكاب الفواحش دسّ نفسه وقمعها، ومصطنع المعروف شهر نفسه ورفعها. وكانت أجواد العرب تنزل الرّبا وأيفاع «2» الأرض، لتشتهر أماكنها للمعتفين، وتوقد النّيران في الليل للطّارقين. وكانت اللئام تنزل الأولاج «3» والأطراف والأهضام «4» : لتخفى أماكنها على الطّالبين. فأولئك أعلوا أنفسهم وزكّوها، وهؤلاء أخفوا أنفسهم ودسوها، قال الشاعر «5» : وبوّأت بيتك في معلم ... رحيب المباءة والمسرح كفيت العفاة طلاب القرى ... ونبح الكلاب لمستنبح ترى دعس آثار تلك المطيّ ... أخاديد كاللّقم الأفيح ولو كنت في نفق زائغ ... لكنت على الشّرك الأوضح ومثل هذا كثير. في لا أقسم بيوم القيامة أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) [القيامة: 3، 5] . هذا ردّ من الله عليهم، وذلك أنهم ظنوا أن الله لا ينشر الموتى، ولا يقدر على جمع العظام البالية، فقال: بلى، فاعلموا أنّا نقدر على رد السّلاميات «6» على صغرها،   (1) النّطف: المتهم. (2) اليفاع: المشرف من الأرض. (3) الأولاج: جمع ولجة، بالتحريك، وهي موضع أو كهف يستتر فيه المارة من مطر أو غيره. (4) الأهضام: جمع هضم، وهو ما تطامن الأرض. (5) الأبيات من المتقارب، وهي في كتاب الحيوان 1/ 381- 382، 5/ 134- 135، والبيت الأول بلا نسبة في تاج العروس (بوأ) ، والمعاني الكبير ص 409، والبيت الثاني بلا نسبة في تاج العروس (بوأ) . (6) السلاميات: جمع سلامى، وهي عظام صغار على طول الإصبع أو قريب منها، في كل يد ورجل أربع سلاميات أو ثلاث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 ونؤلّف بينها حتى يستوي البنان. ومن قدر على هذا فهو على جمع كبار العظام أقدر. ومثل هذا رجل قلت له: أتراك تقدر على أن تؤلّف هذا الحنظل في خيط؟ فيقول لك: نعم وبين الخردل. وأما قوله سبحانه: بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ فقد كثرت فيه التفاسير: فقال سعيد بن جبير يقول: سوف أتوب، سوف أتوب. وقال الكلبي: يكثر الذنوب، ويؤخّر التوبة. وقال آخرون: يتمنّى الخطيئة. وفيه قول آخر: على طريق الإمكان- إن كان الله تعالى أراده- وهو: أن يكون الفجور بمعنى: التكذيب بيوم القيامة، ومن كذّب بحق فقد فجر. وأصل الفجور: الميل، فقيل للكاذب والمكذّب والفاسق: فاجر لأنه مال عن الحق. وقال بعض الأعراب لعمر بن الخطاب رحمه الله- وكان أتاه فشكى إليه نقب إبله ودبرها واستحمله فلم يحمله- «1» : أقسم بالله أبو جفص عمر ... ما مسّها من نقب ولا دبر فاغفر له اللهمّ إن كان فجر أي: كذب. وهذا وجه حسن لأن الفجور اعتراض بين كلامين من أسباب يوم القيامة، أولهما: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ؟ والآخر: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ؟ فكأنه قال: أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه في الآخرة؟ بلى نقدر على أن نجمع ما صغر منها ونؤلف بينه.   (1) الرجز لرؤبة في شرح المفصل 3/ 71، وليس في ديوانه، ولا يمكن أن يكون رؤبة هو الذي قاله لعمر بن الخطاب، ذلك أنه توفي سنة 145 هـ، ولم يعتبره أحد من التابعين فضلا عن المخضرمين، وهو لعبد الله بن كيسبة أو لأعرابي في خزانة الأدب 5/ 154، 156، والأعرابي في شرح التصريح 1/ 121، والمقاصد النحوية 4/ 115، ولسان العرب (نقب) ، (فجر) ، وتاج العروس (نقب) ، (فجر) ، وتهذيب اللغة 11/ 50، وبلا نسبة في أوضح المسالك 1/ 128، وشرح الأشموني 1/ 59، وشرح شذور الذهب ص 561، وشرح ابن عقيل ص 489، ومعاهد التنصيص 1/ 279، وأساس البلاغة (نقب) ، وديوان الأدب 2/ 111، وكتاب العين 8/ 307. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ أي: ليكذّب بيوم القيامة وهو أمامه، فهو يسأل أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ [القيامة: 6] أي متى يكون؟. في والصافات وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) [الصافات: 27، 28] . يقول هذا المشركون يوم القيامة لقرنائهم من الشياطين: إنكم كنتم تأتوننا عن أيماننا، لأن إبليس قال: لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ [الأعراف: 17] فشياطينهم تأتيهم من كل جهة من هذه الجهات بمعنى من الكيد والإضلال. وقال المفسرون: فمن أتاه الشيطان من جهة اليمين: أتاه من قبل الدّين فلبّس عليه الحق. ومن أتاه من جهة الشمال: أتاه من قبل الشّهوات. ومن أتاه من بين يديه: أتاه من قبل التّكذيب بيوم القيامة والثواب والعقاب. ومن أتاه من خلفه: خوّفه الفقر على نفسه وعلى من يخلّف بعده، فلم يصل رحما، ولم يؤدّ زكاة. فقال المشركون لقرنائهم: إنكم كنتم تأتوننا في الدنيا من جهة الدّين، فتشبّهون علينا فيه حتى أضللتمونا. فقال لهم قرناؤهم: بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الصافات: 29] أي: لم تكونوا على حق فنشبّهه عليكم ونزيلكم عنه إلى باطل. وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ [الصافات: 30] ، أي: قدرة فنقهركم ونجبركم بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) [الصافات: 30، 31] نحن وأنتم العذاب فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) [الصافات: 32] يعني بالدعاء والوسوسة. ومثل هذا قوله سبحانه: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم: 22] . في سورة ص أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) [ص: 9، 11] . أخبر الله، سبحانه، عن عنادهم وتكبّرهم وتمسّكهم بآلهتهم في أول السورة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 فقال: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) [ص: 1] ، وحكى قولهم: أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ [ص: 6] ، أي اذهبوا ودعوه وتمسّكوا بآلهتكم فقال الله عز وجل: أعندهم بآلهتهم هذه خزائن الرحمة؟! أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) [ص: 10] ، أي في أبواب السماء، وأبواب السماء: أسبابها، قال الشاعر «1» : ولو نال أسباب السّماء بسلّم ويكون أيضا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ، أي: في الحبال إلى السماء، كما سألوك أن ترقى في السماء وتأتيهم بكتاب. ويقال للرجل إذا تقدم في العلم وغيره وبرع: قد ارتقى في الأسباب، كما يقال: قد بلغ السماء. ونحو هذا قوله في موضع آخر: أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) [الطور: 38] . وهذا كله توبيخ، وتقرير بالعجز. ثم قال بعد: جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) [ص: 11] . وجند بمعنى: حزب لهذه الآلهة. و (ما) زائدة. ومهزوم: مقموع ذليل. وأصل الهزم: الكسر، ومنه قيل للنّفرة في الأرض: هزمة، أي كسرة، وهزمت الجيش: أي كسرتهم، وتهزّمت القربة: أي انكسرت. يقول: هم حزب عند ذلك مقموع ذليل من الأحزاب، أي عند هذه المحن، وعند هذا القول، لأنهم لا يقدرون أن يدّعوا لآلهتهم شيئا من هذا، ولا لأنفسهم. والأحزاب: سائر من تقدّمهم من الكفار، سمّوا أحزابا لأنهم تحزّبوا على أنبيائهم. يقول الله سبحانه على إثر هذا الكلام: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ [ص: 12] وكذا وكذا. ثم قال: أُولئِكَ الْأَحْزابُ [ص: 13] فأعلمنا أن مشركي قريش حزب من هؤلاء الأحزاب.   (1) يروى البيت بتمامه: ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... وإن رام أسباب السماء بسلّم والبيت من الطويل، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 30، والخصائص 3/ 324، 325، وسر صناعة الإعراب 1/ 267، وشرح شواهد المغني 1/ 386، ولسان العرب (سبب) ، وشرح القصائد العشر ص 120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وكان ابن عباس في رواية أبي صالح- يذهب إلى أن الله تعالى أخبر رسوله صلّى الله عليه وسلم أنه سيهزم المشركين يوم بدر. في سورة السجدة يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) [السجدة: 5] . يريد سبحانه: أنه يقضي الأمر في السماء وينزله مع الملائكة إلى الأرض فتوقعه، ثم تعرج إلى السماء، أي تصعد، بما أوقعته من ذلك الأمر، فيكون نزولها به ورجوعها في يوم واحد مقداره ألف سنة مما تعدّون. يريد مقدار المسير فيه على قدر مسيرنا وعددنا ألف سنة، لأن بعد ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام لابن آدم، فإذا قطعته الملائكة، بادئة وعائدة في يوم واحد، فقد قطعت مسيرة ألف سنة في يوم واحد. في سورة النمل قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) [النمل: 65، 66] . أصل ادّارك: تدارك، فأدغمت التاء في الدال، وأدخلت ألف الوصل ليسلم للدّال الأولى السكون، ومثله: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً [الأعراف: 38] واثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التوبة: 38] ، وقالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ [النمل: 47] ، إنما هو: تداركوا، وتثاقلتم، وتطيّرنا. ومعنى تدارك: تتابع، وعِلْمُهُمْ: حكمهم على الآخرة، وحدسهم الظّنون. وأراد وما يشعرون متى يبعثون إلّا بتتابع الظّنون في علم الآخرة، فهم يقولون تارة: إنها تكون، وتارة: إنها لا تكون، وإلى كذا تكون، وما يعلم غيب ذلك إلّا الله تعالى. ثم قال: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بل هم من علمها عَمُونَ. وكان ابن عباس يقرؤها بلى أدارك علمهم. وهذه القراءة أشدّ إيضاحا للمعنى، لأنه قال: وما يشعرون متى يبعثون، ثم قال: بل تداركت ظنونهم في علم الآخرة، فهم يحدسون ولا يدرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 في سورة الامتحان يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) [الممتحنة: 1] . ذكر المفسرون: أنّها أنزلت في حاطب بن أبي بلتعة وكان كتب إلى المشركين بمكة يخبرهم بمسير الرسول، صلّى الله عليه وسلم إليهم، لأنّ عياله كانوا بمكة، ولم يكن له بها عشيرة تمنع منهم، فأراد أن يتقرب إليهم ليكفوا عن عياله فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ أي تخبرونهم بما يخبر بمثله الرجل أهل مودّته، وتنصحون لهم وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ، مع النبي، صلّى الله عليه وسلم يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ تمّ الكلام، يعني من مكة أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ، أي أخرجوا الرسول وأخرجوكم، لأن آمنتم بالله وحده إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي، يريد. فلا تلقوا إليهم بالمودة إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي طالبين رضاي. ثم قال: تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ [الممتحنة: 1] ، أي كيف تستترون بمودّتكم لهم منّي وأنا أعلم بما تضمرون وما تظهرون؟. ثم ضرب لهم إبراهيم، صلّى الله عليه وسلم، مثلا حين تبرّأ من قومه ونابذهم وباغضهم، إلى قوله سبحانه: وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا [الممتحنة: 4] ، يريد أنّ إبراهيم، صلّى الله عليه وسلم، عاداهم وهجرهم في كل شيء إلا في قوله لأبيه: لأستغفرنّ لك. في سورة الحج مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) [الحج: 15] . كان قوم من المسلمين لشدّة غيظهم وحنقهم على المشركين، يستبطئون ما وعد الله ورسوله من النصر. وآخرون من المشركين يريدون اتباعه ويخشون ألا يتم له أمره، فقال تعالى: مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ، يعني محمدا، عليه السلام، على مذاهب العرب في الإضمار لغير مذكور، وهو يسمعني أعده النصر والإظهار والتمكين، وإن كان يستعجل به قبل الوقت الذي قضيت أن يكون ذلك فيه، فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 بحبل إِلَى السَّماءِ، يعني سقف البيت، وكلّ شيء علاك وأظلّك فهو سماء، والسحاب: سماء، يقول الله تعالى: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً [ق: 9] ، وقال سلامة بن جندل يذكر قتل كسرى النعمان «1» : هو المدخل النعمان بيتا سماؤه ... نحور الفيول بعد بيت مسردق يعني: سقفه، وذلك أنّه أدخله بيتا فيه فيلة فتوطّأته حتى قتلته. وقوله: ثُمَّ لْيَقْطَعْ. قال المفسرون أي: ليختنق فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ هل يذهب ذلك ما في قلبه؟ وهذا كرجل وعدته شيئا مرة بعد مرة، ووكّدت على نفسك الوعد، وهو يراجعك في ذلك، ولا تسكن نفسه إلى قولك، فتقول له: إن كنت لا تثق بما أقوله، فاذهب فاختنق. تريد: اجهد جهدك. هذا معنى قول المفسرين. وفيه وجه آخر على طريق الإمكان، وهو أن تكون السماء هاهنا: السماء بعينها لا السقف، كأنه قال: فليمدد بسبب إليها أي بحبل، وليرتق فيه، ثم ليقطع حتى يخرّ فيهلك، أي: ليفعل هذا إن بلغه جهده، فلينظر هل ينفعه. ومثله قوله لرسول الله، صلّى الله عليه وسلم- حين سأله المشركون أن يأتيهم بآية ولم يشأ الله أن يأتيهم بها، فشقّ ذلك عليه-: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) [الأنعام: 35] يريد: اجهد إن بلغ هذا جهدك. وروى ابن عيينة عن ابن أبي نجيح، عن كردم: أنّ رجلا سأل أبا هريرة، وابن عمر، وابن عباس، عن رجل قتل مؤمنا متعمدا، هل له توبة؟ فكلهم قال: هل يستطيع أن يحييه؟ هل يستطيع أن يبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء؟. يريدون: أنه لا توبة له، كما أن هذا لا يكون. وقال أبو عبيدة: مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ أي: يرزقه الله. وذهب إلى   (1) يروى عجز البيت بلفظ: صدور الفيول بعد بيت مسردق والبيت من الطويل، وهو لسلامة بن جندل في ديوانه ص 182، ولسان العرب (سردق) ، وجمهرة اللغة ص 1146، وتاج العروس (سردق) ، والأصمعيات ص 137، وللأعشى في تهذيب اللغة 9/ 394، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في المخصص 6/ 7، وكتاب العين 5/ 251. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 قول العرب. أرض منصورة، أي ممطورة، وقد نصرت الأرض: أي مطرت. كأنه يريد: من كان قانطا من رزق الله ورحمته فليفعل ذلك، فلينظر هل يذهب كيده، أي حيلته غيظه لتأخر الرزق عنه؟. في سورة البقرة مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) [البقرة: 17، 20] . الَّذِي هاهنا بمعنى الذين استوقدوا نارا، وربما جاءت مؤدّية عن جميع، قال الشاعر «1» : وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد أراد: مثل المنافقين كمثل قوم كانوا في ظلمة فأوقدوا نارا، فلما أضاءت النار ما حولهم أطفأها الله وتركهم في ظلمات لا يبصرون. فالظلمة الأولى التي كانوا فيها: الكفر. واستيقادهم النار قولهم: لا إله إلّا الله، وإن محمدا رسول الله. فلما أضاءت لهم ما حولهم واهتدوا وآمنوا: خلوا إلى شياطينهم فنافقوا، وقالوا: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة: 14] فسلبهم نور الإيمان، وتركهم في ظلمات الكفر لا يبصرون. ثم ضرب لهم مثلا آخر شبيها بهذا المثل، فقال:   (1) البيت من الطويل، وهو للأشهب بن رميلة في خزانة الأدب 6/ 7، 25- 26، وشرح شواهد المغني 2/ 517، والكتاب 1/ 187، ولسان العرب (فلج) ، (لذا) ، والمؤتلف والمختلف ص 33، والمحتسب 1/ 185، ومعجم ما استعجم ص 1028، والمقاصد النحوية 1/ 482، والمقتضب 4/ 146، والمنصف 1/ 67، وللأشهب أو لحريث بن مخفض في الدرر 1/ 148، وبلا نسبة في الأزهية ص 99، وخزانة الأدب 2/ 315، 6/ 133، 8/ 210، والدرر 5/ 131، ورصف المباني ص 342، وسر صناعة الإعراب 2/ 537، وشرح المفصل 3/ 155، ومغني اللبيب 1/ 194، 2/ 552. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ [البقرة: 19] . فالصيب: المطر، والظلمات: ظلمة الليل، وظلمة السحابة، والرعد: دليل على شدة ظلمة الصّيّب وهوله. أراد: أو مثل قوم في ظلمات ليل ومطر. فضرب الظلمات لكفرهم مثلا، والبرق لتوحيدهم مثلا، فقال: إذا قالوا: لا إله إلا الله اهتدوا كما يهتدي هؤلاء القوم بالبرق إذا لمع فيمشون. وجعله يكاد يخطف الأبصار لشدّة ضوئه. وإذا نافقوا فاستهزؤوا وخلوا بشياطينهم فتابعوهم- عموا وصمّوا، كما يظلم على هؤلاء إذا سكن لمعان البرق فيقومون. في سورة المزمل الْمُزَّمِّلُ، المتزمّل، فأدغمت التاء في الزّاي، وكذلك الْمُدَّثِّرُ هو: المتدثّر بثيابه، فأدغمت التاء في الدال. وكل من التف بثوبه فقد تزمل به. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) [المزمل: 2] أي: صلّ الليل إلا شيئا يسيرا منه تنام فيه وهو الثلث، ثم قال: نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) [المزمل: 3] أي: قم نصفه، فاكتفى بالفعل الأول من الثاني لأنه دليل عليه. أو انقص من النصف قليلا إلى الثلث، أو زد على النصف إلى الثلثين. جعل له سعة في مدّة قيامه بالليل. فلما نزل هذه الآية قام رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، وطائفة من المؤمنين معه، أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه، وأخذ المسلمون أنفسهم بالقيام على المقادير حتى شقّ ذلك عليهم، فأنزل الله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ أي: وتقوم نصفه وثلثه وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ فيعلم مقدار ثلثيه ونصفه وثلثه، وسائر أجزائه ومواقيته، ويعلم أنكم أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ أي: لن تطيقوا معرفة حقائق ذلك والقيام فيه فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: 20] رخّص لهم أن يقوموا ما أمكن وخفّ، لغير مدة معلومة ولا مقدار. وكان هذا في صدر الإسلام، ثم نسخ بالصلوات الخمس. كذلك قال المفسرون: وقوله: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ [المزمل: 6] وهي: آناؤه وساعاته، مأخوذة من نشأت تنشأ نشئا، ونشأت أي: ابتدأت وأقبلت شيئا بعد شيء، وأنشأها الله فنشأت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وأنشأت. ومنه قوله سبحانه: أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ [الزخرف: 18] وقوله: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) [الواقعة: 35] أي: ابتدأناهن ونبّتناهن، ومنه قيل لصغار الجواري: نشأ. فكأنه قال: إن ساعات الليل الناشئة، فاكتفى بالوصف من الاسم. وقوله: أَشَدُّ وَطْئاً [المزمل: 6] أي: أثقل على المصلي من ساعات النهار. وهو من قولك: اشتدت على القوم وطأة سلطانهم: إذا ثقل عليهم ما يلزمهم ويأخذهم به. فأعلم الله نبيه أن الثواب في قيام الليل على قدر شدة الوطأة وثقلها. ومن قرأها: وطاء على تقدير (فعال) فهو مصدر لواطأت فلانا على كذا مواطأة ووطاء. وأراد: أنّ القراءة في الليل يتواطأ فيها قلب المصلي ولسانه وسمعه على التّفهّم والأداء والاستماع، بأكثر مما يتواطأ عليه بالنهار. وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل: 6] أي: أخلص للقول وأسمع له، لأن الليل تهدأ عنه الأصوات، وتنقطع فيه الحركات، فيخلص القول، ولا يكون دون تسمّعه وتفهّمه حائل. وقوله: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا (7) [المزمل: 7] يعني: تصرفا وإقبالا وإدبارا في حوائجك وأشغالك. في سورة الفتح هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25) [الفتح: 25] . كان بمكة قوم مؤمنون مختلطون بالمشركين غير متميزين ولا معروفي الأماكن، فلما صدّ المشركون رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، عن المسجد الحرام وعكفوا الهدي أن يبلغ محلّه. قال الله سبحانه: لولا أن بمكة رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لا تعرفونهم فتطئوهم لو دخلتموها، أي تقتلوهم ليدخلهم الله في رحمته لو فعلتم فتصيبكم من قتلهم بغير علم معرّة، أي يعيبكم المشركون بذلك ويقولون: قد قتلوا أهل دينهم وعذبوهم كما فعلوا بنا، وتلزمكم الدّيات. ثم قال، لَوْ تَزَيَّلُوا، أي تميزوا من المشركين لَعَذَّبْنَا المشركين بالسيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 عَذاباً أَلِيماً: فصار قوله سبحانه: لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً جوابا لكلامين: أحدهما: لَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ، والآخر: لَوْ تَزَيَّلُوا. في سورة الأعراف فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف: 176] . كلّ شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش أو علّة، خلا الكلب، فإنّه يلهث في حال الكلال، وحال الرّاحة، وحال الصحة والمرض، وحال الريّ والعطش. فضربه الله مثلا لمن كذّب بآياته فقال: إن وعظته فهو ضالّ، وإن لم تعظه فهو ضالّ، كالكلب إن طردته وزجرته فسعى لهث، أو تركته على حاله أيضا لهث. ونحوه قوله: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) [الأعراف: 193] . في سورة البقرة وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ [البقرة: 84، 85] . نزلت في بني قريظة والنّضير. يقول: أخذ الله عليكم في الكتاب: ألا تسفكوا دماءكم، أي لا تقتتلوا، فيقتل بعضكم بعضا، ولا تتركوا أسيرا في أيدي الآسرين فيقتلوه، ولا تخرجوا أنفسكم من دياركم، أي لا تغلبوا أحدا على داره وتخرجوه، فقبلتم ذلك وأقررتم به، وهو أخذ الميثاق وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ بذلك ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ أي تقتتلون فيقتل بعضكم بعضا، وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ أي تتعاونون وَإِنْ يَأْتُوكُمْ بهم أُسارى تُفادُوهُمْ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ من ديارهم أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ في فك الأسير وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ في إخراجكم من أخرجتم من ديارهم فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فجوزي بنو النّضير بأن أخرجهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 ديارهم لأوّل الحشر. وجوزي بنو قريظة بقتل المقاتلة وسبي الذّرّيّة. في الزخرف قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) [الزخرف: 81] . لما قال المشركون: لله ولد، ولم يرجعوا عن مقالتهم بما أنزله الله على رسوله، عليه السلام، من التبرّؤ من ذلك- قال الله سبحانه لرسوله عليه السّلام: قُلْ: لهم إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ أي: عندكم في ادعائكم. فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ أي: أول الموحدين، ومن وحّد الله فقد عبده، ومن جعل له ولدا أو ندّا، فليس من العابدين، وإن اجتهد. ومنه قوله: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [النازعات: 56] ، أي إلا ليوحّدون. قال مجاهد «1» : يريد إن كان لله ولد في قولكم، فأنا أول من عبد الله ووحّده، وكذّبكم بما تقولون. وبعض المفسرين يجعل إن بمعنى (ما) ، وليس يعجبني ذلك. ويقال: العابدون هاهنا: الغضاب الآنفون. يقال: عبدت من كذا أعبد عبدا. وأكثر ما تأتي الأسماء من فعل يفعل (على فعل) كقوله: وجل يوجل فهو وجل، وفزع يفزع فهو فزع. وربما جاء على (فاعل) نحو علم يعلم فهو عالم. وربما جاء منه على (فعل) و (فاعل) نحو صدى يصدي فهو صد وصاد، كذلك تقول: عبد يعبد فهو عبد وعابد، قال الشاعر «2» : وأعبد أن تهجى تميم بدارم   (1) مجاهد: هو مجاهد بن جبير المخزومي، أبو الحجاج المقري المكي، مولى عبد الله بن السائب، وقيل: مولى السائب بن أبي السائب، فقيه محدث تابعي ثقة، توفي بمكة سنة 102 هـ. وقيل: سنة 103 هـ. وقيل: سنة 104 هـ. صنف «تفسير القرآن» . (أسماء التابعين 1/ 363، كشف الظنون 6/ 4) . (2) صدر البيت: أولئك قومي إن هجوني هجوتهم والبيت من الطويل، وهو للفرزدق في إصلاح المنطق ص 50، ولسان العرب (عبد) ، والمحتسب 2/ 258، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في الإنصاف 2/ 637، وجمهرة اللغة ص 299، ويروى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 في سورة النساء مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) [النساء: 46] . هؤلاء قوم من اليهود كانوا يقولون للنبي، صلّى الله عليه وسلم، إذا حدّثهم وأمرهم: سمعنا، ويقولون في أنفسهم: عصينا. وإن أرادوا أن يكلموه بشيء قالوا له: اسمع يا أبا القاسم، ويقولون في أنفسهم: لا سمعت. ويقولون له: راعنا. يوهمونه في ظاهر اللفظ أنهم يريدون انتظرنا حتى نكلمك بما نريد، كما تقول العرب: أرعني سمعك وراعني، أي: انتظرني وترفّق وتلوّم عليّ، هذا ونحوه، وإنما يريدون سبّه بالرّعونة في لغتهم، فقال الله سبحانه: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ كذا وكذا. ويقولون: راعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ أي: قلبا للكلام بها، وَطَعْناً فِي الدِّينِ. وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا مكان قولهم: سمعنا وعصينا، وقالوا: واسمع. مكان قوله: لا سمعت، وانظرنا، مكان قولهم: راعنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ. والعرب تقول: نظرتك وانتظرتك، بمعنى واحد، قال الحطيئة «1» : وقد نظرتكم إيناء عاشية ... للخمس طال بها حوزي وتنساسي في سورة المائدة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)   عجز البيت بلفظ: وأعبد أن تهجى كليب بدارم وهو بهذا اللفظ للفرزدق في تاج العروس (عبد) ، (عني) ، وإصلاح المنطق ص 50، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 299، وديوان الأدب 2/ 230، ومقاييس اللغة 4/ 207. (1) يروى صدر البيت بلفظ: وقد نظرتكم أبناء صادرة والبيت من البسيط، وهو للحطيئة في ديوانه ص 106، ولسان العرب (نظر) ، (نسس) ، (عشا) ، والتنبيه والإيضاح 2/ 306، وجمهرة اللغة ص 250، وتهذيب اللغة 3/ 54، 5/ 177، 12/ 307، 14/ 371، وتاج العروس (نظر) ، (نسس) ، وكتاب العين 7/ 199، وبلا نسبة في المخصص 7/ 103، ولسان العرب (حوز) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا [المائدة: 106، 108] . قد اختلف الناس قديما في تأويل هذه الآية والسبب الذي نزلت فيه. وأنا مخبر من تلك المذاهب والتأويلات، بأشبهها بلفظ الكتاب، وأولاها بمعناه. وأراد الله عز وجل أن يعرفنا كيف نشده بالوصية عند حضور الموت، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أي: رجلان عدلان من المسلمين تشهدونهما على الوصيّة. وعلم الله سبحانه أنّ من الناس من يسافر فيصحبه في سفره أهل الكتاب دون المسلمين، وينزل القرية التي لا يسكنها غيرهم، ويحضره الموت فلا يجد من يشهده من المسلمين، فقال: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ أي: من غير دينكم إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي: سافرتم فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ وتمّ الكلام. فالعدلان من المسلمين للحضر والسفر خاصّة إن أمكن إشهادهما في السفر. والذّميان في السفر خاصة إذا لم يوجد غيرهما. ثم قال: تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ أراد: تحبسونهما من بعد صلاة العصر إن ارتبتم في شهادتهما وشككتم، وخشيتم أن يكونا قد غيّرا، أو بدّلا وكتما وخانا. وخصّ هذا الوقت، لأنه قبل وجوب الشمس «1» ، وأهل الأديان يعظمونه ويذكرون الله فيه، ويتوقّون الحلف الكاذب وقول الزّور، وأهل الكتاب يصلّون لطلوع الشمس وغروبها. فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً أي: لا نبيعه بعرض، ولا نحابي في شهادتنا أحدا ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة علمناها. فإذا حلفا بهذه اليمين على ما شهدا به، قبلت شهادتهما، وأمضي الأمر على قولهما.   (1) وجوب الشمس: يقال: وجبت الشمس وجبا ووجوبا: غابت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وروى معاوية بن عمرو «1» ، عن زائدة «2» ، عن زكريا «3» ، عن الشعبي «4» أنه قال: مات رجل بدقوقا ولم يشهده إلا نصرانيّان، فأشهدهما على وصيته، فقدما الكوفة وأبو موسى الأشعري «5» عليهما، فتقدّما إليه فأحلفهما في مسجد الكوفة بعد العصر: بالله ما بدّلا ولا كتما ولا كذبا وأجاز شهادتهما. فَإِنْ عُثِرَ بعد هذه اليمين أي: ظهر عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً أي: حنثا في اليمين بكذب في قول، أو خيانة في وديعة فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ أي: قام في اليمين مقامهما رجلان من قرابة الميت الذين استحق منهم الأوليان، وهما الوليّان، يقال: هذا الأولى بفلان، ثم يحذف من الكلام بفلان، فتقول: هذا الأولى، وهذان الأوليان، كما تقول: هذا الأكبر، في معنى الكبير، وهذا الأكبران، وعَلَيْهِمُ بمعنى (منهم) ، كما تقول: استحققت عليك كذا، واستوجبت عليك كذا، وأي: استحققته منك، واستوجبته منك، وقال الله سبحانه: الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ [المطففين: 2] . أي من الناس. وقال صخر الغيّ «6» : متى ما تنكروها تعرفوها ... على أقطارها علق نفيث   (1) هو معاوية بن عمرو بن خالد بن غلاب، توفي سنة 214 هـ (خلاصة تذهيب الكمال ص 102، والطبقات الكبرى لابن سعد 2/ 168، 3/ 258، 7/ 245) . (2) هو زائدة بن قدامة الثقفي، توفي غازيا بأرض الروم سنة 262 هـ (خلاصة تذهيب الكمال ص 102، والطبقات الكبرى لابن سعد 6/ 355) . (3) هو زكريا بن أبي زائدة، توفي سنة 248 هـ. (خلاصة تذهيب الكمال ص 104، والطبقات الكبرى لابن سعد 6/ 339) . (4) الشعبي: هو أبو عمرو، عامر بن شراحيل بن عبد الشعبي، كوفي تابعي جليل القدر وافر العلم، توفي سنة 109 هـ. (أسماء التابعين 1/ 267، والطبقات الكبرى لابن سعد 6/ 259) . (5) أبو موسى الأشعري: هو عبد الله بن قيس بن سليم بن حرب، أبو موسى، من بني الأشعر من قحطان، صحابي توفي سنة 44 هـ. (طبقات ابن سعد 4/ 79، والأعلام 4/ 114) . (6) البيت من الوافر، وهو لأبي المثلم الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص 264، وديوان الهذليين ص 224، والأزهية ص 276، ولصخر الغي في خزانة الأدب 2/ 199، ولسان العرب (نفث) ، والمعاني الكبير 2/ 970، وأدب الكاتب ص 521، والمقصور والممدود ص 103، وبلا نسبة في تفسير الطبري 7/ 79. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 يريد: من أقطارها. فإذا أقام الوليان مقام الذّمّيين لليمين، حلفا بالله لقد ظهرنا على خيانة الذميين وكذبهما وتبديلهما، وما اعتدينا عليهما، ولَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما أي: أصحّ لكفرهما وإيماننا. فإذا حلف الوليان على ما ظهرا عليه، رجع على الذّمّيين بما اختانا، ونقض ما مضى عليه الحكم بشهادتهما. ثم قال سبحانه: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أي: هذا الحكم أقرب بهم إلى أن يأتوا بالشهادة على وجهها، يعني أهل الذمة أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ على أولياء الميت بَعْدَ أَيْمانِهِمْ فيحلّفوا على خيانتهم وكذبهم، فيفضحوا، أو يغرّموا. وأكثر العلماء يذهب إلى أن هذا باب من الحكم (محكم) وأنه لم ينسخ من سورة المائدة شيء، لأنها آخر ما نزل. وبعضهم يذهب إلى أنه منسوخ بقوله سبحانه: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ [البقرة: 282] . في سورة الروم ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) [الروم: 28] . هذا مثل ضربه الله لمن جعل له شركاء من خلقه، فقال قبل المثل: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27] يريد: إعادته على المخلوق أهون من ابتدائه، لأنه ابتدأه في الرحم نطفة، وعلقة، ومضغة، وإعادته تكون بأن يقول له: كُنْ فَيَكُونُ [الأنعام: 73] فذلك أهون على المخلوق من النشأة الأولى. كذلك قال ابن عباس في رواية أبي صالح. وإن جعلته لله، جعلت أهون بمعنى: وهو هيّن عليه، أي سهل عليه. وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى [الروم: 27] يعني: شهادة أن لا إله إلا الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 ثم ضرب المثل فقال: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ وذلك أقرب عليكم هل لكم من شركاء من عبيدكم الذين تملكون فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ وعبيدكم سَواءٌ يأمرون فيه كأمركم، ويحكمون كحكمكم، وأنتم تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي كما يخاف الرجل الحرّ شريكه الحرّ في المال يكون بينهما، فلا يأمر فيه بشيء دون أمره، ولا يمضي فيه عطيّة بغير إذنه. وهو مثل قوله: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: 11] أي لا تعيبوا إخوانكم من المسلمين. وقوله: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً [النور: 12] أي بأمثالهم من المؤمنين. يقول: فإذا كنتم أنتم بهذه المنزلة فيما بينكم وبين أرقائكم، فكيف تجعلون لله من عبيده شركاء في ملكه؟ ومثله قوله وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فجعل منكم المالك والمملوك فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا يعني: السادة بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [النحل: 71] من عبيدهم حتى يكونوا فيه شركاء. يريد: فإذا كان هذا لا يجوز بينكم، فكيف تجعلونه لله؟. في سورة النحل ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً [النحل: 75] . هذا مثل ضربه الله لنفسه ولمن عبد دونه، فقال: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ فهذا مثل من جعل إلها دونه أو معه لأنه عاجز مدبّر، مملوك لا يقدر على نفع ولا ضرّ. ثم قال: وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ [النحل: 75] . فهذا مثله جل وعز لأنه الواسع الجواد القادر، الرّازق عباده جهرا من حيث يعلمون، وسرا من حيث لا يعلمون. وقال بعض المفسرين: هو مثل للمؤمن، والكافر. فالعبد: هو الكافر، والمرزوق: هو المؤمن. والتفسير الأول أعجب إليّ، لأن المثل توسّط كلامين هما لله تعالى أمّا (الأوّل) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 فقوله: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) [النحل: 73] . فهذا لله ومن عبد من دونه. وأمّا الآخر فقوله بعد انقضاء المثل: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) [النحل: 74] . ولأنه ضرب لهذا المعنى مثلا آخر بعقب هذا الكلام فقال: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ أي: أخرس لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أي: عيال وثقل على قرابته ووليّه أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ [النحل: 76] . فهذا مثل آلهتهم، لأنها صمّ بكم عمي، ثقل على من عبدها، في خدمتها والتّعبّد لها، وهي لا تأتيه بخير. ثم قال: هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل: 76] فجعل هذا المثل لنفسه. في سورة النحل أيضا وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ [النحل: 92] . هذا مثل لمن عاهد الله وحلف به، فقال تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها [النحل: 91] فتكونوا إن فعلتم كامرأة غزلت غزلا وقوّت مرّته وأبرمته، فلما استحكم نقضته، فجعلته أنكاثا. والأنكاث: ما نقض من أخلاق بيوت الشعر والوبر ليغزل ثانية ويعاد مع الجديد، وكذلك ما نقض من خلق الخزّ. ومنه قيل لمن أعطاك بيعته على السمع والطاعة ثم خرج عليك: ناكث، لأنه نقض ما وكّد على نفسه بالإيمان والعهود، كما تنقض النّاكثة غزلها. ثم قال: تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ. أي: دغلا وخيانة وحيلا أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ أي: لأن يكون قوم أغنى من قوم، وقوم أعلى من قوم، تريدون: أن تقتطعوا بأيمانكم حقوقا لهؤلاء، فتجعلوها لهؤلاء. وقال المفسرون في التي نقضت غزلها: هي امرأة من قريش وكانت حمقاء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 فكانت تغزل الغزل من الصوف والشّعر والوبر بمغزل في غلظ الذّراع، وصنّارة في قدر الإصبع، وفلكة عظيمة، فإذا أحكمته أمرت خادمها فنقضته. في سورة الصافات إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) [الصافات: 64، 65] . طلعها: ثمرها، سمّي طلعا لطلوعه كلّ سنة، ولذلك قيل: طلع النخل، لأوّل ما يخرج من ثمره، فإذا انتقل عن ذلك فصار في حال أخرى، سمى باسم آخر. والشياطين: حيّات خفيفات الأجسام قبيحات المناظر. قال الشاعر وذكر ناقة «1» : تلاعب مثنى حضرميّ كأنّه ... تعمّج شيطان بذي خروع قفر يعني: زماما، شبّه تلوّيه بتلوّي الحيّة. وقال آخر «2» : عجيّز تحلف حين أحلف ... كمثل شيطان الحماط أعرف والحماط: شجر. والعرب تقول إذا رأت منظرا قبيحا: كأنه شيطان الحماط. يريدون حيّة تأوى في الحماط، كما يقولون: أيم «3» الضّال، وذئب الغضى، وأرنب خلّة، وتيس حلّب، وقنفذ برقة.   (1) البيت من الطويل، وهو لطرفة بن العبد في الحيوان 4/ 133، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في لسان العرب (حبب) ، (عمج) ، (خرع) ، (شطن) ، (ثنى) ، ومقاييس اللغة 2/ 28، 3/ 148، 4/ 137، ومجمل اللغة 2/ 30، وديوان الأدب 2/ 60، 440، والمخصص 7/ 110، 8/ 109، وتاج العروس (حبب) ، (خرع) ، (ثنى) . (2) يروى الشطر الأول من الرجز بلفظ: عنجرد تحلف حين أحلف والرجز بلا نسبة في لسان العرب (عنجرد) ، (حمط) ، (شطن) ، (حيا) ، وتهذيب اللغة 3/ 370، 4/ 402، 11/ 313، وتاج العروس (عجرد) ، (عنجرد) ، (عرف) ، (شطن) ، (حيي) ، وديوان الأدب 2/ 60، 95. (3) الأيم والأيّم، بسكون الياء وتشديدها مثل: هين وهيّن: الحية الأبيض اللطيف، وعمّ به بعضهم جميع ضروب الحيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وذهب بعض المفسرين إلى أنه أراد الشياطين بأعيانها. شبّه ثمر هذه الشجرة في قبحه، برؤوسها، وهي إن لم تر، فإنّها موصوفة بالقبح، معروفة به. في سورة النساء وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء: 78، 79] . الحسنة هاهنا: الخصب والمطر. يقول: إن أصابهم خصب وغيث قالوا: هذا من عند الله. والسيئة: الجدب والقحط. يقول: وإن تصبهم سيئة يقولوا: هذه من عندك. أي بشؤمك، يقول الله تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. ومثل هذا قوله حكاية عن فرعون وملئه: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ [الأعراف: 131] يريد إذا جاءهم الخصب والمطر قالوا: هذا هو ما لم نزل نتعرّفه. وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الأعراف: 131] أي يتشاءمون بهم. أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ [الأعراف: 131] أي ما تطيّروا بموسى- لمجيئه- من عند الله. ونحو قوله: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها أي: خصبا وخيرا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي جدب وقحط بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بذنوبهم إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ [الروم: 36] . ثم قال: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ أي من خير فَمِنَ اللَّهِ، وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ أي من شر فَمِنْ نَفْسِكَ [النّساء: 79] أي بذنبك. الخطاب للنبي، صلّى الله عليه وسلم، والمراد غيره، على ما بيّنت في باب الكناية. في سورة يونس وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) [يونس: 11] . يريد أن الناس عند الغضب وعند الضّجر، قد يدعون على أنفسهم وأهلهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وأولادهم بالموت وبالخزي وتعجيل البلاء، كما قد يدعونه بالرزق والرحمة وإعطاء السّؤل. يقول: فلو أجابهم الله إذا دعوه بالشر الذي يستعجلونه استعجالهم بالخير- لقضي إليهم أجلهم، أي لهلكوا. وفي الكلام حذف للاختصار، كأنه قال: ولو يعجّل الله للنّاس إجابتهم بالشر الذي يستعجلونه استعجالهم بالخير، لهلكوا. في سورة هود أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17) [هود: 17] . هذا كلام مردود إلى ما قبله، محذوف منه الجواب للاختصار، على ما بيّنا في (باب المجاز) . وإنما ذكر الله تعالى قبل هذا الكلام قوما ركنوا إلى الدنيا ورضوا بها عوضا من الآخرة فقال: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) [هود: 15] . أي نؤتيهم ثواب أعمالهم في الدنيا، إذ كان عملهم لها وطلبهم ثوابها، وليس لهم في الآخرة إلا النار. وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها أي ذهب وبطل، لأنهم لم يريدوا الله بشيء منه. ثم قايس بين هؤلاء وبين النبي صلّى الله عليه وسلم وصحابته فقال: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ يعني محمدا، صلّى الله عليه وسلم. وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ أي من ربّه. (الهاء) مردودة إلى الله تعالى. والشاهد من الله تعالى للنبي، صلّى الله عليه وسلم: جبريل عليه السلام، يريد أنه يتبعه ويؤيّده ويسدّده ويشهده. ويقال: الشاهد: (القرآن) يَتْلُوهُ يكون بعده تاليا شاهدا له. وهذا أعجب إليّ، لأنّه يقول: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى يعني التوراة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 إِماماً وَرَحْمَةً قبل القرآن يشهد له بما قدّم الله فيها من ذكره. والجواب هاهنا محذوف. أراد أفمن كانت هذه حاله كهذا الذي يريد الحياة الدنيا وزينتها؟ فاكتفى من الجواب بما تقدم، إذ كان فيه دليل عليه. ومثله قوله: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ، ولم يذكر الذي هو ضده؟ لأنه قال بعد: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] . فالقانتون آناء الليل والنهار هم الذين يعلمون، وأضدادهم، هم الذين لا يعلمون، فاكتفى من الجواب بما تأخّر من القول، إذ كان فيه دليل عليه. وقوله: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ، يعني أصحاب محمد، صلّى الله عليه وسلم، يؤمنون بهذا. وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ، يعني مشركي العرب وغيرهم. فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ، فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ، أي في شك. إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، الخطاب للنبي، صلّى الله عليه وسلم، والمراد غيره، على ما بينا في (باب الكناية) . في سورة الأنعام ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) [الأنعام: 154] . أراد: آتينا موسى الكتاب تماما على المحسنين، كما تقول: أوصي بمالي للذي غزا وحج، تريد الغازين الحاجّين، ويكون (الذي) في موضع (من) كأنه قال: تماما على من أحسن. والمحسنون: هم الأنبياء، صلوات الله عليهم أجمعين، والمؤمنون. و (على) في هذا الموضع بمعنى (لام الجر) كما يقال: أتمّ الله عليه وأتمّ له قال الرّاعي «1» : رعته أشهرا وخلا عليها ... فطار النّيّ فيها واستغارا أراد: وخلا لها. وتلخيصه: آتينا موسى الكتاب تتميما منّا للأنبياء وللمؤمنين- الكتب.   (1) البيت من الوافر، وهو للراعي النميري في ديوانه ص 142، وخزانة الأدب 10/ 140، 142، ولسان العرب (غور) ، (خلا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وَتَفْصِيلًا منّا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً. وقد يكون أن تجعل (الذي) بمعنى (ما) أي آتينا موسى الكتاب تماما على أحسن من العلم والحكمة وكتب الله المتقدمة. وأراد بقوله: تَماماً على ذلك، أي زيادة على ذلك. والتأويل الأول أعجب إليّ، لأنه في مصحف عبد الله: تماما على الذين أحسنوا. وفي هذا ما دل على ذلك التأويل. وقد ينصرف أيضا إلى معنى آخر، كأنه قال: آتيناه الكتاب إتماما منّا للإحسان على من أحسن. في سورة المائدة إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) [المائدة: 33] . المحاربون لله ورسوله: هم الخارجون على الإمام وعلى جماعة المسلمين، يخيفون السّبل، ويسعون في الأرض بالفساد. وهم ثلاثة أصناف: رجل قتل النفس ولم يأخذ مالا. ورجل قتل النفس وأخذ المال. ورجل أخذ المال ولم يقتل النفس. فإذا قدر الإمام عليهم فإنّ بعضهم يقول: هو مخيّر في هذه العقوبات، بأيّها شاء عاقب كل صنف منهم. وكان بعضهم يجعل لكل صنف منهم حدّا لا يتجاوزه إلى غيره: فمن قتل النفس ولم يأخذ المال قتل، لأن النفس بالنفس. ومن قتل وأخذ المال: صلب إلى أن يموت، فكان الشّهر له بالصّلب جزاء له بأخذه المال، وقتله جزاء له بقتله للنفس. ومن أصاب المال ولم يقتل، فإن شاء الإمام قطع يده اليمنى جزاء بالسّرق، ورجله اليسرى جزاء بالخروج والمجاهرة بالفساد. وإن شاء نفاه من الأرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وقد اختلفوا في نفيه من الأرض، فقال بعضهم: هو أن يقال: من لقيه فليقتله. وقال آخر: هو أن يطلب في كل أرض يكون بها. وقال آخر: هو أن ينفى من بلده. وقال آخر: هو أن يحبس. قال أبو محمد: ولا أرى شيئا من هذه التفاسير، أشبه بالنفي في هذا الموضع من الحبس، لأنّه إذا حبس ومنع من التصرّف والتقلّب في البلاد، فقد نفي منها كلّها وألجئ إلى مكان واحد. وقال بعض المسجونين «1» : خرجنا من الدّنيا ونحن من أهلها ... فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى إذا جاءنا السّجّان يوما لحاجة ... عجبنا وقلنا: جاء هذا من الدّنيا ومن جعل النفي له أن يقال: من لقيه فليقتله، أو أن يطلب في كل أرض يكون بها- فإنه يذهب- فيما أحسب- إلى أنّ هذا جزاؤه قبل أن يقدر عليه، لأنّه لا يجوز أن يكون الإمام يظفر به فيدع عقوبته ثم يقول: من لقيه فليقتله. أو يجده فيتركه ثم يطلبه في كل أرض. وإذا كان هذا هكذا اختلفت العقوبات فصار بعضها لمن قدر عليه، وبعضها لمن لم يقدر عليه. وأشبه الأشياء أن تكون كلّها فيمن ظفر به. وأما نفيه من بلده إلى غيره، فليس نفي الخارب «2» من بلده إلى غيره عقوبة له، إذ كان في خرابته وخروجه غائبا عن مصره، بل هو إهمال وتسليط وبعث على التّزيّد في العيث والفساد. في سورة الأنبياء وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) [الأنبياء: 87] .   (1) البيتان من الطويل، وهما لصالح بن عبد القدوس في أمالي المرتضى 1/ 101، وبلا نسبة في عيون الأخبار 1/ 81- 82، والمحاسن والأضداد ص 38. (2) الخارب: اللّص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 يستوحش كثير من الناس من أن يلحقوا بالأنبياء ذنوبا، ويحملهم التنزيه لهم، صلوات الله عليهم، على مخالفة كتاب الله جلّ ذكره، واستكراه التأويل، وعلى أن يلتمسوا لألفاظه المخارج البعيدة بالحيل الضعيفة التي لا تخيل عليهم، أو على من علم منهم- أنّها ليست لتلك الألفاظ بشكل، ولا لتلك المعاني بلفق. كتأوّلهم في قوله تعالى: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [طه: 121] أي: بشم من أكل الشجرة. وذهبوا إلى قول العرب: غوى الفصيل: إذا أكثر من اللبن حتى يبشم. وذلك غوى- بفتح الواو- يغوي غيّا. وهو من البشم غوي- بكسر الواو- يغوى غوى. قال الشاعر يذكر قوسا «1» : معطّفة الأثناء ليس فصيلها ... برازئها ذرّا ولا ميّت غوى وأراد بالفصيل: السّهم. يقول: ليس يرزؤها درّا، ولا يموت بشما، ولو وجد أيضا في (عصى) مثل هذا السّنن لركبوه، وليس في (غوى) شيء إلا ما في (عصى) من معنى الذّنب، لأن العاصي لله التّارك لأمره غاو في حاله تلك، والغاوي عاص. والغيّ ضدّ الرّشد، كما أن المعصية ضد الطاعة. وقد أكل آدم، صلّى الله عليه وسلم، من الشجرة التي نهي عنها باستزلال إبليس وخدائعه إيّاه بالله والقسم به إنه لمن الناصحين، حتى دلّاه بغرور «2» . ولم يكن ذنبه عن إرصاد «3» وعداوة وإرهاص «4» كذنوب أعداء الله. فنحن نقول: (عصى وغوى) ، كما قال الله تعالى، ولا نقول: آدم (عاص ولا غاو) ، لأن ذلك لم يكن عن اعتقاد متقدّم ولا نيّة صحيحة، كما تقول لرجل قطع ثوبا وخاطه: قد قطعه وخاطه، ولا تقل خائط ولا خيّاط حتى يكون معاودا لذلك الفعل، معروفا به. وكتأولهم في قوله سبحانه: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها أنها همّت بالمعصية، وهمّ بالفرار منها! وقال (بعضهم) : وهمّ بضربها! والله تعالى يقول: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ [يوسف: 24] . أفتراه أراد الفرار منها. أو الضرب لها، فلما رأى البرهان أقام   (1) البيت من الطويل، وهو لعامر المجنون في تاج العروس (غوي) (ولعله عامر بن المجنون الجرمي المذكور في الأغاني 3/ 109، 122، وكان يلقب بمدرج الريح) . والبيت بلا نسبة في لسان العرب (غوي) ، وتهذيب اللغة 8/ 218، ومقاييس اللغة 4/ 400، والمخصص 7/ 41، 180، 15/ 162، وديوان الأدب 4/ 97. (2) دلاه بغرور: أي أوقعه فيما أراد من تغريره. (3) الإرصاد: الإعداد. (4) الإرهاص على الذنب: الإصرار عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 عندها وأمسك عن ضربها؟! هذا ما ليس به خفاء ولا يغلط متأوّله. ولكنها همّت منه بالمعصية همّ نيّة واعتقاد، وهمّ نبي الله صلّى الله عليه وسلم، همّا عارضا بعد طول المراودة، وعند حدوث الشهوة التي أتي أكثر الأنبياء في هفواتهم منها. وقد روي في الحديث: أنه ليس من نبي إلا وقد أخطأ أو همّ بخطيئة غير يحيى بن زكريا، عليهما السلام ، لأنّه كان حصورا لا يأتي النساء ولا يريدهنّ «1» . فهذا يدلّك على أنّ أكثر زلّات الأنبياء من هذه الجهة، وإن كانوا لم يأتوا في شيء منها فاحشة، بنعم الله عليهم ومنّه، فإن الصغير منهم كبير، لما آتاهم الله من المعرفة. واصطفاهم له من الرسالة، وأقام عليهم من الحجّة. ولذلك قال يوسف، صلّى الله عليه وسلم: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف: 53] ، يريد ما أضمره وحدّث به نفسه عند حدوث الشّهوة. وقد وضع الله تعالى الحرج عمّن همّ بخطيئة ولم يعملها. وقالوا في قوله: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً: إنه غاضب قومه! استيحاشا من أن يكون مع تأييد الله وعصمته وتوفيقه وتطهيره، يخرج مغاضبّا لربّه. ولم يذهب مغاضبا لربّه ولا لقومه، لأنّه بعث إليهم فدعاهم برهة من الدّهر فلم يستجيبوا، ووعدهم عن الله فلم يرغبوا، وحذّرهم بأسه فلم يرهبوا، وأعلمهم أنّ العذاب نازل عليهم لوقت ذكره لهم، ثم إن اعتزلهم ينتظر هلكتهم. فلما حضر الوقت أو قرب فكّر القوم واعتبروا، فتابوا إلى الله وأنابوا، وخرجوا بالمراضيع وأطفالها يجأرون ويتضرّعون، فكشف الله تعالى عنهم العذاب، ومتّعهم إلى حين. فإن كان نبي الله، صلّى الله عليه وسلم، ذهب مغاضبا على قومه قبل أن يؤمنوا، فإنما راغم من استحق في الله أن يراغم، وهجر من وجب أن يهجر، واعتزل من علم أن قد حقّت عليه كلمة العذاب. فبأيّ ذنب عوقب بالتهام الحوت، والحبس في الظّلمات، والغمّ الطويل؟.   (1) أخرجه أحمد في المسند 1/ 254، 292، 295، 301، 320، بلفظ: عن ابن عباس: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ما من أحد من ولد آدم إلا قد أخطأ أو همّ بخطيئة، ليس يحيى بن زكريا» . وروي الحديث بلفظ: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كل بني آدم يلقى الله بذنب، وقد يعذبه عليه إن شاء، أو يرحمه، إلا يحيى بن زكريا، فإنه كان سيدا وحصورا ونبيا من الصالحين» ، وأهوى النبي صلّى الله عليه وسلم إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال: «ذكره مثل هذه القذاة» . أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 373، وابن الجوزي في زاد المسير 1/ 383، والسيوطي في الدر المنثور 4/ 262، والشوكاني في الفوائد المجموعة 397، وابن أبي حاتم الرازي في علل الحديث 1835، 1913، والمتقي الهندي في كنز العمال 32428، والطبري في تفسيره 6/ 377- 378، والهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 209. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وما الأمر الذي ألام فيه فنعاه الله عليه إذ يقول: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) [الصافات: 142] والمليم: الذي أجرم جرما استوجب به الّلوم. ولم أخرجه من أولي العزم من الرّسل، حين يقول لنبيه، صلّى الله عليه وسلم: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) [القلم: 48] . وإن كان الغضب عليهم بعد أن آمنوا، فهذا أغلظ مما أنكروا، وأفحش مما استقبحوا، كيف يجوز أن يغضب على قومه حين آمنوا، ولذلك انتخب وبه بعث، وإليه دعا؟!. وما الفرق بين عدو الله ووليّه إن كان وليّه يغضب من إيمان مائة ألف أو يزيدون؟. والقول في هذا أنّ المغاضبة: المفاعلة من الغضب، والمفاعلة تكون من اثنين، تقول: غاضبت فلانا مغاضبة وتغاضبنا: إذا غضب كلّ واحد منكما على صاحبه، كما تقول: ضاربته مضاربة، وقاتلته مقاتلة، وتضاربنا وتقاتلنا. وقد تكون المفاعلة من واحد، فنقول: غاضبت من كذا: أي غضبت، كما تقول: سافرت وناولت، وعاطيت الرّجل، وشارفت الموضع، وجاوزت، وضاعفت، وظاهرت، وعاقبت. ومعنى المغاضبة هاهنا: الأنفة، لأن الأنف من الشيء يغضب، فتسمّى الأنفة غضبا، والغضب أنفة، إذا كان كل واحد بسبب من الآخر، تقول: غضبت لك من كذا، وأنت تريد أنفت، قال الشاعر «1» : غضبت لكم أن تساموا اللّفاء ... بشجناء من رحم توصل يروى مرة: (أنفت لكم) ، ومرة: (غضبت لكم) ، لأنّ المعنيين متقاربان. وكذلك (العبد) أصله: الغضب. ثم قد تسمّى الأنفة عبدا. وقال الشاعر «2» : وأعبد أن تهجى تميم بدارم   (1) البيت من المتقارب، وهو لخداش بن زهير في المعاني الكبير 1/ 528. (2) صدر البيت: أولئك قومي إن هجوني هجوتهم وتقدم البيت مع تخريجه قبل قليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 يريد: آنف. وحكى أبو عبيد، عن أبي عمرو، أنه قال في قوله تعالى: فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ [الزخرف: 81] : هو من الغضب والأنفة. ففسّر الحرف بالمعنيين لتقاربهما. فكأنّ نبيّ الله، صلّى الله عليه وسلم، لمّا أخبرهم عن الله أنّه منزل العذاب عليهم لأجل، ثم بلغه بعد مضيّ الأجل أنّه لم يأتهم ما وعدهم- خشي أن ينسب إلى الكذب ويعيّر به، ويحقّق عليه، لا سيّما ولم تكن قرية آمنت عند حضور العذاب فنفعها إيمانها غير قومه، فدخلته الأنفة والحميّة، وكان مغيظا بطول ما عاناه من تكذيبهم وهزئهم وأذاهم واستخفافهم بأمر الله، مشتهيا لأن ينزل بأس الله بهم. هذا إلى ضيق صدره، وقلّة صبره على ما صبر على مثله أولوا العزم من الرّسل. وقد روي في الحديث أنه كان ضيّق الصدر، فلما حمّل أعباء النّبوّة تفسّخ تحتها تفسّخ الرّبع تحت الحمل الثّقيل، فمضى على وجهه مضيّ الآبق النّادّ. يقول الله سبحانه: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) [الصافات: 139، 140] . فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ، أي لن نضيّق عليه، وأنّا نخلّيه ونهمله. والعرب تقول: فلان مقدّر عليه في الرزق، ومقتّر عليه، بمعنى واحد، أي مضيّق عليه. ومنه قوله تعالى: وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ [الفجر: 16] . وقدر- بالتخفيف والتثقيل- قال أبو عمرو بن العلاء: قتر وقتّر وقدر وقدّر، بمعنى واحد، أي ضيّق. فعاقبه الله عن حميّته وأنفته وإباقته، وكراهيته العفو عن قومه، وقبول إنابتهم- بالحبس له، والتّضييق عليه في بطن الحوت. وفي رواية أبي صالح: أن ملكا من ملوك بني إسرائيل كان أمره بالمسير إلى نينوى ليدعو أهلها بأمر شعياء النبي صلّى الله عليه وسلم، فأنف من أن يكون ذهابه إليهم بأمر أحد غير الله تعالى، فخرج مغاضبا للملك، فعاقبه الله بالتقام الحوت. قال: فلما قذفه الحوت بعثه الله إلى قومه فدعاهم. وأقام بينهم حتى آمنوا. في سورة يوسف حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ [يوسف: 110] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 قد تكلم المفسرون في هذه الآية بما فيه مقنع وغناء عن أن يوضّح بغير لفظهم: فروى عبد الرّزاق، عن معمر، عن قتادة، أنه قال: اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ من قومهم وَظَنُّوا أي: علموا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا وكان يقرؤها بالتشديد. وروى عبد الرزّاق، عن معمر، عن الزّهري، عن عروة، عن عائشة أنها قالت: استيئس الرّسل ممن كذّبهم من قومهم أن يصدّقوهم، وظنّت الرّسل أن من قد آمن بهم من قومهم قد كذّبوهم، جاءهم نصر الله عند ذلك. وكانت تقرأ فكذبوا بضم الكاف وتشديد الذال. وروى حجّاج، عن ابن جريج: عن ابن أبي مليكة، عن عروة، عن (عائشة) ، أنها قالت: لم يزل البلاء بالرّسل حتى خافوا أن يكون من معهم من المؤمنين قد كذّبوهم. وروى حجّاج، عن ابن جريج، عن مجاهد أنه قرأها قَدْ كُذِبُوا بفتح الكاف والذال وتخفيف الذال، يريد: حتى إذا استيئس الرسل من إيمان قومهم فظنّ قومهم أنّ الرّسل قد كذبوا فيما بلّغوا عن الله عز وجل. وروى حجّاج، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس أنه قرأ: كُذِبُوا بضم الكاف، وكسر الذال، وتخفيفها. وقال: كانوا بشرا، يعني الرسل، يذهب إلى أن الرسل ضعفوا فظنّوا أنهم قد أخلفوا. وهذه مذاهب مختلفة، والألفاظ تحتملها كلّها، ولا نعلم ما أراد الله عز وجل، غير أنّ أحسنها في الظاهر، وأولاها بأنبياء الله صلوات الله عليهم، ما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. في سورة لإيلاف قريش يذهب بعض الناس إلى أنّ هذه السورة وسورة الفيل واحدة. وبلغني عن ابن عيينة «1» أنه قال: كان لنا إمام بالكوفة يقرأ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) [الفيل: 1] ولِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) [قريش: 1] ولا يفرّق بينهما. وتوهّم القوم أنهما سورة واحدة، لأنهم رأوا قوله: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ مردودا إلى كلام في سورة الفيل.   (1) ابن عيينة: هو سفيان بن عيينة، تقدمت ترجمته. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 وأكثر الناس على أنهما سورتان، على ما في مصحفنا، وإن كانتا متّصلتي الألفاظ، على مذهب العرب في التضمين. والمعنى أنّ قريشا كانت بالحرم آمنة من الأعداء أن تهجم عليها فيه، وأنّ يعرض لها أحد بسوء إذا خرجت منه لتجارتها. وكانوا يقولون: قريش سكان حرم الله، وأهل الله وولاة بيته. والحرم واد جديب لا زرع فيه ولا ضرع، ولا شجر ولا مرعى، وإنما كانت تعيش فيه بالتجارة، وكانت لهم رحلتان في كل سنة: رحلة إلى اليمن في الشتاء، ورحلة في الصيف إلى الشام. ولولا هاتان الرّحلتان لم يمكن به مقام، ولولا الأمن بجوارهم البيت، لم يقدروا على التصرّف. فلمّا قصد أصحاب الفيل إلى مكة ليهدموا الكعبة وينقلوا أحجارها إلى اليمن فيبنوا به هناك بيتا ينتقل به الأمن إليهم، ويصير العزّ لهم، أهلكهم الله سبحانه، لتقيم قريش بالحرم، ويجاوروا البيت، فقال يذكر نعمته: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) [الفيل: 1، 5] . لِإِيلافِ قُرَيْشٍ [قريش: 1] . أي: فعل ذلك ليؤلّف قريشا هاتين الرّحلتين اللّتين بهما تعيشّهم ومقامهم بمكة تقول: ألفت موضع كذا: إذا لزمته، وآلفنيه الله، كما تقول: لزمت موضع كذا، وألزمنيه الله. وكرّر (لإيلاف) كما تقول في الكلام: أعطيتك المال لصيانة وجهك صيانة عن كلّ الناس، فتكرّر الكلام للتوكيد، على ما بينا في (باب التكرار) . ثم أمرهم بالشكر فقال: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ [قريش: 3، 4] في هذا الموضع الجديب من الجوع، وآمنهم فيه، والناس يتخطّفون حوله من الخوف. في سورة النحل أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) [النحل: 48] . تفيؤ الظّلال: رجوعها من جانب إلى جانب، فهي مرة تجاه الشّخص، ومرة وراءه، ومرة عن يمينه، ومرة عن شماله. وأصل الفيء: الرّجوع، ومنه قيل للظل في العشيّ: فيء، لأنه فاء، أي رجع من جانب إلى جانب. ومنه الفيء في الإيلاء إنما هو: الرّجوع إلى المرأة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وأصل السجود: التطأطؤ والميل، يقال: سجد البعير وأسجد: إذا طؤطىء ليركب، وسجدت النّخلة: إذا مالت. قال: لبيد يصف نخلا «1» : غلب سواجد لم يدخل بها الحصر فالغلب: الغلاظ الأعناق. والسّواجد: الموائل. ومن هذا قيل لمن وضع جبهته بالأرض: ساجد، لأنه تطامن في ذلك. ثم قد يستعار السجود فيوضع موضع الاستسلام والطاعة والذّل، كما يستعار التطأطؤ والتّطامن فيوضعان موضع الخشوع والخضوع والانقياد والذل، فيقال: تطامن للحق، أي أخضع له، وتطأطأ لها تخطّك، أي تذلّل لها ولا تعزّز. ومن الأمثال المبتذلة: اسجد للقرد في زمانه «2» . يراد: اخضع للسّفلة واللئيم في دولته، ولا يراد معنى سجود الصلاة. قال الشاعر «3» : بجمع تضلّ البلق في حجراته ... ترى الأكم فيها سجّدا للحوافر يريد أن حوافر الخيل قد قلعت الأكم ووطئتها حتى خشعت وانخفضت. ومن خلق الله عز وجل: المسخّر المقصور على فعل واحد، كالنّار شأنها الإحراق، والشمس والقمر شأنهما المسير الليل والنّهار دائبين، والفلك المسخّر للدّوران. ومنه المسخّر لمعنيين، ثم هو مخيّر بينهما، كالإنسان في الكلام والسكوت، والقيام والقعود، والحركة والسكون. والشمس والظلّ، خلقان مسخّران لأن يعاقب كلّ   (1) صدر البيت: بين الصفا وخليج العين ساكنة والبيت من البسيط، وهو للبيد بن ربيعة في ديوانه ص 60، وتاج العروس (سجد) ، (شمذ) ، وتهذيب اللغة 3/ 48، 10/ 572، 11/ 336، والمخصص 11/ 113، 114، ولسان العرب (سجد) . وفيه: «الخصر» بدل: «الحصر» . والبيت بلا نسبة في لسان العرب (عوج) ، (شمذ) . (2) هو جزء من رجز، وتمامه: فإن تلقاك بقيروانه ... أو خفت بعض الجور من سلطانه فاسجد لقرد السوء في زمانه والرجز بلا نسبة في لسان العرب (قرا) ، وتاج العروس (قرا) . (3) البيت من الطويل، وهو لزيد الخيل الطائي في الكامل 1/ 358، والأغاني 16/ 52، ومجموعة المعاني ص 192،، ومجمع البيان 1/ 141، وتفسير الطبري 1/ 289، ولعروة بن زيد في الوساطة ص 435، وبلا نسبة في تفسير الطبري 1/ 238، والأضداد لابن الأنباري ص 257، وكتاب الصناعتين ص 221، والصاحبي في فقه اللغة ص 224، والأزمنة والأمكنة 1/ 35، ولسان العرب (سجد) ، وتفسير البحر المحيط 1/ 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 واحد منهما صاحبه بغير فصل. والظلّ في أول النهار قبل طلوع الشمس يعمّ الأرض كما تعمّها ظلمة الليل، ثم تطلع الشمس فتعمّ الأرض إلا ما سترته الشّخوص، فإذا ستر الشّخص شيئا عاد الظّل. فرجوع الظلّ بعد أن كان شمسا، ودورانه من جانب إلى جانب- هو سجوده، لأنه مستسلم منقاد مطيع بالتّسخير، وهو في ذلك يميل، والميل: سجود. وكذلك قوله: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) [الرحمن: 6] ، أي يستسلمان لله بالتّسخير. وقوله: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) [الرعد: 15] ، أي يستسلم من في السموات من الملائكة، ومن في الأرض من المؤمنين طوعا، ويستسلم من فى الأرض من الكافرين كرها من خوف السيف. وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ مستسلمة. وهو مثل قوله: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران: 83] . في سورة ويل لكل همزة نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) [الهمزة: 6، 7] . قوله: تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ أي توفي عليها وتشرف، ويقال: طلع الجبل واطّلع عليه: إذا علا فوقه. وخصّ الأفئدة، لأنّ الألم إذا صار إلى الفؤاد مات صاحبه. فأخبرنا أنهم في حال من يموت وهم لا يموتون. وهو كما قال: فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى [طه: 74] يريد أنه في حال من يموت وهو لا يموت. في سورة محمد صلّى الله عليه وسلم وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) [محمد: 20، 22] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 كان المسلمون إذا بطل الوحي يقولون: هلّا نزل شيء، تأميلا أن تنزل عليهم بشرى من الله وفتح وخير وتخفيف فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ أي محدثة. وسميت المحدثة: محكمة، لأنها حين تنزل تكون كذلك حتى ينسخ منها شيء. وهي في حرف عبد الله فإذا أنزلت سورة محدثة وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ، أي فرض فيها الجهاد رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك ونفاق يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، يريد أنهم يشخصون نحوك بأبصارهم، وينظرون نظرا شديدا بتحديق، وتحديد، كما ينظر الشّاخص ببصره عند الموت، من شدّة العداوة. والعرب تقول: رأيته لمحا باصرا أي نظرا صلبا بتحديق. ونحوه قوله: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ [القلم: 51] ، أي يسقطونك بشدة نظرهم، وقد تقدم ذكر هذا. ثم قال: فَأَوْلى لَهُمْ تهدّد ووعيد. وتمّ الكلام، ثم قال: طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ وهذا مختصر، يريد قولهم قبل نزول الفرض: سمع لك وطاعة. فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ، أي جاء الجدّ كرهوا ذلك، فحذف الجواب على ما بينت في باب الاختصار. ثم ابتدأ فقال: فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ. ثم قال: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ، أي انصرفتم عن النبي، صلّى الله عليه وسلم، وما يأمركم به أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ، يريد فهل تريدون إذا أنتم تركتم محمدا، صلّى الله عليه وسلم، وما يأمركم به- أن تعودوا إلى مثل ما كنتم عليه من الكفر، والإفساد في الأرض وقطع الأرحام؟ في سورة ق وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (24) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) [ق: 21، 29] . السائق هاهنا: قرينها من الشياطين، سمّي سائقا، لأنه يتبعها وإن لم يحثّها ويدفعها. وكان رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، يسوق أصحابه، أي يكون وراءهم. والشّهيد: الملك الشاهد عليها بما عملت. يقول الله تعالى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا في الدنيا. فَكَشَفْنا عَنْكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 غِطاءَكَ أي: أريناك ما كان مستورا عنك في الدنيا. فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ أي: فأنت ثاقب البصر لمّا كشف عنك الغطاء. وَقالَ قَرِينُهُ يعني: الملك. هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ يعني: ما كتبه من عمله، حاضر عندي. أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ يقال: هو قول الملك، ويقال: قول الله جل ذكره. وقالَ قَرِينُهُ من الشياطين: رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ. وهذا مثل قوله سبحانه: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات: 22] يعني: قرناءهم. والعرب تقول: زوّجت البعير بالبعير، إذا قرنت أحدهما بالآخر. ومنه قوله: كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) [الدخان: 54] أي: قرنّاهم بهن. ثم قال: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) [الصافات: 27، 31] يعني: نحن وأنتم ذائقون العذاب، وقد تقدم تفسير هذا. قال الله تعالى: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ [ق: 28] يعني: المجرمين وقرناءهم من الشياطين وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق: 28، 29] . أي: لا يغيّر عن جهته، ولا يحرّف، ولا يزاد فيه ولا ينقص، لأنّي أعلم كيف ضلّوا وكيف أضللتموهم. وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق: 29] . في سورة الروم الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ [الروم: 1، 5] . كانت (فارس) غلبت (الروم) على أرض الجزيرة، وهي أدنى أرض الروم من سلطان فارس، فسرّ بذلك مشركو قريش. وكان المسلمون يحبّون أن تظهر الروم على أهل فارس، لأن الروم أهل كتاب، وأهل فارس مجوس، فساءهم أن غلبوهم على شيء من بلادهم، فأنزل الله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ أي: والروم من بعد أن غلبوا سَيَغْلِبُونَ أهل فارس. وغلبهم يكون للغالبين والمغلوبين جميعا، كما تقول: والشهداء من بعد قتلهم سيرزقون، أي: من بعد أن قتلوا فِي بِضْعِ سِنِينَ والبضع: ما فوق الثلاث ودون العشر. فغلبت الروم أهل فارس وأخرجوهم من بلادهم يوم الحديبية. لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أي: له الغلبة لمن شاء من قبل ومن بعد وَيَوْمَئِذٍ أي: يوم يغلب الروم أهل فارس يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ أهل الكتاب على المجوس. قال الشّعبي في سورة الفتح: أنزلت بعد الحديبية، فغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبايعوه مبايعة الرّضوان، وأطعموا نخل خيبر، وظهرت الرّوم على فارس، وفرح المؤمنون بتصديق كتاب الله، وظهرت الروم على المجوس. في سورة القصص إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص: 85، 86] . معاد الرّجل: بلده، لأنه يتصرّف في البلاد، ويضرب في الأرض ثم يعود إلى بلده. يقال: ردّ فلان إلى معاده، أي ردّ إلى بلده. ومثله قولهم لمنزل الرجل: مثاب ومثابة، لأنّه يتصرّف في حوائجه ثم يثوب إليه. وكان رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، حين خرج من مكة إلى المدينة اغتم بمفارقة مكة، لأنّها مولده وموطنه ومنشؤه، وبها أهله وعشيرته، واستوحش. فأخبره الله سبحانه في طريقه أنّه سيردّه إلى مكة، وبشّره بالظهور والغلبة. وفي الآية تقديم وتأخير، والمعنى: إنّ الذي فرض عليك القرآن، أي جعلك نبيّا ينزل عليك القرآن وما كنت ترجو قبل ذلك أن تكون نبيّا يوحى إليك الكتاب- لرادّك إلى مكة ظاهرا قاهرا. وهو معنى تفسير أبي صالح ومجاهد. وقال الحسن: معاده: يوم القيامة ووافقه على ذلك الزّهري وروى عبد الرّزّاق، عن معمر، عن قتادة، قال: هذا مما كان ابن عباس يكتمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 في سورة الجن قال أبو محمد: في هذه السورة إشكال وغموض: بما وقع فيها من تكرار (إنّ) واختلاف القرّاء في نصبها وكسرها، واشتباه ما فيها من قول الله تعالى وقول الجن، فاحتجنا إلى تأويل السورة كلّها. قال تعالى لنبيه: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ وكانوا استمعوا لرسول الله، صلّى الله عليه وسلم، وهو يقرأ: فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً [الجن: 1] يعني أنهم قالوا ذلك لقومهم حين رجعوا إليهم. واعتبار هذا قوله: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ثم قال: فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الأحقاف: 29] . ثم قال: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) [الجن: 3] يقال: جدّ فلان في قومه: إذا عظم عندهم. ثم قال: وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) [الجن: 4] أي: جاهلنا يقول شططا، أي: غلوا في الكذب والجور. ثم قال: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) [الجن: 5] . يقولون: كنا نتوهم أنّ أحدا لا يقول على الله باطلا. يريدون: إنّا كنا قبل اليوم نصدّقهم ونحن نظن أن أحدا لا يكذب على الله. وانقطع هاهنا قول الجن. و (إن) في جميع هذا مكسورة إلا (أنّه استمع) . وقال الله تعالى: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ [الجن: 6] فإن شئت أن تنصب وَأَنَّهُ وتردها إلى قوله: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ، وأنه أوحى إليّ أنه كان رجال- نصبت. وإن شئت أن تكسرها وتجعلها مبتدأة من الله سبحانه، فعلت. وكان الرجل في الجاهلية إذا سافر فصار إلى موضع مقفر موحش لا أنيس به، قال: أعوذ بسيّد هذا المكان من سفهائه. يعني سفهاء الجن ويعني بالسيد: رئيسهم. يقول الله عز وجل: فَزادُوهُمْ رَهَقاً [الجن: 6] يريد أنهم يزدادون بهذا التعوّذ طغيانا وإثما فيقولون: سدنا الجن والإنس. ثم قال تعالى: وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) [الجن: 7] يقول: ظن الجن كما ظننتم أيها الإنس أن لا بعث يوم القيامة. أي كانوا لا يؤمنون بالبعث كما أنكم لا تؤمنون به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وانقطع هاهنا قول الله تعالى. وقال الجن: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) [الجن: 8] . و (إنّا) مكسورة نسق على ما تقدم من قولهم. يريدون: حرست بالنجوم من استماعنا وكنا قبل ذلك نقعد منها مقاعد للسمع. وروى عبد الرّزّاق عن معمر أنه قال: قلت للزهري: أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ فقال: نعم. قلت: أفرأيت قوله: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9) [الجن: 9] . فقال: غلّظت وشدّد أمرها حين بعث النبي، صلّى الله عليه وسلم. وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزّهري، عن علي بن حسين، عن ابن عباس أنه قال: بينا النبي، صلّى الله عليه وسلم، جالس في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار، فقال: ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية؟ فقالوا: كنا نقول: يموت عظيم أو يولد عظيم «1» . في حديث فيه طول اختصرناه وذكرنا هذا منه لندلّ على أن الرجم قد كان قبل مبعثه ولكنه لم يكن مثله الآن في شدة الحراسة قبل مبعثه، وكانت تسترق في بعض الأحوال، فلما بعث منعت من ذلك أصلا. وعلى هذا وجدنا الشعراء القدماء: قال بشر بن أبي خازم الأسدي وهو جاهلي «2» :   (1) لفظ الحديث بتمامه: عن عبد الله بن عباس قال: أخبرني رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم من الأنصار، أنهم بينا هم جلوس ليلة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم رمي بنجم فاستنار. فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ماذا كنتم تقولون في الجاهلية إذا رمي بمثل هذا؟» ، قالوا: الله ورسوله أعلم، كنا نقول: ولد الليلة رجل عظيم ومات رجل عظيم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا تبارك وتعالى اسمه، إذا قضى أمر سبّح حملة العرش، ثم سبّح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا. ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ماذا قال. قال: فيستخبر بعض أهل السماوات بعضا، حتى يبلغ الخبر هذه السماء الدنيا، فتختطف الجن السمع، فيقذفون إلى أوليائهم، ويرمون به، فما جاؤوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون» . أخرجه مسلم في السلام حديث 124، والترمذي في تفسير سورة 34، باب 3، وأحمد في المسند 1/ 218. (2) البيت من الكامل، وهو لبشر بن أبي حازم في ديوانه ص 37، والمعاني الكبير 2/ 739، وكتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 والعير يرهقهما الغبار وجحشها ... ينقضّ خلفهما انقضاض الكوكب وقال أوس بن حجر، وهو جاهلي «1» : وانقضّ كالدّرّيّ يتبعه ... نقع يثور تخاله طنبا وقال عوف بن الخرع، وهو جاهلي «2» : يردّ علينا العير من دون أنفه ... أو الثّور كالدّرّيّ يتبعه الدّم وفي أيدي الناس كتب من كتب الأعاجم وسيرهم: تنبىء عن انقضاض النجوم في كلّ عصر وكلّ زمان. ثم قالت الجن: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ حين اشتدت حراسة السماء من استراق السمع أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [الجن: 10] أي خيرا. ثم قالت الجن: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ بعد استماع القرآن: وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ أي: منّا بررة أتقياء، ومنا دون البررة، وهم مسلمون وكُنَّا طَرائِقَ قِدَداً [الجن: 11] أي: أصنافا، وكلّ فرقة قدّة، وهي مثل قطعة في التقدير وفي المعنى، فكأنّهم قالوا: نحن أصناف وقطع. ثم قالت الجن: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ [الجن: 14] أي: الكافرون، الآية. وانقطع كلام الجن. وقال الله تعالى: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) [الجن: 16] أي: لو آمنوا جميعا لوسّعنا عليهم في الدنيا. وضرب الماء الغدق، وهو الكثير، لذلك مثلا، لأنّ الخير والرّزق كلّه بالمطر يكون، فأقيم مقامه إذ كان سببه، على ما أعلمتك في المجاز. لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [الجن: 17] . أي لتختبرهم فنعلم كيف شكرهم. وفيه قول آخر، يقول: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا [الجن: 16] جميعا على طريقة الكفر: لوسّعنا عليهم وجعلنا ذلك فتنة لهم و (أن) منصوبة منسوقة على ما تقدّم من قوله سبحانه.   الحيوان 6/ 273، 279. (1) البيت من الكامل، وهو لأوس بن حجر في ديوانه ص 3، ولسان العرب (درأ) ، وتهذيب اللغة 14/ 158، وتاج العروس (درأ) ، والمعاني الكبير 2/ 738، وكتاب الحيوان 6/ 274. (2) البيت من الطويل، وهو لعوف بن الخرع في كتاب الحيوان 6/ 275، والمعاني الكبير 2/ 739. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 ثم قال: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً [الجن: 17] أي يدخله عذابا شاقا. يقال: سلكت الخيط في الحبّة وأسلكته: إذا أدخلته، ومنه سمّي الخيط سلكا، تقول: سلكته سلكا، فتفتح أوّل المصدر. وتقول للخيط: هذا السّلك، فتكسر أوّل الاسم، مثل القطف والقطف. ومن الصّعد قيل: تصعّدني هذا الأمر، أي شقّ علي. والصّعود: العقبة الشّاقة. ومنه قوله: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) [المدثر: 17] ثم قال سبحانه: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) [الجن: 18] بنصب (أنّ) نسق على ما تقدّم من قوله: يريد أنّ السجود لله، ولا يكون لغيره، جمع مسجد، كما تقول: ضربت في البلاد مضربا بعيدا، وهذا مضرب بعيد. ثم قال سبحانه: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ [الجن: 19] بنصب (أنّ) نسق على ما تقدم من قوله سبحانه. يريد لما قام النبي، عليه السلام يَدْعُوهُ أي يدعو الله كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً يعني الجنّ كادوا يلبدون به ويتراكبون، رغبة فيما سمعوا منه، وشهوة له. ثم قال سبحانه لنبيه عليه السلام: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن: 21، 27] أي ارتضاء للنّبوّة والرّسالة، فإنّه يطلعه على ما يشاء من غيبه. ثم قال: فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً [الجن: 27] أي يجعل بين يديه وخلفه رصدا من الملائكة، يحوطون الوحي من أن تسترقه الشياطين فتلقيه إلى الكهنة، حتى تخبر به الكهنة إخبار الأنبياء، فلا يكون بينهم وبين الأنبياء فرق، ولا يكون للأنبياء دلالة. ثم قال: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ [الجن: 28] أي ليبلّغوا رسالات ربهم. و (العلم) هاهنا مثله في قوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ [آل عمران: 142] يريد: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا تجاهدوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وتصبروا، فيعلم الله ذلك ظاهرا موجودا يجب به ثوابكم، على ما بينا في غير هذا الموضع. في سورة البقرة الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة: 275] . هذا في يوم القيامة. يريد أنه إذا بعث النّاس من قبورهم خرجوا مسرعين، يقول الله سبحانه: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) [المعارج: 43] أي يسرعون، إلّا أكلة الرّبا، فإنهم يقومون ويسقطون، كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان ويسقط، لأنهم أكلوا الرّبا في الدنيا فأرباه الله في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم، فهم ينهضون ويسقطون، ويريدون الإسراع فلا يقدرون. في سورة الأحزاب إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73) [الأحزاب: 72، 73] . إن الله، جلّ ذكره، لما استخلف آدم على ذرّيته، وسلّطه على جميع ما في الأرض من الأنعام والطير والوحش- عهد إليه عهدا أمره فيه ونهاه، وحرّم عليه وأحلّ له، فقبله، ولم يزل عاملا به إلى أن حضرته الوفاة، فما حضرته، صلّى الله عليه وسلم، سأل الله أن يعلمه من يستخلف بعده، ويقلّده من الأمانة ما قلّده. فأمره أن يعرض ذلك على السموات بالشّرط الذي أخذ عليه من الثّواب إن أطاع، ومن العقاب إن عصى. فأبين أن يقبلنه شفقا من عقاب الله. ثم أمره أن يعرض ذلك على الأرض والجبال، فكلّها أباه. ثم أمره أن يعرضه على ولده، فعرضه عليه فقبله بالشّرط، ولم يتهيّب منه ما تهيبته السماء والأرض والجبال. إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً لنفسه جَهُولًا بعاقبة ما تقلّد لربّه. ثم قال لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ أي عرضنا ذلك عليه ليتقلّده، فإذا تقلّده ظهر نفاق المنافق وشرك المشرك، فعذّبه الله به، وظهر إيمان المؤمن فتاب الله عليه. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً للمؤمنين رَحِيماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 هذا قول على مذهب بعض المفسرين. وفيه قول آخر: قالوا: الأمانة: الفرائض، عرضت على السموات والأرض والجبال بما فيها من الثواب والعقاب، فأبين أن يحملنها، وعرضت على الإنسان بما فيها من الثواب والعقاب، فحملها. والمعنيان في التفسيرين متقاربان. في سورة الفرقان قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77) [الفرقان: 77] . في هذه الآية مضمر وله أشكلت: أي ما يعبأ بعذابكم ربّي لولا ما تدعونه من دونه من الشريك والولد. ويوضّح ذلك قوله: فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً أي يكون العذاب لمن كذّب ودعا من دونه إلها- لازما. ومثله من المضمر الشاعر «1» : من شاء دلّى النّفس في هوّة ... ضنك، ولكن من له بالمضيق أراد: ولكن من له بالخروج من المضيق؟ وقال الله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً [فاطر: 10] ، أي من كان يريد علم العزّة: لمن هي؟ فإنها لله تعالى.   (1) البيت من السريع، وهو بلا نسبة في لسان العرب (ضيق) ، (دلا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 باب اللّفظ الواحد للمعاني المختلفة 1- القضاء أصل قضى: حتم، كقول الله عز وجل: فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ [الزمر: 42] أي حتمه عليها. ثم يصير الحتم بمعان، كقوله: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 23] أي أمر، لأنه لما أمر حتم بالأمر. وكقوله: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ [الإسراء: 4] ، أي أعلمناهم، لأنّه لمّا خبّرهم أنهم سيفسدون في الأرض، حتم بوقوع الخبر. وقوله: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [فصلت: 12] ، أي صنعهن. وقوله: فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ [طه: 72] ، أي فاصنع ما أنت صانع. ومثله قوله: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ [يونس: 71] ، أي اعملوا ما أنتم عاملون ولا تنظرون. قال أبو ذؤيب «1» : وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السّوابغ تبّع أي صنعهما (داود) و (تبّع) . وقال الآخر في عمر بن الخطاب، رضي الله عنه «2» :   (1) البيت من الكامل، وهو لأبي ذؤيب الهذلي في سر صناعة الإعراب 2/ 760، وشرح أشعار الهذليين 1/ 39، وشرح المفصل 3/ 59، ولسان العرب (تبع) ، (صنع) ، (قضى) ، والمعاني الكبير ص 1039، وتاج العروس (صنع) ، (قضى) ، وبلا نسبة في شرح المفصل 3/ 58. (2) البيت من الطويل، وهو للشماخ في ديوانه ص 449، ولسان العرب (بوج) ، (كمم) ، وتهذيب اللغة 11/ 221، وجمهرة اللغة ص 1817، وتاج العروس (بوج) ، (كمم) ، وحماسة البحتري 3/ 107، وزهر الآداب 4/ 115، وللمزرد بن ضرار في البيان والتبيين 3/ 364، والأغاني 8/ 102، وبلا نسبة في ديوان الأدب 2/ 370، وجمهرة اللغة ص 272، وتفسير الطبري 1/ 404. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 قضيت أمورا ثمّ غادرت بعدها ... بوائج في أكمامها لم تفتّق أي عملت أعمالا، لأنّ كلّ من عمل عملا وفرغ منه فقد ختمه وقطعه. ومنه قيل للحاكم: قاض، لأنّه يقطع على الناس الأمور ويحتم. وقيل: قضي قضاؤك. أي فرغ من أمرك. وقالوا للميت: قد قضى. أي فرغ. وهذه كلها فروع ترجع إلى أصل واحد. 2- الهدى أصل هدى أرشد، كقوله: عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ [القصص: 22] . وقوله: وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ [ص: 22] ، أي أرشدنا. ثم يصير الإرشاد بمعان، كقوله: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ [فصلت: 17] ، أي بيّنا لهم. وقوله: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا [السجدة: 26] ، أي أو لم يبيّن لهم. وقوله: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ [الأعراف: 100] ، أي ألم يبيّن لهم. فالإرشاد في جميع هذه بالبيان. ومنها إرشاد بالدعاء، كقوله: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ [الرعد: 7] ، أي نبيّ يدعوهم. وقوله: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا [الأنبياء: 73] ، أي يدعون، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] ، أي تدعو. ومنها إرشاد بالإلهام، كقوله: الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 50] ، أي صورته من الإناث، ثم هدى أي ألهمه إتيان الأنثى، ويقال: طلب المرعى وتوقّى المهالك. وقوله عز وجل: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) [الأعلى: 3] ، أي هدى الذكر بالإلهام لإتيان الأنثى. ومنها إرشاد بالإمضاء، كقوله: وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ [يوسف: 52] ، أي لا يمضيه ولا ينفذه، ويقال: لا يصلحه. وبعض هذا قريب من بعض. 3- الأمة أصل الأمة: الصّنف من الناس والجماعة، كقوله عز وجل: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً، أي صنفا واحدا في الضلال فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ [البقرة: 213] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وكقوله عز وجل: إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ [الأنعام: 38] ، أي: أصناف، وكل صنف من الدواب والطير مثل بني آدم في المعرفة بالله، وطلب الغذاء. وتوقّي المهالك، والتماس الذّرء، مع أشباه لهذا كثيرة. ثم تصير الأمّة: الحين، كقوله عز وجل: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يوسف: 45] . وكقوله: وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ [هود: 8] . أي: سنين معدودة. كأنّ الأمّة من الناس القرن ينقرضون في حين، فتقام (الأمّة) مقام (الحين) . ثم تصير الأمّة: الإمام والرّباني، كقوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً [النحل: 120] . أي: إماما يقتدي به الناس، لأنه ومن اتبعه أمّة، فسمّي أمّة لأنه سبب الاجتماع. وقد يجوز أن يكون سمّي أمّة: لأنه اجتمع عنده من خل ال ال خير ما يكون مثله في أمة. ومن هذا يقال: فلان أمّة وحده، أي: هو يقوم مقام أمة. وقد تكون الأمة: جماعة العلماء، كقوله: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران: 104] . أي: يعلمون. والأمّة: الدّين، قال تعالى: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزخرف: 22، 23] أي: على دين. قال النابغة «1» : حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأثمن ذو أمّة وهو طائع؟ أي: ذو دين. والأصل أنه يقال للقوم يجتمعون على دين واحد: أمة، فتقام الأمة مقام الدين، ولهذا قيل للمسلمين: أمّة محمد، صلّى الله عليه وسلم، لأنهم على أمر واحد، قال تعالى: وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً [المؤمنون: 52] . مجتمعة على دين وشريعة. وقال الله عز وجل: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً [النحل: 93] ، أي: مجتمعة على الإسلام. 4- العهد الأمان: عهد، قال الله تعالى: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ [التوبة: 4] .   (1) البيت من الطويل، وهو للنابغة الذبياني في ديوانه ص 35، ولسان العرب (أمم) ، ومقاييس اللغة 1/ 28، وكتاب العين 8/ 428، وتهذيب اللغة 15/ 635، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 247، ومجمل اللغة 1/ 152. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 واليمين: عهد، قال الله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ [النحل: 91] . والوصية: عهد، قال الله تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ [يس: 60] . والحفاظ: عهد، قال صلّى الله عليه وسلم: «إنّ حسن العهد من الإيمان» «1» . والزّمان: عهد، يقال: كان ذلك بعد فلان. والعهد: الميثاق. ومنه قوله تعالى لإبراهيم عليه السلام: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124] أي: لا ينال ما وعدتك من الإمامة، الظالمين من ذريتك. والوعد من الله: ميثاق. 5- الإلّ الإلّ هو: الله تعالى. قال مجاهد في قوله سبحانه: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً [التوبة: 10] ويعني الله عز وجل. ومنه (جبر إلّ) في قراءة من قرأه بالتشديد. ويقال للرحم: إلّ كما اشتق لها الرّجم من الرّحمن. وقال حسّان «2» : لعمرك إن إلّك في قريش ... كإلّ السّقب من رأل النّعام أي: رحمك فيهم، وقرباك منهم. ومن ذهب بالإلّ في قوله تعالى: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا إلى الرّحم، فهو وجه حسن. كما قال الشاعر «3» : دعوا رحما فينا ولا يرقبونها ... وصدّت بأيديها النّساء عن الدّم يريد: أن المشركين لم يكونوا يرقبون في قراباتهم من المسلمين رحما، وقد قال الله تعالى لنبيه عليه السلام: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: 23] .   (1) أخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 15، وابن حجر في فتح الباري 10/ 436، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 6/ 235، 236، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار 2/ 184، ومناهل الصفا 21، والعجلوني في كشف الخفا 1/ 263، والشهاب في مسنده 971، 972. (2) البيت من الوافر، وهو لحسان بن ثابت في ديوانه ص 105، ولسان العرب (ألل) ، وديوان الأدب 4/ 155، وكتاب الجيم 3/ 226، وتاج العروس (ألل) ، وأمالي القالي 1/ 41، وكتاب الحيوان 4/ 360، وتفسير الطبري 10/ 60، والمعاني الكبير 1/ 336، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 1/ 21، وكتاب العين 8/ 361، والمخصص 3/ 151، والأضداد لابن الأنباري ص 346. [ ..... ] (3) البيت من الطويل، وهو بلا نسبة في المعاني الكبير 2/ 949. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 قال ابن عباس: يريد لا أسألكم على ما أتيتكم به من الهدى أجرا إلا أن تودّوني في القرابة منكم. وكانت لرسول الله، صلّى الله عليه وسلم، ولادات كثيرة في بطون قريش. وقال الله عز وجل: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: 128] . قال ابن عباس: قالت قريش: يسألنا أن نودّه في القرابة وهو يشتم آلهتنا ويعيبها؟! فأنزل الله تعالى: قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [سبأ: 47] . ويقال للعهد: (إلّ) ، لأنّه بالله يكون. 6- القنوت القنوت: القيام. وسئل صلّى الله عليه وسلم: أيّ الصلاة أفضل؟ فقال: «طول القنوت» «1» أي طول القيام. وقال تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً [الزمر: 9] ، أي أمن هو مصلّ، فسميت الصلاة قنوتا: لأنها بالقيام تكون. وروي عنه، عليه السلام، أنه قال: «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القانت الصائم» «2» ، يعني المصلّي الصّائم. ثم قيل للدعاء: قنوت، لأنّه إنما يدعو به قائما في الصلاة قبل الركوع أو بعده. وقيل، الإمساك عن الكلام في الصلاة قنوت، لأن الإمساك عن الكلام يكون في   (1) أخرجه مسلم في المسافرين حديث 165، والترمذي حديث 387، وابن ماجه حديث 1421، والنسائي 5/ 58، وأحمد في المسند 3/ 302، 314، 391، 412، 4/ 385، 387، والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 8، والطبراني في المعجم الكبير 17/ 48، والبغوي في شرح السنة 1/ 248، والهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 54، 60، 61، 3/ 116، والسيوطي في الدر المنثور 1/ 66، والهيثمي في موارد الظمآن 94، والمنذري في الترغيب والترهيب 3/ 409، وعبد الرزاق في مصنفه 4845، وابن عبد البر في التمهيد 1/ 132، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 299، 476، والمتقي الهندي في كنز العمال 1400، 19658، 44158، والقرطبي في تفسيره 15/ 239، وابن كثير في تفسيره 2/ 424، وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق 6/ 356، وأبو نعيم في حلية الأولياء 3/ 357، وتاريخ أصبهان 1/ 91. (2) أخرجه مسلم في الإمارة حديث 110، وأحمد في المسند 4/ 272، والهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 275، والسيوطي في الدر المنثور 1/ 245، 246، والمتقي الهندي في كنز العمال 10651، 10652، والربيع بن حبيب في مسنده 2/ 17، وابن أبي شيبة في مصنفه 5/ 287، 319. والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 القيام، لا يجوز لأحد أن يأتي فيه بشيء غير القرآن. قال زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ [البقرة: 238] ، فنهينا عن الكلام وأمرنا بالسكوت «1» . ويقال: إن قانتين في هذا الوضع: مطيعين. والقنوت: الإقرار بالعبوديّة، كقوله: وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) [الروم: 26] ، أي مقرّون بعبوديته. والقنوت: الطاعة، كقوله: وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ [الأحزاب: 35] ، أي: المطيعين والمطيعات. وقوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ [النحل: 120] ، أي مطيعا لله. ولا أرى أصل هذا الحرف إلا الطاعة، لأنّ جميع هذه الخلال: من الصلاة، والقيام فيها، والدعاء وغير ذلك- يكون عنها. 7- الدّين الدّين: الجزاء. ومنه قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) [الفاتحة: 4] أي يوم الجزاء والقصاص. ومنه يقال: دنته بما صنع. أي جزيته بما صنع. وكما تدين تدان. والدّين: الملك والسّلطان. ومنه قول الشاعر «2» : لئن حللت بخوّ في بني أسد ... في دين عمرو وحالت دوننا فدك أي في سلطانه. ويقال من هذا: دنت القوم أدينهم، أي قهرتهم وأذللتهم، فدانوا أي ذلّوا وخضعوا. والدّين لله إنما هو من هذا. ومنه قول القطاميّ «3» :   (1) أخرجه البخاري في العمل في الصلاة باب 2، وتفسير سورة 2، باب 43، ومسلم في المساجد حديث 35، والترمذي في الصلاة باب 180، وتفسير سورة 2، باب 33. (2) البيت من البسيط، وهو لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 183، ولسان العرب (فدك) ، (خوا) ، وجمهرة الأمثال 1/ 116، وتاج العروس (فدك) ، (خوو) ، والكامل 1/ 192، وأمالي القالي 2/ 295، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 688. (3) صدر البيت: رمت القاتل من فؤادك بعد ما والبيت من الكامل، وهو في ديوان القطامي ص 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 كانت نوار تدينك الأديانا أي تذلّك. ومنه قول الله تعالى: وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ [التوبة: 29] ، أي لا يطيعونه. والدّين: الحساب، من قوله تعالى، مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [التوبة: 36] . ومنه قوله عز وجل: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ [النور: 25] ، أي حسابهم. 8- المولى المولى: المعتق. والمولى: المعتق. والمولى: عصبة الرّجل. ومنه قول الله عز وجل: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي [مريم: 5] . أراد: القرابات. وقال رسول الله، صلّى الله عليه وسلم: «أيّما امرأة نكحت بغير أمر مولاها فنكاحها باطل» «1» ، أي: بغير أمر وليها. وقد يقال لمن تولّاه الرجل وإن لم يكن قرابة: مولى. قال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ [محمد: 14] أي: وليّ المؤمنين، وأن الكافرين لا ولي لهم. وقال تعالى: يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً [الدخان: 41] . أي: وليّ عن وليّه شيئا، إمّا بالقرابة أو بالتّولّي. والحليف أيضا: المولى. قال النابغة الجعدي «2» :   (1) أخرجه الترمذي في النكاح باب 15، وأبو داود في النكاح باب 16، 19، وابن ماجه في النكاح باب 15، والدارمي في النكاح باب 11، وأحمد في المسند 6/ 47، 66، 166، والألباني في إرواء الغليل 6/ 243، وابن حجر في فتح الباري 9/ 191، وسعيد بن منصور في سننه 528، 529، والحميدي في مسنده 228، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 7، والشافعي في مسنده 220، 275، والسهمي في تاريخ جرجان 316، وابن أبي شيبة في مصنفه 3/ 160، والحاكم في المستدرك 2/ 168. (2) يروى عجز البيت بلفظ: ولكن قطينا يحلبون الأتاويا والبيت من الطويل، وهو للنابغة الجعدي في ديوانه ص 178، ولسان العرب (أيّ) ، (ولي) ، وتاج العروس (أتي) ، (ولي) ، وبلا نسبة في لسان العرب (حلب) ، وديوان الأدب 3/ 224، وتاج العروس (حلب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 موالي حلف لا موالي قرابة ... ولكن قطينا يسألون الأتاويا وقال الله عز وجل: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب: 6] يريد: إذا دعاهم إلى أمر، ودعتهم أنفسهم إلى خلاف ذلك الأمر- كانت طاعته أولى بهم من طاعتهم لأنفسهم. 9- الضلال الضّلال: الحيرة والعدول عن الحق والطريق، يقال: ضلّ عن الحق، كما يقال: ضل عن الطريق. ومنه قوله تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (7) [الضحى: 7] . والضلال: النسيان. والنّاسي للشيء عادل عنه وعن ذكره، قال الله تعالى: قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) [الشعراء: 20] . أي: النّاسين. وقال: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى [البقرة: 282] أي: إن نسيت واحدة ذكّرت الأخرى. والضلال: الهلكة والبطلان، ومنه قوله تعالى: وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ [السجدة: 10] . أي: بطلنا ولحقنا بالتراب: ويقال: أضلّ القوم ميّتهم، أي: قبروه. قال النابغة «1» : وآب مضلّوه بعين جليّة أي: قابروه. 10- الإمام الإمام: أصله ما ائتممت به. قال الله تعالى لإبراهيم: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [البقرة: 124] . أي: يؤتمّ بك، ويقتدى بسنّتك. ثم يجعل الكتاب إماما يؤتم بما أحصاه. قال الله عز وجل: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الإسراء: 71] أي: بكتابهم الذي جمعت فيه أعمالهم في الدنيا. وقال: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [يس: 12] يعني: كتابا، أو يعني: اللّوح المحفوظ.   (1) عجز البيت: وغودر بالجولان حزم ونائل والبيت من الطويل، وهو للنابغة الذبياني في ديوانه ص 121، ولسان العرب (ضلل) ، (جلا) ، وتاج العروس (ضلل) ، (جلا) ، وتهذيب اللغة 11/ 187، 465، وجمهرة اللغة ص 1044، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 1077، ومقاييس اللغة 1/ 496، 3/ 356، ومجمل اللغة 3/ 277. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وقد يجعل الطريق إماما، لأنّ المسافر يأتم به ويستدل. قال الله تعالى: وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ [الحجر: 79] أي: بطريق واضح. 11- الصلاة الصلاة: الدعاء. قال الله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة: 103] . أي: ادع لهم، إنّ ذلك مما يسكّنهم وتطمئن إليه قلوبهم. وقال: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ [التوبة: 99] يعني: دعاءه. وقال الأعشى يذكر الخمر والخمّار «1» : وقابلها الرّيح في دنّها ... وصلّى على دنّها وارتسم أي: دعا لها بالسلامة من الفساد والتغيّر. والصّلاة من الله: الرحمة والمغفرة. قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب: 56] . وقال: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ [الأحزاب: 43] وقال: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ [البقرة: 157] أي: مغفرة. وقال النبي، صلّى الله عليه وسلم: «اللهم صلّ على آل أبي أوفى» «2» يريد: ارحمهم واغفر لهم.   (1) البيت من المتقارب، وهو للأعشى في ديوانه ص 85، ولسان العرب (رسم) ، (صلا) ، والمخصص 13/ 85، ومقاييس اللغة 3/ 300، وتهذيب اللغة 9/ 166، 12/ 237، وجمهرة اللغة ص 115، 720، وتاج العروس (رسم) ، وبلا نسبة في لسان العرب (دنن) ، وتاج العروس (دنن) . (2) أخرجه البخاري في الزكاة 2/ 159، ومسلم في الزكاة حديث 176، والنسائي في الزكاة باب 7، وابن ماجه حديث 1796، وأحمد في المسند 4/ 353، 355- 381، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 152، 4/ 157، 7/ 5، والبغوي في شرح السنة 3/ 145، وابن كثير في تفسيره 4/ 146، والقرطبي في تفسيره 1/ 382، 15/ 118، والبخاري في التاريخ الكبير 5/ 24، والطحاوي في شرح مشكل الآثار 4/ 162، والسيوطي في الدر المنثور 3/ 275، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 12/ 319، 14/ 235، والساعاتي في منحة المعبود 833، والبغوي في شرح السنة 5/ 485، وأبو نعيم في حلية الأولياء 5/ 96، وابن الجوزي في زاد المسير 7/ 82، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 4/ 156، والقاضي عياض في الشفاء 2/ 189، وابن حجر في فتح الباري 7/ 448، 534، 11/ 136، 169، والطبراني في المعجم الكبير 18/ 10، وابن حجر في الكافي والشافي في تخريج أحاديث الكشاف 79، 137، وابن أبي شيبة في مصنفه 2/ 519، وابن عدي في الكامل في الضعفاء 6/ 2122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 والصلاة: الدين. قال تعالى حكاية عن قوم شعيب: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا [هود: 87] ، ويقال: قراءتك. 12- الكتاب أصل الكتاب: ما كتبه الله في اللّوح مما هو كائن. ثم تتفرع منه معان ترجع إلى هذا الأصل. كقوله: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: 21] أي: قضى الله ذلك وفرغ منه. وقوله: لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا [التوبة: 51] أي: ما قضى الله لنا. وقوله: لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ [آل عمران: 154] أي: قضي، لأنّ هذا قد فرغ منه حين كتب. ويكون كتب بمعنى فرض، كقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ [البقرة: 178] أي: فرض. وكُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ [البقرة: 180] ووَ قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ [النساء: 77] أي: فرضت. ويكون كتب بمعنى جعل، كقوله: كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [المجادلة: 22] . وقوله: فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 53] . وقال: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأعراف: 156] . وتكون كتب بمعنى أمر، كقوله: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة: 21] ، أي: أمركم أن تدخلوها. ويقال: كتب هاهنا أيضا: جعل. يريد ادخلوا الأرض التي كتبها الله لولد إبراهيم، عليه السلام، أي: جعلها لهم. 13- السبب والحبل السّبب أصله: الحبل. ثم قيل لكل شيء وصلت به إلى موضع، أو حاجة تريدها: سبب. تقول: فلان سببي إليك، أي وصلني إليك. وما بيني وبينك سبب، أي آصرة رحم، أو عاطفة مودّة. ومنه قيل للطريق: سبب، لأنّك بسلوكه تصل إلى الموضع الذي تريده، قال عز وجل: فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) [الكهف: 85] أي: طريقا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 وأسباب السماء: أبوابها، لأن الوصول إلى السماء يكون بدخولها. قال الله عز وجل- حكاية عن فرعون: لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ [غافر: 36، 37] . وقال زهير «1» : ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو نال أسباب السّماء بسلّم وكذلك الحبل، قال الله عز وجل: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ [آل عمران: 103] أي: بعهد الله أو بكتابه، يريد: تمسكوا به، لأنه وصلة لكم إليه وإلى جنّته. ويقال للأمان أيضا: حبل، لأنّ الخائف مستتر مقموع، والآمن منبسط بالأمان متصرّف، فهو له حبل إلى كل موضع يريده. قال الله تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران: 112] أي: بأمان. وقال الأعشى «2» : وإذا تجوّزها حبال قبيلة ... أخذت من الأخرى إليك حبالها وأما قول امرئ القيس «3» : إنّي بحبلك واصل حبلي ... وبريش نبلك رائش نبلي فإنه يريد: إنّي واصل بيني وبينك. وأصل هذا يكون في البعيرين: يكونان مفترقين وعلى كل واحد منهما حبل، فيقرنان بأن يوصل حبل هذا بحبل هذا. وقال أبو زبيد يذكر رجلا سرى ليلة كلها «4» :   (1) البيت من الطويل، وهو في ديوان زهير بن أبي سلمى ص 30، والخصائص 3/ 324، 325، وسر صناعة الإعراب 1/ 267، وشرح شواهد المغني 1/ 386، ولسان العرب (سبب) . (2) البيت من الكامل، وهو في ديوان الأعشى ص 79، ولسان العرب (حبل) ، وتهذيب اللغة 5/ 78، ومقاييس اللغة 2/ 131، وتاج العروس (حبل) ، ومجمل اللغة 2/ 133، والبيت بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 283. (3) البيت من الكامل، وهو في ديوان امرئ القيس ص 239، وشرح أبيات سيبويه 1/ 406، ولسان العرب (حبل) ، والبيت للنمر بن تولب في ملحق ديوانه ص 405، وبلا نسبة في رصف المباني ص 447، والكتاب 1/ 164. [ ..... ] (4) البيت من الخفيف، وهو لأبي زبيد الطائي في ديوانه ص 55، ولسان العرب (جعل) ، وتاج العروس (جعل) ، والمعاني الكبير ص 932، وبلا نسبة في ديوان الأدب 2/ 415. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 ناط أمر الضّعاف فاجتعل اللّي ... ل كحبل العاديّة الممدود. يريد: أن مسيره اتصل الليل كلّه، فكان كحبل ممدود. 14- الظلم أصل الظلم في كلام العرب: وضع الشيء في غير موضعه. ويقال: (من أشبه أباه فما ظلم) «1» ، أي: فما وضع الشّبه غير موضعه. وظلم السّقاء: هو أن يشرب قبل إدراكه. وظلم الجزور: أن يعتبط، أي ينحر، من غير علّة. وأرض مظلومة: أي حفرت وليست موضع حفر. ويقال: الزم الطريق ولا تظلمه، أي: لا تعدل عنه. ثم قد يصير الظلم بمعنى الشّرك، لأنّ من جعل لله شريكا: فقد وضع الرّبوبيّة غير موضعها. يقول الله سبحانه: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] ، وقال: وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام: 82] ، أي: يشرك. ويكون الظلم: النّقصان، قال الله تعالى: وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [البقرة: 57] أي ما نقصونا. وقال: آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً [الكهف: 33] أي لم تنقص منه شيئا. ومنه يقال: ظلمتك حقّك، أي: نقصتك. ومنه قوله تعالى: وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً [مريم: 60] ولا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً [يس: 54] . ويكون الظلم: الجحد، قال الله تعالى: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها [الإسراء: 59] أي: جحدوا بأنّها من الله تعالى. وقال: بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ [الأعراف: 9] ، أي يجحدون. 15- البلاء أصل البلاء: الاختبار، قال الله جل وعلا: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً [النساء: 6] ،   (1) هو جزء من بيت وتمامه: أنا ابن الذي لم يخزني في حياته ... قديما ومن أشبه أباه فما ظلم والبيت من الطويل، وهو لكعب بن زهير في ديوانه ص 65، ومقاييس اللغة 3/ 468، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 3/ 244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 أي: اختبروهم. وقال: إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) [الصافات: 106] ، يعني: ما أمر به إبراهيم من ذبح ابنه، صلوات الله عليهما. وقال: وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ [الأعراف: 168] ، أي اختبرناهم. ثم يقال للخير: بلاء، وللشر: بلاء، لأنّ الاختبار الذي هو بلاء وابتلاء يكون بهما. قال الله تعالى وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35] ، أي نختبركم بالشر، لنعلم كيف صبركم؟ وبالخير، لنعلم كيف شكركم؟. (فتنة) أي اختبارا. ومنه يقال: اللهم لا تبلنا إلا بالتي هي أحسن. أي لا تختبرنا إلا بالخير، ولا تختبرنا بالشر. يقال من الاختبار: بلوته أبلوه بلوا، والاسم بلاء. ومن الخير: أبليته أبليه إبلاء. ومنه يقال: يبلى ويولي. قال زهير «1» : فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو أي: خير البلاء الذي يختبر به عباده. ومن الشر: بلاه الله يبلوه بلاء. قال الله عز وجل: وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [البقرة: 49] ، أي: نعمة عظيمة. وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33) [الدخان: 33] ، أي: نعم بيّنة عظام. 16- الرجز والرجس الرّجز: العذاب. قال الله تعالى- حكاية عن قوم فرعون: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ [الأعراف: 134] أي العذاب. ثم قد يسمّى كيد الشيطان: رجزا، لأنّه سبب العذاب. قال الله تعالى: وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ [الأنفال: 11] . والرجس: النّتن. ثم قد يسمّى الكفر والنفاق: رجسا، لأنّه نتن. قال الله تعالى: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة: 125] ،   (1) صدر البيت: جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم والبيت من الطويل، وهو في ديوان زهير بن أبي سلمى ص 109، ولسان العرب (بلا) ، وتهذيب اللغة 15/ 390، ومقاييس اللغة 1/ 294، وديوان الأدب 4/ 109، وتاج العروس (بلى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 أي: كفرا إلى كفرهم، أو نفاقا إلى نفاقهم. وقال الله تعالى: وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [يونس: 100] . وقال الله عز وجل: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) [المدثر: 5] ، يعني الأوثان، سمّاها رجزا- والرّجز: العذاب- لأنها تؤدّي إليه. 17- الفتنة الفتنة: الاختبار، يقال: فتنت الذهب في النّار: إذا أدخلته إليها لتعلم جودته من رداءته. وقال تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [العنكبوت: 3] . أي: اختبرناهم. وقال لموسى عليه السلام: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً [طه: 40] . ومنه قوله: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) [الأنعام: 23] أي: جوابهم، لأنهم حين سئلوا اختبر ما عندهم بالسؤال، فلم يكن الجواب عن ذلك الاختبار إلا هذا القول. والفتنة: التعذيب. قال: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [البروج: 10] أي عذّبوهم بالنار. وقال عز وجل: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) [الذاريات: 13] أي يعذبون. ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ [الذاريات: 14] أي يقال لهم: ذوقوا فتنتكم، يراد هذا العذاب بذاك. وقال عز وجل: فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ [العنكبوت: 10] أي: جعل عذاب الناس وأذاهم كعذاب الله. والفتنة: الصدّ والاستزلال. قال الله عز وجل: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [المائدة: 49] ، أي: يصدّوك ويستزلوك. وقال الله تعالى: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الإسراء: 73] ، وقال: ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163) [الصافات: 162، 163] أي: صادين. والفتنة: الإشراك والكفر والإثم، كقوله: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [البقرة: 193] ، أي: شرك. وقال: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة: 191] يعني الشرك. وقال: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [التوبة: 49] أي: في الإثم. وقال: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ [النور: 63] ، أي: كفر وإثم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 وقال: وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ [الحديد: 14] أي: كفرتم وآثمتموها. والفتنة: العبرة، كقوله: رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [يونس: 85] وفي موضع آخر: لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الممتحنة: 5] أي: يعتبرون أمرهم بأمرنا، فإذا رأونا في ضرّ وبلاء ورأوا أنفسهم في غبطة ورخاء- ظنّوا أنهم على حق، ونحن على باطل. وكذلك قوله: فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [الأنعام: 53] . 18- الفرض الفرض: وجوب الشيء. ويقال: فرضت عليك كذا، أي: أوجبته. قال الله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ [البقرة: 197] أي: أوجبه على نفسه. وقال: فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ [البقرة: 237] أي: ألزمتم أنفسكم. وقال: قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ [الأحزاب: 50] أي: ألزمناهم، ومنه قوله في آية الصدقات بعد أن عدّد أهلها: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ [النساء: 11] وقيل للصلاة المكتوبة: فريضة. وقيل لسهام الميراث: فريضة. وقال: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ [التحريم: 2] أي: أوجب لكم أن تكفّروا إذا حلفتم. وبعض المفسرين يجعلها بمعنى: بيّن لكم كيف تكفّرون عنها. قال: ومثلها: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها [النور: 1] أي: بينّاها. وقد يجوز في اللغة أن يكون فرضناها: أوجبنا العمل بما فيها. وقال: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [القصص: 85] . قال المفسرون: فيه أنزل عليك القرآن. وقد يجوز في اللغة أن يكون أوجب عليك العمل بما فيه. وقال: ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ [الأحزاب: 38] . قال المفسرون: فيما أحل الله له. وقد يجوز في اللغة أن يكون: ما أوجب له من النكاح، يعني: نكاح أكثر من أربع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 19- الخيانة الخيانة: أن يؤتمن الرجل على شيء، فلا يؤدي الأمانة فيه. يقال لكل خائن: سارق وليس كل سارق خائنا. والقطع يجب على السارق، ولا يجب على الخائن، لأنه مؤتمن. قال النّمر بن تولب «1» : وإنّ بني ربيعة بعد وهب ... كراعي البيت يحفظه فخانا ويقال: لناقض العهد: خائن، لأنه أمن بالعهد وسكن إليه، فغدر ونكث. قال الله تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً [الأنفال: 58] . أي: نقضا للعهد. وكذلك قوله: وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ [المائدة: 13] أي غدر ونكث. ويقال لعاصي المسلمين: خائن، لأنّه مؤتمن على دينه. قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ [الأنفال: 27] . يريد المعاصي. وقال الله تعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 187] أي: تخونونها بالمعصية. 20- الإسلام الإسلام: هو الدخول في السّلم، أي: في الانقياد والمتابعة. قال تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً [النساء: 94] أي: انقاد لكم وتابعكم. والاستسلام مثله. يقال: سلّم فلان لأمرك واستسلم وأسلم. أي دخل في السّلم. كما تقول: أشتى الرجل: إذا دخل في الشتاء، وأربع: دخل في الربيع، وأقحط: دخل في القحط. فمن الإسلام متابعة وانقياد باللّسان دون القلب. ومنه قوله تعالى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا [الحجرات: 14] أي: أنقذنا من خوف السيف. وكذلك قوله: وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً [آل عمران:   (1) البيت من الوافر، وهو في ديوان النمر بن تولب ص 395، والمعاني الكبير 1/ 592، وأدب الكاتب ص 37، والاقتضاب ص 303، وشرح أدب الكاتب للجواليقي ص 145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 83] ، أي: انقاد له وأقرّ به المؤمن والكافر. ومن الإسلام: متابعة وانقياد باللسان والقلب، ومنه قوله حكاية عن إبراهيم: قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [البقرة: 131] . وقوله: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ [آل عمران: 20] أي: انقدت لله بلساني وعقدي. والوجه زيادة. كما قال: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] ، يريد: إلا هو. وقوله: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ [الإنسان: 9] ، أي لله. قال زيد بن عمرو بن نفيل في الجاهلية «1» : أسلمت وجهي لمن أسلمت ... له المزن تحمل عذبا زلالا أي: انقادت له المزن. 21- الإيمان الإيمان: هو التصديق. قال الله تعالى: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا أي: بمصدّق لنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ [يوسف: 17] وقال: ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا [غافر: 12] ، أي: تصدّقوا. والعبد مؤمن بالله، أي مصدّق. والله مؤمن: مصدّق ما وعده، أو قابل إيمانه. ويقال في الكلام: ما أومن بشيء مما تقول أي ما أصدّق به. فمن الإيمان: تصديق باللسان دون القلب، كإيمان المنافقين. يقول الله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [المنافقون: 3] ، أي آمنوا بألسنتهم وكفروا بقلوبهم. كما كان من الإسلام انقياد باللسان دون القلب. ومن الإيمان: تصديق باللسان والقلب. يقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) [البينة: 7] ، كما كان من الإسلام انقياد باللسان والقلب. ومن الإيمان: تصديق ببعض وتكذيب ببعض. قال الله تعالى: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) [يوسف: 106] ، يعني مشركي العرب، إن سألتهم من خلقهم؟ قالوا: الله، وهم مع ذلك يجعلون له شركاء. وأهل الكتاب يؤمنون ببعض   (1) البيت من المتقارب، وهو لزيد بن عمرو بن نفيل في تفسير الطبري 1/ 393، والمعارف ص 27، ومجمع البيان 1/ 187، والأغاني 3/ 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 الرّسل والكتب، ويكفرون ببعض. قال الله تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غافر: 85] ، يعني: ببعض الرسل والكتب، إذ لم يؤمنوا بهم كلّهم. وأما قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ [البقرة: 62] ثم قال: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [البقرة: 62]- فإن هؤلاء قوم آمنوا بألسنتهم. فقال تعالى: مَنْ آمَنَ [البقرة: 62] منهم بقلبه بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، كأنه قال: إن المنافقين والذين هادوا. 22- الضرّ الضرّ: بفتح الضاد- ضد النفع، قال الله عز وجل: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) [الشعراء: 72، 73] وقال: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا [الأعراف: 188] أي: لا أملك جرّ نفع ولا دفع ضرّ؟. والضّرّ: الشدة والبلاء، كقوله: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ [الأنعام: 17] ، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ [البقرة: 177] . فمن الشدّة: قحط المطر، قال الله تعالى: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ [يونس: 21] أي: مطرا من بعد قحط وجدب. ومنه: الهول، كقوله: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ [الإسراء: 67] . ومنه المرض، كقول أيوب عليه السّلام: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ [الأنبياء: 83] ، فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا [الزمر: 49] . ومنه النقص، كقوله تعالى: لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ [محمد: 32] . 23- الحرج الحرج: أصله الضيق. ومن الضيق: الشك، كقول الله تعالى: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ [الأعراف: 2] ، أي شك، لأنّ الشّاكّ في الشيء يضيق صدرا به. ومن الحرج: الإثم، قال تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ [النور: 61] أي إثم وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ [التوبة: 91] ، أي إثم. وأما الضيق بعينه فقوله: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78] أي ضيق. ويَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [الأنعام: 125] وحرجا. ومنه الحرجة وهي: الشجر الملتفّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 24- الروح الرّوح والرّيح والرّوح: من أصل واحد اكتنفته معان تقاربت، فبني لكلّ معنى اسم من ذلك الأصل، وخولف بينها في حركة البنية. والنّار والنّور من أصل واحد، كما قالوا: الميل والميل، وهما جميعا من مال. فجعلوا الميل- بفتح الباء- فيما كان خلقة فقالوا: في عنقه ميل، وفي الشجرة ميل. وجعلوا الميل- بسكون الياء- فيما كان فعلا فقالوا: مال عن الحق ميلا، وفيه ميل عليّ، أي تحامل. وقالوا: اللّسن واللّسن واللّسن، وهذا كله من اللسان، فاللّسن: جودة اللّسان. واللّسن: العذل واللوم. ويقال: لسنت فلانا لسنا: أي عذلته، وأخذته بلساني. واللّسن: اللّغة. يقال: لكلّ قوم لسن. وقالوا: حمل الشجرة- بفتح الحاء- وحمل المرأة- بفتح الحاء- وقالوا لما كان على الظهر: حمل، والأصل واحد. في أشباه لهذا كثيرة. وقد ذكرنا منها طرفا في صدر الكتاب. وأما الرّوح: فروح الأجسام الذي يقبضه الله عند الممات. والرّوح: جبريل عليه السلام. قال الله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ [الشعراء: 193، 194] ، يعني جبريل. وقال: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة: 253] ، أي بجبريل. والرّوح- فيما ذكر المفسرون-: ملك عظيم من ملائكة الله يقوم وحده فيكون صفا وتقوم الملائكة صفّا قال: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا [النبأ: 38] ، وقال عز وجل: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: 85] . ويقال للملائكة: الرّوحانيّون، لأنهم أرواح، نسبوا إلى الرّوح- بالألف والنون- لأنها نسبة الخلقة، كما يقال: رقبانيّ وشعرانيّ. والرّوح: النّفخ، سمّي روحا لأنه ريح تخرج عن الرّوح. قال ذو الرّمة وذكر نارا قدحها «1» : فلمّا بدت كفّنتها وهي طفلة ... بطلساء لم تكمل ذراعا ولا شبرا   (1) الأبيات من الطويل، وهي في ديوان ذي الرمة ص 1428- 1429، والبيت الأول في لسان العرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وقلت له: ارفعها إليك وأحيها ... بروحك واقتته لها قيتة قدرا وظاهر لها من يابس الشّحت واستعن ... عليها الصّبا واجعل يديك لها سترا قوله: وأحيها بروحك، أي أحيها بنفخك. والمسيح: روح الله، لأنه نفخة جبريل في درع مريم. ونسب الرّوح إلى الله لأنه بأمره كان. يقول الله: فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا [الأنبياء: 91] ، يعني نفخة جبريل. وقد يجوز أن يكون سمّي روح الله لأنه بكلمته كان، قال الله تعالى: كن، فكان. وكلام الله: روح، لأنه حياة من الجهل وموت الكفر، قال: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ [غافر: 15] ، وقال: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52] . ورحمة الله: روح. قال الله تعالى: وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة: 22] ، أي برحمة، كذلك قال المفسرون. ومن قرأ: فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ [الواقعة-: 89] بضم الراء، أراد فرحمة ورزق. والريحان: الرزق. قال النّمر بن تولب «1» : سلام الإله وريحانه ... ورحمته وسماء درر فجمع بين الرّزق والرحمة، كما قال الله تعالى: فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ، وهذا شاهد لتفسير المفسرين. قال أبو عبيدة فَرَوْحٌ، أراد: حياة وبقاء لا موت فيه. ومن قرأ: فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ بالفتح، أراد: الرّاحة وطيب النّسيم. وقد تكون الرّوح: الرحمة، قال الله تعالى: وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [يوسف: 87] ، أي من رحمته. سمّاها روحا لأنّ الرّوح والرّاحة يكونان بها.   (طلس) ، وتهذيب اللغة 12/ 333، والبيت الثاني في لسان العرب (قوت) ، (روح) ، (حيا) ، وتهذيب اللغة 5/ 225، 285، 9/ 254، ومقاييس اللغة 5/ 38، ومجمل اللغة 4/ 131، وديوان الأدب 3/ 313، وكتاب العين 5/ 200، وأساس البلاغة (روح) ، (قوت) ، وتاج العروس (قوت) ، (روح) ، (حيا) . (1) البيت من المتقارب، وهو في ديوان النمر بن تولب ص 345، ولسان العرب (روح) ، (درر) ، والتنبيه والإيضاح 1/ 243، وتهذيب اللغة 5/ 221، والمخصص 12/ 275، 17/ 164، وتاج العروس (روح) ، (درر) ، والبيت بلا نسبة في ديوان الأدب 3/ 47، 383. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 25- الوحي الوحي: كلّ شيء دللت به من كلام أو كتاب أو إشارة أو رسالة. قال الله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ [النساء: 163] ، وقال: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19] ، فهذا إرسال جبريل بالقرآن. وقال: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: 11] ، أي أشار إليهم وأومأ. وقال بعض المفسرين: كتب إليهم. قال أبو محمد: والتفسير الأول أعجب إليّ، لأنه قال في موضع آخر: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً [آل عمران: 41] . والرمز: تحريك الشفتين أو الحاجبين أو العينين، ولا يكون كتابا. والوحي: إلهام، كقوله: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ [المائدة: 111] ، ووَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل: 68] ، أي ألهمها. والوحي: إعلام في المنام، كقوله: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ [الشورى: 51] . والوحي: إعلام بالوسوسة من الشيطان، قال: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ [الأنعام: 121] ، وقال: شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام: 112] . والوحي: أمر، قال الله تعالى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) [الزلزلة: 5] ، أي أمرها. وقال الراجز «1» : وحي لها القرار فاستقرّت أي أمرها بالقرار: فقرّت، يعني الأرض. ويقال: سخّرها.   (1) يليه: وشدّها بالراسيات الثبّت والرجز للعجاج في ديوانه 2/ 408، 409، ولسان العرب (وحي) ، وتهذيب اللغة 5/ 296، 297، وجمهرة اللغة ص 576، وكتاب العين 3/ 320، وتاج العروس (وحي) ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة 6/ 93، ومجمل اللغة 4/ 512. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 26- الفرح الفرح: المسرّة، قال الله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها [يونس: 22] أي سرّوا. والفرح: الرضا، لأنه عن المسرة يكون، قال الله تعالى: كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون: 53، والروم: 32] أي راضون، وقال: فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [غافر: 83] أي رضوا. والفرح: البطر والأشر، لأن ذلك عن إفراط السرور، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص: 76] وقال: إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ [هود: 10] وقال: ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ [غافر: 75] . وقد تبدل (الحاء) في هذا المعنى (هاء) فيقال: فره أي بطر، قال الله تعالى: وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) [الشعراء: 149] أي: أشرين بطرين. و (الهاء) تبدل من (الحاء) لقرب مخرجيهما، تقول: (مدحته) و (مدهته) ، بمعنى واحد. 27- الفتح الفتح: أن يفتح المغلق، كقوله تعالى: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: 73] . والفتح: النّصر، كقوله: فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ [النساء: 141] وقوله: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ [المائدة: 52] ، لأن النصر يفتح الله به أمرا مغلفا. والفتح: القضاء، لأن القضاء فصل للأمور، وفتح لما أشكل منها، قال الله جل ذكره: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ [السجدة: 28، 29] يعني يوم القيامة، لأنه يقضي الله فيه بين عباده. ويقال: أراد فتح مكة لا ينفع الذين كفروا إيمانهم من خوف السيف، فلم ينفعهم ذلك وقتلهم خالد بن الوليد. وقال عز وجل: ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ [سبأ: 26] أي: يقضي، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ [الأعراف: 89] : أي خير القضاة. وقال أعرابي لآخر ينازعه: بيني وبينكم الفتاح، يعني الحاكم. وقال ابن عباس في قول الله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) [الفتح: 1] كنت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 أقرؤها ولا أدري ما هي، حتى تزوجت بنت مشرح فقالت: فتح الله بيني وبينك، أي حكم الله بيني وبينك. 28- الكريم الكريم: الشريف الفاضل، قال الله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13] أي: أفضلكم. وقال: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الإسراء: 70] أي: شرفناهم وفضّلناهم. وقال حكاية عن إبليس: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ [الإسراء: 62] أي: فضلت. وقال: مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ [الفجر: 15] أي: فضّله. وقال: رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون: 116] أي: الشريف الفاضل. وقال: وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً [النساء: 31] أي: شريفا. وقال: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ [النمل: 29] أي شريف لشرف كاتبه، ويقال: شريف بالختم. والكريم: الصّفوح، وذلك من الشرف والفضل، قال الله عز وجل: فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل: 40] أي: صفوح. وقال: ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) [الانفطار: 6] أي الصّفوح. والكريم: الكثير الكرم، قال الله تعالى: وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: 4، والحج: 50، والنور: 26، وسبأ: 4] أي: كثير. والكريم: الحسن، وذلك من الفضل. قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) [الشعراء: 7] أي: حسن. وكذلك قوله: مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج: 5 وق: 7] أي: حسن يبتهج به. وقال تعالى: وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً [الإسراء: 23] ، أي حسنا. وهذا وإن اختلف، فأصله الشرف. 29- المثل المثل: بمعنى الشّبه، يقال: هذا مثل الشيء ومثله، كما يقال: شبه الشيء وشبهه، قال الله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً [العنكبوت: 41] أي شبه الذين كفروا شبه العنكبوت. وقال: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الجمعة: 5] أي: شبههم الحمار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 والمثل: العبرة، كقوله تعالى: فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56) [الزخرف: 56] أي: عبرة لمن بعدهم. وقوله: وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ [الزخرف: 59] أي عبرة. والمثل: الصّورة والصّفة، كقوله: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ [محمد: 15] أي صفة الجنة. 30- الضرب الضرب: باليد، كقوله تعالى: فَضَرْبَ الرِّقابِ [محمد: 4] وقوله: وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء: 34] . والضرب: المسير، قال الله تعالى: إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء: 94] وقال تعالى: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ [المزمل: 20] . والضرب: التّبيين والوصف، قال الله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا [النحل: 75] ، وقال: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ [النحل: 74] ، أي لا تصفوه بصفات غيره ولا تشبهوه. 31- الزوج الزوج: اثنان، وواحد، قال الله تعالى: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) [النجم: 45] فجعل كل واحد منهما زوجا. وهو بمعنى: الصّنف، قال: خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ [يس: 36] يعني: الأصناف. وقال: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ [الأنعام: 143] أي ثمانية أصناف. وقال: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) [الشعراء: 7] أي من كل صنف حسن. والزّوج: القرين، قال الله تعالى: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [النساء: 1] ، وقال: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات: 22] أي قرناءهم. وقال: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) [التكوير: 7] أي قرنت نفوس الكفار بعضها ببعض. ومنه قوله: وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ [الدخان: 54] أي قرناهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 والعرب تقول: زوّجت إبلي، إذا قرنت بعضها ببعض. 32- الرؤية الرؤية: المعاينة، كقول الله عز وجل: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزمر: 60] . وقال: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً [الإنسان: 20] أي: عاينت. والرؤية: علم، كقوله: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً [الأنبياء: 30] أي: ألم يعلموا. وقال: وَأَرِنا مَناسِكَنا [البقرة: 128] ، أي: أعلمنا. وقال تعالى: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [سبأ: 6] أي: يعلم. وقال: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ [النساء: 105] أي: علمك الله. وقال المفسرون في قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ [آل عمران: 23] : ألم تخبروا. وكذلك أكثر ما في القرآن. 33- النسيان النسيان: ضد الحفظ، كقوله: فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ [الكهف: 63] ، وقال: لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ [الكهف: 73] . والنسيان: الترك، كقول الله تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ [طه: 115] ، أي ترك. وقوله: فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا، أي بما تركتم الإيمان بلقاء هذا اليوم إِنَّا نَسِيناكُمْ [السجدة: 14] ، أي تركناكم. وقوله: وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة: 237] ، أي لا تتركوا ذلك. 34- الصاعقة والصعق الصّعق: الموت، قال تعالى: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الزمر: 68] ، وقال تعالى: وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً [الأعراف: 143] . أي ميّتا، ثم ردّ الله إليه حياته. وقال الله تعالى: فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ [النساء: 153] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 أي الموت، يدلك على ذلك قوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ [البقرة: 56] . والصاعقة: العذاب، كقوله: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: 13] . والصاعقة: نار من السحاب، قال الله تعالى: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ [الرعد: 13] . وأراها سمّيت صاعقة، لأنها إذا أصابت قتلت، يقال: صعقتهم، أي: قتلتهم. 35- الأخذ الأخذ: أصله باليد، ثم يستعار في مواضع: فيكون بمعنى: القبول، قال الله تعالى: وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي [آل عمران: 81] أي: قبلتم عهدي، وقال تعالى: إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ [المائدة: 41] أي فاقبلوه. وقال: وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ [التوبة: 104] أي يقبلها. وقال: وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ [البقرة: 48] أي: لا يقبل. وقال تعالى: خُذِ الْعَفْوَ [الأعراف: 199] أي: اقبله. ويكون بمعنى: الحبس والأسر، قال الله تعالى: فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ [يوسف: 78] أي: احبسه. وقال تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ أي: ائسروهم وَاحْصُرُوهُمْ [التوبة: 5] أي: احبسوهم. ويقال للأسير: أخيذ. والأخذ: التعذيب، قال الله تعالى: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى [هود: 102] أي: تعذيبه. وقال: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ [العنكبوت: 40] أي عذبنا. وقال: وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ [غافر: 5] أي ليعذبوه أو ليقتلوه. 36- السلطان السلطان: الملك والقهر، قال الله تعالى: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم: 22] . وقال: وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ [سبأ: 21] . والسلطان: الحجّة، قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) [غافر: 23] أي حجة. وقال: ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً [آل عمران: 151] أي: حجّة في كتاب الله وقال: أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) [الصافات: 156] أي حجّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وقال: أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ [النمل: 21] ، أي: حجة وعذر. 37- البأس والبأساء البأس والبأساء: الشدة، قال الله تعالى: فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ [الأنعام: 42] . والبأس: الشدة بالعذاب، قال الله تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غافر: 84] أي عذابنا. وقال تعالى: فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا [الأنبياء: 12] وقال: فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ [غافر: 29] أي: يمنعنا من عذاب الله. والبأس: الشدّة بالقتال، قال الله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء: 84] وقال تعالى: نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ [النمل: 33] وقال: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ [الحشر: 14] وقال: وَحِينَ الْبَأْسِ [البقرة: 177] . 38- الخلق الخلق: التّخرّص، قال الله تعالى: إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) [الشعراء: 137] أي: خرصهم للكذب. وقال تعالى: وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً [العنكبوت: 17] ، أي تخرصون كذبا. وقال تعالى: إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص: 7] أي: افتعال للكذب. والعرب تقول للخرافات: أحاديث الخلق. والخلق: التّصوير، قال الله تعالى: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [المائدة: 110] أي: تصوّره. والخلق: الإنشاء والابتداء، قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها [الأعراف: 189] . وأصل الخلق: التقدير، ومنه قيل: خالقة الأديم، قال زهير «1» : ولأنت تفري ما خلقت وب ... عض القوم يخلق ثمّ لا يفري.   (1) البيت من الكامل، وهو في ديوان زهير بن أبي سلمة ص 94، ولسان العرب (خلق) ، (فرا) ، وتهذيب اللغة 7/ 26، 15/ 242، ومقاييس اللغة 2/ 214، 4/ 497، وديوان الأدب 2/ 123، وكتاب الجيم 3/ 49، والمخصص 4/ 111، والبيت بلا نسبة في جمهرة اللغة ص 619، وتاج العروس (فرا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 والخلق: الدّين، كقوله تعالى: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم: 30] ، أي لدين الله. وقال تعالى: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النساء: 119] ، أي دينه: ويقال: تغيير خلقه بالخصاء وبتك الآذان، وأشباه ذلك. 39- الرّجم الرجم: أصله الرّمي، كقوله تعالى: وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك: 5] أي مرامي. ثم يستعار فيوضع موضع القتل، لأنهم كانوا يقتلون بالرّجم. وروي أنّ ابن آدم قتل أخاه رجما بالحجارة، وقتل رجما بالحجارة، فلما كان أول القتل كذلك، سمّي رجما وإن لم يكن بالحجارة، ومنه قوله تعالى: لَنَرْجُمَنَّكُمْ [يس: 18] ، أي لنقتلنكم. وقال: وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) [الدخان: 20] ، أي تقتلون. وقال: وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ [هود: 91] أي قتلناك. ويوضع: الشتم، لأن الشتم رمي، ولذلك يقال: قذف فلان فلانا: إذا شتمه. وأصل القذف: الرمي، ومنه قول أبي أبراهيم له: لَأَرْجُمَنَّكَ [مريم: 46] ، أي لأشتمنك. ويوضع موضع الظن، ومنه قوله: رَجْماً بِالْغَيْبِ [الكهف: 22] ، أي ظنّا. ويقال: رجم بالظّنّ، كأنه رمى به. والرّجم: اللعن. والطّرد: لعن، ومنه قيل: ذئب لعين: أي طريد. وإنما قيل للشيطان: رجيم، أي طريد، لأنه يطرد برجم الكواكب. 40- السعي السّعي: الإسراع في المشي، قال الله تعالى: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى [القصص: 20] ، أي يسرع في مشيه، وهو العدو أيضا. والسعي: المشي، قال الله تعالى: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ [الصافات: 102] ، يعني المشي، ويقال: المعاونة له على أمره. وقال: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة: 9] أي امشوا. وقرأ بعض السلف: فامضوا إلى ذكر الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وقال: ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً [البقرة: 260] ، أي مشيا، كذلك قال بعض المفسرين. والسّعي: العمل، قال الله تعالى: فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء: 19] . وقال: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها [الإسراء: 19] أي: عمل لها عملها. وقال: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ [الحج: 51 وسبأ: 5] ، أي جدّوا في ذلك. وقال: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) [الليل: 4] ، أي عملكم لشتّى، أي مختلف. وأصل هذا كله: المشي والإسراع فيه. 41- المحصنات الإحصان هو: أن يحمى الشيء ويمنع منه. والمحصنات من النساء: ذوات الأزواج، لأن الأزواج أحصنوهنّ، ومنعوا منهن، قال الله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النساء: 24] . المحصنات: الحرائر وإن لم يكنّ متزوجات، لأن الحرّة تحصن وتحصن، وليست كالأمة. قال الله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ [النساء: 25] وقال: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النساء: 25] يعني الحرائر. والمحصنات: العفائف، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ [النور: 4] يعني العفائف. وقال الله تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها [التحريم: 12] أي عفّت. 42- المتاع المتاع: المدّة، قال الله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ [البقرة: 36] وقال تعالى: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) [الأنبياء: 111] . ومنه يقال: متع النهار. ويقال: أمتع الله بك. والمتاع: الآلات التي ينتفع بها، قال الله تعالى: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ [الرعد: 17] . والمتاع: المنفعة، قال الله تعالى: نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) [الواقعة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 73] ، وقال تعالى: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33) [النازعات: 33] وقال تعالى أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [المائدة: 96] . وقال: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ [النور: 29] أي ينفعكم ويقيكم من الحرّ والبرد، يعني الخانات. ومنه: متعة المطلّقة. 43- الحساب الحساب: الكثير، قال الله تعالى: جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) [النبأ: 36] ، أي كثيرا. ويقال: أحسبت فلانا. أي أعطيته ما يحسبه، أي يكفيه. ومنه قول الهذليّ «1» : حساب ورجل كالجراد يسوم والحساب: الجزاء، قال الله تعالى: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26) [الغاشية: 26] ، أي جزاءهم. وقال تعالى: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) [الشعراء: 113] ، لأن الجزاء يكون بالحساب. والحساب: المحاسبة، قال الله تعالى: فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) [الانشقاق: 8] . 44- الأمر الأمر: القضاء، قال الله تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ [السجدة: 5] ، أي يقضي القضاء. وقال تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] أي القضاء. والأمر: الدّين، قال الله تعالى: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ [المؤمنون: 53] ، أي دينهم. وقال تعالى: حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ [التوبة: 48] .   (1) يروى البيت بتمامه: فلم ينتبه حتى أحاط بظهره ... حساب وسرب كالجراد يسوم والبيت من الطويل، وهو لساعدة بن جؤية الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص 1160، ولسان العرب (حسب) ، وتاج العروس (حسب) ، وأساس البلاغة (حسب) ، وديوان الهذليين 1/ 229. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 والأمر: القول، قال الله تعالى: إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ [الكهف: 21] ، يعني قولهم. والأمر: العذاب، قال الله تعالى: وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ [إبراهيم: 22] ، أي وجب العذاب. وقال تعالى: وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ [هود: 44] . والأمر: القيامة، قال الله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل: 1] وقال تعالى: وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ [الحديد: 14] أي القيامة أو الموت. والأمر: الوحي، قال الله تعالى: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ [الطلاق: 12] . والأمر: الذنب، قال الله تعالى: فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها [الطلاق: 9] ، أي جزاء ذنبها. وهذا كله وإن اختلف فأصله واحد. ويكنى عن كل شيء: بالأمر، لأن كلّ شيء يكون فإنما يكون بأمر الله، فسميت الأشياء: أمورا، لأن الأمر سببها، يقول الله تعالى: أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى: 53] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 باب تفسير حروف المعاني وما شاكلها من الأفعال الّتي لا تنصرف كأيّن كأيّن هي بمعنى: كم. قال الله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ [الطلاق: 8] أي وكم من قرية. وفيها لغتان: كأيّن بالهمزة وتشديد الياء، وكائن على تقدير قائل وبائع، وقد قرىء بهما جميعا في القرآن، والأكثر والأفصح تخفيفها، قال الشاعر «1» : وكائن أرينا الموت من ذي تحيّة ... إذا ما ازدرانا أو أصرّ لمأثم وقال آخر «2» : وكائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التّكلّم كيف كيف بمعنى: على أي حال، تقول: كيف أنت، تريد بأي حال أنت؟. وتقع بمعنى: التعجب، في مثل قوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [البقرة: 28] . سوى وسوى سوى وسوى: بمعنى غير، وهما جميعا في معنى بدل. وهي مقصورة. وقد   (1) البيت من الطويل، وهو بلا نسبة في الصاحبي في فقه اللغة ص 132. (2) البيت من الطويل، وهو لزهير بن أبي سلمى في شرح المعلقات السبع للزوزني ص 12، وللأعور الشني في البيان والتبيين 1/ 170، ولأبي الأعور السلمي في سر الفصاحة ص 59، وبلا نسبة في رصف المباني ص 205، وسر صناعة الإعراب 1/ 307، وشرح المفصل 4/ 135، وسر الفصاحة ص 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 جاءت ممدودة مفتوحة الأول، وهي في معنى غير. قال ذو الرّمّة «1» : وما تجافى الغيت عنه فما به ... سواء الحمام الحضّن الخضر حاضر يريد غير الحمام. وسواء- مفتوحة الأول ممدود- بمعنى: وسط. قال: فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) [الصافات: 55] ، أي في وسطه. وقد جاءت أيضا بمعنى: وسط، مكسورة الأوّل مقصورة، قال الله تعالى: مَكاناً سُوىً [طه: 58] ، أي وسطا. أيان أيّان: بمعنى متى، ومتى بمعنى: أيّ حين. ونرى أصلها: أيّ أوان، فحذفت الهمزة والواو، وجعل الحرفان واحدا، قال الله تعالى: أَيَّانَ يُبْعَثُونَ؟ [النحل: 21] ، أي متى يبعثون؟ وأَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ [القيامة: 6] . الآن الآن: هو الوقت الذي أنت فيه، وهو حدّ الزّم اني ن: حدّ الماضي من آخره، وحدّ الزمان المستقبل من أوله. قال الفراء: «هو حرف بني على الألف واللام، ولم يخلعا منه، وترك على مذهب الصّفة، لأنه في المعنى واللفظ، كما رأيتهم فعلوا بالذي، فتركوه على مذهب الأداة، والألف واللام له لازمة غير مفارقة. وأرى أصله: أوان، حذفت منه الألف، وغيّرت واوه إلى الألف، كما قالوا في الرّاح: الرّياح. وأنشد «2» :   (1) يروى البيت بلفظ: وماء تجافى الغيث عنه فما به ... سواء الصدى والحضّن الورق حاضر والبيت من الطويل، وهو في ديوان ذي الرمة ص 1029، ورواية عجز البيت فيه كما ذكرها المؤلف، وتاج العروس (ورق) . [ ..... ] (2) البيت من الطويل، وهو لامرىء القيس في ديوانه ص 376، ولسان العرب (ريح) ، (فلل) ، وديوان الأدب 3/ 368، وتاج العروس (سلف) ، وبلا نسبة في لسان العرب (أين) ، وتهذيب اللغة 15/ 547، والمخصص 11/ 74، وتاج العروس (روح) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 كأنّ مكاكيّ الجواء غديّة ... نشاوى تساقوا بالرّياح المفلفل قال: فهي مرّة على تقدير (فعل) ومرّة على تقدير (فعال) كما قالوا: زمن، وزمان. وإن شئت جعلتها من قولك: آن لك أن تفعل كذا وكذا، أدخلت عليها الألف واللام ثم تركتها على مذهب (فعل) منصوبة، كما قالوا: «نهى رسول الله، صلّى الله عليه وسلم عن قيل وقال، وكثرة السّؤال» «1» فكانتا كالاسمين وهما منصوبتان، ولو خفضتا على النّقل لهما من حدّ الأفعال إلى الأسماء في النّية- كان صوابا. وسمعت العرب تقول: من شبّ إلى دبّ، ومن شبّ إلى دبّ، مخفوض منون، يذهبون به مذهب الأسماء. والمعنى: مذ كان صغيرا فشبّ إلى أن دبّ كبيرا. قال الله تعالى: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) [يونس: 91] آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [يونس: 51] ، أي أفي هذا الوقت وفي هذا الأوان تتوب وقد عصيت قبل؟ أنّى أنّي: يكون بمعنيين. يكون بمعنى: كيف، نحو قول الله تعالى أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ [البقرة: 259] أي كيف يحييها؟ وقوله: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة: 223] أي كيف شئتم. وتكون بمعنى: من أين، نحو قوله: قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التوبة: 30] وقوله: أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ [الأنعام: 101] . والمعنيان متقاربان، يجوز أن يتأول في كل واحد منهما الآخر. وقال الكميت «2» :   (1) روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه البخاري في الرقاق باب 22، والزكاة باب 53، والاعتصام باب 3، والأدب باب 6، ومسلم في الأقضية حديث 10، 11، 13، 14، والدارمي في الرقاق باب 38، ومالك في الكلام حديث 20، وأحمد في المسند 2/ 327، 360، 367، 4/ 246، 249، 250، 251، 255، وابن عدي في الكامل في الضعفاء 3/ 1297، والربيع بن حبيب في مسنده 2/ 42. (2) البيت من المنسرح، وهو للكميت بن زيد في شرح شواهد الشافية ص 310، وشرح المفصل 4/ 109، 111، والصاحبي في فقه اللغة ص 142، والهاشميات ص 56، وتفسير الطبري 2/ 336، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 أنّى ومن أين آبك الطّرب ... من حيث لا صبوة ولا ريب فجاء بالمعنيين جميعا. وي كأن ويكأنّ. قد اختلف فيها: فقال الكسائي: معناها: ألم تر، قال الله تعالى: وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ [القصص: 82] وقال: وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ [القصص: 82] ، يريد: ألم تر. وروى عبد الرّزاق، عن معمر، عن قتادة أنه قال: ويكأنّ: أولا يعلم أن الله يبسط الرزق لمن يشاء. وهذا شاهد لقول الكسائي. وذكر الخليل أنها مفصولة: وي، ثم تبتدئ فتقول: كأنّ الله. وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: هي: كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء، كأنه لا يفلح الكافرون. وقال: وي صلة في الكلام. وهذا شاهد لقول الخليل. ومما يدل على أنها كأنّ: أنها قد تخفف أيضا كما تخفّف كأن قال الشاعر «1» . ويكأنّ من يكن له نشب يح ... بب ومن يفتقر يعش عيش ضرّ وقال (بعضهم) : ويكأن: أي رحمة لك، بلغة حمير. كأنّ كأنّ: تشبيه، وهي: (أنّ) أدخلت عليها كاف التشبيه الخافضة، أ لا ت رى أنك   وتفسير البحر المحيط 2/ 443، ومجمع البيان 1/ 320، وبلا نسبة في شرح شافية ابن الحاجب 3/ 27، والشطر الأول بلا نسبة في مقاييس اللغة 1/ 153، ولسان العرب (أنى) ، وشرح الحماسة للمرزوقي 1/ 53. (1) البيت من الخفيف، وهو لزيد بن عمرو بن نفيل في خزانة الأدب 6/ 404، 408، 410، والدرر 5/ 305، وذيل سمط اللآلي ص 103، والكتاب 2/ 155، وعيون الأخبار 1/ 242، وتفسير البحر المحيط 7/ 135، والخزانة 3/ 97، ولنبيه بن الحجاج في الأغاني 17/ 205، وشرح أبيات سيبويه 2/ 11، ولسان العرب (وا) ، (ويا) ، وبلا نسبة في الجنى الداني ص 353، والخصائص 3/ 41، 169، وشرح الأشموني 2/ 486، وشرح المفصل 4/ 76، ومجالس ثعلب 1/ 389، والمحتسب 2/ 155، وهمع الهوامع 2/ 106، والصاحبي في فقه اللغة ص 137، ومجمع البيان 1/ 196، والخصائص 3/ 41، 169، والصحاح 6/ 2557، وتفسير الكشاف 3/ 151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 تقول: شربت شرابا كعسل، وشربت شرابا كأنه عسل، فيكونان سواء؟!. وقد يخفف كأنّ ويحذف الاسم فيكون كالكاف، قال الشاعر يصف فرسا «1» : جموم الشّدّ شائلة الذّنابى ... وهاديها كأن جذع سحوق أراد: كجذع. وقال آخر «2» : كأن ظبية تعطو إلى ناضر السّلم لات لات. قال سيبوية: (لات) مشبّهة (بليس) في بعض المواضع، ولم تمكّن تمكّنها، ولم يستعملوها إلا مضمرا فيها، لأنها ليست كليس في المخاطبة والإخبار، عن غائب، ألا ترى أنك تقول: ليست وليسوا، وعبد الله ليس ذاهبا، فتبني عليها، و (لات) لا يكون فيها ذاك، قال الله تعالى: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ [ص: 3] ، أي ليس حين مهرب.   (1) البيت من الوافر، وهو للمفضل النكري في لسان العرب (فيح) ، (سحق) ، (هدي) ، وللمفضل اليشكري في تاج العروس (هدي) . وللنمر بن تولب بيت قريب منه، وهو: جموم الشد شائلة الذنابى ... تخال بياض غرتها سراجا والبيت من الوافر، وهو في ديوان النمر بن تولب ص 340، ولسان العرب (شول) ، (جمم) ، وجمهرة اللغة ص 306، ومقاييس اللغة 1/ 420، والمخصص 16/ 148، وأساس البلاغة (جمم) ، والحيوان 2/ 306، والمعاني الكبير ص 148، وتاج العروس (ذنب) ، (شول) ، (جمم) ، والبيت بلا نسبة في لسان العرب (ذنب) . (2) يروى البيت بتمامه: ويوما توافينا بوجه مقسّم ... كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم والبيت من الطويل، وهو لعلباء بن أرقم في الأصمعيات ص 157، والدرر 2/ 200، وشرح التصريح 1/ 234، والمقاصد النحوية 4/ 384، ولأرقم بن علباء في شرح أبيات سيبويه 1/ 525، ولزيد بن أرقم في الإنصاف 1/ 202، ولكعب بن أرقم في لسان العرب (قسم) ، ولباغت بن صريم اليشكري في تخليص الشواهد 2/ 301، ولأحدهما أو لأرقم بن علباء في شرح شواهد المغني 1/ 111، ولأحدهما أو لراشد بن شهاب اليشكري أو لابن صريم اليشكري في خزانة الأدب 10/ 411، وبلا نسبة في أوضح المسالك 1/ 377، وجواهر الأدب ص 197، والجنى الداني ص 222، 52، ورصف المباني ص 117، 211، وسر صناعة الإعراب 2/ 683، وسمط اللآلي ص 829، وشرح الأشموني 1/ 147، وشرح عمدة الحافظ ص 341، وشرح قطر الندى ص 157، والكتاب 3/ 165، والمحتسب 1/ 308، ومغني اللبيب 1/ 33، والمقرب 1/ 111، 2/ 204، والمنصف 3/ 128، وهمع الهوامع 1/ 413. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 قال: وبعضهم يقول: وَلاتَ حِينَ مَناصٍ. فيرفع، لأنها عنده بمنزلة: (ليس) وهي قليلة، والنصب بها لوجه. وقد خفض بها، قال أبو زبيد الطّائي «1» : طلبوا صلحنا ولات أوان ... فأجبنا أن ليس حين بقاء وقال آخر «2» : فلمّا علمت أنّني قد قتلته ... ندمت عليه لات ساعة مندم وإنما تكون (لات) مع الأحيان وتعمل فيها. فإذا جاوزتها فليس لها عمل. وقال بعض البغداديين: (التاء) تزاد في أول (حين) ، وفي أوّل (أوان) ، وفي أول (الآن) ، وإنّما هي (لا) ثم تبتدئ فتقول: تحين وتلان. والدليل على هذا أنهم يقولون: تحين من غير أن يتقدمها (لا) . واحتج بقول الشاعر «3» : العاطفون تحين ما من عاطف ... والمطمعون زمان ما من مطعم   (1) البيت من الخفيف، وهو لأبي زبيد الطائي في ديوانه ص 30، والإنصاف ص 109، وتخليص الشواهد ص 295، وتذكرة النحاة ص 734، وخزانة الأدب 4/ 183، 185، 190، والدرر 2/ 119، وشرح شواهد المغني ص 640، 960، والمقاصد النحوية 2/ 156، وبلا نسبة في جواهر الأدب ص 249، وخزانة الأدب 4/ 169، 6/ 539، 545، والخصائص 2/ 370، ورصف المباني ص 169، 262، وسر صناعة الإعراب ص 509، وشرح الأشموني 1/ 126، وشرح المفصل 9/ 32، ولسان العرب (أون) ، (لا) ، (لات) ، ومغني اللبيب ص 255، وهمع الهوامع 1/ 126. (2) البيت من الطويل، وهو بلا نسبة في تذكرة النحاة ص 734، ورصف المباني ص 263، وخزانة الأدب 4/ 168، 169، 174، 187. (3) يروى البيت بلفظ: العاطفون تحين ما من عاطف ... والمطعمون زمان أين المطعم والبيت من الكامل، وهو لأبي وجزة السعدي في الأزهية ص 264، والإنصاف 1/ 108، وخزانة الأدب 4/ 175، 176، 178، 180، والدرر 2/ 115، 116، ولسان العرب (ليت) ، (عطف) ، (أين) ، (حين) ، (ما) ، وبلا نسبة في الجنى الداني ص 487، وخزانة الأدب 9/ 383، والدرر 2/ 12، ورصف المباني ص 163، 173، وسر صناعة الإعراب 1/ 163، وشرح الأشموني 3/ 882، ومجالس ثعلب 1/ 270، والممتع في التصريف 1/ 273، وهمع الهوامع 1/ 126، ولعجز البيت روايات مختلفة، منها: والمسبغون يدا إذا ما أنعموا و: نعم الذرا في النائبات لنا هم و: المطعمون زمان ما من مطعم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وبقول الآخر «1» : وصلينا كما زعمت تلانا وجرّ العرب بها يفسد عليه هذا المذهب، لأنهم إذا جرّوا ما بعدها جعلوها كالمضاف للزّيادة، وإنما هي (لا) زيدت عليها (الهاء) كما قالوا: ثمّ وثمّة. وقال ابن الأعرابي «2» في قوله الشاعر: العاطفون تحين ما من عاطف إنما هو (العاطفونه) بالهاء، ثم تبتدئ فتقول: حين ما من عاطف فإذا وصلته صارت الهاء تاء. وكذلك قوله: «وصلينا كما زعمته» ثم تبتدئ فتقول: لاتا، فإذا وصلته صارت الهاء تاء، وذهبت همزة الآن. قال: وسمعت الكلابيّ «3» ينهى رجلا عن عمل، فقال: حسبك تلان أراد: حسبكه الآن، فلما وصل صارت الهاء تاء. وسنبيّن: كيف الوقوف عليها وعلى أمثالها من التاءات الزوائد، في كتاب «القراءات» إن شاء الله تعالى. مهما مهما: هي بمنزلة «ما» في الجزاء. قال الله تعالى: وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [الأعراف: 132] ، أي ما تأتنا به من آية.   (1) صدر البيت: نوّلي قبل نأي داري جمانا والبيت من الخفيف، وهو لجميل بثينة في ديوانه ص 196، ولسان العرب (تلن) ، وبلا نسبة في الإنصاف ص 110، وتذكرة النحاة ص 735، والجنى الداني ص 487، ورصف المباني ص 173، وسر صناعة الإعراب ص 166، ولسان العرب (أين) ، (حين) ، والممتع في التصريف 1/ 273. (2) ابن الأعرابي: هو محمد بن زياد الكوفي البغدادي، المعروف بابن الأعرابي، أبو عبد الله اللغوي، المتوفى سنة 231 هـ. تقدمت ترجمته الوافية، مع ذكر مؤلفاته. (3) الكلابي: لعله أبو زياد، يزيد بن عبد الله بن الحر الأعرابي المعروف بالكلابي، قدم بغداد فأقام بها أربعين سنة. وتوفي في خلافة المهدي العباسي في حدود سنة 200 هـ. من تصانيفه: «خلق الإنسان» ، «كتاب الإبل» ، «كتاب الفرق» ، «كتاب النوادر» . (كشف الظنون 6/ 535) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وقال الخليل في مهمما: هي (ما) أدخلت معها (ما) لغوا كما أدخلت مع (متى) لغوا، تقول: متى تأتني آتك، ومتى ما تأتني آتك. وكما أدخلت مع (ما) أيّ لغوا، كقوله: أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الإسراء: 110] أي أيّا تدعوا. قال: ولكنهم استقبحوا أن يكرروا لفظا واحدا فيقولوا: (ما، ما) فأبدلوا الهاء من الألف التي في الأولى. هذا قول الخليل. وقال سيبويه: وقد يجوز أن تكون (مه) ضم إليها (ما) . ما ومن ما ومن، أصلهما واحد، فجعلت من للناس، وما لغير الناس. نقول: من مرّ بك من القوم؟ وما مرّ بك من الإ بل ؟. وقال أبو عبيدة في قوله تعالى وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) [الليل: 3] : أي ومن خلق الذّكر والأنثى. وكذلك قوله تعالى: وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) [الشمس: 6، 8] هي عنده في هذه المواضع بمعنى «من» . وقال أبو عمرو: هي بمعنى (الذي) . قال: وأهل مكة يقولون إذا سمعوا صوت الرعد: سبحان ما سبّحت له. وقال الفرّاء: هو: وخلقه الذّكر والأنثى، وذكر أنها في قراءة عبد الله والذكر والأنثى. كاد كاد: بمعنى همّ ولم يفعل. ولا يقال: يكاد أن يفعل، إنما يقال: كاد يفعل، قال الله تعالى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة: 71] . وقد جاءت في الشعر، قال الشاعر «1» :   (1) الرجز لرؤبة في ملحق ديوانه ص 172، والدرر 2/ 142، وشرح شواهد الإيضاح ص 99، وشرح المفصل 7/ 121، والكتاب 3/ 160، ولسان العرب (كود) ، والمقاصد النحوية 2/ 215، وتاج العروس (كود) ، وبلا نسبة في أدب الكاتب ص 419، وأسرار العربية ص 5، وتخليص الشواهد ص 329، ولسان العرب (مصح) ، والمقتضب 3/ 7، وهمع الهوامع 1/ 130، وديوان الأدب 2/ 198. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 قد كاد من طول ال بل ى أن يمصحا وأنشد الأصمعي «1» : كادت النّفس أن تفيظ عليه ... إذ ثوى حشو ريطة وبرود ولم يأت منها إلّا فعل يفعل، وتثنيتهما وجمعهما. ولم يبن منها شيء غير ذلك. قال بعضهم: قد جاءت (كاد) بمعنى (فعل) وأنشد قوله الأعشى «2» : وكاد يسمو إلى الجرفين فارتفعا أي: سما فارتفع. قال: ومثله قول ذي الرّمة «3» : ولو أنّ لقمان الحكيم تعرّضت ... لعينيه ميّ سافرا كاد يبرق أي لو تعرضت ل ه ل برق، أي: دهش وتحير. بل بل: تأتي لتدارك كلام غلطت فيه، تقول: رأيت زيدا بل عمرا. ويكون لترك شيء من الكلام وأخذ في غيره. وهي في القرآن بهذا المعنى كثير: قال الله تعالى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) [ص: 1] ثم قال: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) [ص: 2] فترك الكلام الأول وأخذ ببل في كلام ثان. ثم قال حكاية عن المشركين: أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا ثم قال: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي فترك الكلام وأخذ ببل في كلام آخر فقال: بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ [ص: 8] في أشباه لهذا كثيرة في القرآن.   (1) البيت من الخفيف، وهو بلا نسبة في أدب الكاتب ص 406، وأوضح المسالك 1/ 315، وخزانة الأدب 9/ 348، وشرح الأشموني 1/ 129، وشرح شواهد المغني 2/ 948، وشرح شذور الذهب ص 354، وشرح ابن عقيل ص 167، ولسان العرب (نفس) ، (فيظ) ، ومغني اللبيب 2/ 662. (2) صدر البيت: وما مجاور هيت إن عرضت له والبيت من البسيط، وهو في ديوان الأعشى ص 153. وصدر البيت في الصاحبي في فقه اللغة ص 176: حتى تناول كلبا في ديارهم (3) البيت من الطويل، وهو في ديوان ذي الرمة ص 461، ولسان العرب (برق) ، والمخصص 16/ 124، وتاج العروس (برق) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 322، ومجمل اللغة 1/ 253. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 قال الشاعر «1» : بل هل أريك حمول الحيّ غادية ... كالنّخل زيّنها ينع وإفضاح وقال آخر «2» : بل من يرى البرق يشري بتّ أرقبه وإذا وليت اسما- وهي بهذا المعنى-: خفض بها، وشبّهت بربّ وبالواو. وتأتي مبتدأة، قال أبو النّجم «3» : بل منهل ناء من الغياض وكذلك (الواو) إذا أتت مبتدأة غير ناسقة للكلام على كلام- كانت بمعنى ربّ. وهي كذلك في الشعر، كقوله «4» : ومهمه مغبرّة أرجاؤه وقال آخر «5» :   (1) يروى صدر البيت بلفظ: يا هل رأيت حمول الحيّ عادية والبيت من البسيط، وهو لأبي ذؤيب الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص 164، وديوان الهذليين ص 45، ولسان العرب (فضح) ، (حمل) ، وتاج العروس (فضح) ، والأزهية ص 222، والكتاب 4/ 223، وبلا نسبة في رصف المباني ص 157. (2) كلمة «يشري» زائدة، ويروى البيت بتمامه: بل من يرى البرق بتّ أرقبه ... يزجى حبيّا إذا خبا ثقبا والبيت من المنسرح، وهو للبيد بن ربيعة في ديوانه ص 29، والأزهية ص 22، وشرح أبيات سيبويه 1/ 331، والكتاب 4/ 223، وبلا نسبة في رصف المباني ص 156. (3) الرجز لأبي النجم في لسان العرب (قضض) ، وتاج العروس (قضض) . (4) يروى الرجز بتمامه: وبلد مغبرّة أرجاؤه ... كأن لون أرضه سماؤه والرجز لرؤبة في ديوانه ص 3، والأشباه والنظائر 2/ 296، وخزانة الأدب 6/ 458، وشرح التصريح 2/ 339، وشرح شواهد المغني 2/ 971، ولسان العرب (عمى) ، ومعاهد التنصيص 1/ 178، ومغني اللبيب 2/ 695، والمقاصد النحوية 4/ 557، وتاج العروس (كبد) ، (عمى) ، وبلا نسبة في أمالي المرتضى 1/ 216، والإنصاف 1/ 377، وأوضح المسالك 4/ 342، وجواهر الأدب ص 164، وسر صناعة الإعراب 2/ 636، 637، وشرح شذور الذهب ص 414، وشرح المفصل 2/ 118، والصاحبي في فقه اللغة ص 202. (5) يروى البيت بتمامه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 ودوّيّة قفر تمشّى نعامها وقال آخر «1» : وهاجرة نصبت لها جبيني يدلّون بهذه الواو الخافضة: على ترك الكلام الأول، وائتناف كلام آخر. هل هل: تكون للاستفهام، ويدخلها من معنى التقوير والتّوبيخ ما يدخل الألف التي يستفهم بها، كقوله تعالى: هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ [الروم: 28] ، وهذا استفهام فيه تقرير وتوبيخ. وكذلك قوله تعالى: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [يونس: 34] . والمفسّرون يجعلونها في بعض المواضع بمعنى: «قد» ، كقوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ [الإنسان: 1] ، أي قد أتى وقوله: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) [الغاشية: 1] و: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) [طه: 9] ،: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) [ص: 21] ، و: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ؟ [الذاريات: 24] . هذا كله عندهم بمعنى: (قد) . ويجعلونها أيضا بمعنى: (ما) في قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ [الأنعام: 158] و: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ [البقرة: 210] ، و: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ [الزخرف: 66] ، و: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ؟ [الأعراف: 53] ، و: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ؟ [النحل: 35] . هذا كله عندهم بمعنى: (ما) .   ودويّة قفر تمشّى نعاجها ... كمشي النصارى في خفاف الأرندج والبيت من الطويل، وهو للشماخ في ديوانه ص 83، والدرر 4/ 130، وسر صناعة الإعراب ص 649، والكتاب 3/ 104، ولسان العرب (ردج) ، (دوا) ، (مشى) ، والمعاني الكبير 1/ 346، وهمع الهوامع 2/ 28. (1) يروى البيت بتمامه: فقلت لبعضهن وشد رحلي ... لهاجرة نصبت لها جبيني والبيت من الوافر، وهو للمثقب العبدي في المفضليات ص 289. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وهو والأوّل عند أهل اللغة تقرير. لولا ولوما لولا تكون في بعض الأحوال بمعنى: هلّا وذلك إذا رأيتها بغير جواب، تقول: لولا فعلت كذا تريد هلّا، فعلت كذا، قال الله تعالى: فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ [هود: 116] ، فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [التوبة: 122] فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا [الأنعام: 43] ، فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) [الواقعة: 86] ، أي فهلا. وقال فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ [يونس: 98] . وقال الشاعر «1» : تعدّون عقر النّيب أفضل مجدكم ... بني ضوطرى لولا الكميّ المقنّعا أي: فهّلا تعدّون الكميّ. وكذلك (لو ما) ، قال: لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ، [الحجر: 7] أي هلّا تأتينا. فإذا رأيت للولا جوابا فليست بهذا المعنى، كقوله: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) [الصافات: 143، 144] ، فهذه (لولا) التي تكون لأمر لا يقع لوقوع غيره. وبعض المفسرين يجعل لولا في قوله: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ بمعنى (لم) أ ي: فلم تكن قرية آمنت فنفعها إيمانها عند نزول العذاب إلّا قوم يونس. وكذلك قوله: (فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ) [يونس: 98] أي فلم يكن.   (1) البيت من الطويل، وهو لجرير في ديوانه ص 907، وتخليص الشواهد ص 431، وجواهر الأدب ص 394، وخزانة الأدب 3/ 55، 57، 60، والخصائص 2/ 45، والدرر 2/ 240، وشرح شواهد الإيضاح ص 72، وشرح شواهد المغني 2/ 669، وشرح المفصل 2/ 38، 8/ 144، والمقاصد النحوية 4/ 475، ولسان العرب (أمالا) ، وتاج العروس (لو) ، والصاحبي في فقه اللغة ص 135، والبيت للفرزدق في الأزهية ص 168، ولسان العرب (ضطر) ، ولجرير أو للأشهب بن رميلة في شرح المفصل 8/ 145، وبلا نسبة في الأزهية ص 170، والأشباه والنظائر 1/ 240، والجنى الداني ص 606، وخزانة الأدب 11/ 245، ورصف المباني ص 293، وشرح الأشموني 3/ 610، وشرح ابن عقيل ص 600، وشرح عمدة الحافظ ص 321، وشرح المفصل 2/ 102، والصاحبي في فقه اللغة ص 164، 182، ومغني اللبيب 1/ 274، وهمع الهوامع 1/ 148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 لما لمّا: تكون بمعنى (لم) في قوله: بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ [ص: 8] أي: بل لم يذوقوا عذاب. وتكون بمعنى (إلّا) ، قال تعالى: وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا [الزخرف: 35] أي: إلّا متاع الحياة الدنيا، إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) [الطارق: 4] أي: إلّا عليها، وهي لغة هذيل مع «إن» الخفيفة التي تكون بمعنى «ما» . ومن قرأ وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ بالتخفيف إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ جعل (ما) صلة، وأراد: وإن كلّ ذلك لمتاع الحياة، وإن كلّ نفس لما عليها حافظ. فإذا رأيت للمّا جوابا فهي ل أم ر يقع بوقوع غيره، بمعنى «حين» ، كقوله تعالى: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ [الزخرف: 55] أي: حين آسفونا، ولَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ [هود: 101] أي: حين جاء أمر ربك. أو أو: تأتي للشك، تقول. رأيت عبد الله أو محمدا. وتكون للتخيير بين شيئين، كقوله: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المائدة: 89] وقوله: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة: 196] أنت في جميع هذا مخيّر أيّة فعلت أجزأ عنك. وربما كانت بمعنى واو النّسق. كقوله: فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) [المرسلات: 5، 6] يريد: عذرا ونذرا. وقوله: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: 44] وقوله: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً [طه: 113] ، أي لعلهم يتقون ويحدث لهم القرآن ذكرا. هذا كلّه عند المفسرين بمعنى واو النّسق. وأما قوله: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) [الصافات: 147] ، فإن بعضهم يذهب إلى أنها بمعنى بل يزيدون، على مذهب التّدارك لكلام غلطت فيه وكذلك قوله: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل: 77] وقوله: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) [النجم: 9] . وليس هذا كما تأوّلوا، وإنما هي بمعنى (الواو) في جميع هذه المواضع: وأرسلناه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 إلى مائة ألف ويزيدون، وما أم ر الساعة إ لا كلمح البصر وهو أقرب، و: فكان قاب قوسين وأدنى. وقال ابن أحمر «1» : قرى عنكما شهرين أو نصف ثالث ... إلى ذاكما قد غيّبتني غيابيا وهذا البيت بوضح لك معنى الواو: وأراد: قرى شهرين ونصفا، ولا يجوز أن يكون أراد قرى شهرين بل نصف شهر ثالث. وقال آخر «2» : أثعلبة الفوارس أو رياحا ... عدلت بهم طهيّة والخشابا أراد: وعدلت هذين بهذين. أم أم: تكون بمعنى أو، كقوله تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً [الملك: 16، 17] ، وكقوله: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى [الإسراء: 68، 69] . هكذا قال المفسرون، وهي كذلك عند أهل اللغة في المعنى، وإن كانوا قد يفرقون بينهما في الأماكن. وتكون أم بمعنى ألف الاستفهام، كقوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء: 54] ، أراد: أيحسدون الناس؟.   (1) يروى صدر البيت بلفظ: ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث والبيت من الطويل، وهو لابن أحمر في ديوانه ص 171، والأزهية ص 115، وخزانة الأدب 5/ 9، وبلا نسبة في الإنصاف 2/ 483، والخصائص 2/ 460، والمحتسب 2/ 227. (2) البيت من الوافر، وهو لجرير في ديوانه ص 814، والأزهية ص 114، وأمالي المرتضى 2/ 57، وجمهرة اللغة ص 290، وخزانة الأدب 11/ 69، وشرح أبيات سيبويه 1/ 288، وشرح التصريح 1/ 300، والكتاب 1/ 102، 3/ 183، ولسان العرب (خشب) ، (طها) ، والمقاصد النحوية 2/ 533، وبلا نسبة في أوضح المسالك 2/ 166، والرد على النحاة ص 105، وشرح الأشموني 1/ 190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وقوله: ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) [ص: 62، 63] ، أي زاغت عنهم الأبصار وألف اتخذناهم موصولة. وكقوله: أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) [الطور: 39] ، أراد: أله البنات أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) [الطور: 40] . أراد: أتسألهم أجرا أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) [الطور: 41] ، أراد: أعندهم الغيب. وهذا في القرآن كثير، يدلّك عليك قوله: الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ [السجدة: 1، 3] ، ولم يتقدم في الكلام: أيقولون كذا وكذا فترد عليه: أم تقولون؟ وإنما أراد أيقولون: افتراه، ثم قال: بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ. لا لا: تكون بمعنى لم، قال الله تعالى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) [القيامة: 31] ، أي لم يصدّق ولم يصلّ، وقال الشاعر «1» : وأيّ خميس لا أفأنا نهابه ... وأسيافنا يقطرن من كبشه دما؟! أي لم نفىء نهابه. وقال آخر «2» : إن تغفر اللهم تغفر جمّا ... وأيّ عبد لك لا ألمّا أي لم يلمّ بالذّنوب. أولى أولى: تهدّد ووعيد، قال الله تعالى: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35)   (1) البيت من الطويل، وهو لطرفة في مجاز القرآن 2/ 278، والكامل 2/ 93، وبلا نسبة في الأزهية ص 158، والصاحبي في فقه اللغة ص 165، وتفسير البحر المحيط 8/ 39، وأمالي ابن الشجري 2/ 228. [ ..... ] (2) الرجز لأبي خراش الهذلي في الأزهية ص 158، وخزانة الأدب 7/ 190، وشرح أشعار الهذليين 3/ 1346، وشرح شواهد المغني ص 625، ولسان العرب (جمم) ، والمقاصد النحوية 4/ 216، وتاج العروس (جمم) ، ولأمية بن أبي الصلت في الأغاني 4/ 131، 135، وخزانة الأدب 4/ 4، ولسان العرب (لمم) ، وتهذيب اللغة 15/ 347، 420، وكتاب العين 8/ 350، وتاج العروس (لمم) ، ولأمية أو لأبي خراش في خزانة الأدب 2/ 295، ولسان العرب (لمم) ، وبلا نسبة في الإنصاف ص 76، وجمهرة اللغة ص 92، والجنى الداني ص 298، ولسان العرب (لا) ، ومغني اللبيب 1/ 244، وكتاب العين 8/ 321، وديوان الأدب 3/ 166، وتاج العروس (لا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 [القيامة: 34، 35] ، وقال: فَأَوْلى لَهُمْ [محمد: 20] . ثم ابتدأ فقال: طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ [محمد: 21] . وقال الشاعر لمنهزم «1» : ألفيتا عيناك عند القفا ... أولى فأولى لك ذا واقيه لا جرم لا جرم: قال الفراء: هي بمنزلة لا بدّ ولا محالة، ثم كثرت في الكلام حتى صارت بمنزلة حقّا. وأصل ها من جرمت: أي كسبت. وقال في قول الشاعر «2» : ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ... جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا أي كسبتهم الغضب أبدا. قال: وليس قول من قال: حقّ لفزارة الغضب، بشيء. ويقال: فلان جارم أهله، أي كاسبهم، وجريمتهم. ولا أحسب الذّنب سمّي جرما إلّا من هذا: لأنه كسب واقتراف. إن الخفيفة إن الخفيفة: تكون بمعنى (ما) ، كقوله تعالى: إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ [الملك: 20] ، وإِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً [يس: 29] ، وإِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) [الطارق: 4] . وقال المفسرون: وتكون بمعنى لقد، كقوله، إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا [الإسراء:   (1) البيت من السريع، وهو لعمرو بن ملقط في تخليص الشواهد ص 474، وخزانة الأدب 9/ 21، وشرح التصريح 1/ 275، وشرح شواهد المغني 1/ 331، والمقاصد النحوية 2/ 458، ونوادر أبي زيد ص 62، وبلا نسبة في أوضح المسالك 2/ 98، ورصف المباني ص 19، وسر صناعة الإعراب 2/ 718، وشرح المفصل 3/ 88، والصاحبي في فقه اللغة ص 177، ومغني اللبيب 2/ 371، وأمالي ابن الشجري 1/ 116، والمعاني الكبير 2/ 899. (2) البيت من الكامل، وهو لأبي أسماء بن الضريبة في لسان العرب (جرم) ، وله أو لعطية بن عفيف في خزانة الأدب 10/ 283، 286، 288، وشرح أبيات سيبويه 2/ 136، ولرجل من فزارة في الكتاب 3/ 138، وبلا نسبة في أدب الكاتب ص 62، والاشتقاق ص 190، وجمهرة اللغة ص 465، وجواهر الأدب ص 355، والصاحبي في فقه اللغة ص 150، والمقتضب 2/ 352. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 108] وتَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) [الشعراء: 97] وتَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ [الصافات: 56] وفَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) [يونس: 29] . وقالوا أيضا: وتكون بمعنى إذ، كقوله: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (129) [آل عمران: 129] ، أي إذ كنتم. وقوله: فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [التوبة: 13] . وقوله: وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة: 278] . وهي عند أهل اللغة (إن) بعين ها ، لا يجعلونها في هذه المواضع بمعنى (إذ) ويذهبون إلى أنه أراد: من كان مؤمنا لم يهن ولم يدع إلى السّلم، ومن كان مؤمنا لم يخش إلا الله، ومن كان مؤمنا ترك الرّبا. ها ها: بمنزلة خذ وتناول، تقول: ها يا رجل. وتأمر بها، ولا تنهى. ومنها قول الله تعال ى: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ [الحاقة: 19] ، ويقال للاثنين: هاؤما اقرءا. وفيها لغات، والأصل: هاكم اقرؤوا، فحذفوا الكاف، وأبدلوا الهمزة، وألقوا حركة الكاف عليها. هات هات: بمعنى أعطني، مكسورة التاء، مثل رام وغاز وعاط فلانا: قال الله تعالى: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [البقرة: 111] ، أي ائتوا به. قال الفراء: ولم أسمع هاتيا في الاثنين، إنما يقال للواحد والجميع، وللمرأة: هاتي، وللنّساء: هاتين. وتقول: ما أهاتيك، بمنزلة ما أعاطيك. وليس من كلام العرب هاتيت. ولا ينهى بها. تعال تعال: تفاعل من علوت، قال الله تعالى: فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ [آل عمران: 61] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 ويقال للاثنين من الرجال والنساء: تعاليا، وللنساء: تعالين. قال الفراء أصلها عال إلينا، وهو من العلوّ. ثم إن العرب لكثرة استعمالهم إيّاها صارت عندهم بمنزلة هلم ّ، حتى استجازوا أن يقولوا للرجل وهو فوق شرف: تعال، أي اهبط، وإنما أصلها: الصعود. ولا يجوز أن ينهى بها، ولكن إذا قال: تعال، قلت: قد تعاليت وإلى شيء أتعالى؟ هلم هلم: بمعنى تعالى، وأهل الحجاز لا يثنّونها ولا يجمعونها. وأهل نجد يجعلونها من هلممت، فيثنّون ويجمعون ويؤنّثون. وتوصل باللام فيقال: هلمّ لك، وهلمّ لكما. قال الخليل: أصلها (لمّ) زيدت الهاء في أوّلها. وخالفه الفراء فقال: أصلها (هل) ضمّ إليها (أمّ) والرّفعة التي في اللام من همزة (أمّ) لمّا تركت انتقلت إلى ما قبلها. وكذلك (اللهم) نرى أصلها: (يا الله أمّنا بخير) فكثرت في ال كلا م فاختلطت، وتركت الهمزة. كلا كلا: ردع وزجر، قال الله تعالى: أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا [المعارج: 38، 39] . قال: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) [المدثر: 52، 53] . وقال: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) [القيامة: 19، 20] يريد: انته عن أن تعجل به. وقال: يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) [الهمزة: 3، 4] ، أي لا يخلده ماله. فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) [الانفطار: 8، 9] ، أي ليس كما غررت به. وقال: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) كَلَّا [المطففين: 1، 7] . يريد: انتهوا. رويدا رويدا: بمعنى مهلا، رويدك: بمعنى أمهل، قال الله تعالى: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) [الطارق: 17] أي: أمهلهم قليلا. وإذا لم يتقدمها: أمهلهم، كانت بمعنى مهلا. ولا يتكلّم بها إلّا مصغّرة ومأمورا بها. وجاءت في الشعر بغير تصغير في غير معنى الأمر، قال الشاعر «1» : كأنها مثل من يمشي على رود أي على مهل. ألا ألا: تنبيه: وهي زيادة في الكلام، قال تعالى: أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ [هود: 8] . وقال: أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ [هود: 5] . وتقول: ألا إنّ القوم خارجون: تريد بها: افهم اعلم أنّ الأمر كذا وكذا. الويل الويل: كلمة جامعة للشر كله. قال الأصمعي: ويل تقبيح، قال الله تعالى: وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء: 18] . تقول العرب: له الويل، والأليل والأليل: الأنين. وقد توضع في موضع التّحسّر والتّفجع، كقوله: يا وَيْلَنا [الأنبياء: 14] . ويا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ [المائدة: 31] . وكذلك: ويح وويس، تصغير.   (1) يروى البيت بتمامه بلفظ: تكاد لا تثلم البطحاء وطأتها ... كأنها ثمل يمشي على رود والبيت من البسيط، وهو للجموح الظفري في شرح أشعار الهذليين ص 872، ولسان العرب (رود) ، والتنبيه والإيضاح 2/ 23، ومجمل اللغة 2/ 434، وتاج العروس (رود) ، وأساس البلاغة (رود) ، وبلا نسبة في لسان العرب (رأد) ، ومقاييس اللغة 2/ 458، والمخصص 14/ 89، وتهذيب اللغة 14/ 162، وتاج العروس (رأد) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 لعمرك لعمرك، ولعمر الله: هو العمر. ويقال: أطال الله عمرك، وعمرك، وهو قسم بالبقاء. إي إي: بمعنى بلى، قال الله تعالى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ [يونس: 53] . ولا تأتي إلا قبل اليمين، صلة لها. لدن لدن: بمعنى عند، قال تعالى: قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً [الكهف: 76] أي بلغت من عندي. وقال: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا [الأنبياء: 17] أي من عندنا. وقد تحذف منها النون، كما تحذف من (لم يكن) قال الشاعر «1» : من لد لحييه إلى منحوره أي من عند لحييه. وفيها لغة أخرى أيضا: لدى، قال الله تعالى: وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ [يوسف: 25] أي عند الباب.   (1) يروى الرجز بتمامه: يستوعب البوعين من جريره ... من لد لحييه إلى منخوره والرجز لغيلان بن حريث في لسان العرب (نحر) ، (لدن) ، وشرح أبيات سيبويه 2/ 380، وشرح شواهد الشافية ص 161، والكتاب 4/ 234، والتنبيه والإيضاح 2/ 211، وتاج العروس (نحر) ، (نخر) ، (لدن) ، وبلا نسبة في شرح شافية ابن الحاجب 2/ 233، وشرح المفصل 2/ 127، والصاحبي في فقه اللغة ص 169، وديوان الأدب 1/ 308، 2/ 69، والمخصص 14/ 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 باب دخول حروف الصّفات مكان بعض «في» مكان «على» قوله تعالى: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه: 71] ، أي على جذوع النخل. قال الشاعر «1» : وهم صلبوا العبديّ في جذع نخلة ... فلا عطست شيبان إلّا بأجدعا وقال عنترة «2» : بطل كأنّ ثيابه في سرحة ... يحذى نعال السّبت ليس بتوأم أي على سرحه من طوله. «الباء» مكان «عن» قال الله تعالى: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً [الفرقان: 59] ، أي عنه. قال علقمة بن عبدة «3» :   (1) البيت من الطويل، وهو لسويد بن أبي كاهل في ملحق ديوانه ص 45، والأزهية ص 268، وشرح شواهد المغني 1/ 479، ولسان العرب (عبد) ، (شمس) ، ولامرأة من العرب في الخصائص 2/ 313، وشرح المفصل 8/ 21، ولسان العرب (فيا) ، وتاج العروس (فيا) ، وبلا نسبة في أدب الكاتب ص 506، ورصف المباني ص 389، ومغني اللبيب 1/ 168، والمقتضب 2/ 319، وتفسير البحر المحيط 6/ 261، وتفسير الطبري 16/ 141، والصاحبي في فقه اللغة ص 128، والكامل 2/ 71. (2) البيت من الكامل، وهو في ديوان عنترة ص 212، وأدب الكاتب ص 506، والأزهية ص 267، وجمهرة اللغة ص 521، 1315، وخزانة الأدب 9/ 485، 490، وشرح شواهد المغني 1/ 479، والمنصف 3/ 17، ولسان العرب (سرح) ، وشرح القصائد العشر ص 199، والكامل 1/ 55، والعمدة 1/ 288، وأمالي المرتضى 2/ 15، والمعاني الكبير 1/ 488، وبلا نسبة في الخصائص 2/ 312، ورصف المباني ص 389، وشرح الأشموني 2/ 292، وشرح المفصل 8/ 21، ومغني اللبيب 1/ 169، وتفسير البحر المحيط 2/ 258. (3) البيت من الطويل، وهو لعلقمة الفحل (علقمة بن عبدة) في ديوانه ص 35، وأدب الكاتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 فإن تسألوني بالنّساء فإنّني ... بصير بأدواء النّساء طبيب أي عن النساء. وقال ابن أحمر «1» : تسائل بابن أحمر من رآه ... أعارت عينه أم لم تعارا «عن» مكان «الباء» قال الله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) [النجم: 3] ، أي بالهوى. والعرب تقول: رميت عن القوس، أي رميت بالقوس. «اللام» مكان «على» قال الله تعالى: وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ [الحجرات: 2] أي لا تجهروا عليه بالقول. والعرب تقول: سقط فلان لفيه، أي على فيه. قال الشاعر «2» :   ص 508، والأزهية ص 284، والجنى الداني ص 41، وحماسة البحتري ص 181، والدرر 4/ 105، والمقاصد النحوية 3/ 16، 4/ 105، وهمع الهوامع 2/ 22، وبلا نسبة في جواهر الأدب ص 49، ورصف المباني ص 144. (1) يروى البيت بلفظ: وربّت سائل عنّي حفيّ ... أعارت عينه أم لم تعارا والبيت من الوافر، وهو لابن أحمر في ديوانه ص 76، وأدب الكاتب ص 508، والأزهية ص 262، وجمهرة اللغة ص 68، وشرح شواهد الشافية ص 353، ولسان العرب (عور) ، (غور) ، وبلا نسبة في تذكرة النحاة ص 382، وجمهرة اللغة ص 77، 1066، وخزانة الأدب 5/ 198، وشرح شافية ابن الحاجب 3/ 99، وشرح المفصل 10/ 75، ولسان العرب (عور) ، والمنصف 1/ 260، 3/ 42. (2) صدر البيت: تناوله سريعا بالرمح ثم اتّنى له والبيت من الطويل، وهو لجابر بن حني في شرح اختيارات المفضل ص 955، وشرح شواهد المغني 2/ 562، وللأشعث الكندي في الأزهية ص 288، ولربيعة بن مكدم في الأغاني 16/ 32، ولعصام بن المقشعر في معجم الشعراء ص 270، وبلا نسبة في أدب الكاتب ص 511، والجنى الداني ص 101، ورصف المباني ص 221، وشرح الأشموني 2/ 291، ومغني اللبيب 1/ 212، وتفسير البحر المحيط 6/ 10، 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 فخرّ صريعا لليدين وللفم قال الآخر «1» : معرّس خمس وقّعت للجناجن «إلى» مكان «مع» قال الله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النساء: 2] ، أي مع أموالكم. ومثله: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمران: 52] ، أي مع الله. والعرب تقول: الذّود إلى الذّود إبل «2» ، أي مع الذّود. قال ابن مفرّغ «3» : شدخت غرّة السّوابق فيهم ... في وجوه إلى اللّمام الجعاد أراد مع اللّمام الجعاد. «اللام» مكان «إلى» قال الله تعالى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) [الزلزلة: 5] ، أي أوحى إليها. قال الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الأعراف: 43] ، أي إلى هذا. يدلك على ذلك قوله في موضع آخر: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل: 68] وقوله: وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل: 121] . «على» مكان «من» قال الله تعالى: إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) [المطففين: 2] ، أي مع الناس.   (1) صدر البيت: كأنّ مخوّاها على ثفناتها والبيت من الطويل، وهو للطرماح في ديوانه ص 491، والاقتضاب في شرح أدب الكاتب ص 439، والمعاني الكبير 2/ 1190، وأمالي المرتضى 2/ 25، 4/ 3، وبلا نسبة في أدب الكاتب ص 511، ورصف المباني ص 222. (2) انظر المثل في مجمع الأمثال 1/ 288، ولسان العرب (ذود) . (3) البيت من الخفيف، وهو ليزيد بن مفرغ في ديوانه ص 118، وأدب الكاتب ص 516، والأزهية ص 273، والإنصاف ص 266، ولسان العرب (شدخ) ، (لمم) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 578. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 وقال صخر الغيّ «1» : متى ما تنكروها تعرفوها ... على أقطارها علق نفيث أي من أقطارها. ومنه قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ [المائدة: 107] ، أي منهم. «من» مكان «الباء» قال الله تعالى: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد: 11] أي بأمر الله. وقال تعالى: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ [غافرة: 15] ، أي بأمره. وقال: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ [القدر: 4، 5] ، أي بكل أمر. «الباء» مكان «من» تقول العرب: شربت بماء كذا وكذا، أي من ماء كذا. قال الله تعالى: عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) [المطففين: 28] وعَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الإنسان: 6] . ويكون بمعنى يشربها عباد الله ويشرب منها. قال الهذليّ وذكر السّحائب «2» : شربن بماء البحر ثم ترفّعت ... متى لجج خضر لهنّ نئيج أي شربن من ماء البحر.   (1) البيت من الوافر، وهو لأبي المثلم الهذلي في شرح أشعار الهذليين ص 264، والأزهية ص 276، ولصخر الغي في خزانة الأدب 2/ 199، وتاج العروس (نفث) ، ولسان العرب (نفث) . (2) البيت من الطويل، وهو لأبي ذؤيب الهذلي في الأزهية ص 201، والأشباه والنظائر 4/ 287، وجواهر الأدب ص 99، وخزانة الأدب 7/ 97- 99، والخصائص 2/ 85، والدرر 4/ 179، وسرّ صناعة الإعراب ص 135، 424، وشرح أشعار الهذليين 1/ 129، وشرح شواهد المغني ص 218، ولسان العرب (شرب) ، (مخر) ، (متى) ، والمحتسب 2/ 114، والمقاصد النحوية 3/ 249، وديوان الهذليين 1/ 51، والاقتضاب ص 447، وبلا نسبة في أدب الكاتب ص 515، والأزهية ص 284، وأوضح المسالك 3/ 6، والجنى الداني ص 43، 505، وجواهر الأدب ص 47، 378، ورصف المباني ص 151، وشرح الأشموني ص 284، وشرح ابن عقيل ص 352، وشرح عمدة الحافظ ص 268، وشرح قطر الندى ص 250، والصاحبي في فقه اللغة ص 175، ومغني اللبيب ص 105، وهمع الهوامع 2/ 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 وقال عنترة «1» : شربت بماء الدّحرضين فأصبحت ... زوراء تنفر عن حياض الدّيلم وقال عز وجل: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ [هود: 14] ، أي من علم الله. «من» مكان «في» قال الله تعالى: أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ [فاطر: 40] ، أي في الأرض. «من» مكان «على» قال الله تعالى: وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ [الأنبياء: 77] ، أي على القوم. «عن» مكان «من» قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [الشورى: 25] ، أي من عباده. وتقول: أخذت هذا عنك، أي منك. «من» مكان «عن» تقول: لهيت من فلان، أي عنه. و: حدثني فلان من فلان. أي عنه. «على» بمعنى «عند» قال الله تعالى: وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ [الشعراء: 14] ، أي عندي. «الباء» مكان «اللام» قال الله تعالى: ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدخان: 39] أي للحق.   (1) البيت من الكامل، وهو في ديوان عنترة ص 201، وأدب الكاتب ص 515، والأزهية ص 283، وجمهرة اللغة ص 872، 1170، وسر صناعة الإعراب 1/ 134، ولسان العرب (نبت) ، (حرض) ، (وسع) ، (وشع) ، (ولم) ، والمحتسب 2/ 89، وتاج العروس (دلم) ، والبيت بلا نسبة في رصف المباني ص 151، وشرح المفصل 2/ 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وجدت في آخر كتاب المشكل تفسير بعض ما فيه من الأحاديث والأمثال فألحقته به «1» . 1- قول النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «النّاس كإبل مائة ليس فيها راحلة» «2» . الإبل المائة: هي الرّاعية، وإنما يجتمع منها في المرعى الواحد مائة، فتقام المائة مقام القطيع. يقال: لفلان إبل مائة. وهي أيضا هنيدة «3» . وإذا كان الإبل مائة ليست فيها راحلة تشابهت في المناظر، لأن الراحلة تتميز منها بالتمام وحسن المنظر. فأراد: أنهم سواء في الأحكام وفي القصاص، ليس لشريف فضل على غيره. وهذا مثل قوله عليه السلام: النّاس سواء كأسنان المشط «4» . والعرب تقول في هذا المعنى: هم سواء كأسنان الحمار. 2- وقوله: إنّ ممّا ينبت الرّبيع ما يقتل حبطا أو يلمّ «5» . فالحبط: أن تأكل الناقة في المرعي فتكثر حتى تنتفخ بطنها. ولذلك قيل لقوم من العرب: الحبطات، لأن أباهم كان أكل صمغا حتى حبط بطنه فسمى: الحبط. وهو الحارث بن تميم. وقوله: أو يلمّ، يعني يقارب أن يقتل. وإنما نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الاستكثار من الدنيا ومن غضارتها وحسنها إذا كان في ذلك ما يهلك. فضرب استكثار البهيمة من العشب في الربيع حتى يقلتها حبطا مثلا لذلك. 3- وقوله للضّحّاك بن سفيان: إذا أتيتهم فاربض في دارهم ظبيا «6» . يراد: أقم ولا تحدث شيئا كأنك ظبي قد استقر في الكناس.   (1) هذا من قول ناسخ الكتاب، بعد فراغه من نسخه في جمادى الأولى سنة 532 هـ. (2) تقدم الحديث مع تخريجه. (3) هنيدة: اسم للمائة من الإبل خاصة. (4) أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 7/ 57، وابن الجوزي في الموضوعات 3/ 80، وابن عدي في الكامل في الضعفاء 5/ 1099، وميزان الاعتدال 2/ 217، والعجلوني في كشف الخفاء 2/ 326، والدولابي في الكنى 1/ 168. (5) تقدم الحديث مع تخريجه. (6) تقدم الحديث مع تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 4- وقوله: الكاسيات العاريات لا يدخلن الجنّة «1» . يعني النساء اللّواتي يلبسن رقاق الثّياب، فهنّ كاسيات إذا لبسن، عاريات إذا كن لا يسترهنّ. 5- وقوله في كتاب صلح: وإنّ بيننا وبينهم عيبة مكفوفة «2» . يريد: صدرا نقيّا من الغلّ والعداوة، منطويا على الوفاء. والعرب تسمي الصّدور: العياب. قال الشاعر «3» : وكادت عياب الودّ منّا ومنكم ... وإن قيل أبناء العمومة تصفر تصفر: تخلو من المحبة. والمكفوفة: المشرجة: يقال: أشرج صدره على كذا، أي طوى. قال الشّمّاخ «4» : وكادت غداة البين ينطق طرفها ... بما تحت مكنون من الصّدر مشرج 6- وقوله صلّى الله عليه وسلم: «أجد نفس ربّكم من قبل اليمن» «5» . يريد: أجد الفرج يأتيني من قبل اليمن- فأتاه الله من جهة الأنصار. وكذلك قوله: لا تسبّوا الرّيح فإنها من نفس الرحمن «6» . يريد: أن الله ينفّس بها، ويفرّج بها. وقد فرّج الله بها عنه ليلة الأحزاب، قال الله جل اسمه: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها [الأحزاب: 9] . وقال: اللهم نفّس عني الكرب، ونفّس عني الأذى. كما قال: فرّج عني.   (1) تقدم الحديث مع تخريجه. (2) تقدم الحديث مع تخريجه. (3) البيت من الطويل، وهو لبشر بن أبي خازم في أساس البلاغة (عيب) ، وليس في ديوانه، وللكميت في ديوانه 1/ 169، والمعاني الكبير ص 527، وبلا نسبة في لسان العرب (عيب) ، (كفف) ، وتاج العروس (عيب) ، (كفف) ، وتهذيب اللغة 3/ 236، وكتاب العين 2/ 294. (4) البيت من الطويل، وهو في ديوان الشماخ ص 8. (5) تقدم الحديث مع تخريجه. [ ..... ] (6) روي الحديث بطرق وأسانيد متعددة، أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 9/ 19، 10/ 217، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين 5/ 103، والسيوطي في الدر المنثور 1/ 165، وابن ماجه حديث 3727، والحاكم في المستدرك 2/ 272. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 ومما يزيد ذلك وضوحا تقول عمر رضي الله عنه: الريح من روح الله فلا تسبّوها «1» . 7- وقول أبي بكر رضي الله عنه: نحن حفنة من حفنات الله «2» . يريد: نحن وإن كنا كثيرا في العدد قليل عند الله، كالحفنة، والحفنة: ما حفنه الرجل بيده فألقاه. يقال: حفن له من المال، إذا أعطاه بكفّه. 8- وقول عمر رضي الله عنه للعريف الذي أتاه بالمنبوذ: عسى الغوير أبؤسا «3» . فقال بعضهم: هو تصغير غار. وهو مثل للعرب. ويقال: إن أول من قاله بيهس الذي يلقب بالنّعامة في حمقه، وكان قد وجد قاتلي إخوته في غار فهجم عليهم في ذلك الغار فقتلهم، فهو أحد من طلب بثأر فلحقه. وإنما عسى أن يكون الغوير أضمر لنا وأخفى أبؤسا، وهو جمع بائس. ويقال: الغوير: ماء. 9- وقول عليّ كرم الله وجه: من يطل هن أبيه ينتطق به «4» . يريد: من كثر إخوته عزّ بهم فامتنع. وضرب النّطاق مثلا لذلك، لأنه يشدّ الظهر. ومثله قول الشاعر «5» : فلو شاء ربي كان أير أبيكم ... طويلا كأير الحارث بن سدوس والحارث بن سدوس من شيبان، وكان له أحد وعشرون ذكرا. 10- وقول عمر رضي الله عنه: أيّما رجل بايع عن غير مشاورة، فلا يؤمّر واحد منهما تغرّة أن يقتلا «6» .   (1) روي الحديث بلفظ: «الريح من روح الله تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فلا تسبوها» . أخرجه أبو داود حديث 5097، وأحمد في المسند 2/ 268، 518، والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 361، والحاكم في المستدرك 4/ 285، والهيثمي في موارد الظمآن 1989، والبغوي في شرح السنة 4/ 392، والتبريزي في مشكاة المصابيح 1516، والسيوطي في الدر المنثور 1/ 165، والشافعي في مسنده 82، والبخاري في التاريخ الكبير 2/ 167. (2) تقدم الحديث مع تخريجه. (3) تقدم الحديث مع تخريجه. (4) تقدم الحديث مع تخريجه. (5) البيت من الطويل، وهو للسرادق السدوسي في تاج العروس (أبر) ، وبلا نسبة في لسان العرب (أبر) ، (نطق) ، (هنا) ، وتهذيب اللغة 15/ 329، وثمار القلوب ص 143، وتاج العروس (نطق) . (6) تقدم الحديث مع تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 يريد: إذا بايع الرجل رجلا عن غير مشاورة الناس، يعني مبايعة الإمرة، فلا يؤمّر واحد منهما، لا المبايع ولا المبايع حتى يكون ذلك عن اجتماع ملإ من الناس، لأنه لا يؤمن أن يقتلا جميعا. وتغرّة هاهنا: مصدر غررت به تغرّة وتغريرا، مثل عللّته تعلّة وتعليلا. وهذا قول أبي عبيدة. 11- والعرب تقول: حور في محارة «1» . والحور، النّقصان. والمحارة: المنقصة، وهذا كما يقول الناس: هذا نقصان في نقصان، وخسران في خسران. 12- وقولهم: جري المذكّيات غلاب «2» . فالمذكّيات: الخيل المسانّ. والغلاء: أن تتغالى في الجري، أي كأنها تتبارى في ذلك، وليست كالصغيرة التي لا تتغالى. وقد يروى: «غلاب» مكان «غلاء» . 13- وقوله: عيل ما هو عائله «3» ، مثل. ومعنى عيل: أي أثقل. يقال: عالني الشيء أي أثقلني. كأنه قال: أثقل ما هو مثله. كأنه يدعى له ويدعى على الذي أثقله. قال ابن مقبل يصف فرسا «4» : خدى مثل خدي الفالجيّ ينوشني ... بخبط يديه عيل ما هو عائله 14- وقولهم: وإنّه لشرّاب بأنقع «5» . قاله الحجّاج لأهل العراق: إنكم يا أهل العراق شاربون بأنقع. وأصله في الطير، وذلك أن الطائر إذا كان حذرا منكرا لم يرد المياه التي يردها الناس-: لأن الأشراك تنصب عندها. - وورد النّقاع، والمناقع التي في الفلوات. 15- وقولهم: عاط بغير أنواط «6» .   (1) تقدم المثل مع تخريجه. (2) تقدم المثل مع تخريجه. (3) تقدم المثل مع تخريجه. (4) البيت من الطويل، وهو في ديوان ابن مقبل ص 251، ولسان العرب (عول) ، وتهذيب اللغة 3/ 195، والمخصص 12/ 206، وتاج العروس (عول) . (5) تقدم المثل مع تخريجه. (6) تقدم المثل مع تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 العاطي: المتناول. ويقال عطوت: إذا تناولت، أعطو. ومنه قول الشاعر في صفة الظبية «1» : وتعطو بظلفيها إذا الغصن طالها والأنواط: المعاليق، واحد نوط. أراد أن هذا يصعب عليه ما يرومه كمن تناول بغير معلاق. 16- وقوله: إلّا ده فلا ده «2» . يريدون: إن لم يكن هذا الأمر لم يكن غيره. وهو مثل قول رؤبة «3» : وقوّل إلّا ده فلا ده يروي أهل العربية أن الدال فيه مبدلة من ذال، كأنهم أرادوا: إن لم تكن هذه لم تكن أخرى. 17- وقولهم: النّفاض يقطّر الجلب «4» . النّفاض: الفقر، يقال: أنفض القوم وأنفدوا: إذا ذهب ما عندهم. وقولهم: يقطّر الجلب، يريدون: أنهم يجلبون من البادية إلى المصر، ليبيعوها من فقرهم. 18- وقولهم: به داء ظبي «5» . يريدون: أنه صحيح لاداء به، كما أن الظبي لا داء به. 19- وقولهم: أراك بشر ما أحار مشفر «6» . يريدون: بشرة البعير- ومشفره: سمته- تدلك على جودة أكله، وأحار. ردّ إلى جوفه.   (1) الشطر من الطويل، ولم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي. [ ..... ] (2) تقدم المثل مع تخريجه. (3) الرجز لرؤبة في ديوانه ص 166، ولسان العرب (قول) ، (دهده) ، (دها) ، وتهذيب اللغة 5/ 355، 356، ومقاييس اللغة 2/ 262، وتاج العروس (قول) ، (دهده) . (4) تقدم المثل مع تخريجه. (5) تقدم المثل مع تخريجه. (6) تقدم المثل مع تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 20- وقولهم: أفلت فلان بجريعة الذّقن «1» . يريدون: أنه أفلت نفسه فيه، كما قال الهذليّ «2» : نجا سالم والنّفس منه بشدقه ... ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا 21- وقولهم: غبار ذيل المرأة الفاجرة يورث السّلّ «3» . يريدون: من اتبع الفواجر ذهب ماله. ضرب السل في البدن مثلا لذهاب المال. 22- وقولهم: كبارح الأرويّ «4» . يريدون أنه مشؤوم من وجهتيه، وذلك أن الأروي يتشاءم بها من حيث أتت. وإذا برحت كان أعظم لشؤمها. 23- وقولهم: عبد وخلى في يديه «5» . وهذا مثل يضرب للئيم البطر. والخلى: وهو «6» ... عندهم الكلأ خصبوا، والعبد لئيم، فإذا وقع في الخصب بطر وهذا مثل قوله «7» : قوم إذا نبت الرّبيع لهم ... نبتت عداوتهم مع البقل وقال آخر «8» : يا ابن هشام أفسد النّاس اللّبن ... فكلّهم يمشي بقوس وقرن 24- وقولهم: رمّدت الضّأن فربّق ربّق، ورمدّت المعزى فرنّق رنّق «9» .   (1) تقدم المثل مع تخريجه. (2) البيت من الطويل، وهو لحذيفة بن أنس الهذلي في شرح أشعار الهذليين 2/ 558، والعقد الفريد 5/ 244، ولسان العرب (جفن) ، ولأبي خراش الهذلي في لسان العرب (نفس) ، وبلا نسبة في تذكرة النحاة ص 526، وجمهرة اللغة ص 1319، ورصف المباني ص 86، والصاحبي في فقه اللغة ص 136، ولسان العرب (نجا) ، والمعاني الكبير ص 972، والمقرب 1/ 167. (3) تقدم المثل مع تخريجه. (4) تقدم المثل مع تخريجه. (5) تقدم المثل مع تخريجه. (6) بياض بالأصل مقدار ثلاث كلمات. (7) البيت من السريع، وهو للحارث بن دوس الإيادي في المعاني الكبير 2/ 895، 996، ولسان العرب (بقل) . (8) الرجز لرؤبة في كتاب الصناعتين ص 291، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في لسان العرب (قرن) ، وتهذيب اللغة 9/ 90، وجمهرة اللغة ص 794، ومقاييس اللغة 5/ 76، والمخصص 10/ 179، وتاج العروس (قرن) ، وإصلاح المنطق ص 54. (9) تقدم المثل مع تخريجه. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 الترميد: نزول اللّبن في الضّرع. وقولهم في الضأن: أي هي الأرباق لأولادها. والأرباق: عرا تجعل في حبال وتدخل في أعناق الصغار لئلا تتبع الأمهات في المرعى، وهي الرّبق أيضا، واحدها ربقة. ومنه قيل: من فعل كذا وكذا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه. وإنما أراد أن الضأن ترمّد، أي تنزل اللبن في ضروعها في وقت وضع الحمل. والمعزى ترمّد في أول الحمل. يقول: رنّق رنّق، أي انتظر، يقال: رنّق الطائر في الهواء: إذا دار في طيرانه ولم يجر ورنّقت السفينة: إذا دارت مكانها ولم تسر. 25- وقولهم: أفواهها مجاسّها «1» . يريد: أنها إذا كانت كثيرة الأكل أغنتك بذلك عن أن تجسها فتعرف: كيف هي؟ لأن كثرة الأكل تدل على السّمن. 26- وقولهم: نجارها نارها «2» . النار هاهنا: السّمة. ويقال لكل شيء وسم بالمكوى: نار. قال الشاعر «3» : حتى سقوا آبالهم بالنّار ... والنار قد تشفي من الأوار الأوار: العطش. وسقيهم آبالهم النار تريد أنهم قدموها على هو اسمها في الشرب. فقدموا الأعزّ منها فالأعزّ أربابا. والنّجار: الطبيعة والجوهر، فأراد أن سماتها تدلك على جواهرها. تمّ كتاب مشكل القرآن وتفسير المشكل والأمثال التي فيه، بحمد الله ومنّه وحسن توفيقه، سلخ جمادى الأولى من شهور. سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة وصلى الله على محمد وآله الطاهرين   (1) تقدم المثل مع تخريجه. (2) تقدم المثل مع تخريجه. (3) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (أور) ، (نور) ، وشرح شواهد المغني 1/ 309، 316، ومغني اللبيب 1/ 103، وتاج العروس (نور) ، (ورى) ، ومقاييس اللغة 1/ 40، ومجمل اللغة 1/ 215، وتهذيب اللغة 15/ 231. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309